وكان الحكيم أمير الدين مهتماً بقضية البحث المقارن بين مذهبي أهل السنة والشيعة، وحيث كانت صلته باستاذه الشيخ على محمد قوية، فكان كثيراً ما يطرح عليه بعض الأسئلة في هذا المجال.
وكان الشيخ أمير الدين ملماً بالثقافة الدينية، ومتبحراً بقراءة كتب التاريخ والرجال وعلم الحديث والتفسير، فلهذا كانت اسئلته المذهبية التي يوجّهها إلى الشيخ علي محمد متّسمة بالعمق والدقة الموضوعية.
فلهذا اضطر الشيخ علي محمد بأن يخصّص لنفسه وقتاً للبحث عن الأسئلة التي كان يوجّهها إليه تلميذه الحكيم أمير الدين.
وفي إحدى الأيام حلّ أحد علماء (هرات) الأفغانيين الشيعة وهو الشيخ عبدالعلي الهروي المُتوفى سنة 1342هـ / 1922م ضيفاً للسكنى في مدينة (سركوتها) بالبنجاب، فأحدثتْ هذه الزيارة صلة بين الحكيم أمير الدين والعلامة الهروي. ونظراً للثقافة الواسعة التي تميَّز بها الحكيم أمير الدين فقد كان مؤهلا بالدخول مع الهروي في مناقشات مذهبيّة صريحة للوصول إلى نتائج الاختلاف بين الفرق الاسلامية في مسائل اعتقادية بعد غربلة كتب التفسير والحديث والرجال والتاريخ، وانتهى المطاف في نهاية العقد الأول من القرن العشرين الميلادي. بتبنّي الحكيم أمير الدين للمذهب الإمامي، والانتقال إليه من المذهب (الحنفي).
دراسته للتشيع وفق الأسس العلمية
بفعل الصلة الوطيدة بين الحكيم أمير الدين والشيخ علي محمد فتح الدّين جرت بعد استبصار الحكيم حوارات بينهما إنتهت بالحافظ علي محمد أن يقوم بدراسة التشيع بجدّ والبحث عنه وفق أسس علميّة بحتة غير خاضعة للمؤثرات المتوارثة، وقد شرع بذلك عام 1330م / 1911م.
استبصاره وتأليفه في مجال الامامة:
استصعب الشيخ علي محمد في البداية ترك ما كان عليه والانتقال إلى مذهب آخر، ولكن وضوح الرؤية وتكامل منهج أهل البيت(عليهم السلام) منحه القوة اللازمة للقيام بهذا التغيير.
ثم شرع الشيخ علي محمد عام 1330م / 1920م بتسجيل قناعاته الجديدة في كتاب سمّاه "فلك النجاة في الامامة والصلاة" وقام الحكيم أمير الدين بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية، ولم تكن ترجمته مقتصرة على نقل نصاً من لغة إلى أخرى فحسب، وإنّما أضاف إلى الكتاب إضافات كثيرة من خلال تتبع المصادر المختلفة، وإلحاق بحوث مُفصَّلة بين ثنايا الكتاب حققَ فيها بعض المطالب بتفصيل وأناة ممّا أضفى على الكتاب جهداً مضاعفاً جعله في مصاف الكتب الموسوعيّة النادرة في تاريخ الصراع المذهبي في الإسلام.
وقد اشتهر كتاب (فُلك النجاة) عند الفريقين السُنَّة والشيعة ـ على حدٍّ سواء ـ وأصبحَ مصدراً لطلاب الحقيقة من الباحثين. وقد أُطلقت عليه تسمية (كتاب البركة)، نتيجةً لما اشتُهر على الألسنة أنَّه ما قرأه مخالفٌ إلاّ وأحدث تساؤلا لديه!
وفاته:
تُوفيَ الحافظ علي محمد فتح الدين في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1371هـ /1952م، ودُفِنَ في مدينة (چاند) التابعة لمدينة (جنك) الباكستانية. وعلى قبره صخرةٌ كبيرة تُحيط بجانبيها أشجارُ السرو الخضراء، قد كُتبَ على واجهتها إسم صاحبها الحافظ المولوي علي محمد فتح الدين، وسنة وفاته، وإسم مؤلفه الخالد (فُلك النجاة).
مؤلفاته:
(1) "فلك النجاة في الإمامة والصلاة"
صدرت طبعته المحققة سنة 1418هـ ـ 1997م عن مؤسسة دار الاسلام، لندن بتحقيق العلامة الشيخ ملا أصغر علي محمد جعفر رئيس جماعة الخوجة العالمية، وكانت طبعته الأولى سنة 1343هـ ـ 1925 في البنجاب.
جاء في مقدمة المحقق: "يتألّف الكتاب من جزئين:
الأول: يختص بدراسة مسألة (الإمامة) والاختلاف الذي وقع فيها مع تفاصيلها الاُخر وقد اطلق على هذا الجزء اسم (غاية المرام في معيار الإمام).
الثاني: يختص بدراسة موضوع (الصلاة)، وترتيبها، وما نشأ من اختلاف في مقدمات مسائلها الفرعية وغير ذلك. وقد اطلق عليه اسم "ترتيب الصلاة بتطبيق الروايات".
يتألف الجزء الأول من مقدمة: في لفظ الشيعة ومصداقه وخمسة أبواب.
الباب الأول: اختلاف المذاهب ومعيار أهل الحق.
الباب الثاني: في بيان عدم عمل الامة بوصية النبي(صلى الله عليه وآله) للتمسك بالثقلين والمودة في القربى.
الباب الثالث: الخلافة والإمامة.
الباب الرابع: موازنة اوصاف الخلفاء الثلاثة من الايمان والعلم والشجاعة بأمير المؤمنين(عليه السلام).
الباب الخامس: في اصول الحديث.
وأما الجزء الثاني ففيه ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في بيان تغير الصلاة.
الباب الثاني: في الطهارة.
الباب الثالث: في أحكام الصلاة.
وقفة مع كتابه: "فُلك النجاة في الامامة والصلاة"
يتكلم الكاتب في كتابه هذا في موضوعي الامامة والصلاة، وقد أجاد فيهما، واستعرض نصوصاً كثيرة، ونقل أقوال العلماء من كتب القوم حتى لم يترك لغيره من المطالب إلاّ القليل، وقد ارتئينا هنا الاستفادة مما أورده في موضوع الصلاة لجامعيته، ولكثرة ما أوردناه حول موضوع الإمامة في هذه الوقفات مع كتب المستبصرين.
تغير الصلاة بعد النبي(صلى الله عليه وآله):
يبين الكاتب هذا الموضوع بالقول:
روى البخاري في صحيحه، مع الفتح (باب تضييع الصلاة عن وقتها) عن أنس قال: ما أَعْرِفُ شيء كما كان على عهد النبي(صلى الله عليه وآله)؟! قيل: الصلاة. قال: الصلاة، قال أليس صنعتم ما صنعتم فيها. وفي رواية: سمعتُ الزهري يقول: دخلتُ على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي فقلت وما يُبكيك، فقال لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاّ هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت(1).
وعن عمران بن حصين قال: صلَّى مع علي بالبصرة، فقال ذكَّرنا هذا الرجل صلاة كُنَّا نصليها مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فذكر أنَّهُ كان يُكبّر كُلّما رفع، وكلما وضع(2).
____________
1- صحيح البخاري: 3 / 302.
2- البخاري: 3 / 428.
وروى الطبراني عن أبي هريرة أنَّ أول مَن ترك التكبير معاوية، وروى أبو عبيد: أنَّ أول من تركه زياد. وهذا لا ينافي الذي قبله لأنَّ زياداً تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان.
وفي صحيح البخاري عن مطرف بن عبدالله قال صلَّيتُ خلف علي بن أبي طالب (أنا، وعمران بن حصين) كان إذا سجد كبّر، وإذا رفع رأسه كبّر، وإذا نهض من الركعتين كبّر فلمَّا قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال قد ذكّرني هذا (أي علي) صلاة مُحمَّد(صلى الله عليه وآله)، أو قال لقد صلَّى بنا (أيّ علي(عليه السلام)) صلاة مُحمَّد(صلى الله عليه وآله)(1).
وهكذا في صحيح مسلم، وفي سنن ابن ماجة عن أبي موسى قال: صلَّى بنا علي(عليه السلام) يوم الجمل صلاة ذكَّرنا صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فأمَّا أن نكون نسيناها وأمّا أن نكون تركناها(2).
وفي كنز العمال عن الشعبي قال: رأيتُ علي بن أبي طالب، وصلّيتُ وراءه فسمعته يجهر ببسم الله، (رواه البيهقي)(3).
وفيه: عن عبدالله بن أبي بكر بن حفص بن عمر ابن سعد: أنَّ معاوية صلَّى بالمدينة للناس العتمة فلم يقرأ (بسم الله)، ولم يُكبِّر بعض هذا التكبير الذي يكبر لنا فلمَّا إنصرف ناداه مَنْ سمع ذلك من المهاجرين والأنصار فقالوا يا معاوية أسرقت الصلاة، أم نسيت أين (بسم الله)، و(الله أكبر) حين تهوي ساجداً (رواه
____________
1- البخاري: 3 / 429.
2- صحيح مسلم: 1 / 169; وسُنن ابن ماجة: 1 / 319.
3- كنز العمال: 4 / 209.
وفي صحيح مسلم: عن أبي سعيد الخُدري أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يخرج يوم الاضحى، ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة (أي قبل الخطبة)، (ثم قال): فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم فخرجت مخاصراً حتى أتينا المُصلّى فإذا (كثير بن الصَلت) قد بنى منبراً من طين ولَبَن، فإذا مروان ينازعني يده كأنَّه يجرني نحو المنبر، وأنا أجرّه نحو الصلاة فلمَّا رأيتُ ذلك منه قلت أين الابتداء بالصلاة؟! فقال لا يا أبا سعيد قد تُرك ما تعلم. قلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم (ثلاث مرات)، ثم انصرف(2).
وفي صحيح مسلم: عن كعب بن عجرة أنَّهُ دخل المسجد، وعبدالرحمن ابن أُمّ الحكم يخطب قاعداً، فقال: إنظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً وقد قال الله(وَ إِذَا رَأَوْاْ تِجَـرَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائماً)(3)(4).
وفي أشعة اللمعات: لا يخفى أنَّ عمر جمع الناس على قارىء واحد في رمضان، وقد عدّوا صلاة التراويح من محدثات عمر، بل أنَّهُ قال: نعْمَت البُدعة هذه، وأيضاً جمعهم عمر على أربع تكبيرات في الجنازة(5)، وروى البخاري عن حذيفة قال: قال النبي(صلى الله عليه وآله) اكتبوا لي مَنْ يلفظ بالاسلام من الناس. فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل، فقلنا نخاف ونحن ألف وخمسمائة، فلقد رأيتنا ابتُلينا حتى أنَّ الرجل ليُصلّي وحده، وهو خائف.
____________
1- أيضاً: 210.
2- صحيح مسلم: 1 / 290.
3- الجمعة: 11.
4- صحيح مسلم: 1 / 284.
5- أشعة اللمعات: 1 / 631.
مسح الأرجل في الوضوء:
الأصل فيه قوله سبحانه: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(1). قال الفخر الرازي في تفسيره الكبير: اختلف الناس في مسح الرجلين، وفي غسلهما، فنقل القفَّال في تفسيره عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبي، وأبي جعفر مُحمَّد بن علي الباقر(عليه السلام): إنَّ الواجب فيها المسح، (وهو مذهب الإمامية من الشيعة).
وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغُسل. وقال داود الأصفهاني: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية.
وقال الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري: المُكلَّف مُخيَّر بين المسح والغسل.
حجَّة مَنْ قال بوجوب المسح مبنيٌّ على القراءتين المشهورتين في قوله: (وَأَرْجُلَكُمْ) فقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو عمر، وعاصم (في رواية أبي بكر عنه) بالجرّ، وقرأ نافع، وابن عامر، وعامر (في رواية حفص عنه) بالنصب.
فنقول: أمَّا القراءة (بالجرّ) فهي تقتضي كون (الأرجل) معطوفة على (الرؤوس)، فكما وجب المسح في (الرأس)، فكذلك في (الأرجل). فأنْ قيل: لِمَ يجوز أن يُقال هذا كسر على الجوار قلنا هذا باطل من وجوه، (إنتهى من التفسير الكبير)(2).
وفي تفسير جامع البيان: "أرجلكم" نصبه نافع، والكسائي، وابن عامر،
____________
1- المائدة: 6.
2- التفسير الكبير: 3 / 545.
وعن عكرمة: قال ليس في الرجْلين غُسل، إنَّما المسح على الرجْلين. وعن الشعبي وعامر، أنَّهُ قال: إنّما نزل جبرئيل بالمسح على الرجْلين ألاترى أنَّ ما كان عليه الغُسل جعل عليه التيمم، وما كان عليه المسح أُهمل (إلى أنْ قال): وقال داود الظاهري يجب الجمع بينهما، وقال الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري، المُكلَّف مخيَّر بين الغسل والمسح(2).
وفي الدر المنثور: أخرج عبدالرزاق، وابن أبي شيبة، وابن ماجه عن ابن عباس: أبى الناس إلاّ الغُسل، ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح(3).
وفي الاتقان للسيوطي: وحينئذ إنْ تعارضت أقوال جماعة من الصحابة فانْ أمكن الجمع فذاك، وإن تعذَّر قدم ابن عباس لأنَّ النبي(صلى الله عليه وآله) بشّره وهو ترجمان القرآن الذي دعا له النبي(صلى الله عليه وآله): اللّهم فَقِّههُ في الدين، وعلِّمْهُ التأويل. وقال: اللّهم إعْطه الحكمة. اللّهم علِّمْه الحكمة، اللّهم بارك فيه (إنتهى ملخّصاً)(4).
وفي كنز العمال: عن عباد بن تميم عن أبيه قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) توضأ، ومسح بالماء على لحيته ورجليه (رواه ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في تاريخه، والعدني، والبغوي، والباوردي، والطبراني، وأبو نعيم. قال في الإصابة: (رجاله ثقات)(5).
____________
1- جامع البيان: 95.
2- تفسير الخازن: 1 / 1441، وتفسير ترجمان القرآن: 842، وتفسير فتح البيان: 1 / 494، وتفسير ابن كثير: 1 / 299.
3- الدر المنثور: 2 / 263.
4- السيوطي: 2 / 187.
5- كنز العمال: 5 / 102.
وعن البزَّال بن صبرة أنَّه رأى عليّاً(عليه السلام) دعا بماء فتوضأ، ومسح على نعليه وقدميه، ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلَّى (رواه سعيد بن منصور).
وعن مسند عبدالله بن زيد المازني أنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) توضأ فغسل وجهه ويديه مرتين، ومسح رأسه ورجليه مرتين (رواه ابن أبي شيبة). وعن علي(عليه السلام) قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحقَّ بالمسح من ظاهرهما، ولكن رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) مسح ظاهرهما، (رواه عبدالرزاق، وابن أبي شيبة، وأبو داود).
وعن حمران قال دعا عثمان بماء فتوضأ، ثم قال: ومسح برأسه، وظاهر قدميه، (رواه ابن أبي شيبة)(2).
وقال العيني في شرح البخاري (باب الوضوء): عن رفاعة بن رافع عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)قال: لا تتمُّ صلاة لأحّد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين (حسَّنه أبو علي الحافظ، وأبو عيسى الترمذي، وأبو بكر البزّار، وصححه الحافظ ابن حبان، وابن خزيمة)، وأخرجه ابن أبي شيبة في مسنده عن عبدالله بن زيد: أنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)توضأ، ومسح بالماء على رجليه، (ورواه ابن خزيمة في صحيحه عن زهير عن المقري) ومنها حديث جابر بن عبدالله أخرجه الطبراني في (الأوسط)(3).
وفي (الكبريت الأحمر) للشعراني على هامش (اليواقيت والجواهر)، قال
____________
1- نيل الأوطار: 1 / 164.
2- المصدر السابق: 104، 108.
3- شرح العيني على البخاري: 1 / 659.
وفي رحمة الأمة في اختلاف الأئمة (على هامش الميزان هكذا بعينه)، وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر قال: تخلَّف عنّا النبي(صلى الله عليه وآله) في سفرة سافرناها فأدْركَنا، وقد أرهقتنا الصلاة، (وفي رواية: أرهقنا العصر)(2) ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: ويلٌ للأعقاب من النار (مرتين أو ثلاثاً)(3).
تنبيه:
هذا الحديث ينادي بأعلى صوته على (المسح) لأنَّ أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله)كانوا مستمرين على المسح; لأنَّ الصلاة لم تجز بدون الوضوء، ففي هذا الوقت لم يسبغوا المسح إلى الكعبين، فناداهم النبي(صلى الله عليه وآله) بالإسباغ. واحتمال الغُسل اختراع لا يدل عليه لفظ الحديث (كما في الفتح) وهو هذا، فتمسَّك بهذا من يقول بإجزاء المَسح، ويحمل الإنكار على ترك التعميم. (ثم قال)، قال الطحاوي: لمَّا أمرهم بتعميم غُسل الرجلين حتى لا يبقى منهما لمعة دلَّ على أنَّ فرضهم الغسل، وتعقَّبه ابن المنير بأنَّ التعميم لا يستلزم الغسل، فالرأس تَعمُّ بالمسح، وليس فرضها الغسل.
وفي (مجمع البحرين ومطلع النيرين) في لغة القرآن والحديث للشيعة قوله(عليه السلام): ويلٌ للأعقاب من النار، وهو إنْ صحَّ فالمراد به التحرّز من
____________
1- الشعراني، الكبريت الأحمر: 36.
2- الارهاق بمعنى الادراك.
3- صحيح البخاري: 1 / 75 ـ 100.
وروى أنَّ قوماً من أجلاف الأعراب كانوا يبولون، وهم قيام فيُنْشَر نشرُ البول على أعقابهم، وأرجلهم فلا يغسلونها، ويدخلون المسجد للصلاة، وكان ذلك سبباً للوعيد.
وفي السيف الماسح (بعد ذكر حديث ويل للأعقاب من النار): فبعد تسليمه لا يدلُّ إلاّ على أمره(صلى الله عليه وآله) بغسل الأعقاب فلعلّه لنجاستها، فأنّ أعراب (الحجاز) ليبس هوائهم ولمشيهم حُفاة في الأغلب كانت أعقابهم تنشقُّ كثيراً، وقلَّ ما تخلو عن نجاسة الدم، وغيره. وقد اشتهر أنَّهم كانوا يبولون عليها ويزعمون أنَّ البول علاج لها فأنْ صدر عنه(صلى الله عليه وآله) أمرٌ بغسل الأعقاب فلعله كان لذلك، ثم اشْتُبِهَ فظُنَّ أنَّه من الوضوء(1).
في مسح (الرِجْلَين) عند الإمامية:
في الاستبصار: عن سالم، وغالب بن هذيل، قال: سألتُ أبا جعفر عن المسح على (الرِجْلَين)، فقال: هو الذي نزل به جبرئيل(2).
وعن محمد بن سهل قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام) يأتي على الرجل ستون، وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة. قلت: وكيف ذلك؟! قال: لأنّه يغسل ما أمر الله بمسحهِ. (وهكذا في الكافي عن محمد بن مروان)(3).
وفي تهذيب الأحكام: عن أبي جعفر قال: يجزي من مسح الرأس موضع ثلاث أصابع، وكذلك الرجل(4).
____________
1- السيف الماسح: 18.
2- الطوسي، الاستبصار: 1 / 69.
3- الكليني، الكافي: 3 / 31.
4- الطوسي: 1 / 12.
الجمع بين الصلاتين:
والأصل فيه قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَ قُرْءَانَ الْفَجْرِ)(1)، (وَ أَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَ زُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ)(2). قال الفخرالرازي في تفسيره الكبير، تحت قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ): هذه الآية توهم أنَّ للظهر والعصر وقتاً واحداً، وللمغرب والعشاء وقتاً واحداً(3)، وإنَّ الظهر والعصر يُجمعان بعرفة بالاتفاق، وفي السفر عند الشافعي، وكذا المغرب والعشاء. وأمَّا صلاة الفجر فهي منفردة في وقت واحد فكان وقت الظهر والعصر وقتاً واحداً، ووقت المغرب والعشاء وقتاً واحداً، ووقت الفجر متوسطاً بينهما(4).
وفي حجة الله البالغة لولي الله الدهلوي الحنفي: فكانت أوقات الصلوات في الأصل ثلاثة; الفجر، والعشاء، وغسق الليل، وهو قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). وإنَّما قال إلى غسق الليل لأنَّ صلاة العشاء ممتدة إليه حكماً لعدم وجود الفصل، ولذلك جاز عند الضرورة الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء فهذا أصل(5).
وفيه (صحيح مسلم): عن معاذ قال: خرجنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) في غزوة (تبوك) فجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال: فقلتُ: ما حمله على ذلك؟! قال، فقال: أراد أن لا يُحرج أُمّته. عن ابن عباس قال جمع رسول الله(صلى الله عليه وآله)بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف، ولا مطر.
____________
1- الاسراء: 78.
2- هود: 114.
3- الفخر الرازي: 3 / 452.
4- الفخر الرازي: 5 / 616.
5- الدهلوي: 193.
وعنه; قال: صلّيتُ مع النبي(صلى الله عليه وآله) ثمانياً جميعاً، وسبعاً جميعاً. عن عبدالله بن شقيق، قال: خَطَبَنا ابن عباس يوماً بعدالعصر حين غربت الشمس، وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجلٌ من بني تميم لا يفترّ ولا ينثني، فقال ابن عباس: أتعلّمني بالسُّنَّة لا أُمَّ لك، ثم قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال عبدالله ابن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيئاً، فأتيتُ أبا هريرة فسألته فصدَّق مقالته.
وعنه قال، قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: لا أُمَّ لك أتُعَلِّمُنا بالصلاة كُنّا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)(1).
وفي حاشية نصب الراية: في التلخيص لابن حجر: وفي حديث ابن عباس أنَّ النبي(صلى الله عليه وآله) جمع بالمدينة من غير خوف ولا سفر (متفقٌ عليه)، وله ألفاظ منها لمسلم: جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف، ولا مطر. قيل لابن عباس ما أراد إلى ذلك؟ فقال: أراد أنْ لا تُحرج أُمّته(2).
وفي رواية الطبراني: جَمعَ بالمدينة من غير علّة، قيل له: ما أراد بذلك؟ قال: التوسع على أُمّته.
وفي المُوطَأ لمالك عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس أنَّهُ قال: صلّى لنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر(3).
قال في (النيل): وقد أخرج الطبراني في الأوسط، والكبير عن ابن مسعود
____________
1- صحيح مسلم: 1 / 245.
2- حاشية نصب الراية: 130.
3- المُوَطأ: 51.
وفيه: قال(صلى الله عليه وآله) صنعتُ ذلك لئلا تُحرج أُمَّتي، (الحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد).
قلتُ: ومن ضعّفه فلم يصبُ. وبما ذكرناه يظهر أنَّ الأحاديث لا هي متعارضة، ولا واردة في معنى واحد بل قد ورد فعله(عليه السلام) للجمع الصوري، والجمع الحقيقي في الحضر للحاجة، ولدفع المشقّة، فظهر أنَّ الجمع في الحضر للحاجة، ودفع المشقَّة جائز مطلقاً ولا يلزم من ذلك مخالفة لحديث (جبرئيل) الوارد في تعيين المواقيت ولا مخالفة للآية الكريمة: (إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـباً مَّوْقُوتاً)(1) ومَن استدلَّ من (الأحناف) على منع الجمع في الحضر بالآية، والحديث المذكورتين، فقد ضلَّ وأضلَّ إذْ لا يخرج الصلاة عن كونه موقوتاً بالجمع، وحديث جبرئيل فيه إظهار الأوقات الأصلية المتفردة لكل صلاة وهو ساكت عن مسألة الجمع، وإذا جازت الزيادة بالحديث الصحيح على الكتاب فجوازها على الحديث بحديث آخر من باب أولى.
الأذان:
في (الاستبصار) للإمامية: الله أكبر (أربع مرَّات)، أشهد أن لا إله إلاّ الله (اثنتان)، أشهد أنّ محمداً رسول الله(صلى الله عليه وآله) (اثنتان)، حيّ على الصلاة (اثنتان)، حي على الفلاح (اثنتان)، حيَّ على خير العمل (اثنتان)، الله أكبر (اثنتان)، لا إله إلاّ الله (اثنتان). وفي الإقامة قد قامت الصلاة (مرتان)، لا إله إلاّ الله (مرة)(2).
وفي (نيل الأوطار) لأهل الجماعة: (الصلاة خير من النوم)، قال في البحر: أحدثه عمر فقال ابنه: هذه بدعة. وعن علي(عليه السلام) حين سمعه: لا تزيدوا في الأذان ما
____________
1- النساء: 103.
2- الاستبصار: 1 / 156.
وقال المولوي عبدالحي اللكنوي في التحقيق العجيب في التثويب عن الليث ابن سعد عن نافع أنَّ ابن عمر كان إذا قال (حيَّ على الفلاح)، قال على إثرها (حي على خير العمل) أحياناً، وروى مثله مُحمَّد في المُوطَّأ عن مالك عن نافع (ثم قال): على أنَّا لا نقول بحرمتها بل بكراهتها(2).
وفي تفسير (تنوير البيان) للإمامية عن شرح التجريد للعلامة القوشجي، وشرح المقاصد للعلامة التفتازاني، قال عمر: ثلاث كُنَّ على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنا أنهى عنهن وأُحرمهُنَّ، وأُعاقبُ عليهنَّ، وهي متعة النساء، ومتعة الحج، و(حي على خير العمل)(3).
وفي (كنز العمال) عن ابن جريج قال: أخبرني عمر بن حفص أنَّ سعداً أول مَنْ قال (الصلاة خير من النوم) في خلافة عمر، فقال: بدعة لو تركوه، وإنَّ بلالا لم يُؤذنْ لعمر (رواه عبدالرزاق)(4).
وفيه: عن ابن عمر أنَّ عمر قال لمؤذنه إذا بلغتَ (حيَّ على الفلاح) في الفجر فقُلْ (الصلاة خير من النوم) رواه الدارقطني، وابن ماجة، والبيهقي. وفيه: في المُوطَّأ لمالك، عن مالك بلغه أنَّ المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً فقال: (الصلاة خير من النوم)، فأمره أن يجعلها في نداء الصبح(5).
____________
1- نيل الأوطار: 1 / 238.
2- التحقيق: 5.
3- تنوير البيان: 63.
4- كنز العمال: 4 / 270.
5- أيضاً: 270.
وعن مجاهد قال: كنتُ مع ابن عمر فسمع رجلا يثوب في المسجد فقال أخرج بنا من عند هذا المبتدع، (رواه عبدالرزاق، والضياء)(2).
فائدة:
قال في (البحار): لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبة للأذان بشهادة الشيخ، والعلامة، والشهيد الأول، وغيرهم. وأمَّا إنكار صاحب (مَن لا يحضره الفقيه) فليس بمُعْتَمد لأنَّه قول مردود، كما رُدَّ قوله في سهو النبي(صلى الله عليه وآله)بقول الثقات.
أقول وبالله أستمد: الواجب على إخوان الإسلام أنْ لا يسخروا على أذان الشيعة، وإنْ شهدوا بولاية أمير المؤمنين في الأذان لأنَّه تعالى حدد من تمسخر على الأذان بقوله (وإذا ناديتم إلى الصلاة إتخذوها هزواً ولعباً) ولنا في إثبات هذه (الشهادة) إثباتات كافية من القرآن الكريم.
قال الله تعالى: (والذين هم بشهاداتهم قائمون)، (سورة المعارج). ومن مسلمات أهل الفن أنَّ أدنى الجمع يُطلقُ على الثلاث، ففي الأذان ثلاث شهادات; شهادة التوحيد، وشهادة الرسالة، وشهادة الإمامة، والسلام.
السجود على الأرض أو على ما أنبتت:
وفي (سنن الترمذي) عن أُمّ سلمة: يا أفلح، ترِّبْ وجهك. وروى (النسائي، وأبو داود، والحاكم) عنها: يا رباح تَرِّبِ وجهكَ. وروى أحمد عنها زيادة: لله
____________
1- أيضاً: 279.
2- أيضاً: 270.
عن سلمان: ونعم المذكر السبحة. وأنَّ أفضل ما تسجد عليه الأرض، وما أنبتته الأرض، (رواه الديلمي عن علي كذا في كنز العمال)(1).
وفي سنن الترمذي: إنَّ قوماً من أهل العمل اختاروا الصلاة على الأرض استحباباً(2).
وفي (الكبيري): وكره مالك السجود على ما يكون من غير جنس الأرض كالجلد والمسح، وكذا خرقة القطن، والكتّان متمسكاً بحديث الخمرة، وإنْ كان هو (أي السجود على الأرض) الأفضل اتفاقاً. ورُويَ عن مالك كراهة الصلاة على غير الأرض أو جنسهما(3).
وفي البخاري عن أبي سعيد قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) سجد على الماء، والطين، رأيت أثر الطين على جبهته(4).
وفي (الاستبصار) قال: لا بأس بالقيام على المُصلى (من الشعر والصوف)، إذا كان يسجد على الأرض، فأنْ كان من نبات الأرض، فلا بأس بالقيام عليه، والسجود عليه(5).
وفي الكافي، والتهذيب قال أبو عبدالله(عليه السلام): السجود على الأرض فريضة، قال: لا تسجد على الذهب، ولا على الفضة(6).
____________
1- كنز العمال: 1 / 325.
2- الترمذي: 1 / 44.
3- الكبيري: 283.
4- البخاري: 1 / 104.
5- الاستبصار: 1 / 170.
6- التهذيب: 1 / 322.