مكتبة العقائد الإمامية

فهرس الكتاب

 

 

الدكتور محمد عصمت بكر ـ مصر

مؤلف كتاب ( عبد الله بن عمر بين السياسة والدين )

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً يليق بجلال قدره وعظيم سلطانه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله .

اللهم إني أسألك أن تصلي وتسلم وتتحنن وتتمنن وتبارك على نور قلبي وقرة عيني سيدي ومولاي ووسيلتي إليك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين .

إن من المسلم به أن الأمة الإسلامية انقسمت بعد رسول الله (ص) إلى فريقين سياسين :

فريق منها ذهب إلى أن الخليفة من بعد الرسول الأعظم (ص) هو الإمام علي (ع) ثم أهل البيت (ع) من بعده واستندوا فيما ذهبوا إليه بنصوص من الرسول الأعظم (ص) وذهب الفريق الآخر إلى أن الخليفة من بعد الرسول (ص) هو أبو بكر وقد جاء اختيارهم له بناء على أن الرسول (ص) لم ينص على أحد من بعده بالخلافة وإنما جعل أمر سياسة الناس إلى من يختارونه بأنفسهم ولكن هذا الفريق جعل حق سياسة الناس في المهاجرين دون الأنصار وفي قريش دون سائر المهاجرين وكا نت القبائل الأخرى لم يجعلوا للموالي فيها أي حق حتى حق الإختيار .

وعلى كل حال فقد سبق الفريق الثاني إلى الحكم واختاروا أبا بكر ( رض ) خليفة على الناس .

وسكت الفريق الأول الذي ذهب إلى إمامة علي بن أبي طالب (ع) اللهم إلا ما احتج به بعضهم على صحة ما ذهب إليه كالإمام علي نفسه والسيدة فاطمة الزهراء (ع) والعباس عم الرسول الأعظم والزبير بن العوام وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وغيرهم ممن أظهروا بعض المعارضة لخلافة أبي بكر ولكنهم في النهاية سكتوا حفاظاً على بيضة الإسلام ووحدة المسلمين .

إلا أن هذا الخلاف ظل في طي الصدور والكتمان ولربما ظهر في أنات متفرقة ومناسبات مختلفة ولكنه لم يرتفع عن مستوى القيل والقال حتى الشطر الثاني من خلافة عثمان بن عفان .

فبعد أن رأى المسلمون منه ما خالف به الإسلام وتحيزه غير المنصف إلى بني أمية رأوا عزله ولكن زمام المبادرة أفلت من أيدي الحكام فانتهى الأمر إلى قتله واختاروا على أثره مولانا الإمام علياً (ع) .

هنا ظهر ما كان مكتوماً وخرج ما كان في الصدور فأخذ الخلاف السياسي شكلاٍ لم تعرفه الأمة الإسلامية من قبل حيث تحول من خلاف في الآراء إلى نزاع مسلح أريقت فيه دماء العديد من المسلمين .

فالذين تجنبوا خلافة أمير المؤمنين (ع) لم يجدوا سباباً في الخروج على إمامته لأنهم لا يملكون القدرة على القدح في عدالته وقدرته على سياسة الناس فتعللوا حينئذ بالمطالبة المسلحة بدم عثمان بن عفان وشهروا سيوفهم في وجه خليفة المسلمين الإمام علي (ع) .

واستمر هذا النزاع المسلح بين الطائفتين طائفة الإمام علي (ع) بصفته خليفة المسلمين وبين الطائفة الأخرى التي لم يكن لها خليفة ولا راية وهذه الطائفة الأموية هي التي مثلت بعد ذلك السلطة الحاكمة والتي اوردت الروايات بوسمها بالملك العضوض تارة والظلم أخرى والبغي ثالثة وغير ذلك وعلى كل حال فقد أجتمعت الأمة الإسلامية على فضل الإمام علي (ع) وعلو منزلته وعدالته وصحة خلافته وأن حكومته هي الحكومة الشرعية .

وأجمعت الأمة كذلك على خطأ معاوية وظلمه وعدم مشروعية دولته إلا من شذ ممن لا وجاهة لهم آنذاك وبعض العلماء الذين لا يعتد بهم في المجال العلمي والتحقيقي .

ولما استولى الجانب الأموي على السلطة بعد استشهاد أمير المؤمنين (ع) أصبحت أموال المسلمين ورقابهم في أيديهم وضعف الجانب العلوي وصار لا يستطيع أن يجهر أو يصرح برأيه في الأمور السياسية وأحوال الساسة .

ولما كان ذلك مالت طائفة من السلف إلى الجانب الأموي وانحازت إليه وتجنبت الفريق العلوي الذي لم يملك من الدنيا شيئاً ساعدهم على ذلك الطبيعة الكائنة في كل من الحق والباطل خفيف وبيء "

وبطبيعة الحال استغل هؤلاء النفر مكانتهم الدينية المرموقة بين المجتمع فزينوا للناس أعمال الحكام وبرروا قبائحهم وثبطوا الناس عن الثورة عليهم فحدثوا بأحاديث عن الرسول الأعظم (ص) ودلوا بآرائهم وأفتوا الناس بلزوم طاعتهم وتحريم الخروج عليهم .

وهذه الأحاديث إما أن تكون صحيحة عن الرسول الأعظم (ص) واستعملت في غير مقامها واستشهد بها غير محلها .

أو أن تكون غير صحيحة عنه (ص) وكانت وليدة الأحداث والمتغيرات السياسية في ذلك الوقت ويمكن أن تكون قد وضعت مدحاً وثناء للسلطان هذه الروايات وهؤلاء الرواة إلى منزلة لا تنالها المعارضة ولا يد النقد ودأبوا على دعمها وتقويتها عبر التاريخ .

فأصبحت بعد دعمها من قبل السلطة الحاكمة كقميص عثمان يستغلها السلاطين واحداً بعد الاخر في تقوية سلطانه وإضعاف معارضيه .

وقد ساروا على ذلك زماناً حيث صارت تلك الروايات وهؤلاء الرواة من القوة بحيث أصبح المؤمنون يتعبدون ويتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى .

وبذلك رتع السلاطين والحكام في غيهم وظلمهم ونعموا ببطرهم وفسادهم آمنين من غضبة

العلماء الأحرار دون أن ينغصوا ترفهم فسعوا في الأرض فساداً وحلوا عرى الإسلام عروة عروة حتى لم يبق منه إلا رسمه إلى أن شب جيل من الحكام قاموا بتسليم بلادهم ورعاياهم إلى أعدائهم فعلوا ذلك وأكثر منه في ظل وحماية تلك الروايات والفتاوى التي أصدرها بعض السلف الصالح فريقهم الأموي الذي تحيزوا إليه فإن خرج خارج على هؤلاء الرؤساء أو الملوك كان من السهل أن يحتج عليه عالم ممن وظفوا لهذا الغرض بأنه لا يصح له الخروج على جماعة المسلمين أو أن يشق عصا الطاعة .

وإن أنكر منكر ظالم أو امره وأفعاله سهل أن يقال له إن الله يقول ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) لأن هناك من السلف من أفتى بهذه الآية الشريفة في وجوب طاعة الحكام مطلقاً كما سنبين ذلك في محله إن شاء الله .

فاستشهدوا بآيات شريفة لا يصح الإستشهاد بها في مثل هذه المواضع وإنما الإستشهاد بها في مقامات أخرى ولذلك رأينا من واجبنا وبعيداً عن كل عصبية إسلامية أن نبحث في مواقف بعض السلف الذين لهم مواقف سياسية وفتاوى وروايات , وقصدت من هذا البحث الذي أسميته ( السلف بين السياسة والدين ) بيان تحيز هؤلاء النفر إلى فريق سياسي من الفرق السياسية في أزمانهم مما أثر ذلك على فتاواهم وعلى رواياتهم سواء أكانت هذه الروايات مما يحتمل فيها الوضع أم محل الإستشهاد بها إذا كانت صحيحة وقد كان من أبرز هؤلاء السلف ( عبد الله بن عمر الخطاب ) ولذلك آثرنا أن نبدأ بالبحث في مواقفه السياسية وبعض رواياته وفتاويه التي تأثرت بهذا الموقف وأثرت فيما بعد على أجيال الشباب المسلم .

وأسأل الله سبحانه وتعالى ألا يحمل بحثي على غير مرادي وأسأله تعالى التوفيق والسداد للأمة الإسلامية جمعاء .

ومن منطلق شعاري في أن دراسة التاريخ ليس معناه النبش في أوجاع الماضي لفتق جروحه وإنما دراسة بهدف الوقوف على أخطاء من سبقونا لتفاديها في عصرنا الحاضر .

محمد عصمت بكر

3/4/ 1985

***

والحق أننا إذا قارنا بين بيعة الإمام علي (ع) وبيعة أبي بكر وعمر وعثمان من حيث رضى المسلمين وإجماعهم لوجدنا وبكل بعد عن العصبية أن بيعة الإمام علي (ع) متقدمة عليهم تقدماً لا ينكر .

فقد تمت هذه البيعة الغراء وانعقدت بصورة لم يسبق لها مثيل والحق الذي لا ينكر أنها فاجأت وأدهشت كل خصوم الإمام (ع) السياسيين .

وقد وصف الإمام (ع) بيعته الشريفة كما جاء في كتاب ( نهج البلاغة ) وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضها ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم وردها حتى انقطع النعل وسقط الرداء ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعاب "(1)

فكل طوائف الأمة قد بايعت علياً (ع) واضطرته إليها اضطراراً فالشاب والشيخ الكبير والطفل الصغير والنساء والفتيات حتى العليل تحامل في السعي إليها مبتهجين فرحين كأنهم عطشى إلى عدله ظمأى إلى رحمته .

وفي موضع آخر وصفها بقوله (ع) فما راعني إلا والناس إلي كعرف الضبع ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان(2).

وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم (3).

وبالحق والإنصاف أقول : إن بيعة الأمة المحمدية المرحومة للإمام علي (ع) بمثابة العودة إلى الذات العودة إلى الفطرة ولذلك تداكوا عليه عطاشى ليرتووا من فيضه سلام الله عليه .

وإن منكر هذه الحقيقة متعصب عصبية عمياء ولذلك قال الإمام لابن عمر عندما قال له إني لك ناصح إن بيعتك لم يرض بها كلهم فلو نظرت لدينك ورددت الأمر شورى بين المسلمين "

قال الإمام (_ع) : ويحك وهل كان عن طلب مني ألم يبلغك صنيعهم قم عني يا أحمق ما أنت وهذا الكلام " وحيث أن محل البحث ليس محل استقصاء هذه المسألة فأننا نحيل من أراد الزيادة فيها إلى كتب التاريخ الإسلامي وشرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ليقف على المزيد من الأخبار فيها وعلى كلاً فخلاصة القول عن بيعة أمير المؤمنين (ع) إنها انعقدت له عن غير طلب منه وأنها كانت من قبل جماهير المسلمين ورؤسائهم وأصحاب الوجاهة فيهم وليس ذلك من أهل المدينة فحسب بل من أكثر الولايات الإسلامية لأن مدينة الرسول في ذلك الوقت كانت مكتظة بالوفود الإسلامية من كل الولايات فقد كانت هناك وفود من مصر – ومن الكوفة – والبصرة – واليمن وغيرها من الولايات الأخرى وكانوا قد جاؤوا اليها محتجين على عثمان بن عفان لما يقوم به هو وعماله من أعمال تخالف صراحة الشرع الإسلامي وسيرة الرسول الأعظم (ص) فهكذا كانت بيعة أمير المؤمنين (ع) وأما البيعات الأخرى التي سبقتها ألا وهي بيعة أبي بكر وعمر وعثمان فهي على النحو التالي مع الأختصار الشديد الذي يتناسب والمقام : فقد انعقدت البيعة لأبي بكر : في سقيفة بني ساعدة بعد حوار أشبه ما يكون بالصراع بين الأنصار وعلى رأسهم سعد بن عبادة وبين المهاجرين وعلى رأسهم ابو بكر وعمر وغيرهما .

أنتهى هذا الحوار أو الصراع بأن ضرب عمر بن الخطاب على يد أبي بكر وتابعه على ذلك من وجد هناك من المهاجرين وبعض الأنصار الذين خشوا أن تكون الخلافة لسعد بن عبادة وقبيلته . ثم ساروا من السقيفة إلى مسجد الرسول الأعظم (ص) وصعد ابو بكر المنبر وبايعه هناك من بايعه وامتنع من أمتنع .

وقد تخلف عن بيعته كثير من سادات المسلمين ووجهائهم وأصحاب الحل والعقد فيهم كعلي بن أبي طالب (ع) والعباس عم الرسول الأعظم (ص) والفضل وعبد الله بن العباس والزبير بن العوام وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن عمر وخالد بن سعيد وسعد بن عبادة وقيس بن سعد بن عبادة ومالك بن نويرة وأبي بن مالك وغيرهم ممن يصعب علينا حصرهم .

فهؤلاء وغيرهم كانوا لا يرون الخلافة لأبي بكر أصلاً وإنما كانوا يتعبدون بخلافة علي بن ابي طالب (ع) لما كانوا يرون أن النصوص تنص عليه بالخلافة وقد احتجوا بحجج قوية على صحة ما ذهبوا اليه ونحيل قارئنا الكريم إلى بحثها في مظانها .

نعم ! لا أشكال في أنهم قد بايعوا بعد ذلك لما رؤا أن الإسلام يمكن أن يكون في خطر محق أن هم استمروا على خلافهم فرؤا حفض بيضة الإسلام أهم من ذلك وفي هذا يقول أمير المؤمنين في خطبته المعروفة بالشقشقية كما في نهج البلاغة : فرأيت أن الصبر على هذا أحجا فصبرت وفي العين قذا وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا ...

وأما البيعة لعمر بن الخطاب : قد انعقدت عن طريق التعيين ولم تأتي عن طريق الأختيار أو رضى المسلمين فقد عينه أبو بكر في مرضه الذي مات فيه ولم يكن للمسلمين فيها أية شورى ولا أختيار منهم ! وأما بيعة عثمان بن عفان : فقد انعقدت له بطريقة غريبة سنتعرض لها بشيئ من التفصيل في محله من هذا البحث أن شاء الله تعالى .

ولكننا هنا نتعرض إلى انها تمت له بعد أن تنازل عن أشياء كثيرة رفض أمير المؤمنين التنازل عنها وقبل شروط أملاها عليه عبد الرحمن بن عوف لم يقبلها أمير المؤمنين (ع) فقد ذكر أصحاب التاريخ كابن الأثير في الكامل وابن كثير في ( البداية والنهاية ) وغيرهما في ذكر أحداث الشورى أن أمر الخلافة انتهى إلى علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وكان أمر التحكيم لعبد الرحمن بن عوف وقد اشترط عبد الرحمن على الأمام علي (ع) لكي يبايع له أن يسير في الأمة كما سار أبو بكر وعمر وأن لا يولي أحد من بني هاشم على رقاب الناس .

ولكن الأمام علي (ع) رفض هذين الشرطين وقال : أن في سيرة رسول الله كفاية عن سيرة الشيخين وقال في الشرط الثاني : أنه لا بأس في الأستعانة بالقوي الأمين سواء أكان من بني هاشم أم من غيرهم وعليه رفض عبد الرحمن بن عوف أن يبايع علي (ع) ويعقد له البيعة . ثم اشترط على عثمان أن يسير في الأمة بسيرة الشيخين فقبل وشرط عليه أن لا يولي أحداً من بني أمية على رقاب الناس فقبله كذلك وعاهده عليه فبايعه عبد الرحمن وعقد له البيعة . ومعنا ذلك أن رأي الأمة ومصير سياسة الناس كان محصوراً في عبد الرحمن بن عوف يعطيها من يشاء ويمنعها ممن يشاء . والواقع أن الإنسان ليعجب كل العجب كيف تصح بيعه أنعقدت بهذه الصور الغريبة ؟

فلا يمكن أن يقبل ان يكون رأي أمة كاملة يتمثل في رأي فرد واحد لم تختاره الأمة ليمثل رأيها وأنما هو بنفسه كما ورد في التاريخ أنه استفتى أهل المدينة فلم يجد أحداً قد عدل عن علي بن أبي طالب . وعلى كلاً فقد انعقدت البيعة لعثمان بن عفان بهذا الشكل ولم يرضى بها أكثر من نصف الأمة .

وخلاصة القول : إن كل من بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت عن طلب منهم ولم ينعقد عليها الإجماع التام الشامل كما اشترط عبد الله بن عمر في صحة بيعة الأمام علي (ع) ومن ثم يظهر التناقض في مواقف عبد الله بن عمر فقد قبل بيعة أبي بكر وبيعة عمر وبيعة عثمان وكذلك بيعة معاوية التي أخذت بقوة السلاح وبيعة يزيد التي انعقدت على رغم أنوف المسلمين وكذلك بيعة مروان بن الحكم وبعده بايع للحجاج الثقفي السفاح لعبد الملك بن مروان ! وكل هذه البيعات لم تنعقد عن طريق الإجماع التام وبعضها انعقدت على رغم أنوف المسلمين ومع ذلك فقد قبلها ودافع عنها وناضل من أجلها وقعد عن بيعة أمير المؤمنين واشترط في صحتها ما لم يشترطه في غيرها .

وهذا بالنسبة إلى السبب الأول الذي ذكره في صحة البيعة وهو قوله : ( لم يرضى بها كلهم)

كما نوهنا آنفاً . أما السبب الثاني : في قعود بن عمر وعدم رضاه عن بيعة الأمام (ع) وهو أنها لم تكن شورى بين المسلمين : فمناقشة هذا السبب يتطلب ابتداء معرفة معنى الشورى :

ذكر الراغب في ( المفردات ) في مادة شور : التشاور والمشاورة والمشورة : استخراج الرآي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم : شرت العسل إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه . قال تعالى : ( وشاورهم في الأمر ) .

والشورى : الأمر الذي يتشاور فيه قال : ( وأمرهم شورى بينهم )

ويدور البحث في الرواية حول أنه هل كان الإجماع منعقد على تفضيل الثلاثة على علي (ع) وهل كان إقرار الرسول (ص) لمن فضلهم ؟

الأول : نقل أصحاب السيرة والتاريخ وكذلك نقل أصحاب كتب الحديث أقوالاً لمشاهير الصحابة تدل على تقديم الإمام علي (ع) على من سواه من الصحابة وخيرته عليهم جميعاً نذكر منها على سبيل المثال :

ما رواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث عن عمر بن الخطاب أنه قال :

"ولقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاثاً لإن تكون لي واحدة أحب إلي من حمر النعم زوجته فاطمة بنت رسول الله وسكناه المسجد يحل له ما يحل لرسول الله والراية يوم خيبر " .

فعمر يتمنى أن تكون له واحدة مما أعطي علي (ع) وفيه إشارة إلى أن هذه الصفات وغيرها مما سيأتي إن شاء الله تعالى لا تكون إلا في الأفضل وعمر بن الخطاب واحد من الثلاثة المذكورين في رواية ابن عمر .

عن أبي أنه قال لما بايعوه بالخلافة : ( أقيلوني أقيلوني فأني لست بخيركم وفيكم علي ) .

يفهم منها أن أبا بكر لا يتميز بالخيرة على الصحابة وعلي فيهم وهذا أقرار منه بخيرية علي (ع) عليه . وهو أيضاً من الثلاثة الذين ذكرهم أبن عمر . وروى الحاكم في ( المستدرك / الجزء الثالث ) بسنده عن سعد بن أبي وقاص لما قال له معاوية : ما منعك أن تسب أبن أبي طالب ؟ قال : لا أسب ما ذكرت ثلاث قالهن له رسول الله (ص) لأن تكون لي واحدة منهن أحب ألي من حمر النعم . قال له معاوية ما هن يا أبا أسحاق ؟ قال : لا أسبه ما ذكر حين نزل عليه الوحي فأخذ علي وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال رب أن هؤلاء أهل بيتي . ولا أسبه ما ذكرحين خلفه في غزوة غزاها رسول الله ( ص ) قال له علي : خلفتني مع الصبيان والنساء ! قال : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟ ولا أسبه ما ذكرت يوم خيبر قال رسول الله (ص) : ( لأعطين هذه الراية رجل يحب الله ورسوله ويفتح الله على يديه فتطاولنا لهلا و الرسول (ص) قال : أين علي ؟ قالوا : هو أرمد فقال: أدعوه . فدعوه فبصق في عينيه ثم أعطاه الراية ففتح الله عليه ) .

قال الحاكم تعقيباً على الحديث : ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة ) .

وقال : وقد اتفقنا جميعاً على أخراج حديث المؤاخاة وحديث الراية . وروى الحاكم في ( الجزء الثالث ) كذلك عن ابن عباس أنه قال : ( لعلي أربع خصال ليست لأحد : هو أول عربي وأعجمي صلى معه رسول الله (ص) وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف والذي صبر معه يوم المهراس وهو الذي غسله وأدخله قبره .

والحق أننا لو أردنا الأستقصاء لعجزنا ولكن نكتفي بهذا القدر لبيان المقصود وهو انه لا يوجد أجماع على تفضيل وتخيير أبي بكر وعمر وعثمان على الصحابة بما فيهم أمير المؤمنين (ع) كما قال عبد الرحمن بن عمر وسيأتي ما يدل على ذلك أيضاً .

والواقع أننا لا نعرف ما هو مقياس عبد الله بن عمر في التخيير بين الصحابة فأن كان التخيير بالسبق إلى الإسلام . فأمير المؤمنين (ع) أسبقهم جميعاً : روى أبن عبد البر في

( الاستيعاب ) عن كل من سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والخباب ابن الأرث وابي سعيد الخدري وزيد بن الأرقم أن علي بن أبي طالب أول من أسلم وفضله هؤلاء على غيره ).

وأن كان التفضيل بنصرة الأسلام فمواقفه في بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وغيرهما مما فاق به على غيره من الصحابة .

وأما أذا كان التفضيل بالعلم فقد قال ابن عباس كما رواه صاحب ( الاستيعاب : ) والله لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم وأيم الله لقد شاركهم في العشر العاشر )

أي أنه يعلم كل ما يعلمه الصحابة ولا يعلمون كل ما يعلمه وسيأتي أن شاء الله مزيد من الروايات في هذه المسألة . وإن كان مقياس التفضيل بين صحابة رسول الله هو القرب منه (ص) فمن المؤكد والمسلم به هو أن علي بن أبي طالب (ع) له المكانة السامية في نفس وقلب رسول الله (ص) يدل على ذلك بما رواه البخاري في صحيحه في باب مناقب علي بن أبي طالب : فقد روى بسنده عن البراء بن عازب : قال النبي (ص) : ( علي مني وأنا من علي ) هذه الرواية التي رواها البخاري بأسانيده المعتبرة وبشروطه التي وضعها تدل دلالة واضحة على أن الإمام علي (ع) هو أقرب الناس إلى رسول الله (ص) وهذا القرب لا ينكره أحد من المسلمين ومن ثم فالإجماع الذي أوهم به عبد الله بن عمر بأن أبا بكر وعمر وعثمان وهم أفضل الصحابة بما فيهم علي بن أبي طالب غير صحيح ولم يثبت مثله عند المسلمين في زمان الرسول الأعظم ( ص) أو في غير زمانه بل ولن ينعقد مثل هذا الإجماع أبداً حتى يوم يقوم الأشهاد .

هذا فيما يتعلق بإيهام الإجماع .

أما ما يتعلق بالإيهام بإقرار الرسول (ص) للذين خيروا الصحابة (رض ) على باقي الصحابة بما فيهم علي فهذا مما يرد إجمالاً وتفصيلاً حيث أن العقل يقضي بأن الذي يقول " علي مني وأنا من علي " لا يمكن أن يقر أحداً على تفضيل أحد آخر على من هو بعض منه .

نعم لا إشكال في إمكان قبول قول عبد الله بن عمر ويمكن أن يصح هذا التخيير والتفضيل ولكن إذا كان الإمام علي (ع) من المستثنين منه بصفته من أهل البيت (ع) لأنهم أعلى مرتبة ومنزلة من مرتبة ومنزلة الصحابة جميعاً .

ذكر الزيني دحلان في ( السيرة الحلبية ) في أحداث حفر الخندق قال :

" وقد ذكر أن سلمان الفارسي – (رض) تنافس فيه المهاجرون والأنصار فقال المهاجرون سلمان منا وقالت الأنصار سلمان منا فقال رسول الله (ص) سلمان منا آل البيت "

فالمستفاد من الرواية إن أهل البيت (ع) الذين منهم علي بن أبي طالب لهم منزلة ومكانة عالية غير مكانة أصحاب الرسول (ص) وقد أشار أحدهم إلى هذا المعنى بقوله :

لقد رقى سلمان بعد رقـــــــــه          منزلة شامخة البـــنــــيان

وكيف لا والمصطفى قد عده           من أهل بيته عظيم الشأن

 

1 - تداككتم : اجتمعتم مزدحمين من كل جانب الإبل الهيم : الإبل العطاش إنقطع النعل وسقط الرداء: إشارة إلى شدة ازدحامهم عليه (ع) هدج : المشي الضعيف المرتعش . الكعاب : المرأة التي نهد ثديها .

2 - لظاهر أن المقصود من قوله " الحسنان " إبهامي القدم .

3 - من خطبته الغراء المسماة بالشقشقية من كتاب ( نهج البلاغة).