..  خاتمة ..

 كل ما سبق من أخبار معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد، وبني أميّة إنّما هو لبيان أحوالهم وما كانوا عليه.ولأنّ المسلم معنيٌّ بقوله تعالى " قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حُسْناً إنّ الله غفور شكور "،فإنّه لا مناص من الإتيان بمودّة قربى النّبيّ صلى الله عليه وآله يوم عرض الأعمال؛ويصعب إثبات وجود شيء من مودّة قربى النّبي صلى الله عليه وآله لدى معاوية وابنه ومَن كان معهما،لأنّ ما هو ثابت في كتب التاريخ والآثار،وما هو متواتر من الأخبار يشهد بخلاف ذلك.ولوأنّ عاقلا صنّف معاويةَ بن أبي سفيان في صنف نيرون ونمرود وهتلروستالين ومن على شاكلتهم من الجبابرة المفسدين في الأرض لما كان بذلك متعدّياً ولا مُتجاوزاً ولا مُجحفاً.بل قد يكونُ وصفُه دون ما هي عليه حقيقة معاوية،فإنّ الرّجل كان مجاهراً بالاستخفاف بسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله مصرّاً على مُحاربة أوليائه الطّيّبين ، مقرّباً لأعدائه المُجرمين من الطلقاء

وأبناء الطلقاء والمنافقين.والذي يثيرُالعجبَ في تراث المسلمين هو وجود مدافعين عن مثل معاوية،ولا أرى لذلك داعياً إلاّ ثقافة الكرسيّ التي يغذّيها التملّق! فقد جرت العادة في تراث المسلمين أن يُدَافَعَ عن الحاكم مهما جنى واقترف لأنّه الحاكمُ،برّاً كان أم فاجراً.لذلك نجد الخليفة المتوكل العبّاسيّ يُترحّم عليه مع أنّه قُتلَ على مائدة الخمر،ونجد أباجعفر المنصورالذي قتل من ذرّية النبيّ صلى الله عليه وآله مالا يُحصى يُسمّى أميرَالمؤمنين ويُكالُ له المديح والتّمجيد من طرف المؤرخين ومن دارفي فَلَكهم،وكذلك الشّان بالنسبة لهارون الرشيد ومن جاء بعده.ولا يزال هذا التعظيم جارياً إلى أيّامنا فترى شوارع وساحات وميادين تحمل أسماء الطغاة الذين لا يشك مَن أخلصَ وصدق في أنّهم يوم القيامة من الخاسرين.ولست أرى عتباً على الذين ينهلون من ثقافة جاهزة ويتشبّعون بما جاء فيها ويحاولون بثّ ما يعتقدون أنّه الصواب،وإنّماالعتب على الذين يدّعون البحث العلميّ والموضوعيّة والنّزاهة ويرفعون شعارات الصّدق والأمانة،حتى إذا جدّ الجدّ انحازوا إلى الباطل وجدّوا وشمّروا في الدفاع عنه، وزعموا أنّ ذلك من الدّين!

في تصوري أنّ ثقافة الكرسيّ قد جنت على التفكير لدى المسلمين،ودجّنت الهمَمَ،وخنَقَت الطموح،ووظّفت الدّين لخدمة الطاغوت،حتى صارمثلُ معاوية يجد من يدافع عنه.ولوأننّا قدّمنا مُعاوية إلى أحد المفكّرين غير المسلمين،وسردْنا له ـ بنزاهة وإنصاف ـ أعماله الإجرامية واحدةً واحدةً وبيّنّا له أنّه مات مُصرّاً عليها،لما وسعَه إلاّ أن يصنّفه في الاستبداديّين المجرمين.وإنّه لَمن العارأن يَسمحُ المسلم لنفسه أن يُدافع عن معاوية وأشباه معاوية! ما الذي جناه الإسلام والمسلمون من معاوية غيرالعداوات والحزازات وتفريق الصفوف وتشتيت القوة وترسيخ الخلاف؟!ما هي إنجازات معاوية التي يستطيع المسلمون أن يفخروا بها أمام خصومهم ويرفعوا بها هاماتهم؟ ألم يقدّم معاوية لخُصُوم الإسلام ما يحتجون به عليهم في مجال حقوق الإنسان وهوالذي كان يدفن الناس أحياء لمجرّد حبّهم لعليّ بن أبي طالب الذي يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله؟أوليس معاوية هو الذي أسّس لثقافة الحقد والكراهيّة وشرع سبّ الأموات بصورة رسميّة؟ أوَلَمْ يمنع معاوية المسلمين من تسمية أبنائهم عليّاً وحسناً وحسيناً؟

وأمّا الذي يدافعون عن معاوية باسم الدين وعدالة الصحابة وأمورمن ذلك القبيل،فيُقال لهم بالحرف الواحد ما جاء في سورة النساء : " هاأنتم هؤلاء جادلتُم عنهُم في الحياة الدنيا فمَنْ يُجادل اللهَ عنهُم يومَ القيامة أم مَنْ يكونُ عليهم وكيلا "[1].وأستبعدُ أن يكون المتديّنُ حقيقةً الملتزمُ باحترام شعائرالدين مستعدّاً للدّفاع عن معاوية

وقبول ما اجترحته يداه،فإنّ التّديّنَ إذا كان صحيحاً يمنعُ صاحبَه من قَبول الباطل تحت التبريرات والتوجيهات التي لا يكون المرءُ مقتنعاً بها فيما بينه وبين ضميره.أمّا حينما يكون التديّن شكليّا لا يتعدّى اللحيةَ والقميصَ وعودَ السواك، وخُطىً متباطئة وابتسامات مصطَنَعة،فإنّ البصيرة سرعان ما تعمى ويحلّ محلّها التعصّب المَقيت والتشدُّدُ في غير محلّه،وردّ الآيات المحكمات والبراهين الواضحات بأقاويل المشايخ ووصفات وعّاظ السلاطين، إلى أن يكتمل العناد ويحقّ على صاحبه قوله تعالى " وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرّشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغيّ يتّخذوه سبيلا ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين "[2].ولو أننا حاسبنا رؤوس الحركات الإسلاميّة في أيّامنا،وحاكمناهم إلى ما تبنّوه في مواجهة الحُكّام،لألزمناهُم بالقَبُول بسيرة هؤلاء الحُكّام ومبايعَتهم

والانضواء تحت راياتهم،لأنّ من يقبَلُ بمعاوية يتعيّن عليه من باب أولى أن يقبل بمن هو دون معاوية.لكنّه التّقليد الأعمى حين يتحكّم في النّفوس ويغذّيها بالأوهام ويُعفيها من مُحاسبة الضمير،يُجبرهاعلى قبول المتناقضات والمتضاربات ويصوّرلها تعدُّدَ الصّواب وسعةَ الاجتهاد.أمّا الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فإنّهم لا يحفلون بالمكان والزمان حينما يتعلّق الأمربالقيَم التي حدّها الله تعالى وبيّن معالمها ورسم خطوطها،وهُوَجلَّ شأنُه أكرمُ من أن يعذّبَ أحداً من خلقه على ما يُثيب عليه غيرَه.وينبغي الإشارة إلى أنّ كثيرا من المذاهب الإسلامية غيّبت الحقيقة عن نفسها بتغييب العدل الإلهي بمفهومه الصحيح وتهميش القائلين به ومعارضتهم والتّهوين من شأنهم.وإنّه من واجبات المثقفين والمفكّرين الإسلاميين في زماننا أن يلتفتوا إلى هذا ويعيدوا قراءة وكتابة التاريخ على ضوئه،فإنّ في تراثنا من الثغرات ما يفتح أبواب الانحراف ويسدّ أفاق التفكير الصحيح،ومن أنصفَ نفسه لم يخْفَ عليه وجه الشبه بين سيرة الخوارج في بداية الإسلام وبين سيرة إرهابيّي زماننا.

 في النهاية،أذكّرُ بما قلته في بداية الكتاب من أنّ الحديث عن مُعاويَة يمثّل الصّراعَ القائم بين أنصار القيم والمبادئ السّامية وبين أنصار المنافع والمصالح الشخصيّة.ولا أتصوّرأن يكون مُعاويَة لدى العقلاء صالحاً ليكون نموذجاً للمسلم المعتدل المؤتمَن على الدّين،وقد تحقّقَ عندي – وعند كثير ممّن عرفت - أنّ الرّجل مع تأخّر إسلامه لم يترك حرمة من حرمات الإسْلام إلا وهتكها أو مهّد لهتْكها،وأظهر استخفافه بأحاديث النّبيّ صلى الله عليه وآله في كثيرمن المواطن،وإنما شفع له عند كثيرين كونُه استلم القيادة وتربّع على كرسيّ الحكم.

 (( إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيَعاً يستضعفُ طائفةً منهُم يذبّح أبناءَهم ويسْتحْيي نساءَهم إنّه كان من المفسدين )).[3]


 

[1] سورة النساء .الآية 109

[2] سورة الأعراف. الآية 146

[3] سورة القصص .الآية 4

.. قبل ..        .. الرئيسية ..         .. بعد ..