الإهداء
إلى أمل الأمم، الـمُبشَّر به على لسان سيد العرب والعجم، إلى الوعد الإلهي الصادق، إلى حُجَّة الحقِّ على الخلق، إلى مولانا المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف).. أهدي هذا الجهد المتواضع، سائلاً المولى جلَّ وعَلا أن يتقبَّل منَّا ذلك بأحسن القبول.
يحيى
المقدمة
لقد خلق الله سبحانه الإنسان ليبتليه ويمتحنه ويمحّصه، ويظهر الخبيث من الطيب، ولابدّ لنا من الإيمان بهذه الحقيقة، وأن نجعلها دائماً نصب أعيننا؛ لأنّها علّة وجودنا، والاختلاف في الدين ممّا ابتلى الله سبحانه وتعالى الإنسان به فقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون}(1)، فمن أراد الحق فلا بدّ أن ينقّب عنه، وأن يجتهد في البحث من أجل الوصول إليه، وقد أعطى الله سبحانه وتعالى للإنسان منحة العقل، الذي يستطيع به أن يتأمل في الأشياء، ويتدبر الأمور، ويستنبط ما خفي عليه من الحقائق، فالعقل هو حجة الله الأولى على البشر؛ لذا لا بدّ من الرجوع إليه عند التباس الأمور، وإعطائه المجال الكافي للتفكر والتدبر، وللعقل آفة وهي تقليد الآخرين بدون علم، والسماع من طرف واحد، والعجلة في إصدار الأحكام، وهذا ما جعل الخوارج يسفكون دماء الأبرياء بغير حق، وهذا هو ما يريده الشيطان المريد، وأعوانه من الإنس، وقد تبدو بعض المسائل الدينية في بادئ الأمر غير مقبولة عقلاً، ويتصوّر البعض أنّه لا يمكن له أن يتقبّل تلك الفكرة
____________
(1) العنكبوت: 2.
نسأل الله جلّ وعلا أن يتقبّل منّا ذلك إنّه على كل شئ قدير والحمد لله رب العالمين.
بالمهدي نهتدي
الأدلة على أحقِّيّة الشيعة الإماميّة في موضوع الإمامة والخلافة كثيرة جدًّا، وقد التفت إليها علماء السنة، وحاولوا توجيهها، غير الذي حذفوه منها؛ وذلك لأنّ الحكام المعارضين لأهل البيت (عليهم السلام) لا يستقر بهم القرار مع وجود تلك الأدلة التي تبيّن أنّ الإمامة والخلافة هي لآل محمد صلوات الله عليهم، ولذلك وجّه أولئك الحكام علماء زمانهم إلى إيجاد حل لتلك الروايات بشكل عام، فمنيت تلك الروايات إمّا بالحذف أو التحريف اللفظي أو المعنوي، وقد كان تركيز أولئك العلماء على الروايات الواردة في شأن الإمام علي والحسنين (عليهم السلام)؛ وذلك لأنّ أولئك الحكام كانوا يرون أنّ الصراع بينهم وبين الأئمة الموجودين في عصرهم من أهل البيت (عليهم السلام)؛ ولذا وجّه أولئك الحكام علماءهم إلى حذف أو تحريف أو توجيه كلِّ تلك الروايات، التي تُبيّن مقام آل محمد صلوات الله عليهم، وحينها لم تسلم أيَّةُ رواية من تلك الحملة، فإمّا الحذف أو التحريف أو التوجيه، أو إيجاد
المسألة الأولى
بماذا تثبت الإمامة أو الخلافة للأشخاص؟
وبعبارة أخرى: كيف يصبح الخليفة خليفة، أو الإمام إماماً، وما هي الطريقة الصحيحة في تنصيب الإمام أو الخليفة حسب الشريعة الإسلامية؟
هنا ثلاث نظريات في الجواب عن هذا السؤال، وهي كما يلي:
أ ـ نظرية أهل السنة والمعتزلة: تصح الخلافة أو الإمامة للأشخاص عن طريق الشورى، وهي الطريقة الأساسية عندهم، حسب ادعائهم كما ذكر ذلك النووي في شرحه على "صحيح مسلم": "أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ الخليفة إذا حضرته مقدِّمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه فإن تركه فقد اقتدى بالنبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) في هذا وإلا فقد اقتدى بأبي بكر وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمر
وفي "فلك النجاة" نقلاً من كتاب "حجة الله البالغة" لولي الله الدهلوي: "تنعقد الخلافة بوجوه: بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء، وأمراء الأجناد ممن يكون له رأي ونصيحة للمسلمين (كما انعقدت خلافة أبي بكر)، وبأن يوصي الخليفة الناس به (كما انعقدت خلافة عمر)، أو تجعل (شورى) بين قوم (كما كان عند انعقاد خلافة عثمان، بل علي أيضاً"(2).
ب ـ نظرية الزيدية: تثبت عندهم الخلافة أو الإمامة بعد الإمام علي والحسنين (عليهم السلام) مع الدعوة إليها، بالشروط الأربعة عشر(3)، كما أشار إلى ذلك صاحب "عدة الأكياس في شرح معاني الأساس" في عدة مواضع، منها ما يلي: "من دعا الناس إلى نصرته والجهاد معه وهو جامعاً لشروط
____________
(1) شرح مسلم للنووي: (12/205).
(2) فلك النجاة لعلي محمد فتح الدين الحنفي: 129.
(3) الشروط الأربعة عشر عند الزيدية، كما أوردها صاحب عدة الأكياس في شرح معاني الأساس ما يلي: 1ـ البلوغ والعقل. 2 ـ الذكورة. 3 ـ الحرية. 4 ـ المنصب [أي النسب الخاص]. 5 ـ الاجتهاد. 6 ـ الورع. 7 ـ اجتناب المهن المسترذلة. 8 ـ الأفضلية [أفضل أهل زمانه]. 9ـ الشجاعة. 10 ـ التدبير. 11 ـ القدرة على القيام بثمرة الإمامة. 12 ـ السخاء. 13ـ السلامة من المنفرات [كالجذام]. 14 ـ سلامة الحواس والأطراف.
وجاء في موضع آخر من الكتاب نفسه ما يلي: "... ثم الإمام بعده [أي أميرالمؤمنين علي (عليه السلام)] الحسن والحسين بالنص، ثم هي [أي الخلافة أو الإمامة] بينهم [أي ذرية أهل البيت (عليهم السلام)] شـورى فمن خرج من أولادهما [أي الحسن والحسين (عليهما السلام)] جامعاً لشروط الإمامة فهو إمام"(2).
جـ ـ نظرية الشيعة الإمامية: تثبت عندهم الإمامة أو الخلافة بالاختيار من الله تعالى، كما أشار إلى ذلك الشيخ المفيد (رحمه الله) في "أوائل المقالات"، حيث قال: "واتفقت الإمامية على أنّ الإمامة لا تثبت مع عدم المعجز لصاحبها إلا بالنصّ على عينه والتوقيف"(3).
هذه هي النظريات المشهورة في هذا الموضوع.
وهنا سؤال يوجّه إلى أهل النظرية الأولى مفاده: أنتم وجميع المسلمين مجمعون على أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) رجل منصور لا يُهزم، وأنّه يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، وهذا المضمون ورد في روايات كثيرة جداً، بحيث لا يشك فيه أحد من المسلمين، وعندكم أنّ الإمامة أو الخلافة
____________
(1) عدة الأكياس في شرح معاني الأساس للعلامة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي القاسمي: (2/136).
(2) المصدر نفسه: (2/138).
(3) أوائل المقالات للشيخ المفيد: 40.
فأيَّ شيء تنتظرون والحلُّ بين أيديكم واختيار الإمام موكول إليكم؟!
هل تنتظرون أن يختار الله رجلاً لهذا الأمر؟!
هذه عقيدة الإمامية؛ إذ أنّهم أهل القول بلزوم اختيار الإمام أو الخليفة من قبل الله عزّ وجل، وأمّا أنتم فتقولون بالشورى في هذا الأمر وتستقبحون بشدّة قول الإمامية في هذا المجال.. فلماذا هذا السكوت والحلُّ موكول إليكم؟!
إنّ سكوتكم هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّكم في قرارة أنفسكم تعلمون أنّ هذا الأمر ـ وهو تعيين وتنصيب المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) كخليفة ـ لا يكون إلا باختيار من الله عزّ وجلّ، فكيف تقولون أنّ الإمامة أو الخلافة تصح بالشورى؟!
وأنتم تعلمون أنّكم لو اخترتم رجلاً باعتباره المهديَّ المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) فإنّ اختياركم لن يجعل ذلك الرجل هو المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) حقيقةً؛ وذلك لأنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) مؤيد بتأييدات إلهيّة كبيرة، وإن أنتم اخترتم رجلاً باعتباره المهديَّ المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، ولم يَحْظَ بتلك التأييدات الإلهية فسيظهر أنَّ مَن اخترتموه ليس مصداقًا لتلك الروايات؛ لذا لا بدّ لكم من الرجوع إلى
وأمّا نظريتكم وهي: القول بالشورى في اختيار الإمام أو الخليفة فلا بدّ أن تنتقض هنا ـ أي في تعيين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ـ، وليس من قواعد الإسلام ما ينقضه الزمان.
ويُوجَّه هذا السؤال نفسه إلى إخواننا الزيدية أيضاً؛ بأن يُقال لهم: بما أنّكم وجميع المسلمين مجمعون على أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) لا تُهزم رايته، وترون كما نرى وضع الأُمَّة الإسلامية، وما تعانيه، وأنتم تقولون إنّ الإمامة بعد علي والحسن والحسين (عليهم السلام) تثبت للأئمة الباقين ومنهم الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)(1) بوجود الشروط الأربعة عشر، فلماذا لا تبحثون عن رجل توجد فيه الشروط الأربعة عشر، ويكون اسمه كاسم الرسول (صلّى الله عليه وآله)، واسم أبيه كاسم أبيه!!، كما تعتقدون، وتبايعونه للإمامة لكي تُحلَّ مشكلة هذه الأُمَّة، وتسترجع مجدها وعزَّتها، فأيَّ شيء تنتظرون؟
هل تنتظرون أن يختار الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر اختيارًا مباشرًا من عنده؟
____________
(1) فالزيدية لم يستثنوا الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من تلك القاعدة العامة، كما استثنوا الإمام عليًّا والحسنين (عليهم السلام).
أولستم تتصوَّرون أنّ الناس يحقُّ لهم اختيار الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) إذا وجدت تلك الشروط الأربعة عشر في المختار، ولا تعتقدون باختيار أحد من أهل البيت (عليهم السلام) بعينه إلَّا الإمام عليًّا والحسنين (عليهم السلام)؟
فلماذا لا تختارون المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) وتخلِّصون الأُمَّة من هذه الغمَّة؟
إنّكم هنا لا بدّ أن ترجعوا إلى عقيدة الإمامية، وأنتم فعلاً تمارسونها عمليًا، وتشعرون وجميع المسلمين بضرورة اختيار المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من قبل الله عز وجل، وعندئذ لا بدّ أن تنتقض النظريات البشرية يوماً ما، ولو كانت لها صولة وجولة في فترة من التاريخ، وتبقى القواعد الإلهية ثابتة لا تتغير، بل تزداد جلاءاً وجمالاً، كلما مرّ الزمان.
المسألة الثانية
كيف يَعرِف المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) أنّه هو المهدي الموعود؟
يعتقد جميع المسلمين أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، سيملأ الأرض كلَّها قسطاً وعدلاً، فهو إذاً ليس شخصية عادية، ومَهمَّته مَهمَّة صعبة، وغير عادية؛ لذا لا بدّ أن يكون الشخص المدَّعي لأمر المهدوية على يقين قاطع بأنّه هو المهدي المنتظر، ونلاحظ أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أنّه شاهد جبريل (عليه السلام) وأُنزل عليه القرآن الكريم، وأُسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث عُرج به إلى السماء ـ مع ذلك كلِّه ـ كان يقصُّ الله عز وجل عليه قصص الأنبياء، ما يثبِّت به فؤاده، كما قال تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْـحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(1) وذلك التأييد والتثبيت لازم له (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ مَهمَّته صعبة وسوف تكون فيها حروب دامية، وخروج من الديار والأهل وغير ذلك، فكيف بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) الذي يريد أن يحكم
____________
(1) هود: 120.
ومن هنا يظهر الإشكال عند إخواننا أهل السنة؛ حيث يعتقدون أنّه مع انقطاع الوحي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله)، انقطع اتصال الملائكة بأولياء الله في الأرض، وبشكل عامّ يعتبرون دعوى نزول الملائكة على أحد من الخلق بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منكرًا من القول، ويتّهمون من يقول بذلك بأنه يدَّعي النبوَّة لمن تنزل عليهم الملائكة، أو يتّهمونه بالغلو، وغير ذلك من التَّهم؛ ولذا يشنُّون على الشيعة الإمامية الحملات الإعلامية القاسية، لوجود روايات ـ عند الإمامية ـ تذكر نزول بعض الملائكة على الزهراء (عليها السلام) بعد وفات النبي (صلّى الله عليه وآله) لمواساتها (عليها السلام)، ويعتبرون ذلك من الغلوُّ، ويعتقدون أيضاً أنّه لا يوجد معصوم من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله).. لذا نسألهم:
كيف يَعرِف المهدي المنتظر ـ باليقين الذي لا يخالطه شكٌّ ـ أنّه هو المهدي الموعود؟ مع العلم أنّه قد ظهر في المجتمعات السنية والزيدية مَن ادِّعى لنفسه المهدوية، ولكن لم يفلحوا، ولم يقبلهم عامّة الأُمَّة.
فالمهدي يلزم أن يتوفَّر على اليقين بكونه هو المهديُّ المنتظر الموعود، وهذا اليقين لا يمكن أن يتحقَّق إلاَّ من أحد طريقين:
فإمّا أن يحصل له اليقين المذكور من خلال نزول الملائكة عليه، أو أن
فلم يبقَ لهم إلَّا طريقٌ واحدٌ، وهو الوصول إلى ذلك اليقين المذكور من خلال المنامات، وهذا الطريق بإجماع الأمَّة لا يوجب العلم الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يُقيم حدًّا من حدود الله عزّ وجلّ، فكيف بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) الذي يُريد أن يقوم بمهمة صعبة للغاية، يحتاج في تنفيذها إلى أن يدخل في معارك ضارية، قد يُقتل فيها ملايين البشر، أضف إلى ذلك أنّنا ـ والتاريخ يشهد بذلك ـ نعرف أناسًا في منتهى التديُّن والإخلاص، ولكنْ كلُّ واحد منهم يرى في مناماته أنّه هو المهدي المنتظر، ولذا يخبرون بعض الناس بذلك، وتتكوّن لهم جماعات صغيرة ثمّ يموتون، أو ينصرفون عن دعواهم، وتنتهي مسألتهم، أو قد يهجم عليهم عوامّ الأمَّة بتحريك من العلماء، فتقتلهم أو تطردهم، فما حكم هؤلاء؟.. وهل يحقُّ لنا عدم قبول دعواهم؟ وهم في الواقع صادقون في أنّهم رأوا تلك المنامات، بل قد تحصل رؤيا أو أكثر لدى بعض الناس بما يؤيِّد دعواهم، فهل يصحُّ أن نقبل هذه الطريق كطريق لمعرفة مسألة مُهمَّة كمسالة المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)؛ مع ما نلاحظه في هذه الطريقة من الفوضى؟
إذاً سيرجع الجميع إلى رأي ومذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهو القول بأنّ الملائكة تنزل على أولياء الله، وتبلّغهم أوامر الله عزّ وجلّ، أو أنّه لا بدّ
وهذا الإشكال نفسه يُطرح على إخواننا الزيدية أيضاً، حيث يقولون بانقطاع العصمة الفردية عن أهل البيت (عليهم السلام) بعد الحسين، وانقطاع اتصال الملائكة بأهل البيت (عليهم السلام) بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله).
ولا زلتُ أتذكّر جيّداً، حينما سألت يوماً أحد كبار علماء الزيدية هذا السؤال:
كيف يَعرِف المهدي أنّه هو المهدي الموعود؟
فسكت قليلاً، ثم قال: المهدي لا يعرف أنّه هو المهدي المنتظر، بل هو رجل من أهل البيت (عليهم السلام)، يدعوا الناس لإحياء الإسلام، ويواجه الظلمة والمتكبرين، وينتصر عليهم انتصارات عظيمة، وبعد أن يملأ الأرض عدلاً وقسطاً؛ يعرف أنّه هو المقصود بتلك الروايات الـمُبشِّرة بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من قبل الرسول (صلّى الله عليه وآله).
فمثلاً: إذا قرَّر المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) الذي لم يَعرف بمهدويَّته بعد، إذا قرَّر فتحَ بعض البلاد؛ فإنَّ أحرارَ تلكَ البلاد سينظرون إليه كغازٍ ومهاجم يقصد استعمار بلادهم.. فلا هم يعلمون أنَّه المهديُّ المنتظر الذي تجب عليهم طاعته والانقياد لأوامره، ولا هو بالذي يعلم ذلك حتَّى يخبرهم فيُتمَّ الحجَّةَ عليهم.
فهذا إشكال أكبر من إشكالي الأول، وكان ذلك الجواب، كالمثل القائل: (وزاد في الطين بلة).
المسألة الثالثة
المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) بإجماع المسلمين سيكون من علماء هذه الأُمَّة، والسؤال هنا هو:
هل هو ـ أي المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ـ سيكون عالماً مجتهداً، كبقية علماء المسلمين، بحيث لا يجوز للعلماء المجتهدين تقليده، والأخذ برأيه في المسائل الفرعية الفقهية، أم أنّه ـ أي المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ـ سيكون عالماً معصوماً، قوله كقول الرسول (صلّى الله عليه وآله)، يجب على العالم والجاهل والمجتهد والمقلِّد أن يطيعوه في جميع المجالات؟
إنَّ الواضح من الروايات المجمع عليها أنّه واجب الطاعة على الجميع بلا استثناء، وفي جميع الأمور، السياسية منها والعقائدية والفقهية وغيرها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، فهو إذا أراد ـ مثلاً ـ أن يُحرِّم بعض الأمور الفقهية التي اجتهد فيها المجتهدون وأباحوها، فإن حرَّمها الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ولم يقبل قوله المجتهدون، وأصرَّ كلُّ
إذًا لا بدّ لجميع المسلمين أن يستثنوا الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من أنّه عالم مجتهد كبقية علماء الأُمَّة، ويجب عليهم جميعاً ـ شيعةً وسنّةً ـ القول بأنّ لديه ميزة خاصّة، تلزم بها طاعته بشكل مطلق في جميع الأمور كبيرها وصغيرها، وهذه هي العصمة التي لا يوجد القول بها للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) إلاَّ في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ومن هنا يلزم جميع المسلمين الرجوع إلى هذه العقيدة المنسجمة مع كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبشارته.
وأذكر هنا قصة ترتبط بهذه المسألة:
لـمَّا عرف بعض زملائنا من مُبَلِّغي الزيدية ومُرشديهم إيماننا بالعقيدة الإمامية، ضجُّوا علينا ضجّة كبيرة، ووتَّروا الأوضاع علينا بصورة غير طبيعيَّة، وفي تلك الظروف بدأ بعضهم يقول على المنابر: إنّ الجعفرية أخطر من الوهابية.
فقلتُ لهم: لا يجوز لكم ذلك.. وإذا كنتم أتباعًا لعلماء الزيدية فأنا على يقين من أنّهم لا يقولون بهذا المقال، ولا يرضونه أبداً، وقد عاشرتُ كبارهم سنين، فلم أسمع منهم مثل هذه المجازفات.
ولكنّ أولئك المجموعة من المبلِّغين والمرشدين لم يعتنوا بكلامي، وأصرُّوا على القول بأنّ كبارهم وعلماءهم لهم نفس النظرة والعقيدة بالنسبة
فاتَّفقنا ـ أنا وثلاثة من كبارهم ـ على أن نذهب إلى صنعاء، ونسأل علماء الزيدية هناك بهذا السؤال، وهو: هل الجعفرية أخطر من الوهابية على الزيدية أم لا؟
واتّفقنا على ألَّا يقوم أحد بفعل أي مقدِّمات تجعل الجواب في صالحه، فصمّمنا على أن نبدأ بالعلَّامة السيد حمود عباس المؤيد نائب مفتي الجمهورية اليمنية، ولـمَّا وصلنا إلى جامع النهرين، وهو جامعه الذي يستقرُّ فيه، وجدناه جالسًا في المحراب، وبجواره السيد محمّد المنصور(1)، فتقدّم أحد الإخوان المبلِّغين، وبدأ يتكلَّم مع فضيلة العلامة المؤيد حفظه الله تعالى، ويقول له: الجعفرية بدأت تهاجم الناس في عقائدهم، وهناك مؤسَّسات كبيرة تدعمهم لنشر الكتب، أخذ يتكلَّم بهذا الكلام، وينقض بذلك اتِّفاقنا، ولـمَّا سكت، قال لي السيد المؤيد حفظه الله تعالى: ما تقول يا ولدي، وقبل أن أتكلَّم تكلَّم ذلك الشخص، وقال: يقول: المعصومون اثنا عشر، فقال السيد المؤيد حفظه الله تعالى: ما فيه معصومين إلَّا الخمسة ـ وهو يهزُّ رأسه يميناً وشمالاً ويُكرِّر ويقول ـ: ما فيه معصومين إلا الخمسة.. يقصد أهل الكساء، وهم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم صلوات الله. وكان بجانبه السيد محمد المنصور هو الآخر أخذ يُكرِّر نفس العبارة ويقول: ما
____________
(1) وهو من أكبر علماء الزيدية في اليمن ولا يقلّ شأنًا عن السيد حمود عباس المؤيد.
فقلت للسيِّد المؤيد حفظه الله تعالى: لماذا الخمسة فقط؟
فقال: لأنّه توجد آية من القرآن الكريم تذكر ذلك، أي عصمة الخمسة أهل الكساء ـ يقصد آية التطهير ـ فقلت له: سيدنا هناك روايات كثيرة تبيّن استمرار العصمة في أهل البيت (عليهم السلام)، مثل حديث الثقلين، وحديث السفينة، وحديث الأمان، وحديث "لا تقدموهم فتهلكوا..."، وحديث "رزقوا علمي وفهمي..." وغيرها.. ألا يدلّ مجموع هذه الروايات على استمرار العصمة في أشخاص آخرين من أهل البيت (عليهم السلام) بعد أصحاب الكساء (عليهم السلام)؟
فقال: تلك رواياتٌ، ونحن نريد لإثبات ذلك المُدَّعى آية من القرآن مثل آية التطهير، فتحيَّرتُ في هذا الأمر، وأحسست بالحرج، وقلت في نفسي: من أين آتي له بآية مثل آية التطهير وتكون في غير أصحاب الكساء من أهل البيت (عليهم السلام)؟
فخطر في بالي أن أسأله هذا السؤال وهو: هل المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) معصوم؟
فلما سألته قال: المهدي؟! قلت: نعم.
فإذا بوجهه يتغيَّر لونه إلى الحُمرة.. ثمّ قال: المهديُّ معصوم.
فقال: الروايات؛ إذ كيف يمكن لإنسان أن يملأ الأرض قسطًا وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً وهو ليس معصومًا؟
فقلت له: سيِّدي دليلنا على عصمة الأئمة الاثني عشر هي الروايات أيضًا، والتي ذكرتُ آنفاً، فكيف يكون أهل البيت (عليهم السلام) الثقل الثاني بعد القرآن وقُرَنَآءه، وسـفينة نوح، وأمان أهل الأرض و.. ولا يكونون معصومين؟
لم يجب السيد المؤيد حفظه الله تعالى، واختار السكوت، ثمّ قال: هيّا نذهب إلى البيت ونتكلّم هناك.
ولـمَّا وصلنا إلى البيت أكرمنا، وقدّم لنا بعض المأكولات، فلمَّا جلسنا قليلاً سألته ذلك السؤال الذي سافرنا من أجله، وقلت له: هؤلاء الإخوان يقولون في المساجد: إنّ الجعفرية أخطر من الوهابية.. فما رأيكم في قولهم هذا؟
فقال: لا؛ هذا غير صحيح، الجعفرية إخواننا، ونحن نحبهم، وأنا
قال السيد المؤيَّد حفظه الله تعالى: عند ذلك قمتُ من المجلس وقلت له: ما سمعنا بهذا، إذا كان لديهم قرآن آخر كما تقول فأتِ به، وخرجت من المجلس، وتبعني بقيَّة العلماء، وانفضَّت تلك الجلسة.
ثمَّ طلب السيد المؤيد حفظه الله تعالى منّا جميعاً أن نتّحد ونتعاون لنشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، ثمّ قال لي: يا ولدي الناس ما قبلونا ونحن متلاينون مع المخالفين، فكيف يقبلونكم؟
فقلت له: سيِّدنا أنا لا يهمّني قبول الناس وعدم قبولهم؛ لأنّي أريد أن يرتاح ضميري بما أعتقده.
____________
(1) والزنداني من علماء الوهابية ومؤسسيها في اليمن.
وقد فهمتُ من هذه القصة، أنّ السيّد المؤيّد حفظه الله تعالى يريد أن يقول لي: يا ولدي بعض الحقائق يجب ألَّا تقال؛ لأنّ الناس سوف يستخدمونها في الشر، وليسوا أهلاً لها، فهذا الخطيب الذي أراد بذكر هذه القصة أن يفتح عند الناس باب الأمل في الله سبحانه ويخرجهم من القنوط، لكنّه لم يدرك الخطر، وهو أنّه بين عشائر مسلَّحة سوف تتساهل بقتل الأبرياء، وتؤمِّل التوبةَ.
فكأنّ السيد حفظه الله تعالى يريد أن يقول لي: الجعفرية حقيقة عظيمة ولكن يجب ألَّا تُقال إلاَّ في مجالس خاصّة.. هذا ما فهمتُ والله أعلم(1).
____________
(1) ولهذا السلوك الحكيم شواهد في تاريخ علماء المسلمين، فمن ذلك ما في كتاب «المستغيثين» لابن بشكوال (ت 578 هـ) ص27: «كان عند سفيان الثوري مُخبَّآت لبني هاشم، لا يُهديها لكلِّ إنسان ضنّاً بها...».
وبعد ذلك اقتنع الإخوة المبلِّغون بتلك الفتوى، ولم يسألوا أحدًا من العلماء بعد السيد المؤيد حفظه الله تعالى؛ لأنّه لم يترك لهم مجالاً لذلك، ورجعنا إلى مناطقنا.
وبعد فترة من تلك الرحلة تحوَّل اثنان من أولئك المبلِّغين إلى مذهب الإماميَّة، وهدأ التَّوتُّر الذي كان سائدًا في المنطقة.
ولا عجب أن يُغيِّر السيد العلَّامة حمود عباس المؤيد حفظه الله تعالى رأيه في العصمة، ويضيف المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) إلى المعصومين الخمسة فيصير العدد ستّة، ناقضاً بذلك التراجع السريع أبنية العقيدة الزيدية بهذه السهولة؛ وذلك لأنّ مسألة المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) فيها حقائق عظيمة، تكشف عن الفراغ العقائدي عند الزيدية وأهل السنة في هذه المسألة، وهذا يدلّ على أنّ تلك العقائد غير مقتبسة من الوحي الإلهي؛ لذا كانت فيها تلك الفجوات الكبيرة.