(18) سليم البشري
(مالكي / مصر)
ولد عام 1248 هـ الموافق لسنة 1832 م في محلة "بشر" بمحافظة "البحيرة" في مصر ليكون علماً من أعلام جيلها المستقبل، نشأ على المذهب المالكي، ثم ترعرع في مهد العلم، جامعة الأزهر حتى توصّل إلى مرتبة من العلم والفقاهة والدراية، إذ تمكن تولية مشيختها مرتين: الأولى عام (1317هـ / 1900 م) إلى سنة (1320هـ / 1904م)، والمرة الثانية من سنة (1327هـ / 1909) حتى سنة وفاته عام (1335 هـ / 1916م).
تميزت فتره توليته لمشيخة الازهر بالحزم وحسن الادارة حيث طبق في عهده نظام امتحان الراغبين في التدريس بالأزهر... كما أنه رغم تقبله مشيخه الأزهر وتحمله اعباء مسؤوليتها لم يترك مهمة المشيخة من إلقاء الدروس على الطلاب.
التقاؤه بالعلامة شرف الدين:
قام العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين رحمة الله ـ والذي كان من علماء الشيعة الكبار وزعيمهم في بلاد الشام ـ عام 1329هـ بزيارة دولة مصر، اذ كانت هي من أمنياته الكامنة في نفسه ليقف على أعلام مصر، فكانت من جملة
فكانت تلك المناقشات سبباً في اتصال المودة بينهما وسبيلاً إلى الاحترام المتبادل وباعثاً لاطراد مراسلات خطّية جرت بينهما بعد عودة السيد رحمة الله إلى وطنه عام 1330 هـ.
بداية الحوار بينه وبين العلامة شرف الدين:
عن طريق الرسائل غاص هذان العلمان في حوار أخوي وموضوعي، لا نكاد نألفه إلاّ في منهج الإسلامي، لأنه كان حواراً علمياً أصيلاً متصفاً بالنزاهة والموضوعية والإخلاص والاجتهاد للوصول إلى الحقيقة، إذ توفرت فيه النية الحسنة والرغبة في بناء قاعدة متينة من التعاون الصادق والمشترك وحصر نقاط الاختلاف، كما نشاهده في كتاب (المراجعات) لمؤلفه العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين، والذي يعكس لنا فيه تلك المناظرات والأبحاث التي جرت بينهما والتي استغرقت مائة واثني عشر (112) حلقة ـ كان ذلك في أوائل القرن الرابع عشر للهجرة ـ.
تأليف كتاب المراجعات:
بادر السيد شرف الدين رحمه الله بعد ربع قرن ـ على ما يقارب ـ من حوار مع الشيخ سليم البشري إلى نشر هذه المناظرات، وكان سبب التأخير في نشرها عائداً ـ كما ذكره العلامة في مقدمة الكتاب ـ للحوادث والكوارث التي كانت حاجزاً قوياً لنشرها في تلك الفترة كالحرب العالمية الأولى (عام 1332) وعدم تهئية الظروف المناسبة، ولكنه نشرها هذه المناظرات بعون الله عام 1355 هـ، وإن
فنشرت لتكون نوراً ساطعاً ومؤثراً في القلوب المستعدة للهداية والرشاد ولتقود الباحث إلى حيث يجد ضالته ويقف على بغيته.
أثر كتاب المراجعات في الساحة الاسلامية:
قد ذكر الكثير من الذين نوّر الله بصيرتهم فاعتنقوا مذهب أهل البيت صلوات الله عليهم عن الأهمية البالغة لهذا الكتاب، اذ اعتبروه من أهم الأسباب في استبصارهم، وقد بقى هذا الأثر الخالد جهداً مقدّراً وكتاباً مقروءاً وسعياً مشكوراً حتى طبع عشرات المرات وترجم إلى عدة لغات وأقبلت عليه الجماهير من جميع الجهات.
استبصار الشيخ سليم البشري:
يمتلك الشيخ سليم البشري رحمه الله روحاً سامية من أجل الوصول إلى الغاية النبيلة، والبعيدة عن الأغراض والهوى والتعصب والعناد، طالباً لدرر الحقيقة ولؤلؤ الحق من بحر العلم المتموّج، ولهذا يذكر في رسالته المدونة في المراجعة الأولى: "... فإن تبيّن الحق فإنّ الحق أحق أن يتبع...".
فكانت النتيجة بعد الغربلة والتمحيص في الأدلة، والحوار الطويل، اعترافه بالحقيقه كما نلاحظ ذلك في رسالته الأخيرة الواردة في المراجعة رقم 111 والتي يذكر فيها:
"أشهد أنكم في الفروع والأصول على ما كان عليه الأئمة من آل الرسول،
فكانت تلك العاقبة الحسنى التي وفقه الله لها، وكانت تمهيداً ليرد إلى ربه بنفس مطمئنة، راضية، مرضية عام 1335 الموافق سنة 1916م.
مؤلفاته:
كان الشيخ سليم البشري جاداً في بث المعارف والعلوم عبر جميع السبل المتاحه من قبيل التدريس أو الخطابة أو التأليف، فكانت له جملة مؤلفات معظمها من الحواشي والتقارير على كتب السلف، منها:
كتاب المراجعات:
يتضمن هذا الكتاب مائة واثني عشر مراجعة وهي مجموعة المناظرات التي دارت بين السيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ سليم البشري حول
وبالتالي أدّت هذه المناظرات بين هذين العَلمين إلى استبصار الشيخ سليم البشري واذعانه بأحقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام).
وقفة مع كتاب: "المراجعات"
تعريف الكتاب وأهمية الحوار:
ورد في مقدمة الكتاب التي كتبها الاستاذ المصري الدكتور حامد حفني داود وهو يعرف به: "وبعد فهذا سفر عظيم كتبه علمان من أعلام الاسلام في صورة حوار علمي أصيل اتصف بالنزاهة والموضوعية والبعد عن سفاسف القول وهجره، واتصف بالاخلاص الجم من الوصول إلى الحقيقة مبرأة من كل غرض سواها، والحقيقة هي الحكمة الخالدة والحكمة والعلم قرنان يطلبهما المؤمن أنى وجدهما.
كان هذا الحوار يجري بين عالمين جليلين يمثلان شطري أمة محمد(صلى الله عليه وآله)السنة والشيعة. وكان لكل منهما خطره ومكانته في مذهبه علماً وخلقاً وأدباً وبكل ما تتضمنه هذه الكلمات من معنى.
الأول منهما العالم الجليل الشيخ سليم البشري شيخ الاسلام وعمدة المحدثين في مصر.
والثاني: السيد الشريف صاحب السماحة العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين شيخ علماء الشيعة وإمام الحفاظ والمحدثين في لبنان.
الأمر الذي جعل لهذا الحوار خطره واثره في هذا العصر الذي جرى فيه وفي عصرنا الذي نعيشه وفي الأجيال التي بعد ذلك".
قبول الشيخ سليم البشري للحق:
كان الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر في مصر، وهو بذلك كان قائداً للمذهب، ورئيساً لطائفة كبيرة من المسلمين إلاّ ان ذلك لم يمنعه عن قبول الحق وتصريحه بالاستفادة وإيواءه إلى علم هدى ومصباح دجى.
وقد تجلى ذلك منه عدة مرات في هذا الكتاب:
قال على سبيل المثال في المراجعة رقم (5): "أخذت كتابك الكريم مبسوط العبارة، مشبع الفصول، مقبول الاطناب، حسن التحرير، شديد المراء قوي اللداد، ولم يدخر وسعاً في بيان عدم وجوب اتباع شيء من مذاهب الجمهور في الاصول والفروع".
وقال في المراجعة رقم (11): "وحين أغرقت في البحث عن حجتك، وأمعنت في التنقيب عن أدلتك رأيتني في أمر مريج، أنظر في حججك فأراها ملزمة، وفي بيناتك فأجدها مسلمة، وانظر في ائمة العترة الطاهرة فاذا هي بمكانة من الله ورسوله". وهو هنا يعترف بالزام الأدلة التي تثبت حقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام).
وأخيراً شهد بجلاء ليس فيه لبس بصحة المذهب الشيعي في الاصول والفروع واستناده إلى أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وعدّ الشيخ سليم ذلك من أسباب فلاحه ومن اعظم النعم عليه كما ورد في المراجعة (111) التي تقدم نصها آنفاً في ترجمة حياته.
أهمية كتاب المراجعات:
كان لكتاب (المراجعات) الدور الكبير في التأليف بين الأمة والأثر المحمود في التقريب بين المذاهب، ويشهد بذلك الدكتور حامد حفني داود حيث
وأصدر شيخ الأزهر ـ فيما بعد ـ الاستاذ شلتوت فتوى جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية، ويعد هذا اعترافاً رسمياً بصحة المذهب الإمامي من الأزهر وأهل السنة عموماً، وبذلك زالت أسباب خلاف كثيرة بين الجانبين وكانت الشرارة الأولى لهذه الفكرة قد برقت في هذا الكتاب من خلال مناظراته التي طلبت الحق لتتبعه.
وقد ورد التصريح بذلك في المراجعة الرابعة: "نعم يلم الشعث وينتظم عقد الاجتماع بتحريركم مذهب أهل البيت واعتباركم إياه كأحد مذاهبكم، حتى يكون نظر كل من الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية إلى شيعة آل محمد(صلى الله عليه وآله)كنظر بعضهم إلى بعض، وبهذا ينتظم عقد اجتماعهم".
كما فتح هذا الكتاب باسلوبه الرائع ومضامينه العميقة الباب لاستبصار الكثير من علماء أهل السنة ومثقفيهم فضلاً عن عوامهم في عصرنا الحديث، فكان نافعاً جداً في حركة الاستبصار الواسعة التي شهدها هذا العصر، فقلّ أن تجد مستبصراً لم يطلع على كتاب (المراجعات) ولم يستفد منه في حركته نحو معارف أهل البيت ـ التي هي معارف الإسلام الحق ـ ومن ثم الاهتداء بنور ولائهم وأخذ الدين عنهم والتمسك بهم كما أمر الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).
ومن هنا حقّ لهذا أن الكتاب أن ينتشر انتشاراً واسعاً وأن يطبع أكثر من عشرين طبعة وأن يترجم إلى عدة لغات. وقد تلقاه المسلمون من جميع مذاهبهم بالقبول الحسن ما عدا قلة قليلة، ومع ذلك قد اعترف أحد هذه القلة أنّ الكتاب: "يسعى جاداً للدخول إلى كل بيت"(1).
____________
1- عقيدة الامامة عند الشيعة الامامية: 170، للدكتور السالوس.
إمامة المذهب:
المرحلة الأولى: قبول الشيخ سليم بعدم وجوب اتباع مذاهب الجمهور:
طالب الشيخ سليم أن تتبع الشيعة مذاهب الجمهور وتأخذ بها حفاظاً على الوحدة الاسلامية، لكنه لم يغلق باب البحث في هذه القضية وسأل ـ بأدب جم ـ من مناظره أن يدلي برأيه فيها.
فكان جواب مناظره انه لا دليل على الأخذ بمذاهب الجمهور، اذ لا مرجح لها فضلاً عن وجوبها فغاية ما يورد من أدلة على ذلك اجتهاد أربابها وامانتهم وعدالتهم وجلالتهم لكن هذه الامور غير محصورة بهم فلا يصح تعين هذه المذاهب، وأئمة هذه المذاهب ليسوا أفضل من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) اذ لا يجرؤ أحد على القول بذلك وهم أئمة العترة الطاهرة وسفن نجاة الأمة.
وقد يضاف إلى أدلة الأخذ بمذاهب الجمهور أنّ السلف الصالح دانوا بتلك المذاهب ورأوها أعدل المذاهب وأفضلها.
والجواب: إنّ الشيعة ـ وهم نصف المسلمين في المعنى ـ إنما دانوا بمذهب الأئمة من ثقل رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلم يجدوا عنه حولاً، وأنّهم على ذلك من عهد عليّ وفاطمة إلى الآن حيث لم يكن الأشعري ولا واحد من أئمة المذاهب الأربعة ولا آباؤهم، كما لا يخفى.
وعندما سمع الشيخ سليم بذلك قبل بقوة الحجة لدى مناظره في المسألة وصحة الاستدلال منه ولم يستقص البحث أكثر من ذلك قبولاً منه بالحق عندما يبين وخضوعه له.
المرحلة الثانية: قبوله بفتح باب الاجتهاد:
بعد سقوط أدلة وجوب اتباع مذاهب الجمهور اتضحت أهمية الاجتهاد
المرحلة الثالثة: قبوله أن الأدلة تفرض مذهب أئمة أهل البيت وصحة التعبد به:
أخذ الشيعة دينهم عن الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) ولم يأخذوا من غيرهم للأدلة الشرعية التي ساقتهم إلى ذلك وهي كثيرة جداً تأخذ على المؤمن وجهته إلى أهل البيت(عليهم السلام) دون غيرهم من هم ادنى منهم بل لا يمكن أن يقاس بآل محمد أحد.
فمن القرآن نذكر على سبيل المثال آية التطهير(1)، وآية المودة في القربى(2)، وآية المباهلة(3)، وسورة الدهر، أمّا الأحاديث الشريفة فنذكر حديث الثقلين(4) الذي نقله أكثر من عشرين صحابي حيث ذكره الرسول في أكثر من موقف كيوم الغدير ويوم عرفة من حجة الوداع، وعند انصرافه عن الطائف، وعلى
____________
1- الاحزاب: 33.
2- الشورى: 23.
3- آل عمران: 61.
4- مصادره كثيرة لا تكاد تحصى، ونذكر هنا على سبيل الاختصار بعض ما ورد في هامش الكتاب كنز العمال: 1 / 44، باب الاعتصام بالكتاب والسنة، ح 873، ح 874، ح 945، مسند أحمد: 5 / 182 و 189، ينابيع المودة: 33 و 45 و445 ط الحيدرية.
وقد قبل الشيخ سليم ذلك كله وآمن به، وصح عنده التعبد بمذهب أهل البيت(عليهم السلام)واندهش لعدول أكثر الناس عنهم، ثم علم أنّ ذلك نتيجة عدول ساسة الأمة وولاة أمورها عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) فانتقل عنده النقاش والتفكير في الخلافة العامه وإمامة المسلمين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله).
أدلة خلافة الامام علي(عليه السلام) بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله):
الأدلة هنا أيضاً كثيرة والاستدلال بها واضح، قد اعترف به كثير من علماء أهل السنة فضلا عن الشيعة فمن حديث الدار يوم الانذار(3)، إلى حديث ابن عباس في خصائص عليّ(عليه السلام) وفضائله(4)، وحديث المنزلة(5)، وحديث الغدير(6)وغيرها كثير بالعشرات(7).
____________
1- الصواعق المحرقة لابن حجر: 184، 234 ط المحمدية وص111 و140 ط الميمنية بمصر، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: 30 و 370 ط الحيدرية و27 و38 ط اسطنبول، فرائد السمطين: 2 / 246 ح 519.
2- الصواعق المحرقة لابن حجر: 151 ط المحمدية وص 91 ط الميمنية بمصر.
3- تاريخ الطبري: 2 / 319 ـ 321، كنز العمال: 15 / 115 ح 334 ط 2 حيدر آباد، التفسير المنير لمعالم التنزيل للحاوي: 2 / 118 ط 3 مصطفى الحلبي.
4- مسند أحمد: 1 / 330، الخصائص العلوية للنسائي: 6، المستدرك للحاكم: 3 / 123.
5- الصواعق المحرقة: 12، المستدرك للحاكم: 3 / 109، صحيح مسلم ك الفضائل ب من فضائل علي بن أبي طالب: 2 / 360.
6- راجع كتاب الغدير للعلامة الاميني: 1 / 26 ـ 27، عبقات الانوار ج1 مجلد12 ص 312 ط اصفهان اعرف صاحب الصواعق المحرقه: ص25، ط الميمنية بمصر، الباب الاول، الفصل الخامس بصحته، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 164.
7- وردت في الكتاب احاديث اخرى كثيرة مع ذكر المصادر فراجع.
هل يمكن الجمع بين ثبوت النص وحمل الصحابة على الصحة:
كان العائق الرئيسي لدى الشيخ سليم عن قبول مفاد هذه الأدلة ـ ولا زال عند معظم أهل السنة ـ هو كيفية تفسير تصرفات الصحابة واستيلاءهم على الخلافة بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ودفعهم الإمام عليّ(عليه السلام) عن حقه، وقد حار كذلك في عدم مطالبة الإمام عليّ(عليه السلام) بحقه ـ على ما كان يرى ـ وبيعته للخلفاء الثلاثة.
وكان الشيخ سليم يرى أن الأدلة ملزمة في قرارة نفسه، فهو لم يكن من المعاندين لكن جمعها مع ما وقع في الخارج من تاريخ المسلمين بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) صعب عليه، يقول في المراجعة 83: "أنّ أولي البصائر النافذة، والرؤية الثاقبة، ينزهون الصحابة عن مخالفه النبيّ(صلى الله عليه وآله) في شيء من ظاهر أوامره ونواهيه، ولا يجوزون عليهم غير التعبد بذلك، فلا يمكن أن يسمعوا النص على الإمام ثم يعدلوا عنه أولاً وثانياً وثالثاً، وكيف يمكن حملهم على الصحة في عدولهم عنه مع سماعهم النص عليه؟".
وقد أجاب هذا الكتاب: إنّ هذا ممكن فلننظر ما ورد فيه:
كيف تعبد الصحابة بالنصوص ولماذا قدموا المصالح:
أفادتنا سيرة كثير من الصحابة أنهم إنما يتعبدون بالنصوص إذا كانت متمحضة للدين، مختصة بالشؤون الأخروية، كنصه(صلى الله عليه وآله)، على صوم شهر رمضان دون غيره، واستقبال القبلة في الصلاة دون غيرها، ونصه على عدد الفرائض في اليوم والليلة، وعدد ركعات كل منها وكيفياتها، ونصه على أن الطواف حول البيت أسبوع، ونحو ذلك من النصوص المتمحضة للنفع الأخروي.
وكذلك فإن قريشاً خاصة والعرب عامة، كانت تنقم من علي شدة وطأته على أعداء الله، ونكال وقعته فيمن يتعدى حدود الله، أو يهتك حرماته عزوجل، وكانت ترهب من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وتخشى عدله في الرعية، ومساواته بين الناس في كل قضية، ولم يكن لأحد فيه مطمع، ولا عنده لأحد هوادة، فالقوي العزيز عنده ضعيف ذليل حتى يأخذ منه الحق، والضعيف الذليل عنده قوي عزيز حتى يأخذ له بحقه، فمتى تخضع الأعراب طوعاً لمثله وهم (أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفَاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ى وَ اللَّهُ عَلِيمٌ
وأيضاً فإن قريشاً وسائر العرب، كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من فضله، حيث بلغ في علمه وعمله رتبة ـ عند الله ورسله وأولي الألباب ـ تقاصر عنها الأقران، وتراجع عنها الأكفاء، ونال من الله ورسوله بسوابقه وخصائصه، منزلة، تشرئب إليها أعناق الأماني، وشأواً تنقطع دونه هوادي المطامع، وبذلك دبت عقارب الحسد له في قلوب المنافقين، واجتمعت على نقض عهده كلمة الفاسقين والناكثين والقاسطين والمارقين، فاتخذوا النص ظهرياً، وكان لديهم نسياً منسياً.
فكان ما كان مما لست أذكره | فظن خيراً ولا تسئل عن الخبر |
وأيضاً، فإن قريشاً وسائر العرب، كانوا قد تشوقوا الى تداول الخلافة في قبائلهم، وأشرئبت إلى ذلك أطماعهم، فأمضوا نياتهم على نكث العهد، ووجهوا عزائمهم إلى نقض العقد، فتصافقوا على تناسي النص، وتبايعوا على أن لا يذكر بالمرة، وأجمعوا على صرف الخلافة من أول أيامها عن وليها المنصوص عليه من نبيها، فجعلوها بالانتخاب والاختيار، ليكون لكل حي من أحيائهم أمل في الوصول إليها ولو بعد حين، ولو تعبدوا بالنص، فقدموا علياً بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لما خرجت الخلافة من عترته الطاهرة، حيث قرنها يوم الغدير وغيره بمحكم الكتاب، وجعلها قدوة لأولي الألباب، إلى يوم الحساب، وما كانت العرب لتصبر على حصر الخلافة في بيت مخصوص، ولا سيما بعد أن طمحت إليها الأبصار من جميع قبائلها، وحامت عليها النفوس من كل أحيائها.
لقد هزلت حتى بدا من هزا لها | كلاها وحتى استامها كل مفلس |
____________
1- التوبة: 97.
2- التوبة: 101.
ماذا فعل الامام عليّ(عليه السلام) والسف الصالح:
السلف الصالح لم يتسن له أن يقهرهم [قريش والعرب] يومئذ على التعبد بالنص فرقاً من انقلابهم إذا قاومهم، وخشية من سوء عواقب الاختلاف في تلك الحال، وقد ظهر النفاق بموت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقويت بفقده شوكة المنافقين، وعتت نفوس الكافرين، وتضعضعت أركان الدين، وانخلعت قلوب المسلمين، وأصبحوا بعده كالغنم المطيرة، في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية، ووحوش ضارية، وارتدت طوائف من العرب، وهمت بالردة أخرى، فأشفق علي في تلك الظروف أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة البائقة، وفساد العاجلة، والقلوب على ما وصفنا، والمنافقون على ما ذكرنا، يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وأهل الردة على ما بينا، والأمم الكافرة على ما قدمنا، والأنصار قد خالفوا المهاجرين، وانحازوا عنهم يقولون: منا أمير ومنكم أمير(2).
____________
1- راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 107 ط 1 بمصر و: 12 / 52 ط مصر بتحقيق محمد أبو الفضل و: 3 / 876 ط مكتبة الحياة و: 3 / 141 ط دار الفكر، الكامل لابن الأثير 3 ط دار صادر، تاريخ الطبري: 4 / 223 ط دار المعارف بمصر و: 2 / 289 ط آخر، عبد الله ابن سبأ للعسكري: 1 / 114.
2- راجع تاريخ الطبري: 4 / 218 و 219 و 220 ط دار المعارف بمصر، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 6 و 9 ط. مصر بتحقيق محمد أبو الفضل: 2 / 4 ط 1 بمصر، تاريخ اليعقوبي: 2 / 102.
غير أنه قعد في بيته ـ ولم يبايع حتى أخرجوه كرهاً(1) احتفاظاً بحقه، واحتجاجاً على من عدل عنه، ولو أسرع الى البيعة ما تمت له حجة ولا سطع له برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين، والأحتفاظ بحقه من إمرة المؤمنين، فدل هذا على اصالة رأيه، ورجاجة حلمه، وسعة صدره، وإيثاره المصلحة العامة، ومتى سخت نفس امرىء عن هذا الخطب الجليل، والأمر الجزيل، ينزل من الله تعالى بغاية منازل الدين وإنما كانت غايته مما فعل أربح الحالين له، وأعود المقصودين عليه، بالقرب من الله عزوجل.
أما الخلفاء الثلاثة وأولياؤهم، فقد تأولوا النص عليه بالخلافة للأسباب التي قدمناها، ولا عجب منهم في ذلك بعد الذي نبهنا إليه من تأولهم واجتهادهم في كل ما كان من نصوصه(صلى الله عليه وآله)، متعلقاً بالسياسات والتأميرات وتدبير قواعد الدولة، وتقرير شؤون المملكة، ولعلهم لم يعتبروها كأمور دينية، فهان عليهم مخالفته فيها، وحين تم لهم الأمر، اخذوا بالحزم في تناسي تلك النصوص وأعلنوا الشدة على من يذكرها أو يشير اليها، ولما توفقوا في حفظ النظام، ونشر دين الإسلام، وفتح الممالك، والاستيلاء على الثروة والقوة، ولم يتدنسوا بشهوة، علا أمرهم، وعظم قدرهم، وحسنت بهم الظنون، واحبتهم القلوب، ونسج الناس في تناسي النص على منوالهم، وجاء بعدهم بنو أمية ولا هم لهم إلا اجتياح أهل البيت واستئصال شأفتهم، ومع ذلك كله، فقد وصل إلينا من النصوص الصريحة، في السنن
____________
1- إخراج الامام علي بن أبي طالب(عليه السلام) كرهاً لأجل البيعة.
راجع: العقد الفريد: 4 / 335 ط لجنة التأليف والنشر بمصر: 2 / 285 ط آخر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 415 أفست بيروت.
الاهتداء بأهل البيت(عليهم السلام):
قبل الشيخ سليم هذا الجمع ورآه معجزاً في تقريب ما كان يستبعده كما ذكر ذلك في المراجعة (85).
ثم أنه صرح في المراجعة (111) ـ على ما تقدم ـ بأن الشيعة في الأصول والفروع على ما كان عليه الأئمة من آل الرسول، وانّه انصرف عن مناظره مفلحاً منجحاً يعظم نعمة الله عليه ويحمد الله رب العالمين.
فرحم الله الشيخ سليم الذي وصفه مناظره في المراجعة (112): "أشهد أنك مطلع لهذا الأمر ومقرن له، حسرت له عن ساق وانصلت فيه أمضى من الشهاب، أغرقت في البحث عنه، واستقصيت في التحقيق والتدقيق، تنظر في أعطافه وأثنائه، ومطاويه وأحنائه، تقلبه منقباً عنه ظهراً لبطن، تتعرف دخيلته، وتطلب كنهه وحقيقته، لا تستفزك العواطف القومية، ولا تستخفك الأغراض الشخصية، فلا تصدع صفات حلمك، ولا تستثار قطاة رأيك، مغرقاً في البحث بحلم اثبت من رضوي، وصدر أوسع من الدنيا، ممعناً في التحقيق لا تأخذك في ذاك آصرة حتى برح الخفاء، وصرح الحق عن محضه، وبان الصبح لذي عينين، والحمد لله على هدايته لدينه، والتوفيق لما دعا اليه من سبيله(صلى الله عليه وآله)".
(19) صائب عبد الحميد
(حنفي / العراق)
من مواليد العراق، ولد عام 1956م بمدينة "عانة"، ترعرع في أجواء فرضت عليه العقيدة الإسلامية وفق مذهب أهل السنة والجماعة، واصل دراسته الاكاديمية حتى نال شهادة الليسانس في فرع الفيزياء، ثم توجه إلى مهمة التدريس في هذا الاختصاص وباشر عمله في احدى المدارس الثانوية.
شاءت الاقدار الإلهية أن توفر له الأجواء المناسبة لارتقاء المستوى الفكري، فانتهز الاُستاذ هذه الأجواء وجعلها سبيلا لنيل أرقى مراتب الوعي الديني فوسع آفاق رؤاه، فكانت النتيجة أن أحاط علماً بقضايا قلبت له الموازين التي كان عليها فيما سبق، ثم لم تمض فترة من الزمن إلاّ وألفى نفسه مولعاً بمذهب أهل البيت(عليهم السلام)، فاتخذ قراره النهائي ولم تأخذه في الله لومه لائم حتى اعلن انتماءه لمذهب عترة الرسول(صلى الله عليه وآله).
التأثر بالحسين(عليه السلام)
يقول الاستاذ صائب عبد الحميد حول المنطلق الذي دفعة لتغيير انتمائه المذهبي:
بداية لم أقصدها أنا، وإنما هي التي قصدتني، فوفقني الله لحسن استقبالها،
ذلك كان يومَ ملك عليَّ مسامعي صوت شجيّ، ربما كان قد طرقها من قبل كثيراً فأغضتْ عنه، ومالت بطرفها، وأسدلت دونه ستائرها، وأعصتْ عليه.
حتى دعاني هذه المرّة وأنا في خلوة، أو شبهها، فاهتزت له مشاعري ومنحته كل إحساسي وعواطفي، من حيث أدري ولا أدري...
فجذبني إليه.. تتبادلني أمواجه الهادرة.. وألسنة لهيبه المتطايرة.. حتى ذابت كبريائي بين يديه، وانصاع له عتوّي عليه..
فرُحْتُ معه، أعيش الأحداث، وأذوب فيها.. أسير مع الراحلين، وأحطّ إذا حطّوا، واُتابع الخُطى حتى النهاية.
تلك كانت قصة مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) بصوت الشيخ عبدالزهراء الكعبي يرحمه الله، في العاشر من محرم الحرام من 1402 للهجرة.
فأصغيت عنده أيّما إصغاء لنداءات الإمام الحسين..
وترتعد جوارحي.. لبيك، يا سيدي يا بن رسول الله.
وتنطلق في ذهني أسئلة لا تكاد تنتهي، وكأنّه نور كان محجوباً، فانبعث يشق الفضاء الرحيب دفعةً واحدة..
وتعود بي الأفكار الى سنين خلتْ، وأنا أدرج على سلّم الدرس، لم أشذّ فيها عن معلّمي، فقلت: ليتني سمعت إذ ذاك ما يروي ظمأي...
ثم يضيف الاستاذ صائب: فاستضاءت الدنيا كلّها من حولي، وبدت لي شاخصة معالم الطريق..
فرأيت الحكمة في أن أسلك الطريق من أوّله، وابتدىء المسيرة بالخطوة الاولى لتتلوها خطى ثابتة على يقين وبصيرة...
ما بعد مرحلة اليقظة:
كانت هذه مرحلة اليقظة التي فتحت بصيرة الاستاذ على آفاق رحبة، حتى ألقى بعدها بنظره الثاقب وبذهنيته الموهوبة والمتفتحة نظرة عابرة إلى الساحة الاسلامية، فوجدها ساحة ممزقة تعيش حالة الشتات والاختلاف، فثار ضميره الحي قائلا: ما أجمل أن نقف بكل حياد ونعقل على أسباب ودواعي الخلاف الحاصل بين المسلمين، مدركين أنّ المهم في الأمر هو ظهور النهج الاسلامي الأصيل الحنيف وليس غلبة هذا الاتجاه أو ذاك.
ثم بادر الاستاذ صائب إلى شد الرحال ليخوض غمار بحث اكتشاف الحقيقة، واستمرت رحلته المديد من الزمن، فكانت ثمرتها الحصول على تجارب عديدة كما كانت مكلّلة بالتوفيق والنجاح رغم احاطتها بالكثير من المشاكل والصعوبات.
يقول الاستاذ صائب: "قد لا تكون التجارب في ميدان العقيدة عزيزة، فربّما خاضها الكثيرون من أبناء كل جيل، ولكن انتصار اليقين والحق المجرد عن عاطفه هو العزيز في تلك التجارب".
إلتفاته إلى خطورة التعصب:
يرى الاستاذ أن التعصب هو من الموانع والعقبات التي تعتري طريق الباحث لتصده عن الحق، وأن العصبية تمنح كثيراً من المفاهيم هالة قدسية، لكنها سراب لا حقيقة لها، وكم صدّت العصبية فحولا عن مواصلة الطريق نحو الحقيقة الثابتة.
ولكن حيث كان الاستاذ صائب عدواً للعصبية حيثما وجدها، فلم يترك