لقد كان الموقف الهاشمى بزعامه ابى طالب نقطه تحول كبرى فى تاريخ الاسلام، فلولا الموقف المشرف لبنى هاشم، لقتلت بطون قريش محمدا، ولما قامت للاسلام قائمه، ولكن اللّه تعالى اناط بالهاشميين تحمل اعباء مرحله المواجهه الحاسمه والتاسيس، وشرف ابو طالب بعبء قياده الهاشميين فى هذه المرحله، وساعدهم بعونه على حمايه الدعوه والداعيه، وجعل لبنى هاشم عامه فضلا على كل مسلم ومسلمه الى يوم الدين، واقام رباطا عضويا بين ماضى الدعوه وحاضرها ومستقبلها، ومد الفضل الهاشمى مدا عظيما ولم يجعله راكدا، فجعل الصلاه على محمد وعلى آل محمد جزءا من الصلاه المفروضه على العباد، فمن لم يصل عليهم لا صلاه له، على حد تعبير الشافعى.
وفى ذلك تتويج لصدارتهم، وتقدمهم فى كل الازمان.
لقد شاءت حكمه اللّه ان يكون لابى طالب الباع الاطول بهذه المرحله، وان يكون لاولاده واحفاده مركز الصداره فى جميع المواجهات التى جرت فى جميع المراحل.
من المهازل:
ومن المهازل التى تثير قرف النفس البشريه، ان القوى التى سيطرت على مقاليد امور الامه الاسلاميه فيما بعد، صورت ابا طالب بصوره المشرك، ووضعته فى ضحضاح من النار على حد تعبير المغيرهبن شعبه، وزورت، وانكرت كفاحه، وانكرت جهاد اولاده الذى لا يخفى على احد، وفرضت مسبتهم على المنابر، ولم تقبل شهاده من يواليهم، فعادت وليهم، ووالت عدوهم، والقت باذهان العامه والغوغاء ان الهاشميين ماتوا بموت محمد، وانهم لم يخلقوا للقياده، انما خلقوا ليكونوا اتباعا لخلفاء بطون قريش، وان الخلافه حق خالص للبطون لانهم اقرباء محمد!!
مثلما كانت النبوه حق خالص للهاشميين، وان هذه القسمه هى القسمه العادله، وكان هذه البطون هى التى اعطت النبوه لبنى هاشم،!!
وكانها هى المخوله بتوزيع الفضل الالهى!!(401).
الاتفاق على قتل النبى:
لم تتوقف زعامه البطون عن مراقبه تحركات النبى، واتصالاته المستمره بقبائل العرب، ونتائج هذه الاتصالات، وقد تاكدت زعامه البطون ان محمدا قد نجح اخيرا باقامه قاعده له فى يثرب، وان عددا من اهلها لا يقل عن سبعين رجلا قد اتبعوا دينه، واتفقوا معه على ان يهاجر النبى اليهم، وعاهدوه على ان يحموه كما يحمون انفسهم، وشاع ان عددا كبيرا من اهل يثرب غير هولاء قد دخلوا الاسلام، وان محمدا يتاهب للهجره، وتاكدت استخبارات البطون من صحه تلك الانباء، وعرفت بالتحديد اليوم الذى سيهاجر به محمد.
بعد ان اطلعت على تفاصيل بيعه العقبه (402).
عندئذ ادركت زعامه البطون ان محمدا قد تجاوز الخط المالوف وانه قد بدا مرحله خطيره.
فاذا نجح محمد بالهجره فسيستقطب حوله الاكثريه من سكان يثرب، ومن حولها من قبائل العرب، عندئذ ستصبح النبوه الهاشميه حقيقه واقعه، ويذهب الهاشميون بفخر النبوه بين العرب دون سائر البطون، واكثر من ذلك فقد ينجح محمد بتكوين ملك لبنى هاشم، وهكذا يتكرس التميز الهاشمى، ليس على مستوى مكه، بل على مستوى العرب، وليس مستبعدا ان يجمع محمد جيشا وان يغزو به مكه، ويجعل سافل كل شىء عاليه، ويعيد ترتيب كل شىء تحت اشرافه.
عقدت زعامه بطون قريش ال23 اجتماعا موسعا فى دار الندوه وتداولوا فيما بينهم بامر محمد، وطرحت ثلاثه آراء للبحث والمناقشه:
1-فاما حبسه، 2-واما نفيه، 3-واما قتله (403)، (واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين) (404).
واتفقوا على ان قتل النبى هو الحل ولا حل غيره، وقد قرروا اختيار عدد من الفتيه يمثل كل فتى منهم عشيره، ليشتركوا فى شرف قتله، ولتكوين جبهه متراصه ضد الهاشميين فلا يقوون على المطالبه بدمه او الاقتصاص من قتلته، وبهذا التدبير يضيع دم محمد بين العشائر وينجون من رد الفعل الهاشمى.
وعلى هذا اجمعوا امرهم وتعاقدوا وتعاهدوا لتنفيذ موامرتهم.
الشروع بالقتل ونجاه النبى:
زعامه بطون قريش لا تترك الامور المتعلقه ببنى هاشم وبالنبى للصدفه، فى دار الندوه اتفقت زعامه البطون على قتل النبى، ووضعت خطه القتل، وتطرقت لادق التفاصيل، ومهمه الفتيه الذين تم اختيارهم من كل البطون تتلخص بتنفيذ خطه الجريمه.
وتقضى الخطه بمراقبه البيت المبارك الذى يقيم فيه النبى، حتى اذا ما خيم الظلام وهجع السامر، زحف فتيه البطون بعزم وهدوء، وطوقوا البيت المبارك، فان خرج النبى خلال فتره التطويق انقضوا عليه بسيوفهم وضربوه ضربه رجل واحد، وان لم يخرج خلال مده معقوله، دخلوا عليه البيت جميعا وضربوه وهو نائم ضربه رجل واحد.
وقرار زعامه البطون واضح بان تلك الليله يتوجب ان تكون آخر ليالى محمد من الحياه.
فالامور مرتبه ترتيبا محكما، ولا طاقه لبنى هاشم على مواجهه البطون، خاصه بعد موت سيدهم وعميدهم وشيخ البطاح ابى طالب.
كل شىء جهزته البطون لتنفيذ الجريمه وباعصاب هادئه، مع ان محمدا من قريش، ومع ان الهاشميين بنو عمومتهم، ولكن عندما يتمكن الحقد من النفوس، فانها تبور ولا شىء يصلحها.
هيا الرسول نفسه للهجره والخروج من مكه، وكلف ولى عهده والامام من بعده علىبن ابى طالب، ان يتدثر ببرد النبى الحضرمى الاخضر، وان ينام فى فراش النبى ليوهم المتامرين القتله ان النائم هو النبى وليس عليا، فينشغلوا عنه، وكلف النبى ولى عهده ايضا ان يتولى تاديه الامانات الموجوده عند الرسول الى اهلها وبعد ان يفعل ذلك، يحمل اهل النبى، ويتبعه مهاجرا الى المدينه المنوره.
وبعد ان رتب النبى اموره، ودع ولى عهده واهل بيته وخرج مهاجرا، شاهد النبى المتامرين القتله يحيطون بالبيت المبارك احاطه السوار بالمعصم، ويطوقونه تطويقا كاملا، بحيث يتعذر الدخول او الخروج من البيت، وقف النبى وقرا:
(يس والقرآن الحكيم... وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون) ثم سار النبى بخطى ثابته وبقلب ملىء بالايمان، وتخطى القتله، فلم يبصروه (405)، ثم تابع طريقه الى المدينه يرافقه ابو بكربن ابى قحافه، وعبداللّه بن اريقط.
وطال انتظار المتامرون، ولم يخرج النبى، وبدات الوساوس تعمل فى صدورهم، لقد انبلج الفجر، ولاحت الدنيا، ومن المستحيل ان يتاخر خروج محمد الى هذا الحد، واقتحموا بيت النبى، ودخلوا الحجره المقدسه، واقتربوا من فراش النبى وكشفوا الغطاء، فاذا النائم بفراش النبى على وليس محمدا فهاج القتله، وسالوا عليا عن النبى فقال لهم على بهدوء المومن ورباطه جاشه (قلتم له اخرج عنا فخرج عنكم).
احيطت زعامه بطون قريش علما بما حدث، فهاجت وماجت وجن جنونها، فاطلقت فرسانها ورجالها ليبحثوا عن محمد وليعودوا به حيا او ميتا، وخصصت جائزه كبرى مقدارها مائه ناقه لمن يقبض على محمد، وبذلت زعامه بطون قريش كل وسعها للقبض على محمد ولكنها فشلت ولم تفلح، حيث دخل النبى الغار وقضى فيه ثلاثه ايام، حتى يئست زعامه البطون من العثور عليه وبعد ذلك شق طريقه بيمن اللّه ورعايته الى عاصمه دولته المباركه، ولتتيقن قريش ان ليس فى الامر سحرا، شاهد سراقه احد الطامعين فى الجائزه محمدا وهو يتابع رحلته المباركه، وحاول سراقه ان ينال الجائزه، ولكنه راى من المعجزات، ما اجبره على الاقلاع عن محاولاته، وكان هلاكه موكدا لو لم ينزع من ذهنه امر الحصول على الجائزه، واخيرا قال رسولاللّه لسراقه:
(كيف بك يا سراقه اذا سورت بسوارى كسرى) رجل مشرد ومطارد يعد احد مطارديه بسوارى اعظم ملك من ملوك الارض آنذاك!!!
لكن الرجل لا ينطق عن الهوى، يعرف ما يريد ويسعى بخطى متلاحقه لتحقيق ما يريد.
وقبل ان يغادر النبى مكه وقف على مروه، وناجى مكه قائلا:
(انى لاعلم انك احب البلاد الى، وانك احب ارض اللّه الى اللّه، ولولا ان المشركين اخرجونى منك ما خرجت).
قتله وان لم يقتلوا:
لقد خططت زعامه بطون قريش لقتل النبى، وجهزت القتله باسلحه الجريمه، ووضعتهم بالمكان المخصص لارتكاب الجريمه، واعطتهم الاوامر، ليضربوا النبى جميعا ضربه رجل واحد عندما تقع ابصارهم عليه، فيقتلوه، ولكن النبى نجا من الموامره بسبب لا يد للقتله فيه، وهكذا تمت جريمه الشروع فى القتل وبقيت صفحه سوداء بتاريخ زعامه بطون قريش.
وعندما نجا النبى استنفرت بطون قريش خيلها ورجلها وخصصت جائزه كبرى لمن يقبض على النبى حيا او ميتا، واباحت دم النبى، وفوضت اى قرشى او حبشى او اى عبد من عبيدها او مولى من مواليها ان يقتل محمدا بعد ان استنفرت كل سكان مكه ولكن اللّه نجى نبيه من القتل لسبب لا يد لزعامه بطون قريش فيه، وهكذا تمت جريمه الشروع بقتل النبى ثانيه، وبقيت صفحه سوداء فى تاريخ زعامه البطون.
ومن المفارقات المفجعه ان زعامه البطون هذه فيما بعد زعمت انها اولى بالخلافه من آل محمد لان محمدا من بطون قريش!!
وخططت تلك الزعامه بليل، واستولت على السلطه الاسلاميه بالغصب والتغلب، واقنعت الناس بالقوه بانها الاولى بالحكم لان محمدا منها، وافتخرت على العرب بذلك فى الوقت الذى قتلت فيه آلمحمد تقتيلا ونكلت بهم تنكيلا وهم وحدهم الذين حموا محمدا من شر البطون، وحاربوا البطون تسعه عشر عاما دفاعا عن محمد!!
ان هذا لامر عجاب.
صحيح ان بطون قريش لم تقتل النبى لسبب لا يد لها فيه، لكنهم قتله وان لم يقتلوا، وسنرى فيما بعد كيف تذبح زعامه البطون ابناء محمد باعصاب بارده وبلا رحمه.
الباب الثانى - المواجهه بعد الهجره
الفصل الاول: الوصول الى يثرب واقامه الدوله
الوصول الى يثرب:
نجا النبى من موامره القتل التى خططت لها زعامه بطون قريش، ونجا ايضا من مطارده خيل البطون ورجلها بعد فشل موامره القتل، وتابع رحلته المباركه الى يثرب، وسبقت وصوله اليها انباء هجرته، ونجاته من القتل والمطارده.
لقد سمع سكان يثرب ومن حولها الكثير الكثير عن رسولاللّه واختلفوا بشانه اختلافا كبيرا حتى قبل ان يهاجر اليهم، فمنهم من آمن به واحبه حبا شديدا، وترقب بشوق بالغ قدومه، واعتبر هذا القدوم فاتحه خير وبركه على الجميع.
ومنهم من فوجىء بدخول الاسلام الى يثرب، ومن سرعه انتشاره، فكره النبى كرها شديدا دون ان يراه، وحكم عليه مزاجيا قبل ان يستمع اليه، وتمنى من كل قلبه لو ان بطون قريش قد تمكنت منه فقتلته شر قتله، ووضعت له ولدينه حدا وبالتالى فقد كره قدومه، واعتبر هذا القدوم شرا مستطيرا.
وبالرغم من اختلاف يثرب ومن حولها بشان النبى وبشان دينه، الا ان الجميع اعتبروه شخصا مميزا، وبطلا صمد امام ضغوط بطون قريش ال23 طوال 13 سنه، ونجا من محاوله قتله، ومن عمليه مطارده البطون له، ويبدو ان الذين بايعوه فى العقبه الكبرى قد نجحوا نجاحا باهرا بالاعداد لقدومه، فتولدت حاله من الانبهار العام، جعلت الجميع يتلهفون على مشاهده الرجل النبى، واخفى الكارهون له ولدينه ولقدومه مشاعرهم بالكره، واظهروا له غير ما ابطنوا، وابدوا كياسه بالغه، وحسن ضيافه، بعد ان اخذوا بحاله الانبهار العام.
وهكذا خرجت يثرب ومن حولها عن بكره ابيها، ولاول مره فى تاريخها، لتستقبل النبى مظهره له كل مشاعر الاعجاب والاحترام، والفرح بقدومه، وعرض عليه العديد من وجهاء يثرب ان يحل ضيفا عليهم، ومن جمله الذين عرضوا عليه ذلك عبداللّهبن ابى (زعيم المنافقين)، وتنافسوا لينالوا شرف ضيافته، وخرج النبى بحل ادهش المتنافسين على استضافته، وقطع تنافسهم، حيث قرر ان يحل بالمكان الذى تبرك فيه ناقته الماموره.
القوى الفاعله فى يثرب عند قدوم النبى اليها:
1- الاوس والخزرج:
كانت تسكن يثرب وما حولها قبائل عربيه، اكثرها واهمها على الاطلاق الاوس، والخزرج، وكل قبيله من هاتين القبيلتين ترى ان السياده اذا آلت للقبيله الاخرى منهما فانه حط من قدرها، وانتقاص من كبريائها، ولم تتوصلا مع الزمن الى قاسم مشترك، مما جر عليهما المتاعب والويلات، وغرس فى نفوس المنتسبين اليهما بذور الحسد والتنافس والكراهيه والحقد، فاذا تبنى الاوس موقفا، فالخزرج يتبنون بالضروره الموقف المناقض له، واذا اندفعت الخزرج نحو خير، اندفع الاوس لينالوا اوفره، وانقسمت كل قبيله من هاتين القبيلتين الى بطون متعدده، وجرى تنافس صامت بين هذه البطون لا يقل حده واثرا عن التنافس الذى كان يجرى بين القبيلتين الام.
كل هذا اوجد حاله من التاكل الداخلى فى المجتمع اليثربى الذى تشكل القبيلتان اسسه وقوامه، وشعورا عميقا بالحاجه الى حل ياتى من خارج يثرب، وسعت كل قبيله منهما لتتبنى هذا الحل، ولتكون لها اليد الطولى بايجاده، وهذا يفسر السرعه الهائله التى انتشر بها الاسلام فى يثرب ومن حولها.
والخلاصه ان اهم القوى الفاعله فى يثرب يكمن فى الاوس والخزرج.
2- القبائل اليهوديه:
ويسكن المدينه وما حولها مع الاوس والخزرج قبائل يهوديه ارتبطت مع هاتين القبيلتين باحلاف عشائريه، وتعاطت التجاره، واحتكرتها، وتمركزت بها رووس الاموال، وتعاملت بالربا، ومارست اذكاء نار الفتنه بين بطون هاتين القبيلتين، وكونت لنفسها نفوذا هائلا، ولكنها لم تفكر بالسياده على يثرب لاحساسها العميق بانها عنصر اجنبى لا يقبل اليثاربه حكمه، ومن اهم القبائل اليهوديه فى يثرب بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظه.
وعلى الرغم من ان الاوس والخزرج جميعا عرب، اصلهم واحد الا ان احساسهم بهذا الرباط لا يكاد يذكر بسبب ضراوه التاكل الداخلى، وعنف التنافس واثرهما المدمر.
ومع ان القبائل اليهوديه كانت تدين بالديانه اليهوديه، وتشعر جميعا بوطاه الغربه، الا ان الرابطه العامه بين هذه القبائل تكاد ان تكون معدومه عمليا بسبب عمق التنافس المادى بين هذه القبائل، بدليل ان رسولاللّه(ص) قد هرسها فيما بعد قبيله بعد قبيله وهى تتفرج على بعضها دون ان تحرك ساكنا او تحتج احتجاجا يذكر.
3- المسلمون الانصار:
وهم الذين اسلموا من بطون الاوس والخزرج او تظاهروا بالاسلام، وقد عرفوا جميعا بالانصار، وطبيعه العلاقه بين القبيلتين القائمه على التنافس الحاد والسعى الحثيث الى السبق والفوز والتقدم عجلت بدخول منتسبى القبيلتين معا فى دين الاسلام، حتى لا تسبق قبيله قبيله، او تختص قبيله بالفضل دون الاخرى، ففى فتره يسيره دخل افراد القبيلتين، او تظاهروا بالدخول فلم يعد بامكان اى فرد من افراد هاتين القبيلتين ان يعلن اعتناقه لغير دين الاسلام، وهكذا عم الاسلام اسميا المدينه وما حولها، ولم يبق من هولاء السكان على دينه القديم غير اليهود، ومع هذا اسلمت مجموعه منهم، بمعنى ان سكان يثرب وما حولها دخلوا فى الاسلام او تظاهروا بدخوله طوعا وبدون اكراه.
وكان للصادقين منهم دور بارز فى نشر الاسلام فى يثرب وفى تهيئه المجتمع اليثربى نفسيا لقبول قياده النبى، وفى خلق حاله الانبهار العام التى دفعت الجميع لاستقباله، وعجلت بانتشار الاسلام، وتكون من هولاء الصادقين فى ما بعد مع من هاجر جيش النبى الذى دانت له العرب، والصادقون موزعون على مختلف بطون قبيلتى الاوس والخزرج.
والخلاصه ان مسلمى الانصار شكلوا قوه كبرى فاعله وموثره ومتميزه عن غيرها من القوى الفاعله فى يثرب.
4- المسلمون المهاجرون:
وهم الذين اسلموا من سكان مكه، وهاجروا قبل النبى او بعده واستمر تدفقهم على يثرب حتى فتح مكه، وبعد الفتح ادرك الاذكياء من اهل مكه ان الاسلام هو طريق الدنيا وطريق الاخره معا، وان مفتاح ذلك هو موالاه محمد او التظاهر بموالاته وتصديقه، والخلاصه لقد تجمعت فى يثرب قوه فاعله ومتميزه عن غيرها عرفت (بالمهاجرين) وكانت اكثريتها من بطون قريش وبعضهم من الموالى الذين امتحن اللّه قلوبهم للايمان.
5- المنافقون:
فوجئت الاغلبيه الساحقه من رجالات يثرب بانتشار الاسلام، وسرعه توغله فى النفوس، مثلما فوجئت بحاله الانبهار العام بشخصيه الرسول، وبقدره الدين الجديد، وقدره نبيه على استقطاب الناس وخلق آليه الاستقطاب.
واكتشفت ان معارضه النبى او معارضه دينه مجابهه هى بمثابه انتحار سياسى يجر على صاحبه سخط العامه، والعزل التام عن اى دور فى القياده او التوجيه ويخرجه من دائره الضوء.
وتفتقت ذهنيتهم المريضه عن مبدا خطير قدروا انه الحل الوحيد وهو مبدا:
(الاسلام التام فى الظاهر والكفر التام فى الباطن).
فالمنافق ينطق بالشهادتين، ويعلن بلسانه ان القرآن كلام اللّه، ويسبح، ويصلى، ويصوم ويزكى، وينفق ويتصدق، ويعتمر، ويحج، ويخرج للجهاد مع الرسول، او يعتذر عن الخروج، ويبالغ بالاعتذار اذا تخلف حتى يقبل الرسول عذره، فمن حيث الظاهر هو مسلم من جميع الوجوه.
لكنه فى قراره نفسه كافر بكل ما جاء به محمد، يكره النبى، ويكره قيادته للمجتمع، يحقد على النبى وعلى اهل بيته، وعلى من يحبهم ويواليهم، ويحب الذين عادوا النبى واهل بيته فيتخذه وليجه له ووليا، ويتربص الفرص لنقض كلمه الاسلام من اصولها.
لقد ترسخت فكره النفاق، وصارت مشكله النفاق من اعظم المشكلات التى واجهت النبى ومن والاه، حيث عمت هذه الظاهره، المدينه وما حولها، فعبداللّهبن ابى يسكن مع ابنه فى بيت واحد، ومع هذا فالوالد زعيم المنافقين، والابن عبد صالح يوالى اللّه ورسوله، ولقد عبر القرآن عن ذلك خير تعبير قال تعالى:
(وممن حولكم من الاعراب منافقون، ومن اهل المدينه مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (406).. لقد تحول المنافقون الى قوه رهيبه، فقد كثر عددهم حيث شكلوا الاكثريه الساحقه من مجتمع المدينه، ولكن فاعليتهم كانت ملجومه بقياده النبى الحكيمه، وبوجوده المبارك.
وقبول المسلمين لهذه القياده وكم حاول النبى ان يصلحهم، وان يهديهم سواء السبيل، ولكنهم اختاروا العمى على الهدايه، وذهبت كل المحاولات ادراج الرياح.
رقصوا طربا واصلحوا انفسهم!!!
عندما انتقل النبى الى جوار ربه، رقص المنافقون طربا وفرحوا بموته، وفرحوا عندما دب الخلاف بين اتباعه، وكانت سعادتهم لا توصف عندما خرج اهل بيت النبوه من دائره الحدث والتاثير واقصوا عن قياده الامه.
هنالك اختفت كلمه النفاق وتبخر المنافقون تماما، وكانهم كانوا ينتظرون موته ليصلحوا انفسهم قبل ان يرتد اليك طرفك، وليعلنوا ولاءهم المطلق للسلطه التى خلفت النبى!!
ان هذا لشىء عجاب.
وبعد ان استعرضنا القوى الفاعله فى يثرب عند قدوم النبى، سنبين بما امكن من الايجاز كيف تعامل النبى مع هذه القوى؟
الاعلان عن قيام الدوله الاسلاميه:
بعد نجاه النبى من موامره قتله التى خططت لها زعامه بطون قريش، وافلاته من مطارده خيل البطون ورجلها له، تابع رحلته المباركه الى يثرب، ووصلها ووجد سكان يثرب ومن حولها من الاعراب قد خرجوا عن بكره ابيهم ليستقبلوه، وليظهروا او يتظاهروا باظهار فرحتهم بقدومه، بغض النظر عن حقيقه نواياهم، ودوافعهم لهذا الاستقبال والخروج، وبغض النظر عن اختلافهم الكبير بشان النبى كما اسلفنا.
ومن الموكد ان سكان يثرب ومن حولها، كانوا بواقع الحال احد ثلاثه:
1- فاما مومن صادق يعتبر موالاه النبى وطاعته جزءا من دينه وهذا حال الذين امتحن اللّه قلوبهم للايمان من المهاجرين والانصار، كسعدبن عباده، وسعدبن معاذ، والمقداد، وعماربن ياسر.
2- واما منافق يتظاهر بالاسلام وبموالاه النبى رغبه او رهبه، ويبطن الكفر بالاسلام والحقد على النبى وآله واوليائه، ويقيم اوثق العلاقات مع اعدائهم كحال عبداللّه بن ابى، واصحاب مسجد الضرار، والذين تامروا على قتل النبى.
3- واما من اليهود الذين انبهروا بالسرعه التى التف بها اهل المدينه من العرب حول محمد، وادركوا ان محمدا صار سيد المدينه وما حولها، وان لاتباعه الكلمه العليا، وان مصالحهم ونفوذهم تحت رحمه الرجل واتباعه، ومن الحكمه ان يتظاهروا بموالاه محمد الى حين، حرصا على مصالحهم، وتجنبا للسباحه بمعاكسه التيار العام.
تقييم الموقف والبروز العملى لاركان دوله المواجهه:
انتهت فتره مراسم الاستقبال، واستقر النبى فى وطنه الجديد (المدينه المنوره وما حولها) وبرزت عمليا اركان دوله المواجهه، وتولى النبى زمام المبادره لتوجيه هذا البروز، وقاد عمليا وبدون ضجه اعلاميه بلوره اركان دوله المواجهه المستقبليه.
الركن الاول:
السلطه او القياده السياسيه:
محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالضروره هو اس السلطه، وهو القائد وهو المرجع، فهو الرسول الذى اختاره اللّه تعالى لتبليغ رسالات ربه وعينه وليا واماما وجعل طاعته والقبول بشرعيه قيادته ومرجعيته جزءا لا يتجزا من دين الاسلام، وبالتالى فهو المكلف ببيان القرآن وهو الاعلم، والافهم، والاتقى، والافضل بشهاده اللّه تعالى فمن الطبيعى جدا ان يكون هو القائد وهو الامام، وهو المرجع.
وقد احيط سكان يثرب علما بالخطوط العريضه للمواجهه التى جرت بين محمد، وبين زعامه بطون قريش خلال مده ال13 عاما التى قضاها النبى فى مكه قبل هجرته، وفهموا بان النبى قد اعلن علىبن ابى طالب وليا لعهده واماما من بعده كما وثقنا.
فالامام او رئيس السلطه معروف، ونائبه معروف.
ومن الطبيعى ان يتولى الامام او القائد توزيع الادوار وان يستعين بمن يراه مناسبا لتحقيق الغايه الشرعيه من ظاهره السلطه.
وقد بينا ان كل سكان المدينه المنوره وما حولها قبلوا بقياده محمد قلبيا او تظاهروا بالقبول، ومحمد ليس مخولا ان يطلع على نوايا شعبه، بل تعامل مع الظاهر، وترك امر البواطن للّه.
بمعنى ان سكان المدينه وما حولها قد قبلوا وبدون ضغط ولا اكراه بقياده محمد، ومرجعيته.
الركن الثانى:
الشعب:
تكون شعب الدوله الجديده من سكان يثرب وما حولها وهم بالضروره احد اربعه اصناف:
1- المسلمون الصادقون الذين هاجروا من مكه الى المدينه (المهاجرون).
2- المسلمون الصادقون الذين آمنوا من اهل يثرب ومهدوا لقدوم النبى، واعدوا المجتمع اليثربى لتقبل النبى.
3- المسلمون الذين تظاهروا بالاسلام وموالاه النبى -رغبه او رهبه- وابطنوا الكفر والكراهيه لمحمد ولال محمد ولمن والاهم وهم (المنافقون).
4- اصحاب المصالح الذين كرهوا قياده محمد، وكرهوا دينه، ولكن حرصا على مصالحهم وحتى لا يسبحوا بمواجهه التيار العام تظاهروا بقبولهم لقياده محمد للمجتمع الجديد وهم اليهود.
الصنفان الاوليان (المهاجرون والانصار) ظاهرهما كباطنهما مع النبى، ومع القرآن، ومع الدين بلا تردد ظاهرا وباطنا.
واما الصنفان الثالث والرابع:
فظاهرهما مع النبى ومع قيادته للمجتمع وباطنهما كاره لذلك، حاقد عليه، يتربص الفرص لنقضه، ولكنهما لا يظهران الا ودا، بمعنى ان سكان يثرب وما حولها قابلون بقياده محمد، وراضون بها، وبمحض اختيارهم العلنى رضوا ان يكونوا شعب السلطه الجديده، وقبلوا او تظاهروا بالقبول بكافه ترتيبات هذه السلطه.
وهذا عين ما تمنته كل دوله متحضره طوال التاريخ.
الركن الثالث:
المنظومه الحقوقيه (القانون النافذ):
المهاجرون والانصار بالمفهوم الذى وضحناه آنفا، يومنون بان الحل لما ينجم بينهم، وبينهم وبين غيرهم يكمن فى كتاب اللّه وسنه نبيهم.
فكتاب اللّه، وبيان النبى لهذا الكتاب هما بمثابه المنظومه الحقوقيه او القانون النافذ الذى ينظم العلاقه بين السلطه والامه، او بين افراد الامه وجماعاتها، او بين الكيان السياسى للامه وغيره من الكيانات، ويرسم المسالك لبلوغ الغايات العامه والخاصه.
والمسلمون المنافقون يتظاهرون بذلك، واصحاب المصالح يعلنون انه لا مانع لديهم من ذلك، وانهم يقبلون بكل الترتيبات التى يضعها محمد.
بمعنى ان كل افراد الشعب قبلوا او تظاهروا بقبول القياده السياسيه المتمثله بمحمد، وبقبول القانون النافذ المتمثل بالقرآن الكريم، وبفهم النبى له، وبتوجيهات هذا النبى، والتى تعتبر جزءا لا يتجزا من القانون ومن الاسلام معا.
وهذا اقصى ما تطمح الدول بتحقيقه.
الركن الرابع:
الوطن او الاقليم:
المدينه المنوره وما حولها هى اقليم الدوله من حيث المبدا، وهو غير محدد، لان الارض كلها للّه، ومحمد هو رسوله المكلف بتبليغ رسالات ربه الى نبى البشر، وكلما تبلغ فوج من البشريه الرساله، وصدق بها، ووالى نبى اللّه او الامام الشرعى من بعده فيصبح هذا الفوج آليا جزءا من رعايا الدوله، والارض التى يقيم عليه هذا الفوج تغدو جزءا لا يتجزا من اقليم الدوله الاسلاميه.
فالعبره بالدخول فى دين اللّه، وبموالاه نبيه او القبول بقيادته او قياده الامام الشرعى القائم مقامه، والعبره ان يكون الدخول فى الاسلام والموالاه او التظاهر بهما بدون ضغط ولا اكراه، ومن هنا فان الدوله الاسلاميه معده اصولها لتكون دوله عالميه تسود العالم كله من حيث السلطه، وتضم جماعات الجنس البشرى كلها لتكون شعبا لهذه الدوله، وتنقص الارض من اطرافها لتكون الكره الارضيه اقليما لهذه الدوله.
ترتيب اوضاع الدوله واعدادها للمواجهه:
المواجهه مع بطون قريش قدر محتوم:
النبى العظيم متيقن ان نجاته من موامره القتل، وافلاته من مطارده خيل البطون ورجلها لم يضع حدا لحاله المواجهه بينه وبين زعامه بطون قريش.
وان هذه الزعامه الفاسده لن تقبل بالتطورات الاخيره والتى اسفرت عن ميلاد كيان سياسى جديد فى المدينه المنوره وما حولها برئاسه محمد الذى تعتبره عدوها اللدود.
وبالتالى فان زعامه البطون لن تعترف بهذا الكيان الجديد باى وجه من الوجوه، ولن تخلى بين محمد وبين العرب، بل ستتابع استغلال نفوذها الادبى عند العرب لتصدهم عن محمد وعن دينه، ولتحرضهم عليه.
وزياده على ذلك فان زعامه البطون ستتصدى بالذات لمقاومه محمد والصدام معه ومحاوله القضاء عليه وعلى دينه نيابه عن العرب الذين لم يوكلوها بذلك مما يعنى ان استمرار المواجهه وتصعيدها بين النبى ومن والاه، وبين زعامه بطون قريش ومن والاها قدر محتوم، وامر لا ريب فيه.
فمن الطبيعى والحاله على هذه الشاكله ان يبدا النبى مبكرا باستعداداته لهذه المواجهه، ولمواجهات اخرى محتمله جدا مع فئات اخرى تتعارض مصالحها مع الاسلام ومع نبيه.
وقد راى (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ان اولى اولوياته هو ترتيب الاوضاع الداخليه فى الكيان السياسى الذى وجد نفسه رئيسا له.
طبيعه شعب المدينه المنوره وما حولها:
لكى نفهم التشريعات التى وضعها رسولاللّه لترتيب وتنظيم الاوضاع الداخليه لشعب المدينه المنوره وما حولها لا بد من فهم طبيعه تركيبه هذا الشعب الذى وجد النبى نفسه عمليا قائدا له، وهذه التركيبه فى غايه التعقيد والتشابك، بحيث يتعذر على اى رجل فى العالم ان ينجح فى قياده هكذا شعب، او ان يخلق بين افراده وجماعاته حاله من الانسجام والتوافق توهلهم لئن يكونوا طرفا موفقا فى ايه مواجهه جديه.
فشعب المدينه وما حولها يتكون من مجموعه من البطون القبليه المتميزه تماما عن بعضها، الحريصه على وجودها واستقلالها القبلى بالرغم من ارتباطها برابطه الدم والقرابه باحدى القبيلتين الاعظم الاوس والخزرج، وهذه البطون مسكونه بهواجس التنافس والتحاسد والتكاره.
اما بقيه شعب المدينه فهم بطون، او عائلات يهوديه استقرت فى المدينه بعد طول ترحال، ولم يفارقها الاحساس بالغربه، ولا الشعور بانها عنصر اجنبى رغم طول الاقامه، وكثره الثروه وتشابك المصالح.
وقد نشات بين هذه التجمعات القبليه المتنافره تحالفات بين بعض البطون والبعض الاخر، او بين بعض هذه البطون وبعض العائلات اليهوديه فرضتها حاجات واقعيه.
وجاء الاسلام الى المدينه:
واعتنقت كل بطون قبيلتى الاوس والخزرج الاسلام او تظاهرت باعتناقه، ووالت كل بطون الاوس والخزرج رسولاللّه بعد هجرته، او تظاهرت بموالاته رغبه او رهبه.
وهكذا وظاهريا جمعوا بين وحده الدين، ووحده الاصل، ووحده الوطن، ووحده القياده.
لكن الامور واقعيا كانت مختلفه جدا، فاكثريه الاوس والخزرج لم يعتنقوا الاسلام انما تظاهروا باعتناقه، ولم يوالوا النبى حقا، انما تظاهروا بموالاته، وهذه الاكثريه هى التى عرفت شرعا (بالمنافقين) حيث تعذر عليها ان تبقى على حالها، او تسبح بمواجهه تيار قوى وجارف، فتظاهرت باعتناق الاسلام، وبموالاه النبى، واضمرت الكفر بالاسلام والحقد على النبى.
واندست مظهره اسلامها وموالاتها للنبى ومبطنه كفرها وحقدها على النبى، تتربص الفرص لنقض كلمه الاسلام من اصولها، وللقضاء على محمد وآله ومن صدق به.
وليس من المستبعد ان هذه الاكثريه بقيت عاكفه على اصنامها تقدم لها فروض الطاعه، وليس بعيدا ان تكون هذه الفئه بلا دين وبلا خلاق.
اما بطون اليهود والعائلات اليهوديه فقد كانت اقل مكرا وابعد غورا، فبعضهم اعتنق الاسلام وصدقوا وهم قله، والاكثريه منهم بقيت على دينها، وبنفس الوقت اظهرت قبولها بقياده النبى، وتعاملت بحذر مع الاكثريه المنافقه، وتعاطفت معها.
وتمنت الاكثريه اليهوديه ان ينجح مخطط المنافقين الرامى الى نقض كلمه الاسلام من اصولها، والقضاء على محمد وآله والمخلصين له، وطبع اللّه على قلوب الفريقين.
اما الفريق الثالث فهم المومنون الذين امتحن اللّه قلوبهم للايمان من المهاجرين والانصار فقد آمنوا باللّه حقا، وصدقوا رسوله، وصدقوا بموالاتهم له.
وكانت عقولهم وهواهم مع اللّه ورسوله.
وبالرغم من قله الفئه المومنه، الا ان اللّه تعالى قد ساعدها بفرض هيبتها، وخلق جوا من الانبهار بوجودها.
التشابك المذهل:
وفوق هذا وذلك وجدت حاله من التشابك العجيب بين تشكيلات شعب المدينه وما حولها، فافراد وبطون الاوس قلبيا مع الذين ينتمون للاوس، وافراد وبطون الخزرج مع المنتسبين للخزرج.
ومن الممكن تجاهل رابطه الدم، والتنافس بين القبيلتين حقيقه من حقائق الحياه ترسخت نهائيا، لقد خففها الاسلام، لكنه لم يقو على اقتلاعها نهائيا من النفوس.
والتحالفات بقيت مصانه، وبقيت آثارها.
ثم ان هنالك ظاهره عجيبه حقا، فقد يكون الاب منافقا ويكون الابن مومنا.
ومهما تمكن الاسلام من قلب الولد فعسير جدا عليه ان يترك اباه، فعندما كثر الحديث عن ضروره قتل عبداللّهبن ابى عز ذلك على ابنه المومن واستاذن النبى بقتل اباه، حتى لا يقتله غيره ويكون مضطرا لمشاهده قاتل ابيه، فيطمئنه النبى ويوكد له بانه سيحسن صحبته ولن ياذن لاحد بقتله.
تلك هى الخطوط العريضه:
هذه هى الخطوط العريضه لطبيعه المجتمع الذى وجد النبى نفسه قائدا له، وهو مجتمع يتعذر على اى رجل فذ ان ينجح بقيادته وتوحيده لكن النبى موهل الهيا، وهو ذروه الوجود الانسانى.
فقد كان، ببصيرته الثاقبه وبعون اللّه، على علم كامل بطبيعه التشكيلات البشريه التى يتكون منها شعبه، وهو لم يتوقع بان يحكم شعبا من الملائكه، لذلك عمم ان يتعامل مع الواقع كما هو، وان ينقله بحدود قدرته على الاحتمال، وتدريجيا مما هو كائن الى ما ينبغى ان يكون او لاقرب نقطه مما ينبغى ان يكون.
على طريق التنظيم:
الدستور المكتوب:
لترتيب الاوضاع الداخليه لشعب المدينه وما حولها تمهيدا لاعداده للمواجهات، وضع النبى دستورا مكتوبا عرف بالصحيفه، وهو بمثابه عهد من الرسول، وتكون هذا الدستور النبوى من 48 ماده مصاغه صياغه دستوريه من جميع الوجوه.
وعند الوقوف على المعانى اللغويه للكلمات والمصطلحات التى وردت فى هذا الدستور، وبعد الاطلاع على التشريعات الاسلاميه التى صدرت خلال حياه النبى فيما بعد، وبعد الاحاطه بتفاصيل النظام السياسى الاسلامى، يجد الباحث الموضوعى المتجرد ان هذه الصحيفه التى وضعها رسولاللّه لغايات تنظيم المجتمع المدينى واعداده للمواجهه، هى دستور دوله من جميع الوجوه.
وهى افضل دستور يمكن ان يوضع لترشيد المجتمع المدينى فى هذه المرحله، فقد اختيرت الفاظه لتكون هينه على الاسماع، خفيفه الوقع، توقظ مجتمع المدينه، ولا تهيجه.
المضمون العام للدستور:
يتضمن الدستور ترتيب الاوضاع الداخليه فى مجتمع المدينه وما حولها فى حالتى السلم والحرب، وبيان مجمل لحقوق الجماعات التى تكون المجتمع وواجباتها، وحدد طبيعه العلاقات بين الجماعات المكونه لشعب المدينه، وبين السلطه المتمثله بشخصه الكريم.
فحافظت كل جماعه على وجودها، واعطيت قدرا كافيا لاداره شوونها وحل اشكالاتها، وعندما يتعذر عليها الحل فالمرجع هو رسولاللّه.
وتضمن الدستور اعلانا ضمنيا ومكتوبا ولاول مره بان رسولاللّه هو اعلى سلطه فى البلاد، وحكمه هو الفصل بحل الخلافات، ورسم الدستور افقا للعلاقات بين هذا الكيان السياسى وبين غيره من الكيانات السياسيه المنتشره فى الجزيره.
وتضمن الدستور موادا تنص بوضوح بان زعامه بطون قريش هى عدوه الجميع ولا يجوز لاى فرد او جماعه من جماعات شعب المدينه وما حولها ان تعقد صلحا منفردا معها، او ان تتحالف مع اى بطن من البطون المنتميه لزعامه بطون قريش.
واشتملت الصحيفه موادا تتيح للجماعات حريه الحركه فى عمومها والرجوع للنبى عند الاختلاف، وتضمنت مبادىء تبرز اهميه قيم معينه.
ومع علم النبى بخطوره ظاهره النفاق، وبكثره المنافقين، الا انه لم يشر لهذه الظاهره، ولا لاتباعها، ولم يعترف بوجودها، انما تعمد تجاهلها واغفالها تماما، طمعا بالاصلاح او الاستطلاع وتعبيرا عن حسن نيه السلطه الجديده نحو شعبها وتفهما منها لنوازع النفس البشريه.
نماذج من مواد هذا الدستور (407):
الماده الاولى:
(هذا كتاب من محمد النبى رسولاللّه بين المومنين والمسلمين من قريش واهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم امه واحده من دون الناس).
فهذه الماده اعلنت عن ميلاد امه جديده تتكون من المومنين والمسلمين من قريش واهل يثرب وممن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، وان الذى اعلن عن ميلاد هذه الامه الجديده، هو محمد النبى رسولاللّه.
وهذه الامه الجديده تشمل جميع السكان الذين والوا النبى او تظاهروا بالموالاه والذين اعتنقوا الدين او تظاهروا باعتناقه والذين لم يعتنقوا الدين، ولكنهم تظاهروا بقبولهم لقياده النبى وهم اليهود.
لاحظ الماده 25 والمواد 26-36 التى عالجت طبيعه انتماء اليهود للمجتمع الاسلامى بمعنى ان الدستور وجد ليحكم المسلمين واهل الكتاب وليعيش الفريقان فى ظله.
المواد من 3-11 تقر بالوجود الشرعى للتشكيلات القبليه وملحقاتها وترتيباتها، وتدخل مفهومى المعروف والقسط، كذلك فالمواد 24-36 تقر بالوجود السياسى ليهود بطون معينه.
الماده 39:
(يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفه) والماده42:
(وانه ما كان من اهل هذه الصحيفه من حدث او اشتجار يخاف فساده فان مرده الى اللّه والى محمد رسولاللّه..) والماده44 قد نصت:
(وان بينهم النصر على من دهم يثرب) ونصت الماده38 على:
(وان اليهود ينفقون مع المومنين ما داموا محاربين) ماده22:
(وانكم مهما اختلفتم من شىء فان مرده الى اللّه والى محمد).
بمعنى ان يثرب هى وطن الجميع، وان محمدا هو مرجع الجميع، وان النفقات مفروضه على الجميع.
الماده43:
وقد نصت هذه الماده على ما يلى:
(وانه لا تجار قريش ولا من نصرها) الماده20ب:
(وان لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه مومن).
وببساطه صارت بطون قريش هى عدوه المجتمع.
الماده40:
(وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم) والماده12:
(وان المومنين لا يتركون مغرما (اى مثقلا بالديون) بينهم ان يعطوه بالمعروف فى نداء او عقل) والماده17:
(وان سلم المومنين واحده لا يسالم مومن دون مومن).
تلك نماذج من مواد الدستور النبوى.
تدابير اخرى:
وفى نطاق تنظيم الشعب وتهيئه المجتمع للمواجهه اوجد رسولاللّه نظام المواخاه حيث آخى بين المهاجرين فى مكه قبل الهجره، وآخى بينه وبين ولى عهده والامام من بعده علىبن ابى طالب.
وبعد ان تمت الهجره آخى بين المهاجرين من مكه، وبين انصار المدينه، وآخى بينه وبين ولى عهده علىبن ابى طالب، واعمالا لمبدا المواخاه اوجد نظام المشاركه والمواساه، حيث قدم الاغنياء اجزاء من اموالهم الى اخوانهم الفقراء، وحض على الانفاق واعتبره اكبر مظاهر الايمان، وشجع الفقراء على اخذ نصيبهم من اموال الاغنياء وذوى الفضل باعتباره حق شرعى لهم، وحض الاغنياء والفقراء على التكافل والتضامن، معلنا انهم شركاء فى مالاللّه، ورسم صوره شرعيه لمجتمع الايمان حيث اعتبره بمثابه الجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وتبع هذه التدابير مجموعه كبيره من التشريعات الاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه خلقت مجتمعه حاله فريده من التماسك والتعاضد بين الجماعه المومنه، وميزتها عن غيرها من الجماعات، وساعد على نجاحها ان رسولاللّه وهو قائد المجتمع كان مستوى معيشته لا يختلف عن مستوى افقر افراد الشعب.
الفصل الثانى: المواجهه المسلحه
المواجهه مع زعامه بطون قريش:
طوال فتره البعثه النبويه التى سبقت الهجره، والتى استمرت 13عاما، والنبى واهله بحاله مواجهه مع بطون قريش، فبطون قريش ال23 باختصار شديد ترفض رفضا مطلقا ان يكون النبى من بنى هاشم، وتبعا لذلك فانها ترفض الدين الاسلامى لانه قد جاء عن طريق هاشمى.
وخلال تلك الفتره عارضت بطون قريش النبوه الهاشميه، والدين الذى جاء عن طريق هاشمى بكل اشكال المعارضه وقاومته بكل فنون المقاومه، وصدت عنه بكل انواع الصد مستعمله نفوذها الادبى عند العرب، ثم افلست زعامه البطون، وتامرت على قتل النبى قبل هجرته، واشتركت كل بطون قريش ال23 بهذه الموامره القذره، ولكن اللّه نجى نبيه، وفشلت الموامره، وتابع النبى مسيره هجرته الخالده، فجن جنون بطون قريش، فطاردت النبى بخيلها ورجلها، وخصصت جائزه كبرى لمن يقبض عليه حيا او ميتا قبل وصوله الى يثرب، وفشلت المطارده، ووصل النبى سالما الى عاصمه دولته، ورتب اوضاعها المعقده بمده لا تتجاوز السته اشهر.
ملاحقه البطون للنبى ومنطقها الاعوج:
بطون قريش لا تقبل ان يكون النبى من بنى هاشم، ولا تقبل اى دين عن طريق هاشمى، ولا تسمح باى تميز للبطن الهاشمى لا فى مكه، ولا باى مكان فى العالم.
فحسدها للبطن الهاشمى يفوق التصور والتصديق، وفى سبيل تحقيق ذلك، فان البطون:
1- لن تعترف مطلقا بنبوه محمد، ولا بالكيان السياسى الذى يراسه محمد.
2- ستستعمل نفوذها عند العرب وتتابع صدهم عن محمد وعن دينه، وتتابع دعاياتها الكاذبه، واختلافاتها الظالمه ضده وضد دينه.
وكلمه زعامه بطون قريش مسموعه، فهم حماه البيت الحرام، وجيرانه، وسدنته ولا احد من العرب لا يعرفهم، ثم ان محمدا من قريش، ولو وجدت قريش بمحمد خيرا ما اخرجته، ولا تامرت على قتله، ولما استمرت بعداوته.
وبطون قريش تتزعم عداوه محمد خدمه للعرب ودفاعا عنهم وعن معتقداتهم، تلك هى اسطوانه البطون التى تكررها امام الحجيج وامام العمار دائما.
3- ان محمدا مذنب، لانه لم يمكن زعامه البطون من قتله، ومذنب لانه قد نجا من مطارده خيل البطون ورجلها، لذلك فان البطون ستلاحقه نيابه عن العرب فتريح العرب منه وتستريح، وتفشل النبوه الهاشميه.
هذا هو المنطق المعوج لزعامه بطون قريش.
اختلاف الامور وتغير موازين القوى:
بالهجره اختلفت الامور تماما، فمحمد(ص) يتراس كيانا سياسيا اكثر تنظيما واستقرارا من الكيان السياسى الذى تتوزع زعامه البطون رئاسته، وليس الهاشميون وحدهم هم الذين يحمون محمدا ودينه بل يحمى محمدا ودينه شعب المدينه وما حولها، فالمومنون الصادقون يبطنون الحمايه ويعلنونها والكاذبون يتظاهرون بحمايه الدعوه والداعيه، ويحلفون اغلظ الايمان بانهم مع اللّه ومع رسوله، ولا يجرو احد منهم ان يظهر غير ذلك.
ولم يعد الذين اتبعوا محمدا ضعفاء يخافون ان يتخطفهم الناس انما صارت لهم دوله تحميهم ويحمونها، وصار لهم وطن ياويهم ويدافعون عنه.
وباختصار صارت للمسلمين دوله حقيقيه برئاسه محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، وتغيرت موازين القوى تماما.
مطلب النبى من بطون قريش:
للنبى مطلب واحد وهو ان تخلى بطون قريش بينه وبين العرب، وان تتوقف عن استغلال نفوذها الادبى عند العرب لصدهم عنه، وان تتوقف عن دعاياتها الكاذبه ضده وضد دينه، وان تعترف بوجوده وبحقه باستقطاب الناس حوله وحول دعوته،.
ولقد عبر عن هذا المطلب عتبهبن ربيعه الاموى حيث خاطب زعامه البطون قبل نشوب القتال فى بدر قائلا:
(... فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فان اصابوه فذاك الذى اردتم، وان كان غير ذلك الفاكم) (408).
ومحمد لا يكره احدا على الدخول فى دينه، ودين محمد لا يبيح الاكراه وهو قائم على القناعه، فجزء كبير من شعب المدينه وما حولها، ما زال على دين اليهوديه، ومع هذا يعيشون بسلام مع المسلمين، وزعامه بطون قريش على علم بذلك، وعلى علم بما يطلبه النبى منها، وهى تعرف قلبه الكبير، ونفسه العاليه، فلا خوف من عقابه لها على عذابها له ولاله ولمن اتبعه، قبل هجرتهم الى يثرب، وبالتالى فليس كثيرا عليها ان تجيب مطلبه هذا.
فاليهود يستقطبون الناس لدينهم ولا تعترضهم بطون قريش، والنصارى يفعلون ذلك، وعبده الاصنام يتمتعون بذات الحقوق، وبطون قريش لا تعترضهم، ولا تضع امامهم اى عائق، وتخلى بينهم جميعا وبين العرب، فلماذا لا تعامل ابنها محمدا كما تعامل غيره؟ ولماذا لا تخلى بينه وبين العرب، كما خلت بين اصحاب الديانات وبين العرب؟ ولكن قريشا رفضت مطلب محمد رفضا مطلقا، وتصر على ملاحقتها له وعلى اجهاض دينه، وابطال نبوته والقضاء عليه ان استطاعت، لانها مسكونه بالحسد لمحمد ولاهل بيت محمد!!!
اهون الطرق لتجنب المواجهه المسلحه:
يتوجب على بطون قريش ان تخلى بين محمد وبين العرب، وان تتوقف عن استغلال نفوذها للحيلوله بينه وبين العرب، وان تمتنع عن دعاياتها الكاذبه واختلافاتها الظالمه ضده وضد دينه، مستغله قدوم العرب لحج البيت او لاداء العمره، فمحمد مشفق وناصح لخلق اللّه، ويكره سفك الدم وقتل النفس التى حرم اللّه، فما هى الطريقه المثلى التى تحقق مطلبه بدون سفك دم وبدون قتال؟ مكه التى تسكنها بطون قريش (واد غير ذى زرع)، وحياه سكانها تعتمد بالدرجه الاولى على التجاره، فهى عصب الحياه فى مكه، والتجاره تقوم على رحله الشتاء الى اليمن ورحله الصيف الى بلاد الشام، فاذا اقتنعت زعامه بطون قريش ان رحلتها الصيفيه الى بلاد الشام اصبحت فى خطر وتحت رحمه محمد، فالعقل والمنطق يفرضان عليها ان تتفاوض مع محمد، لرفع الخطر عن طرق تجارتها الى بلاد الشام، ومحمد لا يطمع بالكثير، فهو يريد ان تعترف به بطون قريش كما تعترف بغيره، وان تخلى بينه وبين العرب كما خلت بين غيره وبين العرب.
ومحمد اولى بذلك للرحم والقربى، وبالمقابل فان محمدا لن يعترض طرق تجارتها الى بلاد الشام.
هذا هو اسهل الحلول لتجنب استمرار حاله المواجهه بينها وبين محمد، ولكن الحسد اعمى بصائر زعامه بطون قريش، وحقدها على محمد وبنى هاشم عطل عقلها تماما، وسلبها القدره على التخطيط السليم، فبطون قريش لا تريد ان تعترف بان موازين القوى قد اختلت، وبوقت يطول او يقصر، وسواء اشاءت قريش ام ابت سيصبح محمد سيد العرب وزعيمهم بغير منازع.
اشارات من النبى الى بطون قريش:
خلال سته اشهر استطاع النبى ان يرتب الاوضاع الداخليه فى يثرب، وان يحدد مسارب الامور ومسالكها الشرعيه، وان ينتزع وبالرضا اقرار سكان يثرب وما حولها بمسارب الشرعيه ومسالكها.
فكل جماعه من الجماعات التى يتالف منها المجتمع اليثربى ترى ان موالاه محمد والقبول به حكما وحاكما ومرجعا هى الشرعيه، وان معاداته ورفض حكمه وتحكيمه ومرجعيته هى الخروج الصارخ على الشرعيه، وهذا قمه ما يطلبه الحاكم من رعيته، والمجتمع اليثربى قد وافق بالاجماع على ان بطون قريش هى عدوه الجميع، لا تجار، ولا يجوز الصلح المنفرد معها، ولا يحال بين مومن وبين مال او نفوس تلك البطون كما هو واضح من مواد الدستور النبوى الذى نوهنا عنه آنفا.
ومحمد كقائد وكرسول مهمته ان يرشد المواجهه بين الكيان
السياسى الذى يراسه، وبين زعامه بطون قريش، بحيث تكون
هذه المواجهه بحدود الشرعيه الالهيه بلا بغى ولا عدوان.