ادب الطف ـ الجزء الثاني 297
رضيت ولولا ما علمتم من الجوى لـما كـنتُ أرضـى منكم iiبلمام
وانـي لأرضى أن اكون iiبأرضكم عـلى أنـني منها استفدت سقامي
وقوله :
بيني وبين عواذلـي في الحب أطراز الرماح
أنا خارجي في الهوى لا حـكـم إلا للمـلاح
وقوله :
قـل لمن خده من اللحظ iiدامٍ رقّ لي من جوانح فيك تُدمى
يا سقيم الجفون من غير iiسقم لا تلمني إن مُتّ منهن iiسقما
أنا خاطرت في هواك iiبقلب ركـب الـبحر فيك إما وإما
وقوله من قصيدة :
قل لمعزٍّ بالصبر وهو خليٌ وجميل العذول ليس iiجميلا
مـا جهلنا أن السلو iiمريح لو وجدنا الى السلو iiسبيلا
وقوله من مقطوع في الشيب :
يقولون لا تجزع من الشيبب iiضِلّة وأسـهمه إيـاي دونـهم iiتُصمي
وقالوا أتاه الشيب بالحلم iiوالحجى فقلتُ بما يَبرى ويعرق من iiلحمي
ومـا سرني حلم يفيء الى iiالردى كـفاني ما قبل المشيب من iiالحلم
اذا كـان يعطيني من الحزم iiسالباً حياتي فقل لي كيف ينفعني حزمي
وقـد جـرّبت نفسي الغداة iiوقاره فما شدّ من وهنى ولا سدّ من ثلمي
وإنـي مذ أضحى عذاري iiقرارُه أُعـادُ بـلا سُقم وأُجفى بلا iiجُرم
وسـيّان بـعد الشيب عند iiحبائبي وقـفن عليه أم وقفن على رسمي
ادب الطف ـ الجزء الثاني 298
أبو العلاء المعرّي
وعـلى الدهر من دماء iiالشهي ديـن عـلي ونـجله iiشاهدانِ
فـهما فـي أواخر الليل iiفجرا ن وفــي أولـيـاته iiشـفقان
ثـبتا فـي قـميصه ليجيء iiال حـشر مـستعدياً الى iiالرحمن
وجـمال الأوان عـقب جـدود كــلُ جـدٍمنهم جـمال iiاوان
يا ابن مستعرض الصفوف ببدر ومـبيد الـجموع مـن iiغطفان
أحـد الـخمسة الذين هم iiالاع راض فـي كل منطق iiوالمعاني
والـشخوص التي خُلقن iiضياء قـبل خـلق المريخ iiوالميزان
قـبل أن تخلق السماوات أو iiتؤ مــر أفـلاكـهن بـالدوران
لـو تـاتى لنطحها حمل iiالشه ب تـروى عن رأسه iiالشرطان
أو أراد الـسماك طـعناً لها iiعا د كـسير الـقناة قـبل iiالطعان
أو رمتها قوس السماء لزال iiال عـجر مـنها وخانها iiالأبرهان
أو عـصاها حوت النجوم iiسقاه حـتفه صـائد مـن iiالـحدثان
وبـهم فـضل المليك بني iiحوا ء حـتى سـموا على iiالحيوان
شـرفوا بالشراف والسمر iiعيدا ن اذا لـم يـزنّ iiبـالخرصان
يشير ابو العلاء الى الحديث الشريف القائل بأن الله عز وجل خلق أنوار الخمسة : محمد
وعلي وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق الخلق .
ادب الطف ـ الجزء الثاني 299
وقوله كما أورد سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص :
أرى الأيام تفعل كل نكرٍ فما أنا
فـي العجائب مستزيد
أليس قريشكم قتلت حسيناً وكان علـى خلافتكـم يزيد(1)
أبو العلاء المعري(2) التنوخي : أحمد بن عبد الله :
ولد بمعرة النعمان سنة 363 وتوفي بها يوم الجمعة ثاني ربيع الأول سنة 449 عن 86 سنة
. ولما مات أنشد على قبره أربعة وثمانون شاعراً مراثي من جملتها أبيات لعلي بن
الهمام من قصيدة طويلة :
إن كنت لم ترقِ الدماء iiزهادةً فلقد أرقت اليوم من جفني دما
سـيّرتَ ذكراً في البلاد iiكأنه مسك مسامعها يضمّخُ أو iiفما
ونرى الحجيج اذا أرادوا iiليلة ذكراك أوجب فدية مَن iiأحرما
ويقول أن ذكراك طيب والطيب لا يحل لمحرم فيجب عليه فدية ، والحق ان ابا العلاء فلتة
من فلتات الزمن ونابغة من نوابغ العالم . اختلف الناس فيه فمن قائل ، هو مسلم موحّد
، وبين مَن يرميه بالالحاد واذكر حديثاً للمرحوم المصلح الشيخ محمد حسين كاشف
الغَطاء برهن فيه على ايمانه وتشيعه ، وذكر صاحب نسخة السحر انه من شعراء الشيعة .
(1) جاء في الحديث الشريف : لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يكون أول مَن يثلمه
رجل من بني أمية يقال له يزيد .
رواه ابن حجر في مجمع الزوائد ج 5 ص 241 عن مسند أبي يعلى والبزاز وفي الصواعق
المحرقة ص 132 عن مسند الروياني عن أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وآله وسلم : أول
مَن يبدل سنتي رجل من بني أمية يقال له يزيد .
(2) المعري : نسبة الى معرة النعمان من بلاد الشام .
ادب الطف ـ الجزء الثاني 300
ومن شعره تتنسم عبير التشيع فاسمعه يقول في قصيدته :
أدنـياي اذهـبي وسـواي iiإمّـي فـقد ألـممت لـيتك لـم iiتـلّمي
وكـان الـدهر ظـرفاً لا iiلـحمدٍ تـؤهـله الـعـقول ولا iiلــذِمّ
وأحـسب سـانح الأزمـيم iiنادى بـبين الـحيّ في صحراء iiذَمّ(1)
اذا بـكرُ جـنى فـتوّق iiعـمراً فــــإن كـلـيـهما لأب iiوأمِّ
وخف حيوان هذي الأرض واحذر مـجيء النطح من رَوق iiوجُمّ(2)
وفـي كـل الـطباع طـباع نكز ولـيـس جـميعهنّ ذوات iiسُـمّ
ومـا ذنب الضراغم حين iiصيغت وصـيّـر قـوتها مـما iiتُـدّمي
فـقد جُـبلت على فرس iiوضرس كـما جـبل الـوفود على iiالتنمي
ضـياء لـم يـبن لـعيون كـمهٍ وقـولٌ ضـاع فـي آذان صُـمّ
لـعمرك مـا أسـرّ بـيوم iiفطر ولا أضـحـى ولا بـغدير iiخُـم
وكــم أبــدى تـشيّعه غـويُّ لأجــل تـنـسّبٍ بـبلاد iiقـمّ
ومن شعره :
لقد عجبـوا لآل البيت لما أتاهم علمهم في جلدِ جفر
ومرآة المنجّم وهي صغرى تريه كل عـامرةٍ وقفـر
وقوله كما في نسمة السحر :
أمـر الـواحد فـافعل ما iiأمر واشـكر الله ان الـعقل iiأمـر
أضـمر الخيفة واضمر قلّ iiما ادرك الطرف المدى حتى ضمر
أيـها الـملحد لا تعصى iiالنهى فـلقد صـحّ قـياسٌ iiواشـتهر
إن يـعد في الجسم يوما روحه فـهو كـالربع خـلا ثـم عمر
(1) ازميم : ليلة من ليالي المحاق . والهلا اذا دق في آخر الشهر واستقوس ، ذم :
الهلاك .
(2) الروق : القرن ، جم جمع الاجم : الكبش لا قرن له .
ادب الطف ـ الجزء الثاني 301
وهــي الـدنيا أذاهـا iiابـداً زمــر واردة إثــر iiزمـر
يـا أبـا السبطين لا تحفل iiبها أعـتيقٌ سـاد فـيها أم iiعـمر
قال السيد الأمين في الأعيان :
هو ابو العلاء احمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي الشاعر المتفنن كان عربيّ
النسب من قبيلة تنوخ بطن من قضاعة من بيت علم وقضاء ولد بمعرة النعمان سنة 363 وجدر
في الثالثة من عمره وكف بصره وتعلم على أبيه وغيره من ائمة زمانه فكان يحفظ ما
يسمعه من مرة واحدة ، وقال الشعر وهو ابن احدى عشرة سنة ، ونسك في آخر عمره ولم
يبرح منزله وسمى نفسه رهين المحبسين : العمى والمنزل : وبقي مكبّاً على التدريس
والتأليف ونظم الشعر مقتنعاً بالقليل من الدنانير يستغلها من عقار له مجتنباً أكل
الحيوان وما يخرج منه مكتفياً بالنبات والفاكهة والدبس متعللا بأنه فقير وانه يرحم
الحيوان ، وعاش عزباً الى أن مات سنة 449 بالمعرة وأمر أن يكتب على قبره :
هذا جناه
أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد
أقول الحق انه فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة ولا يسمح الدهر بامثاله إلا في السنين
المطاولة والازمان المتباعدة وهذه اراؤه تتجدد وأشعاره بمعانيها تزداد حلاوة وعذوبة
وان هذه الاختلافات في هذا الرجل دلالة على عمقه وعظمته واليك قوله في إثبات البعث
والمعاد .
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الاجساد قلت : اليكما
إن صحّ قولكما فلستُ بخاسرٍ أو صحّ قولي فالخسار عليكما
وفي معجم الأدباء : ولد بمعرة النعمان (363) واعتلّ علّة الجُدَري التي ذهب فيها
بصره (367) وقال الشعر وهو ابن 11 سنة ورحل الى بغداد سنة 398 فاقام بها سنة وسبعة
أشهر ثم رجع الى بلده فأقام بها ولزم منزله الى أن مات بالتاريخ المتقدم . قال :
ونقلت من بعض الكتب أن أبا العلاء
ادب الطف ـ الجزء الثاني 302
لما ورد الى بغداد قصد ابا الحسن علي بن عيسى الربعي ليقرأ عليه فلما دخل عليه قال
علي بن عيسى ليصعد الاصطبل فخرج مغضباً ولم يعد اليه ، والاصطبل في لغة أهل الشام
الأعمى ولعلها معرّبة . ودخل على المرتضى ابي القاسم فعثر برجلٍ فقال : من هذا
الكلب ، فقال المعري : الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً ، وسمعه المرتضى
فاستدناه واختبره فوجده عالما مشبعا بالفطنة والذكاء فأقبل عليه إقبالاً كثيرا ،
وكان أبو العلاء يتعصب للمتنبي ويزعم انه أشعر المحدثين ويفضله على بشار ومن بعده
مثل أبي نواس وأبي تمام ، وكان المرتضى يبغض المتنبي ويتعصب عليه فجرى يوما بحضرته
ذكر المتنبي فتنقصه المرتضى وجعل يتتبع عيوبه ، فقال المعري : لو لم يكن للمتنبي من
الشعر إلا قوله : ـ لك يا منازل في القلوب منازل ـ لكفاه فضلاً فغضب المرتضى وأمر
فسحب برجله واخرج من مجلسه ، وقال لمن بحضرته أتدرون أي شيء أراد بذكر هذه القصيدة
فإن للمتنبي ما هو أجود منها ـ اراد قوله في هذه القصيدة :
وإذا أتتك مذمتي من
ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كامل
وقال السيد الامين إن هذه القصة موضوعة ولا يصح قول من قال أن المرتضى كان يبغض
المتنبي فانه لا موجب لبغضه إياه وليس معاصراً له فمولد المرتضى قريب من وفاة
المتنبي ، ولا لتعصبه عليه ، فالمرتضى في علمه وفضله ومعرفته لم يكن يتعصب على ذي
فضل كالمتنبي ولا يجهل مكانته في الشعر ، والمعري مع علمه بجلالة قدر المرتضى وعلوّ
مكانه لم يكن ليواجهه بهذا الكلام وللمعري بيتان يمدح الرضي والمرتضى في القصيدة
التي رثى بها والد السيدين المرتضى والرضي وهما :
ساوى الرضي المرتضى وتقاسما خططالعلا بتـناصفٍ وتـصافى
خلا نـدى سبـقا وصلى الاطـ ـهر المرضي فيا لثلاثة أحلاف
والاطهر المرضي هو ابن للشريف المرتضى .
ادب الطف ـ الجزء الثاني 303
قال السيد الامين في الاعيان :
اختلف الناس فيه فبين ناسب له الى الالحاد والتعطيل وبين قائل انه مسلم موحد . في
معجم الادباء : كان متهماً في دينه يرى رأي البراهمة لا يرى أفساد الصورة ولا يأكل
لحماً ولا يؤمن بالرسل والبعث والنشور وعاش ستاً وثمانين سنة لم يأكل اللحم منها
خمساً وأربعين سنة ، وحُدثت أنه مرض مرة فوصف الطبيب له الفروج فلما جيء به لمسه
بيده وقال : استضعفوك فوصفوك هلا وصفو شبل الأسد . وحدث غرس النعمة أبو الحسن
الصابي انه بقي خمسا واربعين سنة لا يأكل اللحم ولا البيض ويحرّم إيلام الحيوان
ويقتصر على ما تنبت الارض ويلبس خشن الثياب ويظهر دوام الصوم . قال : ولقيه رجل
فقال : لم لا تأكل اللحم قال ارحم الحيوان قال فما تقول في السباع التي لا طعام لها
الا لحوم الحيوان فان كان لذلك خالق فما أنت بأرأف منه ، وان كانت الطبائع المحدثة
لذلك فما أنت بأحذق منها ولا أتقن عملاً ، فسكت ـ قال ابن الجوزي : وقد كان يمكنه
أن لا يذبح رحمة وأما ما ذبحه غيره فأيّ رحمة بقيت . قال : وقد حدثنا عن ابي زكريا
أنه قال : قال لي المعري ما الذي تعتقده ؟ فقلت في نفسي اليوم أقف على اعتقاده ،
فقلت له ما أنا إلا شاك ، فقال وهكذا شيخك قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني
: قال لي المعري لم أهج أحداً قط ، فقلت له صدقت ، إلا الانبياء عليهم السلام
فتغيّر وجهه .
(قال المؤلف) : اما عدم ذبحه الحيوان وعدم أكله اللحوم فكاد يكون متواتراً عنه ومرّ
في مرثية علي بن الهمام له قوله :
ان كنت لم ترق الدماء زهادة فلقد أرقت اليوم من
جفني دما
مما دل على أن ذلك كان معروفاً مشهوراً عنه .
ادب الطف ـ الجزء الثاني 304
لماذا لم يأكل اللحم ؟
وقد علل امتناعه عن أكل اللحوم وغيرها في أحد اجوبته في المراسلة التي دارت بين
وبين داعي الدعاة . قال جواب إحدى تلك الرسائل :
قد بدأ المعترف بجهله المقر بحيرته وعجب أن مثله يطلب الرشد ممن لا رشد عنده وقد
ذكر ايد الله بحياته بيتا من أبيات على قافية الحاء ذكرها وليه ليعلم غيره ما هو
عليه من الاجتهاد في التدين وما حيلته في قوله تعالى (مَن يهد الله فهو المهتد)
وأولها :
غدوتَ مريضَ العقل والدين فالقني لتـعلم أنبـاء الامـور الصـحائح
فلا تأكلن ما أخـرج المـاء ظالما ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح(1)
والحيوان البحري لا يخرج من الماء إلا وهو كاره والعقل لا يقبح ترك أكله وإن كان
حلالاً لأن المتدينين لم يزالوا يتركون ما هو لهم حلال مطلق :
وأبيض أُمّاتٍ أرادت صريحه لأطفالها دون الغواني الصرائح(2)
والمراد بالابيض اللبن والأم اذا ذبح ولدها وجدت عليه وجداً عظيماً وسهرت لذلك
ليالي فأيّ ذنب لمن تحرج عن ذبح السليل ولم يرغب في استعمال اللبن ولم يزعم أنه
محرم وإنما تركه اجتهاداً في التعبّد ورحمة للمذبوح رغبة أن يجازى عن ذلك بغفران
خالق السموات والأرض واذا قيل ان الله سبحانه يساوي بين عباده في الاقسام فأي شيء
اسلفته الذبائح من الخطأ حتى تمنع حظها من الرأفة والرفق :
فلا تفجعنّ الطير وهي غوافل بما وضعت فالظلم شرّ القبائح
(1) الغريض : اللحم النيء .
(2) أُمات : جمع أُم والصريح في كل شيء الخالص منه .
ادب الطف ـ الجزء الثاني 305
وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صيد الليل وذلك أحد القولين في قوله عليه
السلام اقرّوا الطير في وكناتها ، وفي الكتاب العزيز « يا أيها الذين آمنوا لا
تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم ومَن قتله متعمداً فجزاء مثلُ ما قتل من النَعم» فاذا سمع
من له أدنى حسّ هذا القول فلا لوم عليه اذا طلب التقريب الى رب السماوات والارضين
بأن يجعل صيد الحل كصيد الحرم وإن كان ذلك ليس بمحظور :
ودع ضَربَ(1) النحل الذي
بكرّت له كواسب من أزهارِ نبتٍ فوائح
لما كانت النحل تحارب الشائر(2) عن العسل بما تقدر عليه فلا غرو إن أعرض عن
استعماله رغبة في أن تجعل النحل كغيرها مما يكره من ذبح الأكيل واخذ ما كان يعيش به
لتشربه النساء كي يُبدّن وغيرها من بني آدم ، وروي عن علي عليه السلام حكاية معناها
انه كان له دقيق شعير في وعاء يختم عليه فاذا كان صائماً لم يختم على شيء منه وقد
كان عليه السلام يصل اليه غلّة كثيرة ولكنه كان يتصدق بهاويقتنع أشد اقتناع . وروي
عن بعض أهل العلم انه قال في بعض خطبه ان غلّته تبلغ خمسين الف دينار وهذا يدل على
ان الانبياء والمجتهدين من الأئمة يقصرون نفوسهم ويؤثرون بما يفضل عنهم أهل الحاجة
. وقد أوما سيدنا الرئيس الى أن من ترك أكل اللحم ذميم ولو أخذ بهذا المذهب لوجب
على الانسان أن لا يصلي الا ما افترض عليه ومن له مال كثير اذا اخرج زكاته لا يحسن
به أن يزيد على ذلك . وأما ما ذكره من المكاتبة في توسيع الرزق علي فالعبد الضعيف
العاجز ما له رغبة في التوسع ومعاودة الا طعمة وتركها صار له طبعا ثانيا وانه ما
أكل شيئاً من حيوان خمسا وأربعين سنة .
ومما يعجب له من أمر أبي العلاء فبينا البعض يستظهر من اشعاره تشكيكه
(1) الضرب يفتحين : العسل .
(2) الشائر من شار العسل واشتاره أي جناه .
ادب الطف ـ الجزء الثاني 306
والحاده واذا به يصوم الدهر ويحافظ على الصلوات ويصلى جالساً بعد سقوط قوّته ولا
يترك الصلاة بحال ويقول في اثبات الخالق عز وجل .
متى ينزل الأمر السماوي لم يفد سوى شبح رمي الكميّ iiالمناجد
وإن لحق الإسلام خطبٌ iiيغضّه فـما وجدت مثلاً له نفس iiواجد
اذا عظّموا كيوان عظّمتُ iiواحداً يـكون لـه كـيوان أول ساجد
ويقول :
والله حـق وابـن آدم جاهل من شأنه التفريط والتكذيبُ
قال الشيخ القمي في الكنى والألقاب :
أحمد بن عبد الله بن سليمان المعروف بأبي العلاء المعرّي الشاعر الأديب الشهير كان
نسيج وحده بالعربية ضربت آباط الإبل اليه ، وله كتب كثيرة وكان أعمى ذا فطانة ، وله
حكايات من ذكائه وفطانته ، حكي انه لما سمع فضال الشريف السيد المرتضى اشتاق الى
زيارته فحضر مجلس السيد ، وكان سيد المجالس فجعل يخطو ويدنو الى السيد فعثر على رجل
فقال الرجل : مَن هذا الكلب ؟ فقال المعري الكلب مَن لا يعرف للكلب سبعين اسماً
فلما سمع الشريف ذلك منه قرّبه وأدناه فامتحنه فوجده وحيد عصره وأُعجوبة دهره ،
فكان ابو العلاء يحضر مجلس السيد وعدّه من شعراء مجلسه ، وجرى بينهما مذاكرات من
الرموز ما هو مشهور وفي كتب الاحتجاج مسطور . قيل ان المعري لما خرج من العراق سُئل
عن السيد المرتضى رضي الله تعالى عنه فقال :
يا سائلي عنه لما جـئت اسأله ألا هو الرجل
العـاري من العار
لو جئته لرأيت الناس في رجل والدهر في ساعة والأرض في دار
ادب الطف ـ الجزء الثاني 307
ومن شعره :
لو اختصرتم من الاحسان زرتكم والعذب يهجر للافراط في الخصر
(الخصر البرد) ومن شعر المعري قصيدة يرثي بها بعض أقاربه :
مـجدٍ فـي مـلتي iiواعـتقادي نـوحُ بـاكٍ ولا تـرنم iiشـاد
أبـكت تـلكم الحمامة أم iiغنّت عـلى فـرع غـصنها iiالـمياد
صـاح هـذي قبورنا تملأ iiالأر ض فـأين القبور من عهد iiعاد
خـفف الوطئ ما أظن أديم iiالا رض إلا مـن هـذه iiالاجـساد
وقـبيح بـنا وإن قـدم iiالـعهد هــوان الآبــاء iiوالأجـداد
رب لحدٍ قد صار لحداً iiمرراراً ضـاحكٍ مـن تزاحم iiالأضداد
ودفـيـنٍ عـلى بـقايا iiدفـين فـي طـويل الأزمـان iiوالآباد
فـاسأل الـفرقدين عـمن أحسّا مـن قـبيل وآنـسا مـن iiبلاد
كـم أقـاما عـلى زوال iiالنهار وانــارا لـمدلج فـي iiسـواد
تـعبٌ كـلّها الحياة فما iiأعجب إلا مـن راغـبٍ فـي ازديـاد
إن حـزناً فـي سـاعة iiالموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد
خُـلق الـناس لـلبقاء iiفضلّت أمــةٌ يـحـسبونهم iiلـلـفناد
إنـما يـنقلون مـن دار iiأعمال إلــى دار شـقوة أو iiرشـاد
حكي عنه انه كان يقول أتمنى أن أرى الماء الجاري وكواكب السماء ، حيث كان أعمى وفي
عماه يقول بعض الشعراء :
أبا الـعلاء بـن سلــيمانـا ان العمى أولاك إحسانا
لو أبصرت عيناك هذا الورى لم يـر انسانـُك إنسانا
قال جرجي زيدان في (تاريخ آداب اللغة العربية) :
ابو العلاء المعري هو خاتمة شعراء العصر العباسي الثالث كما كان شبيهه أبو الطيب
المتنبي فاتحته ـ ونعم الفاتحة والخاتمة . وهو الشاعر الحكيم الفيلسوف
ادب الطف ـ الجزء الثاني 308
احمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد التنوخي . ولد في المعرة سنة 363 هـ وكان أبوه
من أهل الأدب وتولى جدّه القضاء فيها . وكانت أمه ايضاً من أسرة وجيهة يعرفون بآل
سبيكة ، اشتهر منهم غير واحد بالوجاهة والأدب وكانت المعرة تحت سيطرة الدولة
الحمدانية بحلب وأميرها يومئذ سعد الدولة أبو المعالي .
ولم يتم أبو العلاء الثالثة من عمره حتى أصابه الجدري فذهب بيسرى عينيه وغشي يمناها
بياض . فكفّ بصره وهو طفل وكان يقول : «لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني البست
في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر» . لقنه أبوه النحو واللغة في حداثته ثم قرأ على
جماعة من أهل بلده ـ ولما أدرك العشرين من عمره عمد الى سائر علوم اللغة وآدابها
فاكتسبها بالمطالعة والاجتهاد ـ وكان يقيم أناساً يقرأون له كتبها وأشعار العرب
وأخبارهم . وهو قوي الحافظة الى ما يفوق التصديق .
وكان مطبوعاً على الشعر نظمه قبل أن يتم الحادية عشرة من عمره . ولم يمنعه العمى من
مباراة بأرباب القرائح في ما اشتغلوا به حتى في العابهم فقد كان يلعب الشطرنج
والنرد ويجيد لعبهما لا يرى في العمى نقصاً . بل هو كان يقول «احمد الله على العمى
كما يحمده غيري على البصر» وكان يرتزق من وقف يحصل له منه ثلاثون ديناراً في العام
ينفق نصفها على مَن يخدمه .
ورحل في طلب العلم على عاداتهم في ذلك العهد فأتى طرابلس واللاذقية وسواهما من بلاد
الشام وأخذ فلسفة اليونان عن الرهبان ـ ثم رحل الى بغداد سنة 398 وشهرته قد سبقته
اليها فاستقبله علماؤها بالحفاوة . واطلع في أثناء اقامته هناك على فلسفة الهنود
والفرس فضلاً عن سائر العلوم . حتى اذا نضج عقله وأمعن النظر في الوجود رأى الدنيا
كما هي فزهد فيها وعزم على الاعتزال ليتسنى له التأمل والتفكير . فغادر بغداد سنة
400 هـ وأتى المعرة ولزم بيته وسمى نفسه «رهين المحبسين» وأخذ بالتأليف والنظم
وتدوين أفكاره وآرائه |