رسالة أخرى في التفضيل
و وقع إلي رسالة أخرى من كلامه أيضا في التفضيل
أثبتها أيضا مختصرا ألفاظها و ترجمتها :
رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في
الترجيح و التفضيل نسخ من مجموع للأمير أبي محمد الحسن بن عيسى المقتدر بالله قال : هذا كتاب من اعتزل الشك و الظن و الدعوى و الأهواء و أخذ باليقين و الثقة من طاعة
الله و طاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إجماع الأمة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) مما تضمنه الكتاب و السنة و ترك
القول بالآراء فإنها تخطئ و تصيب لأن الأمة أجمعت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاور أصحابه في
الأسرى ببدر و اتفق رأيهم على قبول الفداء منهم فأنزل الله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ... الآية فقد بان لك أن الرأي يخطئ و يصيب و لا يعطي اليقين
و إنما الحجة لله و لرسوله و ما أجمعت عليه الأمة من كتاب الله و سنة نبيها و نحن
لم ندرك النبي و لا أحدا من أصحابه الذين اختلفت الأمة في أحقهم فنعلم أيهم أولى و
نكون معهم كما قال تعالى وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ و نعلم أيهم على الباطل
فنجتنبهم و كما قال تعالى وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا
تَعْلَمُونَ شَيْئاً حتى أدركنا العلم فطلبنا معرفة الدين و أهله و أهل الصدق و
الحق فوجدنا الناس مختلفين يبرأ بعضهم من بعض و يجمعهم في حال اختلافهم فريقان
أحدهما قالوا إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مات و لم يستخلف أحدا و جعل ذلك إلى المسلمين يختارونه
فاختاروا أبا بكر.
و الآخرون قالوا إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف عليا فجعله إماما للمسلمين
بعده .
[37]
و ادعى كل فريق منهم الحق فلما رأينا ذلك وقفنا
الفريقين لنبحث و نعلم المحق من المبطل.
فسألناهم جميعا : هل للناس بد من وال يقيم
أعيادهم و يجبي زكواتهم و يفرقها على مستحقيها و يقضي بينهم و يأخذ لضعيفهم من
قويهم و يقيم حدودهم ?
فقالوا : لا بد من ذلك .
فقلنا: هل لأحد أن يختار أحدا فيوليه بغير
نظر في كتاب الله و سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ?
فقالوا : لا يجوز ذلك إلا بالنظر .
فسألناهم جميعا : عن
الإسلام الذي أمر الله به ?
فقالوا : إنه الشهادتان و الإقرار بما جاء من عند الله و
الصلاة و الصوم و الحج بشرط الاستطاعة و العمل بالقرآن يحل حلاله و يحرم حرامه.
فقبلنا ذلك منهم ثم , سألناهم جميعا : هل لله خيرة من خلقه اصطفاهم و اختارهم ?
فقالوا : نعم .
فقلنا : ما برهانكم ?
فقالوا : قوله تعالى وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ
يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ من أمرهم .
فسألناهم ; من الخيرة ?
فقالوا : هم المتقون .
قلنا : ما برهانكم ?
قالوا : قوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقاكُمْ .
فقلنا : هل لله خيرة من المتقين ?
قالوا : نعم المجاهدون بأموالهم , بدليل قوله
تعالى فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقاعِدِينَ دَرَجَةً .
فقلنا : هل لله خيرة من المجاهدين ?
قالوا جميعا : نعم السابقون
من المهاجرين إلى الجهاد , بدليل قوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ
مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ ... الآية .
فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه و علمنا أن
خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد ; ثم قلنا : هل لله منهم خيرة ?
قالوا : نعم .
قلنا : من هم ?
قالوا : أكثرهم عناء في الجهاد و طعنا و ضربا و قتلا في سبيل الله
; بدليل قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ ما
تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ .
فقبلنا ذلك منهم
و علمناه و عرفنا أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناء و أبذلهم لنفسه في طاعة
الله و أقتلهم لعدوه ; فسألناهم عن هذين الرجلين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أبي بكر أيهما
كان أكثر عناء في الحرب و أحسن بلاء في سبيل الله ?
فأجمع الفريقان على أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب أنه كان أكثر طعنا و ضربا و أشد قتالا و أذب عن دين الله
و رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ; فثبت بما ذكرناه من إجماع الفريقين و دلالة
[38]
الكتاب و السنة أن عليا (عليه السلام) أفضل.
و سألناهم ثانيا عن
خيرته من المتقين ?
فقالوا : هم الخاشعون ; بدليل قوله تعالى وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ
لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ إلى قوله مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ و قال
تعالى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ .
ثم سألناهم ; من
الخاشعون ?
قالوا : هم العلماء ; لقوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ
الْعُلَماءُ .
ثم سألناهم جميعا ; من أعلم الناس ?
قالوا : أعلمهم بالقول و أهداهم إلى الحق
و أحقهم أن يكون متبوعا و لا يكون تابعا ; بدليل قوله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوا
عَدْلٍ مِنْكُمْ فجعل الحكومة إلى أهل العدل .
فقبلنا ذلك منهم ; ثم سألناهم عن أعلم
الناس بالعدل من هو ?
قالوا : أدلهم عليه .
قلنا : فمن أدل الناس عليه ?
قالوا : أهداهم إلى
الحق و أحقهم أن يكون متبوعا و لا يكون تابعا ; بدليل قوله تعالى أَ فَمَنْ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ ... الآية .
فدل كتاب الله و سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإجماع أن أفضل الأمة بعد
نبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأنه : إذا كان أكثرهم جهادا كان أتقاهم ; و
إذا كان أتقاهم كان أخشاهم ; و إذا كان أخشاهم كان أعلمهم ; و إذا كان أعلمهم كان أدل
على العدل ; و إذا كان أدل على العدل كان أهدى الأمة إلى الحق ; و إذا كان أهدى كان
أولى أن يكون متبوعا و أن يكون حاكما لا تابعا و لا محكوما عليه.
و أجمعت الأمة
بعد نبيها أنه خلف كتاب الله تعالى ذكره و أمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر و إلى
سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيتدبرونها و يستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه فإذا قرأ قارئهم وَ
رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ فيقال له أثبتها ثم يقرأ إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ و في قراءة ابن مسعود إن خيركم عند الله
أتقاكم ثم يقرأ وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هذا ما
تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فدلت هذه
الآية على أن المتقين هم الخاشعون ثم يقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى إِنَّما
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فيقال له اقرأ حتى ننظر هل العلماء
أفضل من غيرهم أم لا حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ علم أن العلماء أفضل من غيرهم ثم يقال
اقرأ فإذا بلغ إلى قوله تعالى يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ قيل قد دلت هذه
[39]
الآية على أن الله تعالى قد اختار العلماء و فضلهم
و رفعهم درجات .
و قد أجمعت الأمة على أن العلماء من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين يؤخذ
عنهم العلم كانوا أربعة : علي بن أبي طالب (عليه السلام) ; و عبد الله بن العباس ; و ابن مسعود ; و زيد
بن ثابت ;رضي الله عنهم .
و قالت طائفة :عمر بن الخطاب رض .
فسألنا الأمة ; من أولى الناس
بالتقديم إذا حضرت الصلاة ?
فقالوا : إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يؤم بالقوم أقرؤهم .
ثم أجمعوا أن
الأربعة كانوا أقرأ لكتاب الله تعالى من عمر ; فسقط عمر .
ثم سألنا الأمة ; أي هؤلاء
الأربعة أقرأ لكتاب الله و أفقه لدينه ?
فاختلفوا , فوقفناهم حتى نعلم .
ثم سألناهم ; أيهم أولى بالإمامة ? فأجمعوا على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الأئمة من قريش .
فسقط ابن مسعود و زيد بن
ثابت ; و بقي علي بن أبي طالب و ابن عباس .
فسألنا أيهما أولى بالإمامة ?
فأجمعوا على أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إذا كانا عالمين فقيهين قرشيين فأكبرهما سنا , و أقدمهما هجرة .
فسقط عبد الله بن العباس ; و بقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ; فيكون أحق بالإمامة لما
أجمعت عليه الأمة و لدلالة الكتاب و السنة عليه .
هذا آخر رسالة أبي عثمان عمرو بن
بحر الجاحظ.
أقول : إن أبا عثمان من رجال الإسلام و أفراد الزمان في الفضل و العلم و
صحة الذهن و حسن الفهم و الاطلاع على حقائق العلوم و المعرفة بكل جليل و دقيق و لم
يكن شيعيا فيتهم و كان عثمانيا مروانيا و له في ذلك كتب مصنفة و قد شهد في هاتين
الرسالتين من فضل بني هاشم و تقديمهم و فضل علي (عليه السلام) و تقديمه بما لا شك فيه و لا
شبهة و هو أشهر من فلق الصباح و هذا إن كان مذهبه فذاك و ليس بمذهبه و إلا فقد
أنطقه الله تعالى بالحق و أجرى لسانه بالصدق و قال ما يكون حجة عليه في الدنيا و
الآخرة و نطق بما لو اعتقد غيره لكان خصمه في محشره فإن الله عند لسان كل قائل فلينظر
قائل ما يقول و أصعب الأمور و أشقها أن يذكر الإنسان شيئا يستحق به الجنة ثم يكون
ذلك موجبا لدخوله النار نعوذ بالله من ذلك.
[40]
شعر :
أحرم منكم بما أقول و قد *** نال به العاشقون من عشق
صرت كأني ذبالة نصبت *** تضيء للناس و هي تحترق
و ليكن هذا القدر كافيا فإنه حيث ثبت ما طلبناه بشهادة هذا الرجل
شرعنا فيما نحن بصدده بعون الله و حوله و لا بد من ذكر أشياء مهمة نقدمها أمام ما
وجهنا إليه وجه قصدنا و صرفنا إليه اهتمامنا و بالله التوفيق.