لما اوقف الامام على امام الخليفه الجديد وحوله وجهاء اهل طاعته، وكبار رجال قاده التحالف قال الامام على امامهم جميعا:
(انا احق بهذا الامر منكم، لا ابايعكم وانتم اولى بالبيعه لى، اخذتم هذا الامر من الانصار، واحتججتم عليهم بالقرابه من رسولاللّه (ص)، وتاخذونه منا اهل البيت غصبا؟ الستم زعمتم للانصار انكم اولى بهذا الامر منهم لما كان محمد منكم، فاعطوكم القياده وسلموا اليكم الاماره وانا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار، نحن اولى برسولاللّه حيا وميتا، فانصفونا ان كنتم مومنون، والا فبوءوا بالظلم وانتم تعلمون).
قال ابو عبيده بن الجراح:
(يا ابن عم انك حديث السن وهولاء مشيخه قومك ليس لك مثل تجربتهم بالامور، ولا ارى ابا بكر الا اقوى منك على هذا الامر، واشد احتمالا واضطلاعا به فسلم لابى بكر، فانك تعش ويطل بك البقاء فانت لهذا الامر خليق وبه حقيق، فى فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك).
فاجابه الامام على:
(اللّه اللّه يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد فى العرب عن داره وقعر بيته الى دوركم، ولا تدفعوا اهله عن مقامه فى الناس وحقه، فواللّه يا معشر المهاجرين، لنحن احق الناس به، لانا اهل البيت، ونحن احق بالامر منكم ما كان فينا القارىء لكتاب اللّه الفقيه فى دين اللّه، العالم بسنن رسولاللّه، المضطلع بامر الرعيه، المدافع عنهم الامور السيئه القاسم بينهم بالسويه، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعدا) (1448).
قال بشير بن سعد اول من شق اجماع الانصار وبايع ابا بكر:
(لو كان هذا الكلام سمعته منك الانصار قبل بيعتها لابى بكر ما اختلف عليك اثنان) (1449).
وسر تركيز الامام على القرابه من رسولاللّه ان المهاجرين احتجوا على الانصار بالقرابه من رسولاللّه، فقال ابو بكر:
(ونحن عشيره الرسول) (1450)، وقال ابو بكر ايضا:
(ونحن اولياوه وعشيرته واحق الناس بالامر من بعده لا ينازعهم فيه الا ظالم) (1451)، وقال عمر بن الخطاب:
(واللّه لا ترضى العرب ان تومركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغى ان تولى هذا الامر الا من كانت النبوه فيهم.. من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن اهله وعشيرته الا مدل بباطل او متجانف لاثم (1452)..).
عندئذ قال بشير بن سعد:
(ان محمدا رجل من قريش، وقومه احق بميراثه وتولى سلطانه، وايم اللّه لا يرانى اللّه انازعهم هذا الامر ابدا فاتقوا اللّه ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم، ومد يده وبايع ابا بكر) (1453).
الامام على يهدم الاساس الذى بنى عليه تنصيب الخليفه الجديد:
انت تلاحظ ان قاده التحالف احتجوا بحجه اهل بيت النبوه وهى القرابه من رسولاللّه وعلى هذا الاساس سلم الانصار، وبايعوا ابا بكر مع ان ابا بكر من بنى تيم وعمر من بنى عدى ومحمد من بنى هاشم، وبعد ان وضع الامام على النقاط على الحروف، انهار كليا الاساس الذى بنى عليه تنصيب الخليفه البديل، واغتنم الامام على الفرصه فاكد ان الامامه حق له ولاهل بيته، وليست حق لغيره.
والحق احق ان يتبع، وترك الحق مع العلم ظلم عظيم.
وهكذا حرك الامام عقول الناس ولكنها لم تتحرك.
وانت تلاحظ ان احتجاج الامام منطقى وسلمى من جميع الوجوه وملتزم بالمسيره العامه دون شق عصا الطاعه او تفريق كلمه المسلمين، او تعريض الدين للوهن، لان الناس حديثوا عهد بالاسلام.
منطق القوه لا قوه المنطق:
عمر القوى الشديد بحزبه لا يصغى للغه المنطق، ولا تقدم عنده حجه الامام ولا توخر لذلك تجاهل حجه الامام وكان لم يسمعها وقال للامام:
(بايع)!!
فقال له الامام على:
(ان لم افعل فمه؟)، قال عمر (وقالوا):
(اذا واللّه الذى لا اله الا هو نضرب عنقك؟)، قال على:
(اتقتلون عبد اللّه واخا رسوله؟)، قال عمر:
(اما عبد اللّه فنعم واما اخو رسوله فلا (معنى ذلك ان عمر يجحد البيان النبوى المتعلق باخوه النبى لعلى)!!
فلحق على بقبر النبى يبكى ويصيح ويقول كما قال هارون لموسى عندما عصاه قومه اثناء غياب موسى:
(يا ابن ام، ان القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى) (1454).
وهكذا حرك الامام عواطف القوم فلم تتحرك واستثارها فلم تثر وبعد تفكير عميق قرر عمر وقاده التحالف ان لا يقتلوا الامام على، لانه علم تعرفه كل العرب، ولان زوجته الزهراء علم مثله، وقتل الامام على فى مثل هذه الظروف احراج كبير لقياده التحالف!!
وقد يفسد عليهم القتل امرهم.
الامام على لم يقطع الامل من رجوع القوم الى انفسهم:
بعد ان هدم الامام الحجه التى نصب على اساسها الخليفه، تامل الامام ان يرجع قاده التحالف الى الحق وان يعيدوا له حقه الذى ابتزوه (1455)، واقرا رساله معاويه وكيف انه قد وصف العمليه (بانها ابتزار الحق)، لذلك عندما جاء عمر وابو بكر الى بيت الزهراء ليقدموا عذرهم واعتذارهم عن ترويعها بمحاوله احراق بيت اهل النبوه على من فيه.
فرفضت الزهراء مقابلتهم بعد الذى فعلوه، ولكن الامام على اقنعها فادخلهما البيت، (فلما قعدا عندها وجهت وجهها الى الحائط وسلما عليها ولم ترد، فتكلم ابو بكر، وقال:
ايا حبيبه رسولاللّه واللّه ان قرابه رسولاللّه احب الى من قرابتى، وانك لاحب الى من عائشه ابنتى، ولوددت يوم مات ابوك انى مت، ولا ابقى بعده.
فقالت الزهراء:
ارايتكما ان حدثتكما حديثا عن رسولاللّه (ص) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا:
نعم، فقالت فاطمه:
نشدتكما اللّه الم تسمعا رسولاللّه يقول:
(رضا فاطمه من رضاى، وسخط فاطمه من سخطى، فمن احب ابنتى فقد احبنى، ومن ارضى فاطمه فقد ارضانى، ومن اسخط فاطمه فقد اسخطنى؟) قالا:
نعم سمعناه من رسولاللّه (ص)، قالت فاطمه:
فانى اشهد اللّه وملائكته انكما اسخطتمانى وما ارضيتمانى، ولئن لقيت النبى لاشكونكما اليه، فاخذ ابو بكر يبكى وينتحب وهى تقول:
واللّه لادعون عليك فى كل صلاه اصليها) (1456).
رضوخ الخليفه الجديد للحق ومحاوله الانسحاب:
لما خرج الاثنان من اجتماعهما بعلى وفاطمه، كان قاده التحالف وشيعتهم ينتظرون ليعرفوا عما اسفر عنه هذا الاجتماع الحاسم.
فقال ابو بكر:
(يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته مسرورا باهله، وتركتمونى وما انا فيه لا حاجه لى فى بيعتكم اقيلونى بيعتى) (1457)!
من الموكد ان الرجل قد تاثر كثيرا، وانه قد راجع نفسه، وقرر ان يتخلى عن الحق لصاحبه، او يخرج نفسه من التورط بابتزازه، ومن الموكد انه كان صادقا.
ولكن التحالف رفض ذلك بشده، فالخليفه الجديد ليس ملك نفسه كما كان يتصور انما هو ملك الحزب، ملك التحالف، ملك التنظيم الذى اسسه عمر، وخرج التحالف بحجه مفادها رخاوه الامر (1458)!!
ويئس الامام من رجوع التحالف لانفسهم، ومن عودتهم للحق.
عن طريق الحجه والاقناع.
الامام واهل بيت النبوه يطلبون النصره:
حمل الامام على زوجته سيده النساء وقاد ابناه الحسن والحسين وطاف بهم على بيوت الانصار بيتا بيتا يطلبون النصره لعلى والانتصار لهم، فكان الانصار يقولون لهم:
(لقد سبقت بيعتنا لهذا الرجل (ابا بكر)، ولو ان زوجك سبق الينا ما عدلنا به)!
فيقول لهم الامام:
(افكنت ادع رسولاللّه فى بيته لم ادفنه، واخرج انازع الناس سلطانه!!)
وتقول فاطمه:
(ما صنع ابو الحسن الا ما كان ينبغى له ولقد صنعوا ما اللّه حسيبهم عليه وطالبهم) (1459).
قال اليعقوبى فى تاريخه (1460) وابن ابى الحديد فى شرح النهج (1461):
ان جماعه اجتمعوا الى على يدعونه للبيعه فقال لهم:
(اغدو على محلقين رووسكم) فلم يغدو عليه غير ثلاثه.
التقدير الدقيق للموقف واستحاله نجاح المواجهه المسلحه مع التحالف:
لقد هم قاده التحالف باحراق بيت اهل بيت النبوه على من فيه وفيه على وفاطمه -بنت النبى- وابناه الحسن والحسين!!
كما وثقنا وهموا بقتل ولى اللّه المعين رسميا اماما للامه من بعد النبى!!
ومع هذا لم يستنكر احد من المهاجرين والانصار ذلك لا بيد ولا بلسان.
وطاف الامام على ومعه سيده نساء العالمين وابنا رسولاللّه الحسن والحسين على بيوت الانصار بيتا بيتا يطلبون النصره والانتصار ولم يجبهم احد الى ذلك.
وعندما جاء نفر الى بيت الامام على يعرضون عليه البيعه قال لهم:
(اغدو على محلقين رووسكم) فلم يغدو عليه غير ثلاثه.
مما يعنى ان عليا واهل بيت النبوه وعموم بنى هاشم وثلاثه صادقين من شيعه الامام على فى جهه، وقاده التحالف ومعهم الاغلبيه الساحقه من المجتمع رغبه او رهبه فى جهه اخرى، فاذا حدثت مواجهه مسلحه بين الجهتين فخلال ساعه من الزمن سيتمكن قاده التحالف من قتل الامام واباده اهل بيت النبوه وبنى هاشم وسبى نسائهم وغنيمه اموالهم، فحالهم كحال النبى عند اعلان الدعوه، وحال الانبياء الكرام عندما خذلهم اقوامهم، فالعيب بالقوم او الاقوام لا بالانبياء، والعيب فى المجتمع لا فى على ولا فى اهل البيت، فخذلان مجتمعات السوء للانبياء نذير شوم لتلك المجتمعات لا للانبياء.
وباختصار فان المواجهه المسلحه بهذا المناخ انتحار وعمل لا يتفق لا مع الدين ولا مع العقل فمن الطبيعى جدا ان تختفى من ذهن الامام فكره المواجهه المسلحه وان يبحث عن بديل، وقد توسعنا فى ذلك فى الفصول السابقه ووثقنا ومن قول الامام نفسه (1462).
البديل الوحيد:
بهذه الحاله ليس امام الامام الا الصبر على اعراض الناس عن البيان النبوى المتعلق بالقياده وبدور اهل بيت النبوه، والصبر على ضياع حقه، واتباع الاسلوب الذى اتبعه النبى بهذه الحاله وهو دعوه الناس الى الحق، وتوضيح معالم هذا الحق توضيحا دقيقا وخلق الحوافز لدى الناس للالتزام بهذا الحق او بتعبير ادق تكوين قاعده شعبيه عريضه تعرف الشرعيه والمشروعيه الالهيه على حقيقتها وتلتزم بها، بادئا بتكوين كادر فنى من الدعاه الذين يعينونه على التبشير بفجر الشرعيه والمشروعيه.
وهكذا قعد الامام فى بيته وصمم على الالتزام والعمل بما استقر عليه رايه.
اجبار الامام واهل بيت النبوه على الاحتكام للخليفه البديل ومفاوضته:
مثل عمر بن الخطاب ومثل قاده التحالف اكبر واعظم من ان يدعوا الامام ليعيش هو واهل بيته فى سلام وهم دون بيعه، ففكروا مليا ثم خرجوا بمجموعه من القرارات الاقتصاديه الاليمه التى هزت وجود اهل بيت النبوه هزا عنيفا، وروعتهم ترويعا مخيفا، واجبرتهم اجبارا بالرجوع الى الخليفه الجديد المالك الفعلى للقوه والسلطان ومقارعته ومواجهته بالحجه والمنطق لعله يرجع عن قراراته الاقتصاديه المذهله.
المواجهه على حقوق شخصيه منحها اللّه ورسوله لاهل بيت النبوه:
بدون مقدمات قرر الخليفه الجديد الناطق الرسمى بلسان قياده التحالف ان يصادر كافه تركه الرسول، وان يحرم الورثه من هذه التركه (1463).
ولما سال على وفاطمه واهل بيت النبوه الخليفه الجديد:
فمن يرث النبى اذا كان اهله لا يرثونه؟ فاجاب الخليفه الجديد:
انه هو الوارث الوحيد للنبى (1464).
ولاسباب انسانيه اعطوا اهل البيت من ميراث النبى (آله الرسول ودابته وحذاءه) (1465).
وبدون مقدمات ايضا صادر الخليفه الجديد المنح التى اعطاها رسولاللّه الى اهل بيته اثناء حياته مثلما اعطى الكثير من الناس، فاخذ فدك منهم (1466).
وبدون مقدمات ايضا حرموا اهل بيت النبوه من حقهم بالخمس الوارد بايه محكمه (1467).
واحتج اهل البيت امام الخليفه الجديد وامام الانصار والمهاجرين بالقرآن الكريم واقاموا الحجه على الخليفه الجديد وعلى قياده التحالف، واثبتوا بطلان هذه القرارات الثلاثه، ولكن قاده التحالف ابوا الرجوع عن قراراتهم.
ومع هذا لم يبايع الامام:
وبالرغم من الاجراءات القاسيه من تهديد باحراق البيت، الى تهديد بالقتل، الى حرمان من التركه، الى حرمان المنح، الى مصادره السهم المخصص لاهل البيت، الا ان الامام على لم يبايع الا بعد ان ماتت فاطمه الزهراء وانصرف عنه وجوه الناس، وحوصر اجتماعيا اضطر ان يبايع الخليفه الجديد، ومع بيعته بايعه الهاشميون ايضا (1468).
وقد فصلت تفصيلا كافيا مواجهه الامام الاول على فى معرض معالجتى للاحداث بتسلسلها المنطقى تحت عنوان المواجهه مع صاحب الحق الشرعى ومع آل محمد، ولكنى منهجيا رايت ان ارتب المواجهه بين الائمه الاثنى عشر وبين الواقع المفروض عليهم بما امكن من الايجاز لاطلاع المسلمين على عداله قضيه اهل بيت النبوه، وسداد منهج الائمه واعتقدت ان هذه العجاله مع ما مر تكفى لرسم المعالم الكبرى لمواجهه الامام مع واقع مفروض.
الفصل التاسع: المواجهه المستحيله والمحسومه سلفا
استذكار الظروف الموضوعيه التى واجهها الامام عندما فرضت عليه المواجهه:
1- لقد نجح عمر بن الخطاب وقاده التحالف بابطال البيان النبوى المتعلق بالقياده من بعد النبى وبالدور المميز لاهل بيت النبوه عندما منعوا روايه الحديث النبوى وكتابته كما وثقنا وعندما جمعوا احاديث رسولاللّه المكتوبه عند الناس كلهم وقاموا باحراقها (1469) ورفعوا شعار حسبنا كتاب اللّه، وبعملهم هذا اخرجوا البيان النبوى وشخص الرسول الكريم من التاثير على مسرح الاحداث، وحرموا الناس من الوقوف على بيان النبى لهذا القرآن وقد وثقنا ذلك.
2- مثلما نجح عمر وقاده التحالف بارساء قواعد النظام الجديد، وباشغال الناس بالحروب والفتوحات الجديده.
3- مثلما نجحوا بعزل على واهل بيت النبوه عن الناس عزلا تاما حتى ان عليا وفاطمه والحسن والحسين طافوا مجتمعين على بيوت الانصار بيتا بيتا طالبين النصره والانتصار فلم ينصرهم احد (1470)، وقال اليعقوبى فى تاريخه (1471) واجتمع جماعه الى على يدعونه للبيعه فقال لهم:
(اغدو على محلقين رووسكم) فلم يغدو عليه غير ثلاثه.
4- ونجح عمر بن الخطاب وقاده التحالف بتحييد قواعد الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فقد هدد عليا بالقتل (1472)، وهم باحراق بيت اهل النبوه على من فيه (1473)، وصادر عمر تركه الرسول وحرم اهل بيت النبوه من ميراثهم (1474)، وصادر عمر المنح التى اعطاها رسولاللّه لاهل بيت النبوه حال حياته (1475) وحرمهم عمر بن الخطاب من الخمس المخصص لهم بايه محكمه (1476).
وجعل ابو بكر هو الوارث الوحيد لرسولاللّه (1477) لقد حدث كل هذا ولم ينكره او يستنكره رجل واحد من المهاجرين او من الانصار او من كل المسلمين لا بيد ولا بلسان، وهكذا اختفى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، واطبق قاده التحالف سلطانهم وقبضتهم على كل شىء.
5- ونجح عمر بن الخطاب بتسليم اعوانه وشانئى اهل بيت النبوه كافه المناصب والقيادات والولايات، فلا تجد قائدا او واليا او معينا للخليفه او مستشارا له يقبل بقياده او ولايه اهل بيت النبوه او يعترف بحقهم فى ذلك.
6- نجح عمر بن الخطاب بخلق منافسين اقوياء ومدعومين عشائريا ليتنافسوا مع الامام على بعد موت عمر على منصب الخلافه فجعل عثمان خليفه له رسميا وفعليا كما وثقنا واوجد ديكورا شكليا سماهم باصحاب الشورى، وقال:
(انه يجعل الامر لهولاء السته الذين مات رسولاللّه وهو راض عنهم (1478)) وهكذا صار الامام على واحد من سته، فاذا طلب على الخلافه يطلبها السته، واذا طالب اولاد على بحقهم بالخلافه طالب اولاد السته بالخلافه سندا لتنسيب عمر بن الخطاب.
7- ونجح عمر بن الخطاب بالغاء سنه الرسول التى كانت تعطى المال بالسويه بين الناس وباحلال رايه الشخصى محل سنه الرسول -كما وثقنا- مما اعطاه الحريه ليتصرف بمال المسلمين على الوجه الذى يراه فاغرق اولياءه بالعطايا والصلاه، فكان بامكانه ان يرضى ابا سفيان بما جمع ابو سفيان من الصدقات ويتركها بيده ليضمن عدم معارضه ابى سفيان للنظام(1479).
ومع ان عمر متيقن ان عثمان سيحمل بنى معيط على رقاب الناس (1480) لكنه اختار عثمان لاسباب كثيره منها الحقد الاموى على بنى هاشم عامه، وعلى على بن ابى طالب خاصه فما من بيت من بيوت بنى اميه الا وهو موتور من بنى هاشم ومن على بالذات (1481).
وهذا هو السر بتوليه معاويه وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهم من ذوى الاحقاد على بنى هاشم.
8- نجح عثمان بن عفان عندما تسلم الخلافه باستقطاب بنى اميه حوله واعطائهم واوليائهم كافه مناصب الدوله ووظائفها، واغراقهم بالعطايا والصلات التى تفوق حد التصور والتصديق.
فعندما قتل عثمان كانت الدوله امويه من جميع الوجوه، وكان الامويون طبقه متميزه من دون الناس وفوق الناس جميعا، وكان عثمان نفسه مجرد رمز لا حول بيده ولا قوه، والملك الحقيقى بيد البيت الاموى.
9- ونتيجه عطايا عمر وعثمان صار الاربعه الذين بقوا على قيد الحياه من اصحاب الشورى ومن منافسى على بالخلافه صاروا من اصحاب الملايين والضياع والعبيد يتالفون الناس باموالهم.
10- حاله من القداسه والتقديس تخلعها جموع العامه من المسلمين على ابى بكر وعمر لانهم قارنوهما بعثمان فصارا مثلهم الاعلى، واستبعدا عليهما ان يعصيا رسولاللّه وان يبتزا حق الامام بالقياده، فصارت حجه الامام للمطالبه بحقه تصطدم بقداسه هذين الرجلين.
11- صحيح ان الامام على استقطب حوله عدد كبير من الذين استفاقوا من ذهولهم وغفلتهم وبداوا يكتشفون الحقائق، لكن هذا العدد قليل اذا ما قورن ببحر جموع العامه التى لا تعرف عن الحقيقه شىء والمشغوله برغيفها ومعاشها.
12- وصحيح ايضا ان الكثير من الناس تاثرت مصالحهم من حكم عثمان ومن تسلط الامويين، لكن هذه الفئه تدور مع مصالحها لا مع مبادئها.
13- وصحيح ايضا انه قد تكونت فى المجتمع طبقات متعدده، فقله من اصحاب الملايين، وقله من اصحاب الحرف والموظفين، وقله من الولاه وحكام الاقاليم، وكثره ساحقه من الجياع والمستضعفين، وان الجميع قد شعروا بان امر الخلافه قد بدا يخرج عن السيطره ولكنهم اقتنعوا بان الملك لمن غلب، ولا مصلحه لهم بالتضحيه، وان مصلحتهم محكومه بتوقعاتهم لحجم المكاسب التى سيحصلون عليها من الغالب، اكثر من توقعاتهم ببعد الغالب او قربه من الشرعيه!!
هذه هى الظروف الموضوعيه التى وجد الامام على بن ابى طالب نفسه وجها لوجه معها يوم قتل الثوار عثمان بن عفان الخليفه الاموى، ويوم فرضت عليه اعباء مواجهتها، وهى ظروف تنذر بالسوء وبالهزيمه المحققه له ولاوليائه.
الحكم على نتيجه المواجهه فى هذه الظروف:
مواجهه الامام على لخصومه الذين زرعهم عمر بن الخطاب وقاده التحالف ونموا مع الايام بمثل هذه الظروف محسومه ومعروفه النتائج سلفا، وهى تعنى ان يواجه على واهل بيته والاقليه من اوليائه دوله قائمه بذاتها لها مواردها وجيشها واعلامها وجمهورها الفخم المنتفع من وجودها، فاذا استطاع ان يهزم الاربعه المتبقين من الخمسه الذين سماهم عمر اهل الشورى لمواجهه الامام مستقبلا والحيلوله بينه وبين حقه بالامامه والقياده، اذا استطاع ان يهزم هولاء الاربعه ومن والاهم فانه لن يقوى على هزيمه الدوله الامويه الضاربه الجذور والتى اسسها من الناحيه الفعليه عمر بن الخطاب خصيصا لمثل هذه المواجهه.
لكن الامام على لا يتهرب من مسووليته ولن يلتحق ببارئه قبل حلول اجله، وليس بامكانه ان يتفرج على سير الاحداث بعد ان هرع اليه اهل المدينه والثوار المتواجدين فيها.
بيعه على بن ابى طالب:
قتل الثوار عثمان، وتحلل الناس من كل بيعه وتهافت اهل المدينه والثوار على على بن ابى طالب يطلبون يده للبيعه (1482).
جاءه اصحاب الرسول وقالوا له:
(لقد قتل عثمان ولا بد للناس من امام، ولا نجد اليوم احق بهذا الامر منك ولا اقدم سابقه ولا اقرب للرسول!!)
وتذكر الامام على هول المواجهه وظروفها فقال:
(لا تفعلوا فان اكون وزيرا خير من ان اكون اميرا)، ولما اصروا عليه قال الامام:
(اذا فى المسجد فان بيعتى لا تكون خفيا ولا تكون الا عن رضى المسلمين)، وصعد على المنبر وكان اول من بايعه طلحه وكانت يده شلاء (1483).
الذين بايعوا على بن ابى طالب:
قال قيس بن سعد بن عباده مخاطبا النعمان بن بشير بن النعمان، ابن اول من بايع ابا بكر والذى انفرد هو وصاحبه من دون الانصار، ووقف مع معاويه فى ما بعد:
(انظر يا نعمان بن بشير، هل ترى مع معاويه الا طليقا، او اعرابيا او يمانيا مندرجا!
وانظر اين المهاجرون والانصار والتابعين باحسان الذين رضى اللّه عنهم ورضوا عنه!!
ثم انظر هل ترى مع معاويه غيرك وصويحبك ولستم واللّه بدريين ولا عقبيين ولا لكما سابقه فى الاسلام ولا فى القرابه (1484)!!.
هولاء هم الذين كانوا مع الامام، (ووفق سنه ابى بكر وعمر) فان على بن ابى طالب خليفه المسلمين من جميع الوجوه، ويجب طاعته حسب هذا الظاهر على الاقل.
المواجهه مع الموجه الاولى التى اعدها عمر حال حياته:
بعد ان تمت البيعه جن جنون الزبير وطلحه، فاستاذنا وذهبا الى مكه كعمار ليلتقوا مع عدوه الامام اللدوده ام المومنين عائشه وينسقوا معها خطوات المواجهه مع على واهل بيت النبوه، اما سعد بن ابى وقاص وعبد الرحمن بن عوف فامتنعا عن البيعه!!
هذا هو موقف الاربعه الذين اختارهم عمر للشورى خصيصا لمعارضه الامام والحيلوله بينه وبين حقه بالامامه والقياده مستندين الى اختيار عمر.
وانتهى المطاف بطلحه والزبير فى مكه، حيث التقيا بام المومنين عائشه وقرر الثلاثه جمع الجموع والخروج على الامام، ثم ساروا الى البصره ليالبوا اهل العراقين على الامام تحت شعار المطالبه بدم عثمان مع ان طلحه والزبير هم اول من حرض على قتل عثمان، وهذا امر لا خلاف فيه وعائشه كانت اول من ذم عثمان وجرا الناس عليه (1485).
مما يعنى ان المطالبه بدم عثمان مجرد غطاء شرعى ظاهرى للخروج على الامام وللتعبير عن حقدهم المشترك على الامام.
هزيمه الخمسه:
سعد وعبد الرحمن وان لم يبايعا هزما، اما طلحه والزبير وعائشه فقد جمعوا امرهم وواجهوا الامام بالبصره فهزمهم اللّه وهزمت عائشه ومعها الاحزاب، وبعد الهزيمه دخل عليها محمد بن ابى بكر وقال لها:
(اما سمعت رسولاللّه يقول:
(على مع الحق والحق مع على تقاتلينه بدم عثمان!!)
، ثم دخل على فسلم عليها، وقال لها:
(يا صاحبه الهودج قد امرك اللّه ان تقعدى فى بيتك ثم خرجت تقاتلين، اترحلين؟) قالت عائشه:
(ارحل)، فخصص لها على موكبا وحرسا من النساء ولما وصلت الى المدينه وعرفت ان حرسها نساء، قالت:
(جزى اللّه بن ابى طالب الجنه) (1486).
اما طلحه فقد قتله شريكه بالتحالف مروان بن الحكم، واما الزبير فقد انسحب من القتال وقتل فى الطريق وهكذا هزم الامام الخمسه.
مواجهه جديده:
لقد اسس عمر بن الخطاب الملك الاموى عندما استخلف عثمان، وعين يزيد بن معاويه قائدا لجيوش الشام واستخلف معاويه على بلاد الشام، وتركه يجمع ويفعل بلا حسيب ولا رقيب واسس الدوله الامويه عندما جعل كل ولاته من الكارهين مثله لولايه على والشانئين لاهل بيت محمد والموتورين منهم.
لما هزم على الخمسه وجد نفسه وجها لوجه امام الدوله الامويه التى يقودها معاويه بن ابى سفيان.
من هو معاويه بن ابى سفيان؟
لا خلاف بان معاويه بن ابى سفيان، وابو سفيان واولاده هم الذين قادوا جبهه المقاومه والحرب ضد رسولاللّه طوال مده 21 عاما حتى احيط بهم فتلفظوا بالشهادتين -كما فصلنا ووثقنا فى الباب الاول- فابو سفيان ومعاويه من ائمه الكفر (1487)، وقد لعنه رسولاللّه يوم احد (1488) ولعنه رسولاللّه فى سبعه مواضع (1489).
واخرج نصر بن مزاحم المنقرى عن البراء بن عازب قال:
اقبل ابو سفيان ومعه معاويه فقال رسولاللّه:
(اللهم العن التابع والمتبوع، اللهم عليك بالاقيصص، فقال ابن براء لابيه:
(من الاقيصص)، قال:
(معاويه)، واخرج نصر بن مزاحم عن ابن الاقمر فى حديث آخر:
(نظر رسولاللّه الى ابى سفيان وهو راكب ومعه معاويه واخوه احدهما القائد والاخر سائق، فقال رسولاللّه:
(اللهم اللعن القائد والسائق والراكب)، قال:
قلنا:
(انت سمعت رسولاللّه؟) قال:
(نعم والا فصمت اذناى (1490))، وروى البخارى ان رسولاللّه كان اذا رفع راسه من الركعه الاخيره من الفجر كان يقول:
(اللهم العن فلانا وفلانا)، بعدما يقول سمع اللّه لمن حمده، واخرج احمد والبخارى والترمذى والنسائى وابن جرير والبيهقى فى الدلائل عن ابن عمر ان رسولاللّه قال يوم احد:
(اللهم العن ابا سفيان، اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن اميه)، واخرج السيوطى والترمذى وصححه وابن جرير وابن ابى حاتم (ان رسولاللّه كان يدعو على اربعه نفر ويقول فى صلاه الفجر:
(اللهم العن فلانا وفلانا) ومن الطبيعى ان الرواه قد حذفوا اسم ابى سفيان واسم معاويه!!
رساله محمد بن ابى بكر توكد هذا المضمون:
قال محمد بن ابى بكر برساله لمعاويه:
(... وقد رايتك تساميه (عن على) وانت انت، وهو هو، اصدق الناس نيه، وافضل الناس ذريه، وخير الناس زوجه، وافضل الناس ابن عم، اخوه الشارى بنفسه يوم موته، وعمه سيد الشهداء يوم احد وابوه الذاب عن رسولاللّه وعن حوزته، وانت اللعين ابن اللعين، لم تزل انت وابوك تبغيان لرسولاللّه الغوائل، وتجهدان فى اطفاء نور اللّه، تجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتولبان عليه القبائل، وعلى ذلك مات ابوك، وعليه خلفته) (1491).
ولم ينف معاويه لعنه، ولا لعن ابيه، مع انه قد رد ردا بليغا على الرساله.
وتالق نجم معاويه:
اول من بايع ابا بكر عثمان بن عفان الاموى وبنو اميه، فاحبهم عمر واحبهم ابو بكر (1492)، واختار عمر وابو بكر يزيد بن ابى سفيان قائدا لجيش الشام، ولما مات يزيد ولى عمر معاويه ولايه الشام كلها وبقى واليا على الشام طوال عهد ابى بكر وعهد عمر وعهد عثمان، يجمع ويتمتع دون رقيب ولا حسيب لا يخاف عزلا لانه واثق ان عمر يعده لمواجهه الامام على، خلال هذه المده جهل اهل الشام، فكانوا لا يعرفون شيئا عن الاسلام، وكان فيهم بمثابه ملك، وحولهم بالمال والدهاء وقلب الحقائق الى جيش حقيقى يقوم اذا غضب معاويه فيغضبون لغضبه ويرضون لرضاه.
وانتهى الامام على من تصفيه الخمسه، فطلب من معاويه ان يبايعه، هنالك روايات متعدده حول هذا الموضوع، ولكن معاويه قال كما قالت عائشه وطلحه والزبير انه يطالب بدم عثمان، وبمعاقبه القتله وما شعاره الا كشعار عائشه وطلحه والزبير!!
وحدثت المواجهه العسكريه:
وحدثت المواجهه العسكريه بين على والمسلمين من جهه وبين معاويه واهل الشام من جهه اخرى وكاد الامام ان ينتصر، وفى اللحظه الحاسمه رفع معاويه المصاحف على الرماح بمشوره عمرو بن العاص وقال:
(هذا كتاب اللّه بيننا وبينكم)، وراى المنافقون انها فرصه العمر لتفويت الانتصار على على، فثاروا من كل جانب واجبروه على وقف القتال، وبوقف القتال نجا معاويه من هزيمه محققه وقويت شوكه المنافقين فى صفوف على، وثبطوا الناس، حتى انتهى الامر بالتحكيم فاجبروا الامام على اختيار الاشعرى المعروف بخذلانه لعلى وبتثبيطه عنه، وخدعه عمرو وتوالت الانقسامات فى جيش الامام ولم تنفع بلاغه الامام ولا صادق نصحه بتوحيدهم واستنهاض عزائمهم فخاروا.
سلاح المال:
قال معاويه:
(واللّه لاستميلن بالاموال ثقات على، ولاقسمن فيهم الاموال حتى تغلب دنياى آخرته) (1493)، لقد استمال معاويه بما اغدقه من الاموال حتى ابن عم الامام عبيد اللّه بن العباس!!
سلاح الارهاب:
معاويه يعلم ان المومنين يحبون عليا، وان المنافقين يكرهون عليا، وهو يعلم ان ملكه لن يستقر الا اذا اباد اباده كامله كل الذين يوالون عليا ويحبونه، واغتنم معاويه فرصه تفكك معسكر على واختلافه فسير مجموعه من السرايا للاقاليم المواليه لعلى وامر قاده هذه السرايا بقتل كل من يجدونه على طاعه على!!
وباهلاك الحرث والنسل، ونهب الاموال كسريه النعمان بن بشير بن النعمان (كان والده اول من بايع ابا بكر) بجيش قوامه 1000 رجل الى عين التمر، ووجه سفيان بن عوف فى سته آلاف الى هيت والانبار والمدائن، ووجه عبد اللّه بن مسعده للاغاره على تيماء، ووجه الضحاك بين قيس وامره ان يمر باسفل واقصه، وان يغير على كل من مر به ممن هم فى طاعه على، ووجه عبد الرحمن بن قيات بن اشيم الى بلاد الجزيره، ووجه الحرث بن نمر التنوخى الى الجزيره، ووجه زهير بن مكحول الى السماوه.
فعاثت جيوشه فى الارض فسادا فاهلكت الحرث والنسل وقتلت كل من وجدته وكان فى طاعه على، وما فعلته جيوش معاويه بالمسلمين لم يفعله اى غزاه فى تاريخ العالم كله!!
جيش بسر بن ارطاه:
وجه معاويه بسر بن ارطاه بجيش سار به حتى وصل المدينه، فهرب والى على ودخل المدينه، فاستذل اصحابها وهدم دورا منها، ثم سار الى مكه فهرب ابو موسى منه، ثم سار الى اليمن وقتل فيها كل من كان فى طاعه على بما فيه الاطفال الصغار، ومن جمله القتلى ابنى واليها عبيد اللّه بن العباس وكانا طفلين صغيرين (1494).
وفجع قلب الامام الشريف بما فعله عسكر معاويه:
تناهت الانباء الى سمع الامام وفجعت قلبه الشريف، فاستنهض القوم فلم ينهضوا واستثار حميتهم فلم يثوروا وصاح من الاعماق:
(فيا عجبا، عجبا واللّه يميت القلب، ويجلب الهم من اجتماع هولاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا، حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى امر اللّه وترضون) (1495).
مثل الامام لا يستسلم:
دعا الامام الناس الى الجهاد، وقال:
(انى معسكر فى يومى هذا، فمن اراد الرواح الى الجنه فليخرج)، ووزع الرايات فعقد رايه للحسين، ورايه لابى ايوب الانصارى، ورايه لقيس بن سعد (1496).
وهوى القمر من السماء:
بينما كان الامام يستعد لمعاقبه معاويه وعصابته القتله، وفى صبيحه احد ايام رمضان، وبينما كان الامام يخرج لصلاه الفجر، غدره عبد الرحمن بن ملجم المرادى، وضربه ضربه الموت، وسقط الامام الذى لم يسقط قط، وعالج الموت ثلاثا، ثم هوى القمر المنير من السماء، وخر الفرقد الذى ملا الاسماع والابصار والقلوب طوال حياته المباركه.
الامام على يكتب توجيهاته النهائيه ويعهد بالامر من بعده للامام الحسن:
قال الامام على لابنه الحسن:
(يا بنى امرنى رسولاللّه ان اوصى اليك، وان ادفع اليك كتبى وسلاحى، كما اوصى الى ودفع الى كتبه وسلاحه، وامرنى ان آمرك اذا حضرك الموت ان تدفعها الى اخيك الحسين)، ثم اقبل على ابنه الحسين فقال:
(وامرك رسولاللّه ان تدفعها الى ابنك هذا)، ثم اخذ بيد على بن الحسين وقال له:
وامرك رسولاللّه ان تدفعها الى ابنك محمد بن على فاقرئه من رسولاللّه ومنى السلام)، ثم اشهد على الوصيه تلك الحسين ومحمد ابناه وجميع اولاده وروساء شيعته واقطابهم (1497).
الفصل العاشر: الامام الحسن بن على بن ابى طالب يقود المواجهه
بايع الناس الامام الحسن، واقاموا مراسيم العزاء والمبايعه معا، وسط الالم والحزن والدمار، تحامل الامام الجديد الحسن بن على على نفسه ووقف خطيبا بين الناس فقال:
(لقد قبض فى هذه الليله رجل لم يسبقه الاولون، ولم يدركه الاخرون، لقد كان يجاهد مع رسولاللّه فيقيه بنفسه، وكان رسولاللّه يوجهه برايته، فيكنفه جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح اللّه على يديه..) وغلبت الامام الدموع ثم استانف خطبته قائلا:
(ايها الناس من عرفنى فقد عرفنى، ومن لم يعرفنى، فانا الحسن بن على بن النبى، ابن الوصى، وانا ابن البشير النذير وانا ابن الداعى الى اللّه باذنه وانا ابن السراج المنير، وانا من اهل البيت الذى كان جبريل ينزل الينا، ويصعد من عندنا (1498).. تمت بيعه الامام رسميا، وصار قائدا للامه واماما لها، وعليه ان يتابع المواجهه مع اعداء اللّه من حيث انتهى ابوه.
التعبئه والاستعداد للمواجهه العسكريه:
لما انتهت مراسم العزاء والبيعه اخذ الامام الحسن يستعد فورا للمواجهه المسلحه مع عدو اللّه معاويه، واستدعى قريبه عبيد اللّه بن العباس، وقال له:
(انى باعث اليك اثنى عشر الفا، من فرسان العرب، وقراء المصر، الرجل منهم يزيد كتيبه، فاسر بهم، والن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، واخفض لهم جناحك، وادنهم من مجلسك، فانهم بقيه ثقاب امير المومنين، وسر بهم على شط الفرات، ثم امض حتى تستقبل جيش معاويه، فان انت لقيته فاحبس حتى آتيك، فانى على اثرك وشيكا، وليكن خبرك عندى كل يوم، وشاور هذين الرجلين قيس بن سعد، وسعيدبن قيس، وان اصبت فقيس بن سعد على الناس، فان اصيب قيس بن سعد، فسعيد بن قيس على الناس (1499)..
الخيانه مقابل رشوه:
سار عبيد اللّه بن العباس حتى التقى مع جيش معاويه، وتربص الجيشان، خلال مده التربص بعث معاويه عيونه وجواسيسه ورسله الى عبيد اللّه بن العباس، واخذوا يغرونه بالمال ويعرضون عليه الرشوه، ليلتحق بمعاويه ومعه اكبر عدد ممكن من جنده، واختلقوا له الاكاذيب والاراجيف، فزعموا له ان الحسن يريد ان يسلم لمعاويه وما هى الا قضيه وقت، ومن الخير لعبيد اللّه ان يقبض ما يريد، وهو عزيز خير من ان يضطر الى التسليم بدون مقابل وبذل، وما زالوا بعبيد اللّه حتى صار بايديهم اطوع من العبد فخان سيده مقابل رشوه، وترك قياده جيش الحسن، والتحق بمعاويه ومعه اكثر من نصف الجيش، ولا عجب فان الكثير من جيش الحسن خرجوا من اجل الغنيمه، وها هم يحصلون على بعضها دون جهد، فضلا عن ذلك فقد ادركوا ان موازين القوى مالت كليا الى جانب معاويه (1500).
الضربه المعنويه القاتله:
كانت خيانه عبيد اللّه بن العباس ضربه معنويه قاتله لجيش الحسن ولاتباع الحسن، ولمستقبل المواجهه التى يقودها الامام الحسن، فاذا كان عبيد اللّه بن العباس الهاشمى يبيع امامه وقائده ويتخلى عن قياده جيشه مقابل رشوه تافهه!!
فما الذى يجبر العامه على الالتزام بولائها فى ظروف كل شىء فيها يدل على ان معاويه وشيعته سيغلبون!!
لذلك نبتت فى اذهان العامه والاكثريه من الخاصه فكره تسليم الامام الحسن لمعاويه مقابل مبالغ، او فكره قتل الامام الحسن وتقديم راسه لمعاويه مقابل غنيمه يغدقها معاويه عليهم، فقد صار المال سلاحا جبارا، يستميل الاكابر والاصاغر.
الامام الحسن يقيم الموقف:
ادرك الامام الحسن ان الاستمرار بالمواجهه المسلحه انتحار حقيقى واباده لما تبقى من المومنين الصادقين وهم قله، ومعاويه يبحث عنهم كما يبحث عن الملك والذهب، واباده المومنين الصادقين هى اغلى غاياته وتيقن الامام من الحاله النفسيه لرعيته، فلو تمكنوا من الامام لربطوه وسلموه الى معاويه او قتلوه، ووضعوا راسه بين يدى معاويه طمعا بخسيس من الدنيا.
ولقد عبر الامام عن هذه القناعات بقوله:
(واللّه لو قاتلت معاويه لاخذوا بعنقى حتى يدفعونى اليه سلما، واللّه لئن اسالمه وانا عزيز احب الى من ان يقتلنى وانا اسير، او يمن على فتكون سبه على بنى هاشم) (1501).
وقال الامام الحسن مره:
(انى خشيت ان يجتث المسلمون من الارض فاردت ان يكون للدين داع) (1502).
المفاوضه والتوقيع على الصلح:
بهذه الاثناء فاوض معاويه الامام الحسن، وارسل اليه ورقه بيضاء وقد وقع معاويه اسفلها ليكتب الامام شروط الصلح فكتب الامام الحسن:
1- ان يعمل معاويه فيهم بكتاب اللّه وسنه نبيه محمد(ص) وسيره الخلفاء الصالحين.
2- ليس لمعاويه ان يعهد لاحد من بعده عهدا بل يكون الامر من بعده شورى بين المسلمين.
3- ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض اللّه فى شامهم وعراقهم وتهامتهم وحجازهم.
4- ان اصحاب على وشيعته آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم، وعلى معاويه بذلك عهد اللّه وميثاقه وما اخذ على احد من خلفه بالوفاء بما اعطى اللّه من نفسه.
5- ان لا يبغى للحسن بن على ولا لاخيه الحسين ولا لاحد من اهل بيت الرسول(ص) غائلا سرا ولا علانيه ولا يخيف احدا منهم فى افق من الافاق.
وارسلت الشروط لمعاويه ووقعها فعلا وقدم الى الكوفه.
نكث معاويه العهد:
لما قدم معاويه الكوفه خطب الناس فقال:
(الان فقد جمع اللّه لنا كلمتنا واعز دعوتنا، فكل شرط شرطته لكم فهو مردود، وكل وعد وعدته احدا منكم فهو تحت قدمى، او قدمى هاتين) (1503).
الناس يلومون الحسن:
قال احدهم للامام الحسن:
(يا مذل المومنين)!!
فقال له الامام الحسن:
(لست مذلا للمومنين، ولكنى معزهم، ما اردت بمصالحتى الا ان ادفع عنهم القتل، عندما رايت تباطو اصحابى ونكولهم عن القتال).
وقال لابى ضمره:
(انى خشيت ان يجتث المسلمون عن وجه الارض، فاردت ان يكون للدين داع).
وقال مخاطبا ابا سعيد:
(يا ابا سعيد عله مصالحتى لمعاويه عله مصالحه الرسول لبنى ضمره، وبنى اشجع ولاهل مكه حين انصرف من صلح الحديبيه) (1504).
وقال الامام لاحد اصحابه:
(انى لم افعل ما فعلت الا ابقاء عليكم) (1505).
مراسيم معاويه الملكيه:
بعد ان استتب الامر لمعاويه وصار ملكا للمسلمين، فعل ما لم يفعله فرعون بشعبه، فنقض كل عهوده واصدر عده مراسيم ملكيه لم يصدرها من قبله ولا من بعده ملك قط، وعمم هذه المراسيم على كل عماله، وحكام اقاليمه فى المملكه الامويه (1506) وهى:
1- برئت الذمه ممن روى شيئا من فضل ابى تراب او اهل بيت النبوه.
2- لا تجيزوا لاحد من شيعه على واهل بيته شهاده.
3- من قامت عليه البينه انه يحب عليا واهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه.
4- من اتهمتموه بموالاه هولاء القوم (يعنى عليا واهل البيت) فنكلوا به واهدموا داره.
5 - لا تتركوا خبرا يرويه احد من المسلمين فى ابى تراب الا وتاتونى بمناقض له فى الصحابه.
6- ادعوا الناس الى الروايه بفضائل الصحابه والخلفاء الاولين (1507).
معاويه وفضائل الصحابه:
قال ابن عرفه المعروف بنفطويه وهو من اكابر المحدثين واعلامهم فى تاريخه:
(ان اكثر الاحاديث الموضوعه فى فضائل الصحابه افتعلت فى ايام بنى اميه تقربا اليهم بما يظنون انهم يرغمون بهم انوف بنى هاشم) (1508).
فهدف معاويه بالذات ان يلغى التميز الذى خص اللّه به اهل بيت النبوه، وان يحول اعلام اهل بيت النبوه الى مجرد صحابه من جمله ربع مليون صحابى ليتساوى معهم بالفضل امام الناس، ومن هنا اخترع نظريه عداله الصحابه، وقد الفنا بهذا الموضوع كتابا كاملا (نظريه عداله الصحابه والمرجعيه السياسيه فى الاسلام)، فارجع اليه ان شئت.
اربع خصال فى معاويه:
قال الحسن البصرى:
اربع خصال كن فى معاويه لو لم يكن فيه منهن الا واحده لكانت موبقه:
1- انتزاوه على هذه الامه بالسفهاء حتى ابتزوها امرها بغير مشوره، وفيهم بقايا الصحابه وذوو الفضل.
2- واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير.
3- ادعاوه زيادا وقد قال رسولاللّه:
(الولد للفراش وللعاهر الحجر).
4- قتله حجر بن عدى، ويلا له من حجر واصحاب حجر، قالها مرتين (1509).
فساد عقيده معاويه:
نقل ابن ابى الحديد كلمه الجاحظ ابى عثمان حول معاويه، وقول ابى جعفر النقيب:
(ان معاويه من اهل النار، لا لمخالفته عليا، ولا بمحاربته ولكن لان عقيدته لم تكن صحيحه، ولا ايمانه حقا، وكان من رووس المنافقين هو وابوه، ولم يسلم قلبه قط، وانما اسلم لسانه، ونقل من حديث معاويه ومن فلتات لسانه وما حفظ عنه ما يقتضى فساد عقيدته) (1510).
واقول انا فاذا اضفنا الى هذا كله ما تواتر عن الرسول من انه لعن ابا سفيان ولعن ابنيه معاويه ويزيد كما وثقنا، وكراهيه آل ابى سفيان لعلى الذى لا يحبه الا مومن، جزمنا بنفاق الرجل.
حفيد معاويه يصف جده واباه:
لما هلك يزيد بن معاويه ولى الخلافه من بعده معاويه بن يزيد بن معاويه فصعد المنبر فقال:
(ان الخلافه حبل اللّه، وان جدى معاويه نازع الامر اهله، ومن هو احق به منه على بن ابى طالب، وركب بكم ما تعلمون حتى اتته منيته، فصار فى قبره رهينا بذنوبه) (1511)..
معاويه يسم الامام الحسن بن على:
لان معاويه قد اشرف على الهلاك، ودنى اجله، لذلك عزم على تتويج تاريخه بسم الحسن بن على بن ابى طالب، سيد شباب اهل الجنه، وريحانه النبى من هذه الامه.
قال ابن سعد فى طبقاته:
(سمه معاويه مرارا لانه كان يقدم عليه الشام هو واخوه الحسين).
وقال الواقدى:
(ان الحسن سقى السم مرارا ثم افلت، ثم كانت الاخره فتوفى بها، وكان معاويه قد تلطف لبعض خدمه ان يسقيه سما) (1512).
قال المسعودى:
(لقد سقى الامام الحسن السم، فقام لحاجه الانسان، ثم رجع فقال:
لقد سقيت السم عده مرات، فما سقيت مثل هذه)، وقال:
ان الحسن قد قال عند موته (لقد حاقت شربته وبلغ امنيته -معاويه- واللّه ما وفى بما وعد، ولا صدق فى ما قال (اى لزوجه الامام جعده)) (1513).
قال ابو الفرج الاصفهانى:
(كان الحسن شرط على معاويه فى شروط الصلح ان لا يعهد الى احد بالخلافه بعده، وان تكون له الخلافه من بعده واراد معاويه البيعه لابنه يزيد، فلم يكن شىء اثقل عليه من امر الحسن، وسعد بن ابى وقاص فدس سما اليهما، وارسل الى ابنه الاشعث:
انى مزوجك بيزيد ابنى على ان تسمى الحسن، وبعث اليها بمائه الف درهم) (1514).
وقال ابو الحسن المدائنى:
(دس اليه معاويه سما على يد جعده بنت الاشعث زوجه الحسن) (1515).
وقال ابو عمر فى الاستيعاب (1516) (سم الحسن بن على سمته زوجته جعده بنت الاشعث، وقالت طائفه كان ذلك بتدسيس من معاويه).
وقال السبط بن الجوزى فى تذكره الخواص:
(قال علماء السير:
دس اليها يزيد بن معاويه ان سمى الحسن واتزوجك) (1517)، وقال ابن عساكر فى تاريخه (1518)، مثل ذلك.
فرح معاويه بموت الامام الحسن:
قال ابن قتيبه فى الامامه والسياسه (1519) ان معاويه لما اتاه الخبر اظهر فرحا وسرورا حتى سجد وسجد من كان معه، وجاء فى العقد الفريد لابن عبد ربه (1520):
(لما بلغ معاويه موت الحسن خر ساجدا) (1521)، وقد وثقنا ذلك وذكرنا فى البحوث السابقه عده مراجع (1522).
بعد ان قتل معاويه الحسن الحق به فوجا من الصالحين:
طلب احد ولاه معاويه من محكوميه ان يلعنوا عليا، فابوا، فارسلهم هذا الوالى الى معاويه فقتلهم معاويه صبرا فى مرج عذراء، وفيهم من خيره الصحابه وفيهم حجربن عدى الصحابى الجليل وسته من اصحابه الاجلاء، وعمرو بن الحمق الخزاعى الصحابى الجليل الذى ابلت العباده وجهه، قتلهم معاويه صبرا بجرم انهم على دين على بن ابى طالب (1523).
ظافر القاسمى فى كتابه الخلافه فى الشريعه والتاريخ:
قال الاستاذ ظاهر القاسمى الذى يتبنى بالكامل نظريه اهل السنه فى الخلافه فى كتابه اعلاه ص283 (حصل معاويه على البيعه بالتقتيل والتدمير والتحريف وشتمه انصار رسولاللّه، واستغل اموال المسلمين التى جمعها خلال عشرين عاما بولايته على الشام ليوطد سلطانه بعد ان اخرج اموال المسلمين عن مصارفها الشرعيه، ورتب عطاء اسمه رزق البيعه يعطى للجند عند تعيين خليفه جديد).
وسن معاويه سنه اللعن:
سن معاويه قبل رحيله لعن امير المومنين علىبن ابى طالب واهل بيته على كل منبر وفى كل صلاه (1524).
راجع باب البيان النبوى فى على لتعرف حجم جريمه معاويه!!
التمهيد لاستخلاف يزيد بن معاويه:
زار معاويه المدينه ليمهد بيعه يزيد فقال امام وجوه المدينه:
(قد قلت وقلتم وانه قد ذهب الاباء، فابنى احب الى من ابنائهم ومع ان ابنى ان قاولتموه وجد مقالا، وانما كان هذا الامر لبنى عبد مناف لانهم اهل رسولاللّه فلما مضى رسولاللّه ولى الناس ابا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافه غير انهما سارا بسيره جميله ثم رجع الملك الى بنى عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامه وقد اخرجك اللّه يا ابن الزبير وانت يا ابن عمر منها فاما ابناء عمى هذان فليسا بخارجين من الراى ان شاء اللّه (ويقصد بابنى عمه عبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر..) ثم امر بالاستعداد للرحيل) (1525).
وزار عائشه فلما قدم قالت عائشه:
(يا معاويه قتلت حجرا واصحابه العابدين المجتهدين)، فقال معاويه:
(دعى هذا كيف انا فى الذى بينى وبينك وفى حوائجك)؟ قالت:
(صالح) (1526).
وعاد معاويه الى عاصمه ملكه وحصل على بيعه اهل الشام والعراق، وبعد ذلك جاء برحله جديده الى المدينه وقال معاويه للناس: