الكتاب، وصار عندهم من لم يأت بها في صلاته وغير صلاته كأنه قد ترك آية في كتاب الله. وقد أجمع أهل النقل عن الائمة عليهم السلام من أهل البيت أنهم قالوا: من قال: آمين في صلاته فقد أفسد صلاته وعليه الاعادة، لانها عندهم كلمة سر يانية معناها بالعربية: افعل، كسبيل من يدعو بدعاء فيقول في آخره: اللهم افعل، ثم استن (1) أولياؤه وأنصاره رواية متخرصة (2) عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه (3) كان يقول ذلك بأعلى صوته في الصلاة، فأنكر أهل البيت ذلك، ولما رأينا أهل البيت عليهم السلام مجتمعين على إنكارها صح عندنا فساد أخبارهم فيها، لان الرسول صلى الله عليه وآله حكم - بالاجماع - أن لا نضل ما تمسكنا بأهل بيته عليهم السلام، فتعين ضلالة من تمسك بغيرهم. وأما الدليل على خرص روايتهم أنهم مختلفون في الرواية: فمنهم من روى: إذا أمن الامام فأمنو. ومنهم من يروي: إذا قال الامام (ولا الضالين) فقولوا: آمين. ومنهم من يروي: ندب (4) رفع الصوت به. ومنهم من يروي: الاخفات به. فكان هذا اختلافهم فيما وصفناه من هذه المعاني دليلا واضحا - لمن فهم - على تخرص روايتهم. ثم أتبع ذلك بفعل من أفعال اليهود، وذلك عقد اليدين في الصدر إذا قاموا في الصلاة، لان اليهود تفعل في صلاتها ذلك، فلما رآهم الرجل يستعملون ذلك استعمله هو أيضا اقتداء بهم وأمر الناس بفعل ذلك، وقال: إن هذا تأويل قوله
(1) الكلمة مشوشة في المطبوع، والظاهر ما أثبتناه. (2) الكلمة مشوشة في مطبوع البحار، وتقرأ: متخرضة - بالحاء المهملة والضاد المعجمة -، وما سيأتي يؤيد ما أثبتناء. (3) في (س) لا توجد: أنه. (4) لا توجد كلمة: ندب، في (س).
[361]
تعالى: * (وقوموا لله قانتين) * (1) يريد بزعمه التذلل والتواضع، ومما روي عنه بالخلاف أنه قال للرسول صلى الله عليه وآله يوما: إنا نسمع من اليهود أشياء نستحسنها منهم، فنكتب ذلك منهم ؟. فغضب النبي صلى الله عليه وآله وقال:
أمتهوكون (2) أنتم يابن الخطاب !، لو كان موسى حيا لم يسعه إلا اتباعي. ومن استحسن ذلك في حياة الرسول من قول اليهود فاستحسانه بعد فقد النبي أولى، وقد أنكر أهل البيت عليهم السلام ونهوا عنه نهيا مؤكذا، وحال أهل البيت ما شرحناه من شهادة الرسول صلى الله عليه وآله لهم بإزالة الضلالة عنهم وعمن تمسك (3) بهم، فليس من بدعة ابتدعها هذا الرجل إلا أولياؤه متحفظون بها مواظبون عليها وعلى العمل بها، طاعنون على تاركها، وكل تأديب الرسول الذي قد خالفه الرجل ببدعة فهو عندهم مطروح متروك مهجور ويطعن على من استعمله، وينسب عندهم إلى الامور المنكرات، ولقد رووا جميعا أن الرسول قال: لا تبركوا في الصلاة كبرك البعير، ولا تنقروا كنقر الديك، ولا تقعوا كإقعاء الكلب، ولا تلتفتوا (4) كالتفات القرود، فهم لاكثر ذلك فاعلون، ولقول الرسول مخالفون، فإذا أرادوا السجود بدؤا بركبهم فيطرحونها إلى الارض قبل أيديهم، وذلك منهم كبرك البعير على ركبتيه، ويعلمون ذلك جهالهم خلافا على تأديب
(1) البقرة: 238. (2) جاء في حاشية (ك): التهوك: التحير، وفي الحديث: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى. صحاح. انظر: الصحاح 4 / 1617. أقول: قال في النهاية 5 / 282 ما نصه: فيه قال لعمر في كلام: (أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ؟ ! لقد جئت بها بيضاء نقية). التهوك - كالتهور - وهو الوقوع في الامر بغير روية، والمتهوك: الذي يقع في كل أمر، وقيل: هو التحير. ولا يخفى وجه الشبه لهم باليهود والنصارى في التهوك. (3) في (س): عنهم عين وتمسك، وهو غلط. (4) في (س): ولا تلتفت.
[362]
الرسول صلى الله عليه وآله، وهذا شأنهم في سائر أحكام الدين فلا نطول الكلام (1) بذكرها الكتاب. ولما أمر الله سبحانه نبيه صلوات الله عليه وآله بسد أبواب الناس من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله شريفا (2) له وصونا له عن النجاسة سوى باب النبي صلى الله عليه وآله وباب علي بن أبي طالب عليه السلام، وأمره أن ينادي في الناس بذلك، فمن أطاعه فاز وغنم ومن عصاه هلك وندم، فأمر النبي صلى الله عليه وآله المنادي فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فأقبل الناس يهرعون، فلما تكاملوا صعد النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ! إن الله سبحانه و (3) وتعالى قد أمرني بسد أبوابكم المفتوحة إلى المسجد بعد يومي، وأن لا يدخله جنب ولا نجس، بذلك (4) أمرني ربي جل جلاله، فلا يكون في نفس أحد منكم أمر، ولا تقولوا: لم ؟ وكيف ؟ وأنى ذلك ؟ فتحبط أعمالكم وتكونوا من الخاسرين، وإياكم والمخالفة والشقاق فإن الله تعالى أوحى إلي أن أجاهد من عصاني، وأنه لا ذمة له في الاسلام، وقد جعلت مسجدي طاهرا من كل دنس، محرما على كل من يدخل إليه مع هذه الصفة التي ذكرتها غيري وأخي علي بن أبي طالب عليه السلام وابنتي فاطمة وولدي الحسن والحسين كما كان مسجد هارون وموسى، فإن الله أوحى إليهما أن اجعلا بيوتكما قبلة لقومكما، وإني قد أبلغتكم ما أمرني به ربي وأمرتكم بذلك، ألا فاحذروا الحسد والنفاق وأطيعوا الله يوافق بينكم سركم علانيتكم، ف * (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * (5). فقال الناس بأجمعهم: سمعنا وأطعنا الله ورسوله ولا نخالف ما أمرنا به،
(1) خط في (ك) على: الكلام. (2) كذا، والظاهر أنه: شرفا أو تشريف. (3) لا توجد الواو في (ك).
(4) في (س): فذلك. (5) آل عمران: 102.
[363]
ثم خرجوا أبوابهم جميعا غير باب النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام، فأظهر الناس الحسد والكلام، فقال عمر: ما بال رسول الله (ص) يؤثر ابن عمه علي بن أبي طالب ويقول على الله الكذب، ويخبر عن الله بما لم يقل في علي ؟ ! وإنما سأل محمد صلى الله عليه وآله لعلي بن أبي طالب وأجابه إلى ما يريد، فلو سأل الله ذلك لنا لاجابه، وأراد عمر أن يكون له باب مفتوح إلى المسجد، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله قول عمر وخوض الناس والقوم في الكلام، أمر المنادي بالنداء إلى: الصلاة جامعة، فلما اجتمعوا قال لهم النبي صلى الله عليه وآله: معاشر الناس ! قد بلغني ما خضتم فيه وما قال قائلكم، وإني أقسم بالله العظيم إني لم أقل على الله الكذب ولا كذبت فيما قلت، ولا أنا سددت أبوابكم، ولا أنا فتحت باب علي بن أبي طالب (ع)، ولا أمرني في ذلك إلا الله عزوجل الذي خلقني وخلقكم أجمعين، فلا تحاسدوا فتهلكوا، ولا تحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، فإنه يقول في محكم كتابه: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * (1) فاتقوا الله وكونوا من الصابرين، ثم صدق الله رسوله بنزول الكوكب من السماء على دار علي بن أبي طالب عليه السلام، وأنزل الله سبحانه قرآنا، وأقسم بالنجم تصديقا لرسوله صلى الله عليه وآله، فقال: * (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى. ) * (2) الآيات كلها، وتلاها النبي صلى الله عليه وآله فلم يزدادوا إلا غضبا وحسدا ونفاقا وعتوا واستكبارا، ثم تفرقوا و (3) في قلوبهم من الحسد والنفاق ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
فلما كان بعد أيام دخل عليه عمه العباس وقال: يا رسول الله ! قد علمت ما بيني وبينك من القرابة والرحم الماسة، وأنا ممن يدين الله بطاعتك، فاسأل الله
(1) البقرة: 253. (2) النجم: 1 - 4. (3) لا توجد الواو في (س).
[364]
تعالى أن يجعل لي باب إلى المسجد أتشرف بها على من سواي ؟. فقال له عليه وآله السلام: يا عم ! ليس إلى ذلك سبيل. فقال: فميزابا يكون من داري إلى المسجد أتشرف به على القريب والبعيد. فسكت النبي صلى الله عليه وآله - وكان كثير الحياء - لا يدري ما يعيد من الجواب خوفا من الله تعالى وحياء من عمه العباس، فهبط جبرئيل عليه السلام في الحال على النبي صلى الله عليه وآله - وقد علم الله سبحانه ما في نفسه صلى الله عليه وآله من ذلك -، فقال: يا محمد (ص) ! إن الله يأمرك أن تجيب سؤال عمك، وأمرك أن تنصب له ميزابا إلى المسجد كما أراد، فقد علمت ما في نفسك وقد أجبتك إلى ذلك كرامة لك ونعمة مني عليك وعلى عمك العباس، فكبر النبي صلى الله عليه وآله وقال: أبى الله إلا إكرامكم يا بني هاشم وتفضيلكم على الخلق أجمعين، ثم قام ومعه جماعة من الصحابة والعباس بين يديه حتى صار على سطح العباس، فنصب له ميزابا إلى المسجد وقال: معاشر المسلمين ! إن الله قد شرف عمي العباس بهذا الميزاب فلا تؤذوني في عمي، فإنه بقية الآباء والاجداد، فلعن الله من آذاني في عمي وبخسه حقه أو أعان عليه. ولم يزل الميزاب على حاله مدة أيام النبي صلى الله عليه وآله وخلافة أبي بكر وثلاث سنين من خلافة عمر بن الخطاب، فلما كان في بعض الايام وعك (1) العباس ومرض مرضا شديدا وصعدت الجارية تغسل قميصه فجرى الماء من
الميزاب إلى صحن المسجد، فنال بعض الماء ثوب الرجل، فغضب غضبا شديدا وقال لغلامه: اصعد واقلع الميزاب، فصعد الغلام فقلعه ورمى به إلى سطح العباس، وقال: والله لئن رده أحد إلى مكانه لاضربن عنقه، فشق ذلك على العباس ودعا بولديه عبد الله وعبيد الله ونهض يمشي متوكئا عليهما - وهو يرتعد من شدة المرض - وسار حتى دخل على أمير المؤمنين عليه السلام، فلما نظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام انزعج لذلك، وقال: يا عم ! ما جاء بك وأنت على هذه
(1) قال في مجمع البحرين 5 / 298: الوعك: الحمى، وقيل: ألمها، والموعوك: المحموم.
[365]
الحالة ؟ !. فقص عليه القصة وما فعل معه عمر من قلع الميزاب وتهدده (1) من يعيده إلى مكانه، وقال له: يا بن أخي ! إنه كان لي عينان أنظر بهما، فمضت إحداهما وهي رسول الله صلى الله عليه وآله وبقيت الاخرى وهي أنت يا علي، وما أظن أن أظلم ويزول ما شرفني به رسول الله صلى الله عليه وآله وأنت لي، فانظر في أمري، فقال له: يا عم ! ارجع إلى بيتك، فسترى مني ما يسرك إن شاء الله تعالى. ثم نادى: يا قنبر ! علي بذي الفقار، فتقلده ثم خرج إلى المسجد والناس حوله وقال: يا قنبر ! اصعد فرد الميزاب إلى مكانه، فصعد قنبر فرده إلى موضعه، وقال علي عليه السلام: وحق صاحب هذا القبر والمنبر لئن قلعه قالع لاضربن عنقه وعنق الآمر له بذلك، ولا صلبنهما في الشمس حتى يتقددا (2)، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فنهض ودخل (3) المسجد ونظر إلى الميزاب، فقال: لا يغضب أحدا أبا الحسن فيما فعله، ونكفر (4) عن اليمين، فلما كان من الغداة مضى أمير المؤمنين إلى عمه العباس، فقال له: كيف أصبحت يا عم ؟. قال: بأفضل النعم ما دمت لي يا بن أخي. فقال له: يا عم ! طب نفسا وقر عينا، فو الله لو خاصمني
أهل الارض في الميزاب لخصمتهم، ثم لقتلتهم بحول الله وقوته، ولا ينالك ضيم (5) يا عم، فقام العباس فقبل ما بين عينيه، وقال: يا بن أخي ! ما خاب من أنت ناصره. فكان هذا فعل عمر بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد قال في غير موطن وصية منه في عمه العباس: إني عمي العباس بقية الآباء والاجداد
(1) كذا، والظاهر: تهديده. (2) في (س): يتغددا، وهو غلط. (3) في (س): فدخل. (4) في (ك): ونكفر عنه عن. (5) الضيم: الظلم، قاله في الصحاح 5 / 1973، والقاموس 4 / 143، وغيرهم.
[366]
فاحفظوني فيه، كل في كنفي، وأنا في كنف عمي العباس، فمن آذاه فقد آذاني، ومن عاداه فقد عاداني، سلمه سلمي، وحربه حربي. وقد آذاه عمر في ثلاثة مواطن ظاهرة غير خفية: منها: قصة الميزاب، ولولا خوفه من علي (ع) لم يتركه على حاله. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وآله قبل الهجرة خرج يوما إلى خارج مكة ورجع طالبا منزله فاجتاز بمناد ينادي من بني تميم - وكان لهم سيد يسمى عبد الله ابن جذعان، وكان يعد من سادات قريش وأشياخهم، وكان (1) له منادية ينادون في شعاب مكة وأوديتها: من أراد الضيافة والقرى فليأت مائدة عبد الله بن جذعان، وكان مناديه: أبو قحافة، واجرته أربعة دوانيق، وله مناد آخر فوق سطح داره، فأخبر عبد الله بن جذعان بجواز النبي صلى الله عليه وآله على بابه، فخرج يسعى حتى لحق به وقال: يا محمد ! بالبيت الحرام إلا ما شرفتني بدخولك إلى
منزلي وتحرمك بزادي، وأقسم عليه برب البيت والبطحاء وبشيبة بن عبد المطلب، فأجابه النبي صلى الله عليه وآله إلى ذلك ودخل منزله وتحرم بزاده، فلما خرج النبي صلى الله عليه وآله خرج معه ابن جذعان مشيعا له، فلما أراد الرجوع عنه قال له النبي صلى الله عليه وآله: إني أحب أن تكون غدا في ضيافتي أنت وتيم وأتباعها وحلفاؤها عند طلوع الغزالة (2)، ثم افترقا ومضى النبي إلى دار عمه أبي طالب وجلس ومتفكرا فيما وعده لعبد الله بن جذعان، إذ دخلت عليه فاطمة بنت أسد صلوات الله عليها زوجة عمه أبي طالب - وكانت هي مربيته، وكان يسميها الام - فلما رأته مهموما قالت: فداك أبي وأمي، ما لي أراك مهموما ؟ أعارضك أحد من
(1) كذا، والظاهر: وكانت. (2) غزالة الضحى: أولها، يقال: جاءنا فلان في غزالة الضحى، قاله في الصحاح 5 / 1781، ثم قال: ويقال: الغزالة الشمس أيض. وفي القاموس 4 / 24:. كسحابه الشمس لانها تمد حبالا كأنها تعزل، أو الشمس عند طلوعها، أو عند ارتفاعها، أو عين الشمس. وانظر: مجمع البحرين 5 / 433.
[367]
أهل مكة ؟. فقال: ل. قالت: فبحقي عليك إلا ما أخبرتني بحالك. فقص عليها قصته مع ابن جذعان وما قاله وما وعده من الضيافة، فقالت: يا ولدي ! لا تضيقن صدرك، معي مشار (1) عسل يقوم لك بكل ما تريد، فبينما هما في الحديث إذ دخل أبو طالب رضي الله عنه، فقال لزوجته: فيما أنتما ؟. فأعلمته بذلك كله، وبما قال النبي صلى الله عليه وآله لا بن جذعان، فضمه إلى صدره وقبل ما بين عينيه، وقال: يا ولدي ! بالله عليك لا تضيقن صدرك من ذلك، وفي نهار غد أقوم لك بجميع ما تحتاج إليه إن شاء الله تعالى، وأصنع وليمة تتحدث بها الركبان في سائر البلدان، وعزم على وليمة تعم سائر القبائل، وقصد نحو أخيه العباس
ليقترض من ماله شيئا يضمه إلى ماله، فوجد بني عبد الطلب في الطريق فأقرضوه من الجمال والذهب ما يكفيه، فرجع عن القصد ألى أخيه العباس، وآثر التخفيف عنه، فبلغ أخاه العباس ذلك فعظم عليه رجوعه، فأقبل إلى أخيه أبي طالب - وهو مغموم كئيب حزين - فسلم عليه، فقال له أبو طالب: ما لي أراك حزينا كئيبا ؟. قال: بلغني أنك قصدتني في حاجة ثم بدالك عنها فرجعت من الطريق، فما هذه الحال ؟. فقص عليه القصة. إلى آخرها، فقال له العباس: الامر إليك، وإنك لم تزل أهلا لكل مكرمة وموئلا (2) لكل نائبة، ثم جلس عنده ساعة وقد أخذ أبو طالب فيما يحتاج إليه من آلة الطبخ وغير ذلك، فقال له العباس: يا أخي ! لي إليك حاجة ؟. فقال له أبو طالب: هي مقضية، فاذكرها، فقال العباس: أقسمت عليك بحق البيت وشيبة الحمد (3) إلا ما (4) قضيتها، فقال:
(1) المشار: الخلية، كما جاء في القاموس المحيط 2 / 65، وانظر: الصحاح 2 / 704، وزاد: يشتار منه. (2) الموئل: الملج. قال في النهاية 5 / 143:. وقد وأل يئل فهو وائل: إذا التجأ إلى موضع ونج. ولا حظ: القاموس المحيط 4 / 62، والصحاح 5 / 1838، وغيرهم. (3) قال في مجمع البحرين 2 / 95: شيبة الحمد. هو عبد المطلب بن هاشم المطعم طير السماء، لانه لما نحر فداء ابنه عبد الله مائة بعير فرقها على رؤوس الجبال، فأكلتها الطير. (4) (ما) هنا مصدرية، أي إلا قضاءك إياه.
[368]
لك ذلك ولو سألت في النفس والولد، فقال: تهب لي هذه المكرمة تشرفني به. فقال: قد أجبتك إلى ذلك مع ما أصنعه أن. فنحر العباس الجزر (1) ونصب (2) القدور، وعقد الحلاوات، وشوى المشوي، وأكثر من الزاد فوق ما يراد، ونادى سائر الناس، فاجتمع أهل مكة وبطون قريش وسائر العرب على أختلاف طبقاتها
يهرعون من كل مكان حتى كأنه عيد الله الاكبر، ونصب للنبي صلى الله عليه وآله منصبا عليا، وزينه بالدر والياقوت والثياب الفاخرة، وبقي الناس من حسن النبي صلى الله عليه وآله ووقاره وعقله وكماله متحيرين، وضوؤه يعلو نور الشمس، وتفرق الناس مسرورين وقد أخذوا في الخطب والاشعار ومدح النبي صلى الله عليه وآله وعشيرته على حسن ضيافتهم. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله أشده وتزوج خديجة وأوحى الله إليه ونبأه وأرسله إلى سائر العرب والعجم، وأظهره على المشركين، وفتح مكة ودخلها مؤيدا منصورا، وقتل من قتل، وبغي من بغي، أوحى الله إليه: يا محمد ! إن عمك العباس له عليك يد سابقة وجميل متقدم، وهو ما أنفق عليك في وليمة عبد الله بن جذعان، وهو ستون ألف دينار مع ماله عليك في سائر الازمان، وفي نفسه شهوة من سوق عكاظ، فامنه إياه في مدة حياة ولولده بعد وفاة، فأعطاه ذلك، ثم قال صلى الله عليه وآله: ألا لعنة الله على من عارض عمي في سوق عكاظ و (3) نازعه فيه، ومن أخذه منه فأنا برئ منه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فلم يكثرت (4) عمر بذلك وحسد العباس على دخل سوق عكاظ، وغصبه منه،
(1) قال في مجمع البحرين 3 / 245: في حديث ذكر الجزور - بالفتح -: وهي من الابل خاصة ما كمل خمس سنين ودخل في السادسة، يقع على الذكر والانثى، والجمع جزر كرسول ورسل، ونحوه في الصحاح 2 / 612، ولم يعين فيها السن. (2) في (س) نصبا - بالتثنية -، وعليه يرجع الضمير إلى أبي طالب والعباس. (3) في (كم) نسخة بدل: أو. (4) جاء في حاشية (ك) ما يلي: فلم يكترث عمر. أي لا يعبأ به ولا يبالي. مجمع. انظر مجمع البحرين 2 / 262.
[369]
ولم يزل العباس متظلما إلى حين وفاته. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وآله كان جالسا في مسجد يوم. وحوله
جماعة من الصحابة - إذ دخل عليه عمه العباس - وكان رجلا صبيحا حسنا حلو الشمائل - فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله: قام إليه واستقبله وقبل ما بين عينيه ورحب به وأجلسه إلى جانبه، فأنشد العباس أبياتا في مدحه (ص)، فقال النبي صلى الله عليه وآله: جزاك الله - يا عم - خيرا ومكافأتك على الله تعالى. ثم قال: معاشر الناس ! احفظوني في عمي العباس وانصروه ولا تخذلوه. ثم قال: يا عم ! أطلب مني شيئا أتحفك به على سبيل الهدية. فقال: يا بن أخي ! أريد من الشام الملعب، ومن العراق الحيرة، ومن هجر الخط، وكانت هذه المواضع كثيرة العمارة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: حبا وكرامة، ثم دعا عليا عليه السلام، فقال: أكتب لعمك العباس هذه المواضع، فكتب له أمير المؤمنين كتابا بذلك، وأملى رسول الله صلى الله عليه وآله وأشهد الجماعة الحاظرين، وختم النبي صلى الله عليه وآله بخاتمة (1) وقال: يا عم ! إن يفتح الله تعالى هذه المواضع فهي لك هبة من الله تعالى ورسوله، وإن فتحت بعد موتي فإني أوصي الذي ينظر بعدي في الامة بتسليم هذه المواضع إليك. ثم قال: معاشر المسلمين ! إن هذه المواضع المذكورة لعمي العباس، فعلى من يغير عليه أو يبدله أو يمعنه أو يظلمه لعنة الله ولعنة اللاعنين، ثم ناوله الكتاب، فلما ولي عمر وفتح هذه المواضع المذكورة أقبل عليه العباس بالكتاب، فلما نظر فيه دعا رجلا من أهل الشام وسأله عن الملعب، فقال: يزيد ارتفاعه على عشرين ألف درهم، ثم سأل عن الآخرين، فذكر له أن ارتفاعهما تقوم بمال كثير. فقال: يا أبا الفضل ! إن هذا المال كثير لا يجزلك أخذه من دون المسلمين. فقال العباس: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله يشهد لي بذلك قليلا كان أو
في (س): بخاتم.
[370]
كثيرا، فقال عمر: والله إن كنت تساوي المسلمين في ذلك وإلا فارجع من حيث أتيت، فجرى بينهما كلام كثير غليظ، فغضب عمر - وكان سريع الغضب - فأخذ الكتاب من العباس ومزقه وتفل فيه ورمى به في وجه العباس، وقال: والله ؟ لو طلبت منه حبة واحدة ما أعطيتك، فأخذ العباس بقية الكتاب وعاد إلى منزله حزينا باكيا شاكيا إلى الله تعالى والى رسوله، فصاح العباس بالمهاجرين والنصار، فغضبوا لذلك وقالوا: يا عمر ! تخرق كتاب رسول الله وتلقي به في الارض، هذا شئ لا نصبر عليه. فخاف عمر أن ينخرم عليه الامر، فقال: قوموا بنا إلى العباس نسترضيه ونفعل معه ما يصلحه، فنهضوا بأجمعهم إلى دار العباس فوجدوه موعوكا (1) لشدة ما لحقه من الفتن والالم والظلم، فقال: نحن في الغداة عائدوه إن شاء الله تعالى ومعتذرون إليه من فعلنا، فمضى غد وبعد غد ولم يعد إليه ولا اعتذر منه، ثم فرق الاموال على المهاجرين والانصار وبقي كذلك إلى أن مات. ولو أخذنا في ذكر أفعاله لطال الكتاب، وهذا القدر فيه عبرة لاولي الا باب. وأما صاحبهما الثالث، فقد استبد بأخذ الاموال ظلما على ما تقدم به الشرح في صاحبيه، واختص بها مع أهل بيته من بني أمية دون المسلمين، فهل يستحق هذا أو يستجيزه مسلم ؟. ثم إنه ابتدع أشياء أخر: منها: منع المراعي من الجبال والاودية وحماها حتى أخذ عليها مالا باعها به من المسلمين. ومنها: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نفى الحكم بن العاص - عم عثمان - عن المدينة، وطرده عن جواره فلم يزل طريدا من المدينة ومعه ابنه مروان أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وأيام ابي بكر وأيام عمر يسمى: طريد رسول الله
(1) الموعوك: المحموم، كما في مجمع البحرين 5 / 298.
[371]
صلى الله عليه وآله، حتى استولى عثمان فرده إلى المدينة وآواه، وجعل ابنه مروان كاتبه وصاحب تدبيره في داره، فهل هذا منه إلا خالفا على رسول الله صلى الله عليه وآله ومضادة لفعله ؟ وهل يستجيز هذا الخلاف على رسول الله صلى الله عليه وآله والمضادة أفعاله إلا خارج عن الدين برئ من المسلمين ؟ وهل يظن ذوفهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله طرد الحكم ولعنه وهو مؤمن ؟ وإذا لم يكن مؤمنا فما الحال التي دعت عثمان إلى رده والاحسان إليه - وهو رجل كافر - لولا أنه تعصب لرحمه (1) ولم يفكر (2) في دينه، فحقت عليه الآية، قوله تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم إو عشيرتهم) * (3). ومنها: إنه جمع ما كان عند المسلمين من صحف القرآن وطبخها بالماء على النار وغسلها ورمى بها إلا ما كان عند ابن مسعود، فإنه امتنع من الدفع إليه، فأتى إليه فضربه حتى كسر له ضلعين وحمل من موضعه ذلك فبقي عليلا حتى مات، وهذه بدعة عظيمة، لان تلك الصحف إن كان فيها زيادة عما في أيدي الناس، وقصد لذها به ومنع الناس منه، فقد حق عليه قوله تعالى: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعلمون) * (4). هذا، مع ما يلزم أنه لم يترك ذلك ويطرحه تعمدا إلا وفيه ما قد كرهه، ومن كره ما أنزل الله في كتابه حبط جميع عمله، كما قال الله تعالى: * (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) * (5)، وإن لم تكن في تلك الصحف زيادة عما في أيدي
(1) في (س): لرجعه.
(2) في (س): ولم يتفكر. (3) المجادلة: 22. (4) البقرة: 85. (5) سورة محمد (ص): 9.
[372]
الناس فلا معنى لما فعله. ومنها: إن عمار بن ياسر قام يوما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله - وعثمان يخطب على المنبر - فوبخ عثمان بشئ من أفعاله، فنزل عثمان فركله (1) برجله وألقاه على قفاه، وجعل يدوس (2) في بطنه ويأمر أعوانه بذلك حتى غشي على عمار، وهو يفتري على عمار ويشتمه، وقد رووا جميعا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: الحق مع عمار يدور (3) معه حيثما دار، وقال صلى الله عليه وآله: إذا افترق الناس يمينا وشمالا فانظروا الفرقة التي فيها عمار فاتبعوه، فإنه يدور الحق معه حيثما دار. فلا يخلو حال ضربه لعمار من أمرين: أحدهما، أنه يزعم أن ما قال عمار وما فعله باطل، وفيه تكذيب لقول النبي صلى الله عليه وآله حيث يقول: الحق مع عمار، فثبت أن يكون ما قاله عمار حقا كرهه عثمان فضربه عليه. ومنها: ما فعل بأبي ذر حين نفاه عن المدينة إلى الربذة، مع إجماع الامة في الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ورووا أنه قال: إن الله عزوجل أوحى إلي أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم، فقيل: من هم يا رسول الله (ص) ؟. قال: علي سيدهم، وسلمان، والمقداد، وأبو ذر. فحينئذ ثبت أن أبا ذر حبه (4) الله وحبه رسول الله صلى الله عليه وآله، ومحال عند ذوي الفهم أن يكون الله ورسوله يحبان رجلا وهو يجوز أن بفعل فعلا
يستوجب به النفي عن حرم الله ورسوله، ومحال أيضا أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وآله لرجل أنه ما على وجه الارض ولا تحت السماء أصدق منه، ثم يقول
(1) قال في مجمع البحرين 5 / 385: الركل: الضرب برجل واحدة. (2) قال في لسان العرب 6 / 90: الدوس: شدة وطئ الشئ بالاقدام. (3) في (ك): ويدور. (4) جاء في حاشية (ك): حبه يحبه - بالكسر - فهو محبوب. صحاح. انظر: الصحاح 1 / 105.
[373]
باطلا، فتعين أن يكون ما فعله وما قاله حقا كرهه عثمان فنفاه عن الحرمين، ومن كره الحق ولم يحب الصدق فقد كره ما أنزل الله في كتابه، لانه أمر بالكون مع الصادقين، فقال: * (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) * (1). ومنها: أن عبيدالله بن عمر بن الخطاب لما ضرب أبو لؤلؤة عمر الضربة التي مات فيها سمع ابن عمر قوما يقولون: قتل العلج أمير المؤمنين، فقدر أنهم يعنون الهرمزان - رئيس فارس - وكان قد أسلم على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ثم أعتقه من قسمته من الفئ فبادر إليه عبيد الله بن عمر فقتله قبل أن يموت أبوه، فقيل لعمر: إن عبيد الله بن عمر قد قتل الهرمزان، فقال: أخطأ، فإن الذي ضربني أبو لؤلؤة، وما كان للهرمزان (2) في أمري صنع، وإن عشت احتجت أن أقيده به، فإن علي بن أبي طالب لا يقبل منا الدية، وهو مولاه، فمات عمر واستولى عثمان على الناس بعده، فقال علي عليه السلام لعثمان: إن عبيد الله بن عمر قتل مولاي الهرمزان بغير حق، وأنا وليه الطالب بدمه، سلمه إلي لاقيده به ؟. فقال عثمان: بالامس قتل عمر وأنا أقتل ابنه أورد علي آل عمر ما لا قوام لهم به، فامتنع من تسليمه إلى علي عليه السلام شفقة منه - بزعمه - على
آل عمر، فلما رجع الامر إلى علي عليه السلام هرب منه عبيد الله بن عمر إلى الشام فصار مع معاوية، وحضر يوم صفين مع معاوية محاربا لامير المؤمنين فقتل في معركة الحرب ووجد متقلد السيفين يومئذ. فانظروا - يا أهل الفهم - في أمر عثمان كيف عطل حدا من حدود الله تعالى لا شبهة فيه شفقة منه - بزعمه - على آل عمر ولم يشفق على نفسه من عقوبة تعطيل حدود الله تعالى ومخالفته، وأشفق على آل عمر في قتل من أوجب الله قتله وأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله.
(1) التوبة: 119. (2) في (س): الهرمزان.
[374]
ومنها: إنه عمد إلى صلاة الفجر فنقلها من أول وقتها حين طلوع الفجر فجعلها بعد الاسفار وظهور ضياء النهار، واتبعه أكثر الناس إلى يومنا هذا، وزعم أنه إنما فعل ذلك إشفاقا منه على نفسه في خروجه إلى المسجد خوفا أن يقتل في غلس الفجر كما قتل عمر، وذلك أن عمر قد جعل لنفسه سربا تحت الارض من بيته إلى المسجد، فقعد أبو لؤلؤة في السرب فضربه بخنجر في بطنه، فلما ولي عثمان أخر صلاة الفجر إلى الاسفار، فعطل وقت فريضة الله وحمل الناس على صلاتها في غير وقتها، لان الله سبحانه قال: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل. ) * (1) يعني ظلمته، ثم قال: * (وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا) * (2)، والفجر هو أول ما يبدو من المشرق في الظلمة، وعنده تجب الصلاة، فإذا علا في الافق وانبسط الظياء وزالت الظلمة صار صبحا، وزال عن أن يكون فجرا، ودرج على هذه البدعة أولياؤه، ثم تخرص بنو أمية بعده أحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله غلس بالفجر وأسفر بها، وقال للناس: أسفروا بها
أعظم لاجركم (3)، فصار المصلي للفجر في وقتها من طلوع الفجر عند كثير من أوليائهم مبتدعا، ومن اتبع بدعة عثمان فهو على السنة. فما أعجب أحوالهم وأشنعها !. ثم ختم بدعه بأن أهل مصر شكوا من عامله وسألوه أن يصرفه عنهم، أو يبعث رجلا ناظرا بينهم وبينه، فوقع الاختيار على محمد بن أبي بكر ناظرا - وكان محمد ممن يشير بالحق وينهى عن مخالفة - فثقل على عثمان وكادوه (4)، وبقي حريصا على قتله بحيلة، فلما وقع الاختيار عليه أن يكون ناظرا بين أهل مصر وبين عامله خرج معهم، وكتب عثمان بعد خروجه إلى عامله بمصر يأمره بقتل
(1 و 2) الاسراء: 78. (3) في العبارة اضطراب، والظاهر سقوط مثل: فهو، قبل: أعظم. (4) في البحار: كاده. وقال في القاموس 1 / 334: وتكون كاد بمعنى أراد، أكاد أخيفها: أريد. وما أثبتناه هو الظاهر.
[375]
محمد بن أبي بكر إذا صار إليه، ودفع الكتاب إلى عبد من عبيده، فركب العبد راحلته وسار نحو مصر بالكتاب مسرعا ليدخل مصر قبل دخول محمد بن أبي بكر، فقيل أن العبد مر يركض فنظر إليه القوم الذين مع محمد فاخبروا محمدا بذلك، فبعث خلفه خيلا فأخذوه وارتاب به محمد، فلما ردوه إليه وجد الكتاب معه، فقرأه وانصرف راجعا مع القوم والعبد والراحلة معهم، فثاروا على عثمان في ذلك، فقال: أما العبد فعبدي والراحلة راحلتي وختم الكتاب ختمي، وليس الكتاب كتابي ولا أمرت به، وكان الكتاب بخط مروان، فقيل له: إن كنت صادقا فادفع إلينا مروان فهذا خطه وهو كاتبك، فامتنع عليهم، فحاصروه وكان ذلك سبب قتله، فسحقا وبعدا لهم جميعا فإنهم كانوا كافرين. بيان:
السجف - بالفتح والكسر - الستر (1). والجزل - بالفتح - الكثير (2). وقال الجوهري (3): سفعته النار والسموم: إذا لفحته لفحا يسيرا فغيرت لون البشرة (4). والخرص والتخرص: الكذب (5). والغزالة: الشمس (6). ومشار عسل - بضم الميم - من إضافة الصفة إلى الموصوف أو بفتحها بتقدير اللام، يقال: شرت العسل. أي اجتنيتها، والمشار - بالفتح - الخلية
(1) قاله في المجمع البحرين 5 / 69، والصحاح 4 / 1371. وفي (س): السر، وهو سهو. (2) ذكره في القاموس 3 / 348، ومجمع البحرين 5 / 337، وغيرهم. (3) الصحاح 3 / 1230. (4) ونحوه في لسان العرب 8 / 157، وغيره. (5) جاء في لسان العرب 7 / 21، والصحاح 3 / 1035. (6) ذكره في مجمع البحرين 5 / 433، والقاموس 4 / 24، وغيرهم.
[376]
يشتار منها (1). وفي القاموس (2): الخط. سيف البحرين أو كل سيف، وموضع باليمامة، ومرقي (3) السفن بالبحرين، ويكسر واليه نسبت الرماح لانها تباع به. أقول: إنما أوردت هذا الكلام لاشتماله على بعض الاخبار الغريبة، وإن كان في بعض ما احتج به وهن أو مخالفة للمشهور، فسيتضح لك حقيقة الامر في الابواب الآتية، والله الموفق. 165 - وقال أبو الصلاح رحمه الله في تقريب المعارف (4): ومما يقدح في
عدالة الثلاثة، قصدهم أهل بيت نبيهم عليهم السلام بالتخفيف (5) والاذى، والوضع من أقدارهم، واجتناب ما يستحقونه من التعظيم، فمن ذلك: أمان كل معتزل بيعتهم ضررهم، وقصدهم عليا عليه السلام بالاذي لتخلفه (5) عنهم، والاغلاظ له في الخطاب والمبالغة في الوعيد، وإحضار الحطب لتحريق منزله، والهجوم عليه بالرجال من غير إذنه، والاتيان به ملببا، وإضطرارهم بذلك زوجته وبناته ونسائه وحامته من بنات هاشم وغيرهم إلى الخروج عن بيوتهم، وتجريد السيوف من حوله، وتوعده بالقتل إن امتنع من بيعتهم، ولم يفعلوا شيئا من ذلك لسعد بن عبادة ولا بالخباب بن المنذر. وغيرهما ممن تأخر عن بيعتهم حتى مات أو طويل الزمان. ومن ذلك ردهم دعوى فاطمة عليها السلام وشهادة علي والحسنين عليهم
(1) نص عليه في الصحاح 2 / 704، ولسان العرب 4 / 434. والخلية: بيت النحل الذي تسعل فيه، كما في الصحاح 6 / 2331. (2) القاموس 2 / 357 - 358. (3) جاء في المصدر: مرفا السفن. (4) تقريب المعارف (في الكلام): 167. (5): بالتحيف.
[377]
السلام وقبول شهادة (1) جابر بن عبد الله في الخبيثات، وعائشة في الحجرة والقميص والنعل، وغيرهم. ومنها: تفضيل الناس في العطاء والاقتصار بهم على أدنى المنازل. ومنها: عقد الرايات والولايات لمسلمية الفتح (2) والمؤلفة قلوبهم ومكيدي الاسلام من بني أمية، وبني مخزوم، وغيرهما، والاعراض عنهم واجتناب تأهيلهم
لشئ من ذلك (3). ومنهم (4): موالاة المعروفين ببغضهم وحسدهم وتقديمهم على رقاب العالم كمعاوية، وخالد، وأبي عبيدة، والمغيرة، وأبي موسى، ومروان، وعبد الله بن أبي سرح، وابن كريز. ومن ضارعهم في عداوتهم، والغض (5) من المعروفين بولايتهم وقصدهم بالاذى كعمار، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وأبي بن كعب، وابن مسعود. ومن شاركهم في التخصص (6) بولايتهم عليهم الصلاة والسلام. ومنها: قبض أيديهم عن فدك مع ثبوت استحقاقهم لها على ما بيناه. وإباحة معاوية الشام، وأبي موسى العراق، وابن كريز البصرة، وابن أبي صرح [كذا] مصر والمغرب. وأمثالهم من المشهورين بكيد الاسلام وأهله. وتأمل هذا بعين إنصاف يكشف لك عن شديد عداوتهم وتحاملهم عليهم كأمثاله من الافعال الدالة على تميز العدو من الولي، ولا وجه لذلك إلا تخصصهم بصاحب الشريعة صلوات الله عليه وعلى آله في النسب، وتقدمهم لديه في
(1) في المصدر: دعوى، وهي نسخة بدل (س) من البحار. (2) في (س): المسلمية الفتح. وفي المصدر: لمسلمة القبح. وجعل فيه: الفتح نسخة. (3) في (س): من شئ ذلك. (4) في تقريب المعارف: وفيه. ، والانسب: ومنه. (5) جاء في حاشية (ك): غض منه: نقص من قدره، منه قدس سره. انظر: القاموس 2 / 338، والصحاح 3 / 1095. (6) في (ك): في التخصيص.
[378]
الدين، وبذل (1) الجهد في طاعته، والمبالغة في نصيحته (2) ونصرة ملته بما لا يشاركون فيه، وفي هذا ما لا يخفى ما فيه على متأمل.
ثم قال (3): ومما يقدح في عدالتهم ما حفظ عن وجوه الصحابة وفضلاء السابقين والتابعين من الطعن عليهم وذم أفعالهم والتصريح بذمهم وتصريحهم بذلك عند الوفاة، وتحسرهم على ما فرط منهم، فأما أقوال الصحابة والتابعين ما حفظ عن أمير المؤمنين عليه السلام من التظلم منهم والتصريح والتلويح بتقدمهم عليه بغير حق في مقام بعد مقام، كقوله - حين أرادوه بالبيعة لابي بكر -: والله أنا لا أبايعكم وأنتم أحق بالبيعة لي. وقوله عليه السلام: يابن أم ! إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. ثم ذكر ما مر من تظلماته وشكاياته صلوات الله عليه. ثم قال: ومنه ما روي عن الاصبغ بن نباتة ورشيد الهجري وأبي كدبية الاسدي [كذا] وغيرهم من أصحاب علي عليه السلام بأسانيد مختلفة - قالوا: كنا جلوسا في المسجد إذ خرج علينا أمير المؤمنين عليه السلام من الباب الصغير يهوي بيده عن يمينه يقول: أما ترون ما أرى ؟ !. قلنا: يا أمير المؤمنين ! وما الذي ترى ؟. قال: أرى أبا بكر عتيقا في سدف النار يشير إلي بيده يقول: استغفر لي، لا غفر الله له، وزاد أبو كديبة [كذا]: إن الله لا يرضى عنهما حتى يرضياني، وأيم الله لا يرضياني أبد. وسئل عن السدف ؟ فقال: الوهدة العظيمة.
(1) في المصدر: وتحققهم من بذل. (2) الكلمة في (س) مشوشة. (3) أقول: من هنام لم يطبع في الطبعة المحققة، مع أنه ذكر في مقدمة الكتاب أن هذا القسم موجود عند المحقق - ولعله لمصالحه الخاصة ولحفظ موقعيته السياسية - لم يطبعه، وقد ذكر في صفحة: 26 في عده لفهرس القسم الثاني من الخطية: 74 - 83 عين ما ذكر هنا: قال: ومما يقدح في عدالة الخلفاء الثلاثة ما حفظ. . ثم قال: وفي ذلك الباب نحو من ثمانين رواية، وفيها روايات طريفة جد. (*)
[379]
قال: ورووا عن الحارث الاعور، قال: دخلت على علي عليه السلام - في بعض الليل -، فقال لي: ما جاء بك في هذه الساعة ؟. قلت: حبك يا أمير المؤمنين قال: الله. ؟. قلت: الله. قال: ألا أحدثك بأشد الناس عداوة لنا وأشدهم عداوة لمن أحبنا ؟. قلت: بلى يا أمير المؤمنين، أما والله لقد ظننت ظن. قال: هات ظنك. قلت: أبو بكر وعمر. قال: أدن مني يا أعور، فدنوت منه، فقال: إبرأ منهم. برئ الله منهم. وفي رواية أخرى: إني لاتوهم توهما فأكره أن أرمي به بريئا، أبو بكر وعمر. فقال: اي والذي فلق الحبة وبرأ النسمة انهما لهما (1) ظلماني حقي ونغصاني (2) ريقي وحسداني وآذياني، وانه ليوذي أهل النار ضجيجهما ورفع أصواتهما وتعيير رسول الله صلى الله عليه وآله إياهم. قال: ورووا عن عمارة، قال: كنت جالسا عند أمير المؤمنين (ع) و (3) هو في ميمنة مسجد الكوفة وعنده الناس، إذ أقبل رجل فسلم عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين ! والله إني لاحبك. فقال: لكني واللهما أحبك، كيف حبك لابي بكر وعمر ؟. فقال: والله إني لاحبهما حبا شديد. قال: كيف حبك لعثمان ؟. قال: قد رسخ حبه في السويداء من قلبي. فقال علي عليه السلام: أنا أبو الحسن. . الحديث (4). قال: ورووا عن سفيان، عن فضيل بن الزبير، عن نقيع، عن أبي كديبة (5) الازدي، قال: قام رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فسأله عن قول الله
(1) كذا، والظاهر زيادة: لهما، هن. (2) في (س): نقصاني. قال في مجمع البحرين 4 / 186: يقال: نغص عليه العيش تنغيصا: كدره. (3) لا توجد الواو في (ك).
(4) لا توجد كلمة: الحديث، في (س). (5) وتقرأ في (س): كذيبة - بالذال المعجمة -.