ديوان السيد حيدر الحلي- الجزء الثاني

 
 

فأرض أفنيتها الشرفُ، ونديم أنديتها الظرفُ، وخلَّتاها الشجاعة والكرم، وخادماها السيف والقلم، وسفيراها العلاء والمجد، وسميراها الثناء والحمد، والهيبة حاجبُ طرّاقها، والعزّة خفيرُ رواقها،

ويحقُّ لي هاهنا الانشاء، وإن كان قاصرا لسان الثناء:

رواقكَ ذا لا بل وليجة خادرٍ     بل الليثُ يخطو دونه خطو قاصرِ(843)

___________________________________

843 ذكرت هذه القصيدة في باب المدائح.

هذا ولقد رعدتْ سمأُ ذلك الفكر المدرار، فقرعتْ سمع الاعدأ بصاعقتين يخطف منهم برقهما القلوب والابصار، قد اوشكت أن تطلّع على نفوسهم منهما الاجال، إذ تحمَّس بهما فقال:

فلا والقنا والمرهفات البواتر     فلا ترةً أبقيتَ لي عند واترِ

أيذهب خصمٌ في دمٍ لي مضيّعِ     ولست اذيق الخصم حدَّ البواترِ

هذا واللّه الشعرُ الذي تقطر منه الحماسة دما، وتجبن عن إنشاده الثريّا حتى لو كانت للاسد فما، وحيث فاض على الاسماع صوبُ هذين العارضين، وصقل الخواطرَ والطباع لمعُ هذين البارقين، رجوتُ على قلة البضاعة، ونزارة الاطلاع على(844) هذه الصناعة، أن انخرط في سلك مَن شكرَ، وأكون في نظم من خمّس وشطّر، فقلتُ لا متحمسا، بل على سبيل الحكاية عنه مخمسا:

أثـرتُ  الثرى نقعا بكرِّ iiالضوامر      إلى أن تركتُ الدهر أعمى النواظر
فقل  للعدى أمنا شفي الكرُّ iiخاطري      فـلا والـقنا والـمرهفات iiالبواتر

فـلا  تـرةً أبـقيتَ لي عند iiواترِ

أبـحـتُكمُ لـلعفو أبـردَ iiمـشرعِ      غـداة  غـسلتمْ كـلَ جرحٍ بمدمعِ
طـمعتُم لـعمرُ الله في غير مطمعِ      أيـذهب خـصمٌ في دمٍ لي iiمضيّعِ

ولـست اذيـق الخصمَ حدَّ iiالبواترِ

___________________________________

844 في المطبوع: في هذه.

ثمّ أقمتُ إلى جنب كل شطرٍ جليلٍ، خادما له من نظام جميل، فقلتُ مشطرا:

فـلا  والـقنا والـمرهفات iiالـبواترِ      عن الخصم لم أصفح سوى صفح قادرِ
لقد صلتُ حتى قلت حسبي من iiالوغى      فـلا  تـرةً أبـقيتَ لـي عـند واتر
أيـذهب  خـصمٌ فـي دمٍ لي iiمضيّعٍ      وسـيفُ حـفاظي فلَّ صرف iiالدوائرِ
فـكيف  تـذوق الـنومَ عيناي iiلحظةً      ولست اذيق الخصم حدّ
َ(845) iiالبواترِ

___________________________________

845 وفيه: طعم.

ثمّ رأيت أن اخمّس التشطير، تلذذا بمعاودة الفكر إلى ذلك النظام الخطير، فقلت:

سـطوتُ فـلما لـم أدعْ غـيرَ iiصاغرِ      عـفوت  إلـى أنْ لـم أجدْ غير iiشاكر
رعـى  اللهُ صفحي عن عظيم iiالجرائرِ      فــلا  والـقنا والـمرهفات iiالـبواترِ

عن  الخصم لم أصفح سوى صفح iiقادرِ

حـملت له أثقالَ عزمي وقد طغا(846)      عـلى  عـود هذا الدهر حتى بها iiرغا
فـلا  وأبـي لـم يـبقَ لي بعدُ iiمبتغي      لـقد صلتُ حتى قلت حسبي من الوغى

فـلا تـرةً أبـقيتَ لـي عـند iiواتـر

ضـمنتُ  عـلى سـيفي بـهمة iiأروعِ      دمَ الـمجد مـن خـصمي لاكرم iiمودعِ
فلست له ابنا إنْ يضع عند مودعِ
(847)      أيـذهب  خـصمٌ فـي دمٍ لـي iiمضيَّع

وسـيف حـفاظي فـلَّ صرف iiالدوائر

أبــي حـدُّ سـيفي أن اكـلم iiلـفظةً      بـغير  شـباهُ مـن أجـدْ فـيه iiغلظةً
لـقد أطـعمتْ عـيني الـحفيظة iiيقظةً      فـكيف  تـذوق الـنوم عـيناي iiلحظةً

ولـست  اذيـق الـخصمَ حـدَّ iiالبواتر

___________________________________

846 في المطبوع: صغى.
847 وفيه: عند مدع.

ثمّ شفعته بهذه المقطوعة، وإن لم تكن لائقة لتلك الحضرة الرفيعة:

أثنت عليك بأسرها الدولُ     وتشوقتك الاعصر الاولُ(848)

***

8 ـ قال رحمه اللّه: وقد جرى لي مع أخي النقيب فريد الزمان، حضرة السيد عبد الرحمن أفندي. وذلك أنه بعث إلى جناب الحاج مصطفى كبه زاده، أن يرسل اليه (نهج البلاغة) و(مقصورة السيد الرضي) التي قالها في رثاء الحسين عليه السلام، فأرسلها اليه، وكانت المقصورة غير تامة، ثمّ بعد ذلك وجدتُ المقصورة تامة، فكتبها وأرسلها اليه والتمس منّي أن اكتب معها على لسانه، فقلت:

يا من تفرع من ذؤابة معشرٍ     غدت النقابة منهمُ في آلها

هذي بديلة اختها المقصورة الـ     اولى أتتك تفوقها بكمالها

فلما وصلت اليه نظم أبياتا يلتمس بها من اللّه نصر المسلمين وسلطانها، وخذلان المشركين وأعوانها، ثمّ أرسلها إليَّ يريد تشطيرها وتخميسها، وكتب معها هذه الفقرات يقول:

هذا ما سنح به الخاطر الفاتر، ونطق به اللسان الكليل العاثر، وتجاسر على ارساله اليكم(849) مع اعترافي بأني لست ناظما ولا شاعرا، فإن لم يكن جديرا بالاعراض، وكانت أبياته عامرة غير حقيقةٍ بالانتقاض، وكان راجحا عندكم في ميزان القبول، أيها السيد الحيدريُّ وابن البتول، أرجوك أن تزيّنها بالتشطير والتخميس، لتكون سلوة للمكروب وسببا للتنفيس، والسلام عليكم. والابيات هذه:

يـا  إلـه الـخلق يـا iiبارئنا      نـحن في ضيق فكنْ عونا iiلنا
وانصر  الغازينَ وارحم iiحالهم      وتـلطَّفْ  بـهمُ فـي ذا iiالعنا
فـهـمُ  الـمفدون iiأرواحـهمُ      وهـم الـموفون فـرضا iiبيّنا
فاجزهم خيرا وضاعفْ أجرهم      أنـت فـيّاض العطايا iiوالغنى
واخـذل الكفار واخرب دارهم      واهـلكنْهم واشـف فيهم iiقلبنا

___________________________________

848 ذكرت في باب المدائح.
849 في مخطوطة الملا: عليكم.

قال السيد: فنشطتُ لما ندبني اليه، وأنا المعترف بأن له المن عليَّ لا ليَ المنُّ عليه، لانه إنما دعاني للاخذ بحظي من الانتظام في سلك الداعين، بالنصر لحامي حوزة الاسلام وبالتأييد لجنود المسلمين المرابطين، في سبيل اللّه في جهاد الكافرين، وقلت مشطرا:

يـا  إلـه الـخلق يـا iiبارئنا      لـكَ  نـشكو اليوم ما حلَّ iiبنا
كـظّنا حـشدُ الـملمات iiفـها      نـحن في ضيقٍ فكن عونا iiلنا
وانصر  الغازينَ وارحمْ iiحالهم      فـلـقد أبـلـوا بـلاً حَـسنا
حيث  عانوا فيكَ ما عانوا فجدْ      وتـلطّف  بـهمُ فـي ذا iiالعنا
فـهـمُ  الـمفدون iiأرواحـهمُ      لـيقوا  فـيها الـهدى والسُننا
لـك قـد دانـوا فمنْ iiيفضلُهم      وهـم الـموفون فـرضا iiبيّنا
فاجزِهم خيرا وضاعف أجرهم      واجـعل  الـنصرَ لهم iiمقترِنا
ومـن الـفيِ فـوفّرْ iiحـظَّهم      أنـتَ فـيّاضُ العطايا iiوالغنى
واخـذل الكفار واخرب دارهم      وأبـحـنا  أرضـهم iiوالـقننا
قــد  تـشفّوا فـأدِلنا مـنهمُ      واهـلكنْهم واشـف فيهم iiقلبنا

وقال مخمسا:

نـشـأتْ نـكبأُ يـا iiرازئـنا      إنْ تـذرْها أهـرمتْ iiنـاشئنا
خـذ  بـأيدينا وكـنْ iiكـالئنا      يـا  إلـه الـخلق يـا iiبارئنا

نـحن في ضيقٍ فكن عونا iiلنا

واخـذل الغاوينَ واشغلْ iiبالهم      وابـحْـهم واخـترمْ iiآجـالهم
واصـطليهم  لـيروَا iiاعمالهم      وانصر  الغازينَ وارحمْ iiحالهم

وتـلطّفْ  بـهمُ فـي ذا iiالعنا

قـوَّمـوا لـلحرب iiأشـباحهمُ      ثـمّ بـاعوا الـكرب iiأفراحهمُ
فــزدِ  الـلّـهمَّ أربـاحـهمُ      فـهـم  الـمفدونَ iiأرواحـهمُ

وهـم الـموفونَ فـرضا iiبيّنا

عـنهمُ ضـع يا إلهي إصرَهم      وبـنصرٍ مـنكَ فاشددْ iiأزرَهم
مـحصوك  اليوم حقا iiصبرَهم      فاجزِهم خيرا وضاعفْ أجرَهم

أنـتَ فـيّاضُ العطايا iiوالغنى

في  حمى الاّشراك أوقدْ iiنارَهم      واقـتسارا  اولِـهم iiإدبـارَهم
ولـئلا  يُـخذَلو كـنْ iiجارَهم      واخـذل الكفار واخرب دارهم

واهـلكنْهم واشـفِ فيهم iiقلبنا

وقال: ثمّ كتبت اليه مع هذا الشعر بهذه الفواصل من النثر، والابيات التي في اثنائها لي قلتها فيه، ممنْ وقع فيه طائر القلب، حيث يلتقط الحُبَّ لا الحَبَّ:

إلــى فـتـىً مـن قـبيلةً iiأبـدا      قـبـيلةٌ فــي الـفخار iiواحـدُها
لــم تـنـمه هـاشـمٌ iiلـذروتها      إلاّ  وغـيـظا يـمـوت حـاسدُها
روضـة عـلمٍ تروق والفضل iiوال      عـقـل  مـعا وردُهـا iiورائـدها
جلا على
 (850) الطرس من فرائده      عـروسَ  فـكرٍ زهـت iiفـرائدها
خـلوقها مـن شـذا حـجاهُ ومـن      جــوهـر  ألـفـاظه قـلائـدها

___________________________________

850 في المخطوط: عن الطرس.

قد انتظمت بسلك الايجاز، وانتظم في سلكها الاعجاز، فبرزت تخطر دلالا، وتسحب أبراد البلاغة اختيالا، تجرُّ تلك الاذيال، على نثر هو السحر الحلال، قد تنزلت من سماء ذلك الحلال آياته الباهرة، واستغرقت من الصبِّ حواسه الخمس، بما اقامه في مقام الذهول، فجديرٌ أن يتلى عليهم(851) فاذا هم بالساهرة، وحيث أن الداعي، لمالك رقابَ المناقب والمساعي، وإن كان ليس ببعيد الغور، يرى الامر الصادر من تلك الحضرة للفور، فبادر إلى الامتثال، راجيا أنّ ينظمه القبول في سلك من حظىَ بالاقبال، عقد اللّهُ عزَّ ذلك الجناب بناصية الدهر، ولا برحتْ تأرج بعبير ثرى تلك الاعتاب مفارقُ الملوك الغر، ما ضرب الليل رواقه، وحلَّ بيد الصبح عن الغزالة نطاقه، وهذا دعأٌ للبرية شامل.

فأجابه بهذه الرسالة:

أخذتُ بكف الشوق والاحترام، أدام اللّه بقاك مدى الدهر والاعوام، ما تفضلتَ به من نفيس التخميس، المهزم بسطوته البليغة من أرباب الفصاحة ألف خميس، ورقيق(852) التشطير، الاخذ بشطري الحسن، ولم يكن له شبيهٌ ولا نظير، فوجدتهما لعمري قد ارتقيا الطرفَ الاعلى من البلاغة، وارتفعا بعد أن انتصبا بمقام من الاحسان انخفضت دونه أكابر الصناعة ولم يبلغ أحدٌ بلاغه، فما أعذب ألفاظها، وأدقَّ معانيها، وأعمر أبياتها، وأحكم مبانيها؛ فلو رآها (أبو تمام) لاعترف بانحطاطه من ذيّالك المقام، أو (الشريف الرضي) لارتضاها وأقرَّ طائعا بحسن السبك والنظام، أو (امرى‌ء القيس) لما امتري أنها(853) ابلغ من شعره، أو (عمر بن أبي ربيعة) لما شك أنها(854) أرقُّ من سلوكه في نظمه ونثره، أو (حسان بن ثابت) لاستحسنها وثبت عنده أنك إمام البلاغة، أو (زهير بن أبي سلمى) لتاه عجبا من رونقها الازهري وعلم أنك مصدر الحكمة في هذه الصياغة(855)؛ وأما ما رصعتها به من جواهر نثرك الذي انتظمت دراريه، وعذبت الفاظه واستحكمت معانيه، فهو وبهيِّ سمتِكَ، ورقَّة طبعك، كما قيل: السحرُ الحلال، والماء العذب، تجلى به الابصار والبصائر، وترتاح بسماعه القلوب والضمائر، فلو رآه (الصابي) لصبا اليه، وتنسّم من عبير صَباه، وعلم أنه لو باراه، لما أتى بمثله ولا جاراه، أو رئيس الخطباء (قسُّ بن ساعدة) لفارق المواسم وسلَّم أن ذلك خارجٌ عن طوقه ولو ألف بليغ من قومه ساعده، أو كافي الكفاة (الصاحب بن عباد) لاستصحبه وما فارقه واكتفى به وما زاد؛ ثمّ إنّي ورفيع قدرك، وسنّي فصاحتك، وعليّ بلاغتك، قد صرتُ غريق بحار الحيرة، لا ادري بأيّ كيفية اؤدي شكركَ، وبأيّ لسان أصفكَ، فاكافي فضلك، بما تنزلت به(856) من تخميس أبياتي اللواتي من الحسن عاريات، وتشطيرهنَّ مع أنهنَّ غير عامرات ولا لائقات، وكلما ابرمتُ الاعزام، وشددتُ حيازيم الاهتمام، ونقلتُ الاقدام، لاداء هذا المرام، قصَّر بي ضعفُ قوى الفكر وعيُّ اللسان، وضيق الجنان، وكبا أدهم القلم في هذا الميدان، لعلوّ شرفك الذي لا يباري، ووفور محاسنك التي لا تجاري، غير أن العدول عن ذلك بالكلية إخلالٌ بالواجبات، لان شكر المحسن من المفروضات، وبنأً على أن مالا يدرك كله، لا يترك أقله(857)، أقول: وليس سوأً عالم وجهول؛ لاشكرنَّك شكرا يليق بجنابك، ويفي باحسانك، ما كرَّ الجديدان، وما تعاقب(858) الملوان، والسلام عليكم، بعد(859) شوقي اليكم.

قال السيد: فأجبته بهذه الرسالة على أثرها، بكل نظمها ونثرها، وقلت: لاطفتْ الصبَّ جميلةُ برِّك، وتلطفتْ بالمغرم المشوق عقيلةُ نثرك، قد زارت محبا رفعها على الاحداق، واجتنى من(860) محاسنها ثمرات الاوراق، ثمّ حلَّ عنها النطاق، ببنان فكرة المتأمل، ونضا عنها أبرادها الرقاق، إلاّ لبسة المتفضل؛ فوجدها آخذةً بأطراف النباهة والفكاهة، ووجد نفسه عن منادمة مثلها على طرف من العيِّ والفهاهة، فترك مفاوضتها المدح، وعدل عن مقارضتها الثناء ولا قدح، ورأى الالتحاف بشملة التسليم بالقصور والاعتراف، أليق بكليل الذهن واللسان، من مقاومة شواهد الاختبار والامتحان، فبادر بأنامل العذر، يفض لطايم الشكر، ويهدي من نسمات الحمد، ما هو أطيب من نسمات الورد:

ليَ العذرُ كلَّ لسان القلمْ     وجفَّ بما هو طرسي رسمْ(861)

___________________________________

851 في الديوان المطبوع: عليه.
852 في المخطوط: ودقيق.
853 وفيه أنهما.
854 وفيه أنهما.
855 في الديوان المطبوع: الصناعة.
856 وفيه: تنزلت له.
857 في الديوان المطبوع: جله.
858 وفيه: وتعاقب.
859 وفيه: بعدد.
860 وفيه: في اثم.
861 ذكرت في باب المدائح.

إي وعلياك، وما انتظم على جيدها من عقد مزاياك، لا تنشطُ منّي النفس، للقيام بأعباء وصفك ولو نهضتْ بقواها الخمس، إذ لا يعلق طائرٌ فكرها، بشأو من ارتفع عن مركز وكرها:

يا هماما بفضله     يشهد السمع والبصرْ(862)

هذا والرجاء اسبال ستر التكرُّم والاغضاء على عيوب هذه الالوكة، لئلا تكون في أندية الاشراف اضحوكة، لا زال قمرُ تلك السماء موفيا، ما نبت السعدانُ مستلقيا، والسلام عليكم، ما رفَّ فؤادي بأجنحة الشوق اليكم، ورحمة اللّه وبركاته.

***

___________________________________

862 ذكرت في باب المدائح.

9 ـ قال وقد أرسلها إلى صبحي بك في استانبول عن لسان الميرزا جعفر القزويني:

بيان براعة الفصاحة، ولسان براعة البلاغة، لا ينبسطان للاحاطه، بمزايا مَن اوضح لاهل الفخر نهجه وهداهم صراطه:

شمسُ العلى بدر سماء الجلالْ     إنسانُ عين الفضل روح الكمال

الاعزُّ الذي اذا اسفر وجهه جاءت الشمس تقول: هذا صبحي، والفيصل الذي اذا نطق لسانه، أقبل الملكُ يقول لها: هذا سيفي، فإليك عنه تنحيِّ:

ويدَّعيه المجدُ ما بينهما(863)     لنفسه فيُعطيان ما ادّعي

___________________________________

863 في الديوان المطبوع: ويدعيه الفضل من بينهما.

وكيف لا يكون كذلك من تستمد الشمس من نوره، ويعتضد الملك برأيه في مهمات اموره، ويفتخر المجد بأنه من بنيه، وبأعزّهم عليه يفدّيه، إذ هو منبع الحكم، وينبوع السماحة والكرم، قد شهدتْ معاني بيانه، بباهر فضله ودلَّ بديع تبيانه، على كمال ظرفه ونبله، وزهرت كأخلاقه وشيمه،أنوارُ ربيع جوده وكرمه، وعطَّر جيبَ الدهر أرجُ مجده، وصقل محيا الدنيا شعاعُ سعده، وانّي لمّا آنس كليمُ فكري على البعد نار ذكائه، ونودي قلبي من جانب طور مجده وعليائه عرفتُ أن الذي صار قلبي كله مسمعا لنداه، هو واحد الفضل الذي لا ربَّ للكمال سواه، وحيث كان في شرع الاداب، وعرف ذوي الالباب، انَّ مَن توحَّد بالفضل واستجمع صفات الكمال، جديرٌ وربّ السبع المثاني أن يُمدح بما تقصر عنه السبع الطوال، عملت في مديحه هذه القصيدة الحائية(864)، ونسجتها له حلّة حليَّة، وأهديتها اليه، وأنا على ثقةٍ من قبولها اذا نشرتْ لديه، وإن كنتُ كمهدي القطرة إلى البحر الخضمّ، والذِّرة الى الطود الاشمّ، فهديتي هذه جهد المقلَّ، إلى الجواد المكثر المفضل، على أنّي وإن سمَّتني الفصاحةُ حيدرَ خيسها، ودعتني البلاغة ليثَ عريسها، وكان أبي سليمان عصره، يأتيه بعرش بلقيس المعاني آصفُ فكرة، فيراه مستقرا لديه، ارتداد طرفه اليه، فأراني لو استخرجتُ الدراري من نهر المجرّة، ونظمت بكفِّ الثريّا أنجم النثرة، عقودا احلّى بها نحور علياه، واوشّحُ بها حسانَ مزاياه، لما زدتها بذلك حسنا، ولا أفدتُ معاني جمالها جميل معنى، بل أكون كمن يقول: لماء السماء ما اطهرك، ولنور الرياض ما ازهرك، ولغضِّ النسيم ما أطيب نفسك، وللعقد النظيم ما انفسك:

ولم يستفدْ بالمدح مَن ليس عنده     وهل ينفع التحجيل من هو أشهب؟

هذا ورجأُ الداعي من نفحات كرمك، أيها المالك رقاب المناقب والمساعي بمعالي هممك، إيصال هذه الرائية الغرأ(865)، الناطقة بأبلغ الثنأ، إلى حضرة صدر الوزراة الاعظم، والسيف الذي انتضتْ منه يدُ الامارة على أعدائها أقطع مخذم، منا منك لا عليك، وعائدة تكرُّم لك لا اليك، وهي وإن كانت حقيرة، في جنب معاليه الخطيرة، فأراها على حقارة صناعتها، ونزارة بضاعتها، أنْ شمَلتها ألطافُك بنسيم العناية ولحظتْها كفايتُك بعين وضعَتها موضعها، ووقعتْ منه موقعها، وهذه الحائية الغراء، والغانية العذراء، قد حدرَت لمدحك نقابها، فائقةً بحسنها أترابها، فأعرْها سمعَ مسامحٍ وهوب، واسبلْ(866) على قائلها من كثرة العيوب:

لتُلق ملوكُ الارض طوعا يدَ الصلح     حذارَ حسامٍ صاغه اللّهُ للفتح(867)

***

___________________________________

864 راجع ص 20 من هذا الجزء.
865 انظر ص 37 من هذا الجز.
866 في الديوان المطبوع: وأسدل.
867 ذكرت في باب المدائح ص 20.

10 ـ قال رحمه اللّه: وقد كتب بها إلى السيد سلمان النقيب عن لسان بعض الاشراف يقول:

يا خليقا(868) بأشرف الاخلاق      دمْ  برغم الحسود عالي iiالرواقِ
وأنـرْ  فـي سماء مجدك iiبدرا      زاهـرَ  الضوء باهر iiالاشراق
إنْ تـكن فـيك قرت iiالشامعينا      فـالقذا  جـائلٌ بـعين iiالعراق
واليك  الزوراء تشتاق شوقَ ال      زهـر ذاوٍ إلـى الحيا iiالمهراق
كـم نـفوسٍ تـطلَّعت لك iiفيها      فـترقَّتْ مـن شـوقها iiللتراقي

___________________________________

868 وفي المخطوطة: يا كريما.

بل أنت لها الروح المدبَّرة، والرئيس المطلق الذي جميع أعضائها اليك مفتقره، قد سكنتْ اليك في هذا الزمن، سكون الطرف الساهر إلى الوسن، ما فتحتْ جفون أعصارها على مثلك، ولا التحفت بمثل ما التحفت به من أبراد فضلك، ولعمر الزوراء، لقد طاب لها بظلك الاستذراء، تقتبس الذكاء من أشعة معارفك، وتلتمس اغتراف الكرم لا الماء من لجة عوارفك، وتثني عليك بين أمجادها، ألسنة الانشاء بإنشادها:

الفخرُ شاد بكم قبابهُ     والشعر زان بكم كعابَهُ(869)

___________________________________

869 ذكرت في باب المدائح.

إي وذلك الكنه، وما انتشر بين البريّة عنه، من باهر فضل تقصر عنه الاشارة، ويضيق عن الاحاطة بنعته نطاق العبارة، ليس لناعتٍ وراء التنزيل منتهى، ولو حطّت آراؤه السها، في مدح مَن ضرب بعرقٍ نبويّ، في طينة الشرف القدسيّ، قد نسج الوحيُ ببنان التعظيم رداء فخره، ونوَّه لسان الذكر الحكيم بجلالة قدره، ومُثل في مجهل الزمان علم، في أعلى يفاع الشرف الاقدم، إنْ ضلَّت باجتماعها الاراء فعلى انفراد به يُقتدي، وإن حارت عن قصدها الالباب فعلى نور فهمه الوقاد يجد الحيران هدىً، ويحقُّ لهذا العصر أن يفتخر فيه، وإنه لجدير بالفخر في إنسانه الذي ما التقت مجامع الانشاد على ذي براعة، أغزر ذهنا منه وأنطق لسان يراعة:

يـا مجيدا إن قال: قالَ iiمجيدا      وفـريدا  إن يُنشِ أنشا iiفريدا
أين  من مجدكَ المؤثل iiنظمي      ولـئن كنتُ قد شأوتُ ii(لبيدا)
كـيف  للشعر بالصعود iiلسامِ      حيث لا النيِّراتُ تلقي صعودا
فـضلَ الـخلق سيدا ومسودا      وحـوى  الفخرَ طارفا iiوتليدا
وبدا الفخرُ بين برديه iiشخصا      من طراز الثناء يكسي iiبرودا
فـلواه  الـعلياء رفَّ iiعـليه      ولـه خاضعا أتى الدهر iiجيدا

هذا وأكفُّ الابتهال، لا تزال مرفوعةً إلى حضرة ذي الجلال، أن يعيدك لتشريف هذه الرباع والمحاشد، بعد أن يكمل لك التشريف بتلك البقاع والمشاهد، (فيقرّ الداعي عينا بمرآك، وينتظم في سلك من أثنى عليك وهنّاك)(870)، دعاء إخلاصٍ اذا رفعته، قال الحفيظان معي آمينا:

من طينة المجد الصراح التي      قـد شـهدَ الوحيُ iiبتطهيرها
مـن شعلة النار التي قد iiغدا      يقبسُ موسى العلم من iiنورها
فـاتركْ أحاديث كرامٍ iiمضت      ولا تـقل جـئتُ بـمأثورها
فـاليوم  قد أغناك في iiفضله      عـيانُ  هـذا عن أساطيرها
هـذا  الذي تقديمه في iiالعُلى      مـع سـبقها قاضٍ iiبتأخيرها
لـو مكةُ اسطاعت إذا iiأقبلتْ      شـوقـا  الـيه iiبـحذافيرها
واسـتلمت  مـنه يدا شرّفتْ      بـالـلثم أفـواهَ iiجـماهيرها

***

___________________________________

870 سقطت هذه الجملة من المطبوعتين.
 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث