[420]

عرفت.
السادس: إن إمارة الحاج لا تستلزم خطابة حتى يلزم استماع المأمورين فضلا عن استماع من بعث لقراءة الآيات على مشركي مكة.
السابع: لو كان غرض الرسول صلى الله عليه وآله بيان فضل أبي بكر وعلو درجته - حيث جعله سائقا لاهل الموسم ورافعا لهم - لكان الانسب أن يجعل عليا عليه السلام من المأمورين بأمره أولا، أو يبعثه أخيرا ويأمره بإطاعة أمره والانقياد له، لا أن يقول له خذ البراءة منه حتى يفزع الامير ويرجع إليه صلى الله عليه وآله خائفا ذعرا من أن يكون نزل فيه ما يكون سببا لفضيحته (1) وبروز كفره ونفاقه، كما يدل عليه قوله: أنزل في شئ ؟ ! وجوابه صلى الله عليه وآله، كما لا يخفى على المتأمل.
الثامن: إن ذلك لو كان منبها على إمامة أبي بكر دالا على فضله لقال له رسول الله صلى الله عليه وآله - لما رجع جزعا فزعا -: يا لكع ! أما علمت أني ما أردت بذلك إلا تنويها بذكرك وتفضيلا لك على علي عليه السلام وتنبيها على إمامتك ؟ ! وكيف خفي ذلك على أبي بكر مع حضوره الواقعة واطلاعه على القرائن الحالية والمقالية، وكذا على أتباعه والقائلين بإمامته، ولم يفهمه أحد سوى الرازي وأشباهه.
وأما ما تشبث به المخالفون في مقام الدفع والمنع: فمنها: إنكار عزل أبي بكر عن أداء الآيات كما فعل عباد بن سليمان والشارح الجديد للتجريد (2).
وأضرابهم.
وأيده بعضهم بأنه لو عزل أبا بكر عن التأدية قبل الوصول إلى موضعها لزم فسخ الفعل قبل وقته وهو غير جائز.
(1) في (س): لفضيحة - بلا ضمير -.
(2) شرح التجريد للقوشجي: 372 - الحجرية -.

[421]

وأنت بعد الاطلاع على ما سيأتي من أخبار الجانبين في ذلك لا ترتاب في أن ذلك الانكار ليس إلا للجهل الكامل بالآثار، وللتعصب المفرط المنبئ عن خلع الغدار (1)، وقد اعترف قاضي القضاة (2) ببطلان ذلك الانكار لاقرار الثقات من علمائهم بعزله وشهادة الاخبار به.
وقال ابن أبي الحديد (3): روى طائفة عظيمة من المحدثين أنه لم يدفعها إلى أبي بكر، لكن الاظهر الاكثر أنه دفعها إليه ثم أتبعه بعلي عليه السلام فانتزعها منه.
انتهي.
ولم نظفر في شئ من رواياتهم بما يدل على ما حكاه، وكان الانسب أن يصرح بالكتاب والراوي حتى لا يظن به التعصب والكذب.
وأما حديث النسخ، فأول ما فيه إنا لا نسلم عدم جوازه، وقد جوزه جمهور الاشاعرة وكثير من علماء الاصول، سلمناه لكن لا نسلم أمره صلوات الله عليه أبا بكر بتبليغ الآيات، ولعله أمره بحملها إلى ورود أمر ثان، أو تبليغها لو لم يرد أمر بخلافه، ولم يرد في الروايات أمر صريح منه صلى الله عليه وآله بتبليغ أبي بكر إياها مطلقا، وورود النهي عن التأدية لا يدل على سبق الامر بها ككثير النواهي، ولئن سلمنا ذلك لا نسلم كون الامر مطلقا - وإن لم يذكر الشرط -، لجواز كونه منويا وإن لم تظهر الفائدة.
فإن قيل: فأي فائدة في دفع السورة إلى أبي بكر وهو لا يرى أن يؤديها، ثم ارتجاعها ؟ وهلا دفعها ابتداء إلى (4) علي عليه السلام ؟.
قلنا: الفائدة ظهور فضل أمير المؤمنين عليه السلام ومزيته، وأن الرجل الذي نزعت منه السورة لا يصلح له، وقد وقع التصريح بذلك في بعض الاخبار
(1) الكلمة مشوشة في (س).
(2) في كتابه المغني - الجزء المتمم للعشرين -: 350، وقد ذكره عنه في الشافي 4 / 153.
(3) في شرحه على نهج البلاغة 17 / 200، بتصرف واختصار.
(4) في (س): على، بدلا من: إلى.

[422]

وإن كان يكفينا الاحتمال.
ومنها: ما اعتذر به الجبائي (1)، قال: لما كانت عادة العرب أن سيدا من سادات قبائلهم إذا عقد عهدا لقوم فإن ذلك العقد لا ينحل إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه، فعدل رسول الله صلى الله عليه وآله عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين عليه السلام حذرا من أن لا يعتبروا نبذ العهد من أبي بكر لبعده في النسب.
وتشبث به جل من تأخر عنه كالفخر الرازي (2)، والزمخشري (3) والبيضاوي (4) وشارح التجريد (5).
وغيرهم (6).
ورد عليهم أصحابنا (7) بأن ذلك كذب صريح وافتراء على أصحاب الجاهلية والعرب، ولم يعرف في زمان من الازمنة أن يكون الرسول - سيما لنبذ العهد - من سادات القوم وأقارب العاقد، وإنما المعتبر فيه أن يكون موثوقا به، مقبول القول ولو بانضمام قرائن الاحوال، ولم ينقل هذه العادة من العرب أحد من أرباب السير ورواة الاخبار، ولو كانت موجودة في رواية أو كتاب لعينوا موضعها، كما هو الشأن في مقام الاحتجاج.
وقد اعترب ابن أبي الحديد (8) بأن ذلك غير معروف عن عادة العرب، وإنما
(1) كما في المغني، الجزء المتمم للعشرين: 351، وحكاه في الشافي 4 / 155، وأجاب عنه.
(2) في تفسيره 15 / 218.
(3) في كشافه 2 / 172.
(4) في تفسيره 1 / 405 في سورة البراءة.
(5) شرح التجريد: 372 - الحجرية -.
(6) مثل ابن كثير في تفسيره 2 / 345، والقرطبي في جامع أحكام القرآن 8 / 61، وصاحب تفسير بحر المحيط 5 / 7، وغيرهم.
(7) قد مرت مصادر متعددة، ونذكر هنا مثالا: الشافي 4 / 150، والصراط المستقيم 2 / 6، وتلخيص الشافي 2 / 233.
(8) في شرحه على نهج البلاغة 17 / 200 بتصرف، وقال قبله: فالذي قاله المرتضى أصح وأظهر.

[423]

هو تأويل تأول به متعصبوا أبي بكر لانتزاع البراءة منه، وليس بشئ.
انتهى.
ومما يدل على بطلانه، أنه لو كان ذلك معروفا من عادة العرب لما خفي على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى بعث أبا بكر، ولا على أبي بكر وعمر العارفين بسنن الجاهلية الذين يعتقد المخالفون أنهما كانا وزيري رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه كان لا يصدر عن شئ ولا يقدم على أمر إلا بعد مشاورتهما واستعلام رأيهما، ولو كان بعث أمير المؤمنين عليه السلام استدراكا لما صدر عنه على الجهل بالعادة المعروفة أو الغفلة عنها، لقال الله له: اعتذر إلى أبي بكر، وذكره عادة الجاهلية حتى لا يرجع خائفا يترقب نزول شئ فيه، أو كان يعتذر إليه بنفسه صلى الله عليه وآله بعد رجوعه، بل لو كان كذلك فما غفل عنها الحاضرون من المسلمين حين بعثه والمطلعون عليه، ولا احتاج صلى الله عليه وآله إلى الاعتذرا بنزول جبرئيل لذلك من عند الله تعالى.
وقال ابن أبي الحديد (1) - في مقام الاعتذار، بعد رد اعتذار القوم بما عرفت -: لعل السبب في ذلك أن عليا عليه السلام من بني عبد مناف، وهم جمرة (2) قريش بمكة، وعلي أيضا شجاع لا يقام له، وقد حصل في صدور قريش منه (3) الهيبة الشديدة والمخافة العظيمة، فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل وحوله من بني عمه من (4) هم أهل العز والقوة والحمية، كان أدعى إلى نجاته من قريش وسلامة نفسه، وبلوغ الغرض من نبذ العهد على يده.
ولا يخفى عليك أنه تعليل عليل، إذ لو كان بعث أمير المومنين عليه السلام باجتهاد منه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الغرض سلامة من أرسل لتبليغ
(1) في شرحه على النهج 17 / 200.
(2) قال في النهاية 1 / 292: وبنو فلان جمرة: إذا كانوا أهل منعة وشدة.
والجمرة: اجتماع القبيلة على من ناواه.
(3) لا توجد: منه، في (س).
(4) في المصدر: و، بدلا من: من.

[424]

الآيات ونجاته كان الاحرى أن يبعث عمه العباس أو عقيلا أو جعفرا أو غيرهم من بني هاشم ممن لم يلتهب في صدور المشركين نائرة حقده لقتل آبائهم وأقاربهم، لامن كانوا ينتهزون الفرصة لقتله والانتقام منه بأي وجه كان، وحديث الشجاعة لا ينفع في هذا المقام، إذ كانت آحاد قريش تجترى عليه صلوات الله عليه في المعارك والحروب، فكيف إذا دخل وحده بين جم غفير من المشركين ؟ !.
وأما من جعله من الدافعين الذابين عنه عليه السلام من أهل مكة فهم كانوا أعاظم أعاديه وأكابر معانديه، وأيضا لو كان الغرض ذلك (1) لكان الانسب أن يجعله أميرا على الحاج كما ذهب إليه قوم من أصحابنا، لا كما زعموه من أنه لم يعزل أبا بكر عن الامارة بل جعله مأمورا بأمره، كما مر.
بل نقول: الاليق بهذا الغرض بعث رجل حقير النفس خامل الذكر في الشجاعة من غير الاقارب حتى لا يهموا بقتله، ولا يعدوا الظفر عليه انتقاما وثأرا لدماء من قتل الرسول صلى الله عليه وآله من عشيرتهم وذوي قراباتهم، مع أنه لم تجر العادة بقتل من بعث إلى قوم لاداء رسالة، لا سيما إذا كان ميتا في الاحياء، غير معروف إلا بالجبن والهرب، وكيف لم يستشعر النبي صلى الله عليه وآله بذلك الذي ذكره حتى أرسل أبا بكر ثم عزله ؟ ! وكيف اجترأ أبو بكر حتى عرض نفسه للهلكة مع شدة جبنه ؟ ! وكيف غفل عنه عمر بن الخطاب - الوزير بزعمهم المشير في عظائم الامور ودقائقها - مع شدة حبه لابي بكر ؟.
ولو كان الباعث ذلك لافصح عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله أو غيره بعد رجوع أبي بكر أو قبله كما سبق التنبيه على مثله، هذا مع كون تلك التعليلات مخالفة لما صرح به الصادقون، الذين (2) هم أعرف بمراد الرسول صلى الله عليه وآله من ابن أبي الحديد والجبائي ومن اقتفى أثرهم.
(1) في (ك): منه، نسخة بدل: من ذلك.
(2) في (س): الذي، وقد تقرأ في (ك) كذلك، وما أثبتناه أظهر.

[425]

وقد حكى في كتاب الصراط المستقيم (1)، عن كتاب المفاضح (2) أن جماعة قالوا لابي بكر: أنت المعزول والمنسوخ من الله ورسوله صلى الله عليه وآله عن أمانة واحدة، وعن راية خيبر، وعن جيش العاديات، وعن سكنى المسجد، وعن الصلاة (3)، ولم ينقل أنه أجاب وعلل بمثل هذه التعليلات.
والعجب من هؤلاء المتعصبين الذين يدفعون منقصة عن مثل أبي بكر بإثبات جهل أو غفلة عن عادة معروفة أو مصلحة من المصالح التي لا يغفل عنها آحاد الناس للرسول المختار الذي لا ينطق عن الهوى، وليس كلامه إلا وحيا يوحى، أو لا يجوز (4) عليه السهو والنسيان، بل يثبتون ذلك له ولجميع أصحابه، نعوذ بالله من التورط في ظلم الضلالة والانهماك في لجج الجهالة.
وأعجب من ذلك أنهم يجعلون تقديم أبي بكر للصلاة نصا صريحا لخلافته - مع ما قد عرفت مما فيه من وجوه السخافة - ويتوقفون في أن يكون مثل هذا التخصيص والتنصيص والكرامة موجبا لفضيلة له عليه السلام، مع أنهم رووا أن جبرئيل عليه السلام قال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك (5).
فإما أن يراد به الاختصاص التام الذي كان بين الرسول صلى الله عليه وآله وبين أمير المؤمنين عليه السلام كما يدل عليه ما سيأتي (6) ومضى (7) من الروايات
(1) كتاب الصراط المستقيم 2 / 7.
(2) في المصدر: الفاضح.
(3) ثم قال في الصراط المستقيم: فكيف تولى في الامور العامات والخاصات وليس للامة تولية من عزله الله في السماء ورسول الله في الارض.
(4) كذا، والظاهر: ولا يجوز - بالواو -.
(5) قد مرت مصادره، وجاء في الملل والنحل 1 / 144، وفي الارشاد للشيخ المفيد: 37، وأورده في إحقاق الحق 5 / 242 - 255، و 6 / 443، و 7 / 390، و 9 / 269 - 481، عن عدة مصادر عامية، وذكره في كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة 1 / 168.
(6) سيأتي من المصنف - قدس سره - في بحاره 37 / 80 و 40 / 18.
(7) قد مرت في البحار 24 / 88، و 25 / 29، و 26 / 3، و 4، وغيره.

[426]

الواردة في أنهما كانا من نور واحد، وما اتفقت عليه الخاصة والعامة من أنه لما وقع منه عليه السلام ما وقع يوم أحد، قال جبرئيل: يا محمد ! إن هذه لهي المواساة.
فقال صلى الله عليه وآله: إنه مني وأنا منه.
فقل جبرئيل: وأنا منكما (1) ولم يقل: وإنكما مني.
رعاية للادب وتنبيها على شرف منزلتهما، وقوله تعالى: * (وأنفسنا وأنفسكم) * (2) في آية المباهلة (3)، وقوله صلى الله عليه وآله لبني وليعة (4): لابعثن إليكم رجلا كنفسي.
(5) وغير ذلك مما سيأتي.
وأما أن يراد به الاختصاص الذي نشأ من كونه عليه السلام من أهل بيت الرسالة، ويناسبه ما ورد في بعض الروايات: لا ينبغي أن يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي (6)، أو ما نشأ من كثرة المتابعة وإطاعة الاوامر كما فهمه بعض الاصحاب وأيده بقوله تعالى: * (فمن تبعني فإنه مني) * (7) وعلى أي التقادير يدل على أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يصلح للاداء عن الرسول صلى الله عليه وآله، وكلما كان هذا الاختصاص أبلغ في الشرف كان أكمل في إثبات الفضيلة
(1) كما جاء في تاريخ الطبري 2 / 514، وتاريخ الكامل لابن الاثير 2 / 154 وذيلهما حري بالملاحظة، وتفسير الفرات الكوفي: 22، وكتاب عيون أخبار الرضا (ع) 1 / 81 - 85، حديث 9، وإرشاد المفيد: 543 - 548، وقد ورد مواساة أمير المؤمنين عليه السلام في غزوة أحد في موراد مختلفة من بحار الانوار، منها: 20 / 54 و 55 و 69 و 71 و 85 و 95 و 105 و 107 و 108 و 112 و 113 و 129 و 144، و 39 / 111.
(2) ابراهيم: 36.
(3) قد فصل المصنف - قدس سره - البحث فيها في بحاره: 21 / 276، و 37 / 49.
(4) قال في القاموس 3 / 97: بنو وليعة - كسفينة -: حي من كندة.
(5) كما جاء في مستدرك الصحيحين 2 / 120، وخصائص النسائي 19، ومجمع الهيثمي 7 / 110، وكنز العمال 6 / 400، والاستيعاب 2 / 464، وتفسير الكشاف في تفسير قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق.
) * الخ من سورة الحجرات، وغيرها كثير.
(6) كما جاء في عيون أخبار الرضا (ع) 2 / 61، باب 31، حديث 243، وعلل الشرائع 1 / 189، باب 150، حديث 1، وتلاحظ بقية روايات الباب، وإرشاد المفيد: 37.
(7) آل عمران: 61.

[427]

لامير المؤمنين عليه السلام، وكلما ضايق الخصم في كماله كان أتم في إثبات الرذيلة لابي بكر، فلا نتربص في ذلك إلا إحدى الحسنيين كما ذكره بعض الافاضل.
ثم إن المفعول المحذوف في هذا الكلام، إما أن يكون أمرا عاما - كما يناسب حذفه - خرج ما خرج منه بالدليل فبقي حجة في الباقي، أو يكون أمرا خاصا هو تبليغ أوامر المهمة، أو يخص بتبليغ تلك الآيات، كما ادعى بعض (1) العامة، وعلى التقادير الثلاثة يدل على عدم استعداد أبي بكر لاداء الاوامر عامة عن الرسول صلى الله عليه وآله، أما على الاول فظاهر، وكذا على الثاني، لاشتمال الخلافة على تبليغ الاوامر المهمة، وأما على الثالث فلان من لم يصلح لاداء آيات خاصة وعزل عنه بالنص الالهي كيف يصلح لنيابة الرسول الله صلى الله عليه وآله في تبليغ الاحكام عامة، ودعوة الخلائق كافة ؟ !.
ولنكتف بذلك حذرا من الاطناب، وسيأتي تمام الكلام في ذلك في أبواب فضائله عليه السلام إن شاء الله تعالى (2).
الطعن الثاني: التخلف عن جيش أسامة.
قال أصحابنا رضوان الله عليهم: كان أبو بكر وعمر وعثمان من جيش أسامة (3)، وقد كرر رسول الله صلى الله عليه وآله - لما اشتد مرضه - الامر بتجهيز جيش أسامة ولعن المتخلف عنه (4)، فتأخروا عنه واشتغلوا بعقد البيعة في سقيفة بني ساعدة، وخالفوا أمره، وشملهم اللعن، وظهر أنهم لا يصلحون للخلافة.
قالوا: ولو تنزلنا عن هذا المقام وقلنا بما ادعاه بعضهم من عدم كون أبي بكر
(1) في (س): كما ورد عن بعض.
(2) بحار الانوار 38 / 195 - 458، والمجلد الذي يليه.
(3) في (س): من جيشه، بدلا من: من جيش أسامة.
(4) كما في الطرائف 2 / 449، تلخيص الشافي 3 / 32، الشافي 4 / 144، وغيره.

[428]

من الجيش.
نقول: لا خلاف في أن عمر منهم، وقد منعه أبو بكر من النفوذ معهم، وهذا كالاول في كونه معصية ومخالفة للرسول صلى الله عليه وآله.
أما أنهم كانوا من جيش أسامة، فلما ذكره السيد الاجل رضي الله عنه في الشافي (1) من: أن كون أبي بكر في جيش أسامة، قد (2) ذكره أصحاب السير والتواريخ (3): قال روى البلاذري في تاريخه (4) - وهو معروف ثقة كثير الضبط وبرئ (5) من ممالاة الشيعة -: أن أبا بكر وعمر كانا معا في جيش أسامة.
وروى سعيد بن محمد بن مسعود الكازراني - من متعصبي الجمهور - في تاريخه (6) أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم لاربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة، فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد، فقال له: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم مد (7) الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فلما كان يوم الاربعاء بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله فحم وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لاسامة لواء بيده، ثم قال: أغز بسم الله في سبيل الله، فقاتل من كفر بالله.
فخرج وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والانصار إلا
(1) الشافي: 246 - الحجرية، و 4 / 147 - المحققة -.
(2) في (ك): وقد.
(3) نص على ذلك ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1 / 159، تاريخ الطبري 3 / 186، تاريخ ابن عساكر - في ترجمة أسامة - 2 / 391، طبقات ابن سعد 2 / 41، حياة محمد (ص) ل‍: محمد حسنين هيكل: 483، سيرة ابن هشام 2 / 650، كنز العمال 5 / 312، تاريخ اليعقوبي 3 / 93، تاريخ الخميس 2 / 172.
(4) لم نجده في المقدار المطبوع من تاريخ البلاذري، وحكاه في الشافي وتلخيصه.
(5) قد تقرأ الكلمة في (س): تبرئ.
(6) تاريخ الكازراني.
أقول: لعله لعلي بن محمد بن محمود الكازروني ظهير الدين (611 - 697 ه‍)، يعد مؤرخا، وله جملة مصنفات في التاريخ وغيره، ولا أعلم بطبع تاريخه - مع كل ما بحثت عنه - كما لم يدرجه المصنف (طاب ثراه) في أول كتابه من مصادره ولعله نقل عن غيره.
(7) وضع على كلمة: مد، رمز نسخة بدل في (ك).
(*)

[429]

انتدب في تلك الغزاة، فيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة وقتادة بن النعمان، فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الاولين ؟ ! فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله غضبا شديدا، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس ! فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيم الله إنه كان للامارة لخليقا، وإن ابنه من بعده لخليق للامارة، وإن (1) كان لمن أحب الناس إلى فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم.
ثم نزل فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الاول، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلى الله عليه وآله ويمضون إلى العسكر بالجرف، وثقل رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما كان يوم الاحد اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وجعه، فدخل أسامة من معسكره والنبي صلى الله عليه وآله مغمى عليه، وفي رواية: قد أصمت وهو لا يتكلم فطأطأ رأسه فقبله رسول الله صلى الله عليه وآله، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة.
قال: فعرفت أنه يدعو لي، ورجع أسامة إلى معسكره، فأمر الناس بالرحيل، فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه - أم أيمن - قد جاءه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله يموت.
إلى آخر القصة.
وذكر ابن الاثير في الكامل (2) أن في المحرم من سنة إحدى عشرة ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله بعثا إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد.
وذكر بعض ما مر، وصرح بأنه كان منهم أبو بكر وعمر، قال: وهما ثبتا (3) الناس على الرضا
(1) كذا، والظاهر: وانه.
(2) الكامل في التاريخ لابن الاثير 2 / 334 - 336.
(3) قال في الصحاح 1 / 245: واثبته غيره وثبته بمعنى، ويقال أثبته السقم: إذا لم يفارقه، وقوله تعالى: (ليثبتوك).
أي يجرحوك جراحة لا تقوم معها، ونحوه في لسان العرب 2 / 19 - 20.
وعليه = = فيحتمل أن يكون المعنى: أنهما يجرحان الناس ويعيبان عليهم لرضايتهم بإمارة أسامة.
ويحتمل أن العبارة هكذا: ثبطا الناس عن الرضا أو تبطئ.

[430]

بإمارة أسامة.
وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج (1)، عن احمد بن عبد العزيز الجوهري، عن احمد بن سيار، عن سعيد بن كثير، عن عبد الله بن عبد الله (2) بن عبد الرحمن (3)، أن رسول الله صلى الله عليه وآله في مرض موته أمر أسامة بن زيد ابن حارثة على جيش فيه جلة المهاجرين والانصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ابن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير، وأمره أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد، وأن يغزوا وادي فلسطين، فتثاقل أسامة وتثاقل الجيش بتثاقله، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يثقل (4) ويخف ويؤكد القول فيي تنفيذ ذلك البعث، حتى قال له أسامة: بأبي أنت وأمي ! أتأذن لي أن أمكث أياما حتى يشفيك الله تعالى.
فقال: اخرج وسر على بركة الله تعالى.
فقال: يا رسول الله (ص) ! إني إن خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة منك.
فقال: سر على النصر والعافية.
فقال:: يا رسول الله (ص) ! إني أكره أن أسأل عنك الركبان.
فقال: أنفذ لما أمرتك به.
ثم أغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله، وقام أسامة فجهز (5) للخروج، فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وآله سأل عن أسامة والبعث، فأخبر أنهم يتجهزون، فجعل يقول: أنفذوا جيش (6) أسامة،
(1) شرح النهج 6 / 52.
(2) وضع على كلمة: عبد الله، رمز نسخة بدل في (ك)، ولا توجد في المصدر.
(3) جاء السند في شرح النهج: قال أبو بكر: حدثنا احمد بن اسحاق بن صالح عن احمد بن سيار عن سعيد بن كثير الانصاري عن رجاله عن عبد الله بن عبد الرحمن.
(4) في المصدر: في مرضه يثقل.
(5) في المصدر: فتجهز.
(6) جاء في شرح النهج: بعث، بدلا من: جيش، وهي نسخة بدل في (ك).

[431]

لعن الله من تخلف عنه.
ويكرر (1) ذلك، فخرج أسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه، حتى إذا كان بالجرف نزل ومعه أبو بكر وعمر وأكثر المهاجرين، ومن الانصار: أسيد بن حضير (2) وبشر (3) بن سعد.
وغيرهم من الوجوه، فجاءه رسول أم أيمن يقول له: ادخل فإن رسول الله (ص) يموت، فقام من فوره فدخل المدينة واللواء معه، فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله صلى الله عليه وآله ورسول الله صلى الله عليه وآله قد مات في تلك الساعة، قال: فما كان أبو بكر وعمر يخاطبان أسامة إلى أن مات إلا ب‍: الامير.
وروى الطبري في المسترشد (4) - على ما حكاه في الصراط المستقيم (5) - أن جماعة من الصحابة كرهوا إمارة (6) أسامة فبلغ النبي صلى الله عليه وآله ذلك فخطب وأوصى (7) ثم دخل بيته، وجاء المسلمون يودعونه فيلحقون (8) بأسامة، وفيهم أبو بكر وعمر، والنبي صلى الله عليه وآله يقول: أنفذوا جيش أسامة، فلما بلغ الجرف بعثت أم أسامة - وهي أم أيمن - أن النبي صلى الله عليه وآله يموت، فاضطرب القوم وامتنعوا عليه ولم ينفذوا لامر رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم بايعوا لابي بكر قبل دفنه.
وقال في الصراط المستقيم (9) - أيضا - أسند الجوهري في كتاب السقيفة أن أبا بكر وعمر كانا فيه.
(1) في المصدر: كرر، ونسخة بدل: تكرر.
(2) حصر، بدلا من: حضير، جاءت في (س)، وهي غلط.
(3) في شرح النهج: بشير - بالباء -.
(4) المسترشد: 1 و 2، مع اختلاف يسير وتلخيص.
(5) الصراط المستقيم 2 / 296 - 297.
(6) خط على كلمة: إمارة، في (س)، وفي المصدر بدلا منها: تأمير.
(7) في الصراط: وأوصى به.
(8) في الصراط: ويلحقون.
(9) الصراط المستقيم 2 / 298.

[432]

وقال (1): حدث الواقدي، عن ابن أبي الزياد (2)، عن هشام بن عورة أن أباه قال: كان فيهم أبو بكر.
قال: وحدث - أيضا - مثله، عن محمد بن عبد الله بن عمر.
وذكره البلاذري في تاريخه، والزهري، وهلال بن عامر، ومحمد بن إسحاق، وجابر، عن الباقر عليه السلام.
ومحمد بن أسامة، عن أميد (3).
ونقلت الرواة أنهما كانا في حال خلافتهما يسلمان على أسامة بالامرة.
وفي كتاب العقد (4): اختصم أسامة وابن عثمان في حائط، فافتخر ابن عثمان، فقال أسامة: أنا أمير على أبيك وصاحبيه (5)، أفإياي تفاخر ؟ !، ولما بعث أبو بكر إلى أسامة يخبره بخلافته (6)، قال: أنا ومن معي ما وليناك أمرنا، ولم يعزلني رسول الله صلى الله عليه وآله عنكما، وأنت وصاحبك بغير إذني رجعتما، وما خفي على النبي صلى الله عليه وآله موضع، وقد ولاني عليكما ولم يولكما، فهم الاول أن يخلع نفسه فنهاه الثاني، فرجع أسامة ووقف بباب المسجد وصاح: يا معاشر المسلمين ! عجبا لرجل استعملني رسول الله صلى الله عليه وآله فعزلني وتأمر علي (7)، انتهى كلامه.
وقال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل (8) - عند ذكر الاختلافات الواقعة في مرض النبي صلى الله عليه وآله -: الخلاف الثاني: أنه صلى الله عليه وآله قال: جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عن جيش
(1) في الصراط المستقيم 2 / 297.
(2) في المصدر: ابن أبي الزناد - بالنون -، وهو الظاهر.
(3) في الصراط المستقيم: عن أبيه، بدلا من: عن أمية.
(4) الصراط المستقيم 2 / 297، ولم نجده في العقد الفريد المطبوع.
(5) في (س): وصاحبه.
ولا توجد همزة الاستفهام التالية في المصدر.
(6) في المصدر: إلى أسامة أنه خليفة.
(7) في الصراط: استعلمني عليه فتآمر علي وعزلني.
(8) الملل والنحل 1 / 29 (وفي طبعة دار المعرفة 1 / 23).

[433]

أسامة (1).
فقال: قوم (2) يجب علينا إمتثال أمره، وأسامة قد برز من المدينة.
وقال قوم: قد اشتد مرض النبي صلى الله عليه وآله فلا تسع قلوبنا لمفارقته والحال (3) هذه، فنصبر حتى نبصر أي شئ يكون من أمره ؟، انتهى.
وصرح صاحب روضة الاحباب (4)، بأن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا من جيش أسامة.
وقال الشيخ المفيد قدس الله روحه في كتاب الارشاد (5): لما تحقق لرسول الله صلى الله عليه وآله من دنو أجله ما كان قدم (6) الذكر به لامته،، فجعل صلى الله عليه وآله يقوم مقاما بعد مقام في المسلمين يحذرهم الفتنة بعده والخلاف عليه، ويؤكد وصاءتهم (7) بالتسمك بسنته (8) والاجماع عليها والوفاق، ويحثهم على الاقتداء بعترته والطاعة لهم والنصرد والحراسة والاعتصام بهم في الدين، ويزجرهم
(1) في الملل والنحل: من تخلف عنه.
(2) في (ك): يا قوم.
(3) في المصدر: والحالة.
(4) روضة الاحباب.
أقول: الذي يظهر - كما سيصرح قريبا - أنه من كتب العامة، ولا نعرف للخاصة بهذا الاسم إلا ما ألفه السيد الامير جمال (جلال) الدين عطاء الله بن فضل الله بن عبد الرحمن الحسيني النيسابوري الدشتكي الملقب ب‍: الامير جمال الدين المحدث الشيرازي، وهو (في سيرة النبي (ص) والآل والاصحاب) المتوفى حدود سنة 953 ه‍، فارسي، في ثلاث مجلدات، كتب بأمر الامير علي شير الوزير في هراة، وفرغ منه سنة 953 ه‍، ومع هذا فقد راجعته ولم أجد ما نقله المصنف طاب ثراه منه إلا مورد واحد سنذكره فيما بعد، ولم يذكره المصنف في مصادره، وهناك كتاب مطبوع بهذا الاسم باللغة التركية في مكتبة السيد النجفي المرعشي أستبعد كونه هو، فلاحظ.
(5) الارشاد: 96 - 98.
(6) في (ك): ندم، ولا معنى له.
(7) كذا، والظاهر: وصايتهم - بالياء - وهي اسم كالوصية.
(8) جاء في (س): وسنته.

[434]

عن الاختلاف (1) والارتداد.
وساق الكلام إلى (2) قوله: ثم أنه عقد لاسامة بن زيد (3) الامرة، وأمره وندبه أن يخرج بجمهور الامة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم، واجتمع رأيه صلى الله عليه وآله على إخراج جماعة من مقدمي المهاجرين والانصار في معسكره - حتى لا يبقى في المدينة عند وفاة من يختلف في الرئاسة، ويطمع في التقدم على الناس بالامارة - ليستتب (4) الامر بعده لمن استخلفه من بعده، ولا ينازعه في حقة منازع، فعقد له الامرة على ما ذكرناه، وجد صلى الله عليه وآله في إخراجهم، وأمر أسامة بالبروز عن المدينة بعسكره (5) إلى الجرف، وحث الناس على خروج إليه، والمسير معه وحذوهم (6) من التلوم والابطاء عنه، فبينا (7) هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيه.
وساق الحديث إلى قوله: واستمر المرض به أياما وثقل، فجاء بلال عند صلاة الصبح - ورسول الله مغمور بالمرض -، فنادى: الصلاة يرحمكم الله، فأوذن رسول الله صلى الله عليه وآله بندائه، فقال: يصلي بالناس بعضهم فإني مشغول بنفسي، فقالت عائشة: مروا أبا بكر، وقالت حفصة: مروا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله - حين سمع كلامهما، ورأى حرص كل واحدة منهما على التنويه (8) بأبيها، وافتتانهما بذلك، ورسول الله صلى الله عليه وآله حي - أكففن فإنكن كصويحبات يوسف،
(1) في المصدر: الخلاف.
(2) في (ك): في، بدلا من: إلى.
(3) جاء في المصدر: لاسامة بن زيد بن الحارثة.
(4) قال في لسان العرب 1 / 226: إستتب الامر: تهيأ واستوى، واستتب أمر فلان: إذا اطرد واستقام وتبين.
وفي المصدر: ويستتب.
(5) في الارشاد: بمعسكره.
(6) كذا، وفي المصدر: حذرهم، وهو الظاهر.
(7) في الارشاد: فبينم.
(8) جاء في مجمع البحرين 6 / 364: نوهت باسمه - بالتشديد -: إذا رفعت ذكره، ونوهته تنويها: إذا رفعته.
(*)

[435]

ثم قام صلى الله عليه وآله مبادرا خوفا من تقدم أحد الرجلين، وقد كان أمرهما بالخروج مع أسامة ولم يك عنده أنهما قد تخلفا، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنهما متأخران عن أمره، فبدر (1) لكف الفتنة وإزالة الشبهة، فقام صلى الله عليه وآله - وأنه لا يستقل على الارض من الضعف - فأخذ بيده علي بن أبي طالب عليه السلام والفضل بن عباس، فاعتمد عليها ورجلاه يخطان (2) الارض من الضعف، فلما خرج إلى مسجد وجد أبا بكر و (3) قد سبق إلى المحراب، فأومأ إليه بيده أن تأخر عنه، فأتخر أبو بكر وقام رسول الله صلى الله عليه وآله مقامه، فقام وكبر (4) وابتدأ الصلاة التي كان ابتدأها أبو بكر، ولم يبن على ما مضى من فعاله، فلما سلم انصرف إلى منزله، واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضر المسجد (5) من المسلمين، ثم قال: ألم آمر (6) أن تنفذوا جيش أسامة ؟ !.
فقالوا: بلى يا رسول الله (ص) !.
قال: فلم تأخرتم عن أمري ؟ !.
قال أبو بكر: أني (7) خرجت ثم رجعت لاجدد بك عهد.
وقال عمر: يا رسول الله (ص) إني لم أخرج، لانني لم أحب أن أسأل عنك الركب.
فقال النبي صلى الله عليه وآله: نفذوا جيش أسامة.
يكررها ثلاثا (8).
إلى آخر ما مر (9) في أبواب وفاة الرسول صلى الله عليه وآله مع أخبار أخر أوردناها هناك، وقد تقدم (10) في هذا المجلد خبر
(1) في الارشاد: لبدر.
(2) في المصدر: تخطان.
(3) لا توجد الواو في المصدر، وهو الظاهر.
(4) لا توجد في المصدر: فقام، وفيه: فكبر.
(5) في الارشاد: بالمسجد.
(6) في المصدر: آمركم.
(7) في الارشاد: أني كنت.
(8) إلى هنا في الارشاد: 96.
(9) بحار الانوار 22 / 468، وجاء فيه: 21 / 410 - 411، وتقدم الاشارة إليها فيه: 390.
(10) بحار الانوار: 22 / 465 - 470 باب 1.

[436]

الصحيفة المشتمل على تلك القصة مفصل.
هذا ما يتعلق بكونهم في جيش أسامة وأمره (ص) بالخروج ولعنه المتخلف.
وأما عدم خروجهم وتخلفهم فلا ينازع أحد فيه.
وأما أن في (1) ذلك قادح (2) في خلافتهم، فلانهم كانوا مأمورين لاسامة ما دام لم يتم غرض الرسول صلى الله عليه وآله في إنفاد الجيش، فلم يكن لابي بكر الحكم على أسامة، والخلافة رئاسة عامة تتضمن الحكم على الامة كافة بالاتفاق، فبطل خلافة أبي بكر، وإذا بطل خلافته ثبت بطلان خلافة عمر لكونها بنص أبي بكر، وخلافة عثمان لا بتنائها على الشورى بأمر عمر.
وأيضا لو لم تبطل خلافة الاخيرين لزم خرق الاجماع المركب، ولان رد كلام الرسول صلى الله عليه وآله في وجهه - كما سبق - من أبي بكر وعمر وعدم الانقياد لامره بعد تكريره (3) الامر إيذاء له صلى الله عليه وآله، وقد قال الله عزوجل: * (ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) * (4)، وقال: * (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) * (5)، وذلك مع قطع النظر عن اللعن الصريح في ذلك الامر - كما اعترف به الشهرستاني (6) - والمستحق للعن من الله ومن رسوله لا يصلح للامامة، ولو جوزوا لعن خلفائهم صالحناهم على ذلك واتسع الامر علين.
وأجاب قاضي القضاة في المغني: بأنا لا نسلم أن أبا بكر كان في جيش
(1) خط في (ك) على كلمة: في، وهو أولى.
(2) الظاهر: ذلك إسمها، وقادح خبره.
(3) الكلمة مشوشة في (ك).
(4) الاحزاب: 57.
(5) التوبة: 61.
(6) الملل والنحل 1 / 29.

[437]

أسامة (1) ولم يسند منعه إلى رواية وخبر، وذكره له بعض المتعصبين (2) خبرا ضعيفا يدل بزعمه على لم يكن فيه وقال ابن أبي الحديد (3): كثير من المحدثين يقولون كان أبو بكر من الجيش، والامر عندي في هذا الموضع مشتبه، والتواريخ مختلفة (4).
والجواب أن وروده في رواياتهم - سيما إذا كان جلهم قائلين به مع اتفاق رواياتنا عليه - يكفينا في الاحتجاج ولا يضرنا خلاف بعضهم.
وأما استناد صاحب المغني (5) في عدم كونه من الجيش بما حكاه عن أبي علي من أنه لو كان أبو بكر من الجيش لما ولاه رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الصلاة في مرضه مع تكريره أمر الجيش بالخروج والنفوذ (6)، فقد عرفت ما في حكاية الصلاة من وجوه الفساد، مع أنه لم يظهر من رواياتهم ترتيب بين الامر بالتجهيز والامر بالصلاة، فلعل الامر بالصلاة كان قبل الامر بالخروج، أو كان في أثناء تلك الحال، فلم يدل على عدم كون أبي بكر من الجيش.
ويؤده ما رواه ابن أبي الحديد (7) من أنه لم يجاوز آخر القوم الخندق حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله.
ولو بني الكلام على ما رويناه، فبعد تسليم الدلالة على التأخر يندهم به بنيان ما أسسه، إذ يظهر منها أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما سمع صوت أبي بكر، وعلم أنه تأخر عن أمره ولم يخرج، خرج متحاملا وإخره عن المحراب وابتدأ بالصلاة.
(1) المغني، الجزء المتمم للعشرين: 344.
(2) كما حكاه ابن أبي الحديد في شرحه على النهج 17 / 182 - 183.
(3) قاله في شرحه 17 / 183.
(4) ذكره في شرح النهج 17 / 182.
(5) المغني، الجزء المتمم للعشرين: 346.
(6) وقد حكاه عنه في الشافي 4 / 154، وشرح النهج لابن أبي الحديد 17 / 176.
(7) في شرحه على النهج 17 / 183 بتصرف.

[438]

ثم أجاب صاحب المغني (1) - بعد تسليم أنه كان من الجيش - بأن الامر لا يقتضي الفور، فلا يلزم من تأخره أن يكون عاصيا (2).
ورد عليه السيد رضي الله عنه في الشافي (3): بأن المقصود بهذا الامر الفور دون التراخي، أما من حيث مقتضى الامر على مذهب من يرى (4) ذلك لغة، وأما شرعا (5)، من حيث وجدنا جميع الامة من لدن الصحابة إلى هذا الوقت يحملون أوامره صلى الله عليه وآله (6) على الفور، ويطلبون في تراخيها الادلة.
قال (7): على أن في قول أسامة: لم أكن لاسال عنك الركب (8).
أوضح
(1) المغني، الجزء المتمم للعشرين: 344، ونص عبارته: فيقال عند ذلك: إن نفس الامر يقتضي تأخره، فكيف يكون عاصيا بأن يتأخر.
(2) وقد نقله في الشافي 4 / 144، وشرح النهج لا بن أبي الحديد 17 / 185.
(3) الشافي 246 - الحجرية -، وفي الطبعة الجديدة 4 / 147 - 148، باختلاف يسير.
(4) في المصدر: من رأى.
(5) في الشافي: أو شرعا، وهو الظاهر، وفي شرح النهج: وشرع.
(6) في المصدر زيادة: ونواهيه.
(7) جاءت العبارة في الشافي هكذا: ثم لم يثبت كل ذلك لكان قول أسامة.
وهي غير وافية بالمطلوب إلا بإضافة كلمة: لو، بعد: ثم، مثل.
(8) جاء في حاشية (ك) ما يلي: غرض السيد رحمه الله أنه صلى الله عليه وآله لو لم يأمره على الفور وكان أمره فيه سعة وتراخ، وجاز له أن يتأخر كما تأخر أبو بكر أمكن أن يستغني عن سؤال الركب إما بصحته صلى الله عليه وآله أو برحلته وعلم أسامة بذلك، وفي التقدرين لا معنى لسؤال الركب والتعلل به.
وتعرض رحمه الله لشق (كذا، والظاهر: للشق) الثاني وأحال الاول على الظهور، فلا يرد عليه ما أورده ابن أبي الحديد بأن هذا قول من توهم على قاضي القضاة أنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وآله إنما أمرهم بالنفوذ بعد الوفاة ولم يقل القاضي بذلك، وإنما ادعى أن الامر بالسير المتراخي لا غير، وأن كلام أسامة لا يدل على أنه فعل (الكلمة مشوشة، ولعله: فعله بالفور) الفور، بل يمكن أن يكون الامر فيه مهلة يفوض إلى رأيه التأجيل والتعجيل، فلما قال له النبي: لم تأخرت عن المسير ؟.
قال له ذلك الكلام.
[منه (طاب ثراه)]

[439]

دليل على أنه عقل من الامر الفور، لان سؤال الركب بعد الوفاة لا معنى له (1).
وأما قول صاحب الكتاب أنه لم ينكر على أسامة تأخره فليس بشئ، وأي أنكار أبلغ من تكراره الامر، ويزداده القول في حال يشغل عن المهم ويقطع عن الفكر إلا فيها، وقد (2) ينكر الآمر على المأمورة تارة بتكرر (3) الأمر، وأخرى بغيره.
وأيده (4) بما حكاه صاحب المغني عن أبي علي من الاستدلال على عدم كون أبي بكر من الجيش بأمر الصلاة وابتناؤه على كون الامر للفور واضح.
وقد ارتضى صاحب المغني استدلاله.
فهذا المنع مناقض له.
أقول (5): ومن القرائن الواضحة على أنهم فهموا من هذا الامر الفور خروجهم عن المدينة - مع شدة مرضه صلى الله عليه وآله - إذ العادة قاضية بأنه لو كان لهم سبيل إلى تأخير الخروج حتى يستعلموا مصير الامر في مرضه صلى الله عليه وآله لتوسلوا إليه بوسعهم، لاشتغال قلوبهم وحرصهم على العليم ببرئه، واستعلام حال الخلافة، ولخوفهم من وقوع الفتن في المدينة، فيكون ما استخلفوه من الاموال والاولاد معرضا للهلكة والضياع، وقد كانوا وتروا (6) العرب وأورثوهم الضغائن، ولعمري إنهم ما خرجوا إلا وقد ضاق الخناق عليهم، وبلغ أمره وحثه صلى الله عليه وآله لهم كل مبلغ، ونال التقريع والتوبيخ منهم كل منال، وما سبق من رواية الجوهري واضح الدلالة على أن المراد هو الفور والتعجيل، وقد اعترف ابن ابي الحديد (7) بأن الظاهر في هذا الموضع صحة ما ذكره السيد، لان قرائن
(1) في المصدر: لان سؤال الركب عنه (ص) لا معنى له بعد الوفاة.
(2) في (س): ولم، بدلا من: وقد.
(3) في الشافي: بتكرار.
(4) الشافي 4 / 149، وهو حاصل كلامه هناك.
(5) في (س): قوله، بدلا من: أقول.
(6) الكلمة مشوشة في (ك)، ولعلها: أوترو.
(7) في شرحه على نهج 17 / 185 بتصرف، ثم قال، وهذا هو الفور.