المسألة الرابعة
ثبت عند جميع المسلمين صحّة الروايات القائلة أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من أهل البيت (عليهم السلام)، وقد نقلنا بعض تلك الروايات في آخر هذا البحث.. والسؤال هنا موجَّه إلى أولئك الذين يتصوّرون أنّ أهل البيت (عليهم السلام) هم نساء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) مع الخمسة أصحاب الكساء، كبعض أهل السنة، وإلى من يتصوَّرون أنّ أهل البيت هم الخمسة أهل الكساء فقط، كبعض الزيدية وبعض السنة.. فهؤلاء جميعًا يوجّه إليهم السؤال التالي:
كيف سيكون المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من أهل البيت (عليهم السلام)، وأهل البيت قد تُوفِّي آخرهم قبل أكثر من الف سنة ـ حسب هذا التصوّر المفترض ـ؟
هذا السؤال لا يكون فيه إشكال بالنسبة لكثير من الزيدية الذين يقولون بأنّ أهل البيت مع القرآن بدليل حديث الثقلين، ولا يكون فيه أي إبهام للإمامي المعتقد ببقاء أهل البيت (عليهم السلام) إلى يوم القيامة، ولكنْ كثيرٌ هم أولئك الذين يتصوّرن أنّ أهل البيت (عليهم السلام) قد انقرضوا، ولم يبقَ منهم أحد، لا سيَّما أهل السنة والوهابية، فإذا كان الأمر كما يتصوّرون، فكيف سيكون
المسألة الخامسة
وردت الروايات عند جميع المسلمين بوصف المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) بـ(المنتظر)، وقد لاحظنا كتبًا كثيرة لأهل السنة، وخصوصًا لقدمائهم؛ كُتبت حول المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، ولا يكادون يذكرونه إلاَّ ويذكرون هذه الصفة له، وهي كونه منتظراً، بل كثيرًا ما يلتزمون بذكر هذا الوصف (المنتظر) في عناوين الكتب التي كتبوها حول الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، من قبيل كتاب "القول المختصر في علامات المهدي المنتظر" للفقيه ابن حجر المكِّي، ومن قبيل كتاب "فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر" لمؤلِّفه مرعي بن يوسف الحنبلي، ومن قبيل كتاب "التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح" للقاضي محمد بن علي الشوكاني، وغير ذلك..
والسؤال هنا هو: كيف يكون المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)،وهو لم يولد ولم يوجد على وجه الأرض ليكون منتظراً، أي كيف ينتظر الناس عدماً؟
فهذه التسمية النبوية للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، لم تكن عبثاً، ولم تكن مجرّد مصادفة، وقد أكَّد عليها النبي (صلّى الله عليه وآله)، حتّى صارت مشهورة عند جميع
____________
(1) ومن الملاحظ أنَّ الأنبياء عليهم السلام كانوا بصورة عامّة يتميَّزون بألقاب وصفات مخصوصة، كوصف «الخليل» لإبراهيم عليه السلام، ووصف «الكليم» لموسى عليه السلام، ووصف «روح الله» لعيسى عليه السلام.. وهكذا بالنسبة لبقية الأنبياء عليهم السلام. وليس بخافٍ أنَّ هذه الصفات ليست إطلاقات عبثية، بل كلٌّ منها يشير إلى خصوصية في شخصية هذا النبي أو ذاك، يتميَّز بها، وتظهر بارزةً من بين ملامح شخصيته وخصائصه وسماته الأخرى في حياته. والأمر نفسُه نلاحظه بالنسبة إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام.. فـ «السجّاد» و «زين العابدين» للإمام علي بن الحسين عليهما السلام، و «الباقر» للإمام محمد بن علي عليهما السلام، و «الصادق» للإمام جعفر بن محمد عليهما السلام.. والأمر نفسه يقال بالنسبة إلى وصف «المنتظر» بالنسبة إلى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ فإنَّ هذه الصفة لا بُدَّ أن نبحث عن إشراقها وتحقُّقها في حياته الشريفة، خصوصًا وأنَّنا نعلم أنَّ هذا النوع من الأوصاف إنَّما تُستَقى من الوحي الكريم، وهو ما لا نحتمل في حقِّه أدنى لَغْويَّة. ويزيد الأمر وضوحًا أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله) بشَّر بظهور شخصيات إصلاحيّة في الأُمَّة، مثل اليماني، والخراساني، والقمي، وبعض أئمة المذاهب حسب اعتقاد السنة.. ولكنَّ أحدًا منهم لم يُسَمَّ بالمنتظر، بخلاف الأمر في بشرى المهدي؛ حيث خُصَّ (عجّل الله فرجه الشريف) بهذا الوصف دون غيره، فلاحظ.
المسألة السادسة
ورد أيضاً في الروايات أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ـ كما سيتضح في آخر البحث ـ أنَّه يصلِّي بعيسى (عليهما السلام).. فكيف يصلِّي رجل غير معصوم حسب قول السنة والزيدية بنبي من الأنبياء أولي العزم، مثل عيسى (عليه السلام)، والذي كان يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله؟
هذا مع أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) يعرض على نبي الله عيسى (عليه السلام) إمامة الصلاة فيأبى إلاَّ أن يكون مؤتمّاً بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) كما هو واضح في الروايات الواردة في آخر البحث.
وقد حاول جمع كثير من علماء السنة تأويل هذه الروايات؛ لأنّهم شعروا بأنّ لها مدلولاً عظيمًا لا ينسجم مع اعتقاداتهم في أهل البيت (عليهم السلام)، فهم لا يرون لهذا الأمر مثيلاً في سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) حتّى يقيسوا هذه الحادثة عليها، فيقولون ـ مثلاً ـ قد صلَّى الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)خلف غير المعصوم رافضًا إمام الصلاة بعد أن عُرضت عليه.. فلا يوجد شئ من هذا القبيل في سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله). وكلُّ ما أورده أهل السنة في هذا الموضوع ـ على
عندما لم يجد أهل السنة مخرجاً من هذا المأزق اضطرُّوا إلى البحث عن طرق أخرى لحلّ هذه المشكلة، فهم لا يستطيعون أن يقولوا إنّ عيسى بن مريم ليس من أُمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فهو ـ أي عيسى (عليه السلام) ـ لا يسعه إلاّ أن يكون من أتباع النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) كما جاء في الحديث عنه عليه وآله الصلاة والسلام: "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي"(1)، ولا يستطيعون أن يقولوا: إنَّ عيسى ليس معصومًا وليس من أولي العزم، فاضطر ابن أبي ذئب إلى تفسير الحديث بقوله: "فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه [وآله]" فحاول بهذا التأويل الغريب للرواية إلى القول بأنّ الإمامة هنا ليست في الصلاة، ولكن بمعنى الحكم والإدارة، وقد كان ابن أبي ذئب يحاول إثبات هذا المراد ولكن على استحياء؛ لأنَّ الروايات الكثيرة تردُّ على تأويله هذا بصراحة، كما يلاحظ القارئ ذلك في ما أوردناه من أحاديث في آخر هذا البحث.
كما أنّه لم يقبل عامّة علماء السنة هذه المحاولة غير الموفَّقة من ابن أبي ذئب، فحاولوا إيجاد حلٍّ آخر لهذه الرواية، وقالوا ـ كما نقلناه عنهم في آخر
____________
(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: (5/74).
لذلك فالقول بأنَّ تقديم عيسى عليه السلام للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) للصلاة والائتمام به من أجل تكريم أُمَّة محمد (صلّى الله عليه وآله).. هذا القول يعتبر غفلة عن هذه الحقيقة، وهي كون عيسى (عليه السلام) من أُمَّة محمد (صلّى الله عليه وآله) أيضًا.
بالإضافة إلى أنَّ هذا التأويل يعتبر فرارًا من ظاهر النص بدون داعٍ منطقي، فظاهر فعل عيسى (عليه السلام) هو تكريم للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) وتبيين لمقامه وقدره كما هو واضح. وهذا التكريم والاحترام من قبل عيسى (عليه السلام) ـ وهو من الأنبياء أولي العزم ـ للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)لا ينسجم مع ما يعتقده أهل السنة والزيدية حول المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)، نعم.. ينسجم مع عقيدة الإمامية بدون أيِّ إشكال.
____________
(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: (5/74).
وأذكر أنّي كنت في حوار مع أحد كبار علماء الزيدية في صعدة، فوصل بنا الحوار إلى المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، فسألته: هل عيسى (عليه السلام) سيصلي خلف المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)؟
فقال: الله، ـ أي مائة بالمائة (في تعبير أهل صعدة) ـ.
فقلت له: كيف يصلي المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) بعيسى ويؤمُّه في الصلاة، وهو أي المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) غير معصوم عندكم وعيسى (عليه السلام) معصوم عند الجميع؟
فقال ذلك العالم الزيدي حفظه الله: عيسى في زمن ظهور المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) لم يعد نبياً، وذلك لذهاب أُمَّته.
فقلت له: لماذا ينزع الله سبحانه عن عيسى (عليه السلام) مقام النبوة، وهو لم يقترف ذنباً؟ أضف إلى ذلك أنّكم كزيدية تعتقدون أنّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) معصوم وهو ليس نبيًّا فلا تنتزع العصمة عن عيسى (عليه السلام) حتى لو سلّمنا بعدم كونه نبياً في زمن ظهور المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)؟
وبعد ذلك لم يجبني وحاول الخروج من الموضوع.. وأنا لم أصرّ عليه؛
____________
(1) الإسراء: 13.
المسألة السابعة
لقد وعد الله سبحانه وتعالى، رسوله إبراهيم (عليه السلام) حين وهب له مقام الإمامة بأن يجعل ذلك المقام في ذريته ـ غير الظالمين منهم ـ إلى يوم القيامة، فقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(1).
فبشارة الرسول (صلّى الله عليه وآله) للمسلمين بظهور عيسى (عليه السلام) وصلاته خلف المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) واجتماع هذين السيدين في زمان واحد من أجل هداية البشرية، هذا كلُّه ليس من قبيل الصدفة، بل المسألة هي أنَّ هذين السيدين (عليهما السلام) بينهما تشابه كبير من جهات كثيرة، أرادت الأحاديث الشريفة أن تلفت نظرنا إليها، وتوجِّهنا إلى عدم الاستغراب لما يكون للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من أمور من قبيل الغيبة وطول العمر وغير ذلك، فقد كان لعيسى (عليه السلام) من قبله ما يشابه ذلك، ومن أبرز جهات التشابه بينهما (عليهما السلام) ما يلي:
____________
(1) البقرة: 124.
2 ـ كلاهما (عليهما السلام)، من أولاد إبراهيم (عليه السلام)، الذي وعده الله سبحانه وتعالى، أن يجعل مقام الإمامة في ذريته.
3 ـ عيسى (عليه السلام) آخر حجة لله تعالى من أولاد إسحاق بن إبراهيم (عليهما السلام)، والمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) آخر حجة لله تعالى من أولاد إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام).
4 ـ كلاهما (عليهما السلام) غاب عن قومه.
5 ـ كلاهما (عليهما السلام) أراد الظلمة والمعاندون قتله.
6 ـ كلاهما (عليهما السلام) موعود به لإنقاذ البشرية في آخر الزمان.
7 ـ كلاهما (عليهما السلام) لديه آيات إلهية كبيرة.
8 ـ كلاهما (عليهما السلام) عاش عمراً طويلاً يتجاوز مئات السنين، في حال اختفاء عن الأنظار، حتى يئس الكثير من رجوعهما (عليهما السلام).
فإذا لاحظنا هذا التشابه الكبير بينهما (عليهما السلام)، ولاحظنا الحديث الذي رواه الزيدية بسند زيدي في "كتاب عدة الأكياس في شرح معاني الأساس"، نشعر بأنّ ذلك التشابه ليس عن عبث، وأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) أرشدنا إلى ذلك التشابه مِن قَبْلُ لأجل حكمة بالغة، ومن أجل أن نأخذ الدروس والعبر، ولا نستبعد ما يفعل الله بأوليائه وحججه من إطالة للعمر، أو التغييب عن الناس، أو غير ذلك، والرواية هي كما يلي:
"روى الحسين بن القاسم العياني عنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: ستأتي من بعدى فتن متشابهة كقطع الليل المظلم فيظن المؤمنون أنّهم هالكون فيها، ثمّ
____________
(1) عُدَّة الأكياس في شرح معاني الأساس للعلامة شمس الإسلام أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي القاسمي: (2/380) طبعة دار الحكمة اليمانية.
تنبيهان
1 ـ لقد لاحظنا تلك المسائل المطروحة في هذا البحث، وهي في الواقع نتيجة للتدبُّر والتأمُّل في كلام المصطفى (صلّى الله عليه وآله) المروي عند جميع المسلمين، بصورة غير قابلة للإنكار، وقد أُمرنا بالتدبُّر في كلامه (صلّى الله عليه وآله)، وينبغي للمسلم المنصف أن يتدبَّر ويتأمَّل في جميع ما يسمعه من النصوص الدينية، وأن لا يأخذ دينه من أفواه الرجال فتميل به الرجال من يمين إلى شمال، وقد أمر سبحانه بالتدبُّر في كتابه، حيث قال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}(1). فالتدبُّر في القرآن والحديث والتأمُّل فيهما، إذا كان مصحوباً بالإخلاص، وصدق النية، وعدم العجلة في الحكم، فإنَّه هو الوسيلة الصحيحة لمعرفة الحقيقة.. وهذه المسائل المطروحة في هذا البحث ما هي إلَّا نماذج بسيطة ونتائج قليلة للتدبُّر والتأمُّل في حديث المصطفى (صلّى الله عليه وآله). ولو تدبّر إخواننا من أهل السنة في الأحاديث الواردة في مصادرهم في شأن أهل البيت (عليهم السلام) لاكتشفوا الكثير
____________
(1) النساء: 82.
وقد كنَّا فيما سبق نتَّهم الشيعة بأنّ عقائدهم ليست سوى خرافات لا يمكن للعاقل الإيمان بها، حتّى فتح الله سبحانه لنا بصر الهدى، ورأينا العكس تماماً وعلمنا أنَّ كلَّ ما توصلنا إليه من تصورات عن الشيعة كان إمَّا بسبب العجلة في الحكم، أو عدم التدبُّر الكافي للنصوص، أو بسبب
____________
(1) النساء: 94.
(2) الحجرات: 6.
2 ـ من الواضح أنَّ الإمامة أمر إلهيٌّ؛ لذا ينتظر الجميع للاختيار الإلهي للمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، ولا أحد يستطيع أن يدعي أن لديه الحق في اختياره وتعيينه (عجّل الله فرجه الشريف) وقد قال تعالى في أمر الإمامة بشكل عام: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(1)، فالله سبحانه هو الذي يجعل الإمام ويختاره.
وعليه فنظريّة الشورى، ونظريّة الأربعة عشر شرطاً ـ والتي في الواقع تُعتبر شورى لكن في إطار أضيق ـ تلك النظريتان تهافتتا في مسألة إمامة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)؛ وذلك لأنَّ الله سبحانه لم يجعل الشورى في الأمور الإلهيّة، بل الذي أذن لنا فيه هو التشاور في أمورنا الخاصّة بنا فقط، فقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(2)، فقال: {وأمرهم} ولم يقل وأمرنا شورى بينهم. والإمامة والخلافة هما من
____________
(1) البقرة: 124.
(2) الشورى: 38.
وأوضح من ذلك كلِّه: ما جاء في قصّة طالوت (عليه السلام)، فإنّ فيها عِبَرًا عظيمةً لكلِّ مسلم عاقل، فبنو إسرائيل كانوا على الشريعة الإلهية، وجاءوا إلى نبيٍّ لهم وطلبوا منه أن يعيِّن لهم قائداً ليقاتلوا معه في سبيل الله، فكان جوابه أنْ عيَّن لهم بأمر الله طالوت ملكاً. ولم يقل لهم: يا بني إسرائيل! أنتم الذين اختاركم الله على علم على العالمين، وهذا الأمر يرجع إليكم
____________
(1) ص: 26.
(2) البقرة: 124.
(3) النساء: 75.
فالتدبُّر في هذه الآيات يكفي لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد. أضِفْ إلى ذلك أنَّ الشورى لا تكون في تشريع الأحكام الإلهية، فلا يصحُّ أن يتشاور المسلمون في تشريع الجهاد وعدم تشريعه مثلاً، بل
____________
(1) البقرة: 246, 247.
ولذا ينبغي التدبُّر والتأمُّل في جميع أمور ديننا، والسعي من أجل الوصول إلى الحقِّ، وعدم التعصُّب للآباء والأهواء وغير ذلك.
الأحاديث الشريفة في المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)
لقد ذكرنا في ما سبق مسائل متعلِّقة بموضوع المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، من قبيل أنّه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، ومن قبيل أنّه يصلِّي بعيسى بن مريم (عليه السلام)، ومن قبيل أنّه (عجّل الله فرجه الشريف) من أهل البيت (عليهم السلام)، وغير ذلك..
فهذه المسائل تُعتبر من المسلَّمات بين المسلمين؛ لكثرة ما ورد فيها من الأحاديث من طرق السنّة والشيعة، ولكن ربّما يطّلع على هذا البحث من ليس له اطِّلاع كافٍ على كتب الحديث، ويتصوَّر أنَّ هذه المسائل المذكورة في هذا البحث لم ترد عند أهل السنة، وأنّها ممَّا اختصَّت به الشيعة؛ لذا أردت أن أذكر جزءاً يسيراً ممّا ورد في تلك المسائل من أحاديث وأقوال، خصوصًا من طرق أهل السنة.
ولم أذكر فيما سبق مع كلِّ مسألة ما يدلُّ عليها من الأحاديث والأقوال تجنّباً لتكرار تلك الأدلَّة؛ إذ بعض الأحاديث قد يدلُّ على أكثر من واحدة من تلك المسائل؛ فلذا أفردنا كلَّ تلك الروايات والأقوال في هذا المبحث المرتب كما يلي:
أوَّلاً: بعض ما جاء عند أهل السنة
روى أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: "لا تقوم الساعة حتَّى يملك رجل من أهل بيتي أجلى أقنى، يملأ الأرض عدلاً، كما ملئت قبله ظلماً يكون سبع سنين"(1).
وأورد الهيثمي في "مجمع الزوائد" عن قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: "سيكون من بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثمَّ يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثمَّ يؤمر القحطاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه"(2).
وروى ابن حبَّان في صحيحه عن أبى سعيد قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "لا تقوم الساعة حتَّى يملك رجل من أهل بيتي أقنى يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت قبله ظلماً، يملك سبع سنين"(3).
وروى ابن حبَّان أيضاً عن ابن شهاب أنَّ نافع بن أبي نافع مولى أبي قتادة أخبره أنَّ أبا هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم"(4).
____________
(1) مسند أحمد: (3/17).
(2) مجمع الزوائد للهيثمى: (5/190).
(3) صحيح ابن حبان: (15/238).
(4) المصدر نفسه: (15/213).
وفي "المعجم الأوسط" أيضًا: عن أبي هريرة، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: "كيف بكم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم"(2).
وأخرج البخاري في صحيحه أنَّ أبا هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم"(3).
وأخرج مسلم في صحيحه أنَّ أبا هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم"(4).
وأورد السيوطي في "الجامع الصغير": "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟"(5).
وأورد المتَّقي الهندي في "كنز العمال": "كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم"(6).
____________
(1) المعجم الصغير للطبراني: (2/148).
(2) المعجم الأوسط للطبراني: (9/86).
(3) صحيح البخارى: (4/143).
(4) صحيح مسلم: (1/94).
(5) الجامع الصغير للسيوطي: (2/299).
(6) كنز العمال, المتقي الهندي: (14/332).
وفي "فيض القدير" للمناوي ما نصُّه: "(كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم) أي الخليفة من قريش على ما وجب واطَّرد، أو وإمامكم في الصلاة رجل منكم، كما في مسلم أن يقال له [أي لعيسى (عليه السلام)]: صلِّ بنا، فيقول: لا، إنَّ بعضكم على بعض أُمراء تكرمة لهذه الأمَّة. وقال الطيبي: معنى الحديث أي يؤمُّكم عيسى حال كونكم في دينكم، وصحح المولى التفتازاني أنّه يؤمهم ويقتدي به المهدي لأنّه أفضل فإمامته أولى. وفي رواية ـ بدل إمامكم منكم ـ: ويؤمكم منكم، ومعناه: يحكم بشريعة الإسلام. وهذا استفهام عن حال من يكونون أحياء عند نزول عيسى؛ كيف يكون سرورهم بلقاء هذا النبي الكريم وكيف يكون فخر هذه الأمَّة وعيسى روح الله يصلي وراء إمامهم. وذلك لا يلزم انفصال عيسى من الرسالة؛ لأنَّ جميع الرسل بعثوا بالدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل والنهي عمَّا خالف ذلك من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في
____________
(1) ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي: (3/299).
وذكر ابن جحر العسقلاني في "فتح الباري" ما يلي: "... وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأُمَّة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال أنَّ الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة والله أعلم"(2).
وقال في "الإصابة": "... في صحيح مسلم عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وفيهما عنه: ينزل عيسى بن مريم فيقتل الدجّال. وقال النووي في ترجمته في تهذيب الأسماء: إذا نزل عيسى كان مقرِّراً للشريعة المحمَّدية لا رسولاً إلى هذه الأمَّة، ويصلِّي وراء إمام هذه الأُمَّة تكرمة من الله لها من أجل نبيها. وفي الصحيح: كيف إذا نزل عيسى بن مريم وإمامكم منكم"(3).
____________
(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: (5/74).
(2) فتح الباري لابن حجر: (6/358).
(3) الإصابة لابن حجر: (4/637).