الصفحة 343

وقفة مع كتابه: "واستقر بي النوى"

يقارن الكاتب في كتابه هذا بين نظرية الإمامة عند الإمامية الاثنا عشرية ونظرية الإمامة عند الزيدية، ويرى تكامل هذه النظرية عند الإمامية ويشخص نقاط الضعف في نظرية الإمامة عند الزيدية مما حدا بها إلى الاستعانة بنظريات أهل السنة. كالمعتزلة وبعض الاشاعرة.

وجوب الامامة باللطف العقلي أم السمعي:

تُعَرَّف الإمامة عند الزيدية بأنّها "تابعة للنبوّة في الوجه الذي وجبت له، لأنّ الأئمّة(عليهم السلام) يقومون مقام الأنبياء(عليهم السلام) في تبليغ الشريعة وإحياء ما اندرس منها ومقاتلة من عَنَدَ عنها، ولهذا لم تكن إلاّ بإذن من الشارع واختيار منه كالنبوّة.

ومسألة الإمامة من أكبر مسائل أُصول الدين وأعظمها، لأنّه يترتبُ عليها طاعة الله وطاعة الرسول والقيام بالشرائع والجهاد والموالاة والمعاداة والحدود وغير ذلك...

وشرعاً ـ أي في عرف الشرع ـ رئاسة عامة ـ أي على جميع الناس ـ تثبت باستحقاق شرعي أي بدليل من الشرع; أي باختيار من الشرع لصاحبها لأنّها، تالية للنبوّة....

وهي واجبةٌ عقلاً وسمعاً.

وقال بعض أئمتنا وهم بعض المتأخرين منهم والجمهور من غيرهم: بل وجبت سمعاً فقط!!

قالوا: ولا إشكال أن الإمام لطف ومصلحة للخلق، لكن العلم بكونه لطفاً

الصفحة 344
ومصلحةً إنّما طريقه الشرع كالنبوّة عندهم"(1)....والمختار عندنا من هذه المذاهب ما عليه أئمة الزيدية وشيوخ المعتزلة ومحققو الأشعرية هو: أن الطريق إلى وجوب الإمامة هو الشرع"(2).

والزيدية رغم إجلالها لعقيدة الإمامة لم تستطع أن تقول باللطف!! وذلك لأسباب كثيرة، لا تستطيع أن تكون مقنعةً للباحث المدقق والمتعامل مع الأقوال بروح موضوعيّة منطقية; جوُّها الدائمُ تحكيم العقل والمنطق في الآراء الكلامية والعقائدية والفسلفية، ولعلّ أهمَّ تلك الأسباب هي التخلّص من تبعات القول بـ "اللطف" الضرورية والتي على رأسها ـ كما أسلفنا ـ القول بالحاجة إلى "إمام معصوم" وبالتالي القول: بالحاجة إلى "النصّ" الطريق الوحيد لمعرفة "المعصوم" وهو الشيء الذي لا تملكه الزيدية على آحاد أئمتها; وإن كانت قد افتعلت نصوصاً ما في حق بعض ائمتها(3) إن سُلّم بها: وهو بعيدٌ جدّاً!! ـ فلا تعدو أن تكون فضائل ومناقب ليس فيها أدنى رائحة من نصٍّ على أمر خطير كالإمامة.

وبمجرّد نظرة موضوعية إلى استدلالات الاثني عشرية على القول باللطف، سنجد اللطف الطريق الوحيد والمتكامل لإيجاب الإمامة، إذ لا معنى للقول بإيجابها "شرعاً" مع ذلك الاستدلال "العقلي" الفريد ـ عند الزيدية ـ مع عدم القول بإيجابها عقلاً!!

____________

1- عدة الأكياس: 2 / 109 ـ 115.

2- الإمام المجتهد يحيى بن حمزة وآراؤه الكلامية، صبحي: 144، 145، وأهم مرجع لصبحي في نقل آراء يحيى بن حمزة هو كتابه "الشامل" كما يذكر هو نفسه ذلك في كتابه "الإمام المجتهد يحيى بن حمزة...": 11.

3- انظر: التحف شرح الزلف: 52، 79، 100، 102، 114، وغير "التحف" من الكتب التي تعرضت لسير أئمة الزيدية، وهذا يجعلنا في ريب من موقف الزيدية من النصِّ; فهذه المرويات في "الناصر الاطروش والمنصور ابن حمزة ويحيى بن الحسين الرسي وغيرهم" تكشف لنا عن توق شديد عند الزيدية ـ كان ولا يزال ـ للنص في الإمامة!


الصفحة 345
وكإطلالة بسيطة على دفاع الاثني عشرية عن عقيدة "اللطف" والقول بها ومنافحتهم عنها نستعرض هذا النصّ للسيّوري(1):

"قال(2): لا يقال: اللطف إنّما يجب إذا لم يقم غيره مقامه، أمّا مع قيام غيره مقامه فلا يجب، فَلِمَ أنّ الإمامة من قبيل القسم الأول(3).

أو نقول: إنّما يجب اللطف إذا لم يشتمل على وجه قبح، فلم لا يجوز استعمال الإمامة على وجه قبح لا يعلمونه؟ ولأنّ الإمامة إنّما تكون لطفاً إذا كان الإمام ظاهراً مبسوط اليد ليحصل منه منفعة الإمامة، وهو انزجار العاصي، أمّا مع غيبة الإمام وكفِّ يده فلا يجب، لانتفاء الفائدة.

لأّنا نقول(4): التجاء العقلاء في جميع الأصقاع والأزمنة إلى نصب الرؤساء

____________

1- أبو عبد الله المقداد بن عبد الله بن محمّد السيّوري الأسدي الحلّي "ت / 826) الشيخ الفاضل الفقيه المتكلم، كان من أعيان العلماء، قال عن تصانيفه العلامة المجلسي صاحب البحار: تصانيفه في نهاية الاعتبار والاشتهار.

انظر: معجم رجال الحديث: 19 / 348، أعيان الشيعة: 10 / 134، الأعلام: 7 / 282، وانظر مقدمة تحقيق "إرشاد الطالبين".

2- القائل هو العلامة الحلّي، لأن كتابَ "إرشاد الطالبين" للسيوري شرحٌ لمتن "نهج المسترشدين" للحلّي.

والعلامة الحلّي هو: الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (647 ـ 726) هو الوحيد الذي أطلق عليه في التاريخ العلمي الشيعي الطويل لقب: "العلامة" من مصنفاته: المختلف، التذكرة، القواعد، التبصرة، وغيرها، لم تزل كتبه محطّ أنظار العلماء من عصره إلى اليوم تدريساً وشرحاً وتعليقاً قال عنه الشيخ الحرّ: الشيخ العلاّمة، جمال الدين أبو منصور، الحسن بن يوسف...، فاضل، عالم، علاّمة العلماء، محقق مدقق، ثقة ثقة، فقيه محدّث متكلّم، ماهر، جليل القدر...، لا نظير له في الفنون والعلوم والعقليات والنقليات" انظر مقدّمة "كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد". أعيان الشيعة: 5 / 396، الأعلام: 2 / 227، معجم رجال الحديث: 6 / 171.

3- وهو الذي يجب إذا لم يقم غيره مقامه.

4- هذا ردٌ على من قال: إنّه مع غيبة الإمام وكفِّ يده لا يجب اللطف في الإمامة حينها.


الصفحة 346
في حفظ نظامهم، يدلُّ على إنتفاء طريق آخر سوى الإمامة، وجهة القبح معلومة محصورة، لأنّا مكلّفون باجتنابها، فلابدّ وأن تكون معلومة، وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق، ولا شيء من تلك الوجوه بمتحقق في الإمامة، والفائدة موجودة وإن كان الإمام غائباً، لأنّ تجويز ظهوره في كلِّ وقت لطفٌ في حقِّ المكلّف.

أقول(1): لما قرّر الدليل على مطلوبه، شرع في الاعتراض عليه والجواب عنه، وأورد منع الكبرى(2) أولاً ثمّ منع الصغرى(3)، والمناسب للترتيب البحثي هو العكس، وتوجيه الاعتراض(4): هو أنّ دليلكم ممنوع بكلتا مقدّمتيه(5)، فلا تصدق نتيجته التي هي عين مطلوبكم.

أمّا منع كُبراه فلوجهين:

الأوّل: أنّ لطفيّة الإمامة إنّما يتعيّن للوجوب إذا لم يَقُم غيرها مقامها، وهو ممنوعٌ، لجواز أن يقوم غيرُها مقامَها، كوعظ الواعظ فإنّه قد يقوم غيره مقامه مع كونه لُطفاً، فلا يكون متعيّنةً للوجوب، كالواحدة من خصال الكفّارة، وهو المطلوب.

الثاني: أنّ الواجب لا يكفي في وجوبه وجهُ وجوبه، بل لابدَّ مع ذلك من انتفاء سائر وجوه القبح والمفاسد عنه، لاستحالة وجوب ما يشتمل على مفسدة وإن اشتمل على مصلحة، وإلاّ لكان الله تعالى فاعلاً للمفسدة، وهو قبيحٌ.

وحينئذ نقول: الإمامة على تقدير تسليم لطفيّتها لا يكفي ذلك في وجوبها،

____________

1- القائل هو الشيخ جمال الدين مقداد بن عبد الله السيّوري الحلّي.

2- الكبرى في القضيتين هنا هى: القول بتعيّن وجوب لطفّيّة الإمام.

3- والصغرى هي: أن الإمامة إنّما تكون لطفاً إذا كان الإمام ظاهراً مبسوط اليد.

4- يصوغ "السيوري" إشكال المخالفين لمسألة اللطف ـ والذى ذكره العلاّمة الحلّي ـ صياغة جديدةً تتناسب وما أسماهُ بالترتيب البحثي.

5- المقدّمتين الصغرى والكبرى.


الصفحة 347
بل لابدّ مع ذلك من انتفاء وجوه المفاسد منها، فَلِمَ قلتم بانتفائها؟ ولِمَ لا يجوز اشتمالها على نوع مفسدة لا نعلمها؟(1)

وحينئذ لا يمكن الجزم بوجوبها عليه تعالى.

وأمّا صغراه: فلأنّا نمنع كون الإمامة لطفاً مطلقاً، بل إذا كان ظاهراً مبسوط اليد جاز الانزجار عن المعاصي، والانبعاث على الطاعات إنّما يحصل بظهوره وانبساط يده وانتشار أوامره، لا مع كونه خائفاً مستوراً.

والجواب عن الأوّل(2): أنَّا نختار أن الإمام لطف لا يقوم غيره مقامه، كالمعرفة بالله تعالى: فإنّها لا يقوم غيرها مقامها، والدليل على ما قلناه أنّ العقلاء في سائر البلدان والأزمان يلتجئون في دفع المفاسد إلى نصب الرؤساء دون غيره، ولو كان له بدلٌ لالتجؤوا إليه في وقت من الأوقات أو بلد من البلدان.

وعن الثاني(3): أنّ وجوه القبح والمفاسد معلومةٌ محصورةٌ لنا، وذلك لأنّا مكلّفون باجتنابها، والتكليف بالشيء من دون العلم به محال، وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق، ولا شيءَ من تلك المفاسد موجودةٌ في الإمامة.

وفي هذا الجواب نظرٌ(4): فإنّه إنما يصلح جواباً لمن قال بوجوبها على الخلق "كأبي الحسين"(5)، لا لمن قال بوجوبها على الله تعالى كأصحابنا، فإنّه إنّما

____________

1- ورد التلميح بكون الإمامة مشتملةً على مفسدة ـ بناءاً على أنّ العقل يقضي بقبحها ـ في بعض كتب الزيدية كمقدِّمة لوجوبها الشرعي، الذي يحفظها من المفسدة. راجع: ينابيع النصيحة: 250.

2- وهو الإشكال على "لطفيّة الإمامة" بأنّها لا تجب إذ أن غيرها يمكن أن يقوم مقامها.

3- وهو الإشكال بـ "لم لا يجوز استعمال الإمامة على وجه قبح لا يعلمونه".

4- هذا النظر للسيّوري شارح متن "نهج المسترشدين".

5- أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخيّاط (م ـ 311) شيخ المعتزلة البغداديّين من نظراء الجُبّائي، كان من بحور العلم، ترجم له "القاضي عبد الجبّار" في "فضل الاعتزال" وقال: "كان عالماً فاضلاً من أصحاب جعفر (بن مبشر الثقفي المتكلم) وله كتب كثيرة في النقوض على ابن الراوندي وغيره، من أشهر كتبه "الانتصار" ردّ فيه على كتاب "فضيحة المعتزلة" لابن الراوندي، وله آراء شنيعة في حق الشيعة. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء: 14 / 220، الأعلام: 3 / 347، بحوث في الملل والنحل: 3 / 284.


الصفحة 348
يجب عليه تعالى أن يعرِّفنا المفاسد إذا كانت من أفعالنا أو من لوازم أفعالنا، لئلاّ يلزم ما لا يطاق كما ذكرتم، أمّا إذا لم تكن من أفعالنا بل من فعله فلا يجب أن يُعرِّفنا المفسدة اللازمة لو كانت ثابتةً، وحينئذ يجوز أن لا يكون نصب الإمام واجباً عليه تعالى، لاستلزامه مفسدةً لا نعلمها.

والأجود في الجواب أن نقول: لو كان هناك مفسدةٌ لكانت إمّا لازمةً للإمامة، وهو باطل وإلاّ لما فعلها الله تعالى، لكنّه فعلها بقوله تعالى (إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً...)(1)، ولاستحال تكليفنا باتّباعه، لكنّا مكلّفون باتّباعه أو (مفارقته) وحينئذ يجوز انفكاكها عنه، فيكون واجبةً على تقدير الانفكاك، وأيضاً هذا السؤال وارد على كلِّ ما يوجبه المعتزلة على الله تعالى، فكلّما أجابَ به فهو جوابنا.

وعن الثالث(2): أنّا نختار أن الإمام لطفٌ مطلقاً، أمّا مع ظهوره وانبساط يده فظاهرٌ، وأمّا مع غيبته فلأنَّ نفس وجوده لطفٌ، لأنّ اعتقاد المكلفّين لوجود الإمام وتجويز ظهوره وإنفاذ أحكامه في كلٍّ وقت سببٌ لردعهم عن المفاسد ولقربهم إلى الصلاح، وهو ظاهر.

وتحقيق هذا المقام: هو أنّ لُطفيّة الإمام تتمُّ بأُمور ثلاثة:

الأوّل: ما هو واجب عليه تعالى، وهو خلق الإمام وتمكينه بالقدرة والعلم، والنصِّ عليه باسمه، ونصبه، وهذا قد فعله الله تعالى.

الثاني: ما هو واجبٌ على الإمام، وهو تحمُّله الإمامةَ وقبولُها، وهذا قد فعله الإمام.

____________

1- البقرة: 124.

2- وهو الإشكال بـ "أن الإمامة إنما تكون لطفاً إذا كان الإمام ظاهراً مبسوط اليد".


الصفحة 349
الثالث: ما هو واجبٌ على الرعيّة، وهو أن ينصروه ويطيعوه، ويذبّوا عنه ويقبلوا أوامره، وهذا ما لم يفعله أكثر الرعيّة.

فمجموع هذه الأمور هو السبب التامُّ للطفيّة، وعدم السبب التامّ ليس من الله ولا من الإمام لما قلناه، فيكون من الرعيّة.

إن قلت: إنّ الله تعالى قادرٌ على أن يُكَثِّرَ أولياءَه ويحملهم على طاعته، ويقلّلَ أعداءه ويقهرهم على طاعته، فحيث لم يفعل كان مُخِلاًَّ بالواجب.

قلتُ: لمّا كان فعلُ ذلك مؤدّياً إلى الجبر المنافي للتكليف لم يفعله تعالى، فقد ظهر أنّ نفس وجود الإمام لطفٌ وتصرُّفه لطفٌ آخر، وعدم الثاني(1) لا يلزم منه عدم الأوّل(2). فتكون الإمامة لطفاً مطلقاً، وهو المطلوب"(3).

العصمة أم الشروط الأربعة عشر؟

ترى الإماميةُ الإثنا عشرية ـ بناءاً على قولها باللطف الإلهّي المطلق ـ أنَّ الإمامَ لابُدَّ أن يكون معصوماً، وأنّ منصب الإمامة منصبٌ لا يستحقه إلاّ المعصوم.

يقول الشيخ المفيد(4) في "أوائل المقالات"(5): "واتَّفَقَتْ الإماميّةُ على أنّ

____________

1- وهو تصرّف الإمام "انبساط يده وظهوره".

2- وهو أن وجوده ـ بحد ذاته ـ لطفٌ.

3- إرشاد الطالبين: 328 ـ 332.

4- محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي الكَرْخي (336 أو 338 ـ 413هـ) الشيخ المفيد، ابن المعلّم، عالم الشيعة، صاحب التصانيف الكثيرة، شيخ مشائخ الطائفة الإمامية الاثني عشرية، لسان الإمامية، رئيس الكلام والفقه، كان يناظر أهل كلّ عقيدة، كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس، له أكثر من مائتي مصنّف، كانت جنازته مشهودة، وشيّعه ثمانون ألفاً. انظر: حياة الشيخ المفيد ومصنّفاته، أعيان الشيعة: 9 / 420، سير أعلام النبلاء: 17 / 344، تاريخ الإسلام: (حوادث 411 ـ 420هـ: 332) الأعلام: 7 / 21، معجم رجال الحديث: 18 / 213.

5- "أوائل المقالات في المذاهب المختارات" للشيخ المفيد، كتاب يشتمل على "الفرق بين الشيعة والمعتزلة وفصل ما بين العدلية من الشيعة ومن ذهب إلى العدل من المعتزلة والفرق ما بينهم من بعد وبين الإمامية فيما اتفقوا عليه من خلافهم فيه من الأصول، وذكر ـ في أصل ذلك ـ ما اجتباه هو من المذاهب المتفرعة عن اصول التوحيد والعدل والقول في اللطيف من الكلام...".

وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، وهو من أجود الكتب في بابه.


الصفحة 350
إمام الدين لا يكون إلاّ معصوماً من الخلاف للهِ تعالى، عالماً بجميع علوم الدين، كاملاً في الفضل، بايناً من الكلِّ بالفضل عليهم في الأعمال التي يُسْتَحَقُّ بها النعيم المُقيم"(1).

ويُستدل على ذلك بالعقل قبل النقل، جاءَ في "الذخيرة"(2) للشريف المرتضى:

"فأمّا الذي يدلُّ على وجوب العصمة له من طريق العقل، فهو أنّا قد بيّنَا وجوب حاجة الأُمّة إلى الإمام، ووجدنا هذه الحاجة تثبت عند جواز الغلط عليهم(3)، وانتفاء العصمة عنهم، لما بيّنّاه من لزومها لكلِّ من كان بهذه الصفة، وينتفي بانتفاء جواز الغلط، بدلالة أنّهم لو كانوا بأجمعهم معصومين لا يجوز الخطأُ عليهم; لما احتاجوا إلى إمام يكون لطفاً لهم في ارتفاع الخطأ، وكذلك لمّا كان الأنبياء معصومين لم يحتاجوا إلى الرؤساء والأئمة، فثبت أن جهة الحاجة هي جواز الخطأ.

فإن كان الإمام مشاركاً لهم في جواز الخطأ عليه فيجب أن يكون مشاركاً

____________

1- أوائل المقالات: 4،5.

2- "الذخيرة في علم الكلام أو ذخيرة العالم وبصيرة المعلِّم وهو من تتمة كتاب الملخص في أصول الدين" هو أحد كتابين جليلين في علم الكلام حلاّ في الرعيل الأوّل من الكتب الكلامية التي تناولت بيان مذهب الشيعة الإمامية وتبنّت الذبَّ عن أصوله الاعتقادية وتركيز الأسس العلمية التي اعتمدتها في دعم عقيدتها، كما يصفه المحقق السيّد أحمد الحسيني.

3- أي على الأُمّة.


الصفحة 351
لهم في الحاجة إلى إمام يكون وراهُ، لأن الإشتراك في العلّة يقتضي الاشتراك في المعلول.

والقول في الإمام الثاني كالقول في الأوّل، وهذا يُؤدِّي إلى إثبات ما لا يتناهى من الأئمة أو الوقوف إلى إمام معصوم، وهو المطلوب"(1).

وترى الاثنا عشرية أنّ لقولها بالعصمة أدلةً من النقل أيضاً; فالآية الشريفة (وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَ هِيمَ رَبُّهُو بِكَلِمَـت فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّــلِمِينَ)(2)، دليلٌ كبيرٌ على العصمة من كتاب الله تعالى مع تفصيل وتفسير طويلان جدّاً، ليس هذا مجال بحثهما!

ولكن على سبيل الاختصار يمكن أن يقال: "إن الظلم بكلِّ ألوانه وصوره مانعٌ عن نيل هذا المنصب الإلهي(3)، فالاستغراق في جانب الأفراد يستلزم الاستغراق في جانب الظلم، وتكون النتيجة ممنوعيّة كلِّ فرد من أفراد الظَّلَمَة عن الارتقاء إلى منصب الإمامة، سواء أكان ظالماً في فترة من عمره ثم تاب وصار غير ظالم، أو بقي على ظلمه، فالظالم عندما يرتكب الظلم يشمله قوله سبحانه: (لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّــلِمِينَ)، فصلاحيته بعد ارتفاع الظلم يحتاج إلى دليل.

وعلى ذلك، فكلّ من ارتكب ظلماً، وتجاوز حدَّاً في يوم من أيام عمره، أو عبد صنماً، أو لاذ إلى وثن، وبالجملة ارتكب ما هو حرام، فضلاً عمّا هو كفر، يُنَادَى من فوق العرش: (لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّــلِمِينَ) أي أنتم الظلمة الكفرة المتجاوزون عن الحدّ، لستم قابلين لتحمل منصب الإمامة; من غير فرق بين أن يصلح حالهم بعد تلك الفترة، أو يبقوا على ما كانوا عليه.

____________

1- الذخيرة: 430، 431.

2- البقرة: 124.

3- الإمامة.


الصفحة 352
وهذا يستلزم أن يكون المؤهَّل للإمامة طاهراً من الذنوب من لدن وُضِعَ عليه القلم إلى أن أُدْرِجَ في كفنه وأدخل في لحده، وهذا ما نسميه بالعصمة في مورد الإمامة"(1).

ومن أدلة الإمامية الاثني عشرية على العصمة من الكتاب العزيز قوله تعالى: (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ)(2) "فإنه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر على ا لإطلاق كطاعته وطاعة الرسول، وهو لا يتم إلاّ بعصمة أولي الأمر، فإنّ غير المعصوم قد يأمر بمعصية وتحرم طاعته فيها، فلو وجبت أيضاً اجتمع الضدّان: وجوب طاعته وحرمتها، ولا يصحّ حمل الآية على إيجاب الطاعة له في خصوص الطاعات; إذ ـ مع منافاته لإطلاقها ـ لا يجامع ظاهرها من إفادة تعظيم الرسول وأولي الأمر بمساواتهم لله تعالى في وجوب الطاعة، إذ يقبح تعظيم العاصي، ولا سيّما المنغمس بأنواع الفواحش.

على أن وجوب الطاعة في الطاعات ليس من خواص الرسول وأولي الأمر، بل تجب طاعة كل آمر بالمعروف، فلابدّ أن يكون المراد بالآية بيان عصمة الرسول وأولي الأمر وأنّهم لا يأمرون ولا ينهون إلاّ بحقّ"(3).

ومن السنة: قول رسول الله(صلى الله عليه وآله): "إني تارك فيكم الثقلين ـ أو الخَليفتين ـ: كتاب الله وعترتي أهل بيتي"، فقد قال السيّد محسن الأمين العاملي بعد ذكر هذا الحديث وغيره: "دلّت هذه الأحاديث على عصمة أهل البيت من الذنوب والخطأ، لمساواتهم فيها بالقرآن الثابت عصمته في أنّه أحد الثقلين المخلّفين في الناس، وفي الأمر بالتمسّك بهم كالتمسّك بالقرآن، ولو كان الخطأ يقع منهم لما صحّ الأمر

____________

1- الإلهيات: 4 / 122.

2- النساء: 59.

3- دلائل الصدق: 2 / 17.


الصفحة 353
بالتمسّك بهم الذي هو عبارة عن جعل أقوالهم وأفعالهم حجةً، وفي أنّ المتمسِّكَ بهم لا يضِلّ كما لا يضِلّ المتمسّكُ بالقرآن، ولو وقع منهم الذنوب أو الخطأ لكان المتمسّك بهم يضلُّ، وإنّ في اتباعهم الهدى والنور كما في القرآن، ولو لم يكونوا معصومين لكان في اتباعهم الضلال، وأنَّهم حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض كالقرآن، وهو كنايةٌ عن أنّهم واسطةٌ بين الله تعالى وبين خلقه، وأنّ أقوالهم عن الله تعالى، ولو لم يكونوا معصومين لم يكونوا كذلك. وفي أنّهم لم يفارقوا القرآن ولن يفارقهم مُدّةَ عمر الدنيا، ولو أخطأوا أو أذنبوا لفارقوا القرآن وفارقهم، وفي عدم جواز مفارقتهم بتقدّم عليهم بجعل نفسه إماماً لهم أو تقصير عنهم وائتمام بغيرهم، كما لا يجوز التقدّم على القرآن بالإفتاء بغير ما فيه أو التقصير عنه باتّباع أقوال مخالفيه، وفي عدم جواز تعليمهم(1) وردّ أقوالهم، ولو كانوا يجهلون شيئاً لوجبَ تعليمهم ولم يُنه عن ردِّ قولهم"(2).

وأمّا الزيديةُ فإنها لاترى ضرورة عصمة الإمام، بل أنّ لهُ شروطاً أربعة عشر.

يقول الشرفي(3): "وشروط صاحبها ـ أي شروط الإمام ـ أربعة عشر شرطاً:

____________

1- اشارة إلى رواية لحديث الثقلين فيها (... ولا تعلموهم فإِنَّهم أعلم منكم...) راجع تخريجه في "المراجعات" لشرف الدين ص 36 طبع دار الكتاب الإسلامي أو ص 16 طبعة (مطبوعات النجاح بالقاهرة). وراجع تخريج حديث الثقلين في: حديث الثقلين تواتره فقهه كما في كتب السنة، الاعتصام: 1 / 132 ـ 152، لوامع الأنوار: 1 / 51، بحار الأنوار: 22 / 475، 36 / 329، 45 / 313، 68 / 22، نفحات الأزهار: الجزء الأوّل.

2- الغدير: 3 / 297، 298، وراجع: الأصول العامة للفقه المقارن: 164 ـ 189.

3- أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي (975 ـ 1055) كان من ولاة الامام القاسم ابن محمد وشرح كتابه الاساس بشرحين صغير وكبير، عالم موسوعي... وأديب يصفه صاحب "نسمات الأسحار" بخاتمة المحقِّقين له مؤلفات ومصنفات يُدرس بعضها في حلقات العلم عند الزيدية، انظر: عدة الأكياس: 1 / 17، البدر الطالع: 1 / 82، الأعلام: 1 / 238.


الصفحة 354
الأوّل: البلوغ والعقل، للإجماع على أن لا ولاية للصبي والمجنون على أنفسهما فضلاً عن غيرهما".

الثاني: الذكورة، لقوله(صلى الله عليه وآله): ما أفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأةً، ولأنّ المرأة لا تولّى جميع أمرها، ولأنها ممنوعة من مخالطة الناس وغير ذلك.

والثالث: الحرية....

والرابع:... المنصب، فلا تصح الإمامة إلاّ في منصب مخصوص بيّنه الشارع....

الخامس:... الإجتهاد...

والسادس:... الورع...

الثامن: الأفضلية...

والتاسع: الشجاعة...

والعاشر: التدبير....

والحادي عشر: القدرة على القيام بثمرة الإمامة...

والثاني عشر: السخاء بوضع الحقوق في مواضعها...

والثالث عشر: السلامة من المنفرات نحو الجذام والبرص...

والرابع عشر: سلامة الحواس والأطراف..."(1).

وهي تستدلّ على كلِّ شرط على حدة باستدلالات عقلية ونقلية.

وليس لديهم استقرارٌ على القول بأربعة عشر شرطاً، فهذا "يحيى بن حمزة" يقول:

".. أن طريق الإمامة عندنا ـ ممن ليس بمنصوص عليه ـ هي الدعوة، فمن قام منهم ودعا إلى الإمام مستجمعاً لأُمور أربعة:... وجب على كافّة المسلمين

____________

1- عدة الأكياس: 1 / 120 ـ 134.


الصفحة 355
نصرتُه والدعاءُ إليه، والاحتكام لأمره، والتقوية لسلطانه"(1).

ويرى عبد الله بن حمزة أن تلك الشروط "ستة"(2).

وأمّا "العصمة" فالزيدية لا تراها:

يقول "الشرفي":

"قال(3)...: "ولا دليل عليها" أي على اشتراطها أي العصمة "إلاّ تقدير حصول المعصية من الإمام "لو لم يكن معصوماً" أي لا دليل لهم(4) على اشتراط العصمة إلاّ تقدير حصول المعصية وهو لا يصلح دليلاً; لما ذكره... بقوله:

"قلنا: ذلك التقدير حاصل في المعصوم فيفرض حصول المعصية منه كما قال تعالى في سيد المعصومين (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(5).

ولا يلزم من هذا الفرض وقوع الشرك منه(صلى الله عليه وآله).

"قالوا: لا سواءَ فإنّه "امتنع وقوعها من المعصوم" قطعاً ولو قُدِّرت منه تقديراً فإنّا نعلم انتفاءَها "بخلاف غيره" أي غير المعصوم فإنّه ـ مع تقديرها منه ـ يمكن وقوعها ولا يمتنع فلم يستوِ التقديران "قلنا ما دام" الإمام "عدلاً فلا وقوع" للمعصية منه "وإن وقعت منه" المعصية "فَكَلوْماتَ المعصومُ"; لأنّ تقدير موت الإمام المعصوم ووقوع المعصية من الإمام غير المعصوم سواءٌ في كونهما مبطلين للإمامة، فهلاّ منعتم من قيام الإمام المعصوم ـ لتقدير موته، كما منعتم من

____________

1- المعالم الدينية: 144.

2- ديوان عبد الله بن حمزة وعنه دائرة المعارف الاسلامية الشيعية: 7 / 222.

3- القائل هو القاسم بن محمّد (1029) صاحب المتن المشروح والمسمّى بـ "الأساس" وقد طبع هذا المتن في بيروت عام 1980 هـ بتحقيق الدكتور البيرنصري نادر عن دار الطليعة، وطبعه بتحقيق آخر / محمد قاسم الهاشمي ـ مكتبة التراث الإسلامي / صعدة ـ اليمن وصدرت الطبعة الثانية منه عام 1415 هـ.

4- أي الاثني عشرية.

5- الزمر: 65.


الصفحة 356
إمامة العدل لتقدير معصيته، وكذلك تقدير العمى والجذام أو نحو ذلك؟"(1).

وأمّا قول "القاسم بن محمّد"(2) بأنه لا دليل عليها (أي على اشتراطها العصمة) إلاّ تقدير حصول المعصية; فمجازفة!!

لأدلة كثيرة!، منها:

أولاً: أنّ الإمامية المتقدمين والمتأخرين(3) لم يذكروا أنّ مستندهم الوحيد في ايجابهم العصمة للإمام هو "تقدير حصول المعصية"، بل لم يذكروه ـ اصلاً ـ كدليل على إيجاب العصمة.

ما نراه في كتبهم استدلالاً على العصمة وضرورتها هو:

1 ـ أنّه لو لم يكن (الإمام) معصوماً لزم التسلسل(4)، والتالي باطلٌ فالمقدَّم مثله"(5).

"والدليل على وجوب كونه معصوماً: أنّ الرئاسة إنّما وجبت من حيث

____________

1- عدّة الأكياس: 2 / 134، 135.

2- عدّة الأكياس: 2 / 134 ـ 135.

القاسم بن محمد بن علي بن الرشيد (967 ـ 1029) فقيه، عالم، قام بدور سياسي بارز في محاربة الأتراك بعد أن ادّعى الإمامة سنة 1006، ترك كثيراً من المؤلّفات منها: "الإعتصام" في الحديث و "الاساس" في أصول الدين، أُلّف في ترجمته كتاب باسم "النبذة المعشيرة" لُقّب بالمنصور بالله، انظر: التحف: 229، البدر الطالع 1: 385، الموسوعة اليمنية 2: 738، الأعلام 5: 182.

3- راجع: الذخيرة: 430، مناهج اليقين: 297 ـ 299، أوائل المقالات: 19، عقائد الإمامية: 313، أصل الشيعة وأصولها: 212، الإلهيات: 4 / 116 ـ 130.

4- أي حاجة "الامام" غير المعصوم إلى "إمام معصوم".

5- "اصطلاح منطقي" بعبارة أُخرى: إن التسلسل باطلٌ، والقول بعدم عصمة الإمام يستلزم احتياجه إلى من هو أعلم وأكمل منه وهذا العلم والأكمل هكذا يحتاج إلى من هذا أعلم وأكمل منه وهذا يؤدّي إلى التسلسل; إذن القول بعدم العصمة للإمام ـ القول الذى يؤدّي إلى التسلسل ـ باطل، فيثبت القول بعصمة الإمام مناهج اليقين: 297.


الصفحة 357
كانت لطفاً، يقلُّ الفسادُ ويَكْثُرُ الصلاحُ عندها، وكان الأمر منعكساً مع فقدها من كثرة الفساد وقلّة الصلاح، فالرئيس لا يخلو من أن يكون معصوماً أو لا يكون معصوماً. إن كان معصوماً فهو المقصود، وإن لم يكن معصوماً كان محتاجاً إلى رئيس آخر، ثم الكلام في رئيسه كالكلام فيه، في أنّه إن لم يكن معصوماً احتاج إلى رئيس آخر، فكذا الثالث يحتاج إلى رابع، والرابع إلى خامس، وذلك يؤدِّي إلى إثبات ما لا ينحصر من الرؤساء، وهو باطلٌ، أو إلى إثبات رئيس معصوم، وبه يتُم المقصود، فإنّه يكون إماماً للكلِّ ومن عداه يكونون نوّابه وعمّاله وأمراءه، وإنّما قلنا: إذا لم يكن معصوماً احتاج إلى رئيس آخر من حيثُ: إن العِلّة المحوجة إلى رئيس ـ وهي ارتفاع العصمة وجواز الخطأ ـ تكون قائمة فيه"(1).

2 ـ آية التطهير:

(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2).

"وأمّا دلالتها على العصمة، فتظهر إذا اطّلعنا على أنّ المرادَ من الرجس هو القذارة المعنوية لا المادية...

وعلى ضوء هذا، فالمراد من الرجس في الآية: كل عمل قبيح عرفاً أو شرعاً، لا تقبله الطباع، ولذلك قال سبحانه بعد تلك اللفظة: (وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)، فليس المراد من التطهير، إلاّ تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي تُعدُّ المعاصي والمآثم من أظهر مصاديقه.

وقد ورد نظير الآية في حقّ السيدة مريم، قال سبحانه (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ)(3).

ومن المعلوم أنَّ تعلّق الإرادة التكوينية على إذهاب كلِّ رجس وقذارة،

____________

1- المنقذ من التقليد: 2 / 278 ـ 279.

2- الأحزاب: 33.

3- آل عمران: 42.


الصفحة 358
وكلِّ عَمَل مُنَفِّر ـ عرفاً أو شرعاً ـ يجعل مَنْ تعلَّقت به الإرادة إنساناً مثاليّاً، نزيهاً عن كلِّ عيب وشين، ووصمة عار"(1).

3 ـ ما سبق ذكره من استشهاد الإمامية بآية الإمامة(2)، وطريقة استدلالها بتلك الآية.

وغيرها من الأدلّة.

ثانياً: أنّ من عرف "مبنى" الإمامية الاثني عشرية ـ وهو "قاعدة اللطف" ـ جزم ـ بإنصاف ـ بأنّ قولهم بعصمة الإمام إنما هو نابعٌ من صميم النتائج العقلية الضرورية لمن التزم بقاعدة اللطف في مسألة الإمامة.

ثالثاً: أنّ الزيدية ـ نفسها ـ احتارت أمام الدلائل التي تفرض نفسها للعصمة، فاضطّرت إلى القول بالعصمة، ولكنّها وقعت في مأزق خطير وهو أدّعاء العصمة في العترة ـ هكذا، مُطْلَقةً ـ في أولاد الحسنين!!(3)، وكما يعبّر الفلاسفة والمنطقيون "في الجملة لا بالجملة" بدون أن تحدّد، بل قالت: "وجماعة العترة معصومة" فالقول بالعصمة هو قول الزيدية أيضاً!! إلاّ أنها جعلته في العترة عامّة، وهذا القول فيه ما فيه!! خصوصاً إذا ما لوحظ أنَّ الزيديّة تنفي عن نفسها القول بعصمة آحاد أهل البيت(4).

النصّ وملابساته:

وتبقى مسألة النصّ كمرحلة أخيرة للتدرج الذي اتبعناه في بحث نظرية الإمامية تدرّجاً هَرَميّاً!!

____________

1- الإلهيات: 4 / 128، 129.

2- البقرة: 124.

3- عدة الأكياس: 2 / 188.

4- شرح الأزهار: 1 / 15 وكتب أصول الفقه عند الزيدية.


الصفحة 359
ولنا في البداية "وقفة" عند النصّ عند الزيدية.

فالزيدية تختلف اختلافاً جِدَّ خطير في مسألة النصّ!!

منشأه من "مسألتين" اختلفت فيهما اختلافاً واسعاً:

أما المسألة الأولى: فهي أنّ الأئمة قسمان:

فالقسم الأوّل: مَن نُصَّ عليه "بالإمامة" وهؤلاء هم: أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب والإمام الحسن بن علي والإمام الحسين بن علي(عليهم السلام).

والثاني: من لم يُنصَّ عليه بالإمامة، وقد اختلفوا في هذا القسم أيضاً!!

فبعضهم قال: بل نُصَّ عليه نصٌّ جُمليٌّ وهم العترة، ـ واختلفوا في هذا النص الجملي أيضاً!! فبعضهم قال: إنما هم أولاد عليٍّ(عليه السلام) من الحسن والحسين(عليهما السلام) ابني فاطمة(عليها السلام)، وعبروا عن قولهم هذا بـ "حصر الإمامة في البطنين"، والبعض الآخر قال بدخول أولاد عليٍّ(عليه السلام) من غير الحسنين(عليهما السلام) كمحمد بن الحنفية والعباس بن علي وعمر بن علي(1).

والمسألة الثانية: أصل "النصّ" هل هو جليٌّ أو خفي؟

والحقُّ يقال!!: أنه لم يكن للقائلين "بالنص الخفي" "غرضٌ" سوى تنزيه مقام المتقدمين على أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه ممّا يمكن أن يلحق بهم من تفسيق أو تكفير!!; جرّاء مخالفة النصوص القطعية على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالإمامة الكبرى(2).

____________

1- عدة الأكياس: 2 / 122.

2- حتّى أن كثيراً من مؤلفي "الزيدية" في العقائد كانوا يعقدون فصلاً أو باباً في سياق ذكرهم "للإمامة" تحت عنوان: "حكم من تقدّم أمير المؤمنين(عليه السلام)". انظر: عدة الأكياس: 2 / 166، وراجع: أنوار اليقين للحسن ابن بدر الدين، وحقائق المعرفة لأحمد بن سليمان وغيرها، ومن المضحك ـ وشرّ المصائب ما يضحك ـ أن يؤدِّي هذا الدَوَران ـ بعد عناء ـ إلى القول بالنص "الجلي" في الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) والنصِّ "الخفّي" في أمير المؤمين(عليه السلام)!! انظر: شرح الأزهار: 4 / 522، لوامع الأنوار: 2 / 142 ـ 144، وهذا كلّه باعتبار ان من أكبر أدلة القائلين بالنص الخفي: مخالفة الصحابة له ببيعتهم لأبي بكر وظنهم بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وافقهم وسار معهم على خطتهم غافلين أو متغافلين عن كثير من القضايا التي أشار إلى بعض منها الشاعر.