فبوركتْ طلعة ذلك الاغرّ، وحياه اللّهُ ما تعاقب الابيضان الشمس والقمر، فلعمري كم
اطلقت يده البيضاء، من صنيعةٍ غرّاء، قد عُقلتْ نعمُ الشكر بأفنية نعمه، وملكتْ
أعنَّة سوابق النظم والنثر فلا تستبق لغاية سوى الثناء على أخلاقه وكرمه؛ حتى مكث
ركابُ الشكر على تلك المواهب حبيسا، وأقسم الثناء بتلك المناقب لا لمستْ يداه سواها
لموسى ؛ وأين بركاب الشكر من تلك الرحبة الخضراء، وماذا تلمس بعد تلك المناقب يدُ
الحمد والثناء، وهل في هذا الزمن إلاّ (محمد حسن) ماجدٌ ما اسودَّ ليلُ الظن لطامع،
إلاّ ابيضَّ من أشعة وجهه القمر الطالع؛ وإنّي وان احكمتْ منّي يدُ الاخلاص عقد
ودّه، وأمنتُ عليها أنْ تحلَّ بيد هجرانه وصدِّه، لمعتذرٌ اليه، من ابطائي عليه،
فلقد ساورني الدهرُ، بشواغل هي قيدُّ الفؤاد والفكر، فأصبحت قليل الحظوة؛ ثقيل
الخطوة، عاثرا بذيل التقصير، ناظرا من الخجل على البعد بطرفٍ حسير؛ قد بعثت العذرَ
على لسان هذه الغادة الكعاب، التي ربما وقف الحيأُ بها دوين الباب، والرجأ من كرم
أخلاقه، وشرف أعراقه، أن يعيرها سمعَ مسامحٍ وهّاب:
إحدى الغواني إلى الزوراء جاءتك تمشي على استحيأِ(835)
***
___________________________________
835 تقدمت في باب الموشحات.
3 ـ وكتب اليه أيضا يعتذر اليه:
قد جنى لي الزمانُ أعظم ذنبٍ وغدا عنه شاغلي ان يتوبا
فلقد أقعدتني العللُّ، حيث أقامني الخجلُ، ومثلت بي الامراض، في هيئةٍ من غيره
الصدود والاعراض، إلاّ أن أعناق الامال، لم تزل متطاولة إلى هبوب نفحات الاقبال،
بقبول العذر ممن نزل به السقم منزلة الصحة من جسده؛ وحنى اللحدُ أضلاعه على بعض
أولاد أخيه وكان أعز عليه من أفلاذ كبده؛ ومع طوارق اخر، كلُّ طارقهٍ منها تقول لا
وَزَر، أيسرُها ابتلاء الدهرُ له بحبسه، مع غير أبناء جنسه، لاني منذ فارقت ذلك
النادي، وحللتُ ولكن في غير بلادي، إلى الان مقسم الفكر بين معالجة الاوصاب،
ومعالجة انتساخ ذلك الكتاب، فاذا انحسرتْ عنّي آونة غمرةُ الالم، وأفقتُ قليلا من
سكرة السقم، أقبلتُ على التحرير، قائلا لا يُحمد ترك القليل لفوات الكثير، وبينما
أنا كذلك: إذ وردتْ إلى تلك الرسائل، وأنا في حالٍ، كأنّي المنعوت فيها بقول
القائل:
أهمُّ بأمر العزم لا استطيعه كما حيل بين العير والنزوان
فلولا أنها تابعتْ إلى طروقها، وشفعت برعدها بروقها، حتى خفتُ أنْ ينصبَّ عليَّ سوط
عذابها، لما ألهاني عن تنميق الكتاب تنسيق جوابها، لانها يا عافاك اللّه مما
اشتكيه، ومتَّعك من الصحة بأكمل ما ألتمسه من اللّه وارجّيه، وإنْ كان ورودُها
إليَّ منك،، فإنّي قد آثرتُ الاشتغال بك حتى عنك، هذا عذريْ اليك، وأنا على ثقةٍ من
قبوله اذا نشره بنانُ الاستعطاف لديك، ولقد وشحتُ هذه الالوكة، بنظم هذه الابيات
التي جاءت أرقُّ من ريطة وشيٍ محوكة، وجعلتُ معانيها السحّارة، كفارة ما سلف من
الذنوب وأيَّ كفارة:
يا مَن لويتُ به يد الخطب وبه ثنيتُ طلايعَ الكرب(836)
___________________________________
836 تقدمت في باب المدائح.
4 ـ وقال وقد كتب بها اليه جوابا على كتابٍ أرسله أيضا:
فـي فـمي لم يزلْ لذكركَ iiنشرٌ طـيّبٌ واخـتبرْ بـذاكَ iiالنسيما
وبـمرآة فـكرتي لـم يزلْ iiشخ صُـك نصب العينين منّي iiمقيما
وعـلى الـنحر من عُلاك ثنائي لـيس يـنفكُّ عـقده iiمـنظوما
لا تـظن الـبعاد يـحجبُ iiعنّي مـنك ذيـالك الـمحيا iiالكريما
أنت عندي بالذكر أحضر من قل بـي بـقلبي فـكنْ بذاك iiعليما
لـستُ اقوى لحمل عتبكَ يا iiمن حـملتْ فـخره الـمعالي قديما
فاثنِ عن غرب عتبك اليوم iiعنّي فـيه قـد تـركت قـلبي iiكليما
إني ومَن جعلك ريحانة الاديب، وسلوة الغريب، لم استوجبْ منك هذا العتاب، ولم
استجلبْ بمساءةِ كل هذا الخطاب، فهبني أسأت فأين العفوُ والكرم، ولعمري لقد تجرمتَ
عليَّ ولا جرم، إنّي اعتذر الان فأقول: إنْ هبَّت من ذلك الجناب نسماتُ القبول، ما
حلَّتْ ازرار جيبها الصبَا، ولا فتحت أكمام النور على الرُبى، عن أطيب من تسليمات
كأنما تحدّثت بها أرواح النسيم فعطَّرتْ أنفاسها، وعن أبهى من تحيات كأنما باهت بها
الرواةُ أنواع الربيع فغطَّت خجلا بالاكمام رأسها، ولا ملاطفة غادة كعاب، لم تعرفْ
إلاّ العطر والخضاب، بأوقع في النفس، واشغل للحواس الخمس، من بديع بيان، كله قطعُ
جنان، يجلو بواضح الاعتذار ظلمة العتب، ويمحو بصادق التنصل كاذب الذنب، من محبٍ صدع
التقريع منه الاحشاء، وأرمضتْ قلبه هواجس الاستجفاء، إلى مَن حنوتُ عليه ولا حنوَّ
المرضعات على الغرام، وغذوتُ له الحبَّ ولا غذاء الاباء طرائف الهيام، حتى شبَّ
وليد شوقي اليه على الشغف، ونشأ طفل ولعي به في حجر الصبابة والكلف، حتى سكنتْ نفسي
إلى هواه، سكون الجفن الساهر إلى كراه، وعقدتُ خنصر التعويل عليه، حين توسمت عنوان
النهى بين عينيه، وسبرتُ في مباديه، وتفرستُ في معانيه، لاعلم أين يكون موقعه من
فخر أبيه، فرأيت الخيرُ كله فيه بعد أخيه، حيث أنبأتني شمائله، وبشرتني مخائله، أنه
سيكون إنسان تلك المقلة، وطراز تلك الحُلة، ولا عجب، والامر ليس بمستغرب، ممن
ترشحُه معالي هممه، وتؤهله محاسنُ أخلاقه وكرائم شيمه، لمعارف أبيه وعوارف كرمه، أن
يتشح ببردة فخره، ويتوشح بمناقبه بين أبناء دهره، ولعمري لئن حكتْ أخلاقه خلائقه،
ووصفتْ مخاثله بوارقه، ففي الشبل من ابن الغيل شمائل، وعلى ابن ذكاء من الغزالة
دلائل، والفيء ناشيٌ من الظلّ، والفرع مبنيٌ على الاصل، وذكأ النبت بقدر ذكاء
تربه، والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربه، وهذه الصلصالة من ذلك الطين، وهذه
السلسالة من ذلك الماء المعين، قد استهلَّ معه سعده، حين وُلد مجده:
عفُّ السريرة طاهر الـ أبراد معصومُ البصيرة
يقتدي به مشايخُ الحزم في عنفوان شبيبته، وتعرف الاصابة كلما رمتْ عن قسيِّ روّيته،
زاده اللّهُ عليهم في الحزم بسطة، وجعل له في الكرم أنامل سبطه، قد مشى في ديار
التجارب فجاس خلالها، وقاس بفتره أشبار الكرماء فطالها، يضرب بعرقيْ نسبه، ويمتُّ
بطرفي حسبه، إلى أبوين لا يجاريان شرفا، أبٌ مرتضىً وأبٌ مصطفى، قد صعد الذروة من
هاشم، واقتعد الصهوة من مجد قبيلة المكارم، فهو من أهل ـ قلْ لا أسألكم عليه أجرا
ـ، ومن اسرةٍ جعلوا الانفاق لوجه اللّه ذخيرةً وذخرا، ليس على (الزوراء) وباهر
نداها، اسرةٌ للشرف الواضح سواها، بل ولا على فقارة جميع ظهر الارض، عترةٌ غيرها
للكرم المحض، قبيلةٌ صوَّرها اللّهُ من طينة المعروف والاحسان، وحدَّرها من صلب
الشرف الاقدم على اولي الزمان، وأقرَّها في أرحام النجابة، وأولدها في رباع السماحة
والمثابة، ولفَّعها بأبهى مطارف الحمد، وربّاها في حجر السؤدد والمجد، وأرضعها لبان
العلياء، وفطمها إلاّ عن رضاع الحمد والثناء، وجعل بها سماحة البحر الذي لا يُخاض
في عبابه، وأبرزها بهيبة الهزبر الذي لا يواجه في غابه، وكفى طيبُ اصلها ابّانه،
انَّ في حدائق احسابها ذلك الحبيب اطيب ريحانه، أعني به جوهرة الزمن، وغرَّة وجهه
(الحسن)، انمى اللّهُ غصن شبيبته على الفضائل، وشدَّ أزر المعروف من عطائه بواصل،
وأرسى قواعد مجده على إلابد تخليدا، وورّد بمكانه من حسان الاداب خدودها توريدا،
وأقرّ نواظرنا وناظره، بشفاء أبيه الذي عقد على الكرم مآزره، مولىً أهلُ الفضل من
بوارقه، وزهرةٌ من حدائقه، وأهل البذل قطرة من أمطاره، وغرفة من بحاره:
فـلـه أيــادٍ لا iiتـزالُ سـماؤها كـرما iiمـخيله
ونـقـيبةٍ مــا iiغـيَّرتْ فـي الجود عادتها iiالجميله
ويـدٌ كـضرع الـغيث يم خضها الرجا مخض الثميلة
أما بعد: فحين وصلتْ إليَّ عقيلة فكرك، وجميلة نظامك ونثرك، طرحتُ عنها الازار،
وحللتُ من غلالتها الازرار، ثمّ قبّلتُ منها فتاتا تزري بفتات المسك بخلوقها،
وبابنة العنقود في راووقها، فشفتْ بعذب كلامها غلة صدري، ونفثتْ بسحر بيانها في عقد
صبري، قد نشرتْ لديَّ حديثَ واصل، ثمّ بسطتْ عليَّ لسان عاذل، فأباتني تأنيبها مبيت
نابغي، وقلبَّني توبيخها في مضجع ابن هاني المغربي، بل كلما ضرب الليلُ على الافق
رواقه، وعقد على الشفق ازراره ونطاقه، أمسي وهمومي القارعة، وأفلاذ كبدي الواقعة،
وفاتحة الرعد سائغ ريقي، وخاتمة الاعلى في شرايين أوردتي ووشائج عروقي، وآراثي في
الشعراء، وأحشائي ما جعله الخليل في وسط الانبياء، تقريبا بلا استثناء، وكلما فلق
الصبحُ بعموده هامة الغسق، وشهرَ خاضبا من وريد الظلام سيفه الشفق، اصبح ولسانُ
حالي، يترجم عن لسان مقالي، اذا رأيت قوما، إنّي نذرتُ للرحمن صوما، فواعجباه
والدهر سلكُ عجائب، والايام مثرية من الغرائب، كيف ينصرف إلي وهم، أو يتصور في خيال
أخي فهم، إنّي في تيّاك المودَّة أشقى، بعدما تمسكتُ منها بالعروقة الوثقى، لا
وعافاك اللّهُ من العلل، وبلَّغك منتهى المجد وقد فعل، لا يلهو عن تلك المحبة
عميدها، ولا يخلق على تعاقب الليالي والايام جديدها، وليت شعري اعتاض عنك، بأيّ
بدلٍ منك، ولمن اربِّي مولود الوفاء، ولمن أزفُّ عروس الاخلاص والصفاء، وملتمس
الثقة، لايداع المقه، كالمرتبع بواد غير زرع، والمنتج في بوارٍ خالبةٍ اللمع،
والمغترف من السراب الخادع، والقابض على الماء خانته فروجُ الاصابع، فهم ومن جعلك
جوهرة الزمن، حريّون بقول المهيار أبي الحسن:
خُلقٌ اذا حدثت عن أخلاقها فكأنما كشَّفتَ عن سوءاتها
وأما وعليا أبيك، وخلاله الصالحة التي اجتمعت في أخيك وفيك، وسماء مجده التي انتما
قمراها، وعبقات فخره التي ينفح عطفا كما بريّاها، لانت على بعدك، يا نسيج وحدك،
ثاني النفس لديَّ، وثالث عينيَّ، بل أعزُّ منهما عليَّ، وما تركتُ المواجهة، رغبة
عن المشافهة، ولا المراسلة، رغبةً عن المواصلة، كلا بل لعوائق طارية، وشواغل غير
متناهية، تلهي الحليم عن نفسه، وتنسيه يومه فضلا عن أمسه، ولولاها:
لنثرتُ حبّات القلوب ألوكةً ونظمتها شوقا اليك قريضا
***
5 ـ وكتب إلى الحاج محمد رضا كبه بهذه الرسالة وصدرَّها بهذه الابيات:
أغضّ النسيم تحملْ سلامي فـحيِّ بريّاهُ (دار iiالسلام)
سـلامُ محبٍّ غريق iiالوداد غريق الفؤاد ببحر iiالغرام
يُميتُ بشوق بياض iiالنهار ويحيي بشوق سواد iiالظلام
وتـهفو نـوازع iiأشـواقه بـلبِّ حـشاشته المستهام
يطالع بالفكر وجهَ الحبيب فـيحظي برؤية بدر iiالتمام
حـبيبٌ اروِّحُ قلبي iiالعليل مـن ذكـره بنسيم iiالمدام
وشـوقي إلـى درِّ iiالفاظه كشوق الرياض لدرّ الغمام
ممن سكن روحُه بمحاني (الزوراء)، وأقام جسمه بمغاني (الفيحاء)، إقامة المغترب عن
وطنه، اللابث في غير عطنه، لا يملك على الخفوق، أثناء قلبه المشوق، ولا يُلقي سمعه
إلى نديم، ولو كان أفصح الانام، ولا يرتاح إلى مفاكهةٍ ولو كان من ولدان النعيم،
عبقُ الكلام، ولا ينظر إلاّ بعين انسيّة الاجفان، وحشيّة الانسان، قد عرفتْ آماقها
الارق، وأنكرت أحداقها الرفّق، لم تفتحْ على اناسٍ بصرها، إلاّ استوحشتْ عنه
فغضَّتْ عنهم نظرها:
أتـأنسُ فـي فـتح أجفانها عـيوني فـي غير iiإنسانها
ويخلص يوما لنفسي السرورُ اذا وصـلت غير iiخلصانها
اذا كـذبتْ بـادعاء الـوداد نـفسي وما الكذب من iiشانها
نـعم عندها الغدر بعد الوفاء هـو الـكفر من بعد iiايمانها على أنني لم أبرح مسائي وصباحي، وغدوّي ورواحي، وعشيتي وأبكاري، وأصيلي وأسحاري،
حرج الصدر، متشعب الفكر، ملويَّ الحشاشة على حسرات متعالية، طوىَّ الجوانح على
زفرات إلى التراقي متراقية، من لوعةٍ غير ماضية، أقتل من ماضية الحدِّ، وصبابةٍ
كأنها جمرةٌ ذاكية الوقد، فاذا غشيني الدجى بغياهبه، ورقدت الورى أحصيتُ عدد
كواكبه، بعين ابن شوقٍ نسيتْ أجفانه الكرى، واذا نضا الليلُ عنّي ثيابَ ظلمائه،
وألبسني النهارُ جلباب ضيائه، أقبلتُ على نفسي أعللها بوشيك التداني، واسلّي غلة
شوقها بسراب الاماني، فتذمُّ من أمسها ما استدبرتْ، وتحمدُ من يومها ما استقبلتْ،
حتى يأكل فمُ الغروب قرصَ الشمس، ولم تحصل من الرجاء إلاّ على اليأس، ولما لم يبقَ
لي في قوس الاماني منزعٌ، ولا في مطمعات الاماني مطمعٌ، سبرتُ بعين البصيرة والعقل،
مذاهب طرق الوصل، فوجدتها على ثلاثة انحاء، بين أهل المودَّة والاخاء، إما بمشاهدة
العيان على القرب، أو حضور الحبيب في مهجة المحب، أو بثِّ الشوق اليه والوجد،
بالمراسلة على البعد، فألفيتُ أولها مستحيلا، بعد ان طلبته بكرةً وأصيلا. وأما
الثاني فما عداني وحين وصلتُ بالنظر إلى طريقها الثالث، وقطعتُ عن أولها قرينة
البواعث، وجدتُ نفسي مقصِّرةً في عدم إتيانه لاقتدارها عليه مع شدة إمكانه، فلم
أزلْ اوبخُها في ذلك وألومها وأعذلها والندم فيما هناك نديمها، إلى أن تمنّت من شدة
الخجل، لو سبق السيف اليها ذلك العذل، وقد أخرسها الذنبُ، وأفحمها العتب، لانها
قطعتْ لسان عذرها، في شبات هجرها، حيث أنها وإن طلبتْ من أنواع المواصلة أطيبها،
وأكملها لذةً وأعذبها، إلاّ أنَّ مالا يُدرك جلُّه لا يترك أقله، ولكنَّ منها هذه
الزلة، صدرتْ بعد ماجدٍ شابهَ فرعُه أصله، ووصفَ طيبُ أخلاقه، كريمَ أعراقه، ولذا
نهضتْ بعد كبوتها، بأذيال هفوتها، وسلكتْ إلى المواصلة، بطريق المراسلة، وإلى
المخاطبة، بالمكاتبة، ولم تزل تمحضُ غزير درِّها، وتمخض ثميلة فكرها، حتى استخلصتْ
زبدة سلام رائقه، يستعذبُ بها حتى مَن لم تكن له ذائقة، لو ضوعت في لهاة مَن حشرجتْ
من الموت نفسه لا انساغت بفيه، أو تنفَّست أرواحها على بدنه لقرَّت الروحُ فيه:
فما روضةٌ مرشوقةٌ عن عبيرها تحدّثنَ أنفاسَ الصبا والجنائبِ
بأطيب عرفا من سلامٍ بنشره يعطّر فاه كلُّ راوٍ وخاطبِ
ترفعه عواملُ شوقٍ تنازعتْ جلدي، وجلبتْ السقمَ في تصرُّفها إلى كبدي، فنسختْ جميل
صبري، وأطالت اشتغال فكري، إلى من نصب اللّه على التمييز علمَ فخره، فانخفضت
بالاضافة إلى عزّه جميع أبناء دهره، وجزمتْ بنو الدنيا أنه في السماحة البحر
المحيط؛ اذا بسط لها بالعطاء كفا استغرق وافر جودها ما حوته دائرة البسيط، فأقال به
من كبوة الجد عثارها، حتى سلمتْ له بالفضل اقرارها، فهو في أصله الذي عرقت به
العلياء، كما قلتُ فيه مخاطبا له بهذا الثناء:
يا أمجد الناس فرعا ينمي لاكرم أصل(837)
___________________________________
837 تقدمت في باب المدائح.
ولعمري كيف ينالها بهمة جسمه، من ليس ينالها بها حسنُّ فهمه، إذ هي علاُ مجدٍ تفرّع
من دوحةٍ ضربت في طينة المجد ارومَها، واُخذ بأطراف الشرف حديثها وقديمها، فهو
ينتمي منها إلى نسبٍ كريم الطرفين، وحسبٍ لم يزلْ معشارُ فخره فخار الثقلين، ذاك
صفوة المكارم، في أبنائها الاكارم، وأنجبُ مَن ضمَّه الفضا، (محمدٌ الرضا)، رفع
اللّهُ قواعد مجده، وخفض حواسدَ جدِّه، وجعل كوكب سعده طالعا في سماء الفخار، ما
استدار الفلك الدوّار:
دعاء إخلاصٍ اذا رفعته قال الحفيظان معي آمينا
أما بعد فالغرض من توشيح هذه الالوكة وتسهيمها، وترصيف منثورها ومنظومها، بثُّ وجدٍ
حركتْ ساكنه الذكرى، وترويحُ كبدٍ أرمضتها هواجرُ البعد فغودرت حرّى، وتعليلُ نفسٍ
لم تزل من ثنايا الشوق اليكم متطلعة، ولاخباركم من فم الصادر والوارد لم تزل
منتجعة، ليرد عليها في ارتيادها، ما يجلب المسرَّة إلى فؤادها، من صحة أجسادكم التي
هي لجسم الزمان أرواحٌ تدبّره، وصفاء أيامكم التي هي أوضاحُ هذا الدهر وغررِه، وصل
اللّهُ عزكم بيمن إقبالها، وقرن لكم بعمر الدهر غضارة اقتبالها، فلستُ اسأل غير ذلك
من محقق الحقائق، في كل غاسقٍ وشارق، والسلام عليكم، ما رفَّ قلبي بأجنحة الشوق
اليكم.
***
6ـ وكتب بها إلى الحاج محمد رضا كبه أيضا:
نسختُ ولم يُحصِ اشتياقي ألوكة(838) جميع الذي قد ضمَّه الكون ناسخُ
لقد دان قلبي في شريعة حبِّكم فليس له حتى القيامة ناسخُ
___________________________________
838 الالوكة: الرسالة. وفي نسخة: والها.
سلامٌ فتَّقتْ نَورَ زهره صبا الحبّ، وأعربتْ أنفاسُ نشره عن طيِّ سريرة الصبّ،
ورقَّت ألفاظه حتى سرق النسيم طبعه من رقتها، ونفحتَّ بريّا الاخلاص فقراته حتى
استعار العبيرُ المحض طيبه من نفحتها، وما هي فقراتٌ في الطروس قد وسمت، بل روحُ
محبٍ أذابها الشوق، وفي قالب الالفاظ تجسَّمت، فلو نشق أرواحَ عَرفها مَن غشيتهُ
سكرات الموت لصحا، ولو سرَّح النظر في لؤلؤ ألفاظها ذو الطبع السليم لسحرتْ عقله
وماس منها مرحا، فحقيقٌ أن اوشِّح خصورَ عرائسها الانيقة، بدرٍّ من الفاظَي التي
تحتوي من المعاني على نفائسها، الدقيقة:
عـرائسُ لـفظٍ حـكى iiمسكُها على الطرس أنفاس ريح الصَبا
رقـاقٌ كـرقَّة قـلب iiالمحبِّ وخـدَّ الـحبيب بعصر الصِبا
حـكتْ في العذوبة أخلاق iiمَن لـها اُهـديتْ والـيها iiصـبا
من محبٍّ قطع قلبه الشوق الملحُّ، وترّح به الغرامُ المبرّح، وحال من البعاد بينه
وبين حبيبه، ما أوقدَ في أحشائه سعيرَ وجدٍ اذا انحنت عليه أضلاعه تجافت من لهيبه،
وغودر جنباه من تلهُّب أنفاسه الحرار، يُرسَل عليها شواظٌ من نار، وكاد في تصاعد
حريق زفرته، يضرم الهوى نارا في كرته، وحشدت جحافلُ الغرام في منحنى ضلوعه، وانتجعت
سفحَ عقيق دموعه، فهي تستدرُّ عينه دموعها في كل آن، فتنبعثُ كأنهن الياقوت
والمرجان، وأوطنت الصبابة في غوير لبِّه، وقوَّض السلوُّ عن غضي قلبه، وحال من
مترادفات الاشجان، بينها برزخٌ لا يبغيان، واوشك الفراق أن ينسف طود حلمه بريح
عقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم، فلا يتناهي في تحرير نعت شوقه
الكلام، ولو أن ما في الارض من شجرةٍ أقلام، إلى من حلَّقت به قدامي شرفه، فقصَّر
كلُّ محلّقٍ عن شأو عُلاه التي أحرزها عن سلفه، وتسنَّم غاربَ كل فخرٍ، ووطأ بأخمصه
رقاب الانجم الزهر، وناصى برفيع مجده أعنان العلاء، ورقي ذروتها بسلَّم شرفه المطلّ
على الجوزاء، ولطفت شمائله، ولم يوجد في الكرم من يساجله، وغذيَّ بلبان العلياء إلى
أن بحجرها نشأ، وارتشف مدامة حبها إلى أن نشا، وطابت منه الخليقة، فكانت مما قلتُ
فيها خليقة:
يا طيب أخلاق كريم روي ال سـامعُ منها ما روى iiالمبصرُ
بـأنها أطـيبُ مـن iiروضةٍ طـيـنتها مـازجها iiالـعنبرُ
لـو مـزج الماء بها iiشاربٌ مـا شـك فـيه أنـه iiالكوثر
نـدبٌ لـه في حلبات iiالعُلى دون الانـام الورد iiوالمصدر
كـأنَّ مَـن يـأوي إلى بشره مـن وحشةٍ في روضةٍ iiيحبر
مـعارجُ الـعلياء iiمـرصودةٌ لـيس عـليها غـيره iiيظهر
الفصيح الذي عقدت عليه الفصاحة حبُك نطاقها، والبليغ الذي مدّت فوقه البلاغة رفيع
رواقها، والماجد الذي سمح الدهر بجوده، فدل على نفي بخل الدهر واثبات وجوده، وأحيا
به روضة الادب بعدما ذوت، وأجدَّ به ربوع الفضل بعدما عفت، ورفع به سماء المجد بعد
هبوطها، وأقام به أعمدة السؤدد بعد سقوطها، واقرَّ عيون السماح منه بإنسانها، ووصل
يمين المعروف منه ببنانها، ونشر به جميع ما طوى من المحاسن العجيبة، وأظهر فيه ما
اخفيَ من بدايع الكمالات الغريبة، فهو من أهل زمانه بمنزلة الروح من الجسد،
والواسطة من العقد المنضد، فأكرم به من ماجدٍ بهيجٍ تعشو من ضوء صباح محياه نواظرُ
الراثين اذا ملاتْ من نوره البصر، وأعجب به من فطنٍ تعشو في ظلام الاشكال إلى مصباح
ذكاه بصائرُ ذي النظر؛ الصفيُّ الذي أخلصته نفسي من جميع ما ضمّه الفضا، (الحاج
محمدٌ الرضا). لا زالت شمس إقباله طالعةً في أعلى بروج المراتب، وكوكب سعده ثاقبا
في سماء شرفه التي يتمنى أن يحلَّ فيها سعدُ الكواكب، ولا برح طائر اليمن له
مزجورا، وروض مسرّته غضا مونقا نضيرا، بمحمدٍ وآله المبرئين من الزلل، وصحبه الذين
ما لهم في التقى من مثل.
أما بعد: فإنّي لم أزل للغرام فيك نديما، وعلى الصبابة حيثما رحلتُ مقيما، تذهب بيَ
الاشواقُ كلَ مذهب، وطرف عيني لم يزل في آفاق السماء مقلَّب، فكان عينيَ قد جنَّت
عن اغضائها، وكلَّت بعدّ النجوم وإحصائها:
أنا أحصى النجوم فيكَ ولكن لذنوب الزمان ليس بمحصى
غير أنّي كلما ألحَّ على قلبي الجوى فأضناه، روّحتُه بذكراك فتنتعش بعد الضعف قواه،
وبينما اعللُ نفسي بذكر الوصال، وهي من شدة الشوق تتمثل بقول من قال:
ولم ارَ مثلي قطَّع الشوقُ قلبه على أنه يحكي قساوته الصخرُ
إذ وردتْ منك إليَّ رسالةٌ بديعة الكلام، حسنة النسيج والانسجام، قد افتتحت بزهر
السلام روضة كلماتها، وختمت بمسك الثناء عقود فقراتها، فنشقت منها نسيم المودة حين
نُشرت لديَّ، واقتطفتُ منها نور المحبة حين قرئتْ عليَّ، وهزَّني اليها الطرب،
وملكني منها العجب، ولما استوقفتُ النظر فيها، وأجلت الفكر في ألفاظها ومعانيها،
سكرتُ من ألفاظها ولا جام، بمدامة معانيها ولا مدام، فحينئذٍ ثنيت عطفَ ذي نشوة،
وذبت بها صبابةً وصبوة، لكني كلما فوّقت سهام فكري لم أصب الغرض في تفويقها، حين
غلب عليَّ الشك في تحقيقها، أهيَ السلافة مُزجتْ بالغيث الذي انسجم وانسكب، أم
(المستظرف) من ارواح الكتب، او زُفَّتْ إليَّ دمية القصر، أو يتيمة الدهر، وجُليت
لي بين أنوار الربيع في المعاهد، حاليةً بدرّ القلائد، وغرر الفوائد، فيا لها عرائس
فكرٍ أغرب مبتكرها وأبدع، ولالي ألفاظٍ أحسن ناثرُها حين جانس بينها وسجَّع، وجمع
فيها فصاحة الالفاظ وبلاغة المعاني فسحر الالبابَ بيانها، وألَّف بين الايجاز
والاطناب فبهر العقولَ تلخيصها وتبيانها، ووالى في سلك الطروس بين فرائد منظومها
ومنثورها، وقابل بين التدبيج والتطريز في وشيِ رياض سطورها، قد ابتدأتْ برفع خبر
الشوق عند الخليل، وأنهت اليه الجزم في تمييزه فيما بنيتْ عليه من مضمر الحبّ وظاهر
المدح الجليل، وانبأتُ فيما اكدتُ من الشوق أن لا بدلَ من الصب عند صبِّه، وأن لا
عوض عنه فيما نعتت من اشتغال قلب الحبيب بمحبه، وانَّ هوى الخليل مقصورٌ على خليله
في كل احواله، بالاضافة إلى الاستثناء في حذف عذاله، وصرّحتُ عن إلغاء مقالة
الحسّاد، واثبات ما راموا نفيه من المحبة والوداد، فطفقتُ اكسوها من استبرق المدائح
بُردا أحكم فكري نسجه، واحليّها بعقود الثناء وإن لم تزدْ حسنها بهأً وبهجة:
أطرسكَ أم خدُّ عذراء iiبكرٍ وذا درُ لـفظكَ أم لفظُ iiدّرٍ
سحرٌ غداة فضضتَ الختام عنه كأن لفظه نفثُ iiسحرِ
وشـكَّكني حـسنُ iiتنميقه أوشيُ بنانك أم وشيُ iiزهرِ
فناهيكَ بها مبلغةُ أو غرتْ فأوجزت، ومفصحةً بما فيه لكل منطيقٍ أعجزت، قد حملت
جزيل الحمد من مبادرٍ لشكره، إلى من تقدّم اليه بمدح مجده وتنويه قدره، فللّه أبوكَ
وأنت، أتشكرني على مديحٍ به إلى نفسي احسنتَ، لان النفس منّا ومنكم في الحقيقة
واحدة، وإن كانت الاجساد متعددةً متباعدة، على أنكم في غنىً عن جميع المدايح، بما
احرزتم من المكارم والشرف الواضح، وبنشر فخركم طبق مجدكم سائر الارجاء، لا بما نشرت
لكم من الثناء ألسنُ الشعراء، غير أنّي كلما فكرتُ في نفسي، لم أجدُ إلاّ المحبة
الخالصة، دعتكَ إلى شكر مدائحي التي هي بالنسبة إلى كمال شرفكم متناقصة، فنسأل
اللّه سبحانه وتعالى: أن يجعل عزّكم ملازما للدوام ما بقيَ الدهر، ويصل بالبقاء ما
خلع عليكم من مطارف الوقار والفخر، إنه على كل شيٍ قدير، وبالاجابة.
***
7 ـ هذه صورة ما كتبه حول قصيدة المرحوم عمه السيد مهدي السيد داود:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على أشرف أنبيائه محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد: فيقول الراجي عفو ربّه الغنيّ (حيدر بن سليمان الحسيني) إني لما جارى
عمُّنا وسيدنا السيد مهدي السيد صالح القزويني(839) في قصيدة مدح إنسان عين الزمان،
وواحد الابدال والاعيان، من حطَّ عن أدنى مراقي علاه الفرقدان، وأشرق في سماء فخره
المشرقان، زعيم الفضلاء الجحاجح، الحاج محمد صالح (كبه).
___________________________________
839 مر ذكره في باب المدائح.
أحببتُ أنْ أتصدى إلى تشطير قصيدة سيدنا السيد مهدي، كما تصدى إلى تشطير قصيدة
السيد المشار اليه الشيخ ابراهيم العاملي(840) فوجدتها في دقائق معانيها وسلاسة
الفاظها ورقة قوافيها فوق ما قلتُ فيها:
ومُـعربةٍ عن فضل من صاغ iiلفظها وأودع فـيها مـن بـدايعه iiالـلحنا
بـديعه حـسنٍ لـو سـواه iiيرومها لـكان التقاط الشهب من مثلها أدنى
تـودُّ قـلوبُ الـسامعين لـو iiانها اذا انـشدتْ في محفلٍ كانت الادنى
فـمـا هـي إلاّ وردةٌ مـا iiتـفتَّقت كـمائمُ زهر الشعر عن مثلها iiحُسنا
ولا ولـدت امُّ الـقريض iiنـظيرَها ولا فـتحت يـوما على مثلها iiجفنا
فـما روضـةٌ غنّاء راقت iiبزهرها وما برحت ازهارها ترضع iiالمُزنا.
بـألطف مـن مـدحٍ بـها ii(لمحمدٍ) وأنـى وفـيه فـاقت الروضة iiالغنا
فـتىً قبل دحو الارض بيتُ iiعلائه بـناه إلـه الـعرش لـلملتجي iiأمنا
وقـام بـنصر الـدين لـله iiناصرا وفـي عـلمه للخلق نهجَ الهدى iiسنّا
فـما المجدُ إلاّ صورةٌ وهو iiروحها ومـا الـفخرُ إلاّ لفظه وهو المعنى
فـتىً فـي مـعاليه وفي مجده يرى أجـلّ بـني الـدنيا وأمـنعهم iiركنا
واكـرم بـه مـن ماجدٍ سيبَ iiجودُه لـوفاده عـن طيّب المزن قد iiأغنى
أيـا مَـن لـعيدان الندى رَّد iiماءها بـعيدَ ظما لم يُبقِ في دوحها iiغصنا
وقـد عـاد منها ما ذوى فيه مورقا ومـا قـد عسى أمسى لعاطفه iiلدنا
بـمدحك امَّ الـساريات iiحـسودُها اذا تـليت مـن سـحر الفاظها iiجَنّا
ومـن حسنها وافى معنّىً قد اغتدى وسيعُ فضاء الارض في عينها سجنا
يــودُّ اذا مـا انـشدوها iiبـمحفلٍ لـه مـنشئُ الاجساد ما خلق iiالاذنا
مـسدَّدة الاقـوال يـمسي مـعيبُها لـخجلته بـين الـورى يقرعُ iiالسنّا
ولـو رزقَ اللهُ الـسكوت iiمـعيبَها لـكان لـه مـن نـطق مذوده iiأهنا
___________________________________
840 ترجمت له في شعراء الغري ج 1 ص 68.
ثمّ إني اعرضتُ عن تشطيرها وقلتُ ما يمنعني من تخميسها وقد انحلني أدبه، وشربتُ من
نطاف هذا النظام مشربه، فأطلقت عنان فكرتي في مجاراته، وقابلت بتخميسها جميع بدائعه
ومخترعاته، فقلت:
اذا عنّ لي برقٌ يضيء على البعد نزت كبدي من شدة الشوق والوجد(841)
___________________________________
841 ذكرت في باب المدائح.
ولما قدم حضرة قطب دائرة الوزارة، ومؤمَّل الامارة، وإلى بغداد جناب أحمد مدحت
باشا، نظمَ بيتين يتحمس بهما وذلك قوله:
فلا والقنا والمرهفات البواتر فلا ترة أبقيتَ لي عند واتر
أيذهب خصمٌ في دمٍ لي مضيَّع ولستُ اذيق الخصم حَّد البواتر
فكتب إليَّ الحاج مصطفى كبه إلى الحلة يستحثني بعد الالتماس على تشطيرهما وتخميسهما
وأن انثر مع ذلك نبذة من مدح الوالي المشار اليه، وأن انظم من الشعر مما يحسن به
الثناء عليه، وذكر انه حضر في تلك المجالس، وجرى ذكر البيتين فضمن التشطير
والتخميس، ثمّ ألزمني بذلك وحثّني على الاستعجال، فأجبته وقلتُ مصدّرا للنثر بهذين
البيتين مورِّيا فيهما بإسم الوالي المتقدم ذكره:
لي قوافٍ في جنبها البحر رشحه سلسلتها رويَّةٌ لي سمحه
مدح الدهرُ حسنها غير أني لستُ أرضى بها لاحمد مدحه
ذلك من ألحف بيضة الاسلام جناح ظله، وأقام دون حوزة المُلك سدا من زبر آرائه ونصله،
ومدَّ غطاء الامن على الدين، وبسط العدلَ على جميع المسلمين، قد اصطفاه حضرة صدر
التأمير الرئاسة، وأرسله على حين فترةٍ من التدبير والسياسة، فجاء بعدما غاضت بحيرة
البراعة، وخمدت نيران البأس والشجاعة، جامعا بين آية النصل، ومعجز المقال الفصل،
تتفجر من بنانه ينابيعُ الكرم، وتفرق عن بنانه جوامع الحِكم، حتى هتف لسان العراق،
الان بزغت شمس العدل باهرة الاشراق، ودرَّ حلبُ البراعة، ونطق بعد الافحام لسان
اليراعة، واستطيب نفحات غوالي الفضل، بعدما منع من شمّها زكام الجهل، وقام وزن
الاداب، بعدما كسدت منها البضائع، حين نجم مشتري زهرة الكمال في حضرة فلكية
المطالع، كما قلتُ فيها:
حضرةُ مولىً سواه ليس يُرى في غير هذا الزمان(842) إنسانْ
مذ شبَّ يُكسى العُلى ومرهفه شابَ به الدهر وهو عريانُ
___________________________________
842 وفي المطبوع: في عين هذا الدهر.
|