الفصل الثاني : إمامة أهل البيت (عليهم السلام)
الأدلّة التي تشير إلى اتّباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
تعتقد الشيعة أنّ الأرض لا تخلو من الحجّة ، فلذلك أرسل الله رسله إلى الناس أجمعين ليكونوا حجّة لهم وعليهم . وقد أرسل محمّد (صلى الله عليه وآله) إلى كافّة الناس على اختلاف عصرهم ومصرهم ، ولما ذهب الرسول إلى الرفيق الأعلى لم يدع الخلق سدى من غير حجّة بل إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) عند الشيعة له وصي ووارث ، وترك فينا الثقلين لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض ، هما : كتاب الله وعترة أهل بيته الطيّبين الطاهرين ، وأوجب مودّتهم بوصفهم سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ، فقد أوصى أمته بالتمسّك بالكتاب وبالتمسّك بهم .
هذا وقد استدلت الشيعة بالروايات الكثيرة المنتشرة في شتات الكتب تاريخياً كانت أم حديثياً شيعية كانت أم سنيّة ، وكذا استدلوا بالآيات الكثيرة ، وفيما يلى نصّها .
1 . حديث الثقلين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " يا أيها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (1) . وقال أيضاً : " ... يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ... وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي " (2) .
قد صحّح هذا الحديث جماعة من أعلام المحدّثين أمثال مسلم في صحيحه ، والترمذي في جامعه ، والحاكم في المستدرك .
وأمّا من المحدّثين المعاصريين فقد صحّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير .(3)
وللحديث ألفاظ أُخرى ، وطرق متكاثرة ، وأسانيد متظافرة قال السمهودي : " وفي باب عن زيادة على عشرين من الصحابة رضوان الله عليهم " (4) . وقال ابن حجر الهيتمي : " ثمّ اعلم أنّ
____________
1- جامع الترمذي ، دار السلام ، الرياض ، الطبعة الأولى ، محرم 1999، ص 859 . 2- صحيح مسلم ، دار السلام ، الرياض، 1998 ، ص 1061 ح 6225-6227. 3- محمّد ناصرالدين الألباني ، صحيح الجامع الصغير 1 : 482 ، المكتب الإسلامي - بيروت . 4- جواهر العقدين : 234 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة ، وردت عن نيف وعشرين صحابياً ... " (1) . ولذا حكم غير واحد من أهل العلم بتواتره ، منهم الشيخ أبو المنذر (2) ، وأبو الفتوح التليدي(3) ، وغيرهما .
هذا وإن تواتر السند لكن استشكل فيه بعض العلماء أمثال ابن الجوزي وابن تيمية ومن نهج نهجهما من العلماء المعاصرين أمثال الدكتور علي السالوس والدكتور أحمد الجلي ، بل واعتبر أنّ الحديث لم يرد في أمهات الكتب . واعتبر علي السالوس أنّ الحديث ضعيف لا يستدلّ به ؛ لأنّ هذه الروايات من سنن الترمذي يرويها عطية عن أبي سعيد ، والإمام أحمد نفسه تحدّث عن عطية وعن روايته عن أبي سعيد فقال : بأنّه ضعيف الحديث . وقال البخاري في حديث رواه عطية: أحاديث الكوفيين هذه مناكير .
ويلاحظ عليه :
أوّلاً : أنّ الحديث لم يقتصر على السند الذي جاء عن طريق الترمذي كما زعم المعترض ، فلقد رواه مسلم في صحيحه ، والحاكم في المستدرك ، وأحمد في مسنده بطرق كثيرة ،
____________
1- الصواعق المحرقة : 234 ، دار الكتب العلمية ، بيروت . 2- الزهرة العطرة في حديث العترة : 69 - 70 ، دار الفقيه ، مصر . 3- الأنوار الباهرة : 14، دار ابن حزم ، بيروت .
ولا يخفى أنّ رواية مسلم للحديث ولو بطريق واحد كاف لإثبات صحّته ، وقد وثقه ابن سعد وابن معين وسبط بن الجوزي، وأمّا زعم أحمد الجلي بأنّ الحديث لم يرد في أمّهات الكتب فكذب وافتراء على الحقيقة .
هذا ، وبعد متابعة شبهات الجلي ، نجد أنّه اعتمد في قدحه على ابن تيمية المعروف بعدائه لآل بيت النبي (عليهم السلام) . وهكذا ضعّف علي السالوس الحديث المذكور وقال : فليس من المستبعد أن يكون الحديث كوفي النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك . ومن هنا يمكن أن ينسب إلى عشرين من الصحابة ، بل إلى سبعين ، غير أنّه لم يصح عن صحابي واحد ، ولو صحّ عن صحابي واحد لكفى إلا أن يكون ممّن لا يستحق شرف الصحبة .
هذا ، ونتسائل هل علي بن أبي طالب لا يستحق شرف الصحبة ، وكذا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبي ذر الغفاري وزيد بن أرقم وأم سلمة زوجة النبي وغيرهم حتّى يقول السالوس بهذا القول ؟! ومتى يكون ابن تيمية حجة على المسلمين ؟! بل وحتّى ابن تيمية نفسه عندما عجز عن تضعيف الحديث من جهة السند ، عمد إلى أسلوب آخر يعبّر عن سوء فهمه وكثرة وهمه وخلطه فيقول : " إنّ الحديث يدلّ على أنّ الذي أُمرنا بالتمسّك به وجُعل المتمسّك به
لا يضل هو كتاب الله " (1) .
لكنه غفل أنّ للحديث ألفاظاً أُخرى صريحة المعنى والدلالة ، ولا يفهم منها أنّه يشير إلى وجوب التمسك بالكتاب فقط دون العترة كما زعم ابن تيمية ، ولم يقف على هذا الحدّ فقال في حديث العترة : " إنّه من رواية الترمذي ، وقد سئل عنه أحمد فضعّفه ، وضعّفه غير واحد من أهل العلم ، وقالوا : إنّه لا يصحّ " .
ويُفهم من كلامه أنّ الحديث لم يروه إلا الترمذي ، وقد سبق الذكر أنّه رواه غير واحد من أعلام السنة وحفّاظهم ، وقال الترمذي نفسه : هذا حديث حسن غريب .
ثانياً : ذكر علي السالوس أنّ الحديث جاء عن طريق عطية بن سعد بن جنادة وهو الكوفي الذي قال البخاري ناسباً ذلك إلى أحمد: " إنّ أحاديث الكوفيين هذه مناكير " .
ولنا وقفة مع هذه العبارة :
إنّ مجرّد تضعيف عطية لا يضعّف حديث الثقلين ، حيث أنّ الحديث جاء عن طريق غيره .
____________
1- أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم ، منهاج السنة النبوية، تحقيق : الدكتور محمّد رشاد سالم ، الطبعة الأولى 1986 ، ج 7 ص394 .
وأمّا القول بأنّ أحاديث الكوفيين هذه مناكير فنسبة ذلك إلى أحمد نسبة كاذبة ؛ لأنّ أحمد يروي هذا الحديث في مسنده ، وفي كتاب فضائل الصحابة ، بأسانيد كثيرة عدّة من الصحابة ، وأين قال أحمد هذا ؟ ومتى قال ؟
وأمّا دعوى : أنّ هذا الحديث منكر فصحيح ، إنّه منكر عند البخاري ؛ لأنّه يدل على إمامة أهل البيت عن طريق الأفضلية والأعلمية وغير ذلك من الجهات ، ثمّ لماذا يروي البخاري نفسه عن الكوفيين في صحيحه ؟!
إذن حديث الثقلين صحيح بشهادة أعلام الأمّة من المحدّثين وحفّاظهم ، فلا يجرء على طعنه إلا ذو قلب مريض امتلأ بغضاً وغيظاً على أهل البيت (عليهم السلام) , وبغرض تضليل الأمّة بكلام مشبوه كالقول : " بإنّ الحديث لم يرد في أمّهات الكتب " ، فهل صحيح مسلم وجامع الترمذي وغيرهما من الكتب من سوقة الكتب التي يتناولها الهمج الرعاع ؟!
هذا ، ولم نجد جواباً كافياً وشافياً ممن يطعن هذا الحديث إلا وكعادته يخبط خبط العشواء في الردّ مما يزيد الطين بلّة .
وأمّأ ناصر الدين الألباني فعندما أثبت صحّته اعتمد أُسلوباً آخر في تمويه دلالة الحديث فقال : " إنّ المراد من الحديث في قوله " عترتي " أكثر مما يريده الشيعة ..." إلى أن قال : " وأهل
بيته في الأصل هم نساؤه وفيهنّ الصدّيقة عائشة رضي الله عنهن جميعاً " ، ثمّ أورد قوله تعالى من سورة الأحزاب 33 ، إلى أن قال : " وتخصيص الشيعة ( أهل البيت ) في الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم دون نسائه من تحريفهم لآيات الله تعالى " (1) .
أقول : الشيعة قالوا باختصاص عنوان أهل البيت (عليهم السلام) بعلي وفاطمة وذرّيتهما استناداً إلى الروايات الصحيحة الكثيرة ، كحديث الكساء وغيره ، كما سيتبيّن تحت عنوان تحديد هوية أهل البيت .
تحديد هوية أهل البيت (عليهم السلام)
بعد أن ثبت صحّة حديث الثقلين الدالّ على وجوب إتّباع عترة رسول لله (صلى الله عليه وآله) ، لاحت التساؤلات حول شخصية أهل البيت الذين وصفهم الرسول بسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق .
أليس أزواجه من أهل بيته كما يزعم الألباني ؟ أم أنّ هذا العنوان مختص بعلي وفاطمة وذرّيتهما كما هو اعتقاد الشيعة في أهل البيت (عليهم السلام) .
____________
1- محمّد ناصر الدين الألباني ، سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 359 .
فنقول : نقل ابن منظور في لسان العرب : " أنّ عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولد فاطمة رضي الله عنها ، هذا قول ابن سيدة ، وقال الأزهري وفي حديث زيد بن ثابت قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ويذكر حديث الثقلين ، فجعل العترة أهل البيت ، وقال ابن الأثير : عترة الرجل أخص أقاربه . وقال ابن الأعرابي : العترة ولد الرجل وذرّيته وعقبه من صلبه ، قال : فعترة النبي ولد فاطمة البتول (عليها السلام) " (1) .
هذا ، ولبيان الأمر بصورة أوضع لئلا يدع مجالاً للشك نستدلّ بالروايات الآتية :
أ. أهل البيت في آية التطهير
أخرج مسلم في صحيحه بسنده إلى عائشة ، قالت : " خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثمّ جاء ثمّ الحسين فدخل معه ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء علي فأدخله ، ثمّ قال " إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " (2) .
____________
1- ابن منظور جمال الدين محمّد مكرم الأنصاري ، لسان العرب ، الدار المصرية للتأليف والترجمة ، ج 6 ص 212 . 2- صحيح مسلم ، باب فضائل أهل البيت ، مطبعة دار السلام ، الرياض ، ص 1067 .
وأخرج الترمذي في سننه عن عمر بن أبي سلمة قال : " إنّما نزلت هذه الآية على النبي { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً } في بيت أم سلمة ، فدعا النبي فاطمة وحسناً وحسيناً فجلّلهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلّله بكساء ، ثمّ قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً " قالت أم سلمة : " وأنا معهم يا رسول الله ؟ قال : " أنت على مكانك وأنت على خير " " (1) .
فاتّضح من هذه الروايات أنّ المراد من أهل البيت ليس مطلق الأقارب ، وإنّما أخصّ أقاربه ، ولذلك عندما سئل زيد بن أرقم في رواية مسلم أنّه من أهل بيته نساؤه ؟ قال : لا وأيم الله إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، وأهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (2) .
أكتفي بهذه الروايات في إثبات أنّ أهل البيت هم أصحاب الكساء ، فيكونون بذلك ثقل القرآن الذي أمرنا رسول الله في حديث الثقلين بالتمسّك بهم .
____________
1- جامع الترمذي ، باب مناقب أهل البيت ، ص 859 وباب فضائل فاطمة ، ص 874 . 2- صحيح مسلم ، ص 1061 ح 6228 .
وعليه فإنّ قول الألباني بأنّ العترة هم في الأصل نساؤه وفيهنّ الصدّيقة عائشة مرفوض لغةً وشرعاً ؛ بشهادة عائشة نفسها حيث قالت - كما ورد في صحيح البخاري - : " ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أنّ الله أنزل عذري " ، وهو صريح في نفي دخولهن في آية التطهير .
ويؤكّد ذلك : عدم ادّعاء واحدة من نساء النبي هذه المزيّة والمنقبة ، حتّى عائشة في قتالها مع الإمام علي لم تدع ذلك مع حاجتها إلى مثلها لو كانت ، وهذا بخلاف أهل البيت فهذا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال : " إن الله قد فضّلنا أهل البيت بمنّة حيث يقول : { إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً } ... .
وقال الحسن بن أمير المؤمنين (عليه السلام) لعمرو بن العاص : " فإياّك عنيّ فإنّك رجس نحن أهل بيت الطهارة أذهب الله عنا الرجس وطهّرنا تطهيراً " (1) .
وشهد بذلك الأصمعي(2) عندما قال للإمام السجّاد (عليه السلام) :
____________
1- بحار الأنوار 44 : 103 . 2- هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمعي الباهلي ، أحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان كان كثير الطواف في البوادي ، يقتبس علومها ويتلقى أخبارها ، ولد بالبصرة عام 122 هـ وفيها توفي عام 216 هـ
سيدي ما هذا البكاء والجزع وأنت من أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ، أليس الله تعالى قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً } (1) .
وصحّح مفسّر أهل السنّة الإمام فخر الرازي حديث الكساء ، ودعم موقف الشيعة في تفسيره ، فقال : " إنّ هذه الرواية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التفسير والحديث " .(2)
وبهذا اتّضح أنّ الآية مختصة بالخمسة أصحاب الكساء ، وهم نبيّنا محمّد ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين (عليهم السلام) .
وقد قال بهذا جمع من علماء أهل السنّة ، منهم : القرطبي ، والطحاوي ، وابن عساكر ، وغيرهم .
ب . أهل البيت في آية المباهلة
نقل لنا التاريخ أنّه عندما جادل رسول الله علماء نصارى نجران بالتي هي أحسن ، ولم يجد منهم إلا الكفر والجحود والعصيان ، فلم يعد هناك سبيل سوى الابتهال ، وهو أن يدعو كلّ واحد منهم بما عنده ، ويجعلوا لعنة الله على
____________
1- ملحقات إحقاق الحق 12 : 39 . 2- محمّد الرازي ، فخر الدين ضياء الدين عمر ، تفسير الفخر الرازي ، دار الفكر ، بيروت ، ج 8 ص 90 .
الكاذبين ، فحينها جاء الأمر الإلهي : { فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } (1) . فاستجاب القساوسة دعوة النبي فجمعوا خواصّهم لهذه المعركة .
وعندما جاء الموعد ، واحتشدت الجماهير ، وتقدّم النصارى وباعتقادهم أنّ الرسول سوف يخرج إليهم بجمع من أصحابه ونسائه ، ولكن خاب ظنّهم إذ إنّه تقدّم بخطوات ثابتة مع كوكبة صغيرة من أهل بيته ، الحسن في يمينه والحسين في شماله وعلي وفاطمة خلفه . وعندما رأى النصارى هذه الوجوه المشرقة ، ارتعشوا خوفاً ، فالتفّوا جميعاً إلى الأسقف زعيمهم ، ثمّ قالوا : " يا أبا حارثة ، ماذا ترى في الأمر ؟ فأجابهم الأسقف : " أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل الجبل من مكانه لأزاله " . وحين ذلك قرروا التراجع وترك المباهلة ، ورضوا بالذلّ ودفع الجزية ، فبهؤلاء الخمسة هزم رسول الله النصارى وردّهم صاغرين (2) .
____________
1- سورة آل عمران 61 . 2- معتصم سيد أحمد, الحقيقة الضائعة ، ص 103 .
والأخبار في ذلك متواترة، وفيها صحيح الصريح في ذلك .
قال الحاكم : " وقد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد الله ابن عباس وغيره ، أنّ رسول الله أخذ يوم المباهلة بيد علي وحسن وحسين وجعلوا فاطمة وراءهم ... " ونفى الحصّاص الخلاف في ذلك .
وصحّح ابن تيمية هذه الرواية ولكنه عندما عجز عن تضعيف الحديث من جهة السند ، التجأ كعادته إلى طريق آخر في تحريف وتزييف معنى الروايات المتعلّقة بفضل أهل البيت ، فقال في " اللهم هؤلاء أهلي " : لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية (1) .
وسلك بعد ذلك أحمد جلي نهجه في تمويه معنى الحديث فقال : " إنّ الحديث لا يقتضي المساواة بينه وبين الرسول كما زعمت الشيعة ، فليس هناك أحد يساوي الرسول صلوات الله عليه وسلم في القدر والمنزلة ، إلى قوله ، إذ إنّ النبي دعا علياً وفاطمة وابنيهما ، ولم يكن ذلك ؛ لأنّهم أفضل الأمّة " (2) .
أقول : مما لا ريب فيه أنّ الآية نوهّت بعظم الفضل للأربعة
____________
1- ابن تيمية ، منهاج السنة النبوية ، ج 7 ص 123 . 2- أحمد محمّد جلي ، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين ، ص 130 .
أصحاب الكساء (عليهم السلام) ، بما ميّزهم عن سائر المسلمين ؛ ولذلك اختارهم النبي (صلى الله عليه وآله) من بين أمّته ، وبأمر من الله تعالى ؛ ليباهل بهم النصارى .
فحقّ للزمخشري أن يقول: " وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليهم السلام) " .
وهذه الآية دليل على ثبوت الإمامة لعلي ؛ لأنّه تعالى قد جعله نفس رسول الله ، والاتحاد محال ، فيبقى المراد بالمساواة الولاية . وأيضاً لو كان غيره هؤلاء مساوياً لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه ؛ لأنّه في موضع الحاجة ، وإذا كانوا هم الأفضل تعيّنت الإمامة فيهم .
الصلة بين الشيعة وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)
إنّ الكلام عن الصلة بين الشيعة وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) لمما يجب عرضه بصورة مستفيضة وبكلّ احتياط مع إحضار كلّ الوثائق المتعلّقة بها ، ومن ثمّ تحليلها واستنتاجها حتّى ينكشف لنا كنهه وحقيقته لكي نعرف الفرقة المتمسّكة بحديث العترة ، فهل هي الشيعة كما هي تعتقد ، أم أنّهم انحرفوا عن تعاليم الأئمّة كما يدّعى ابن تيمية .
هذا ، وقبل الخوض في الكلام عن انتساب الشيعة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، حري بنا معرفة قول ابن تيمية في الشيعة فإنّه رفض
انتساب الشيعة إلى أهل البيت فقال : لانسلّم أنّ الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت ، لا اثنا عشرية ولا غيرهم ، بل هم مخالفون لعلي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت في جميع أصولهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة (1) .
أمّا الشيعة فيعتقدون أنّهم أسندوا أصول الدين وفروعه إلى العترة الطاهرة ، فرأيهم ليس إلا تبعاً لرأي أئمتهم ، وأنّهم تقدّموا على من سواهم في تدوين العلوم منذ عصر الإمام علي (عليه السلام) ، والتاريخ خير دليل على كراهية بعض الصحابة في كتابة العلم وتدوين الحديث خوفاّ من أن يختلط بالقرآن.
وفي هذه القضية يرى عبد الحسين شرف الدين الموسوي أنّ أوّل شيء دوّنه أمير المؤمنين كتاب الله عزّوجلّ ، فإنّه بعد فراغه من تجهيز النبي آلى على نفسه أن لا يخرج إلا للصلاة ، فجمع القرآن مرتّباً على حسب النزول ، وأشار إلى عامّه وخاصّه ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، ونبّه على أسباب النزول ، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات ، وكان ابن سيرين يقول : " لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم " (2) .
____________
1- ابن تيمية ، منهاج السنة ، ج 4 ص 16 . 2- عبد الحسين شرف الدين الموسوي ، المراجعات ، المراجعة رقم 110 .
فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده من حديث علي عن طارق بن شهاب قال : شهدت علياً وهو يقول على المنبر : والله ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلا كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة ، معلّقة بسيفه ، أخذتها من رسول الله ، فيها فرائض الصدقة معلّقة بسيف له حليته حديد (1) .
واقتدى بأمير المؤمنين ثلّة من شيعته فألّفوا على عهده ، منهم : سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري ، فيما ذكره ابن شهرآشوب .
فاعتقادهم أنّهم في الأصول والفروع على ماكان عليه الأئمة من آل الرسول (صلى الله عليه وآله) لمما يسنده البرهان القاطع ، فقد بذل علماؤهم الوسع والطاقة في تدوين كلّ ما اقتبسوه منهم حفظاً للعلم الذي جاء - عندهم - من عند الله ، ومما اشتهر من الكُتب هو الأصول الأربعمائة ، وهي أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف من فتاوى الصادق جُمع على عهده . وقد رتّبها جماعة من أعلامهم في كتب خاصة تسهيلاً للطالب وتقريباً للمتناول ، وأحسنها الكتب الأربعة ، وهي : الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه ، وهي مرجع الشيعة في أصولهم
____________
1- رواه أحمد في مسند الإمام علي ص 105 ح 781 ، 782 ، 798 ، 974 ، 962 .
وفروعهم إلى هذا الزمان (1) .
هذا مما امتاز به الشيعة على غيرهم من المذاهب الإسلامية الأُخرى ، وأمّا الأئمة الأربعة فليس لهم عند أحد من الناس منزلة أئمة أهل البيت عند شيعتهم ، بل لم يكونوا أيام حياتهم بالمنزلة التي تبوؤها بعد وفاتهم ، كما صرّخ به ابن خلدون ، ونحن مع ذلك لا نرتاب في أنّ مذاهبهم إنّما هي مذاهب أتباعهم ؛ لأنّ أتباعهم أعرف بمذاهبهم ، كما أنّ الشيعة أعرف بمذهب أئمتهم ، بالإضافة إلى أنّ الشيعة من أوّل نشأتها لا تبيح الرجوع في الدين إلى غير أئمتها ، فلذلك انقطعوا في أخذ معالم الدين إليهم فقهاً وعقيدة ، وبذلك سمّي مذهبهم بمذهب أهل البيت .
وبهذا فإنّ زعم ابن تيمية في أنّ الشيعة انحرفوا بعيداً عن أهل البيت ليس إلا محاولة تشويه الحقيقة ، وهذا ليس بغريب عند من أمعن النظر في تهجّمه على مذهب أهل البيت ، فإنّه يخبط خبط العشواء تارة بتضعيف الحديث الذي ثبتت صحّته عن طريق الثقات ، وتارة يصرفه إلى غير معناه ، وغير ذلك .
سبب التسمية بـ"مذهب الجعفرية"
قد ذكرنا في ما سبق أنّ الشيعة أخذوا معالم الدين من أئمة
____________
1- محمّد جواد مغنية ، الشيعة في الميزان ، ص 463 .
أهل البيت الاثني عشر ؛ ولهذا اشتهر مذهبهم بهذا الإسم " مذهب أهل البيت " . وهناك اسم آخر اشتهر به هذا المذهب ألا وهو لفظ "الجعفرية" .
وقبل البحث عن سبب التسمية حريّ بنا معرفة استدلال الشيعة على إمامة الأئمّة الاثني عشر .
روى مسلم من عدّة طرق أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قال : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ، ثمّ قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : كلّهم من قريش (1) .
وأفضل قريش بنو هاشم ، كما رواه مسلم في كتاب الفضائل أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال : إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم (2) .
فلو جمع هذا الحديث وحديث الثقلين ، ثمّ عطف بعضها على البعض ، جاءت النتيجة أنّ الخلافة في أهل بيته (صلى الله عليه وآله) وهم علي وبنوه .
وأمّا علماء أهل السنّة ففي حيرة من أمرهم ، فهم إن قالوا هم
____________
1- صحيح مسلم ، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش ، ص 816 . 2- صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب فضل نسب النبي ، ص 1008 .
الخلفاء الأربعة لم يبلغ العدد اثني عشر ، وإن أدخلوا فيهم الخلفاء الأمويين أو العباسيين تعدّوا العدد المفترض ، فتفسير الشيعة المذكور بالأئمة الاثني عشر من أهل بيته لهو أقرب إلى المنطق والعقل السليم ، وبهذا اشتهر مذهب الشيعة بالإمامية الاثني عشرية .
وأمّا التسمية بـ" الجعفرية " فيرجع إلى أنّ آثار الإمام الصادق (عليه السلام) فيه أكثر من غيره ، وظهرت في كلّ كتاب من كتب الفقه والحديث للشيعة . وقد اعتنى الشيخ أبو جعفر الطوسي بعدد الرواة والأصحاب الذين بلغوا أكثر من ثلاثة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز والشام وخراسان ، وقد جُمِعَ فتاواه في أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف ، وأننا نجد الرواة في عهد الصادق أكثر بكثير من الرواة في عصر سلفه أو خلفه ، وهذا ليس بغريب ؛ لأنّ الظروف التي تهيّأت له لم تتهيّأ لغيره .
وينقل لنا التاريخ أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) عاش في انقراض الدولة الأموية ومستهلّ قيام الدولة العباسية ، ويذكر لنا كيف كانت كلتا الدولتان تمارس الضغوط على الشيعة ، وكبت حرّيتهم ، وعدم السماح لهم ببيان عقائدهم الحقّة ؛ كي يُعرف
التشيّع من أفواه أوليائه لا من مخاريق أعدائه .
نعم ، هبّ على الشيعة نسيم من الحريّة في فترات وجيزة لم تكن كافية لتحقيق هذا الهدف ، وذلك في عصر الصادق (عليه السلام) حين بدأ الضعف يدبّ في جسم الدولة الأموية ، واشتعلت فيها الفتن ، فاشتغل خصومهم في هذه الظروف ، فأعلنوا الثورة باسم التشيّع لعلي وأهل بيته تضليلاً للرأي العام الإسلامي الذي كان يحترق لما حلّ بأهل البيت من كوارث ، والذي اقتطف ثمارها العباسيون .
ويجدر الإشارة إلى أنّ الفقه الجعفري ليس هو في الحقيقة من رأي الإمام الصادق ، وإنّما مجموعة من العلوم المقتبسة من الأئمة الطاهرين المتصلة بعلوم جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمتّصل هو بدوره بالوحي .
وهذا ما هو إلا نزر يسير من بين الأدلّة الكثيرة المختلفة والمنتشرة في شتات الكتب الإسلامية مما يشير إلى وجوب اتّباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) . إضافة إلى أنّ الحقائق التاريخية تفيد على أنّ أهل القرون قبل ظهور المذاهب السنية لم يعتنقوا بشيء من تلك المذاهب أصلاً .
وأمّا الشيعة فيعتنقون مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وغير الشيعة
يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة والتابعين ، فلا يوجد أيّ مبرّر يوجب التعبّد بالمذاهب الأربعة دون غيرها من المذاهب التي كان معمولاً بها من ذي قبل .
وإن كان اتّباعهم على أساس أنّهم " أهل السنّة والجماعة " ، وهي الفرقة الوحيدة الناجية كما أخبر الرسول بذلك في حديث افتراق الأمّة ، فلماذا افترقوا إلى عدّة مذاهب ؟! وبدّع بعضهم بعضاً حتّى وصل الأمر إلى حدّ التكفير وإهدار الدماء حتّى قيل أنّ الشيخ أبا حسن الأشعري المعروف بشيخ أهل السنّة من أهل البدعة والضلال .
الباب الثالث
مصدر التشريع الإسلامي
الفصل الأول : القرآن
تعريف القرآن
القرآن في الأصل مصدر من قرأ يقرأ قراءة وقرآناً ، معناه في اللغة الجمع والضم .
وقد خصّ اسم القرآن بالكتاب المنزل على محمّد (صلى الله عليه وآله) حتّى صار له كالعَلَمِ ، كما أنّ التوراة أنزلت على موسى ، والإنجيل على عيسى ، والزبور على داود (عليهم السلام) .
وأمّا سرّ تسمية هذا الكتاب قرآنا بمعنى الجمع والضم ، فيرى بعض العلماء أنّه جامع لثمرة الكتب السابقة ، بل وأنّه جامع لثمرة جميع العلوم لقوله تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء }(1) .
____________
1- النحل 89 .
والقرآن - كما هو المعروف - في اصطلاح الجميع هو كلام الله المنزل على محمّد (صلى الله عليه وآله) بواسطة جبريل ، والمنقول إلينا بالتواتر ، المتعبّد بتلاوته ، المبدوء بسورة الفاتحة والمختتم بسورة الناس (1) .
وللقرآن الكريم أسماء عديدة ، كلّها تدلّ على رفعة شأنه ، وعلوّ مكانته ، وأنّه أشرف كتاب سماوي على الإطلاق ، فيسمّى أيضاً بـ :
الفرقان ، جاء في قوله تعالى { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً } (2) .
الذكر ، جاء في قوله تعالى { إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون}(3) .
الكتاب ، جاء في قوله تعالى { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم }(4) .
التنزيل ، جاء في قوله تعالى { وإنه لتنـزيل رب العالمين}(5).
____________
1- مناع القطان ، مباحث في علوم القرآن ، مؤسسة الرسالة ، ص 21 . أيضاً علي الصابوني، التبيان في علوم القرآن ، عالم الكتب ، بيروت ، ص 8 . 2- الفرقان 1 . 3- الحجر 9 . 4- الأنبياء 10 . 5- الشعراء 192 .
وبالعناية البالغة التي قام بها الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار والصحابة الكرام بقي القرآن محفوظاً من أيّ تحريف أو تبديل إنجازاً لوعد الله تعالى الذي وعد بحفظه حيث قال تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ومع كلّ هذا ظهرت دعوى التحريف لوجود الروايات المتعلّقة بجمع القرآن وغيره و التي أصبحت هي سلاحاً لمن يطعن في أصالته .
وعليه فيهمّنا البحث عن موضوع جمع القرآن بتحليل الروايات المتعلّقة به محاولةً للحفظ على أصالة القرآن من أيّ دعوى للتحريف أو التبديل .
جمع القرآن
ذهب العلماء فيما يراد بجمع القرآن إلى معنيين :
المعنى الأوّل : الجمع بمعنى " الحفظ "(1) ، وجمع القرآن بمعنى حفظ القرآن ، وجمّاع القرآن هم حفّاظه . وممّا لا خلاف فيه أنّ حفّاظ القرآن كانوا على كثرة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) .
هذا المعنى هو الذي ورد في قوله تعالى { لا تحرّك به لسانك لتعجل به إنّا علينا جمعه وقرآنه & فإذا قرأناه فاتبع قرآنه &
____________
1- مناع القطان ، مباحث في علوم القرآن ، ص 118 .
ثم إنّ علينا بيانه }(1) . قال الطبرسي : وفي رواية سعيد بن جبير عنه ] ابن عباس [ أنّه (صلى الله عليه وآله) كان يعاجل من التنـزيل شدّة وكان يشتدّ عليه حفظه فكان يحرّك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي فقال سبحانه { لا تحرّك به } أي : بالوحي أو القرآن { لسانك } يعني بالقراءة { لتعجل به } ، أي : لتأخذه : { إنّ علينا جمعه } في صدرك حتى تحفظه (2) .
المعنى الثاني : جمع القرآن بمعنى كتابته في مصحف واحد . وإذا أريد بالجمع هذا المعنى ، أي : جمع القرآن كلّه بين دفّتي مصحف واحد ، فاختلف العلماء فيه إلى قولين :
القول الأوّل : إنّ القرآن قد اكتمل جمعه في مصحف واحد منذ عصر النبي (صلى الله عليه وآله) ، وأنّ نفراً من الصحابة ، وهم : علي بن أبي طالب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود قد جمعوا القرآن كلّه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
القول الثاني : إنّ القرآن لم يجمع في مصحف واحد في عهده (صلى الله عليه وآله) وإنّما بعد وفاته .
____________
1- القيامة 16-19 . 2- أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، مجمع البيان ، ج 10 ص 175 .
هذا ، وليتّضح الأمر لنا للترجيح بين القولين نذكر بعض الروايات المتعلّقة بجمع القرآن ، ثمّ نحللها لنصل لقول الحق .
الأولى : عن ابن شهاب عن عبيد بن السباق أنّ زيد بن الثابث رضي الله عنه قال : أرسل إليّ أبو بكر ، مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده ، قال أبو بكر رضي الله عنه : إن ّعمر أتاني فقال : إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن ، وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن . قلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال عمر : هذا والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ، قال زيد : قال أبو بكر : إنّك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فتتبع القرآن فاجمعه ، فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن . قلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله ؟ قال : هو والله خير ، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتّى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم } حتّى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى
توفّاه الله ، ثمّ عند عمر ، ثمّ عند حفصة بنت عمر (1) .
الثانية : عن ابن شهاب أنّ أنس بن مالك حدثه أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة . فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك الأمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالمصحف ننسخها في المصاحف ، ثمّ نردّها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن زبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنّما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتّى إذا نسخوا المصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، فأرسل إلى كلّ أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق . قال ابن شهاب : وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال : فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا الصحف ، قد كنت أسمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت
____________
1- صحيح البخاري ، باب جمع القرآن ص 98 دار الفكر ، بيروت 1401 .
الأنصاري { من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه } فألحقناها في سورتها في المصحف (1) .
الثالثة : عن قتادة قال : سألت أنس بن مالك رضي الله عنه من جمع القرآن على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ؟ قال : أربعة كلّهم من الأنصار: أُبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (2) .
الرابعة : عن مسروق ذكر عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود ، فقال : لا أزال أحبه ، سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأُبي ابن كعب (3) .
وما هذا إلا نزر قليل من بين الروايات الكثيرة المتعلّقة بجمع القرآن .
ومع قليل من التعمّق في الروايات السابقة نجد التعارض بين هذه الروايات. فقد دلّت الأولى على أنّ الجمع كان بعد وفاة النبي وفي زمان أبي بكر ، وأمّا الثانية فأشارت على أنه كان في عهد عثمان لوجود الاختلاف في القراءة .
وهناك رواية أُخرى في كنز العمال تدلّ على أنّ جمع القرآن
____________
1- صحيح البخاري ، ص 99 2- صحيح البخاري ، باب القرّاء من أصحاب النبي ، ج 6 ص 103 . 3- صحيح البخاري ، ص 109 .
كان في زمان عمر بن الخطاب (1) . وعليه فيكون الجمع في ثلاثة عهود ، في عهد أبي بكر وعمر وعثمان .
وإذا لاحظنا قول زيد بن ثابت في الرواية الثانية " فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف ... فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت " ، ثمّ لاحظنا الرواية الأولى وغيرها من الروايات التي ظاهرها ، بل صريحها أنّه لم يبق شيء من الآيات لم يدوّن ، فيكون حينئذٍ المصحف الذي جمع في عهد أبي بكر فيه نقصان لعدم وجود آية من سورة الأحزاب ، وما هذا إلا تناقض صريح .
وإذا لاحظنا الرواية الثالثة والرابعة يتّضح أنّ الجمع كان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) . ولعلّ قائلاً يقول : إنّ المراد من " الجمع " هنا هو الجمع في الصدور لا في السطور ، وهذا الزعم لا شاهد عليه ، مضافاً إلى أنّه يناقض رواية النسائي عن عبد الله بن عمر حيث قال : " جمعت القرآن فقرأت به في كلّ ليلة ، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقال لي : إقرأ به في كلّ شهر " (2) .
مضافاً إلى أنّ الحقائق التاريخية تدلّنا على منافسة الصحابة في
____________
1- كنز العمال ، باب جمع القرآن ، ج 2 ص 578 ، حديث 4767 . 2- السنن الكبرى 5 : 24 حديث 8064 ، ط دار الكتب العلمية، بيروت .
حفظ القرآن وكانوا الحافظين للقرآن أكثر من أن يحصون ، فكيف يمكن حصرهم في هؤلاء الأربعة أو الستّة دون غيرهم ؟! وحتّى لو أخذنا بالرواية الأولى مثلاً ، فلماذا دعا أبو بكر زيداً فقط لجمعه من العسب واللخاف ، ولم يدع أُبي وعبد الله ومعاذ ، وهم على قيد الحياة عند الجمع ؟!
وبجانب تعارض الروايات بعضها مع بعض ، أيضاً تتعارض أحاديث الجمع مع ما جاء في الآيات القرآنية ، فقد تحدّى الرسول (صلى الله عليه وآله) المشركين وأهل الكتاب على أن يأتوا بعشر سور مثله ، بل بسورة من مثله ، وهذا التحدّي دالّ على أنّ القرآن قد انتشر بين الناس بمن فيهم المشركين .
والقرآن سمي أيضاً بالكتاب ، وهذه التسمية دليل على أنّ القرآن مدوّن بين دفّتين في مصحف واحد ؛ لأنّ الحفظ في الصدور أو الكتابة في الأكتاف والرقاع لا تسمّى كتاباً .
كما أنّ أحاديث الجمع تتعارض مع إجماع المسلمين ، فمن المجمع عليه عند المسلمين قاطبة أنهّ القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر ، في حين أنّ طريقة إثباته في الروايات المذكورة منحصر بشهادة شاهدين ، أو بشهادة رجل واحد إذا كانت تعدل شهادتين ، وعلى هذا فاللازم أن يثبت القرآن بالخبر الواحد أيضاً ، وهل يمكن لمسلم أن يلتزم بذلك ؟! وإذا كان الأمر
كذلك فلا حرج للمسلم في رفض هذه الأحاديث إذ لا يمكن قبول إثبات القرآن بشهادة شاهدين في حين أجمع المسلمون قاطبة أن لا طريق لإثباته إلا بالتواتر .
وخلاصة ما تقدّم ذكره ، أنّ إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) لا يقوم عليه دليل قطعي ، ومناقض للقرآن والسنة وإجماع الأمّة . إذن ثبت أنّه جمع منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وبهذا لا سبيل لطعن أصالة القرآن ؛ إذ إنّه قد جمع في عصر النبي ، ووصل إلينا بالتواتر القطعي .
هذا كلّه مضافاً إلى حكم العقل برفض أن يدع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوحي منتشر ومتشتّت في عدّة صحف ورقاع مما يجعله في طريق التحريف .
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لا يسمّى الصحف والرقاع والأكتاف كتاباً ، بل الكتاب هو ما بين دفّتي مصحف واحد .
وعلى هذا رأى السيد المرتضى : " إنّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن " (1) .
وأمّا ما فعله عثمان ليس إلا توحيد الأمّة على قراءة واحدة من بين القراءات السبعة وهي القراءة التي كانت متعارفة بين
____________
1- مجمع البيان 1 : 43 .
المسلمين ، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله) للحيلولة دون وقوع النزاع بين المسلمين.
فهو اليوم في أيدينا كما أنزل على نبينا محمّد (صلى الله عليه وآله) ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وليس فيه تحريف ولا تبديل ولا تغيير ، هذا هو اعتقاد المسلمين أجمع بما فيهم الشيعة . ونسبة تحريف القرآن إلى الشيعة افتراءٌ عليهم . فقد صرّح علماؤهم بأنّ القرآن هو ما في أيدي الناس لا غير . وعليه فنأسف حقاً على حدّة الحملة على الشيعة ، وإخراجهم من حظيرة الإسلام بدعوى تحريف القرآن بدون أيّ دليل لإثبات الدعوى .
وعلى هذا أرى أهمية بحث تحريف القرآن بصورة مستفيضة ، ومن ثمّ معرفة آراء علماء الشيعة في القرآن لنرى صحّة أو خطأ ما نسب إليهم .
تحريف القرآن
لقد وعد الله أن يحفظ القرآن من أيّ تحريفات أو تبديلات ، وهذا ضمان صريح على أصالة القرآن إلى يومنا هذا ، وأنّه اليوم على هيئة ما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؛ فلذلك لا سبيل إلى طعنه والشك فيه ؛ لأنّ الشك في القرآن هو الشك في نبوة محمّد ، ومعاذ الله أن نكون ممن يرتاب في نبوّته .
ومع وجود هذا الضمان من الله تعالى انتاب جماعة من المسلمين الغرور بقول تحريف القرآن ، ولا يثق بضمان الله تعالى ، والعجب العجاب أن ينسب هذا التحريف إلى إخوانهم الشيعة من غير أن يسمعوا قول الشيعة في نفي التحريف عن القرآن .
فقد ذهب البعض ضمن سلسلة ردّه للشيعة قائلاً : "إنّ القرآن المتداول بين أيدي الناس اليوم عند الشيعة محرّف زيد فيه ونقص منه الكثير ، وأنّ القرآن الأصلي بيد قائمهم محمّد الحسن العسكري الذي سيأتي به عند خروجه إذا حان وقته ، فيرفع هذا القرآن المتداول بين الناس " . واعتبر أنّ قراءة الشيعة للقرآن المتداول اليوم والعمل بأحكامه جبراً وتقية .
وأما أبو حامد المقدسي في كتابه الردّ على الرافضة فيقول : " ومن مكائد الشيعة أنّهم لا يعتقدون بأنّ القرآن الكريم الموجود بأيدي الناس بعد تمامه ما أنزل الله على محمّد ، بل يظنون أنّه محرّف " .
فقد ردّ هذا القول علماء الشيعة - قديماً وحديثاً - وأنكروا وقوع التحريف .
هذا ، ومن يتّهم الشيعة بالتحريف فإنّ مصادره الأساسية مليئة بالروايات التي تدلّ على وقوع التحريف في القرآن ، فهذا
صحيح البخاري ومسلم نقلا أنه قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ الله قد بعث محمّداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله عليه آية الرجم ، قرأناها ووعيناها وعقلناها ، فرجم رسول الله ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله ، وأنّ الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف (1) .
وروى مسلم أيضاً أنّ أبو موسى الأشعري بعث إلى قرّاء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنّا كنّا نقرأ سورة ، كنّا نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي قد حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، وكنّا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها غير أنّي قد حفظت منها : يا أيها
____________
1- صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفس بالزنى ، ص 749 .
الذين آمنوا لم تقولون ما لا تعملون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة (1) .
وغيرها من الروايات فهي كثيرة .
الشيعة والقرآن
ذهب السيد هاشم معروف الحسني أنّ الشيعة تدين بتعظيم القرآن وتقديسه ، وأنّه الكتاب المنزل على محمّد (صلى الله عليه وآله) ، منه يستقون عقيدتهم وأحكامهم ، وهو المرجع الأوّل عندهم في الأصول والفروع ، والذي في أيدي المسلمين اليوم هو الذي يؤمنون به ويعتقدون نزوله على النبي ، ويستحيل أن تناله يد التحريف بالزيادة أو النقصان لوجود الضمان من الله تعالى على حفظه ، فمن نسب لهم غير ذلك فقد افترى عليهم الكذب(2) .
وشدّة الحملة في نسبة تحريف القرآن إلى الشيعة مما تدعو إلى الحزن ، فقد تصدّى علماء الشيعة لمزاعم التحريف ، وبيّنوا أنّ ما ذكر في الروايات الموهمة للتحريف المنسوبة لأهل البيت - والتي تمسك بها القائلون بالتحريف- أغلبها ضعيفة السند
____________
1- صحيح مسلم ، كتاب الزكاة ، باب تخوّف ما يخرج من زهرة الدنيا ، ص 422 . 2- هاشم معروف الحسني ، أصول التشيّع عرض ودراسة ، ص 169 .