ليْلَةُ عاشُورَاءْ

 
 

الصفحة 30

سكينة تصف ليلة العاشر

روي مؤلف كتاب نور العيون بإسناده ، عن سكينةَ بنت الحسين عليه السلام ، أنها قالت : كُنتُ جالسةً في ليلة مقمّرة وسط الخيمة ، وإذا أنا أسمع من خلفها بكاءً وعويلاً ، فخشيت أن يفقه بي النساء ، فخرجت أعثر بأذيالي ، وإذا بأبي عليه السلام جالس وحوله أصحابه وهو يبكي ، وسمعته يقول لهم : أعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم ، وقد إنعكس الأمر لأنهم استحوذ عليم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، والآن ليس لهم مقصدٌ إلاّ قتلي وقتل من يجاهد بين يدي وسبي حرمي بعد سلبهم ، وأخشى أنّكُم ما تعلمون وتستحون ، والخدع عندنا أهل البيت محرّم (1) ، فمن كره منكم ذلك فلينصرف ، فإنّ الليل ستير والسبيل غير خطير ، والوقت ليس بهجير ، ومَنْ واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان نجيّاً من غضب الرحمن ، وقد قال جدّي محمد صلّى الله عليه وآله : ولدي الحسين يُقتل بأرض كربلاء غريباً وحيداً عطشاناً فريداً ، فمن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم ـ عجل الله فرجه ـ ، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة.

قالت سكينة : فو الله ما أتمّ كلامه إلاّ وتفرق القوم من عشرة وعشرين ، فلم يبق معه إلا واحد وسبعون رجلاً ، فنظرت إلى أبي منكساً رأسه فخنقتني العبرة ، فخشيت أن يسمعني ورفعت طرفي إلى السماء وقلت : اللهم انّهم خذلونا فاخذلهم

____________

(1) وفي أسرار الشهادة : وأخاف أن لا تعلموا ذلك ، او تعلموا ولا تتفرقوا للحياء منّي ، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت.

الصفحة 31

ولا تعجل لهم دعاءً مسموعاً ، وسلط عليهم الفقر ولا ترزقهم شفاعة جدّي يوم القيامة ، ورجعت ودموعي تجري على خدي ، فرأتني عمتي أم كلثوم ، فقالت : ما دهاك يابنتاه ، فأخبرتها الخبر ، فصاحت واجدّاه واعليّاه ، واحسناه واحسيناه ، واقلّة ناصراه ، أين الخلاص من الأعداء ليتهم يقنعون بالفداء ، تركت جوار جدّك وسلكت بنا بُعدَ المدى ، فعلا منّا البكاء والنحيب.

فسمع أبي ذلك فأتى إلينا يعثر في أذياله ودموعه تجري ، وقال : ما هذا البكاء ؟

فقالت : يا أخي ردّنا إلى حرم جدّنا ، فقال : يا اختاه ليس لي إلى ذلك سبيل ، قالت : أجل ، ذكرهم محل جدّك وأبيك وأمك وأخيك ، قال : ذكّرتهم فلم يذكّروا ووعظتهم فلم يتعظوا ، ولم يسمعوا قولي ، فما لهم غير قتلي سبيل ، ولا بدّ أن تروني على الثّرى جديلاً ، ولكن أوصيكنّ بتقوى الله ربّ البريه والصبر على البلية وكظم نزول الرزيّة ، وبهذا أوعد جدّكم ولا خلف لما أوعد ، ودّعتكم إلهي الفرد الصمد ، ثم تباكينا ساعة والإمام عليه السلام يقول : ( وَما ظلمُونا ولكنْ كانُوا أنفسَهُم يَظلمُون ) (1) (2)

____________

(1) سورة البقرة : الأية 57.
(2) الدمعة الساكبة : ج4 ،ص 271 ـ 272 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج 2 ، ص 222 ـ 223 ، الأيقاد : ص 93 ـ 94.

الصفحة 32

الامام الحسين عليه السلام يُخبر أصحابَه بالشهادة

روى عن أبي حمزة الثمالي ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام يقول : لمّا كان اليوم الذي اُستشهد فيه أبي عليه السلام جمعَ اهله واصحابه في ليلة ذلك اليوم ، فقال لهم : ياأهلي وشيعتي اتخذوا هذا الليل جملاً لكم وانجو بإنفسكم ، فليس المطلوب غيري ، ولو قتلوني ما فكروا فيكم ، فانجوا رحمكم الله ، فأنتم في حلٍّ وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني

فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد : والله يا سيدنا يا أبا عبدالله ، لا خذلناك ابدا ، والله لا قال الناس : تركوا إمامهم وكبيرهم وسيدهم وحده حتى قُتل ، ونبلو بيننا وبين الله عُذراً ولا نخليك أو نُقتل دونك !!

فقال لهم : ياقوم إني في غَد اُقتلُ وتُقتَلون كُلكُم معي ولا يَبقى مِنكم واحدٌ فقالوا : الحمدُ للهِ الذي أكرمَنا بنصرِكَ وشرّفَنَا بالقتل معك ، أولا ترضى أن نكون معكَ في درجتِكَ يا ابن رَسولِ اللهِ ؟

فقال عليه السلام جزاكم الله خيراً ! ودعا لهم بخير ، ـ فأصبح وقُتل وقُتلوا معه اجمعون ـ .

فقال له القاسم بن الحسن عليه السلام : وأنا فيمن يُقتل ؟ فأشفق عليه ، فقال له : يا بُني كيف الموت عندك ؟ قال : يا عم فيك أحلى مِنَ العسل ، فقال : إي واللهِ فداك عَمُكَ ، إنك لاحد من يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم ، ويُقتل ابني عبدالله.

الصفحة 33

فقال : يا عم ويصلون إلى النساء حتى يُقتل عبدالله وهو رضيع ؟ فقال : فداك عمك ( يُقتل ابني عبدالله إذا جفت روحه عطشاً وصرت إلى خيمنا فطلبتُ له ماءً ولبناً فلا أجد قط فأقول : ناولوني ابني لاُشربه مِنْ فيَّ ) (1) ، فيأتوني به فيضعونه على يديَّ فأحمله لاُدنيه من فيَّ فيرميه فاسق بسهم فينحره وهو يناغي فيفيض دمه في كفي فأرفعه إلى السماء وأقول : اللهم صبراً واحتساباً فيك ، فتعجلني الاسنة منهم ، والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم ، فأكرُّ عليهم في أمرّ أوقات في الدنيا ، فيكونُ ما يُريد الله ، فبكى وبكينا وارتفع البكاءُ والصُراخ من ذراري رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الخيم.

ويسألني زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عن علي ، فيقولون : يا سيدّنا فسيدّنا علي ؟ فيشيرون اليَّ ماذا يكون من حاله ؟

ـ فيقول مستعبراً ـ : ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا ، فكيف يصلون إليه وهو أبُ ثمانية أئمة (2)

وفـتية  مـن بني عدنان ما iiنظرت      عـين  الـغزالة أعـلى منهمُ iiحسبا
اكـفُهم يخصبُ المرعى الجديب iiبها      وفـي  وجـوههم تـستمطر iiالسُحبا
أكـرم  بـهم مـن مصاليت iiوليدهمُ      بغير ضرب الصلى بالبيض ما طربا

____________

(1) كان في العبارة تصحيف وما بين القوسين هو ما أثبته صاحب معالي السبطين كما لا يخفى.
(2) مدينة المعاجز للبحراني : ج4 ، ص 214 ، ح295 ، و ص 286 ، ط ـ قديم ، وروى هذه الرواية بإسناده إلى أبي حمزة ، ابن حمدان الحضيني في الهداية الكبرى : ص 43 ( مخطوط ) ، معالي السبطين للحائري : ج 1 ، ص 343 ـ 344 ، نفس المهموم للقميّ : ص343 ـ 344.

الصفحة 34

الامام الحسين عليه السلام يُري أصحابَه منازلهم في الجنة

وروي أنَّ الحسين عليه السلام كشفَ لاصحابه عن أبصارهم فرأوا ما حباهمُ اللهُ من نعيم ، وعرَّفَهم منازلَهم فيها ، وليس ذلك في القدرةِ الالهيةِ بعزيز ولا في تصرفاتِ الامام بغريب ، فإنَّ سحرةَ فرعون لمّا آمنوا بموسى عليه السلام وأراد فرعون قتْلَهم أراهم النبيُ موسى عليه السلام منازلَهم في الجنة (1).

قال شاعر اهل البيت الفرطوسي ـ عليه الرحمة ـ :

وأراهم وقد رأى الصدقَ iiمنهم      في  الموالاة بعد كشف iiالغطاءِ
مـالهم مـن منازل قد iiاُعدت      فـي جنان الخلود يوم iiالجزاءِ
ولـعمري  ولـيس ذا iiبعسير      أو  غـريب من سيد iiالشّهداءِ
فـلقد أطـلعَ الـكليمُ iiعـليها      مـنهم كـلَّ سـاحر iiبـجلاءِ
حـينما آمـنوا بـما جاءَ iiفيه      عـندَ  إبطال سحرِهم والرياءِ
بعد خوف من آلِ فرعونَ مرد      لـهم مـنذر بـسوءِ iiالـبلاءِ
فـأراهم مـنازلَ الخيرِ iiزلفىً      وثـواباً  فـي جـنةِ iiالاتقياءِ
لازديـاد الـيقين بالحق iiفيهم      بـعد  دحض للشك iiوالافتراءِ
وثَـباتاً  منهم على الدين iiفيما      شاهدوه  من عالم iiالارتقاءِ
(2)

وروي عن سعد بن عبدالله ، عن احمد بن محمد ابن عيسى ، عن الاهوازي ،

____________

(1) أخبار الزمان للمسعودي : ص274 ، مقتل الحسين للمقرم : ص215.
(2) ملحة أهل البيت للفرطوسي : ج 3 ، ص 291.

الصفحة 35

عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن حميد ، عن ابي حمزة الثمالي ، قال : علي بن الحسين عليه السلام كنت مع أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها فقال عليه السلام لاصحابه هذا الليل فاتّخذوه جملاً فإنَّ القوم إنما يريدونني ، ولو قتلوني لم يلتفتوا اليكم ، وانتم في حل وسعة.

فقالوا : والله لا يكون هذا ابداً ! قال : إنكم تُقتلون غداً ( كُلّكُم ) ولا يفلت منكم رجُل ، قالوا الحمد لله الذي شرفّنا بالقتل معك ثم دعا ، وقال لهم : ارفعوا رؤوسَكم وانظروا ، فَجعلوا يَنظرون إلى مواضعِهم ومنازلِهم من الجنة ، وَهو يقولُ لهم : هذا منزِلُكَ يا فلان ، وهذا قصرُك يافلان ، وهذه درجتك يافلان ، فكان الرجلُ يَستقبلُ الرّماحَ والسيوفَ بصدرِه وَوجهِه ، ليصلَ إلى مَنزِلِه مِنَ الجنة (1).

وَفي حديثِ أبي جعفر الباقر عليه السلام إن الحسينَ عليه السلام قال لاصحابهِ : ابشروا بالجنةِ فواللهِ إنّا نَمكثُ مَا شاء اللهُ بعدَ مَا يجري عَلينا ، ثم يُخرجُنا اللهُ وإياكم حتى يَظهر قَائمُنا فَينتقمَ من الظالمينَ ، وأنا وأنتم نُشاهِدهم في السلاسل والاغلال وأنواع العذاب !!

فَقيلَ له : مَنْ قائمُكُم يا ابن رسولِ الله؟

قال : السابع مِن وِلدِ ابني محمد بن علي ِّ الباقر ، وهو الحجةُ ابنُ الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي ابني ، وهو الذي يَغيبُ مدةً طويلةً ثم يظهرُ وَيملاُ الارضَ قسطاً وَعدلاً كما مُلئت ظلماً وَجوراً (2).

____________

(1) الخرائج والجرائح للراوندي : ج2 ، ص 847 ـ 848 ، بحار الانوار : ج 4 ، ص 298 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج 2 ، ص 221.
(2) مقتل الحسين للمقرم : ص215.

الصفحة 36

وروى الصدوق ـ عليه الرحمة ـ في علة إقدام أصحاب الحسين عليه السلام على القتل ، قال : حدثنا محمد بن ابراهيم بن اسحاق رضي الله عنه قال : حدثنا عبدالعزيز بن يحيى الجلودي قال حدثنا محمد بن زكريا الجوهري قال : حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قلت له : أخبرني عن أصحابِ الحسين عليه السلام وإقدامِهم على الموتِ ، فقال : إنَّهم كُشفَ لَهم الغطاء حتى رَأوا منازلَهم من الجنةِ ، فكانَ الرجلُ منهم يَقدمُ على القتلِ لِيُبادرَ إلى حَوراءَ يُعانِقُها وإلى مكانِه مِن الجنة (1).

وجاء في زيارة الناحية المقدسة : أشْهدُ لَقدْ كَشفَ اللهُ لكمُ الغِطاء ، وَمَهّد لكُمُ الوطاء ، وأجزل لكم العطاء ، وكُنْتُمْ عن الحقِّ غَيرَ بطاء ، وأنتُم لنا فُرطاء ، ونحنُ لكُم خُلطاءُ في دارِ البقاء ، والسلام عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاته (2)

ولقد أجاد من قال فيهم ( صلى الله عليه وآله ) :

وذووا المروة والوفا أنصـارُه      لهم على الجيش اللئامِ زئيـرُ

طهرت نفوسهم لطيب اُصولها      فعناصرٌ طابت لهم وحجـورُ

فتمثّلت لهم القصورُ وما بهِـم      لولا تمثّلت القصورُ قصـورُ

ما شاقَهم للموت إلاّ دَعْــوَة       الرحمن لا ولدانُها والحورُ (3)

وقال الاخر :

____________

(1) علل الشرائع : ح 1 ، ص 229 ، ب 163 ، ح 1 ، بحار الانوار : ج 44 ، ص 297 ، مدينة المعاجز : ج4 ص214.
(2) الاقبال لابن طاووس : ج3 ،ص 80 ، بحار الانوار : ج 98 ، ص 273 ـ 274.
(3) نفثة المصدور للشيخ عباس القمي : ص629.

الصفحة 37

وفتية من رجـال الله قد صبـروا     على الجلاد وعانوا كلَّ محـذورِ

حتّى تراءت لهم عـدن بزينتهـا     مآتماً كُنَّ عُرس الخُرَّد الحورِ (1)

وقال آخرٌ أيضاً :

وبـيتوه وقـد ضـاق الـفسيحُ iiبه      مـنهم  على موعد من دونه iiالعطلُ
حتى إذا الحرب فيهم من غد iiكشفت      عـن  ساقها وذكى من وقد ما iiشعلُ
تـبادرت فـتيةٌ مـن دونـه iiغررٌ      شـمّ  الـعرانين ما مالوا ولا iiنكلوا
كـأنّـما يـجتنى حـلواً iiلانـفسهم      دون  الـمنون مـن العسّالة iiالعسلُ
تراءت الحور في أعلى القصور لهم      كـشفاً  فهان عليهم فيه ما iiبذلوا
(2)

الامام الحسين عليه السلام يعظ أصحابه ويبشّرهم

جاء في تفسير الامام العسكري عليه السلام في قوله عزوجل : ( وإذْ قُلْنا للملائكةِ اسجدُوا لادمَ فسجدُوا إلا إبليسَ أبى واستكبرَ وكانَ مِنَ الكافرين ) (3)

قال عليه السلام : ولمّا امتحن الحسين عليه السلام ومن معه بالعسكر الذين قتلوه ،وحملوا رأسه قال لعسكره : أنتم من بيعتي في حل فالحقوا بعشائركُم ومواليكم.

وقال : لاهل بيته قد جعلتكم في حلٍّ من مفارقتي ، فإنَّكمْ لا تُطيقونهم

____________

(1) أدب الطف للسيد جواد شبر : ج 6 ، ص 261.
(2) الدمعة الساكبة : ج 4 ، ص 278.
(3) سورة البقرة : الآية 34.

الصفحة 38

لتضاعف اعدادهم وقواهُمْ ، وما المقصود غيري ، فدعوني والقوم ، فإنَّ اللهَ ـ عزّوجلّ ـ يُعينُني ولا يُخليني من حُسني نظرهِ كعاداته في اسلافنا الطَّيبين.

فأمّا عسكره ففارقوه ، وأما أهله الادنون من أقربائه فأبوا !! وقالوا : لا نفارقك ويحلُّ بنا ما يحلُّ بك ، ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وإنّا أقرب ما نكونُ إلى الله إذا كنا معك.

فقال لهم : فإنْ كُنتم قد وطنتم أنفسكم على ما وطَّنت نفسي عليه ، فاعلموا أنَّ الله إنّما يهبُ المنازل الشريفة لعباده (لصبرهم) باحتمال المكارة ، وأنَّ الله وإنْ كان خَصَّني مع مَنْ مضى مِنْ أهلي الَّذينَ أنا آخرُهُم بقاءً في الدُّنيا من الكرامات بما يَسهل عليَّ معها احتمال الكريهات ، فإنَّ لكم شطرُ ذلك من كرامات الله تعالى ، واعلموا أن الدنيا حُلوها ومرها حُلمٌ (1) والانتباه في الاخرة ، والفائز من فاز فيها ، والشقيُّ مَنْ شقي فيها.

أولا اُحدثكم بأول أمرنا وأمركم معاشرَ أوليائنا ومحبينا ، والمعتصمينَ بنا ليسهل عليكم احتمال ما أنتم له معرضون (2)؟

قالوا بلى يا ابن رسول الله

قال : إنَّ الله تعالى لمّا خلقَ آدم ، وسوّاهُ وعلَّمَه أسماء كلَّ شيء وعرضهم على الملائكة ، جعل محمداً وعلياً وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ عليهم السلام أشباحاً خمسةً في ظهرِ آدم ، وكانت أنوارُهم تُضيءُ في الافاق من السماوات والحُجب والجنان والكرسيّ والعرش ، فأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لادم تعظيماً له ، إنَّه قد فضّله

____________

(1) وفي أسرار الشهادة : واعلموا أن الدنيا حلوها مرّ ، ومرها حلو.
(2) وفي بحار الانوار : مقرّون

الصفحة 39

بأن جعله وعاء لتلك الأشباح التي قد عم أنوارها في الآفاق ، فسدوا إلا إبليس ابى أن يتواضع لجلال عظمة الله ، وأن يتواضع لأنوارنا أهل البيت ، وقد تواضعت لها الملائكة كلها واستكبر وترفع ، وكان باءبائه ذلك وتكبره من الكافرين (1).

ومن جملة البشارات التي بشر بها الحسين عليه السلام اصحابه عليهم السلام هو مارواه القطب الراوندي عن أبي سعيد سهل بن زياد ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبن فضيل ، عن سعد الجلاّب ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال الحسين بن علي عليهما السلام لاصحابه قبل أن يُقتل : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا بُنيَّ إنك ستساقُ إلى العراق ، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين ، وهي أرضٌ تدعى ( عموراء ) وإنك تستشهد بها ، ويستشهد معك جماعةٌ من أصحابك لا يجدون ألم مس الحديد ، وتلا : ( قُلنا يَا نارُ كُوني برداً وَسلاماً على إبراهيم ) (2) تكونُ الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً فابشروا ، فو الله لئن قتلونا ، فإنَّا نرد على نبيّنا (3)

____________

(1) تفسير الامام العسكري عليه السلام : ص 218 ـ 219 ، تاويل الايات : ج 1 ، ص 44 ، ح 18 ( باختصار ) ، بحار الانوار : ج11 ، ص 149 ، ج 45 ، ص 90 ـ 91 ، الدمعة الساكبة :ج4 ص270 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص223 إلى قوله الشقي من شقي فيها.
(2) سوره الانبياء الاية : 69.
(3) الجرائح والخرائج للراوندي : ج2 ، ص848 ، بحار الانوار ج45 ، ص80 ، ح6 ، مدينة المعاجز للبحراني : ج3 ، ص504 ص245 الطبعة الحجرية.

الصفحة 40

الحسين عليه السلام يعالج سيفه

ووصيته لاُخته زينب ( عليها السلام )

رويَّ عن عليِ بنِ الحسينِ بن علي عليه السلام قال : إني جالسٌ في تلكَ العشيّةِ التي قُتل أبي صَبيحتَها وَعمتي زينبُ عندِي تُمرضُني إذ اعتزلَ أبي بأصحابِه في خَباء له وَعندَه حُوَىّ مَولى (1) أبي ذر الغُفاري وَهو يُعالجُ سَيفَه (2) ويُصلِحُهُ وأبي يقولُ :

يَا دهرُ أفٍّ لكَ مِنْ خَليـلِ      كَمْ لكَ بالاشراقِ وَالاصيلِ

مِنْ صَاحب أو طالب قَتيلِ      وَالدهرُ لا يَقنعُ بالبديــلِ

وإنَّمَا الامرُ إلى الجليــلِ      وَكلُّ حيٍّ سَالـكُ السبيـلِ

____________

(1) هو : جون بن حوى مولى أبي ذر الغفاري ، كما في الزيارة الرجبية وزيارة الناحية ، وكذا في مقاتل الطالبيين ، وذكره الخوارزمي والطبري باسم حُوى ، وذكره الشيخ المفيد في الارشاد وابن شهراشوب في المناقب باسم جوين. وكان جون منضمَّاً إلى أهل البيت عليهم السلام بعد أبي ذر فكان مع الحسن عليه السلام ثم مع الحسين عليه السلام ، وصحبَه في سفره من المدينة إلى مكة ثم إلى العراق ، وفي كامل بهائي أنه كان بصيراً بمعالجة آلات الحرب واصلاح السلاح ، وقتل بين يدي الحسين عليه السلام ووقف عليه وقال : اللهم بيض وجهه وطيب ريحه واحشره مع الابرار ، وعرف بينه وبين محمد وآل محمد ، وروي عن الباقر عن علي بن الحسين عليهم السلام إنّ بني أسد الذين حضروا المعركة ليدفنوا القتلى وجدوا جوناً بعد أيّام تفوح منه رائحة المسك.
راجع : مقتل الحسين للخوارزمي : ج 1 ص 237 ، تاريخ الطبري : ج 4 ص 318 ، المناقب لابن شهراشوب : ج 4 ص 103 ، كامل بهائي : ج2 ، ص280 ، إبصار العين : ص 105 ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص 80 ـ 81.
(2) وفي مقاتل الطالبيين : ص113 ، وهو يعالج سهاماً له ، وبين يديه جون الخ.

الصفحة 41

قال : فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فَهِمتُها ، فَعرَفتُ مَا أرادَ فَخنقَتني عَبرتي فرددّتُ دَمعي ولزمتُ السكون فَعلمتُ أنَ البلاءَ قد نزلَ ، فأمّا عمَّتي فإنها سَمِعت ما سمعتُ وهي امرأةٌ وَفي السماءِ الرقَّةُ والجزعُ فَلم تملك نفسَها أن وَثبت تَجرُّ ثوبَها وَإنها لحاسرةٌ حتى انتهت إليه فقالت : واثكلاه لَيتَ الموتَ أعدمني الحياة ، اليومَ ماتتْ فاطمةُ أمّي وعليٌّ أبي وحسنٌ أخي ، يا خليفةَ الماضي وثمال (1) الباقي (2).

قال : فَنظَر إليها الحسين عليه السلام فقال : يا أُخيّةُ لا يُذهبنَّ حلمَكِ الشيطانُ ، قالت : بأبي أنتَ وأمي يا أبا عبدالله استقتلتَ نَفسي فداكَ.

قالت أتُقتل نصبَ عيني جهرة      ما الرأي فيَّ وما لديَّ خفيـرُ

فأجابها قلّ الفدا كثُــر العدى      قَصُرَ المدى وسبيلنا محصور

فَردَّ غُصّتَهُ وَترقرقتْ عَيناهُ ، وَقالَ : لو تُركَ القطا (3) ليلاً لنام (4) ، قالت : يَاويلتي

____________

(1) جاء في حديث أبي طالب عليه السلام يمدح ابن أخيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثِمالُ اليتامي عصمةٌ للارامل
الثمال : ككتاب ، الغياث والذي يقوم بامر قومه ، يقال : فلانٌ ثِمالُ قومه أي غِياثٌ لهم. مجمع البحرين للطريحي : ج5 ، ص332.
(2) وفي الارشاد : ياخليفةَ الماضين وثمالَ الباقين.
(3) القَطَا : ضرب من الحمام ذوات أطواق يُشبه الفاخته والقُماري ، وفي المثل أهدى من القطا ، قيل أنه يطلب الماءَ مسيرة عشرة أيام وأكثر من فراخها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فترجع ، ولا تُخطيء صادرة ولا واردة. مجمع البحرين للطريحي : ج1 ، ص347.
(4) لو ترك القطا ليلاً لنام ، جاء في قصة هذا مثل : إنه نزل عمرو بن مامة على قوم مُراد ، فطوقوه ليلاً ، فأثاروا القطا من أماكنها ، فرأتها امرأته طائرة فنبّهت المرأةُ زوجها ، فقال : إنما هي القطا ، فقالت : لو تُرك القطا ليلاً لنام. يُضرب لمن حُمل على مكروه من غير إرادته وقيل : أول من قال : لو ترك القطا

الصفحة 42

أفتَغصِبُ نفسَكَ اغتصاباً ؟ فذلكَ أقرحُ لِقلبي وأشدُّ على نَفسي وَلطمَتْ وَجهَهَا وأهوتْ إلى جَيبِها وشقتهُ ، وَخرّت مَغشياً عليها.

فقام إليها الحسين عليه السلام فصبَّ على وَجهِهِا الماءَ ، وقال لها : يا أُخيَّة اتقّي اللهَ وَتعزّي بعزاءِ اللهِ واعلمي أنَّ أهل الارضِ يَموتون ، وأنَّ أهل السماءِ لا يبقونَ وأنَّ كلَ شيء هالكٌ إلا وجهَ اللهِ الذي خَلقَ الارضَ بقُدرتهِ ، وَيبعثَ الخلقَ فيعودونَ وَهو فردٌ وحدَه ، أبي خيرٌ مني ، وأمي خيرٌ مني ، وأخي خيرٌ مني ، وَلي وَلَهم ولكلِ مُسلم برسولِ اللهِ أسوةٌ.

قال : فعزّاها بهذا وَنحوهِ ، وقال لها : يا أُخيّة إني اُقسمُ عليكِ فأبرِّي قَسمي ، لا تشُقي عليَّ جَيباً ، وَلا تخمشي عليَّ وَجهاً ، وَلا تدعي عليَّ بالويلِ والثبورِ إذا أنا هلكت.

وفي رواية (1) ثم قال عليه السلام : يا اُختاه يا اُمّ كلثوم ، وأنتِ يا زينب ، وأنتِ يا فاطمة ، وأنتِ يا رباب ، إذا أنا قُتلت فلا تشققنَ عليَّ جيباً ، ولا تخمشن عليَّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً.

____________

ليلاً لنام ، حذام بنت الريان وذلك لما سار عاطس بن خلاج لقتال أبيها ليلاً فلما كانوا قريباً منه أثاروا القطا ، فمرت بأصحاب الريان فخرجت حذام إلى قومها فقالت :
الا يا قومنا ارتحلوا وسيروا * فلو تُرك القطا ليلاً لنامـا
أي أن القطا لو تُرك ما طار هذه الساعة وقد أتاكم القوم ، فلم يلتفتوا إلى قولها ، وأخلدوا إلى المضاجع لمّا نالهم من التعب ، فقام دَيسم بن طارق وقال بصوت عال :
إذا قالت حذام فصدّقوها * فإنَّ القولَ ما قالتْ حـذامِ
انظر : مجمع الامثال للميداني : ج 3 ، ص 82.
(1) اللهوف : ص36 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ص238.

الصفحة 43

اٌخـت  يـا زيـنب اُوصـيك وصـايا فاسمعي      إنـنـي فـي هـذه الارض مُـلاق iiمَـصرعي
فـاصبري فـالصبرُ مـن خـيم كـرامِ iiالمترعِ      كــلُ  حـيّ سـينحيه عـن الاحـياء iiحـين
في جليلِ الخطبِ يا أختُ اصبري الصبر الجميل      إن خـيرَ الـصبرِ مـا كان على الخطبِ الجليل
واتـركي  الـلطمَ عـلى الـخدِ وإعلان iiالعويل      ثــم  لا أكـره سَـقيَ الـعينِ ورد iiالـوجنتين
واجـمعي  شـملَ الـيتامى بـعد فقدي iiوانظمي      واشـبعي مـن جـاعَ مـنهم ثم اروي مَنْ ظُمي
واذكُــري  انـهم فـي حـفظهم طُـل iiدمـي      لـيتني مـن بـينهم كـالانف بـين iiالـحاجبين

قال : ثم جاء بها حتى أجلسَها عندي ، وَخرجَ إلى أصحابهِ فأمرَهم أن يُقرِّبوا بعض بيوتهم مِن بعض ، وأن يُدخِلوا الاطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا هُم بين البُيوت ، إلا الوجه الذي يأتيهم منهُ عدوّهُم (1).

____________

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص318 ، نهاية الارب للنويري : ج20 ، ص436 ، الكامل في التاريخ لابن الاثير : ج4 ، ص58 ـ 59 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ص237 ـ 238 ، الارشاد للمفيد : ص232 ، إعلام الورى للطبرسي : ص239 ـ 240 ، بحار الانوار : ج45 ، ص1 ـ 3 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص224.

الصفحة 44

من وصايا الامام الحسين عليه السلام

قيل ومن جملة وصاياه عليه السلام والتي استأثرت باهتمام بالغ عنده ، وتدل على مدى حرصه الشديد في نشر أحكام الدين والشرع المبين مع ما هو فيه ، هو وصيته عليه السلام لاُخته زينب ( عليها السلام ) بأخذ الاحكام من الامام علي بن الحسين عليهما السلام وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه.

فقد جاء عن علي بن أحمد بن مهزيار ، عن محمد بن جعفر الاسدي ، عن احمد بن إبراهيم ، قال : دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا ، اُخت أبي الحسن العسكري عليهم السلام في سنة اثنين وثمانين ( ومائتين ) بالمدينة ، فكلمتها من وراء الحجاب وسألتها عن دينها ؟ فَسمّت لي من تأتم به ، ثمَّ قالت : فلان بن الحسن عليه السلام فَسمتهُ.

فقلت لها : جعلني الله فداكِ معاينةً أو خبراً ؟ فقالت : خبراً عن أبي محمد عليه السلام كتب به إلى أمه ، فقلت لها : فأين المولود ؟ فقالت : مستور ، فقلت : فإلى مَنْ تفزع الشيعة ؟ فقالت : إلى الجدَّة أم أبي محمد عليه السلام

فقلت لها أقتدي بمَنْ وصيتُهُ إلى المرأة ؟!

فقالت : إقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام ، إنَّ الحسين بن علي عليه السلام أوصى إلى اُخته زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السلام في الظاهر ، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم يُنسب إلى زينب بنت علي تَستّراً على علي بن الحسين عليه السلام (1)

____________

(1) كمال الدين وإتمام النعمة للصدوق : ص501 ، بحار الانوار : ج 46 ، ص 19.

الصفحة 45

وفي هذا المعنى يقول الفرطوسي ـ عليه الرحمه ـ :

وهو أوصى إلى العقيلة جهـراً     ولزين العباد تحـت الخفـاء

فهي تعطي الاحكام للناس فتوىً     بعد أخذ من زينـة الاوليـاء

كلُّ هذا ستراً عليــه وحفظاً      لعليٍّ من أعيـُنِ الرُقبـاء (1)

ولهذا قيل : أنه كان لزينب ( عليها السلام ) نيابة خاصة عن الحسين عليه السلام وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى بريء زين العابدين عليه السلام من مرضه (2)

الامام الحسين عليه السلام يتفقّد التلاع والعقبات

وكلامه مع نافع بن هلال

كان نافع ابن هلال (3) من أخص أصحاب الامام الحسين عليه السلام به ، وأكثرهم

____________

(1) ملحمة أهل البيت عليهم السلام للفرطوسي : ج3 ، ص295.
(2) وفاة زينب الكبري للنقدي : ص 53.
(3) هو : نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مدحج المذحجي الجملي ، وفي زيارة الناحية ( البجلي ) ، وقد جاء في بعض الكتب هلال ابن نافع ، كان سيداً شريفاً سرياً شجاعاً ، وكان قارئاً كاتباً من حملة الحديث ، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وحضر معه حروبه الثلاث في العراق ، وخرج إلى الحسين عليه السلام فلقيه في الطريق ، وكان ذلك قبل مقتل مسلم ، وهو القائل للحسين بعد ما خطب خطبته التي يقول فيها : أما بعد فقد نزل من الامر ما قد ترون وأنَّ الدنيا قد تنكرت... الخ. ثم قام نافع

الصفحة 46

ملازمة له سيما في مضان الاغتيال ـ وقيل أنه كان حازماً بصيراً بالسياسة ـ فلما رأى الحسين عليه السلام خَرجَ في جَوفِ الليلِ إلى خارج الخيامِ يَتفقدُ التلاعَ (1) والعقباتِ (2) تبعَهُ نافعُ ، فسألَه الحسينُ عليه السلام عما أخرجَهُ قال : يَابنَ رسولِ اللهِ أفزعني خُروجُكَ إلى جِهةِ مُعسكر هذا الطاغي.

فقال الحسينُ عليه السلام : إني خرجتُ أتفَقدُ التلاعَ وَالروآبي (3) مخافةَ أن تكونَ مَكمَناً لِهجُومِ الخيل يِومَ تحملونَ ويَحملونَ ، ثُّم رجَع عليه السلام وَهو قَابضٌ على يدِ نافعَ ، وَيقولُ : هيَ هيَ واللهِ وَعدٌ لا خُلفَ فيه.

ثم قال لَه : ألا تَسلُك بَين هَذيَنِ الجبلَيِن في جَوفِ الليلِ وَتنجُو بنفسِك ؟ فَوقعَ نَافعُ على قَدميهِ يُقبلهُما ويقولُ : ثَكلتني أمي ، إن سَيفي بألف وَفرسي مثلُه ، فَو اللهِ الذي مَنَّ بِكَ عليَّ لا فارقتُكَ حتى يَكلا (4) عن فَري وجري.

____________

فقال :... وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع نيته ، فلن يضر إلاّ نفسه والله مغن عنه ، فسر بنا راشداً معافي ، مُشرّقاً إن شئت ، وإن شئت مُغرّباً ، فوالله ما اشفقت من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربنا ، فانا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك ، ويُعدُ نافع ـ رضوان الله عليه ـ من المشاركين في جلب الماء مع العباس عليه السلام ، وقاتل قتالاً شديداً حتى اُسر ، وقتله شمر بن ذي الجوشن. وفيه يقول السماوي :
فأضحى خضيب الشيب من دم رأسه      كسير يد ينقـاد للاسـر عن يـد
وما وجدوه واهناً بعــد أســـره      ولكن بسيمـا ذي براثـن ملبـد
راجع : إبصار العين : ص 86 ـ 89 ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص 109.
(1) التلعة : جمعه تلعات وتِلاع وتِلَع ، وهي مجرى الماء من أعلى الوادي ، وهي أيضاً : ما ارتفع من الأرض وما انهبط منها فهي من الأضداد. المصباح المنير للفيومي : ص76 ، المنجد : ص63.
(2) العقبات : جمع عقبة ، وهي المرقى الصعب من الجبال. المنجد : ص518.
(3) مفردها : رابية ، وهي المكان المرتفع من الأرض.
(4) كَلَّ السيف : أصبح غير قاطع ، وكَلَّ الفرس : إذا تعب وأعيا.

الصفحة 47

زينب ( عليها السلام ) تحدّث الحسين ( عليه السلام ) في استعلامه

نيّات أصحابه

ثُم دَخلَ الحسين ( عليه السلام ) خَيمةَ زينب ، وَوقفَ نافعٌ بإزاءِ الخيمةِ ينَتظرُه فَسمعَ زينبَ تقولُ لَهُ : هَل استعلمتَ مِنْ أصحابِكَ نياتِهم فإني أخشى أن يُسلموك عند الوثَبة.

فقال لها : واللهِ لقد بلوتُهم ، فما وجدتُ فيهم إلا الاشوسَ (1) الاقعسَ (2) يَستأنسونَ بالمنيةِ دوني استيناسَ الطفلِ إلى محالبِ أمه.

قال نافعُ : فلّما سمعتُ هذا منه بَكيتُ وأتيتُ حبيبَ بنَ مظاهر وَحكيتُ ما سمعتُ منه وَمن أُختهِ زينب.

قال حبيب : واللهِ لولا انتظارُ أمرهِ لعاجلتُهم بسيفي هذه الليلة.

قلت : إني خَلّفتُه عندَ أُختهِ وأظنُ النساءَ أفقنَ وَشاركنها في الحسرةِ فهل لكَ أن تجمعَ أصحابَك وَتواجهُوهُنَّ بِكلام يُطيّبُ قلوبَهُنَّ.

حبيب ( عليه السلام ) يخطب في الانصار

ويُطيّب خواطر النساء

فقام حبيب ونادى : يا أصحابَ الحميةِ وليوث الكريهةِ ، فتطالَعوا من مضاربهم

____________

(1) الاشوس : الشديد.
(2) الاقعس : المنيع.

الصفحة 48

كَالاسود الضاريةِ ، فقالَ لبني هاشم : ارجعوا إلى مقركم لا سهرتْ عُيونُكُمْ.

ثُّم التفتَ إلى أصحابه وحَكى لهم ما شَاهدَهُ وسمعَهُ نافعٌ ، فقالوا بأجمعِهِم : والله الذي مَنَّ عَلينا بهذا الموقفِ لولا انتظارُ أمره لعاجلناهم بسيوفِنا الساعة! فَطبْ نَفساً وَقرَّ عَيناً فجزاهُمْ خيراً.

وَقال : هَلموا معي لنواجه النسوةَ ونُطيبَ خَاطرَهُنَّ ، فجاءَ حبيبُ وَمعُه أصحابُه وَصاحَ : يا معشرَ حرائرِ رسولِ اللهِ هذه صوارمُ فتيانِكُمْ آلوا ألا يغمدوها إلا في رقابِ مَنْ يُريدُ السوء فيكُمْ ، وَهذهِ أسنة غلمانِكُمْ أقسَموا ألا يَركزوها إلا في صُدورِ مَنْ يُفرّق نَاديكم.

فَخرجن النساء إليهم ببكاء وعويل وَقلن أيها الطيبون حاموا عن بناتِ رسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) وحرائرِ أمير المؤمنين ( عليه السلام ).

فضجّ القومُ بالبكاءِ حتى كأنَّ الارض تَميد بهم (1).

ولقد اجاد الصحيح اذ يقول في ذلك :

ووراءَ أروقة الخيام حكايـة      اخرى ، تتيه طيوفها بجمال

فهنالك الاسدي يبدع صورة       لفدائه حوريـةَ الاشكــال

ويحاول استنفار شيمة نخبة       زرعوا الفلاة رجولة ومعالي

نادى بهم والمجد يشهد أنـه      نادى بأعظم فاتحين رجـال

فاذا الفضاء مدجّج بصوارم       واذا التراب ملغمٌ بعوالــي

ومشى بهم أسداً يقود وراءه       نحو الخلود كتيبة الاشبـال

____________

(1) مقتل الحسين للمقرم : ص 218 ـ 219 ، معالي السبطين : ج1 ، ص344 ـ 346 ، الدمعة الساكبة : ج4 ، ص273 ـ 274 ، بتفاوت.

الصفحة 49

حتى إذا خدرُ العقيلـة أجهشت     استارُه في مسمع الابطـال

القى السـلام فما تبقّت نبضة      في قلبه لم ترتعشْ بجـلال

ومذ التقته مع الكآبـة زينـب      مخنوقة من همّهـا بحبـال

قطع استدارة دمعة في خدهـا      وأراق خاطرها من البلبـال

وتفجر الفرسان بالعهد الـذي       ينساب حول رقابهـم بدلال

قرِّي فؤاداً يا عقيلة واحفظـي      هذي الدموع فانهنَّ غوالـي

عهد زرعنا في السيوف بذوره      وسقته ديمة جرحنا الهطـال

زينب ( عليها السلام ) تتفقّد

خيمة الحسين والعبّاس ( عليهما السلام )

روي عن فخر المخدّرات زينب ( عليها السلام ) قالت : لما كانت ليلة عاشوراء من المحرم خرجتُ من خيمتي لاتفقّد أخي الحسين ( عليه السلام ) وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة فوجدته جالساً وحده يُناجي ربّه ويتلو القرآن ، فقلت في نفسي : أفي مثل هذه الليلة يُترك أخي وحده ، والله لامضين إلى إخوتي وبني عمومتي واُعاتبهم بذلك ، فأتيت إلى خيمة العبّاس فسمعت منها همهمة ودمدمة ، فوقفت على ظهرها فنظرت فيها فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) وهو جاث على رُكبتيه كالاسد على فريسته.

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةأعلى