الصفحة 50

أما أبو حنيفة فمنع من ذلك وقال: لا يجوز الجمع بين صلاتين بعذر السفر بحال.

وفي قول آخر لا يجوز الجمع بين صلاتين في وقت واحد سوى الظهر والعصر بعرفه والمغرب والعشاء في وقت واحد بعذر السفر أو المطر تقديماً أو تأخيراً(1).

أما عند المطر فقد أجاز الشافعي الجمع بين الصلاتين تقديماً.

وقال أبو اسحاق الشيرازي الشافعي: ويجوز الجمع بين الصلاتين(2).

وأحمد يوافق مالك في جواز الجمع بين العشائين فقط لعذر المطر لا بين الظهر والعصر سواء قوي المطر أو ضَعُفْ إذا كان المطر يبل الثوب ويوجد معه مشقة وكذلك يجوز للوحل وريح باردة شديدة في ليلة مظلمة.

وذهب جماعة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال عن ابن اسحاق المرزوي عن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر(3).

إلى غير ذلك من الأقوال بين مواقف لبعض ومخالف لبعض آخر.

أما أئمة أهل البيت(عليهم السلام) فقد صدر منهم كلام واحد بأن الجمع جائز بين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً ويجوز الجمع بين الظهر والعصر تقديماً وتأخيراً.

قالوا بذلك تبعاً للنبي(صلى الله عليه وآله).

ويدل على صحة هذا القول علاوة على الأحاديث الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) آيات كريمة وأحديث نبوية شريفة من طرق دعاة السنة فلابد أن

____________

1- راجع غنية المتملي: 244.

2- راجع الجوهر النقي في الرد على البيهقي: ح226.

3- راجع النووي لصحيح مسلم: 5 / 218 و 219.


الصفحة 51
يقع الإستدلال في مقامين:

المقام الأول:

الإستدلال بالآية الكريمة: (أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشَّمسِ إلَى غَسَقِ الَّيلِ وقرءَانَ الفَجر إنَّ قَرءَانَ الفَجرِ كانَ مَشهُوداً)(1). ولنترك الكلام لأحد علماء السنة الأعلام وهو الفخر الرازي فخر المفسرين حيث قال: فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات. وقت الزوال ووقت الغروب ووقت الفجر وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر. فيكون هذا الوقت مشتركاً بين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتاً للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً. إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز، فوجب أن يكون الجمع في السفر وعذر المطر وغيره(2).

وهذا كماترى بعد أن اعترف بدلالة الآية وصراحتها على جواز الجمع مطلقاً إلا أنه تشبث بما روي مخالفاً لكتاب الله تعالى وكيف غاب عنه إنما يؤخذ بالسنة فيما إذا لم تعارض كتاب الله على أن السنة الشريفة أيضاً ناطقة بصريح القول بجواز الجمع مطلقاً كما سيأتيك إن شاء الله تعالى.

وقال البغوي: تأييداً لما ذكرناه عن الفخر الرازي حيث قال: حمل الدلوك على الزوال أولى القولين لكثرة القائلين به ولأنا إذا حملنا عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر وغسق الليل

____________

1- الاسراء: 78.

2- الفخر الرازي في تفسيره الكبير: 21 / 27.


الصفحة 52
يتناول المغرب والعشاء والقرآن الفجر هو صلاة الفجر(1).

المقام الثاني:

الإستدلال بالأحاديث الواردة عن طريق أهل السنة وإليك بعضاً منها.

حديث ابن عباس قال(صلى الله عليه وآله): الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر(2).

حديث ابن عباس قال: صليت مع النبي(صلى الله عليه وآله) ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، قال عمرو بن دينار قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال وأنا أظن ذلك(3).

وظن عمرو بن دينار وكذا أبي الشعثاء لا يغني من الحق شيئاً حيث يقول سبحانه وتعالى (إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغنيِ مِنَ الحَقِّ شَيئاً)(4).

وحديث ابن عباس قال: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) صلى بالمدينة سبعاً وثمانيةً الظهر والعصر والمغرب والعشاء(5).

وحديث عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة، قال: فقال: ابن عباس أتعلمني بالسنة لا أم لك ثم قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال: عبد الله ابن شقيق فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة

____________

1- راجع معالم التنزيل بهامش تفسير الخازن: 4 / 141.

2- أنظر صحيح مسلم باب الجمع بين الصلاتين في الحضر: 1 / 284.

3- أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده: 1 / 221، وابن أبي شيبة في المصنف: 2 / 344، ومسلم: 1 / 285.

4- يونس: 36.

5- أخرجه مسلم في الصحيح باب الجمع بين الصلاتين في الحضر: 1 / 285.


الصفحة 53
فسألته فصدق مقالته(1).

وحديث عبد الله بن شقيق العقيلي قال: رجل لابن عباس الصلاة فسكت ثم قال: الصلاة فسكت ثم قال: الصلاة فسكت، فقال ابن عباس لا أم لك. أتعلمنا بالصلاة كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)(2).

وحديث ابن عباس قال: صلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) الظهر والعصر جميعاً بالمدينة من غير خوف أو سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيد لم فعل ذلك فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته(3).

وحديث معاذ بن جبل قال: جمع رسول الله(صلى الله عليه وآله) في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، قال: فقلت ما حمله على ذلك، فقال: أراد أن لا يحرج أمته(4).

وهذه الأحاديث كلها نص في جواز الجمع مطلقاً وتقيدها بما ذكر في الأقوال ما هي إلا ظنون لا تغني من الحق شيئاً.

وحديث سهل بن حنيف قال: سمعت أبا إمامة يقول صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر، فقلت: يا عم ما هذه الصلاة التي صليت، قال العصر وهذه صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)(5).

اتفاق الكتاب والسنة:

وقد اتفقت مرويات أهل البيت(عليهم السلام) مع الآية الكريمة السابقة والأحاديث الشريفة المذكورة فمن راجع الأحاديث الواردة عن أهل البيت وجدها أنها تنص

____________

1- مسلم: 1 / 285، أخرجه أيضاً أحمد بن حنبل في مسنده 1 / 251.

2- مصنف ابن أبي شيبة: 2 / 244 ح6. ومسلم: 1 / 284.

3- مصنف ابن أبي شيبة: 1 / 244 ح5، ومسلم: 1 / 284.

4- مصنف ابن أبي شيبة: 2 / 244 ح2، ومسلم: 1 / 284.

5- البخاري: 1 / 137.


الصفحة 54
على ذلك، فمنها:

حديث الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) قال: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين، وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علة بأذان واحد وإقامتين.

وعنه أيضاً(عليه السلام) قال: صلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علة وصلى بهم المغرب والعشاء الآخرة قبل الشفق في غير علة في جماعة وإنما فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله) ليتسع الوقت على أمته(1)، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

تساؤلان وجوابان:

التساؤل الأول:

كيف يصح الإتيان بصلاة الظهر في وقت العصر وصلاة المغرب في وقت العشاء وبالعكس في حين أن معنى الظهر غير معنى العصر ومعنى المغرب غير معنى العشاء. ولابد أن تكون الصلاة في وقتها فصلاة الظهر لا تكون إلا في وقتها، وصلاة العصر لا تكون إلا في وقت العصر وهكذا المغرب والعشاء.

جواب التساؤل الأول:

نقول فى الجواب عن هذا السؤال أنه ينحل إلى أمرين:

الأول: أنه لا خلاف في وجوب الإتيان بالصلاة في وقتها ولكن الخلاف في هذا الوقت متى يكون ومتى يتحقق، فتارة نقول أن وقت صلاة الظهر من الزوال إلى ساعة، وتارة نقول إلى أربع ساعات وهذا يدخل في تحديد الوقت أما كون الصلاة لابد وأن تصلي في وقتها فهذا لا خلاف فيه.

____________

1- راجع وسائل الشيعة للحر العاملي: 5 / 277.


الصفحة 55
الثاني: أن معنى الظهر هو وقت الزوال مأخوذ من ميل الشمس نحو المغرب في وسط النهار فالزوال إذا أخذ بالمعنى الحدث المصدري فهو لحظة الزوال وهي أهل من الثانية وإذا أخذ معنى الاسم المصدري فهو مستمر إلى ما قبل الغروب.

ولابد أن يكون المراد من الزوال: هو الوقت الذي بعد الزوال من دون تحديد لآخره النهاري سوى ما قبل الغروب كما أن تحديده ابتداءً بعد الزوال الحدث المصدري ونفس الكلام يجري في المغرب والعشاء.

علاوة على ذلك أنه ورد كما مر عليك التعليل بأنه حتى لا يشق على أمته أو حتى يوسع(صلى الله عليه وآله) الوقت على أمته. فالقضية يمكن أن تكون تعبدية وتسليم لما يريده الله سبحانه وتعالى وقد فعله نبيه محمد(صلى الله عليه وآله).

التساؤل الثاني:

كيف نشأ الخلاف بين الصحابة وكيف يصح أن حملناهم على الصدق والإخلاص والتقوى والهداية؟

جواب التساؤل الثاني:

نقول: أن النبي(صلى الله عليه وآله) ملتزم بالمستحبات كالتزامه بالواجبات فلما كان يشتغل بالعبادة بين فرضي الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فبعض الصحابة يذهب لقضاء بعض شؤونه القريبة ويرجع إلى مسجد النبي(صلى الله عليه وآله) فتوهم البعض أن التفريق واجب في حين من كان ملتصقاً بالنبي(صلى الله عليه وآله) عرف إن الفصل إنما هو للنوافل فلو لم يأت بالنوافل كما في بعض الروايات فإنه يجمع بين الصلاتين، فأمثال ابن عباس وأنس بن مالك وأهل البيت(عليهم السلام) لما كانوا على مقربة قريبة من النبي(صلى الله عليه وآله) عرفوا معنى التفريق الصوري وأنه لأجل النوافل فقط. ولقد أدرك الدكتور وهبة الزحيلي في موسوعته ذلك فقال:

الحق جواز الجمع لثبوته بالسنة والسنة مصدر تشريعي كالقرآن(1).

____________

1- الموسوعة الفقهية: 2 / 351.


الصفحة 56
ومن قرأ التاريخ بإمعان عرف أن المدينة المنورة صغيرة نسبياً فبناء المنزل يقتصر فيه على ما يكفي للمنام وإيواء الضيف ولا يوجد تلك المساحات الكبيرة في المنازل ومما يدل على صغر حجم المدينة المنورة آنذاك أن المسجد النبوي كان في وسط المدينة والبقيع كان خارج المدينة في حين أن البعد بين المسجد والبقيع بضعة أمتار لا يتجاوز الخمسمائة متر في أبعد التقادير.

كما إن المدينة تشكل دائرة نصف قطرها خمسمائة متر تقريباً، وهذا القدر من المساحة يمكن الوصول إليه في وقت قصير والنبي(صلى الله عليه وآله) يطيل في نوافله. كما أن من رأى بعض الآثار إلى وقت قريب يرى مدى صغر المنازل وتلاصقها.

الثانية: التكتف في الصلاة:

هل التكتّف مسنون أو محرّم؟

  • قالت الحنفية: هو مسنون وليس بواجب والأفضل للرجل أن يضع باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى تحت سرته وللمرأة أن تضع يديها على صدرها(1).

  • وقالت الشافعية: أما التكتف فليس بواجب ويسن للرجل والمرأة والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرة مما يلي الجانب الأيسر وتبعهم سفيان الثوري وداود الظاهري(2).

  • وقالت المالكية: أما التكتف فجائز ولكن يستحب إرسال اليدين في صلاة الفرض(3).

  • وقالت الحنابلة: أما التكتف فسنة للرجل والمرأة والأفضل أن يضع باطن

    ____________

    1- المجموع: 3 / 311، واللباب: 1 / 71، والمغني: 1 / 473، والفلاح: 41.

    2- الهداية: 1 / 47، والمجموع: 3 / 311، واللباب: 1 / 71، وشرح فتح القدير: 1 / 201.

    3- المجموع: 3 / 311، واللباب: 1 / 71، ونيل الأوطار: 2 / 203.


    الصفحة 57
    يمناه على ظاهر يسراه ويجعلهما تحت السرة(1).

  • وأما الإمامية: فقد وقع الخلاف بينهم في هذه المسألة على أقوال:

    الأول: ذهب اكثرهم إلى ان التكتف في الصلاة مبطل لها لعدم الدليل على مشروعيته فيها.

    الثاني: وذهب بعض منهم إلى أنه حرام فمن فعله يكون آثماً ولكن لا تبطل صلاته.

    الثالث: هو مكروه وليس حرام.

    دليل أهل المذاهب الأربعة على التكتف:

    حديث صحيح مسلم: وكان(صلى الله عليه وآله) يضع يده اليمنى على اليسرى.

    وحديث أبو داود: وكان(صلى الله عليه وآله) يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد.

    وحديث النسائي: وكان(صلى الله عليه وآله) أحياناً يقبض باليمنى على اليسرى.

    أما دليل الإمامية على عدم التكتف وبطلانه فحديث حريز عن رجل عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قلت له (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَر)(2) قال: النحر الاعتدال في القيام أن يقيم صلبه وقال: لا تكفر (أي لا تضع اليمنى على اليسرى) إنما يصنع ذلك المجوس(3).

    وحديث محمد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال: قلت له الرجل يضع يده في الصلاة اليمنى على اليسرى فقال: ذلك التكفير (أي وضع اليمنى على اليسرى) لا تفعله(4).

    ____________

    1- المغني: 1 / 473، والمجموع: 3 / 311، وفتح القدير: 1 / 201.

    2- الكوثر: 2.

    3- الكافي: 3 / 336.

    4- التهذيب: 2 / 84 ح 310.


    الصفحة 58
    وأيضاً أفعال الصلاة تحتاج إلى ثبوتها في الشرع وليس في الشرع ما يدل على كون ذلك مشروعاً وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك لأنه لا خلاف إن من أرسل يده فان صلاته ماضية.

    والخلاف في التكتف للأحاديث المتقدمة المختلفة وأيضاً فتاوى رؤساء المذاهب الأربعة تدل على اختلافهم في موضوع التكتف. فالأرجح ارسال اليد في الصلاة لما نذكره في الأحاديث اللاحقة أيضاً.

    من كان يرسل يديه في الصلاة من التابعين:

    الأول: ابن الزبير. عن يزيد بن ابراهيم قال: سمعت عمرو بن دينار قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه(1).

    الثاني: ابن سيرين. عن ابن عليه عن ابن عون عن ابن سيرين أنه سئل عن الرجل يمسك يمينه بشماله قال: إنما فعل ذلك من أجل الدم(2).

    الثالث: ابن المسيب. عن عمر بن هارون عن عبد الله بن يزيد قال: ما رأيت(3) ابن المسيب قابضاً يمينه في الصلاة كان يرسلها.

    الرابع: سعيد بن جبير. عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن العيزار قال: كنت أطوف مع سعيد بن جبير فرأى رجلاً يصلي واضعاً إحدى يديه على الأخرى هذه على هذه وهذه على هذه فذهب ففرق بينهما ثم جاء(4).

    وقد جاءت أحاديث ثابتة نقلت فيها صفة صلاته(صلى الله عليه وآله) ولم ينقل فيها أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى. والمصير إليها أولى لأنها أكثر ولكون هذه ليست مناسبة لأفعال الصلاة، وإنما جعلوها من باب الاستعانة ولذلك أجازها مالك في النفل ولم يجزها في الفرض كما مرّ عليك.

    ____________

    1 و 2 و 3 و 4 المصنف: 1 / 428.


    الصفحة 59
    وقد يظهر من أمرها أنها ليست من فعل النبي(صلى الله عليه وآله).

    وقال ابن عبد البر: وضع اليمين على اليسرى أو إرسالها كل ذلك سنة في الصلاة(1).

    وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال وهو الأشهر وعليه جميع أهل المغرب من أصحابه أو جمهورهم(2).

    وقال ابن القيم بعد إيراد أحاديث وضع اليدين في الصلاة: فهذه الآثار قد ردّت برواية ابن القاسم عن مالك قال: تركه أحب إلىّ ولا أعلم شيئاً قد ردّت به سواه(3).

    وحكى ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير والحسن البصري والنخعي أنه يرسل يديه ولا يضع إحداها على الأخرى وحكاه القاضي أبو طيب أيضاً عن ابن سيرين وقال الليث بن سعد يرسلهما فإن طال ذلك عليه وضع اليمنى على اليُسرى للاستراحة(4).

    وقال ابن العربي المالكي المتوفي 345 هجرية في أحكام القرآن ما نصه: إن قلنا معنى قوله (وانحر) ضع يدك على نحرك فقد اختلف في ذلك علماؤنا على ثلاثة أقوال:

    الأول: لا توضع في فريضة ولا نافلة لأن ذلك من باب الاعتماد ولا يجوز في الفرض ولا يستحب في النفل.

    الثاني: أنه لا يضعهما في الفريضة ويضعهما في النفل استعانة لأنه موضع ترخص.

    ____________

    1- الكافي في فقه أهل المدينة: 1 / 206.

    2- المجموع: 3 / 212.

    3- أعلام الموقعين: 2 / 402.

    4- المجموع: 3 / 311 و 312.


    الصفحة 60
    الثالث: يضعهما في الفريضة وفي النافلة وهو ما رواه مسلم عن وائل بن حجر أنه رأى النبي(صلى الله عليه وآله) يرفع يديه حين دخل الصلاة حيال أذنه ثم إلتحف بثوبه ثم وضع يديه اليمنى على اليسرى.

    راجع: أحكام القرآن تفسير قوله تعالى: (فصل لربك وانحر).

    الخلاصة:

    أنه روى عن مالك ثلاث روايات:

    الأولى: وهي المشهورة عنه أنّه يرسلها.

    الثانية: يضع يديه تحت الصدر فوق السرة(1).

    الثالثة: أنه خيّر بين الوضع والإرسال ذكره في عقد الجواهر أنه قول أصحاب مالك المدنيين وبه قال الأوزاعي وكان يقول: إنما أمروا بالاعتماد إشفاقاً عليهم لأنهم كانوا يطوّلون القيام فكان ينزل الدم إلى رؤوس أصابعهم فقيل لهم لو اعتمدتم لا حرج عليكم(2).

    وقالوا: إن الوضع ينافي الخشوع لأن النبي(صلى الله عليه وآله) علّم المسىء صلاته الصلاة ولم يذكر وضع اليدين إحداهما على الأخرى. وقال النووي: لم يعلمه النبي(صلى الله عليه وآله) إلاّ الواجبات فقط(3).

    فالمذاهب الأربعة ومن يتبعهم اختلفوا اختلافاً كبيراً في ذلك الحكم: منهم من قال: تحت السرّة وهو مذهب الأحناف كما حكاه صاحب الهداية، وكنز الدقائق، وتبيين الحقائق، والبحر الرائق.

    ومنهم من قال: تحت الصدر فوق السرّة. وهو مذهب الشوافعة كما ذكر:

    ____________

    1- ذكرهُ العيني في شرح الهداية: 1 / 102.

    2- المبسوط: 1 / 23 و 42.

    3- المجموع: 3 / 313.


    الصفحة 61
    صاحب الوسيط، والبغوي في شرح السنة، والنووي في المجموع.

    ومنهم من قال: فوق الصدر. وهو مذهب الحنابلة وبعض الشوافعة، كما رواه: ابن خذيمة، وأحمد بن حنبل.

    عن ابن عباس قال: وضع اليمنى على الشمال في الصلاة عند النحر وفي سنده روح بن المسيب تكلموا فيه.


    الصفحة 62

    الصفحة 63

    (4) عبد المنعم الحسن
    (مالكي / السودان)




    ولد عام 1969م في قرية "مسمار" الواقعة شرق السودان، وترعرع في أسرة متواضعة، تتعبّد وفق المذهب المالكي.

    كان أبوه إماماً وشيخاً للقرية وله مكانة خاصة عند سكانها، لأنّه كان من المقرّبين والمساعدين لمرشد الطريقة الختمية التي تعتبر من الطوائف الصوفية الكبرى في السودان.

    توفي أبوه وهو في التاسعة من عمره، ثم انتقلت اسرته إلى منطقة "الكربة"، فأتم هناك دراسته الابتدائية، ثم انتقل إلى مدينة "بورتسودان" لظروف الدراسة والمعيشة.

    دراسته الآكاديمية:

    يقول الأخ عبدالمنعم: "بدأت في بورتسودان مرحلة جديدة من حياتي بين صخب المدينة واجوائها التي تختلف تماماً عن القرية، درست المتوسطة والثانوية ولم يكن لي هم في هذه الفترة سوى إنهاء الدراسة الجامعية والتخرج والانطلاق في الحياة حتى استطيع مساعدة إخوتي في إعالة الاُسرة.

    مضت السنوات سراعاً وأصبحت على أعتاب التخرج من الثانوية، امتحنت

    الصفحة 64
    للشهادة فأحرزت نتيجة تؤهلني لدخول جامعة القاهرة بالخرطوم التي أصبحت فيما بعد جامعة النيلين، واخترت كلية الحقوق، كان اهتمامي الاجتماعي يفوق اهتمامي الأكاديمي ووجدت نفسي في هذا الجانب حيث تعرفت على الكثيرين واستفدت من التجارب.

    بعد ذلك أصبحت رئيساً للاتحاد العام للطلاب السودانيين بالولاية الشمالية، وكنت سعيداً بذلك لعلي أخدم الطلاب وأقدم شيئاً يكون ذخراً لي في آخرتي، خصوصاً وأن أغلب الناس باتوا يعيشون في غفلة والساعة تقترب ولا ندري متى يدركنا الموت حينها لن تنفعنا تقوى آبائنا إلاّ بمقدار ما استفدنا مما قدّموه لنا من نصح وإرشاد وتربية قويمة".

    التعرف على شخصية متكاملة:

    يضيف الأخ عبدالمنعم: "استقرّ بي المقام في العاصمة "الخرطوم" لأبدأ الدراسة الجامعية.. وفي أحد أحيائها حيث اخترت أن أسكن مع أقربائي كان يسكن أحد أبناء عمومتي وحيداً يكافح في الحياة بين الدراسة والعمل... كان متديناً يعيش حياة سعيدة رغم أنه لا يملك شيئاً من الوسائل المادية للسعادة وربما يختصر طعامه في اليوم بوجبة واحدة.

    كنا نزوره باستمرار ـ لإعجابنا الكثير به وبخلقه وزهده ـ ونجلس معه ونحاوره في كثير من قضايا الدين والموت والآخرة، كان ينبوعاً من العلم، وحديثه معنا كان يخلق فينا روحاً إيمانية ودفعة معنوية مضاعفة وذلك لمواجهة الحياة والزهد في الدنيا... وكنا نعجب من تدينه الذي ينبع من إخلاص قلما تجده عند أحد خصوصاً في هذا الزمن الذي غلبت عليه المادية وأصبح الدين لعقاً على ألسنة الناس يحوطونه مادرّت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون...

    أحسسنا ونحن نتحدث إليه أننا نقف مع أحد أولئك الذين جاهدوا مع

    الصفحة 65
    رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في بدر وأحد وحنين... تخرج الكلمة من قلبه فنشعر بها في أعماق وجداننا، كان كثير الصوم... دائم العبادة لله تعالى...أحياناً نبيت معه ليالي كاملة فنراه بالليل قائماً قانتاً يدعو الله ويتلو كتابه وفي الصباح يدعو الله بكلمات لم نسمع بها من قبل، كلمات يناجي بها ربنا عزّوجلّ هي بلا شك ليست لبشر عادي، لابد أنها من قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن عجباً لم نسمع بها من قبل، ولم نقرأها ضمن مناهجنا الدراسة ولا كتبنا الإسلامية.. فنضطر إلي سؤاله ما هذا الذي تقرؤه؟! فيجيبنا بأنه دعاء الصباح لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) فنوجم مبهوتين.

    أحببناه لورعه وإذا به شيعي!

    كثيراً ما كان يثير الحديث عن أهمية التدين والدين والبحث عن سبل النجاة قبل أن يأتي الأجل المحتوم، وهذا الحديث كان يثير فينا إحساساً بالمسؤولية يؤرقنا فكنا نتحاشى فتح الحوار معه من الأساس، إلى أن جاء يوم ابتدأنا معه حواراً صريحاً ـ بعد أن لاحت لنا في الأفق أشياء استغربناها ـ حول هذا الدين الذي يتعبد به إلى الله تعالى، وأول معلومة ثبتت لدينا أنه جعفري إمامي إثنا عشري "شيعي"!

    انفتاح باب الحوار والنقاش:

    وانطلقنا معه في حوارات قوية باعتبارنا متمسكين بمذهب أهل السنة والجماعة أو لا أقل (ذلك ما عليه آباؤنا ونحن على آثارهم سائرون).

    وكان النقاش يمتد لساعات طويلة وكانت حجته قوية بيّنة مدعّمة بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية، ولم يعتمد على طول حواره معنا على كتاب أو مصدر شيعي مما يعملون به، بل كان يرشدنا إلى مصادر أهل السنة والجماعة لنجد صدق ادعائه".


    الصفحة 66

    عدم الاذعان بالحق:

    يقول الأخ عبدالمنعم: "رغم أن حديثه وأدلته وبعض الكتب التي قرأناها كانت تحدث فينا هزة داخلية إلاّ أننا كنا نكابر ولا نظهر له من ذلك شيئاً... وعندما نجتمع بعيداً عنه كنا نأسف لحاله ونصفه بأنه مسكين".

    واخيراً بنور فاطمة اهتديت:

    يضيف عبدالمنعم: "صادف ـ ذات يوم ـ أن ذهبت إلى دار ابن عمي لتحيته والتحدث معه في أمور عامة، فلفت انتباهي صوت خطيب ينبعث من جهاز التسجيل قائلا: وهذه الخطبة وردت في مصادر السنة والشيعة وقد ألقتها فاطمة الزهراء لتثبيت حقها في فدك، ثم بدأ الخطيب بصوت هادئ جميل في الخطبة فتدفق شعاع كلماتها إلى أعماق وجداني، تبيّن لي أن مثل هذه الكلمات لا تخرج من شخص عادي حتى ولو كان عالماً مفوهاً درس آلاف السنين، بل هي في حدّ ذاتها معجزة، كلمات بليغة.. عبارات رصينة، حجج دامغة وتعبير قوي... تركت نفسي لها، واستمعت إليها بكل كياني عندما بلغت خطبتها الكلمات التي بدأت بها هذا الفصل ـ راجع الفصل الرابع كتابه وقد ذكر شيئاً من خطبتها(عليها السلام) ـ لم أتمالك نفسي وزاد انهمار دموعي، وتعجبت من هذه الكلمات القوية الموجهة إلى خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)! ومما زاد في حيرتي أنها من ابنة رسول الله فماذا حدث ولماذا.. وكيف.. ومع من كان الحق؟!! وقبل كل هذا هل هذا الاختلاف حدث حقيقة؟ وفي الواقع لم أكن أعلم صدق هذه الخطبة ولكن اهتزت مشاعري حينها...

    كانت الخطبة كالسهم نفذت إلى أعماقي، فتحت جرحاً لا أظنه يندمل بسهولة ويسر، غالبت دموعي وحاولت منعها من الانحدار ما استطعت!


    الصفحة 67
    ولكنها انهمرت وكأنها تصر على أن تغسل عار التاريخ في قلبي، فكان التصميم للرحيل عبر محطات التاريخ للتعرف على مأساة الأمة، وتلك كانت هي البداية لتحديد هوية السير والانتقال عبر فضاء المعتقدات والتاريخ والميل مع الدليل...

    قرّرت مع أول دمعة نزلت من آماقي الخوض في غمار البحث بجدية، وكنت لا أريد في هذا المجال أن اسمع من أحد، بل كنت أريد بداية الخيط لانطلق.

    ثم انتهى الشريط، كفكفت دموعي محاولا إخفاءها حتى لا يحس بها ابن عمي، لا أدري لماذا؟ ربما اعتزازاً بالنفس، ولكن هول المفاجأه جعلني أنهمر عليه بمجموعة من الأسئلة وما أردت جواباً، إنما هي محاولة للتنفيس وكان آخر أسئلتي: إذا كان ما جاء في بعض مقاطع الخطبة صحيحاً فهل كل ذلك من أجل فدك قطعة الأرض؟!

    أجابني: عليك أولا أن تعرف من هي فاطمة، ثم تبدأ البحث بنفسك حتى لا أفرض عليك قناعتي، وأول مصدر تجد فيه بداية الخيط صحيح البخاري، وناولني الكتاب فكانت المفاجأة التي لم أتوقعها".

    ويقول الأخ عبدالمنعم: دام حواري مع ابن عمي سنتين تقريباً، فاقام علينا الدليل والحجة بصحة ما هو عليه، فما كان منا في النهاية إلاّ التسليم بعد البحث والتنقيب وانكشاف الحقائق.

    مشاعر حالة الاستبصار:

    يصف الأخ عبدالمنعم الحالة التي انتابته حين تحوله واستبصاره قائلا:

    "فجأة أحسست ببرودة تلفح وجهي وبرعدة تنتاب أوصالي في يوم حار من أيام فصل الصيف الذي يتميز به السودان، ورغم درجة الحرارة العالية في ذلك اليوم إلاّ أنني شعرت بأنها تدنت إلى ما دون الصفر.


    الصفحة 68
    برهة مرت ثم شعرت بدفء الحقيقة... وبنور ينكشف أمامي وبهالة قدسية تلفني، وإذا بالحجب التي أثقلت كاهلي قد انزاحت، ولمع برق الحقيقة أمام نظري، وإذا بي أبدأ أول خطواتي في الاتجاه الصحيح.

    كانت أصعب لحظات العمر هي وقت اكتشاف عمق المأساة التي كنا نعيشها، والتي كانت نتاجاً طبيعياً للجهل المركب الذي كان يغشى عقولنا... خصوصاً وأن هذه المأساة كانت متمركزة في اعتقادنا وديننا.

    أن يجد الإنسان نفسه مخطئاً في تقدير أمور حياته اليومية مثل لون الدراسة التي يجب أن يدرسها أو الوسيلة التي يجب أن يتنقل بها.. فليس في ذلك كثير أسىً وتندم... لكن أن يخطىء الطريق إلى الله سبحانه وتعالى... أن يسلك طريقاً غير الذي وصفه الله تعالى إلى الجنة، فهذا خطير بل جنون وتهور.

    ذلك ما وجدت عليه ـ وللأسف ـ السواد الأعظم من المسلمين أثناء تجربتي هذه والتي لا أدعي أنها الأولى أو الأخيرة ولا حتى المتميزة... وهذا ما توصلت إليه بعد بحثي وتنقيبي بين ثنايا تراثنا الديني وتاريخنا الاسلامي".

    مؤلفاته:

    (1) "بنور فاطمة اهتديت":

    صدر عام 1999م ـ 1420هـ. عن دار الخليج العربي في طبعته الثانية.

    يقول المؤلف في المقدمة: "هذا الكتاب ما هو إلاّ اثارة لدفائن العقول وتحفيز الآخرين للبحث عن الحقيقة التي كادت أن تضيع بين مطرقة اقتفاء آثار الآباء والاجداد وسندان سياسة التجهيل التي مارسها "العلماء" في حق الابرياء... ان هنالك الكثير ما يزال على فطرته يريد الحق ولكن يلتبس عليه الأمر فيتمسك بما اعتقده من باطل، وتصبح جزءاً من كيانه يدافع عنها بتعصب مانعاً الحقيقة ان تتسرب الى عقله.