فصل في فضل بني هاشم و شرفهم
قبل الشروع في ذكر علي و أولاده (عليه السلام) نذكر شيئا مما يتعلق بفضل بني هاشم
و شرفهم و ما لهم من المزايا التي فضلوا بها الناس.
و من ذلك رسالة وقعت إلي من
كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أذكرها مختصرا لها قال : اعلم حفظك الله أن أصول
الخصومات معروفة بينة و أبوابها مشهورة كالخصومة بين الشعوبية و العرب ; و الكوفي و
البصري ; و العدناني و القحطاني ; فهذه الأبواب الثلاثة أنقض للعقول السليمة و أفسد
للأخلاق الحسنة من المنازعة في القدر و التشبيه و في الوعد و الوعيد و في الأسماء
و الأحكام و في الآثار و تصحيح الأخبار و أنقض من هذه للعقول تمييز الرجال و ترتيب
الطبقات و ذكر تقديم علي و أبي بكر فأولى الأشياء بك القصد و ترك الهوى فإن اليهود
نازعت النصارى في المسيح فلج بهما القول حتى قالت اليهود إنه ابن يوسف النجار و
إنه لغير رشدة و إنه صاحب نيرنج و خدع و مخاريق و ناصب شرك و صياد سمك و صاحب شص و
شبك فما يبلغ من عقل صياد و ربيب نجار .
و زعمت النصارى أنه رب العالمين و خالق
السماوات و الأرضين و إله الأولين و الآخرين.
فلو وجدت اليهود أسوأ من ذلك القول
لقالته فيه و لو وجدت النصارى أرفع من ذلك القول لقالته فيه و على هذا .
قال علي (عليه السلام) : يهلك فيّ رجلان محب مفرط و مبغض مفرط .
و الرأي كل الرأي أن لا يدعوك حب الصحابة إلى بخس عترة
[30]
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حقوقهم و حظوظهم فإن عمر لما كتبوا الدواوين و قدموا ذكره أنكر
ذلك و قال ابدءوا بطرفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ضعوا آل الخطاب حيث وضعهم الله .
قالوا : فأنت
أمير المؤمنين ; فأبى إلا تقديم بني هاشم و تأخر نفسه فلم ينكر عليه منكر و صوبوا رأيه و عدوا ذلك من مناقبه و اعلم أن الله لو
أراد أن يسوي بين بني هاشم و بين الناس لما أبانهم بسهم ذوي القربى و لما قال وَ
أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ و قال تعالى وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ
لِقَوْمِكَ .
و إذا كان لقومه في ذلك ما ليس لغيرهم فكل من كان أقرب كان أرفع و لو
سواهم بالناس لما حرم عليهم الصدقة و ما هذا التحريم إلا لإكرامهم على الله و لذلك
قال للعباس حيث طلب ولاية الصدقات : لا أوليك غسالات خطايا الناس و أوزارهم بل أوليك
سقاية الحاج و الإنفاق على زوار الله و لهذا كان رباه أول ربا وضع و دم ربيعة بن
حارث أول دم أهدر لأنهما القدوة في النفس و المال و لهذا .
قال علي (عليه السلام) على منبر الجماعة : نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد .
و صدق (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يقاس بقوم منهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأطيبان علي و فاطمة و
السبطان الحسن و الحسين و الشهيدان أسد الله حمزة و ذو الجناحين جعفر و سيد الوادي
عبد المطلب و ساقي الحجيج العباس و حليم البطحاء و النجدة و الخير فيهم و الأنصار
أنصارهم و المهاجر من هاجر إليهم و معهم و الصديق من صدقهم و الفاروق من فرق بين
الحق و الباطل فيهم و الحواري حواريهم و ذو الشهادتين لأنه شهد لهم و لا خير إلا
فيهم و لهم و منهم و معهم .
وقال (عليه السلام) فيما أبان به أهل بيته : إني تارك فيكم الخليفتين أحدهما أكبر من
الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي نبأني اللطيف
الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض .
و لو كانوا كغيرهم لما قال عمر حين طلب مصاهرة علي :
إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول :كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي .
و اعلم أن الرجل قد ينازع في تفضيل ماء دجلة على ماء الفرات فإن لم
يتحفظ وجد في قلبه على شارب ماء دجلة رقة لم يكن يجدها و وجد في قلبه غلظة
[31]
على شارب ماء الفرات لم يكن يجدها فالحمد لله الذي جعلنا لا
نفرق بين أبناء نبينا و رسلنا نحكم لجميع المرسلين بالتصديق و لجميع السلف
بالولاية و نخص بني هاشم بالمحبة و نعطي كل امرئ قسطه من المنزلة.
فأما علي بن أبي
طالب (عليه السلام) فلو أفردنا لأيامه الشريفة و مقاماته الكريمة و مناقبه السنية كلاما
لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال العرق صحيح و المنشأ كريم و الشأن عظيم و العمل
جسيم و العلم كثير و البيان عجيب و اللسان خطيب و الصدر رحيب فأخلاقه وفق أعراقه و
حديثه يشهد لقديمه و ليس التدبير في وصف مثله إلا ذكر جمل قدره و استقصاء جميع حقه
فإذا كان كتابنا لا يحتمل تفسير جميع أمره ففي هذه الجملة بلاغ لمن أراد معرفة
فضله.
و أما الحسن و الحسين (عليهما السلام) فمثلهما مثل الشمس و القمر فمن أعطي ما في الشمس و
القمر من المنافع العامة و النعم الشاملة التامة و لو لم يكونا ابني علي من فاطمة (عليه السلام) و رفعت من دهمك كل رواية و كل سبب توجبه القرابة لكنت لا تقرن بهما أحدا من أجلة
من أولاد المهاجرين و الصحابة إلا أراك فيهما الإنصاف من تصديق قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنهما
سيدا شباب أهل الجنة و جميع من هما سادته سادة و الجنة لا تدخل إلا بالصدق و الصبر
و إلا بالحلم و العلم و إلا بالطهارة و الزهد و إلا بالعبادة و الطاعة الكثيرة و
الأعمال الشريفة و الاجتهاد و الأثرة و الإخلاص في النية فدل على أن حظهما في
الأعمال المرضية و المذاهب الزكية فوق كل حظ و أما محمد بن الحنفية فقد أقر الصادر
و الوارد و الحاضر و البادي أنه كان واحد دهره و رجل عصره و كان أتم الناس تماما و
كمالا.
و أما علي بن الحسين (عليه السلام) فالناس على اختلاف مذاهبهم مجمعون عليه لا يمتري أحد
في تدبيره و لا يشك أحد في تقديمه و كان أهل الحجاز يقولون لم نر ثلاثة في دهر
يرجعون إلى أب قريب كلهم يسمى عليا و كلهم يصلح للخلافة لتكامل خصال الخير فيهم
يعنون علي بن الحسين بن علي (عليه السلام) و علي بن عبد الله بن جعفر و علي بن عبد الله بن
العباس رضي الله عنهم و لو عزونا لكتابنا هذا ترتيبهم .
[32]
لذكرنا رجال أولاد علي لصلبه و ولد الحسين و علي بن
الحسين و محمد بن عبد الله بن جعفر و محمد بن علي بن عبد الله بن العباس إلا أنا
ذكرنا جملة من القول فيهم فاقتصرنا من الكثير على القليل.
فأما النجدة فقد علم
أصحاب الأخبار و حمال الآثار أنهم لم يسمعوا بمثل نجدة علي بن أبي طالب (عليه السلام) و حمزة
رضي الله عنه و لا بصبر جعفر الطيار رضوان الله عليه و ليس في الأرض قوم أثبت
جنانا و لا أكثر مقتولا تحت ظلال السيوف و لا أجدر أن يقاتلوا و قد فرت الأخيار و
ذهبت الصنائع و خام ذو البصيرة و جاد أهل النجدة من رجالات بني هاشم و هم كما قيل
شعر :
و خام الكمي و طاح اللواء *** و لا تأكل الحرب إلا سمينا
و كذلك قال دغفل حين وصفهم : أنجاد أمجاد ذوو ألسنة حداد .
و كذلك قال
علي (عليه السلام) حين سئل عن بني هاشم و بني أمية : نحن أنجد و أمجد و أجود و هم أنكر و أمكر و أغدر .
و قال أيضا : نحن أطعم للطعام و أضرب للهام .
و قد عرفت جفاء المكيين و طيش
المدنيين و أعراق بني هاشم مكية و مناسبهم مدنية ثم ليس في الأرض أحسن أخلاقا و لا
أطهر بشرا و لا أدوم دماثة و لا ألين عريكة و لا أطيب عشيرة و لا أبعد من كبر منهم
و الحدة لا يكاد يعدمها الحجازي و التهامي إلا أن حليمهم لا يشق غباره و ذلك في
الخاص و الجمهور على خلاف ذلك حتى تصير إلى بني هاشم فالحلم في جمهورهم و ذلك يوجد
في الناس كافة و لكنا نضمن أنهم أتم الناس فضلا و أقلهم نقصا و حسن الخلق في
البخيل أسرع و في الذليل أوجد و فيهم مع فرط جودهم و ظهور عزهم من البشر الحسن و
الاحتمال و كرم التفاضل
[33]
ما لا يوجد مع البخيل الموسر و
الذليل المكثر اللذين يجعلان البشر وقاية دون المال و ليس في الأرض خصلة تدعو إلى
الطغيان و التهاون بالأمور و تفسد العقول و تورث السكر إلا و هي تعتريهم و تعرض
لهم دون غيرهم إذا قد جمعوا من الشرف العالي و المغرس الكريم العز و المنعة مع
إبقاء الناس عليهم و الهيبة لهم و هم في كل أوقاتهم و جميع أعصارهم فوق من هم على
مثل ميلادهم في الهيئة الحسنة و المروءة الظاهرة و الأخلاق المرضية و قد عرفت
الحدث العزيز من فتيانهم و ذوو الغرامة من شبانهم أنه إن افترى لم يفتر عليه و إن
ضرب لم يضرب ثم لا تجده إلا قوي الشهوة بعيد الهمة كثير المعرفة مع خفة ذات اليد و
تعذر الأمور ثم لا تجد عند أفسدهم شيئا من المنكر إلا رأيت في غيره من الناس أكثر
منه من مشايخ القبائل و جمهور العشائر و إذا كان فاضلهم فوق كل فاضل و ناقصهم أنقص
نقصانا من كل ناقص فأي دليل أدل و أي برهان أوضح مما قلته و قد علمت أن الرجل منهم
ينعت بالتعظيم و الرواية في دخول الجنة بغير حساب و يتأول القرآن له و يزاد في
طمعه بكل حيلة و ينقص من خوفه و يحتج له بأن النار لا تمسه و أنه ليشفع في مثل
ربيعة و مضر و أنت تجد لهم مع ذلك العدد الكثير من الصوام و المصلين و التالين
الذين لا يجارهم أحد و لا يقاربهم.
كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يصلي في
كل ليلة ألف ركعة و كذا علي بن الحسين بن علي و علي بن عبد الله بن جعفر و علي بن
عبد الله بن العباس (عليه السلام) مع الحلم و العلم و كظم الغيظ و الصفح الجميل و الاجتهاد
المبرز فلو أن خصلة من هذه الخصال أو داعية من هذه الدواعي عرضت لغيرهم لهلك و أهلك.
اعلم أنهم لم يمتحنوا بهذه المحن و لم يتحملوا هذه البلوى إلا لما قدموا من
العزائم التامة و الأدوات الممكنة و لم يكن الله ليزيدهم في المحنة إلا و هم
يزدادون على شدة المحن خبرا و على التكشف تهذيبا.
[34]
و جملة
أخرى مما لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة : الأب : أبو طالب و الجد : عبد المطلب بن هاشم و الأم
: فاطمة بنت أسد بن هاشم و الزوجة : فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيدة نساء أهل الجنة و
الولد : الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة و الأخ : جعفر الطيار في الجنة و العم
: العباس و حمزة سيد الشهداء في الجنة و العمة : صفية بنت عبد المطلب و ابن العم : رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
و أول هاشمي بين هاشميين كان في الأرض ; ولد أبو طالب و الأعمال التي يستحق
بها الخير أربعة : التقدم في الإسلام , و الذب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) , و عن الدين و الفقه في
الحلال و الحرام , و الزهد في الدنيا , و هي مجتمعة في علي بن أبي طالب متفرقة في
الصحابة .
و في علي يقول أسد بن رقيم يحرض عليه قريشا و إنه قد بلغ منهم على حداثة
سنه ما لم يبلغه ذوو الأسنان . شعر :
في كل مجمع غاية أخزاكم *** جذع أبر على المذاكي القرحي
لله دركم أ لما تنكروا قد *** ينكر الضيم الكريم و يستحي
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم *** ذبحا و يمشي آمنا لم يجرح
أين الكهول و أين كل دعامة *** للمعضلات و أين زين الأبطح
أفناهم ضربا بكل مهند صلت *** و حد غزاره لم يصفح
و أما الجود فليس على ظهر الأرض جواد جاهلي و لا إسلامي و لا عربي و
لا عجمي إلا و جوده يكاد يصير بخلا إذا ذكر جود علي بن أبي طالب و عبد الله بن
جعفر و عبد الله
[35]
بن عباس و
المذكورون بالجود منهم كثير لكنا اقتصرنا ثم ليس في الأرض قوم أنطق خطيبا و لا
أكثر بليغا من غير تكلف و لا تكسب من بني هاشم و قال أبو سفيان بن الحرث شعر :
لقد علمت قريش غير فخر *** بأنا نحن أجودهم حصانا
و أكثرهم دروعا سابغات *** و أمضاهم إذا طعنوا سنانا
و أدفعهم عن الضراء فيهم *** و أثبتهم إذا نطقوا لسانا
و مما يضم إلى جملة القول في فضل علي بن أبي طالب (عليه السلام) : أنه أطاع قبلهم و
معهم و بعدهم ; و امتحن بما لم يمتحن به ذو عزم ; و ابتلي بما لم يبتل به ذو صبر.
وأما جملة القول في ولد علي (عليه السلام) فإن الناس لا يعظمون أحدا من الناس إلا بعد أن يصيبوا
منهم و ينالوا من فضلهم و إلا بعد أن تظهر قدرتهم و هم معظمون قبل الاختبار و هم
بذلك واثقون و به موقنون فلو لا أن هناك سرا كريما و خيما عجيبا و فضلا مبينا و
عرقا ناميا لاكتفوا بذلك التعظيم و لم يعانوا تلك التكاليف الشداد و المحن الغلاظ.
و أما المنطق و الخطب فقد علم الناس كيف كان علي بن أبي طالب عند التفكير و
التحبير و عند الارتجال و البدأة و عند الإطناب و الإيجاز في وقتيهما و كيف كان
كلامه قاعدا و قائما و في الجماعات و منفردا مع الخبرة بالأحكام و العلم بالحلال و
الحرام و كيف كان عبد الله بن العباس رضوان الله عليه الذي كان يقال له الحبر و
البحر و مثل عمر بن الخطاب يقول له غص يا غواص و شنشنة أعرفها من أخزم قلب عقول و
لسان قئول و لو لم يكن لجماعتهم إلا لسان زيد بن علي بن الحسين و عبد الله بن
معاوية بن جعفر لقرعوا بهما جميع البلغاء و علوا بهما على جميع الخطباء و لذلك
قالوا أجواد أمجاد و ألسنة حداد و قد ألقيت
[36]
إليك جملة من
ذكر آل الرسول يستدل بالقليل منها على الكثير و بالبعض على الكل و البغية في ذكرهم
أنك متى عرفت منازلهم و منازل طاعاتهم و مراتب أعمالهم و أقدار أفعالهم و شدة
محنتهم و أضفت ذلك إلى حق القرابة كان أدنى ما يجب علينا و عليك الاحتجاج لهم و
جعلت بدل التوقف في أمرهم الرد على من أضاف إليهم ما لا يليق بهم و قد تقدم من
قولنا فيهم متفرقا و مجملا ما أغنى عن الاستقصاء في هذا الكتاب تمت الرسالة و هي
بخط عبد الله بن الحسن الطبري.