الصفحة 244
تغيّر الولاة وخاصة الذين يغتنون أو يبدوا عليهم آثار النعمة والتبذير، فقد كنت تصادر منهم نصف أموالهم وتعزلهم عن ولاياتهم إلاّ معاوية بن أبي سفيان فقد تركته في ولايته على دمشق بعد أخيه يزيد مدة حكم أبي بكر وحكمك، بالرغم مما كان يأتيك من أخباره وتبذيره وما تراه أنت حتى وصفته أنت (بكسرى العرب)، ولم تعزله حتى صار له نفوذ كبير مما أسس فيما بعد لقيام دولة بني أمية؟

ج ـ نعم هذا صحيح فقد كنت أعزل من تأتيني الأخبار عنهم بأنهم قد خالفوا ما أمرتهم به من خشونة العيش، ولكن من كنت أعزله كان ممن لا أخاف منه الفتنة وتقليب الأمور علي. أما معاوية فقد كنت اكسب به ولاء بني أمية أجمعين لذلك تركته في مقامه، ولو أني وأبا بكر لم ندع ما في أيدي أبي سفيان من الصدقات وجعلنا ابنيه قادة للجيش الذاهب إلى الشام لما استقام لنا الأمر، ولم نفز بهذا التحالف ضد علي وابنيه ولما استقام لنا الأمر.

شورى عمر:

س ـ كيف كانت هذه الشورى وكيف ضمنت إقصاء الخلافة عن علي مع وجوده ضمن أصحاب الشورى الذين سميتهم؟

ج ـ لما طعنني أبو لؤلؤة قال لي الناس:

استخلف. وهنا رجعت ذاكرتي إلى السقيفة، فقد كان ثالثنا أبو عبيدة بن الجراح فقلت لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، وبقي أمامي أول من بايع من المهاجرين وهو عثمان بن عفان، ولأنه هو الذي كتب عهد أبي بكر وقد جعلني فيه وأمضاه أبو بكر فأردت أن أوصي له، فدبّرت الأمر بنفسي ورتبته حيث ينتهي إليه، وأكون أمام الصحابة وبني هاشم قد جعلتها شورى، لذلك قلت لمن كان عندي: إن رسول الله مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش: علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبدالرحمن بن عوف.


الصفحة 245
وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم (ولكن على طريقتي) ليختاروا بأنفسهم، ثم قلت لهم: أكلكم يطمع في الخلافة بعدي! فوجموا، فقلتها لهم ثانية فأجابني الزبير وقال: وما الذي يبعدنا منها! وليتها أنت فقمت بها، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة.

(فغضبت منه لأنه ذكرني بوضعي في قريش سابقاً وإنهم أسمى مني وأقدم مني إسلاماً).

فقلت لهم: أفلا أخبركم عن أنفسكم! فقال الزبير: قل، فإنا لو استعفيناك لم تعفنا، فقلت:

ـ أما أنت يا زبير فوعق لقِس (صخر مبرم لا يستقيم على وجه) مؤمن الرضا، كافر الغضب، يوماً إنسان ويوماً شيطان، ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مُدْ من شعير! أفرأيت إن أفضت إليك! فليت شعري، من يكون للناس يوم تكون شيطاناً؟ ومن يكون يوم تغضب؟ وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة، وأنت على هذه الصفة.

ـ ثم أقبلت على طلحة ـ وكنت مبغضاً له منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قاله عني.

فقلت: أقول أم أسكت؟

فقال: قل فإنك لا تقول من الخير شيئاً.

فقلت: أما أني أعرفك منذ أصيبت اصبعك يوم أحد والبأو (الكبر والفخر) الذي حدث لك، ولقد مات رسول الله ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب!

(فقد قال طلحة بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله: ما الذي يغنيه حجابهن اليوم! وسيموت غداً فننكحهن)..


الصفحة 246
ـ ثم قلت لعبدالرحمن بن عوف: وأما أنت يا عبدالرحمن، فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك، وما لزهرة وهذا الأمر!..

ـ ثم أقبلت على علي: فقلت له: لله أنت لولا دعابة فيك! أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح، والمحجة البيضاء.

ـ ثم أقبلت على عثمان فقلت له: هيهاً إليك! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك، فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء.

ثم قلت ادعوا إلي أبا طلحة الأنصاري فدعوه لي.

فقلت له: انظر يا أبا طلحة، إذا عدتم من حفرتي، فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيت وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم، فإن اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما، وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبدالرحمن بن عوف، فارجع إلي ما قد اتفقت عليه، فإن أصرّت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر، فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم(1).

وهنا بهذا الترتيب قد أخرجت عليّاً من الخلافة وضمنتها لعثمان دون أن أذكره بالاسم!

لأن طلحة من بني تيم وبني تيم صار بينها وبين بني هاشم ضغن من عدم مبايعة علي لأبي بكر وطعنه فيه، وسعد بن أبي وقاص ابن عم عثمان وسوف يقف معه.

____________

1- شرح النهج: 1 / 185 ـ الإمامة والسياسة.


الصفحة 247
وعبدالرحمن بن عوف صهر عثمان أيضاً. ولم يبقى مع علي إلاّ الزبير! وحتى لو كان طلحة مع علي فلن يغني عنه شيئاً لأن الغلبة تكون للجهة التي يكون فيها عبدالرحمن بن عوف.

وإن اختلفوا جميعاً ولم يتفقوا قتلوا جميعاً وقتل علي ولم تصل له الخلافة وبذلك تكون الخلافة قد خرجت من بني هاشم أيضاً(1).

ـ وهكذا تم الأمر ووصلت الخلافة إلى عثمان (وبني أمية)، لذلك نكتفي بالأسئلة الموجّهة لعمر بن الخطاب الخليفة الثاني، ونأتي الآن إلى الخليفة الثالث الذي وصل إلى الخلافة بنص من عمر ولكن بعد أمر دبر بليل كما يقول المثل.

أبو عمرو الاموي:

يعرف الكاتب بشخصية عثمان وما جرى في ايامه من معارضة الصحابة له لاستئثاره بالأموال وتسليطه بني أمية على الناس مما أدّى في النهاية إلى قتله، وقد اخترنا هذه المقتطفات:

س ـ عرّف نفسك؟

ج ـ اسمي عثمان بن عفان، بن أبي العاص، بن أمية، بن عبد شمس بن عبدمناف، وكنيتي (أبو عمرو) وأمي أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس(2).

أسلمت بعد ستة أو سبعة نفر من الصحابة لأن أبا بكر بعد أن اسلم صحبني إلى الرسول وأسلمت على يديه...

خرجت مع رسول الله في معظم غزواته ولم أثبت في معركة!

ولكن لم اكن بالقوي الذي يذكر في ميدان القتال!

____________

1- شرح النهج: 1 / 187 ـ اليعقوبي في تاريخه، والبلاذري في أنساب الأشراف.

2- شرح النهج: 1 / 198.


الصفحة 248
فقد هربت يوم أحد!

ويوم حنين، وقد عاتبني رسول الله لأني لم اعد إلاّ بعد ثلاثة أيام من انتهاء معركة أحد قائلا: لقد ذهبت بها عريضاً يا عثمان(1)..

س ـ كيف وصلت إلى الخلافة؟

ج ـ لقد وصلت إلى الخلافة بتدبير من عمر أو قل بوصية منه ولكن مموّهة، وكنت لا أشك بأني الخليفة الثالث منذ مات أبو عبيدة بن الجراح، لأن المتتبّع لأمر السقيفة يعلم أن الخطة كانت أن يتولوا الخلافة بالتتالي وأنا أول من بايع من المهاجرين عندما دخل أبو بكر وعمر إلى المسجد فبايع بنو أمية ثم تتابع الناس ولم أعارض أي عمل فعله صاحباي..(2)

وقد كنت موضع سر أبي بكر، فأنا كاتب وصيته، وقد قال لي أبو بكر عندما كتبت أسم عمر:

(والله لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها)(3).

وكنت موضع سر عمر أيضاً فكان الناس إذا أرادوا أن يسألوا عمر شيئاً رموه بي كنت ادعى في إمارة عمر بالرديف، والرديف بلسان العرب الرجل الذي بعد الرجل والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم.

معارضة الصحابة:

عند وصولي إلى الخلافة وتوزيعي الأعطيات سُرّ الناس لأنهم كانوا يعيشون شظف العيش على عهد أبي بكر وعمر ودخل السرور إلى قلوب قريش وبخاصة بني أمية.

____________

1- شرح النهج: 1 / 196.

2- تاريخ الطبري: 2 / 235، شرح النهج: 1 / 178، 2 / 43، الإمامة والسياسة.

3- تاريخ الطبري: 2 / 235، شرح النهج: 1 / 178، 2 / 43، الإمامة والسياسة.


الصفحة 249
لأنها وصلت أخيراً إلى ما كانت تطمح له من قبل الرسالة، وهو شرف قيادة العرب وإقصاء بني هاشم عن هذا الشرف، ومما يؤكد ذلك أن أبا سفيان دخل عليّ مرة وكانت قد كفّ بصره.

فقال: هل هنا أحد.

فقالوا له: لا.

فقال: صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة فإنما هو الملك ولا ادري ما جنه ولا نار!!

وبعبارة اخرى:

(تلقفوها تلقف الكرة فما هناك جنة ولا نار)(1).

(يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة)...(2)

وبعبارة أخرى: (اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية، الملك ملك غاصبيه، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية)(3).

وهذه كانت البداية، وقد كان أبو سفيان مستشاري، وقد استمعت لنصيحته فوليت بني أمية الولايات فأعطيتهم الأعطيات فمثلا:

ـ وهبت خمس أفريقيا لمروان بن الحكم.

ـ وأدخلت الوليد بن عقبة الفاسق بنص الآية (إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإ)(4)ووليته على الكوفة.

ـ وقربت بني عمومتي، أنشأت لهم العمل والولايات وهم أحداث غلمة لا

____________

1- تاريخ الطبري: 11 / 357.

2- مروج الذهب: 1 / 440.

3- تاريخ ابن عساكر: 6 / 407.

4- الحجرات: 6.


الصفحة 250
صحبة لهم مع رسول الله.

ـ وتركي المهاجرين والأنصار لا أستعملهم على شيء ولا أستشيرهم واستغني برأي عن رأيهم..

وما كان من الحمى حول المدينة، من إدارة القطائع والأرزاق الأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي ولا يغزون ولا يذبون..(1)

وقد كان هذا لصلة رحمي، وأني كنت كبير السن وقد قربتهم مني لمشاورتي، وليكن الأمر لهم من يحركون الأمور دون الرجوع إلي، وهذا لم يرق لكثير من الصحابة الذن هضم حقهم، ورأوا أنني قد بدلت ما كان من سيرة أبي بكر وعمر وبدؤوا بالطعن علي.

ابن السوداء (عبدالله بن سبأ):

س ـ من هو ابن السوداء والذي يقولون أنه كان من المؤلبين عليك؟

ج ـ أطلق اسم العبد الأسود أو ابن السوداء على عمار بن ياسر، وأول من أطلقه هو مروان بن الحكم، وذلك عندما اجتمع الناس من أصحاب الرسول وكتبوا كتاباً ذكروا فيه ما أنكر الناس علي من الأمور التالية:

1 ـ هبتي خمس إفريقية لمروان بن الحكم وفيه حق الله والرسول وفيهم ذوو القربى واليتامى والمساكين.

2 ـ التطاول في البنيان حتى عدوا سبع دور بنيتها في المدينة، داراً لنائلة، وداراً لعائشة وغيرهم من أهلي وبناتي.

3 ـ بنيان مروان القصور بذي الخشب (موضع بالمدينة).

4 ـ عمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ورسوله.

5 ـ وما كان من إفشاء العمل والولاية في أهلي وبني عمومتي من بني أمية

____________

1- الإمامة والسياسة: 50 ـ 51.


الصفحة 251
وهم غلمة لا صحبة لهم مع الرسول.

6 ـ وما كان من الوليد بن عقبة إذ صلى بهم الصبح وهو سكران أربع ركعات ثم قال لهم: (إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم، وإني لم أقم عليه الحد).

7 ـ تركي المهاجرين والأنصار لا أستعملهم على شيء ولا أستشيرهم.

8 ـ وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة..

9 ـ إدرار القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة مع رسول الله ثم لا يغزون ولا يذبون.

10 ـ مجاوزتي الخيزران إلى السوط وإني أول من ضرب بالسياط ظهور الناس.

ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يدي وكان ممن حضر عمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وكانوا عشرة فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه لي والكتاب بيد عمار، جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده..

فمضى حتى جاء إلى دار فأستأذن علي فأذنت له في يوم شات، فدخل علي وعندي مروان بن الحكم وأهلي من بني أمية فدفع الكتاب فقرأته.

فقلت له: أنت كتبت هذا.

قال: نعم.

قلت: ومن كان معك؟

قال: كان معي نفر تفرقوا فرقاً منك.

قلت: من هم؟

قال: لا أخبرك بهم.

قلت: فلم اجترأت علي من بينهم؟

فقال مروان: يا أمير إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك وإنك إن قتلته نكلت

الصفحة 252
به من ورائه.

فقلت: اضربوه فضربوه وضربته معهم حتى فتق بطنه فغشي عليه. فجروه حتى طرحوه على باب الدار..(1)

وهكذا فإن مروان بن الحكم هو أول من أطلق هذا الاسم على عمار بن ياسر..

س ـ لكن يقولون أن ابن السوداء هذا يهودي ويدعى عبدالله ابن سبأ وقد كان يفتن الناس عنك في مصر والشام، وأجج الناس ثم أتى إلى المدينة فما تقول؟

ج ـ أنا لم أسمع بوجود شخص يحمل هذا الاسم في أيامي، ولو كان موجوداً لأحضره لي معاوية كما أحضر أبا ذر ونبذته إلى الربذة.

فلن يكون هذا المزعوم أعظم عندي من صاحب رسول الله أو من عمار بن ياسر الذي ضربته مع القوم حتى فتق بطنه أو من عبدالله ابن مسعود، وقد كان قتله عبدالله بن أبي سرح في مصر، فلن يكون هذا اليهودي الذي يزعم به أعز عليّ من محمد بن أبي بكر أو محمد بن أبي حذيفة الذي كان يريد أن يفتك بهما لولا منعي له.

نهاية أمر عثمان:

س ـ كيف كانت نهاية هذا الأمر؟

ج ـ اشتد الطعن علي وذلك بسبب عبدالله بن أبي سرح فقد طلب أهل مصر تغييره، فقلت اختاروا رجلا نوليه على مصر، فاختاروا محمد بن أبي بكر، ورضي الناس وعندما أرسلت محمد بن بأي بكر برسالة إلى عبدالله بن أبي سرح بطلب منه أن يقتل محمد بن أبي بكر ومن معه ويقرّه على عمله، وألقي القبض على

____________

1- الإمامة والسياسة: 53.


الصفحة 253
حامل الرسالة وكان الكتاب خاتمي وطالبت الجماهير الثائرة بمروان، فأبيت أن أسلمه وتجمعوا حول الدار ومنعوا عني الماء وبعث لي علي بالحسنين ليوصلا الماء لي وليحمياني لكن الثائرين تسوروا الدار ودخلوا علي وقتلوني(1).

أبو تراب علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام):

يعرّف الكاتب بشخصيته ويوضّح أنه وصي رسول الله ويستدل على ذلك بالكثير من الأدلة القرآنية والحديثية ويوضّح عداء عائشة زوجة النبي(صلى الله عليه وآله) له واستسلامها لعواطفها، ثم يوضّح دوره يوم الشورى وعداء القوم له وصبر الإمام علي(عليه السلام) مقابل ذلك، وللاختصار لم نورد مقتطفات منه لاتفاق الأمة على عظمة الإمام علي(عليه السلام) إلاّ بعض النواصب، ويكفينا اننا أوردنا بعض مطاعن الثلاثة.

الدعوة إلى الوحدة:

يقول الكاتب في هذا المجال:

ـ قد يقول قائل ما فائدة مثل هذا الكلام الآن، ولماذا النبش والبحث في أمور تاريخية قد عفا الزمان عنها؟ وهؤلاء الذين تتكلمون عنهم قد ماتوا وذهبوا إلى ربهم وقد قال تعالى:

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَ لاَ تُسْـَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(2).

دعونا من الخلاف وتعالوا نتوحد فإن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وهذا صحيح لو أنهم يَصدقون به، ولكن لماذا لا يقبل عامة المسلمين إخوانهم الشيعة على أنهم مذهب خامس إضافة إلى مذاهبهم الأربعة وينتهي هذا

____________

1- تاريخ الطبري ج3 / مقتل عثمان، الإمامة والسياسة: 62.

2- البقرة: 134.


الصفحة 254
الخلاف، قال تعالى:

(لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ )(1).

وإننا نجد أن شيعة آل محمد منذ حوالي 1400 سنة وهم ملاحقون ومهددون ودائماً متهمون ويقفون موقف المدافع عن دينه وعقائده.

ولا ترى الشيعة يقفون لإخوانهم من عامة المسلمين ليقولوا لهم لماذا تتكتفون بالصلاة مع أن رسول الله لم يضع اليمين على اليسرى؟ ولماذا تصلون على السجاد ورسول الله لم يصلّ إلاّ على التراب أو الحصى أو الحصير؟ وكثيراً من المخالفات التي يفعلها عامة المسلمين، ولكن حرصاً على الأخوة وعدم إثارة النعرات لا يتكلم الشيعة بهذه الأمور إلاّ إذا استفزهم إخوانهم من أهل الخلاف ودائماً ما يفعلون ذلك.

وعندما يكون من واجب هذا الشيعي أن يعلن لإخوانه، لماذا يصلي هكذا؟ ولماذا يفعل هذا؟ وعندما يتفاجىء أهل الخلاف بحجة أخيهم الشيعي تراهم يبدؤون بأسئلة الغاية منها التجريح والتشهير ليس التعلم والمعرفة!!!...

والعتب ليس على عوام المسلمين من أهل الخلاف، بل على علمائهم الذين يعلمون الحق ويرونه وإن كان البعض منهم لا يعلمون فإن مثل هذه الكتب تميط اللثام عن ما جرى على مسار التاريخ الإسلامي ونشوء المذاهب.

والواجب عليهم إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يوجهوا العوام، ويقولوا إن المذاهب الإسلامية ليست فقط هذه المذاهب الأربعة، وأنه يوجد مذهب آخر هو مذهب أهل البيت يمكنكم أن تقلدوه، وبذلك يتوحد المسلمون مثل ما فعل الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر.

____________

1- غافر: 35.


الصفحة 255

(12) محمد عبد الحفيظ
(مالكي / مصر)




ولد عام 1960م في قرية "بنبان" في جمهورية مصر العربية، ونشأ في أوساط عائلة جعفرية النسب ومالكية المذهب.

اجتاز المراحل الدراسية الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في مسقط رأسه ثم أكمل ما بقي منها في معهد أسوان الثانوي ـ القسم العلمي ـ ثم ذهب إلى القاهرة عام 1980م لمواصلة دراسته الجامعية، فالتحق بادىء الأمر بكلية طبّ الأسنان ثم انتقل منها إلى كلية الشريعة ثم انتقل منها إلى كلية الشريعة والقانون حتى تخرّج منها عام 1986م.

له رسالة بحث عن الأجرام السماوية في المناطق النائية باشراف الدكتور شاكر بدوي قدّمها لجامعة الأزهر عام 1987م.

بحثه عن الحقيقة:

توجه السيد محمد من منطلق ارواء تعطّشه الفكري للحقيقة إلى البحث عن الانتماء الذي يمنحه الطمأنينة والاستقرار، واندفع بشوق إلى البحث عن العقيدة التي تفرض نفسها على العقل بالأدلة والحجج والبراهين.

فيقول السيد محمد في هذا المجال: "كنت في ريب مما كنت أتعبّد به،

الصفحة 256
وكنت أطلب الحقيقة، وفي إحدى المرات كنت في زيارة عمل إلى الإمارات العربية وذهبت إلى أحد مساجدها، وذلك لكي أرى الحقيقة، وعند ذهابي إلى هناك وجدت الناس في شك وريب مني ولم أجد أحداً أتكلم معه فيما يجول بخاطري من شكوك".

ولكن السيد محمد لم يفتر في بحثه عن الحق، بل بقي منتهزاً لكل فرصة مناسبة توفّر له أجواء التعرّف على الحقيقة، ثم عاد من الامارات إلى السودان ومنها إلى مصر، ثم سافر بعد ذلك إلى أوربا، ومنها إلى أمريكا عام 1990م، وشاءت الأقدار الإلهية في أمريكا أن تهيأ له الفرصة المناسبة للبحث عن الحقيقة.

فيقول السيد محمد عبد الحفيظ:

"وفي إحدى المرات... كنت في "سيائل" بولاية واشنطن على المحيط الهادي، وذهبت إلى المدرسة الإسلامية بهذه البلدة بقصد صلاة المغرب، والتقيت بأحد الإخوان وكان يسمى أبو طالب، والحقيقة لقد شدّني هذا الإسم بماله في قبيلتنا من إكرام وإعزاز، وعرفني به مدير المدرسة، فقال له: هذا محمد الجعفري من أولاد الإمام جعفر الصادق من جنوب مصر، ورحبتُ به، ورحَب بي، وذكرت له فضل هذا الإسم عندنا".

العثور على مصدر تلقي العلم:

التقى السيد محمد عبدالحفيظ بأبي طالب مرة أخرى، وتوفّرت الفرصة المناسبة للتكلّم معه، فيقول السيد محمد: "قلت له: يا أخي إنني تائه في نفق مظلم وأبحث عن الحقيقة" فارشده أبو طالب للذهاب إلى رجل من أهل العلم يدعى السيد محمد حسين الجلالي، فخابره السيد محمد بالهاتف واتفق معه على موعد لكي يتحدّث معه حول بعض المسائل العقائدية.

وجاء الموعد والتقى السيد محمد بالسيد الجلالي، فسأله السيد

الصفحة 257
الجلالي بعدما تعرّف عليه وعرف بأنّه يدعى بالجعفري: ما هو السبب في تلقيبك بالجعفري، هل أنت جعفري النسب أم أنت جعفري العقيدة والمذهب؟ فقال له السيد محمد: "انني جعفري النسب وأبحث عن العقيدة والمذهب".

ومن هذا المنطلق شرع السيد الجلالي يعرّف له المذهب الجعفري، فكانت تلك الجلسة للسيد محمد بداية انطلاق للبحث عن العقيدة الجعفرية ومبانيها في التوحيد والنبوة والبعث والمعاد والعدل والإمامة.

بداية رحلة بحثه عن التشيع:

من هنا بدأت رحلة السيد محمد في البحث عن المذهب الجعفري، فشرع بدراسة موضوعية وبناءة من أجل التعرّف على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وكان هدفه اختبار مدى قوة مباني هذا المذهب ومدى صلاحيته لاخراجه من دائرة الشك والارتياب وإدخاله في عالم النور واليقين.

ووفّر السيد الجلالي للسيد محمد المصادر المهمة التي تتعلّق ببحثه، وأذن له بالاستفادة من مكتبته التي كانت غنية بكتب تراث أهل البيت(عليهم السلام)، لا سيما الكتب الفقهية والعقائدية.

فأخذ السيد محمد بقراءة الكتب الشيعية بدقّة وإمعان نظر، ومن هنا أخذت معارف أهل البيت بيده وانتشلته مما كان فيه من حيرة واضطراب، فاستضاءت بصيرة السيد محمد بنور أحاديث العترة، ولم تمض فترة إلاّ ووجد نفسه في دائرة التشيع.

أهم دوافع انتمائه إلى التشيّع:

كان إعجاب السيد محمد بشخصية الإمام الصادق(عليه السلام) من أهم دوافع استبصاره واعتناقه لمذهب التشيع، فهو بالرغم من نشوئه في احضان الفقه

الصفحة 258
المالكي، فقد تتبع المنبع الذي أخذ منه الإمام مالك، فوجد أنّ الإمام مالك كان من الذين استفادوا من علوم الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، فلهذا رأى أن الأصل هو أولى بالاتباع.

يقول السيد محمد في هذا الصدد: "فتشت عن آراء ومذهب الاستاذ الذي هو الأصل وليس الفرع، ووجدت من الأفضل اتباع من يتلقّى عن أبيه عن جده رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو الإمام جعفر الصادق".

كما أنّه قارن بين منهج الإمام الصادق(عليه السلام) ومنهج غيره، فوجد الإمام الصادق(عليه السلام)كما ورد عن مالك بن أنس: "... ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً"(1).

وناهيك عن قول مالك، وجد السيد محمد نتيجة مطالعته لأحاديث الإمام الصادق أنه من عظماء أهل البيت(عليهم السلام)، وأن له منزلة رفيعة في العلم وأنّه يتمتّع بشخصية فذة يعجز عن وصفها اللسان البشري، فلهذا رأى من الواجب عليه اتباع هذا الإمام والأخذ بسيرته والاعتماد عليه في تلقي الشريعة التي جاء بها الرسول(صلى الله عليه وآله).

اعلانه للاستبصار ونشره للتشيع:

أعلن السيد محمد استبصاره بعد ذلك، ثم بادر إلى تأليف كتاب يحكي فيه عن كيفية تعرّفه وانتمائه إلى العقيدة الجعفرية، وسمّى كتابه: "لماذا أنا جعفري"، ولا يزال السيد سائر في درب العمل التوجيهي من أجل نشر مذهب أهل البيت(عليهم السلام)وتوعية الذين وقعوا فريسة الإعلام المضاد الذي سنّه بنو أمية وبنو العباس ضد أهل البيت(عليهم السلام).

____________

1- تهذيب التهذيب: 2 / 104.


الصفحة 259

مؤلفاته:

(1) "لماذا أنا جعفري؟":

صدر سنة 1413هـ ـ 1993م عن مؤسسة الأعلمي، بيروت.

يتألف الكتاب من مقدّمة وثلاثة فصول، جاء في المقدمة: تعريف الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) وتلميذه مالك بن أنس إمام المذهب المالكي.

ثم أشار المؤلف إلى وصية الإمام الصادق إلى علي بن جندب، كذلك أشار إلى كيفية بيعة الإمام علي(عليه السلام) للخليفة الأوّل.

أما الفصل الأول ففيه تبيين للعقيدة الجعفرية وهي عقيدة الشيعة من توحيد ونبوّة وإمامة وعدل ومعاد.

والفصل الثاني يتطرّق فيه إلى الفقه الجعفري، ويتعرّض فيه لعلوم ومسائل فقهية كثيرة.

والفصل الثالث يستعرض فيه المؤلف نسبه إلى الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)ويذكر بعض كتب الأنساب والمشجرات.


الصفحة 260

وقفة مع كتابه: "لماذا أنا جعفري"

البحث عن الأصل: جعفر الصادق أم مالك:

يقول الكاتب: "بما إني قد تربيتُ على الفقه المالكي ووجدت إن مالك أخذ وتتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق كما يقول الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه الإمام مالك ما لفظه:

ومن الشيوخ الذين أخذ عنهم مالك وتأثر بهم في سلوكه الإمام جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين، وهو المعروف بجعفر الصادق. وكان رأس آل البيت في المدينة وتوفي سنة 148هـ.

وربما أحسّ الدارس هذه الأيام بشيء من الغرابة في أن يأخذ أحد أئمة أهل السنّة عن أحد أئمة الشيعة. والحقيقة أن واقع حياة المسلمين على عهد مالك وجعفر لم تكن كواقعها في هذا العصر الذي توجد فيه فجوة واسعة بين الفريقين.

هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى كانت شخصية الإمام جعفر من ناحية العلم والفضل والتقوى والتسامح لما يدعو كل مسلم مهما كان مذهبه إلى احترامه وإجلاله، وهل من مسلم إلاّ ويحب أبناء آل البيت، فما بالنا إذا كان هذا الابن غزير العلم، وافر الحكمة، كامل الأدب، زاهداً ورعاً، بعيداً عن الغلو، بريئاً من التطرّف، لا يحب الاعتزال. هكذا كان الإمام جعفر(1).

لذلك فتّشت عن آراء ومذهب الأستاذ الذي هو الأصل وليس الفرع،

____________

1- الموطأ: 198، جدة 1405هـ ـ 1985م.


الصفحة 261
ووجدتُ من الأفضل اتباع من يتلقّى عن أبيه عن جده رسول الله وهو الإمام جعفر الصادق الذي قد اعترف بفضل الإمام العدو قبل الصديق جاء في كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر المتوفى عام 974هـ والمولود 899هـ، في ص201 عن الإمام الصادق ما لفظه: (ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد، وابن جريح، ومالك، والسفياني، وأبو حنيفة، وشعبة، وأيوب السجستاني) انتهى.

تعجبت من الإمام مالك كيف ينقل عن الإمام جعفر الصادق خمسة أحاديث فقط في الذي يشهد فيه الداني والقاصي على أن علوم وفقه الإمام جعفر الصادق ملأ جميع أرجاء المعمورة، وكيف مالك يتعلّم الفقه والعلوم الدينية على يد الإمام جعفر الصادق، ولم ينقل عنه في كتابه الموطأ إلاّ خمسة أحاديث فقط.

والسبب في ذلك قد يتّضح من أن الإمام مالك كتب كتابه بطلب من الخليفة العباسي، والكل يعلم بغض العباسيين لآل البيت وأمر الخليفة العباسي مالك بتأليف كتابه الموطأ نكاية بالإمام جعفر.

يقول الدكتور مصطفى الشكعة ما لفظه:

"وأما مناسبة تأليف الكتاب، فقد كانت نتيجة غير مباشرة للمحنة التي تعرض لها الإمام مالك حين ضربه والي المدينة العباسي بالسياط، على ما مر بنا قبل قليل، ثم رأى الملك العباسي المنصور أن يسترضيه، وتم التراضي على أن يلتقي الإمام والمنصور في منى في موسم الحج، وتم اللقاء بينهما وكرم المنصور مالكاً وجرى بينهما حديث طويل في شؤون شتى اتسم بالمجاملة ولم يخلُ من حوار في الفقه أو الحديث أو العلم، ولم يلبث الملك العباسي أن قال لمالك: يا أبا عبدالله، ضع هذا العلم ودوّنه، ودوّن منه كتباً، وتجنب فيه شدائد عبدالله بن مسعود، واقصد إلى أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة... لنحمل