كانت الأوساط الحركية في الاتجاه الإسلامي تتابع التطورات التي تطرأ على
مجموعتنا بحذر شديد , في البداية لم يكن في الأمر ما يثير قلقاً حركياً ,
فالتعاطف مع الثورة الإسلامية أمر عادي كما أنه ليس هناك حظر على المطالعة
ولا توجد رقابة عليها , ولكن مع الأيام كانت الصورة تتغير , ومعها تتغير
المواقف كلما ازددنا اقتراباً من التشيع , وهكذا كان بعض أفراد المجموعة
يجاهرون بآرائهم المعارضة لتوجهات الحركة الفكرية ومواقفها السياسية مما يسبب
إزعاجاً للقائمين بأمن الحركة ويثير مخاوفهم , خاصة أن بعضنا كان مؤثراً جداً
داخل التنظيم ويستطيع من ثم أن ينقل توجهاته العقائدية والفكرية إلى قطاع
كبير من الطلاب .
على الرغم من التباين الذي بات واضحاً في الرؤى بيننا وبين الحركة , إلا
أننا لم نفكر أبداً في الانفصال عنها , واعتبرنا ماحدث لنا من تحول عقائدي
وفكري تطوراً طبيعياً لا يتناقص مع انتمائنا الحركي، وعقدنا العزم على مواصلة
المسير مع الاتجاه الإسلامي وإثرائه بتجربتنا الجديدة التي لا تتقاطع مع
مشروع التجديد الذي يتبناه الدكتور الترابي غير أن الإخوة في الجامعة تخوفوا
كثيراً من العلاقة التي أخذت تتوطد شيئاً فشيئاً بيننا وبين أصدقائنا الشيعة
خارج السودان، وكانت مخاوفهم تزداد كلما ظهر منا موقف معارض لبعض سياسات
الجبهة الإسلامية أو انتقاد لبعض قيادتها.
ومما عزز شكوك الحركة تجاهنا أننا كنا على اتصال وتنسيق مع بعض القيادات
الشبابية في الجبهة الإسلامية ممن عرفوا بمواقفهم الثورية الرافضة للخط
السياسي للجبهة، ومن هؤلاء من تبوأ مراكز هامة في دولة الإنقاذ فيما بعد.
وربما حاول بعضهم الاستفادة من مجموعتنا في الضغط على الحركة من أجل
تعزيز مواقعهم فيها، وكان منهم من لا يؤمن بالنهج الديمقراطي الذي أرادت
الحركة اتباعه فيما بعد أبريل 1985، وبالمقابل كان يدعو إلى العمل الانقلابي
الذي يقود إلى التمكين، وشعاره في ذلك قوله تعالى: ( الذين إن مكناهم في
الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر). وهكذا
كان قد أقام اتصالات مع بعض الضباط في الجيش وزودهم بالكتب الثقافية ذات
الطابع الثوري لمؤلفين شيعة، وكانت مؤلفات السيدين محمد تقي وهادي المدرسي
أبرز تلك الكتب، وفيما بعد عرفنا أن الفريق عمر البشير رئيس السودان الحالي،
كان من أولئك الضباط الذين اتصل بهم أصدقاؤنا.
المقاطعة والعزل:
تلك الأسباب مجتمعة دفعت فصيل الحركة بالجامعة إلى المسارعة لاتخاذ
قرارات حاسمة في مواجهة مجموعتنا لتي لم تعد تخفي تشيعها، فكانت الخطوة
الأولى هي تكثيف الدعاية المضادة للشيعة والتشيع عن طريق الجلسات الثقافية
والندوات والمعسكرات المغلقة، وفي خطوة تالية اتهمت مجموعتنا بالعمالة
والتعاون مع جهات سياسية معادية من أجل إضعاف الحركة! كل ذلك تمهيداً
لإجراءات تكون أكثر حسماً وأشد قسوة، ما كان أغناهم وأغنانا عنها لو أنهم
اتبعوا الحوار معنا بدلاً عن التوجس والارتياب، إذا أن الحركة التي استطاعت
أن تتحدى التراث وتخرج عن الخط التقليدي كان بإمكانها أن تخطو في طريق
( التجديد) خطوة أكثر عمقاً وجدية، وتجرب أن تعرض إشكالياتها في التراث
على منهج آخر خلاف منهج الرأي الذي لا يزيد عن الطريق إلا بعداً.
في الخطوة قبل الأخيرة دعي جميع الكوادر إلى اجتماع حجبت عنه مجموعتنا
التي كان الأمر متعلقاً بها، وبعد أن تليت الاتهامات الموجهة إلينا، وأعلن
للمجتمعين ( انحراف) مجموعتنا عقائدياً وحركياً، صدرت إليهم القرارت الحركية
القاضية بمقاطعتنا وعزلنا اجتماعنا ووقف التعامل مع أفراد المجموعة الشيعية
بأي وجه من الوجوه، وأخذ على الجميع القسم على ذلك، على الرغم من احتجاج عدد
ممن يعرف إخلاصنا للحركة ولا يجزم بانحراف توجهنا الفكري.
وبعد أن غدت عزلتنا داخل الحركة أمراً واقعاً صدر القرار الثاني وأبلغنا
به، فكان الفصل النهائي عن فصيل الجبهة الإسلامية بالجامعة. صدرت تلك
القرارات على الرغم من تحفظ الجهات الحركية العليا عليها إذ لم يكن هناك ثمة
ما يبررها سوى حساسية الوضع الحركي في الوسط الطلابي.
مع الدكتور الترابي:
كن الظن الغالب لدى المسؤولين في مكتب الحركة المختص بالجامعات أن ما
تمر به مجموعتنا هو مجرد نزوة عايرة وخطوة متسرعة بالإمكان تداركها ومعالجة
العوامل التي أدت إليها، ولم يخطر مدروسة وتجربة ناضجة وقراراً صعباً ما
اتخذناه إلا بعد طول بحث وتحقيق. بناءاً على ذلك الرأي تبنى
( مكتب الجامعات) مبادرة يهدف من ورائها إيجاد تسوية للمشكلة، درءاً
السلبية قد تترتب على قرار الفصل، فليس سهلاً على ( شعبة الجامعة) أن تتخلى
عن ثمانية من كوادرها الفاعلين ومنهم من يشغل مواقع حيوية وحساسة في الهيكل
التنظيمي ومنهم من له اليد الطولى في عمليات الاستقطاب و ( التجنيد)
بالجامعة، ومن ثم فلن يمر قرار إبعادهم دون أن يحدث بلبلة في قاعدة التنظيم.
انتدب ( المكتب المعني) اثنين من أعضائه للاتصال بنا والحوار معنا أمل
في الوصول إلى تسوية وحل للمشكلة، فاشترطنا أن تتراجع شعبة الجامعة عن قرار
المقاطعة الاجتماعية قبل أن نستجيب لأي مبادرة، وبالفعل سعى المندوبان لإقناع
الشعبة بالتراجع، ولكن دون جدوى، فالتراجع كان من شأنه أن يسبب للقيادة
الحركية بالجامعة حرجاً كبيراً ويفقدها مصداقيتها لدى القاعدة، وهنا اقترحت
اللجنة على المجموعة أن تفتح حواراً مع شخصيات قيادته في الحركة على رأسهم
الدكتور الترابي، في محاولة لإقناع المجموعة بالعدول عن إعلان التشيع والولاء
لأهل البيت ( ع)، ولذلك رفضنا الاقتراح وأوقفنا التعامل مع اللجنة.
كان ذلك في الشهور الأخيرة من عام 1987م، وكنت آنئذ أعد العدة للسفر إلى
إيران التي غادرت إليها في مطلع العام 1988م. وفيما بعد رأى بقية الأخوة
الاستجابة لمناشدات الداعين للقاء مع الدكتور الترابي، وتم اللقاء وفيه بدا
الدكتور معترضا على ما اتخذ ضدنا من إجراءات حركية من قبل المسؤولين
بالجامعة، كما أبدى تفهماً لمواقفنا الفكرية والعقائدية مؤكداً أن الحركة
الإسلامية إطار جامع ويتسع لجميع الانتماءات الفكرية والمذهبية طالما كانت
صادرة عن الإسلام، كما أكد على رؤيته الخاصة ( اللامذهبية في الإسلام) هذه
الرؤية التي ما فتئ يرددها حتى الآن، معلناً أنه غير شيعي وغير سني، كما اتفق
مع الاخوة على أكثر آرائهم في التاريخ، وقال أنه لا يرى وجود ما عرف بالخلافة
الراشدة على هذه الإطلاق، وعن الصحابة قال أنه لا يؤمن بعدالتهم المطلقة
مؤكداً تفاوتهم في درجات الإيمان بين مؤمن خلص إيمانه ومنافق مرد على النفاق،
وقال إن من الصحابة من ولى الدبر في ميادين القتال بصورة لا يمكن أن تصدر
اليوم عن شباب الحركة الإسلامية.
ولقد اختلف الأخوة مع الدكتور الترابي في المسائل السياسية والحركية
أكثر من اختلافهم معه في المسائل الفكرية والعقائدية.
التبعية العمياء
مع الدكتور الحبر:
كان من بين الذين اشتغلوا معنا بالبحث والتحقيق منذ البداية صديق لي هو
زميل دراسة وأحد أخوة العمل ضمن صفوف الحركة الإسلامية، وكان من أوائل الذين
قرأوا كتاب المراجعات في السودان، وقد بدا أكثر منا اهتماماً، بذلك وهو الذي
دلني على المكتبة العامة بالجامعة الإسلامية وما بها من أمهات الكتب
والمصادر، وكم جلسنا بها معاً الساعات الطوال نغوص في أعماق التاريخ ونكتشف
خبايا السيرة وخفايا الحديث حتى تجلت الحقائق وتكشفت بما لا يدع مجالاً للشك.
وبينما كنت أشحذ إرادتي متحرراً من آخر أغلال الخوف والتبعية للإعلان عن
عقيدتي الجديدة، واختياري الواعي، كان صديقي يتشرنق بأوهامه وينسلخ عما أوتي
من آيات ودلائل ويقول: لو كان هذا حقاً لاتبعه من هو منا من الأولين ولآخرين
فكان بذلك كمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله أبى أن يمشي فيها فجعل علمه
جهلاً ويقينه شكاً.
كان كلما اجتمعنا يجادلنا بلجاجة ومكابرة، مقللا من شأنه وشأننا وكأنما
الحق لا ينكشف إلا الكبار السن وذوي الألقاب العملية الجوفاء،كان يقول من نحن
حتى نكون أول من يتشيع في السودان، هذا البلد الحافل بالعلماء والعرفاء من
مختلف العصور؟ من نحن حتى نخالف مالكاً وأبا حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي
وابن تيمية وغيرهم من علماء السلف؟ من نحن حتى ندعي معرفة مالا يعرفه علماء
السودان ومشايخه؟.
كان بين الذين يستشهد بهم من الشخصيات الدكتور الحبر يوسف نور الدائم،
أستاذ اللغة العربية بجامعة الخرطوم، وأحد أبرز مؤسسي حركة الإخوان بالسودان،
واحد قادة الفصيل الذي ظل على ارتباطه بالحركة الأم بعد أن قرر الترابي
الانفصال عنه، ومن هنا فإن الدكتور الحبر حتى ذلك الوقت- ظل أحد المناوئين
الأساسيين للجبهة الإسلامية.
قلت له: إن د0 الحبر ليس ببعيد عنا ولن يكون اللقاء به أمرا صعباً،
فلماذا لا نجلس إليه لنسأله عن رأيه في التشيع وموقفه من تناقضات التاريخ؟
وافق صاحبي وتحمس للفكرة، فاتصلنا بالشيخ الدكتور حيث حدد لنا موعداً في
داره، وافيناه فيه ومعنا صديق ثالث.
تلقانا الدكتور بحفاوة وترحاب، في بيت متواضع بأحد الأحياء الشيعية
بمدينة " أم درمان" وقد بدا الارتباك واضحاً على صاحبي، وتبين أنه كان يتهيب
مثل هذا اللقاء، فقد يعجز مضيفنا- على شهرته العلمية- عن إعطاء إجابات منعة
على الأسئلة التي حضرناها له، وعندئذ تسقط حجته في تقليد الرجال فيما يتعلق
بمسائل الأعتقاد التي لا يجوز فيها التقليد. ومن ثم طلب مني أن أترك الحديث
في التاريخ والمذاهب بحضرة الدكتور وأصر طلبه!! قلت له: لماذا أتينا إذا؟ قال
أرى أن الحديث مع الدكتور في قضايا معاصرة متعلقة بالحركة الإسلامية أجدى من
النبش في مقابر التاريخ! فحاولت عبثاً إثناءه عن هذا الموقف، وعندما جلس
إلينا الدكتور ما كان أمامي إلا أن أنزل عنه رغبة صديقي وأفتح حواراً غير
الذي جئنا من أجله، لقد كان علي أن أقدر الظروف النفسي الذي يمر به والقلق
الذي يعيشه جراء ما حدث في داخله من تنازع، بين حق تكشف له جوانبه ولزمته
حجته وقديم لازال يملك عليه عواطفه ويتغلب على إرادته مدعوماً بروح التقليد
والتوفيق الاجتماعي.
قلنا للدكتور الحبر: لماذا تصرون على إبقاء حالة الشقاق في صفوف الحركة
الإسلامية وقد زالت مسبباته بانعقاد المؤتمر التأسيس للجبهة الإسلامية.
القومية في أجواء ديمقراطية أتاحت لكل الفرقاء أن ينتظموا في عقد واحد
وبذلك تتوحد الكلمة وتلتئم جروح الماضي؟(1)
رد الدكتور على سؤالنا هذا بالتشكيك في مصداقية المؤتمر والقائمين به
نافياً وجود أي قدر من الديمقراطية في حقيقة نظامه وإن اتسم الظاهر بذلك على
حد تعبيره- مؤكداً أنه لم يكن هناك أدنى أمل لأحد في تولي منصب الأمين العام
للجبهة الذي فصل خصيصاً للدكتور حسن الترابي، وهكذا راح يعدد مثالب الحركة
التي يتزعمها الترابي وعيوبها.
قلنا إننا لسنا بصدد الدفاع عن حركة الاتجاه الإسلامي ولكننا وبنفس
القدر نستطيع أن نبين نقاط الضعف في حركة الإخوان المسلمين ونسلط الضوء على
سلبياتها. قال: لكم ذلك، وسوف أتولى الرد على كل تحفظاتكم وانتقاداتكم.
قلت: ولكن فصيل حركة الإخوان بالسودان هو فصيل لا نعرف له دورا في
الساحة ونشاطاً، فهل لديكم مانع إذا ما انصبت ملاحظاتنا على الحركة الأم؟
قال: لا نمانع.
قلت- وقد عقدت العزم على الجنوح بالحديث صوب الموضوع الأساس الذي أتى
بنا إلى هنا: أول ما يؤخذ على حركة الإخوان المسلمين هو موقفها السلبي من
الثورة الإسلامية في إيران، تلك الثورة التي حققت آمال المسلمين وأقامت أول
دولة إسلامية في العصر الحديث.
رد بسخرية وتهكم: أتقول الدولة الإسلامية؟ دولة الآيات والمعصومين؟ قلت:
( آية الله) لقب علمي لا ينتقص من إسلامية الدولة، أما المعصومون.
فليس من قائل أن في إيران اليوم معصومين فالمعصومون هم النبي ( ص) وأهل
بيته قال : على كل حال هم شيعة ويكفي أنهم لا يتورعون عن القدح في الصحابة
والتطاول عليهم !!
قلت : وماذا في ذلك إذا كان الصحابة أنفسهم كان ما بينهم السباب وتبادل
الاتهام بل أكثر من ذلك الاقتتال وإراقة الدماء كالذي حدث مباشرة بعد وفاة
النبي ويكفي أنهم اقتتلوا في واقعة الجمل فكان القتلى من الصحابة والتابعين
بالألوف فكيف جاز لهم أن يقتتلوا ويتسابوا ولا يجوز لنا أن نعين المخطئ منهم
والمصيب ؟
قال : إن اقتتال الصحابة فيما بينهم لا يخرجهم من دائرة الإيمان لقوله
تعالى
( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) ( الحجرات /9 )
فالقرآن أسماهم جميعاً مؤمنين .
قلت : ولكنه تعالى يقول بعد ذلك ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا
التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) أليس لنا أن نحدد الفئة الباغية وإذا ما
كانت قد فاءت إلى أمر الله أم لا ؟
قال : يا ابني , نحن نقول كما قال ( أبو زرعة ) << تلك فتنة وقي الله
منها سيوفنا أفلا نقي منها ألسنتنا >> !
عند هذا الحد كان صاحبي قد بلغ به الغضب مبلغاً خشيت معه أن يأتي بتصرف
لا يليق بالمقام وفي ذات الوقت بدا الدكتور غير راغب في المضي في هذا الاتجاه
المرج عندئذ أدركت أنه لا جدوى من الإصرار على توجيه الحوار عقائدياً فعدنا
إلى ساحة العمل الإسلامي والحركة الإسلامية إلى أن طلبنا الإذن بالانصراف ومن
بعد بقي صاحبي على حاله من التنكر للحق والتنصل من الحجج إلى أن فتحت له
الدنيا أبوابها فنال من جاهها ما شغله عن البحث عن الحقيقة .أما الدكتور
الحبر فقد التقيت به للمرة الثانية وكان في طهران في مطلع عام 1989 م , وكان
قد جاء إلى هناك مدعواً لحضور احتفالات الجمهورية الإسلامية بأعياد الثورة
حيث كان الوفد السوداني من أكبر الوفود المشاركة وقد عجبت لمشاركة الدكتور في
عيد الثورة التي يسخر منها وتلبيته لدعوة,
( الآيات والمعصومين ) – حسب قوله – وقد نقل لي أحد رفقائه أن جانباً من
الوفد السوداني كان قد قام بزيارة لأحد الشخصيات العلمية المرموقة في مدينة
قم , وفي نهاية الزيارة أهدى ذلك العالم إلى كل زائر نسخة من أحد مؤلفاته
ولما خرجوا من عنده قال أحدهم لقد فات هذا الكتاب القيم على الذين لم يأتوا
معنا لهذه الزيارة فعلق د.الحبر قائلاً : إن كان لأحدهم مطمع فيه فليأخذ
نسختي ,
إن د. الحبر , الذي لا زال أمر حركته في نقصان لم يرضه أن يعلو ذكر أهل
البيت (ع) في السودان وأن يسارع الشباب إلى الدخول في حصون ولايتهم , فأخذ
يدق نواقيس الخطر ويؤلب ذوي الشأن ليتصدوا لحركة التشيع التي عمت أرجاء
السودان وذلك في بيان أصداه مؤخراً ونشرته الصحف يقول فيه أن انتشار التشيع
في أوساط الشباب يهدد البنية الاجتماعية في السودان وأن على المسؤولين أن
يقفوا في وجه هذا المد وأنه بهذا البيان يكون قد أدى ما عليه إذ لا يملك أن
يفعل – بهذا الصدد – أكثر من التحذير لقد فات على الدكتور أن التشيع – بما هو
جوهر الدين – قد صمد عبر التاريخ في وجه أعنف حملات الطمس والتشويه واستعصى
على كل المؤامرات التي استهدفته منذ وفاة الرسول وإلى الآن وهو المذهب الوحيد
الذي ظل أمره في ازدياد لما يستبطن من حق ولتمسك أهله به ولقدرته على مواكبة
العصر والوفاء بمتطلبات الزمن بينما اندثر غيره من المذاهب أو كاد حتى
المذاهب الأربعة لم يعد التمسك بها إلا تقليدياً وشكلياً ولم تعد قادرة على
الوقوف أمام دعاوى التجديد الفقهي وفتح أبواب الاجتهاد التي تنطلق من هنا
وهناك لقد كان الأحرى بالدكتور الحبر – وهو العالم الحركي المستنير – أن
يتصدى للتشيع إن رأى فيه خطراً على الشباب بسلاح الفكر لا بالتهديد والتخويف
كيف يعتذر عن المواجهة بعدم القدرة بينما لا تتطلب المواجهة الفكرية نفوذاً
ولا سلطة ؟ أم أنه يرى المتشيعين من الشباب في السودان قد امتلكوا غير الكتاب
والكلمة وسيلة للدعوة والتبليغ وإقامة الحجة على المعاندين ؟.
والذي لا يعرفه الدكتور أو يتجاهله هو أن الولاء للأهل البيت (ع) أسبق
في دخوله إلى السودان من جميع الحركات السلفية بما فيها حركة الإخوان وأن
السودانيين قد عرفوا لأهل البيت (ع) حقهم في ذات الوقت الذي عرفوا فيه
الإسلام وأن البنية الاجتماعية في السودان لا يهددها انخراط الشباب في سلك
التشيع لأهل البيت الذين هم قوام الدين ونظام الأمة ولكن ما يهدد المجتمع في
دينه وحضارته هو انتماؤهم إلى تلك الجماعات الموتورة التي ورثت الحقد عن
الخوارج وأهل الفتن وبني أمية وأئمة القشريين من لدن ابن تيمية إلى محمد بن
عبد الوهاب وأتباعه وكلمة أخيرة أوجهها لفضيلة الدكتور فأقول : إن التشيع في
السودان – باعتباره حركة استبصار جديدة – لا يعيبه أن كان اغلب أتباعه من
الشباب فذاك دأب جميع الحركات الربانية والدعوات الرسالية التي يخذلها الشيوخ
من المترفين والذين أوتوا " نصيباً من العلم " ويساندها الشباب لما لهم من
ضمائر حية وعقول متحررة من أغلال التحجر والتقليد وهم الذين نصروا رسول الله
(ص) عندما خذله غيرهم وهاهم اليوم ينتصرون من جديد لأهل بيته الأطهار فهل ترى
أن المكايد تفلح في إطفاء هذا النور الذي أخذ يمزق سدف الظلمة التي عششت فيها
الجاهليات الحديثة ؟
إلى عاصمة الثورة:
في مطلع عام 1988 م مباشرة بعد تخرجي في كلية الحقوق تلقيت دعوة من
الحوزة للالتحاق بها فترة محدودة وكان ذلك بمثابة حلم تحقق إذ كنت مذ عرفت
التشيع واطلعت على حقيقة الثورة الإسلامية في إيران من خلال شخصيات الحوزة
الذين شارك بعضهم فيها بأدوار رئيسية كنت أتشوق إلى زيارة إيران حيث الإمام
الرضا تاسع الأئمة (ع) وحيث الإمام الخميني رجل القرن العشرين بلا منازع وكنت
أردد على الدوام ( لا بد من طهران وإن طال السفر ) لا بد من طهران وإن كانت
تنام وتصحوا في تلك الفترة على دوي انفجار الصواريخ العراقية .
مرورا بالعقيلة زينب (ع) :
كانت دمشق محطة في طريقي إلى طهران وفي ضاحيتها الجنوبية حيث المرقد
الشريف لعقيلة الطالبيين بطلة كربلاء السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (ع) حططت
رحالي إلى حين بدت خطواتي الأولى باتجاه الضريح الطاهر وكأنها خطوات في عمق
التاريخ وما دريت بالشام كنت أم بكر بلاء وقد تلاشت حواجز الزمان والمكان لم
يدهشني ما رأيت من تدافع الناس حول الضريح رغم أنه مشهد لم آلفه من قبل وقد
كنت أنا الآخر منجذبا بقوة للالتصاق به وعندما استلمته وألصقت به صدري أحسست
بنبض الرسول وشمعت عرف علي ورأيت هالة الزهراء وغشيتني أنفاس الحسن واحتضنت
أشلاء الحسين عندها انتحبت وبكيت طويلاً بكيت عن نفسي وعن أخوتي الذين تركتهم
بالخرطوم يحرقهم شوقهم إلى هذه المشاهد الشريفة بكيت من أجل أهلي الذين عرفوا
زينب وما عرفوها وأحبوا أهل البيت وما وجدوهم بكيت حنقاً وكرهاً لكل من أسهم
في حرمان الأمة من أئمتها فعاشت أجيال المسلمين المتعاقبة في جهل وعزلة عن
شجرة النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم وأهل بيت الوحي ..
خيل لي وأنا أتجول في الطرقات المحيطة بالمقام كما لو كنت أمشي بالمدينة
المنورة في زمان النبي أو في شوارع الكوفة أيام علي لم يتشوش هذا الخيال
بمظاهر المدينة الحديثة التي بالمكان فهنا رجال الدين بعمائمهم السوداء
والبيضاء و " الحسينيات "(2):
التي هي مراكز الصقل الروحي والتوعية الجماهيرية والمعاهد الدينية " الحوزات
" قلاع حصينة في وجه الغزو الثقافي وجسور وصل بين الماضي والحاضر كل ذلك في
عاصمة الأمويين الذين أرادوا أن يمحوا ذكر محمد وأهل بيته وأن يعيدوا
الجاهلية في ثوب الإسلام عاصمة يزيد الذي ظن غباء أنه قد انتصر على الحسين
فإذا به لا يلبث بعد الحسين أن يكون لعنة التاريخ ولا يبقى له في عاصمة مجده
الزائف أثر بينما رقية بنت الحسين تلك الطفلة الميتة التي روعها يزيد حتى قضت
يبقى قبرها مع الأيام لا يزداد إلا شهرة وبريقاً وهنا السيدة زينب التي أذلت
يزيد بين جلاوذته وسخرت من مساعيه الباطلة يكون قبرها قبلة للزائرين على
اختلاف أديانهم ومذاهبهم وبين هذه وتلك مقبرة الفواطم التي ضمت نخبة من نساء
بيت الوحي وبقيت عبر القرون شاهدة على دناءة قوم ورفعة آخرين .
في طهران :
وبعد ثلاثة أشهر قضيتها بجوار العقيلة زينب ترتبت إجراءات سفري إلى
إيران وأصبحت على موعد قريب مع طهران عاصمة الثورة والشهداء والإمام الخميني
مع (قم) عاصمة التشيع والعلماء مع مشهد الرضا إمام الغربة والنوى وفي طريقها
إلى طهران حلقت طائرة ( جامبو) العملاقة بعيداً عن أجواء العراق تجنباً
للأخطار المحتملة فالحرب لا زال أوارها يستعر بين الدولتين وكم
تمنيت لو أنها تعبر من هناك لألقي نظرة ولو من بعيد على أرض تخضبت بدم
الحسين والصفوة من أهل بيته وأصحابه .
على متن الطائرة كان هناك وفد كبير من أسر الشهداء في لبنان ينتمي
أكثرهم إلى حزب الله وكانت مؤسسة الشهيد الإيرانية ترتب لهم رحلات منتظمة
لزيارة المقدسات في إيران وهكذا لم تكن رحلتنا بكل المقاييس رحلة عادية جلس
على المقعد المجاور شاب في مثل سني وما أن استوت الطائرة في جو السماء حتى
التفت كل منا إلى صاحبه وتبادلنا التحية والسؤال حدثته عن السودان وعن الحركة
الإسلامية فيه وعن تجربتنا في الانتقال إلى مذهب أهل البيت وحدثني عن لبنان
والبطولة والشهداء وروى لي القصة للاجتياح الإسرائيلي وبطولات المقاومة
وشاحنات الموت ثم الانسحاب الذليل للصهاينة ومرت الساعات الأربع دون أن نحس
بها وقبيل الفجر كانت الطائرة تحط بمطار مهرباد لننتقل بعد ذلك إلى حوزة
القائم في منطقة " ورامين " إلى الجنوب من العاصمة طهران .
بعد أشهر من وصولي إلى طهران التحق بي الأخ طاهر فأكملنا المدة المتبقية
معاً وكثيراً ما ذهبنا إلى مدينة قم بعدد كبير من العلماء وزرنا مشهد الإمام
الرضا (ع) في طوس أقصى شرق إيران ومكثنا هناك عشرة أيام زرنا خلالها المقام
في مختلف ساعات النهار والليل فما وجدنا اختلافاً في عدد الزوار الذين
يحتشدون في الحرم وأروقته العديدة على مدار الساعة بحيث يصعب على الزائر في
كل الأوقات أن يدنو من الضريح لاستلامه روح عجيبة تسود المكان كما لو كان
الإمام حياً يستقبل زائرية وهو حتماً يفعل ويرد عليه السلام هذا الإمام الذي
أتى به الخليفة المأمون من مدينة جدة إلى خراسان مخافة أن يلتف الناس حوله
هناك ثم أراد أن يضفي به على ملكه شرعية يفتقر إليها فعرض عليه الخلافة
فرفضها ثم ولاية العهد فلم يقبل فخيره بين القبول والموت فقبل على ألا يولي
ولا يعزل ولا يأمر ولا ينهي فلما أدرك المأمون أن تدابيره عادت على الإمام
على الإمام بأكثر مما عادت عليه دس له السم كعادة كل الطغاة واغتاله غيلة في
دار غربته فبات قبره قبلة لعشاق الحق ومهرى لقلوب المؤمنين .
ردود الفعل
كانت للمناخ الأسري الذي نشأت فيه دور كبير في رسم معالم المستقبل
لحياتي فقد زودتني أسرتي منذ الطفولة بجرعات كبيرة من الثقة بالذات وغرست في
داخلي بذور الحرية والاستقلال وقد دفعت ضريبة ذلك في مطلع شبابي تخبطاً
وتعثراً في المسار كاد أن يقضي على مستقبلي العلمي لولا أن تداركت أمري
وعاودت الدراسة مرة أخرى .
في هذه المرة كان علي أن أواجه أسرتي بقرار تهون إلى جانبه كل القرارات
السابقة إذ يتعلق الأمر هذه المرة بالعقيدة والمذهب وقد كفاني الناس عناء
إبلاغ أبي وأمي باختياري الجديد وما ترتب عليه من تحول جذري في حياتي الدينية
فقد تبرع بعض الأصدقاء بإبلاغهم ذلك كل بالصورة التي ارتضاها وربما أراد
بعضهم الإيقاع بيني وبين أهلي بينما كان دافع آخرين هو الحرص على ديني
والإشفاق علي .
أيا كانت الدوافع فقد تلقى والدي النبأ بحكمته التي أعرفها جيداً
واعتماداً على ثقته بابنه وكنت حينئذٍ بالخرطوم وتقيم أسرتي في الشمال وعند
أول لقاء بيني وبين أبي لم يحدثني مباشرة عما بلغه عني من أنباء ولكن بدلاً
عن ذلك أخذ يسدى إلي مجموعة من النصائح القيمة ويدعوني إلى التريث والتثبت
قبل أن أخطو أي خطوة مصيرية في حياتي فهمت مراده وطمأنته على نفسي وعلى سلامة
مسيرتي وقدمت له بعض كتل الدعاء المأثور عن أهل البيت (ع) فاقبل على قراءتها
بشغف شديد ثم انتقى من مكتبتي مجموعة من الكتب ظلت تلازمه على الدوام منها "
نهج البلاغة " للإمام علي (ع) و " كلمة الرسول الأعظم " للشهيد حسن الشيرازي
وغيرها وكان كتاب " النص والاجتهاد " للسيد شرف الدين هو أخطر الكتب التي قام
بمطالعتها باهتمام شديد وبعد أن فرغ من القراءة في زمن قياسي فاجأني بسؤال
محرج قال : أترى أن أبا بكر وعمر – هكذا – كانا محقين في تعاملهما مع الزهراء
(ع) بتلك القسوة كان سؤاله مباغتاً وكنت أفضل أن يتوصل إلى الحقيقة تدريجياً
وبنفسه لذلك أجبته قائلاً ذلك أمر يصعب البت فيه ولا بد من البحث والتحقيق .
أما والدتي – ذلك الإنسان البسيط ذو التدين الفطري والمعرفة المحدودة
بالتاريخ والفقه وغيره من قضايا الدين – فقد بدت منزعجة جداً بعد أن سمعت بعض
ما تناقلته النسوة من حديث حول ابنها وكان أكثرهن لا يميز بين شيعي وشيوعي
لذلك كن يستغربن كيف تحول ذلك الشاب المتدين من واعظ يدعو الناس إلى الإيمان
إلى شيوعي لا دين له ؟! .
ومع ذلك فإن أمي انتظرت ريثما تفهم الحقيقة مني ولم ترتب على كلام الناس
شيئاً وما أن التقينا بعد طول افتراق بادرت باستيضاح الأمر مني فحرت في أمري
إذ كيف أبين لها حقيقة التشيع وهي لا تعرف عن " التسنن ": شيئاً شأنها في ذلك
شأن أكثر الناس – رجالاً ونساء – قلت لها دعيني أسألك يا أمي من تعرفين من
الصحابة أجابت أعرف علياً وفاطمة بنت محمد والحسن والحسين وحمزة والعباس قلت
لها ذلك يكفي وكل ما في الأمر أن الناس بعد وفاة النبي (ص) انقسموا إلى قسمين
قسم صار مع علي وفاطمة والحسن والحسين وأبنائهم إلى اليوم وهم الشيعة وقسم
خالفهم واتبع غيرهم وهم الذين عرفوا بأهل السنة ونحن بعد أن عرفنا هذه
الحقيقة رأينا الحق في إتباع أهل البيت (ع) فصرنا شيعة لهم في ذلك شيء قالت
لا شيء في ذلك ونحن نحب أهل البيت ونحب من يحبهم وهكذا اطمأنت الوالدة وحمدت
الله أن ولدها لا زال متمسكاً بدينه كأقوى ما يكون وفي سنة 1989 وبعد عودتي
من إيران كان زواجي من الفتاة التي كنت خطبتها من قبل أن أعرف التشيع ومن بعد
كنت أرسل لها بعض الكتيبات والرسائل تمهيداً للنقلة التالية وكانت وقتئذ قد
أكملت المرحلة المتوسطة ومن ثم لا إلمام لها بقضايا التاريخ والاختلافات
المذهبية وعندما أردت عرض التشيع عليها كانت الإشكالية عدم مقدرتها على تقييم
ما أطرحه عليها من مسائل ومن ثم لن يكون اختيارها أيا كان اختياراً علمياً
واعياً ولن يكون الحوار متكافئاً ولا يرضيني أن تتبعني لمجرد الثقة بي لذلك
لجأت إلى أسلوب آخر أعرض عليها من خلاله التشيع بطريقة غير مباشرة وهو أن
أحاور في حضورها بعض أصدقائي الذين لا يوافقونني الرأي ويدافعون عن المذاهب
السنية ونسبة لمستواهم العلمي سيكون الحوار متكافئاً وهم في الوقت ذاته يحظون
بثقة المجتمع فكنت أدعوهم إلى بيتنا وأناقش معهم المسائل الجوهرية فتتابع
زوجتي الحوار ومن ثم توازن بين الحجج والبراهين وهكذا إلى أن باتت قادرة على
الاختيار بوعي واقتناع فاختارت التشيع لأهل البيت الذي هو جوهر الإسلام
ومعدنه .
نحن و محيطنا الاجتماعي :
التسامح والمرونة والانفتاح واحترام الرأي الآخر هي أهم خصائص المجتمع
السوداني وقد تجلى ذلك بوضوح في الحياة الدينية والعمل السياسي ومختلف مناحي
الحياة ومن هنا لم يكن صعباً علينا أن نجاهر بالعدول عن مذاهب العامة
والانتماء إلى مذهب أهل البيت وقد تلقى أصدقاؤنا ومعارفنا هذا الإعلان الجريء
بمواقف تتراوح بين الاهتمام البالغ وعدم الاكتراث على أن الدهشة والاستغراب
كانت هي القاسم المشترك بين الجميع وسببه أن التشيع كان مذهباً يجهله الناس
تماماً فلم يكن أحد يتوقع له أنصاراً وأتباعاً في بلادنا .
أجواء الحوار بالجامعات :
بحكم أعمارنا وارتباطنا بالجامعات كان الشباب والطلاب هم محور اهتمامنا
ومجال دعوتنا فكان أكثر المستبصرين فيما بعد شباباً لقد اتخذنا من الجامعة
منطلقاً لدعوتنا فقمنا بإصدار الصحف الحائطية وإقامة الأسابيع الثقافية بما
فيها من ندوات ومحاضرات وحوارات ومعارض كتاب لم يكن خطابنا مستغرباً في الوسط
الطلابي ! إذ نخاطب العقول ونقدم الحجج والبراهين بين يدي رؤانا ومعتقداتنا
والطلاب بعيدون عن التعصب والتبعية خاصة إزاء الطرح الموضوعي والحجج القوية
باستثناء الوهابيين فهم الفئة الوحيدة التي ناصبتنا العداء وسعت إلى عزلنا عن
الطلاب عن طريق الوصم بالكفر والزندقة والانحراف الفقهي فجاؤوا إلى الجامعة
بأبرز مشايخهم حتى يتحدثوا للطلاب عن الشيعة والتشيع وقاموا بإصدار الصحف
المتخصصة في الرد على الشيعة وأغرقوا المكتبات بغثاء من الكتب المضادة فكان
من توفيق الله لنا أن جعل أعداءنا من الحمقى الذين نصرونا من حيث أرادوا
ضربنا وذلك أن الحركة الوهابية لم تكن حركة مقبولة بين العامة فضلاٍ عن
الطلاب فاتخذنا نحن مواقع الهجوم بدلاً عن الدفاع ونجحنا في فضح انحرافاتهم
العقائدية وأثبتنا أمام الطلاب بالدليل القاطع أن السلفيين لا يؤمنون بالله
إلا جسماً وهيئة ذات أبعاد وجهات ولا يؤمنون بالنبي إلا رجلاً كغيره يخطئ
ويصيب لا ميزة له في حياته ولا كرامة له بعد مماته وأنهم لا يرون بين
المسلمين مؤمناً غيرهم وأنهم لا يقولون بكفر الشيعة وحسب ولكنهم يكفرون كل من
خالفهم الرأي وهكذا رددنا كيدهم في نحورهم فانقلبوا خائبين وكفوا عن التعرض
لنا في الجامعة فأوقفوا الصحف الخاصة وتركوا الحوار المباشر .
لقد اتسمت دعوتنا بالموضوعية والهدوء واحترام الآخر والبعد عن التفاصيل
المستفزة للآخرين وليس ذلك تكتيكاً بل استراتيجية نستمدها من قيم التشيع
ومبادئه التي تدعو إلى الجماعة ونبذ الفرقة فنحن ننظر إلى المجتمع المسلم
بنظرة إيجابية ونتفهم أوضاع الحركة الإسلامية أيا كان مذهبها ونأبى أن نكون
عقبة في طريق أهدافها الرسالية بل لا نستنكف أن نكون عوناً لأي حركة لا تعمل
على إلغاء الآخرين وقد كان لهذا المنهج أكبر الأثر في إعادة الثقة بيننا وبين
أصدقائنا في الاتجاه الإسلامي بعد أن كانوا قد اعتزلونا ظناً منهم أننا
باعتناقنا لمذهب أهل البيت قد وضعنا أنفسنا موضع الخصم لهم .
أما مجتمعنا التقليدي فلم نزدد بالتشيع إلا قرباً منه وتفاعلاً معه ولقد
لاقت وتلاقي دعوتنا إلى أهل البيت قبولاً وتجاوباً يتناسب مع ثقافة الشعب
السوداني ومورثاته الروحية والأخلاقية وكل الدلائل تشير إلى أن أهل السودان
في طريقهم إلى الخروج من ضيق المذهبية إلى رحاب أهل البيت بخطى هادئة ومدروسة
ضمن مسيرتهم الحضارية الصاعدة ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله
لمع المحسنين ) العنكبوت /69 .
ومن أراد الاطلاع على قصته الكاملة فليراجع كتابه:(ودخلنا للتشيع سجدا)
– ط دار الخليج العربي .
1- في أعقاب الانتفاضة الشعبية التي اطاحت بحكومة نميري
عام1985 دعت الحركة الإسلامية، وكانت تعرف حتى ذلك الوقت بـ( الاتجاه
الإسلامي)، إلى جبهة إسلامية عريضة، تتسع لكل من يؤمن بالمشروع الإسلامي
بصورة عامة، وهكذا عقدت مؤتمرا تأسيسياً ضخماً أجيز فيه ميثاق (الجبهة
الإسلامية) الإسم الجديد للحركة الإسلامية، وانتخب الدكتور حسن الترابي
أميناً عاماً لها.
2- وهي الدور التي تقام فيها
الشعائر وتحيى فيها المناسبات , نسبت إلى الحسين لأنه المحور الذي تدور عليه
الخطب والمحاضرات التي تعرف هي الأخرى بالمجالس الحسينية إذ تبدأ وتنتهي بذكر
الحسين ووقعة كربلاء فلا تحسبن أن في ذلك مبالغة فلولا الحسين لمحق الدين على
يد بني أمية والمسلمون بمختلف مذاهبهم مدينون لأبن عبد الله الحسين (ع) هذا
الإمام الذي لا يعرف عنه أكثر المسلمين إلا ذلك الطفل الصغير الذي كان النبي
يطيل السجود بسبب اعتلائه ظهره الشريف ويغيب ذكره وسيرته الشريفة عن مناهج
الدراسة في كل ا لمراحل.