[280]

تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي صلى الله عليه [وآله] حتى علت (1) أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي.
فقال: ما أردت خلافك.
قال: فنزلت هذه الآية: * (يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي.
) * (2) قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وآله لم يسمع كلامه حتى يستفهمه، وما ذكر ابن الزبير جده - يعني أبا بكر -.
وقال الترمذي (3): وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا، ولم يذكر ابن الزبير، وقال: حديث غريب حسن، انتهى (4) حكاية رواياتهم.
ومن تأمل فيها وفي الآيات النازلة في تلك الحال بعين الاعتبار علم أنهما بلغا في سوء الادب وكشف جلباب الحياء الغاية (5) القصوى، حتى لم يقنعا في الجفاء وترك الاحتشام بأن يروا (6) آرائهما الفاسدة متقدمة على ما يراه الرسول صلى الله عليه وآله، بل زعماها متقدمة على حكم الله سبحانه، كما نطق به نهية تعالى إياهما بقوله: * (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.
) * (7) ثم أمرهما بالتقوى والخشية من الله معللا نهيه وأمره بأن الله سميع عليم، تعريضا بأنهما لسوء الادب والاقدام على التقدم بين يدي الله ورسوله في كلامهما كأنهما لم يذعنا بأن الله سميع عليم، ثم حذرهما في رفع أصواتهما فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله والجهر له بالقول
(1) في سنن الترمذي: حتى ارتفعت.
(2) الحجرات: 2.
(3) الجامع الصحيح للترمذي 5 / 387 - بتقديم وتأخير -.
(4) وانظر: الجامع الصغير، حديث 3266.
وفصل مصادره في الغدير 7 / 323، وغيره.
(5) في (س): غاية.
(6) في (ك) نسخة: يري.
(7) الحجرات: 1.

[281]

كما كان دأب أجلاف العرب وطغامهم (1) في مخاطبة بعضهم بعضا عن حبط الاعمال من حيث لا يشعران، وفيه دلالة على أنهما لم يقتصرا على رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وآله في مخاطبة أحدهما للآخر بل خاطباه بصوت رفيع من دون احترام وتوقير، ثم حصر الممتحنين قلوبهم للتقوى في الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: * (لهم مغفرة وأجر عظيم) * (2) تنبيها على خروجهما عن زمرة هؤلاء.
وقد ظهر لذي فطرة سليمة أن ترك ابن الزبير ذكر أبي بكر - عند حكايته عن عمر بن الخطاب انتهاؤه عن هذه الوقاحة الشنيعة، مع أن أبا بكر كان جدا له، واهتمامه بتزكيته كان أشد من اعتنائه بشأن عمر بن الخطاب -، دليل على عدم ظهور آثار المتابعة والانقياد عنه كما ظهر عن عمر، فكان أغلظ منه وأخبث باطنا وأقبح سريرة، وليس في الذم والتقبيح أفحش من هذ.
ولنعم ما قاله ابن أبي مليكة: من أنه كاد الخيران أن (3) يهلكا، فو الله لقد هلكا وكان الرجل غريقا في نومة الجهل خائضا في غمرات البهت والغفلة، وليت شعري ما حملها على شدة الاهتمام وبذل الجهد في تأمير الاقرع أو القعقاع بحضرة الرسول صلى الله عليه وآله أكان ذلك تشييدا لاركان الدين ومراعاة لمصالح المسلمين ؟ !، فتقدما بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله لظنهما أنهما أعلم من الله ومن رسوله صلى الله عليه وآله بما يصلح شأن الامة، فخافا من أن يلحقهم ضرر بتأمير من يؤمره الرسول أو لزعمهما أنهما أبر وأرأف بهم من الله ومن رسوله صلى الله عليه وآله،
(1) قال في القاموس 4 / 144: الطغام - كسحاب -: أوغاد الناس، ورذال الطير وكسحابة واحدها، والاحمق.
وانظر: الصحاح 5 / 1975.
(2) الحجرات: 1.
(3) لا توجد: أن، في (س).

[282]

فلم يرضيا بالسكوت شفقة عليهم ورأفة بهم، أم كان ذلك لامر (1) دنيوي، يعود نفعه إليهما، فمن رأى نفسه أعلم وأرأف من رب العالمين ومن رسوله الامين (2) صلى الله عليه وآله الطاهرين، أو رد على الله وعلى رسوله، ولم يرض بقضائهما لغرض فاسد دنيوي، كيف يصلح أن يكون قائدا للامة طرا وهاديا لهم إلى الرشاد ؟ ! وقد قال سبحانه: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * (3) ولعل الناصرين لابي بكر وعمر يرون رسول الله صلى الله عليه وآله مجتهدا في كثير من الاحكام كما يرونهما مجتهدين، ويجوزون مخالفته سيما فيما يتعلق بأمر الجيش وترتيب العسكر ولا يلتفتون إلى خلاف الله تعالى في ذلك، حيث جعل التقدم بين يدي رسوله صلى الله عليه وآله تقدما عليه.
فقال: * (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.
) * (4).
فانظر بعين الانصاف في تعصب طائفة من علماء الجمهور وأئمتهم كالرازي والبيضاوي وغيرهما وبذل جهدهم في إخفاء الحق وستر عورات مشايخهم، فقد ذكر الرازي في تفسيره (5) في شأن نزول الآيات عدة وجوه لم يسندها إلى رواية صحيحة أو كتاب معروف، ولم يذكر نزولها في أبي بكر وعمر مع وجوده في صحيح البخاري - الذي يجعلونه تاليا لكتاب الله سبحان، ويرون مؤلفة أوثق الناس وأعد لهم -، وكذا في غيره من صحاحهم كما سبق، فذلك إما لعدم الاطلاع على ما في هذه الكتب، وكفى به شاهدا على جهلهم وقلة إحاطتهم بأخبارهم وأمور دينهم، أو لان سنتهم إخفاء الحق وأطفاء نور الله بأفواههم فتعمدوا في ستر ما لا يوافق آراءهم ويستلزم القدح في مشايخهم وأسلافهم، وقد
(1) في (ك): الامر.
(2) لا توجد: الامين، في (س).
(3) النساء: 65.
(4) الحجرات: (1).
(5) تفسير الفخر الرازي 28 / 113.

[283]

اعترف في تفسيره بأن رفع الصوت عند أحد والتقدم بين يديه يدل على أنه لا يرى المتكلم للمخاطب وزنا ولا مقدارا، بل جعل لنفسه اعتبارا زائدا وعظمة.
وقال (1): إن الآية تدل على أنه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي صلى الله عليه وآله (2) كما يتكلم العبد عند سيده، لان العبد داخل في (3) قوله تعالى: * (كجهر بعضكم لبعض.
) * (4)، واستدل عليه أيضا بقوله (5) تعالى: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * (6) قال (7): والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه، فلو كانا (8) في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وآله (9)، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقي نفسه في المهلكة (10) لانجاء سيده، ويجب لانجاء النبي صلى الله عليه وآله، وذلك (11) كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره، لان عند خلل القلب (12) لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الانسان نفسه وترك النبي (13) لهلك هو أيضا بخلاف العبد والسيد.
انتهى.
فأين هذا من سيرة الشيخين وترك احترامهما للنبي صلى الله عليه وآله
(1) الفخر الرازي في تفسيره 28 / 113، وفيه: إن هذا أفاد أنه لا ينبغي.
(2) في المصدر: عليه السلام، بدلا من الصلاة.
(3) في تفسير الفخر: تحت، بدلا من: في.
(4) الحجرات: 2.
(5) في المصدر: ويؤيد ما ذكرناه قوله.
(6) الاحزاب: 6.
(7) لا توجد: قال، في المصدر.
(8) في المصدر: حتى لو كان.
(9) في تفسير الفخر: وسلم، بدلا من: وآله.
(10) في المصدر: في التهلكة.
(11) في تفسير الفخر: لانجاء النبي عليه الصلاة والسلام ذلك.
(12) في المصدر:.
القلب مثل.
(13) في تفسير الفخر زيادة: عليه الصلاة والسلام.

[284]

وتخطئتهما إياه، وتسفيههما رأيه، وتنازعهما بحضرته فيما حسباه أصلح من اختياره ؟ !.
وأما البيضاوي فقد دلس في هذا المقام تدليسا غريبا، فسكت في تفسير قوله تعالى: * (يا أيها الذين ءامنوا لا تقدمو.
) * إلى قوله سبحانه * (وأنتم لا تشعرون) * (1) عن ذكر أبي بكر وعمر، ونزول الآيات فيهما، ثم ذكر في تفسير قوله سبحانه: * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * (2) أنه قيل: كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما) * (3).
فانظر كيف صور المنقصة بصورة المنقبة ؟ ! ولبس الحال على الجهال، حتى يتوهموا أنهما مما وصفهم الله في كتابه بامتحان قلوبهم للتقوى، ونزلت الآية فيهم، فقد عرفت - لو أنصفت - من ترك ابن الزبير ذكر أبي بكر - مع القرابة الخصيصة - عند حكاية الاسرار في الحديث عن عمر أن ما رواه البيضاوي عن قائل مجهول افتراء على أبي بكر، وأما عمر، فهو وإن روى فيه ابن الزبير ذلك إلا أن في حكاية التنازع عند رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه، ورفع الاصوات عنده، والرد عليه بقوله: حسبنا كتاب الله (4)، ما يفهم منه عدم انتهائه عن التقدم بين يدي الله ورسوله، والجهر بالقول، ولا يشتبه على ذي فطرة سليمة أن المراد حين نزول الآية ب‍ * (الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) * من كان دأبهم ذلك قبل نزولها، كما أن المراد ب‍ (الذين ينادونه من وراء الحجرات) من ناداه قبل نزول الآية، ولا يخفى أن في قول البيضاوي: كانا بعد ذلك يسرانه.
اعترافا لطيفا بأنه كان
(1) الحجرات: 1 - 2.
(2) الحجرات: 3.
(3) تفسير البيضاوي 5 / 86.
(4) ستأتي القصة مع مصادره.

[285]

داؤهما (1) قبل ذلك سوء الادب، وسيرتهما الوقاحة، وقد كان وفود بني تميم والاقرع والقعقاع في أواخر سنة تسع من الهجرة (2)، وكان وفاته صلى الله عليه وآله في صفر سنة احدى عشرة - على ما ذكره أرباب السير -، فكانا - على تقدير صحة ما ذكره - مصرين على الجفاء وقلة الحياء في مدة مقامه صلى الله عليه وآله بمكة، وقريبا من تسع سنين بعد الهجرة، ولم ينتهيا عنه (3) إلا في سنة وبضع شهور بعد أن وبخهما الله تعالى ورغم أنفهما، مع أن رعاية الادب في خدمة السيد المطاع القادر على القتل فما دونه، المرجو منه الشفاعة والنجاة في الآخرة - لو كان الايمان به صادقا - أمر لا يخرج عن ربقته إلا رقبة من جبل على طينة السباع من البهائم، فمن (4) كان هذا شأنه كيف يصلح لان (5) يكون مطاعا للامة كافة ؟ ! وكيف تكون سيرته مع رعيته ومن لا يقدر على الخروج عن طاعته ؟ ! وهل يزجر نفسه ويملكه عند الغضب، وتنقلات الاحوال بحيث يرتكب لا (6) أقل ما ينافي العدالة ؟ ! ولعمري لا يقول به إلا مباهت مبهوت، ولم ينشأ تعبير (7) عمر لامير المؤمنين عليه السلام بالدعابة إلا لما يرى من نفسه ومن شيخه من سوء الخلق والزعارة (8)، فظن حسن خلقه عليه السلام، وبشره عند لقاء الناس، ورفقه بهم من قبيل اللهو والدعابة، ثم نسج على منواله عمرو بن العاص كما صرح به عليه السلام في قوله: عجبا لابن النابغة يزعم لاهل الشام أن في دعابة وأني امرؤ تلعابة.
(9).
(1) وقد يقرأ ما في المطبوع من البحار: دأبهما، وكلاهما له وجه.
(2) بحار الانوار 21 / 364 - 372، وقد فصل قصة الوفود عن جملة مصادر هناك.
(3) لا توجد: عنه، في (س).
(4) خط على: فمن، في (س).
(5) في (س): ان.
(6) كذا، ولعل في العبارة تقديم وتأخير، فتكون: لا يرتكب.
(7) قد تقرأ في (ك): تعيير.
وله وجه.
(8) الزعارة - بتشديد الرا -: شراسة الخلق لا يصرف منه فعل، كما في الصحاح 2 / 670.
(9) نهج البلاغة - محمد عبده - 1 / 147، الدكتور صبحي الصالح: 115، برقم 84.

[286]

150 - كتاب نفحات اللاهوت (1): نقلا من كتاب المثالب لابن شهر آشوب (2)، أن الصادق عليه السلام سئل عن أبي بكر وعمر، فقال: كانا إمامين قاسطين عادلين، كانا على الحق وماتا عليه، فرحمة الله عليهما يوم القيامة، فلما خلا المجلس، قال له بعض أصحابه (3): كيف قلت يابن رسول الله ؟ !.
فقال: نعم، أما قولي: كانا إمامين، فهو مأخوذ من قوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) * (4)، وأما قولي قاسطين، فهو من قوله تعالى: * (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) * (5)، وأما قولي عادلين، فهو مأخوذ من قوله تعالى: * (الذين كفروا بربهم يعدلون) * (6)، وأما قولي كانا على الحق، فالحق علي عليه السلام، وقولي: ماتا عليه، المراد أنه (7) لم يتوبا عن تظاهرهما عليه، بل ماتا على ظلمهما إياه، وأما قولي: فرحمة الله عليهما يوم القيامة، فالمراد به أن رسول الله صلى الله عليه وآله ينتصف له منهما، آخذا من قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (8).
أقول: أجاز لي بعض الافاضل في مكة - زاد الله شرفها - رواية هذا الخبر، وأخبرني أنه أخرجه من الجزء الثاني من كتاب دلائل الامامة (9)، وهذه صورته:
(1) نفحات اللاهوت: 128.
(2) لا زال غير مطبوع، ويحاول جمع من الافاضل طبعه مع كتاب المناقب إن شاء الله.
(3) في المصدر: أصحابن.
(4) القصص: 41.
(5) الجن: 15.
(6) الانعام: 1.
(7) في المصدر: فالمراد به انهم لم.
(8) الانبياء: 107.
(9) دلائل الامامة، لابي جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي المازندراني المعاصر للشيخ الطوسي والنجاشي، ويقال له: دلائل الائمة، والدلائل، وفصل عنه شيخنا الطهراني في الذريعة = = 8 / 241 - 247 برقم 1018، ويظهر منها أن المطبوع منه ناقص وهو الذ ي وصل إلى الشيخ النوري، ويظهر من هذه العبارة أن ما وصل إلى شيخنا المجلسي طاب ثراه كذلك، إذ لم نجده في كلا طبعتي الكتاب، الحيدرية، النجف 1383 ه‍، والاخرى طبعة ايران.

[287]

151 - حدثنا أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى التلعكبري، قال: حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو علي محمد بن همام، قال: حدثنا جعفر ابن محمد بن مالك الفزاري الكوفي، قال: حدثني عبد الرحمن بن سنان الصيرفي، عن جعفر بن علي الحوار، عن الحسن بن مسكان، عن المفضل بن عمر الجعفي.
عن جابر الجعفي، عن سعيد بن المسيب، قال: لما قتل الحسين بن علي صلوات الله عليهما ورد نعيه إلى المدينة، وورد الاخبار بجز رأسه وحمله إلى يزيد بن معاوية، وقتل ثمانية عشر من أهل بيته، وثلاث وخمسين رجلا من شيعته، وقتل علي ابنه بين يديه وهو طفل بنشابة، وسبي ذراريه (1) أقيمت المآتم عند أزواج النبي صلى الله عليه وآله في منزل أم سلمة رضي الله عنها، وفي دور المهاجرين والانصار، قال: فخرج عبد الله بن عمر بن الخطاب صارخا من داره لاطما وجهه شاقا جيبه يقول: يا معشر بني هاشم وقريش والمهاجرين والانصار ! يستحل هذا من رسول الله (ص) في أهله وذريته وأنتم أحياء ترزقون ؟ ! لا قرار دون يزيد، وخرج من المدينة تحت ليله، لا يرد مدينة إلا صرخ فيها واستنفر أهلها على يزيد، وأخباره يكتب بها إلى يزيد، فلم يمر بملا من الناس إلا لعنه وسمع كلامه، وقالوا هذا عبد الله بن عمر ابن (2) خليفة رسول الله (ص) وهو ينكر فعل يزيد بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله ويستنفر الناس على يزيد، وإن من لم يجبه (3) لا دين له ولا إسلام، واضطرب الشام بمن فيه، وورد دمشق وأتى باب اللعين يزيد في خلق من الناس يتلونه، فدخل إذن
(1) في مطبوع البحار: زراريه، وهو غلط.
(2) لا توجد: ابن.
في (س): ووضع عليها رمز نسخة بدل في (ك).
(3) في (س): يحبه.

[288]

يزيد إليه فأخبره بوروده (1) ويده على أم رأسه والناس يهرعون إليه قدامه ووراءه، فقال يزيد: فورة من فورات أبي محمد، وعن قليل يفيق منها، فأذن له وحده فدخل صارها يقول: لا أدخل يا أمير المؤمنين ! وقد فعلت بأهل بيت محمد صلى الله عليه وآله ما لو تمكنت الترك والروم ما استحلوا ما استحللت، ولا فعلوا ما فعلت: قم عن هذا البساط حتى يختار المسلمون من هو أحق به منك، فرحب به يزيد وتطاول له وضمه إليه وقال له: يا أبا محمد ! اسكن من فورتك، واعقل، وانظر بعينك واسمع بأذنك، ما تقول في أبيك عمر بن الخطاب أكان هاديا مهديا خليفة رسول الله (ص) وناصره ومصاهره بأختك حفصة، والذي قال: لا يعبد الله سرا ؟ !.
فقال عبد الله: هو كما وصفت، فأي شئ تقول فيه ؟.
قال: أبوك قلد أبي أمر الشام أم أبي قلد أباك خلافة رسول الله (ص) ؟.
فقال: أبي قلد أباك الشام.
قال: يا أبا محمد ! أفترضي به وبعهده إلى أبي أو ما ترضاه ؟.
قال: بل أرضى.
قال: أفترضي بأبيك ؟.
قال: نعم، فضرب يزيد بيده على يد عبد الله بن عمر وقال له: قم - يا أبا محمد - حتى تقرأ، فقام معه حتى ورد خزانة من خزائنه، فدخلها ودعا بصندوق ففتح واستخرج منه تابوتنا مقفلا مختوما فاستخرج منه طومارا لطيفا في خرقة حرير سوداء، فأخذ الطومار بيده ونشره، ثم قال: يا أبا محمد ! هذا خط أبيك ؟.
قال: اي والله.
فأخذه من يده فقبله، فقال له: اقرأ، فقرأه ابن عمر، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إن الذي أكرهنا بالسيف على الاقرار به فأقررنا، والصدور وغرة، والانفس واجفة، والنيات والبصائر شائكة مما كانت عليه من
(1) في (س): ودوده.

[289]

جحدنا ما دعانا إليه وأطعناه فيه رفعا لسيوفه عنا، وتكاثره بالحي علينا من اليمن، وتعاضد من سمع به ممن ترك دينه وما كان عليه آباؤه في قريش، فبهبل أقسم والاصنام والاوثان واللات والعزى ما جحدها عمر مذ عبدها ! ولا عبد للكعبة ربا ! ولا صدق لمحمد صلى الله عليه وآله قولا، ولا ألقى السلام إلا للحيلة عليه وإيقاع البطش به، فإنه قد أتانا بسحر عظيم، وزاد في سحره على سحر بني إسرائيل مع موسى وهارون وداود وسليمان وابن أمه عيسى، ولقد أتانا بكل ما أتوا به من السحر وزاد عليهم ما لو أنهم شهدوه لاقروا له بأنه سيد السحرة، فخذ - يابن أبي سفيان - سنة قومك واتباع ملتك والفاء بما كان عليه سلفك من جحد هذه البنية التي يقولون إن لها ربا أمرهم بإتيانها والسعي حولها وجعلها لهم قبلة فأقروا بالصلاة والحج الذي جعلوه ركنا، وزعموا أنه لله اختلقوا (1)، فكان ممن أعان محمدا منهم هذا الفارسي الطمطاني: روزبه، وقالوا إنه أوحي إليه: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) * (2)، وقولهم: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * (3)، وجعلوا صلاتهم للحجارة، فما الذي أنكره علينا لولا سحره من عبادتنا للاصنام والاوثان واللات والعزى وهي من الحجارة والخشب والنحاس والفضة والذهب، لا - واللات والعزى - ما وجدنا سببا للخروج عما عندنا وإن سحروا وموهوا، فانظر بعين مبصرة، واسمع بأذن واعية، وتأمل بقلبك وعقلك ما هم فيه، واشكر اللات والعزى واستخلاف السيد الرشيد عتيق بن عبد العزى على أمة محمد وتحكمه في أمواله ودمائهم وشريعتهم وأنفسهم وحلالهم وحرامهم، وجبايات الحقوق التي زعموا أنهم
(1) في (ك): اختلفو.
(2) آل عمران: 96.
(3) البقرة: 144.

[290]

يجبونها (1) لربهم ليقيموا بها أنصارهم وأعوانهم، فعاش شديدا رشيدا يخضع جهرا ويشتد سرا، ولا يجد حيلة غير معاشرة القوم، ولقد وثبت وثبة على شهاب بني هاشم الثاقب، وقرنها الزاهر، وعلمها الناصر، وعدتها وعددها مسمى بحيدرة المصاهر لمحمد على المرأة التي جعلوها سيدة نساء العالمين يسمونها: فاطمة، حتى أتيت دار علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين وابنتيهما زينب وأم كلثوم، والامة المدعوة بفضة، ومعي خالد بن وليد وقنفذ مولى أبي بكر ومن صحب من خواصنا، فقرعت الباب عليهم قرعا شديدا، فأجابتني الامة، فقلت لها: قولي لعلي: دع الاباطيل ولا تلج نفسك إلى طمع الخلافة، فليس الامر لك، الامر لمن اختاره المسلمون واجتمعوا عليه، ورب اللات والعزى لو كان الامر والرأي لابي بكر لفشل عن الوصول إلى ما وصل إليه من خلافة ابن أبي كبشة، لكني أبديت لها صفحتي، وأظهرت لها بصري، وقلت للحيين - نزار وقحطان - بعد أن قلت لهم ليس الخلافة إلا في قريش، فأطيعوهم ما أطاعوا الله، وإنما قلت ذلك لما سبق من ابن أبي طالب من وثوبه واستيثاره بالدماء التي سفكها في غزوات محمد وقضاء ديونه، وهي - ثمانون ألف درهم - وإنجاز عداته، وجمع القرآن، فقضاها على تليده وطارفه (2)، وقول المهاجرين والانصار - لما قلت إن الامامة في قريش - قالوا: هو الاصلع البطين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي أخذ رسول الله (ص) البيعة له على أهل ملته، وسلمنا له بإمرة المؤمنين في أربعة مواطن، فإن كنتم نسيتموها - معشر قريش - فما نسيناها وليست البيعة ولا الامامة والخلافة والوصية ألا حقا مفروضا، وأمرا صحيحا، لا تبرعا ولا ادعاء فكذبناهم، وأقمت أربعين رجلا شهدوا على محمد أن الامامة بالاختيار.
فعند ذلك قال الانصار: نحن أحق من قريش، لانا آوينا ونصرنا وهاجر
(1) في (ك): يجيبونه.
(2) قال في القاموس 1 / 279: التليد: ما ولد عندك من مالك أو نتج.
أقول: إنه كناية عن القديم، والطارف ضده، كما في النهاية 1 / 194.

[291]

الناس إلينا، فإذا كان دفع من كان الامر له فليس هذا الامر لكم دوننا، وقال قوم: منا أمير ومنكم أمير.
قلنا لهم: قد شهدوا أربعون رجلا أن الائمة من قريش، فقبل قوم وأنكر آخرون وتنازعوا، فقلت - والجمع يسمعون -: ألا أكبرنا سنا وأكثرنا لين.
قالوا: فمن تقول ؟.
قلت: أبو بكر الذي قدمه رسول الله (ص) في الصلاة، وجلس معه في العريش يوم بدر يشاوره ويأخذ برأيه، وكان صاحبه في الغار، وزوج ابنته عائشة التي سماها: أم المؤمنين، فأقبل بنو هاشم يتميزون غيظا، وعاضدهم الزبير وسيفه مشهور وقال: لا يبايع إلا علي أو لا أملك رقبة قائمة سيفي هذا، فقلت: يا زبير ! صرختك سكن (1) من بني هاشم، أمك صفية بنت عبد المطلب، فقال: ذلك - والله - الشرف الباذخ والفخر الفاخر، يابن خنتمة و (2) يابن صهاك ! أسكت لا أم لك، فقال قولا فوثب أربعون رجلا ممن حضر سقيفة بني ساعدة على الزبير، فو الله ما قدرنا على أخذ سيفه من يده حتى وسدناه الارض، ولم نر له علينا ناصرا، فوثبت إلى أبي بكر فصافحته وعاقدته البيعة وتلاني عثمان بن عفان وسائر من حضر غير الزبير، وقلنا له: بايع أو نقتلك، ثم كففت عنه الناس، فقلت له (3): أمهلوه، فما غضب إلا نخوة لبني هاشم، وأخذت أبا بكر بيده (4) فأقمته - وهو يرتعد (5) - قد اختلط عقله، فأزعجته إلى منبر محمد إزعاجا، فقال لي: يا أبا حفص ! أخاف وثبة علي، فقلت له: إن علينا عنك مشغول، وأعانني على ذلك أبو عبيدة بن الجراح كان يمده بيده إلى المنبر وأنا أزعجه من ورائه كالتيس (6) إلى شفار (7) الجاذر، متهونا، فقام عليه
(1) قال في القاموس 4 / 235: والسكن - بالتحريك - النار.
(2) وضع على الواو في (ك): رمز نسخة بدل.
(3) كذا، ولعلها: لهم.
(4) قد تقرأ في المطبوع: بيدي.
(5) في (س) وفي نسخة على (ك): يرعد.
(6) قال في القاموس 2 / 203: التيس: الذكر من الظباء والمعز والوعول، أو إذا أتى عليه سنة.
(7) الشفار - جمع الشفرة - وهي: السكين العظيم وما عرض من الحديد وحدد، قاله في القاموس = = 2 / 61.
والجاذر: القاطع، واضافة الشفار إلى الجاذر من الضافة الموصوف إلى الصفة.
أي إلى الشفار الجاذرة، ولعله مثل.

[292]

مدهوشا (1)، فقلت له: اخطب ! فأغلق عليه وتثبت فدهش، وتلجلج وغمض، فعضضت على كفي غيظا، وقلت له (2): قل ما سنح لك، فلم يأت خيرا ولا معروفا، فأردت أن (3) أحطه عن المنبر وأقوم مقامه، فكرهت تكذيب الناس لي بما قلت فيه، وقد سألني الجمهور منهم: كيف قلت من فضله ما قلت ؟ ما الذي سمعته من رسول الله (ص) في أبي بكر ؟ فقلت: لهم: قد قلت: سمعت (4) من فضله على لسان رسول الله ما لو وددت أني شعرة في صدره ولي حكاية، فقلت: قل وإلا فانزل، فتبينها (5) والله في وجهي وعلم أنه لو نزل لرقيت، وقلت ما لا يهتدي إلى قوله، فقال بصوت ضعيف عليل: وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم، واعلموا أن لي شيطانا يعتريني - وما أراد به سواي - فإذا زللت فقوموني لا أقع في شعوركم وأبشاركم، وأستغفر الله لي ولكم، ونزل فأخذت بيده - وأعين الناس ترمقه - وغمزت يده غمزا، ثم أجلسته وقدمت الناس إلى بيعته وصحبته لارهبه، وكل من ينكر بيعته ويقول: ما فعل علي بن أبي طالب ؟ فأقول: خلعها من عنقه وجعلها طاعة المسلمين قلة خلاف عليهم في اختيارهم، فصار جليس بيته، فبايعوا وهم كارهون، فلما فشت بيعته علمنا أن عليا يحمل فاطمة والحسن والحسين إلى دور المهاجرين والانصار يذكرهم (6) بيعته علينا في أربعة مواطن،
(1) جاء في متن (س): مدموشا، ثم استظهر ما أثبتناه كما هو في (ك)، قال في القاموس 2 / 274: الدمش: الهيجان والثوران من حرارة أو شرب دواء.
(2) لا توجد: له، في (س).
(3) في (ك): وأن.
(4) خط على كلمة: سمعت، في (ك).
(5) الكلمة مشوشة في مطبوع البحار، وهذا ما استظهرناه، ولعلها تقرأ: فبيتها، فيتيها، أو غير ذلك.
(6) في (س): ويذكرهم.

[293]

ويستنفرهم فيعدونه النصرة ليلا ويقعدون عنه نهارا، فأتيت داره مستيشرا (1) لاخراجه منها، فقالت الامة فضة - وقد قلت لها قولي لعلي: يخرج إلى بيعة أبي بكر فقد اجتمع عليه المسلمون فقالت - إن أمير المؤمنين (ع) مشغول، فقلت: خلي عنك هذا وقولي له يخرج وإلا دخلنا عليه وأخرجناه كرها، فخرجت فاطمة فوقفت من وراء الباب، فقالت: أيها الضالون المكذبون ! ماذا تقولون ؟ وأي شئ تريدون ؟.
فقلت: يا فاطمة !.
فقالت فاطمة: ما تشاء يا عمر ؟ !.
فقلت: ما بال ابن عمك قد أوردك للجواب وجلس من وراء الحجاب ؟.
فقالت لي: طغيانك - يا شقي - أخرجني وألزمك الحجة، وكل ضال غوي.
فقلت: دعي عنك الاباطيل وأساطير النساء وقولي لعلي يخرج.
فقالت: لا حب ولا كرامة (2) أبحزب الشيطان تخوفني يا عمر ؟ ! وكان حزب الشيطان ضعيف.
فقلت: إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل وأضرمتها نارا على أهل هذا البيت وأحرق من فيه، أو يقاد علي إلى البيعة، وأخذت سوط قنفذ فضربت (3) وقلت لخالد بن الوليد: أنت ورجالنا هلموا في جمع الحطب، فقلت: إني مضرمه.
فقالت: يا عدو الله وعدو رسوله وعدو أمير المؤمنين، فضربت فاطمة يديها (4) من الباب تمنعني من فتحه فرمته فتصعب علي فضربت كفيها بالسوط فألمها، فسمعت لها زفيرا وبكاء، فكدت أن ألين وأنقلب عن الباب فذكرت أحقاد
(1) ما في مطبوع البحار يقرأ: مستأشرا، والمستأشر: هو الذي يدعو إلى تحزيز الاسنان، كما في القاموس 1 / 364.
قال في مجمع البحرين 3 / 511: وشرت المرأة أنيابها وشرا - من باب وعد - إذا حددتها ورققتها فهي واشرة، واستوشرت: سألت أن يفعل بها ذلك.
أقول: ولعل الواو قلبت ياء ولعله كناية.
(2) كذا وردت في (ك)، إلا أنه وضع على: فقالت، رمز مؤخر (م)، وعلى: لا حب ولا كرامة، رمز مقدم، فتصير هكذا: لا حب ولا كرامة فقالت: أبحزب.
إلى آخره، والظاهر: لا حب.
(3) في (س): وضربت وأخذت سوط قنفذ.
(4) جاء في (س): يده.

[294]

علي وولوعه في دماء صناديد العرب، وكيد محمد وسحره، فركلت (1) الباب وقد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه، وسمعتها وقد صرخت صرخة حسبتها قد جعلت أعلى المدينة أسفلها، وقالت: يا أبتاه ! يا رسول الله ! هكذا كان يفعل بحبيبتك وابنتك، آه يا فضة ! إليك فخذيني فقد والله قتل ما في أحشائي من حمل، وسمعتها تمخض (2) وهي مستندة إلى الجدار، فدفعت الباب ودخلت فأقبلت إلي بوجه أغشى بصري، فصفقت صفقة (3) على خديها من ظاهر الخمار فانقطع قرطها وتناثرت إلى الارض، وخرج علي، فلما أحسست به أسرعت إلى خارج الدار وقلت لخالد وقنفذ ومن معهما: نجوت من أمر عظيم.
وفي رواية أخرى: قد جنيت جناية عظيمة لا آمن على نفسي.
وهذا علي قد برز من البيت وما لي ولكم جميعا به طاقة.
فخرج علي وقد ضربت يديها إلى ناصيتها لتكشف عنها وتستغيث بالله العظيم ما نزل بها، فأسبل علي عليها ملاتها (4) وقال لها: يا بنت رسول الله ! إن الله بعث أباك رحمة للعالمين، وأيم الله لئن كشفت عن ناصيتك سائلة إلى ربك ليهلك هذا الخلق لاجابك حتى لا يبقى على الارض منهم بشرا، لانك وأباك أعظم عند الله من نوح (ع) الذي غرق من أجله بالطوفان جميع من على وجه الارض وتحت السماء إلا من كان في السفينة، وأهلك قوم هود بتكذيبهم له، وأهلك عادا بريح صر صر، وأنت وأبوك أعظم قدرا من هود، وعذب ثمود - وهي اثنا عشر ألفا - بعقر الناقة والفصيل، فكوني - يا سيدة النساء - رحمة على هذا الخلق المنكوس ولا تكوني عذابا، واشتد بها المخاض ودخلت البيت فأسقطت سقطا سماه علي: محسنا، وجمعت جمعا كثيرا، لا مكاثرة لعلي ولكن ليشد بهم قلبي وجئت - وهو محاصر - فاستخرجته من داره
(1) قال في القاموس 3 / 386: الركل: الضرب برجل واحدة.
(2) قال في القاموس 2 / 344: مخضت تمخيضا: أخذها الطلق.
(3) في (س): صفقته.
(4) قال في مجمع البحرين 1 / 398: ملاءة: كل ثوب لين رقيق.

[295]

مكرها مغصوبا وسقته إلى البيعة سوقا، وإني لاعلم علما يقينا لا شك فيه لو اجتهدت أنا وجميع من على الارض جميعا على قهره ما قهرناه، ولكن لهنات (1) كانت في نفسه أعلمها ولا أقولها، فلما انتهيت إلى سقيفة بني ساعة قام أبو بكر ومن بحضرته يستهزؤن بعلي، فقال علي: يا عمر ! أتحب أن أعجل (2) لك ما أخرته سواء عنك (3) ؟ فقلت: لا، يا أمير المؤمنين ! فسمعني والله خالد بن الوليد، فأسرع إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: ما لي ولعمر.
ثلاثا، والناس يسمعون، ولما دخل السقيفة صبا (4) أبو بكر إليه، فقلت له: قد بايعت يا أبا الحسن ! فانصرف، فأشهد ما بايعه ولا مد يده إليه، وكرهت أن أطالبه بالبيعة فيعجل لي ما أخره عني، وود أبو بكر أنه لم ير عليا في ذلك المكان جزعا وخوفا منه، ورجع علي من السقيفة وسألنا عنه (5)، فقالوا: مضى إلى قبر محمد فجلس إليه، فقمت أنا وأبو بكر إليه، وجئنا نسعى وأبو بكر يقول: ويلك يا عمر ! ما الذي سنعت بفاطمة، هذا والله الخسران المبين، فقلت: إن أعظم ما عليك أنه ما بايعنا ولا أثق أن تتثاقل المسلمون عنه.
فقال: فما تصنع ؟.
فقلت: تظهر أنه قد بايعك عند قبر محمد، فأتيناه وقد جعل القبر قبلة، مسندا كفه على تربته وحوله سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وحذيفة بن اليمان، فجلسنا بإزائه وأوعزت إلى أبي بكر أن يضع يده على مثل ما وضع علي يده ويقربها من يده، ففعل ذلك وأخذت بيده أبي بكر لامسحها على يده، وأقول قد بايع، فقبض علي يده فقمت أنا (6) وأبو بكر موليا، وأنا أقول: جزا الله عليا خيرا فإنه لم يمنعك البيعة لما حضرت قبر رسول الله
(1) قال في القاموس 4 / 404: هنات وهنوات والهنات: الداهية.
(2) توجد في (ك) نسخة: تعجل.
(3) نسخة جاءت على (ك): من سوأتك عنه.
(4) صبا إليه: حن، كما في القاموس 4 / 351، وغيره.
(5) في (س): منه، بدلا من: عنه.
(6) لا توجد: انا، في (س).

[296]

(ص)، فوثب من دون الجماعة أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري وهو (1) يصيح ويقول: والله - يا عدو الله - ما بايع علي عتيقا، ولم يزل كلما لقينا قوما (2) وأقبلنا على قوم نخبرهم ببيعته وأبو ذر يكذبنا، والله ما بايعنا في خلافة أبي بكر ولا في خلافتي ولا يبايع لمن بعدي ولا بايع من أصحابه اثنا عشر رجلا لا لابي بكر ولا لي، فمن فعل - يا معاوية - فعلي واستشار أحقاده السالفة غيري ؟ !.
وأما أنت وأبوك أبو سفيان وأخوك عتبة فأعرف ما كان منكم في تكذيب محمد (ص) وكيده، وإدارة الدوائر بمكة وطلبته في جبل حرى لقتله، وتألف الاحزاب وجمعهم عليه، وركوب أبيك الجمل وقد قاد الاحزاب، وقول محمد: لعن الله الراكب والقائد والسائق، وكان أبوك الراكب وأخوك عتبة القائد وأنت السائق، ولم أنس أمك هندا وقد بذلت لوحشي ما بذلت حتى تكمن لحمزة - الذي دعوه أسد الرحمن في أرضه - وطعنه بالحربة، ففلق فؤاده وشق عنه وأخذ كبده فحمله إلى أمك، فزعم محمد بسحره أنه (3) لما أدخلته فاها لتأكله صار جلمودا (4) فلفظته (5) من فيها، فسماها محمد وأصحابه: آكلة الاكباد، وقولها في شعرها لاعتداء محمد ومقاتليه: نحن بنات طارق * نمشي على النمارق كالدر في المخانق (6) * والمسك في المافرق (7)
(1) وهو، لا توجد في (س).
(2) لا توجد: قوما، في (س).
(3) لا توجد: انه، في (س).
(4) جلمود - كعصفور -: الصخر، كما في القاموس 1 / 284.
(5) في (س): فلفظته.
(6) قال في القاموس 3 / 229: مخنقة - كمكنسة -: القلادة.
وجمعها: مخانق.
(7) مفرق - كمقعد ومجلس -: وسط الرأس، كما في القاموس 3 / 274.

[297]

إن يقبلوا نعانق * أو يدبروا نفارق فراق غير وامق (1) ونسوتها في الثياب الصفر المرئية (2) مبديات وجوههن ومعاصمهن ورؤوسهن يحرصن (3) على قتال محمد، انكم لم تسلموا طوعا وإنما أسلمتم كرها يوم فتح مكة فجعلكم طلقاء، وجعل أخي زيدا وعقيلا أخا علي بن أبي طالب والعباس عمهم مثلهم، وكان من أبيك في نفسه، فقال: والله يا بن أبي كبشة ! لاملانها عليك خيلا ورجلا وأحول بينك وبين هذه الاعداء.
فقال محمد: ويؤذن للناس أنه علم ما في نفسه أو يكفي الله شرك يا أبا سفيان ! وهو يرى الناس أن لا يعلوها أحد غيري، وعلي ومن يليه من أهل بيته فبطل سحره وخاب سعيه، وعلاها أبو بكر وعلوتها بعده وأرجوا أن تكونوا معاشر بني أمية عيدان أطنابها، فمن ذلك قد وليتك وقلدتك إباحة ملكها وعرفتك فيها وخالفت قوله فيكم، وما أبالي من تأليف شعره ونثره، أنه قال: يوحى إلي منزل من ربي في قوله: * (والشجرة الملعونة في القرءآن) * (4) فزعم أنها أنتم يا بني أمية، فبين عداوته حيث ملك كما لم يزل هاشم وبنوه أعداء بني عبد شمس، وأنا - مع تذكيري إياك يا معاوية ! وشرحي لك ما قد شرحته - ناصح لك ومشفق عليك من ضيق عطنك (5) وحرج صدرك، وقلة حلمك، أن تعجل فيما وصيتك به ومكنتك منه من شريعة محمد (ص) وأمته أن تبدي لهم مطالبته بطعن أو شماتة بموت أو ردا عليه فيما أتى به، أو استصغارا لما أتى به فتكون من الهالكين، فتخفض ما رفعت وتهدم ما بنيت، واحذر كل
(1) وامق.
أي محب، كما نص عليه في القاموس 3 / 290.
(2) في (ك): المرسبة، ولم نجد لها معنا مناسبا لغة، فراجع.
(3) في (س): يحرصهن، والظاهر: يحرضن.
(4) الاسراء: 60.
(5) قال في القاموس 4 / 248: العطن - محركة -: وطن الابل ومبركها حول الحوض، ومربض الغنم حول الماء.

[298]

الحذر حيث دخلت على محمد مسجده ومنبره وصدق محمدا في كل ما أتى به وأورده ظاهرا، وأظهر التحرز والواقعة في رعيتك، وأوسعهم حلما، وأعمهم بروايح العطايا، وعليك بإقامة الحدود فيهم وتضعيف الجناية منهم لسببا محمد (1) من مالك ورزقك (2) ولا ترهم أنك تدع لله حقا ولا تنقض فرضا ولا تغير لمحمد سنة (3) فتفصد علينا الامة، بدل خذهم من مأمنهم، واقتلهم بأيديهم، وأبدهم (4) بسيوفهم وتطاولهم ولا تناجزهم، ولن لهم ولا تبخس عليهم، وافسح لهم في مجلسك، وشرقهم في مقعدك، وتوصل إلى قتلهم برئيسهم، وأظهر البشر والبشاشة بل أكظم غيظك واعف عنهم يحبوك ويطيعوك، فما آمن علينا وعليك ثورة علي وشبليه الحسن والحسين، فإن أمكنك في عدة من الامة فبادر ولا تقنع بصغار الامور، واقصد بعظيمها واحفظ وصيتي إليك وعهدي واخفه ولا تبده، وامتثل أمري ونهيي وانهض بطاعتي، وإياك والخلاف علي، واسلك طريق أسلافك، واطلب بثارك، واقتص آثارهم، فقد أخرجت إليك بسري وجهري، وشفعت هذا بقولي: معاوي (5) إن القوم جلت أمورهم * بدعوة من عم البرية بالوتري صبوت (6) إلى دين لهم فأرابني * فابعد بدين قد قصمت به ظهري وأن أنس لا أنس الوليد وشيبة وعتبة والعاص السريع لدى بدر وتحت شغاف (7) القلب لدغ لفقدهم * أبو حكم أعني الضيئل (8) من الفقري
(1) كذا، ولعله: لسبب.
(2) من كلمة: وتضعيف.
إلى رزقك، لا توجد في (س).
(3) في (ك): سنته.
(4) في (ك): أيدهم.
(5) معاوي: مرخم معاوية - لعنة الله عليه -.
(6) صبى إليه: حن ومال، كما جاء في القاموس 4 / 351، وغيره.
(7) ذكر في القاموس المحيط 3 / 159 ان: الشغاف - كسحاب -: غلاف القلب أو حجابه أو حبته أو سويداؤه.
(8) في (س): الضيل.
والضئيل - كأمير - بمعنى الصغير، الدقيق الحقير، والنحيف، كما = = نص عليه في القاموس 4 / 5.
ولا معنى ل‍ (ضيل) هن.

[299]

اولئك فاطلب - يا معاوي - ثارهم * بنصل سيوف الهند والاسل (1) السمري (2) وصل برجال الشام في معشرهم * هم الاسدو الباقون في أكم (3) الوعري (4) توسل إلى التخليط في الملة التي * أتانا به الماضي المسموه (5) بالسحري وطالب بأحقاد مضت لك مظهرا * لعلة دين عم كل بني النضر فلست تنال الثار إلا بدينهم * فتقتل بسيف القوم جيد بني عمري لهذا لقد وليتك الشام راجيا * وأنت جدير أن تؤول إلى صخري قال: فلما قرأ عبد الله بن عمر هذا العهد، قام إلى يزيد فقبل رأسه، وقال: الحمد لله - يا أمير المؤمنين ! - على قتلك الشاري ابن الشاري، والله ما أخرج أبي إلي بما أخرج إلى أبيك، والله لا رآني أحد من رهط محمد بحيث (6) يحب ويرضى، فأحسن جائزته وبره، ورده مكرم.
فخرج عبد الله بن عمر من عنده ضاحكا، فقال له الناس: ما قال لك ؟.
قال: قولا صادقا لوددت أني كنت مشاركه فيه، وسار راجعا إلى المدينة، وكان جوابه لمن يلقاه هذا الجواب.
ويروى أنه أخرج يزيد لعنه الله إلى عبد الله بن عمر كتابا فيه عهد عثمان بن عفان (7) فيه أغلظ من هذا وأدهى وأعظم من العهد الذي كتبه عمر لمعاوية، فلما
(1) قال الفيروز آبادي في قاموسه 3 / 328: الاسل - محركة -: نبات.
والرماح، والنبل.
(2) سيجئ في بيان المصنف - رحمه الله -: ان السمر جمع الاسمر وهو الرمح.
(3) الاكمة - محركة -: التل من القف من حجارة واحدة أو هي دون الجبال. . وجمعها: أكم، كما في القاموس 4 / 75.
(4) قال في القاموس 2 / 154: الوعر: ضد السهل.
والمعنى أن الباقين أكم في مكان صلب سهل إبادتهم واهلاكهم.
(5) الكلمة مشوشة في مطبوع البحار.
(6) كذا، ولعلها: إلا بحيث.
(7) لا توجد في (س): بن عفان.