الاحوال عند من يقرأ السير والتواريخ (1) يدل على أن الرسول صلى الله عليه وآله كان يحثم على الخروج والمسير، انتهى.
على أن التراخي إنما ينفع له إذا كان أبو بكر قد خرج في الجيش ولو بعد حين، ولم يقل أحد بخروجه مطلق. ثم أجاب صاحب المغني (2) - بعد تسليمه كون أبي بكر من الجيش - بأن خطابه (ص) بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجها إلى القائم بالامر بعده، لانه من خطاب الائمة، وهذا يقتضي أن لا يكون المخاطب بالتنفيذ في الجملة. ثم قال: وهذا يدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه، لانه لو كان لاقبل بالخطاب عليه، وخصه بالامر بالتنفيذ دون الجميع. ويرد عليه: أن المخاطب في هذا المقام إما الخليفة المنصوص عليه أو من يختاره الامة، وإما الجيش المأمور بالخروج، وإما جميع الحاضرين - الجيش وغيرهم -، وإما الجماعة الخارجة من الجيش بأمره صلى الله عليه وآله، وعلى أي حال فالمأمور به إما إنفاذ الجيش حال حياته صلى الله عليه وآله أو بعد وفاة، أو مطلق. أما كون المخاطب الخليفة - بقسميه - مع كون المأمور به تنفيذ الجيش حال الحياة فباطل، لورود الخطاب بلفظ الجمع، ولانه لا حكم للخليفة في حياة صلى الله عليه وآله من حيث الخلافة، ولانه لو كان المخاطب هو بعينه لانكر الرسول صلى الله عليه وآله تأخر القوم عن الخروج عليه لا على القوم، والمروي خلافه. ويخص القسم الثاني بأنه لا معنى لخطاب من يختاره الامة بعد الوفاة بالامر بتنفيذ الجيش حال الحياة، وهو واضح، وكذا على الاطلاق، ولو خوطب بالتنفيذ بعد الوفاة فبأمر من خرج الاصحاب حال حياته صلى الله عليه وآله ؟ ولماذا ينكر صلى الله عليه وآله تخلف من تخلف ويحثهم على الخروج ؟ ! وكذا لو كان المخاطب
(1) في المصدر: ويعرف التواريخ. (2) المغني، الجزء المتمم للعشرين: 345، وهذا حاصل كلامه، وقد حكاه عنه في الشافي 4 / 145.
[441]
الامام المنصوص. ولو كان المخاطب هو الجيش المأمور بالخروج فعلى الاقسام الثلاثة يكون الداخل فيهم عاصيا بالتخلف حال الحياة أو بعدها أو مطلقا، وقد ثبت باعتراف الثقات عندهم دخول أبي بكر في الجيش، فثبت عصيانه بالتخلف على أحد الوجوه، على أن هذا الكلام من صاحب المغني - بعد تسليم كون أبي بكر من الجيش - ولعله رجع عن ذلك التسليم معتمدا على دليله هذا، وهو كما ترى، وحينئذ يكون المراد بالتفيذ - في كلامه صلى الله عليه وآله أو التجهيز على اختلاف الروايات - إتمام أمر الجيش في بلوغه إلى حيث أمر به، فكل واحد منهم مكلف بالخروج الذي هو شرط لتحقق المأمور به وحصول الامتثال، وباجتماعهم في ذلك يحصل الغرض. ولا يذهب عليك أن القسم الثاني من هذه الثلاثة وإن كان مثبتا للمطلوب إلا أنه باطل، إذ لو كان المأمور به خروجهم بعد وفاته صلى الله عليه وآله لما تركوه في شدة المرض مع تعلق القلوب باستعلام العاقبة في أمره صلى الله عليه وآله وأمر الخلافة وما خلفوه كما سبق، ولما أنكر صلى الله عليه وآله خروج من تخلف منهم. ولو كان المخاطب جميع من حضر فمعنى التنفيذ والتجهيز أن يبذل كل منهم جهده في حصول المأمور به، فالمطلوب من الجيش الخروج، ومن غيرهم تهيئة أسبابهم وحثهم عليه، وفعل كل ما هو شرط فيه مما يدخل تحت طاقته ويعصي كل بترك ما أمر به، فمن كان داخلا في الجيش كالثلاثة بالتخلف ومن خرج بترك ما سبق. ولو كان المخاطب الجماعة التي لم تؤمر بالخروج فيهم، كما هو الاظهر من لفظ التنفيذ مع صيغة الجمع، فمع جريان بعض المفاسد السابقة فيه وبطلانه بأقسامه لا يغني صاحب المغني، إذ هو مخالف لما تعرض لاثباته من كون الخطاب
متوجها إلى الائمة، ولا يلزم منه خروج أبي بكر عن المأمورين أيضا، وهو مما لم يقل به أحد.
[442]
ولو سلمنا توجه هذا الخطاب إلى غير الجيش أما (1) كان أو غيره، نقول لا ريب في أنه متضمن لامر الجيش بالخروج، فعصيان من تخلف من الداخلين فيه لازم على هذا الوجه، فعلى أي تقدير ثبت عصيان أبي بكر واندفع كلام المجيب. وقوله: لانه من خطاب الائمة. إن أراد به أن الامر بالتنفيذ لا يصلح لغير الائمة فقد عرفت ضعفه، وإن أراد أن الخطاب بصيغة الجمع لا يتوجه إلى غيرهم، فالظاهر أن الامر بالعكس، على أنا لو ساعدناه على ذلك نقول: إذا ثبت كون من تزعمه إماما من الجيش فبعد توجه الخطاب إليه كان مأمورا بالخروج، عاصيا بتكره، ويكون معنى التنفيذ والتجهيز ما تقدم، فإذا قلت بأن الخطاب على هذا الوجه لا يتوجه إلا إلى الائمة ويستدعي بخروج من توجه إليه الخطاب، فبعد ثبوت أن أبا بكر كان من الجيش أو تسليمه كان ذلك دليلا على أنه لا يصلح لان يختاره الامة للامامة، وأما توصله بذلك إلى عدم النص فيتوجه عليه أن كون الخطاب بصيغة الجمع محمولا على ظاهره مع توجهه إلى الامام يستلزم كون الامام جماعة، ولم يقل به أحد، ولو فتحت به باب التأويل وأولته إلى من يصير خليفة باختياركم أولناه إلى من جعلته خليفة نبيكم، مع أن توجه الخطاب إلى الخليفة قد عرفت بطلانه بأقسامه. أقول: قد تكلم السيد رحمه الله في الشافي (2) وغيره من الافاضل (3) في هذا الطعن سؤالا وجوابا ونقضا وإبراما بما لا مزيد عليه، واكتفينا بما أوردنا لئلا نخرج عن الغرض المقصود من الكتاب، وكفى ما ذكرنا لاولي الالباب.
(1) كذا، وجاءت نسخة بدل في (ك): إماما، وهو الظاهر.
(2) الشافي 4 / 144 - 152. (3) كما ذكره في تلخيص الشافي 3 / 177 - 180، وفي الصراط المستقيم 2 / 296 - 299، وغيرهم.
[443]
الطعن الثالث: ما جرى منه في أمر فدك، وقد تقدم القول فيه مفصلا فلا نعيده (1). الطعن الرابع: أنه قال عمر بن الخطاب - مع كونه وليا وناصرا لابي بكر -: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها (2)، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (3)، ولا يتصور في
(1) أقول: لقد سلف منا في أول الكتاب ذكر جملة من المصادر تبعا لشيخنا العلامة - طاب ثراه - وللباحث عن هذا الموضوع أن يراجع المطولات من كتب الحديث والتاريخ والتراجم ليرى من ذلك الغرائب، فانظر مثلا: مروج الذهب 3 / 252، معجم البلدان 4 / 238، شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 77 - 100، المختصر في أخبار البشر 1 / 178، وذكر ذلك المرحوم السيد الفيروز آبادي في كتابه السبعة من السلف: 35 - 36. وحسبنا في المقام ما قاله الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 39 عن عمر، قال: لما قبض رسول الله (ص) جئت أنا وأبو بكر إلى علي عليه السلام، فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله (ص) ؟. قال: نحن أحق الناس برسول الله (ص)، قال: فقلت: والذي بخيبر ؟. قال: والذي بخيبر. قلت: والذي بفدك ؟. قال: والذي بفدك. فقلت: أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير فلا ! !. وقد رواه الطبراني في الاوسط، وقد فصلها بمصادرها شيخنا الاميني - رحمه الله - في غديره 7 / 190 - 197، فراجع. (2) ما الذي أباح لعمر أو لغيره من الصحابة قولهم في خلافة أبي بكر: إنها كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها، كما جاء في صحيح البخاري، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت 10 / 44 [8 / 2080]، مسند احمد 1 / 55، تاريخ ابن كثير 5 / 246، تاريخ الطبري 3 / 200 - 205، سيرة ابن هشام
4 / 338، السيرة الحلبية 3 / 388 - 392، كامل ابن الاثير 2 / 135 و 327، أنساب البلاذري 5 / 15، تيسير الوصول 2 / 42 - 44، نهاية ابن الاثير 3 / 238، الرياض النضرة 1 / 161، الصواعق المحرقة: 5 و 8، وقال: سند صحيح، تمام المتون للصفدي: 137، تاج العروس 1 / 568. وجاء في بعض المصادر: فلتة كفلتات الجاهلية فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، كما في التاريخ للطبري 3 / 210، والتمهيد للباقلاني 196، وشرح ابن أبي الحديد 2 / 19، وغيرها، وقد أشار إلى كلتا العبارتين في الغدير 5 / 370 و 7 / 79. (3) كما جاء في الصواعق المحرقة: 21، والتمهيد: 196، وشرح ابن أبي الحديد 1 / 123 - 124، = = وغيره.
[444]
التخطئة والذم أوكد من ذلك. وأجاب عنه قاضي القضاة في المغني (1): لا يجوز لقول محتمل ترك ما علم ضرورة، ومعلوم (2) من حال عمر إعظام أبي بكر والقول بإمامته والرضا ببيعته، وذلك يمنع مما ذكروه، لان المصوب للشئ لا يجوز أن يكون مخطئا له. قال: وقال أبو علي: إن (3) الفلتة ليست هي الزلة والخطيئة، بل هي البغتة وما وقع فجأة من غير (4) روية ولا مشاورة، واستشهد بقول الشاعر: من يأمن الحدثان مثل (5) ضبيرة القرشي ماتا * سبقت منيته المشيب وكان ميتته افتلانا يعني بغتة من غير مقدمة، وحكى عن الرياضي (6) إن العرب تسمي آخر
(1) المغني، الجزء المتمم للعشرين: 339 - 340، بتصرف أشرنا إليه، وقد حكاه في الشافي 4 / 124 - 125، والمتن أقرب منه في العبارات، وقد جاء نقله عنه في شرح ابن أبي الحديد 2 / 26 و 27. (2) في المصدر: لا يجوز القول بمثل ترك ما نعلم باضطرار ومعلوم. وهو مقلوب ما ذكره السيد في الشافي: 1 / 124 - 125. (3) لا توجد كلمة: إن، في المصدر، وفيه قد قدمت كلمة: ليست على: الفلتة.
(4) جاءت العبارة في المغني هكذا: بل يجب أن تكون محمولة على ما نقل عن أهل اللغة من أن المراد بها بغتة وفجأة من غير. (5) نسخة جاءت في مطبوع البحار: بعد، بدلا من: مثل. والشعر في المصدر: هربا من الحدثان بعد جبيرة القرشي * ما ناسف ميتته المسبب وكان ميتته افتلاتا وقال في هامشه: في البيت تحريف أضاع منه الوزن والمعنى معا، والشعر في الشافي جاء هكذا: هربا من الحدثان بعد صبيرة القرشي * ما نأسف ميتته المسبب وكان ميتته افتلاتا وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: من يأمن الحدثان بعد صبيرة القرشي ماتا * سبقت منيته المشيب وكان ميتته افتلاتا (6) في المغني: أو على ما ذكره عسكر عن الرياشي.
[445]
يوم من شوال: فلتة، من حيث إن كل (1) من لم يدرك ثاره وطلبه (2) فيه فاته (3) لانهم كانوا إذا دخلوا في الاشهر الحرم لا يطلبون الثار، وذو القعدة من الاشهر الحرم، فسموا ذلك اليوم فلتة (4)، لانهم إذا أدركوا فيه ثارهم فقد أدركوا (5) ما كاد يفوتهم، فأراد عمر على هذا أن بيعة أبي بكر تداركها (6) بعد ما كادت تفوت. وقوله: وقى الله شره. دليل على تصويب البيعة (7)، لان المراد بذلك أن الله تعالى (8) دفع شر الاختلاف فيه. قال (9): فأما قوله: فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فالمراد من عاد إلى أن يبايع من غير (10) مشاورة ولا عدد يثبت صحة البيعة به ولا ضرورة داعية إلى البيعة (11) ثم بسط يده على المسلمين ليدخلهم في البيعة قهرا (12) فاقتلوه، وإذا احتل ذلك وجب حمله على المعنى الذي ذكرنا ولم نتكلف (13) ذلك، لان قول عمر يطعن في بيعة أبي
(1) لا توجد: إن كل. في المغني والشافي. (2) في المصدر والشافي: وطلبه، ولا توجد في شرح النهج لابن أبي الحديد.
(3) لا توجد: فاته، في (س) وفي المصدر جاء بدلها: فلتة. (4) في المغني والشافي: إنما سموه فلتة. (5) لا توجد: ثارهم فقد أدركوا، في المغني والشافي، وهي مثبتة في شرح النهج. (6) في المصدر: على هذا الوجه أن بيعة أبي بكر تداركوه. (7) في المغني والشافي: على التصويب - بالالف واللام مع حذف المضاف إليه -، وفي شرح النهج كالمتن. (8) في المصدر والشافي: أنه تعالى. (9) وقد قاله القاضي في المغني أيضا، وقد حكاه عنه في الشافي 4 / 125 - 126، وجاء في شرح النهج 2 / 27. (10) في المغني والشافي: من عاد إلى مثلها من غير. (11) في المصدر: ولا عذر ولا ضرورة، وفي الشافي: ولا عدة ولا ضرورة، ولا توجد فيهما بقية العبارة إلى هنا، وما في الشرح لابن أبي الحديد كالمتن. (12) لا توجد: قهرا، في المصدر. (13) في المغني: الذي ذكرناها ولم يتكلف.
[446]
بكر، ولا أن (1) قوله حجة عند المخالف، ولكن تعلقوا به ليوهموا أن بيعته غير متفق عليه (2)، وأن أول من ذمها من عقده. انتهى ما ذكره أبو علي. وبمثل هذا الجواب أجاب الفخر الرازي في نهاية العقول (3)، وشارح المقاصد (4)، وشارح المواقف (5)، ومن يحذو حذوهم. وأورد السيد الاجل (6) رضي الله عنه على صاحب المغني: بأن ما تعلقت به من العلم الضروري برضا عمر ببيعته أبي بكر وإمامته. فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنه كان راضيا بإمامته، وليس كل من رضي شيئا كان متدينا به معتقدا
لصوابه، فإن كثيرا من الناس يرضون بأشياء من حيث كانت دافعة لما هو أضر منها وإن كانوا لا يرونها صوابا، ولو ملكوا الاختيار لاختاروا غيرها، وقد علمنا أن معاوية كان راضيا ببيعة يزيد لعنه الله وولايته العهد من بعده، ولمن يكن متدينا بذلك ومعتقدا صحته، وإنما رضي عمر ببيعة أبي بكر من حيث كانت حاجزة عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، ولو ملك الاختيار لكان مصير الامر إليه آثر في نفسه وأقر لعينه. فإن ادعى أن المعلوم ضرورة تدين عمر ببيعة أبي بكر وأنه أولى بالامامة منه فهو مدفوع عن ذلك أشد دفع، مع أنه قد كان يندر (7) منه - أعني عمر - في وقت بعد آخر ما يدل على ما ذكرناه. وقد روى الهيثم بن عدي، عن عبد الله بن عباس (8) الهمداني، عن سعيد
(1) لا توجد: ان، في المصدر، وفيه تقديم: عند المخالف، على قوله: حجة. (2) في المغني والشافي: عليه. وهو الصحيح. (3) نهاية العقول: مخطوط. (4) شرح المقاصد 5 / 280 - 281. (5) شرح المواقف: 8 / 358. (6) الشافي 4 / 126 - 135، وفي الحجرية: 241 - 244، بتصرف يسير أشرنا لاكثره، وحكاه عنه ابن أبي الحديد في شرحه 2 / 29 - 35. (7) في الشافي: يبدر. (8) في المصدر: عياش.
[447]
ابن جبير، قال: ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر، فقال رجل: كانا والله شمسي هذه الامة ونوريه. فقال له ابن عمر: وما يدريك ؟. فقال له الرجل: أو ليس قد ائتلفا ؟. فقال ابن عمر: بل اختلفا لو كنتم تعلمون، وأشهد أني
كنت (1) عند أبي يوما وقد أمرني أن أحبس (2) الناس عنه، فاستأذن عليه (3) عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال عمر: دويبة سوء ولهو خير من أبيه، فأوجسني ذلك (4)، فقلت: يا أبة ! عبد الرحمن خير من أبيه ؟ !. فقال (5): ومن ليس خيرا من أبيه لا أم لك، إئذن لعبد الرحمن، فدخل عليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه - وكان عمر قد حبسه في شعر قاله -، فقال عمر: إن الحطيئة لبذي فدعني أقومه بطول الحبس، فألح عليه عبد الرحمن وأبى عمر، وخرج عبد الرحمن فأقبل علي أبي، فقال: أفي غفلة أنت إلى يومك هذا عما (6) كان من تقدم أحيمق بني تيم علي وظلمه لي ؟ !. فقلت: يا أبة ! لا علم لي بما كان من ذلك. فقال: يا بني ! وما عسيت ان تعلم ؟. فقلت: والله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم. قال: إن ذلك لكذلك على زعم (7) أبيك وسخطه. فقلت: يا أبة ! أفلا تحكي عن فعله بموقف في الناس تبين ذلك لهم. قال: وكيف لي بذلك مع ما ذكرت أنه أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم ؟ إذن يرضخ رأس أبيك بالجندل (8).
(1) لا توجد: كنت، في المصدر، ومثبتة في شرح النهج، ولا يتم المعنى إلا به. (2) في (س): أجلس، والمقصود واحد. إذ أجلس الناس عنه. أي اجعل الناس جليسا عن الوصول إليه. أي أمنعهم عنه. (3) لا توجد في الشافي: عليه. (4) في المصدر: فأوحشني ذلك منه. (5) لا توجد: فقال، في (ك). (6) في المصدر: على ما، بدلا من: عم. (7) في الشافي: رغم - بالراء المهملة -، وهو الظاهر. (8) الرضح: بمعنى الكسر والدق، كما في مجمع البحرين 2 / 432، والجندل: الحجارة، كما نص عليه في الصحاح 4 / 1652. (*)
[448]
قال ابن عمر: ثم تجاسر والله فجسر فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا في الناس، فقال: يا أيها الناس ! إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه. وروى الهيثم بن عدي - أيضا -، عن مجالد بن سعيد، قال: غدوت يوما إلى الشعبي - وإنما أريد أن أسأله عن شئ بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقول -، فأتيته في مسجد حية - وفي المسجد قوم ينتظرونه - فخرج، فتقربت إليه (1)، وقلت: أصلحك الله ! كان ابن مسعود يقول: ما كنت محدثا قوما حديثا لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ؟. قال: نعم، قد كان ابن مسعود يقول ذلك. وكان (2) ابن عباس يقوله أيضا، وكان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها، ويصرفها عن غيرهم ؟ فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الازد فجلس إلينا فأخذنا في ذكر أبي بكر وعمر، فضحك الشعبي وقال: لقد كان في صدر عمر ضب على أبي بكر. فقال الازدي، والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قط كان أسلس قيادا لرجل ولا أقول (3) بالجميل فيه من عمر في أبي بكر، فأقبل علي الشعبي (4) فقال: هذا مما سألت عنه، ثم أقبل على الرجل فقال: يا أخا الازد ! كيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرها ؟ ! أترى عدوا يقول في عدو يريد (5) أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبي بكر. فقال الرجل: سبحان الله ! يا أبا عمرو ! وأنت تقول ذلك ؟ !. فقال الشعبي: أنا أقوله، قاله عمر بن الخطاب على رؤوس الاشهاد، فلمه أو دع ! فنهض الرجل مغضبا وهو يهمهم (6) بشئ لم أفهمه (7)، فقال مجالد:
(1) في الشافي وشرح النهج: فتعرفت. (2) في (س): وقال، بدلا من: وكان. (3) في الشافي: ولا أقوله، وفي شرح النهج: ولا أقول فيه بالجميل.
(4) في الشافي: على عامر الشعبي. (5) في المصدر: ويريد - بزيادة الواو -. (6) الهمهمة: ترديد الصوت، كما في مجمع البحرين 6 / 189، وغيره. (7) في المصدر زيادة: في الكلام، بعد: لم أفهمه.
[449]
فقلت للشعبي: ما أحسب هذا الرجل إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس ويبثه فيهم. قال: إذا والله لا أحفل به، وشئ (1) لم يحفل به عمر بن الخطاب حين قام على رؤوس المهاجرين والانصار أحفل به أنا ؟ ! وأنتم (2) أيضا فأذيعوه عني ما بدا لكم (3). وروى (4) شريك بن عبد الله النخعي، عن محمد بن عمرو بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن عبد الله بن سلمة، عن أبي موسى الاشعري، قال: حججت مع عمر ابن خطاب، فلما نزلنا وعظم الناس، خرجت من رحلي أريد (5) عمر فلقيني مغيرة ابن شعبة فرافقني، ثم قال: أين تريد ؟. فقلت: أمير المؤمنين عمر (6)، فهل لك ؟. قال: نعم، قال: فانطلقنا نريد رحل عمر، فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولي عمر، و (7) قيامة بما هو فيه، وحياطته على الاسلام، ونهوضه بما قبله من ذلك، ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر، فقلت (8) للمغيرة، يا لك الخير (9) ! لقد كان أبو بكر مسددا في عمر كأنه ينظر إلى قيامة من بعده وجده واجتهاده وعنائه (10) في الاسلام. فقال المغيرة: لقد كان ذلك، وإن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه، وما كان لهم في ذلك من حظ. فقلت له: لا أبا لك ! من القوم (11) الذين كرهوا ذلك من
(1) في (ك): لا أحفل بذلك شئ. ، وفي المصدر: لا حفل بذلك شيئا، وهي نسخة جاءت في (ك) من البحار، وهو الظاهر. (2) في (س): أنتم - بلا واو -.
(3) وقد ذكره الشيخ في تلخيص الشافي 3 / 161. (4) في الشافي: وقد روى. (5) في الشافي: وأنا اريد. (6) لا توجد: عمر، في المصدر. (7) لا توجد: عمرو، في (س). (8) في المصدر: ثم قال: فقلت. (9) جاءت في (س): بالك الخبر. ونسخة في (ك): مالك الخبر. (10) في (س): غنائه - بالغين المعجمة -. (11) في المصدر: ما نرى القوم، وما في شرح النهج كالمتن.
[450]
عمر ؟. فقال لي المغيرة: لله أنت كأنك في غفلة لا تعرف هذا الحي من قريش، وما قد خصوا به من الحسد ؟. فو الله لو كان هذا الحسد يدرك بحساب لكان لقريش تسعة أعشار الحسد وللناس كلهم عشر (1). فقلت: مه يا مغيرة ! فإن قريشا بانت (2) بفضلها على الناس. ولم نزل في مثل (3) ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر بن الخطاب فلم نجده (4)، فأسلنا عنه، فقيل: خرج آنفا، فمضينا نقفوا أثره حتى دخلنا المسجد، فإذا عمر يطوف بالبيت، فطفنا معه، فلما فرغ دخل بيني وبين المغيرة فتوكأ على المغيرة، وقال (5): من أين جئتما ؟. فقلنا: يا أمير المؤمنين ! خرجنا نريدك فأتينا رحلك فقيل لنا خرج يريد المسجد فاتبعناك. قال: تبعكما الخير، ثم إن المغيرة نظر الي وتبسم (6)، فنظر إليه عمر فقال: مم تبسمت أيها العبد ؟. فقال (7): من حديث كنت أنا وأبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك. فقال (8): وما ذاك الحديث ؟.
فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش وذكر من أراد صرف أبي بكر عن استخلافه (9)، فتنفس الصعداء، ثم قال: ثكلتك أمك يا مغيرة، وما تسعة أعشار الحسد ؟ ! إن فيها لتسعة أعشار الحسد كما ذكرت (10) وتسعة أعشار العشر، وفي الناس عشر، وقريش شركاؤهم في عشر العشر أيضا، ثم سكت مليا وهو يتهادى بيننا، ثم قال: ألا أخبركما بأحسد قريش
(1) في الشافي وفي نسخة على (ك) من البحار: عشر بينهم. (2) في المصدر: قد بانت. (3) لا توجد: مثل، في المصدر. (4) في المصدر: إلى عمر بن خطاب أو إلى رحله فلم نجده. (5) في المصدر وفي نسخة جاءت على (ك): ثم قال. (6) في الشافي: فتبسم. (7) في المصدر: قال - بلا فاء -. (8) في المصدر: قال - بلا فاء. (9) في الشافي: عن ولاية عمر، وهي نسخة في (ك). (10) لا توجد: كما ذكرت، في المصدر.
[451]
كلها ؟ !. قلنا: بلى يا أمير المؤمنين. قال: أو عليكما (1) ثيابكما ؟. قلنا: نعم. قال: وكيف بذلك وأنتما ملبسان ثيابكما ؟ !. قلنا له: يا أمير المؤمنين ! وما بال الثياب ؟. قال: خوف الاذاعة من الثياب. فقلت له (2): أتخاف الاذاعة من الثياب، فأنت والله من ملبسي (3) الثياب أخوف، وما الثياب أردت !. قال: هو ذلك، فانطلق وانطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله فخلى أيدنا من يده، ثم قال: لا تريما (4). ثم دخل، فقلت للمغيرة: لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا معه (5) وما كنا فيه وما رآه
حبسنا (6) إلا ليذاكرنا إياه. قال: فإنا لكذلك إذ خرج إلينا آذنه، فقال: ادخلا، فدخلنا، فإذا عمر مستلق على برذعة الرحل، فلما دخلنا أنشأ يتمثل ببيت كعب ابن زهير: لا تفش سرك إلا عند ذي ثقة * أولى وأفضل (7) ما استودعت أسرارا صدرا رحيبا وقلبا واسعا ضمنا (8) * لا تخش منه إذا أودعت اظهارا (9) فعلمنا (10) أنه يريد أن نضمن له كتمان حديثه، فقلت أنا له (11): يا أمير
(1) في المصدر: وعليكما - بلا همزة استفهامية -. (2) في نسخة في (ك): فقلن. (3) الكلمة مشوشة في (س). (4) جاء في هامش المصدر أن في الاصل: لا تريح. وفيه: لا تبحرا، وسيتعرض لهما المصنف رحمه الله. (5) لا توجد: معه، في الشافي. (6) في (س): حسبن. (7) في (س) نسخة بدل: ولا بأفضل. (8) في الشافي: صمتا، وفي شرح النهج: قمن. (9) وفي رواية ابن أبي الحديد: صدرا وقلبا واسعا قمنا ألا تخاف متى أودعت إظهارا (10) في الشافي هنا: فلما سمعناه يتمثل بالشعر علمن. (11) في المصدر: فقلنا له، وفي (س): فقلت أنا - من دون: له -.
[452]
المؤمنين ! أكرمنا وخصنا وصلنا (1). فقال: بماذا يا أخا الاشعريين ؟. قلت (2): بإفشاء سرك إلينا (3) وإشراكنا (4) في همك، فنعم المستسران نحن لك (5). فقال:
إنكما لكذلك، فاسألا عما بدا لكما ؟ ثم (6) قال: فقام إلى الباب ليغلقه، فإذا آذنه الذي أذن لنا عليه في الحجرة، فقال: امض عنا - لا أم لك -، فخرج وأغلق الباب خلفه ثم جلس وأقبل علينا، وقال (7): سلا تخبر. قلنا: نريد أن تخبرنا يا أمير المؤمنين (8) بأحسد قريش الذي لم تأمن ثيابنا على ذكره لنا (9). فقال: سألتما عن معضلة وسأخبر كما، فليكن (10) عندكما في ذمة منيعة وحرز ما بقيت، فإذا مت فشأنكما وما أحببتما من إظهار أو كتمان. قلنا: فإن لك عندنا ذلك. قال أبو موسى: وأنا أقول في نفسي ما أظنه يريد إلا الذين كرهوا استخلاف أبي بكر له كطلحة وغيره، فإنهم قالوا: لا يستخلف علينا فظا غليظا (11)، وإذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي. فعاد إلى التنفس، فقال (12): من تريانه ؟.
(1) في الشافي: ووصلنا، وفي (ك) نسخة بدل: حملن. (2) في (ك) من البحار: فقلت، وفي المصدر: قلن. (3) لا توجد: إلينا، في (س) ولا في شرح ابن أبي الحديد. (4) في المصدر: أشركن. (5) في شرح النهج: المستشاران لك. (6) لا توجد: ثم، في المصدر. (7) في المصدر: ثم أقبل إلينا (علينا) فجلس معنا فقال. (8) لا توجد في الشافي: أمير المؤمنين. (9) في المصدر: لم تأمن ثيابنا عليه إن تذكره لن. (10) في الشافي: فلتكن. (11) في حاشية (ك) جاءت نسخة بدل وهي:. كرهوا من أبي بكر استخلافه لعمر، وكان طلحة أحدهم، فأشاروا عليه أن لا يستخلفه لانه فض غليظ. والظاهر فظ، بدلا من: فض، كما في
المصدر. وهذه النسخة مطابقة للمصدر وجاء فيه بعدها: ثم قلت في نفسي: قد عرفنا هؤلاء القوم بأسمائهم وعشائرهم وعرفهم الناس. (12) في المصدر: وإذا هو يريد غير ما نذهب إليه منهم، فعاد عمر إلى النفس، ثم قال.
[453]
قلنا: والله ما ندري إلا ظن. قال: ومن تظنان ؟. قلنا: عساك (1) تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على صرف (2) هذا الامر عنك. قال: كلا والله (3)، بل كان أبو بكر أعق وأظلم، هو الذي سألتما عنه، كان والله أحسد قريش كلها، ثم أطرق طويلا فنظر إلي المغيرة ونظرت إليه، وأطرقنا مليا لاطراقه (4)، وطال السكوت منا ومنه حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه، ثم قال: وا لهفاه ! على ضئيل بني تميم بن مرة، لقد تقدمني ظالما وخرج إلي منها آثم. فقال له المغيرة: أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه (5)، فكيف (6) خرج إليك منها آثما ؟. قال: ذلك لانه لم يخرج إلي منها إلا بعد يأس منها، أما والله لو كنت أطعت زيد بن الخطاب وأصحابه لم يتلمظ من حلاوتها بشئ أبدا (7)، ولكني قدمت وأخرت، وصعدت وصوبت، ونقضت وأبرمت، فلم أجد إلا الاغضاء على ما نشب به منها (8) والتلفهف على نفسير (9)، وأملت إنابته ورجوعه، فو الله ما فعل حتى فرغ منها بشيما (10).
(1) في الشافي: نراك. (2) لا توجد: صرف، في (س). (3) لا توجد: والله، في المصدر.
(4) في الشافي: وأطرقنا لاطراقه - ولا توجد: مليا -. (5) في الشافي: هذا يقدمك ظالما قد عرفن. (6) في (س): كيف. (7) وضع على: أبدا، رمز نسخة بدل في (ك). (8) في المصدر: على ما نشبت منه فيه. (9) في حاشية (ك) نسخة بدل: فلم يجبني نفسي إلى ذلك. (10) في الشافي: فغربها بشما، وفي شرح النهج: نغر.
[454]
قال المغيرة: فما منعك منها يا أمير المؤمنين ! (1) وقد عرضها عليك يوم السقيفة بدعائك إليها ؟ !. ثم أنت الآن تنقم وتتأسف (2)، فقال: ثكلتك أمك يا مغيرة ! إني كنت لاعدك من دهاة العرب، كأنك كنت غائبا عما هناك، إن الرجل كادني فكدته، وماكرني فماكرته، وألفاني أحذر من قطاة، أنه لما راى شغف (3) الناس به وإقبالهم بوجوههم عليه، أيقن أنهم لا يريدون (4) به بدلا، فأحب لما رأى من حرص الناس عليه وشغفهم (5) به أن يعلم ما عندي، وهل تنازعني نفسي إليها (6)، وأحب أن يبلوني بإطماعي فيها والتعريض لي بها، وقد علم وعلمت لو قبلت ما عرضه علي لم يجب (7) الناس إلى ذلك، فألفاني (8) قائما على أخمصي مستوفزا (9) حذرا ولو اجبته إلى قبولها لم يسلم الناس (10) إلى ذلك، واختبأها ضغنا علي (11) في قلبه، ولم آمن غائلته ولو بعد حين، مع ما بدا لي من كراهة (12) الناس لي، أما سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي: لا نريد سواك يا أبا بكر، أنت لها، فرددتها إليه فعند ذلك رأيته وقد التمع وجهه لذلك سرورا، ولقد عاتبني
(1) لا توجد: أمير المؤمنين، في المصدر. (2) في الشافي: بالتأسف عليه.
(3) في (س): شعف. (4) في المصدر: أيقن أن لا يريدون. (5) في (س): شعفهم - بالعين المهملة -. (6) في المصدر: وهل تنازع إليها نفسي. (7) في الشافي: ما عرض علي منها لم يجبه، وقد جاء نسخة في (س): علي منه. ولعله إشارة إلى المصدر. (8) في المصدر: فألقاني. (9) في الشافي: متشوزا، وفي شرح النهج: مستوشزا، وفي نسخة جاءت في (ك): متواري. (10) وضع على كلمة: الناس، رمز نسخة بدل في (ك). (11) في (ك) زيادة كلمة: ما، بعد: على. (12) في المصدر: كراهية.
[455]
مرة على كلام (1) بلغه عني، وذلك لما قدم عليه (2) بالاشعث أسيرا فمن عليه وأطلقه وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة، فقلت للاشعث - وهو قاعد بين يديه (3) -: يا عدو الله ! أكفرت بعد إسلامك، وارتددت ناكصا (4) على عقبيك، فنظر إلي الاشعث نظرا شزرا علمت أنه يريد أن يكلمني بكلام في نفسي، ثم لقيني (5) بعد ذلك في بعض سكك المدينة فرافقني، ثم قال لي: أنت صاحب الكلام يا ابن الخطاب ؟ !. فقلت: نعم يا عدو الله، ولك عندي شر من ذلك. فقال: بئس الجزاء هذا لي منك. فقلت: على م (6) تريد مني حسن الجزاء ؟. قال: لانفتي لك من اتباع هذا الرجل - يريد أبا بكر -، والله (7) ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك (8)، ولو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك. قلت: ولقد كان ذلك فما تأمر الآن ؟. قال: إنه ليس بوقت أمر، بل وقت صبر (9)، ومضى
ومضيت، ولقي الاشعث الزبرقان بن بدر السعدي فذكر له ما جرى بيني وبينه، فنقل الزبرقان ذلك إلى أبي بكر (10)، فأرسل إلي فأتيته، فذكر ذلك لي، ثم قال: إنك لتشوق (11) إليها يابن الخطاب. فقلت: وما يمنعني الشوق (12) إلى ما كنت أحق
(1) في الشافي: شئ، بدلا من: كلام. (2) لا توجد: عليه، في المصدر، وفيه: بالاشعث بن قيس. (3) في الشافي: وهو بين يدي أبي بكر. (4) في المصدر: ناكصا كافر. (5) في المصدر: علمت له أنه يريد كلامنا يكلمني به، ثم سكت فلقيني. (6) في (س) زيادة: مني، قبل: تريد، وهو خلاف الظاهر. (7) لا توجد لفظة: والله، في الشافي. (8) في الشافي: إلا بقدمه عليك وتخلفك عنه. (9) في المصدر: قال ما هذا وقت أمر إنما هو وقت صبر حتى يأتي الله بفرج ومخرج. (10) في الشافي: فنقل الزبرقان إلى أبي بكر الكلام. (11) في المصدر:: لمتشوف. (12) في (ك) نسخة بدل: التشوق.
[456]
به ممن غلبني عليه ؟ أما والله لتكفن أو لاكلمن (1) كلمة بالغة بي وبك في الناس تحملها الركبان حيث ساروا، وإن شئت استدمنا ما نحن فيه عفو. فقال: بل تستديمه (2) وإنها لصائرة إليك بعد أيام، فما ظننت أنه يأتي عليه جمعة حتى يردها علي، فتغافل والله، فما ذكرني بعد ذلك المجلس حرفا حتى هلك، ولقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت، فأيس منها فكان منه ما رأيتما، فاكتما (3) ما قلت لكما عن الناس كافة (4) وعن بني هاشم خاصة، وليكن منكما
بحيث أمرتكما إذا شئتما على بركة الله، فمضينا ونحن نعجب من قوله، فو الله ما أفشينا سره حتى هلك. ثم قال السيد (5) رضي الله عنه: فكأني بهم عند سماع هذه الروايات (6) يستغرقون ضحكا تعجبا واستبعادا وإنكارا ويقولون: كيف يصغى (7) إلى هذه الاخبار، ومعلوم ضرورة تعظيم عمر لابي بكر ووفاقه (8) له وتصويبه لامامته ؟ وكيف يطعن عمر في إمامة أبي بكر وهي أصل لامامته وقاعدة لولايته ؟ ! وليس هذا بمنكر ممن طمست العصبية على قلبه وعينيه، فهو لا يرى ولا يسمع إلا ما يوافق اعتقادات مبتدأة قد اعتقدها، ومذاهب فاسدة قد انتحلها، فما بال هذه الضرورة تخصهم ولا تعم من خالفهم، ونحن نقسم بالله على أنا لا نعلم ما يدعونه، ونزيد (9) على ذلك بأنا نعتقد أن الامر بخلافه، وليس في طعن عمر على بيعته أبي
(1) جاء في المصدر: من التشوف لذلك فذكر أحق به فمن غلبني عليه، أما والله لتكفن أو لاقولن. (2) في شرح النهج: بل نستدعيه. وفي المصدر: إذا نستديمها على أنها صائرة. (3) في المصدر: ثم قال اكتم. (4) لا توجد في المصدر: عن الناس كافة، وهي مثبتة في شرح النهج. (5) في الشافي 4 / 135 - 137، بتصرف يسير. [الحجرية 241 - 244]، وانظر: تلخيص الشافي 3 / 162 - 167، وشرح نهج البلاغة لا بن أبي الحديد 2 / 30، وغيرهم. (6) في المصدر: هذه الاخبار. (7) في المصدر: نصفي. (8) الكلمة مشوشة في (س). (9) في (س): تزيد.
[457]
بكر ما يؤدي إلى فساد إمامته، لانه يمكن أن يكون ذهب إلى أن إمامته نفسه (1) لم
تثبت (2) بانص عليه، وإنما تثبت بلاجماع من الامة والرضا، فقد ذهب إلى ذلك جماعة من الناس، ويرى أن إمامته أولى من حيث لم تقع بقتة ولا فجأة، ولا اختلف الناس في أصلها، وامتنع كثير منهم من الدخول فيها حتى أكرهوا وتهددوا وخوفو. وأما الفلتة، وإن كانت محتملة للبغتة - على ما حكاه صاحب الكتاب - والزلة (3)، والخطيئة، فالذي يخصصها بالمعنى الذي ذكرناه قوله: وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، وهذا الكلام لا يليق بالمدح وهو بالذم أشبه، فيجب أن يكون محمولا على معناه وقوله: إن المراد بقوله (4): وقى الله شره. إنه دفع شر الاختلاف فيها عدول عن الظاهر، لان الشر في ظاهر الكلام مضاف إليها دون غيره. وأبعد من هذا التأويل قوله: إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة وأكره المسلمين عليها فاقتلوه، لان ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا لبيعة أبي بكر عندهم، لان كل ذلك ما جرى فيها على مذاهبهم، وقد كان يجب على هذا أن يقول من عاد إلى خلافها فاقتلوه، وليس له أن يقول إنما أراد بالتمثيل وجها واحدا، وهو وقوعها من غير مشاورة لان ذلك إنما تم في أبي بكر خاصة، لظهور أمره واشتهار فضله، ولانهم بادروا إلى العقد خوفا من الفتنة، وذلك لانه (5) غير منكر أن يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر (6) واشتهار أمره، وخوف الفتنة ما اتفق
(1) لا توجد: نفسه، في المصدر. (2) في المصدر: زيادة: إلا، بعد: لم تثبت. (3) في المصدر: وللزلة، وفي (س): المزلة. (4) لا توجد: بقوله، في المصدر. (5) في المصدر: انه - من غير لام -.
(6) في الشافي زيادة: بالعقد له، قبل واشتهار.
[458]
لابي بكر، فلا يستحق قتلا ولا ذما، على أن قوله: مثله. يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه، وكيف يكون ما وقع من غير مشاورة لضرورة داعية وأسباب موجبة مثلا لما وقع بلا مشاورة، ومن غير ضرورة ولا أسباب ؟. والذي رواه عن أهل اللغة من أن آخر يوم من شوال يسمى: فلتة، من حيث إن كل من (1) لم يدرك فيه ثاره فقد فاته (2). فإنا لا نعرفه، والذي نعرفه (3) أنهم يسمون الليلة التي ينقضي بها أحد الشهور الحرم ويتم: فلتة، وهي آخر ليلة من ليالي الشهر (4)، لانه ربما رأى قوم الهلال لتسع وعشرين ولم يبصره الباقون فيغير هؤلاء على أولئك وهم غارون، فلهذا سميت هذه الليلة: فلتة، على أنا قد بينا أن مجموع الكلام يقتضي ما ذكرنا (5) من المعنى، ولو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة (6). وقوله في أول الكلام: ليست الفلتة: الزلة والخطيئة. إن أراد أنها لا تختص بذلك فصحيح، وإن أراد أنها لا تحتمله (7) فهو ظاهر الخطأ، لان صاحب العين قد ذكر في كتابه أن الفلتة من الامر الذي يقع على غير إحكام (8). وبعد، فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبي بكر بل أراد ما ظنه المخالفون، لكان ذلك عائدا عليه بالنقص، لانه وضع كلامه في غير موضعه،
(1) لا توجد في المصدر: إن كل من. (2) لا توجد في المصدر: فقد فاته. (3) في الشافي: نعرفه من القوم. (4) انظر لمزيد الاطلاع: النهاية 3 / 467، والقاموس 1 / 154. (5) في المصدر: ما ذكرناه.
(6) وهذا ما نقله ابن أبي الحديد عن الشافي في شرحه على النهج 2 / 34 - 35، بتصرف وتحريف في بعض كلماته. (7) في المصدر: لا تحمله. (8) كتاب العين 8 / 122، وقد ذكره في لسان العرب 2 / 67، وقال في القاموس 1 / 154، والصحاح 1 / 260: وكان الامر فلتة. أي فجأة من غير تردد وتدبر، وزاد في القاموس: وفلتات المجلس: هفواته وزلاته.
[459]
وأراد شيئا فعبر عن خلافه، فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على أبي بكر إلا (1) بأن يكون طعنا على عمر. انتهى (2). ولنوضح بعض ما تقدم في كلام السيد، وما أو رده من الروايات: قوله: قد كان يندر من عمر. أي يسقط ويقع. قال في النهاية: في حديث عمر: (ان رجلا ندر في مجلسه فامر القوم كلهم بالتطهير لئلا يخجل الرجل). قال (3): معناه أنه ضرط كأنها ندرت منه من غير اختيار (4). ودويبة سوء - بفتح السين - بالاضافة، وفيه دلالة على غباوة عبد الرحمن للتصغير وعلى حمقه لكون اللفظة تصغير الدابة، وعلى خبث طينته للاضافة إلى السوء. والوجس - كالوعد -: الفزع (5)، وأوجسثني. أي أفزعني. والبذاء - بالمد -: الفحش (6) والكلم القبيح، ويقال فلان: بذي - كغني - وبذي اللسان (7). ويرضح رأس ابيك. أي يسكر ويدق، من الرضح - بالراء والضاد المعجمة والحاء المهملة أو بالخاء المعجمة - (8). والجندل - كجعفر -: الحجارة (9).
(1) إلا، هنا عاطفة بمعنى أو، كما ذكرها في القاموس 4 / 407، وغيره. (2) وقد حكاه عنه الشيخ الطوسي، رحمه الله في تلخيص الشافي 3 / 167 - 170، وابن أبي الحديد في شرحه على النهج 2 / 27 - 35، وملاحظة هامش التلخيص وشرح النهج لا تخلو عن فائدة. (3) أي ابن الاثير. والظاهر أنها زائدة. (4) النهاية 5 / 35، وانظر: مجمع البحرين 3 / 490، والصحاح 2 / 825 فإنهما قد صرحا بأن: ندر بمعنى سقط. (5) ذكره في مجمع البحرين 4 / 121، والصحاح 3 / 987، والقاموس 2 / 257. (6) قاله في النهاية 1 / 111، ومجمع البحرين 1 / 48، والصحاح 6 / 2279. (7) كما في القاموس 4 / 302 - 303، ولسان العرب 14 / 69. (8) نص عليه في الصحاح 1 / 365 - 366 و 421 - 422، ولسان العرب 2 / 450 و 3 / 19. (9) صرح به في مجمع البحرين 5 / 336، والصحاح 4 / 1654، وغيرهم.