ذكر الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام
ولد (عليه السلام) بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة الثالث عشر من شهر الله الأصم رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة و
لم يولد في البيت الحرام أحد سواء قبله و لا بعده و هي فضيلة خصه الله بها إجلالا
له و إعلاء لرتبته و إظهارا لتكرمته.
و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف و
كانت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة الأم ربته في حجرها و كانت من السابقات إلى الإيمان و
هاجرت معه إلى المدينة و كفنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقميصه ليدرأ به عنها هوام الأرض و توسد في
قبرها لتأمن بذلك ضغطة القبر و لقنها الإقرار بولاية ابنها كما اشتهرت الرواية.
و
كان (عليه السلام) هاشميا من هاشميين و أول من ولده هاشم مرتين و قيل ولد سنة ثمان و عشرين من
عام الفيل و الأول عندنا أصح .
خبر من مناقب ابن المغازلي الفقيه المالكي مرفوع إلى علي بن الحسين (عليه السلام) قال : كنا زوار الحسين (عليه السلام) و هناك نسوان كثيرة إذ أقبلت منهن امرأة , فقلت : من أنت رحمك الله?
قالت : أنا زبدة ابنة العجلان من بني ساعدة .
فقلت لها : هل عندك من شيء تحدثينا به ?
قالت : إي و الله , حدثتني أم عمارة بنت عبادة بن فضلة بن مالك بن العجلان الساعدي
أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيبا حزينا فقلت ما شأنك?
قال : إن فاطمة بنت أسد في شدة من المخاض ; و أخذ بيدها و جاء بها إلى الكعبة و قال : اجلسي على اسم الله , فطلقت طلقة واحدة , فولدت غلاما مسرورا نظيفا منظفا لم أر كحسن
وجهه , فسماه عليا , و حمله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أداه إلى منزلها .
قال علي بن الحسين (عليه السلام) : فو الله
ما سمعت بشيء قط إلا و هذا أحسن منه .
[60]
و من بشائر المصطفى مرفوع إلى يزيد بن قعنب قال : كنت
جالسا مع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه و فريق من بني عبد العزى بإزاء بيت
الله الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام) و كانت حاملا به لتسعة
أشهر و قد أخذها الطلق ; فقالت : يا رب إني مؤمنة بك و بما جاء من عندك من رسل و كتب و
إني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل (عليه السلام) و إنه بنى البيت العتيق فبحق الذي بنى هذا
البيت و المولود الذي في بطني إلا ما يسرت علي ولادتي .
قال يزيد بن قعنب : فرأيت
البيت قد انشق عن ظهره و دخلت فاطمة فيه و غابت عن أبصارنا و عاد إلى حاله .
فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب , فلم ينفتح .
فعلمنا أن ذلك من أمر الله تعالى .
ثم خرجت في اليوم الرابع و على يدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم قالت إني فضلت على من
تقدمني من النساء لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله سرا في موضع لا يحب الله أن يعبد فيه إلا اضطرارا ; و إن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطبا جنيا ; و إني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة و أرزاقها ; فلما أردت أن أخرج
هتف بي هاتف , و قال : يا فاطمة سميه (عليا) فهو علي و الله العلي الأعلى يقول اشتققت
اسمه من اسمي و أدبته بأدبي و أوقفته على غامض علمي ; و هو الذي يكسر الأصنام في
بيتي ; و هو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي و يقدسني و يمجدني فطوبى لمن أحبه و أطاعه و ويل
لمن أبغضه و عصاه .
قالت : فولدت عليا و لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثون سنة .
فأحبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) حبا شديدا , و قال لها : اجعلي مهده بقرب فراشي , و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يلي أكثر تربيته , و كان يطهر عليا في وقت غسله , و يؤجره اللبن عند شربه , و يحرك مهده عند نومه , و يناغيه في يقظته , و يحمله على صدره و رقبته .
و يقول : هذا أخي و وليي و ناصري و صفيي و ذخري و كهفي و صهري و وصيي و زوج
كريمتي و أميني على وصيتي و خليفتي .
[61]
و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحمله دائما و يطوف به جبال مكة و شعابها و
أوديتها و فجاجها صلى الله على الحامل و المحمول.
و حكى أبو عمرو الزاهد في كتاب
اليواقيت قال : قال ابن الأعرابي كانت فاطمة بنت أسد أم علي (صلى الله عليه وآله وسلم) حاملا بعلي و أبو طالب
غائب فوضعته فسمته أسدا لتحيي به ذكر أبيها , فلما قدم أبو طالب سماه عليا .
و هو أول من آمن بالله تعالى و برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل البيت و الأصحاب , و أول ذكر دعاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام فأجاب , و لم يزل ينصر الدين و يجاهد
المشركين و يذب عن الإيمان و يقتل أهل الزيغ و الطغيان و ينشر العدل و يولي
الإحسان و يشيد معالم الكتاب و السنة , و كان مقامه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد البعثة ثلاثا
و عشرين سنة , منها ثلاث عشرة سنة بمكة قبل الهجرة مشاركا له في محنته كلها متحملا
عنه أكثر أثقالها صابرا معه على اضطهاد قريش و تكذيبهم له قائما بما يأمره به
صابرا محتسبا راضيا , و عشر سنين بعد الهجرة بالمدينة يكافح دونه و يجالد و يجهد بين
يديه في قمع الكافرين و يجاهد و يقيه بنفسه في المواقف و المشاهد و يثبت إذا
تزلزلت الأقدام و كلت السواعد إلى أن قبضه الله إلى رحمته [جنته] و اختار له دار
كرامته و رفعه في عليين فمضى صلوات الله عليه و آله الطاهرين و لأمير المؤمنين (عليه السلام) يومئذ من العمر ثلاث و ثلاثون سنة.
و اختلفت الأمة في إمامته بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالت شيعته و هم بنو هاشم كافة و سلمان و عمار و أبو ذر و المقداد و خزيمة بن
ثابت ذو الشهادتين و أبو أيوب الأنصاري و جابر بن عبد الله و أبو سعيد الخدري في
أمثالهم من أجلة المهاجرين
[62]
و الأنصار إنه كان الخليفة بعد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما اجتمع له من صفات الفضل و الكمال و الخصائص التي لم تكن في غيره
من سبقه إلى الإسلام و معرفته بالأحكام و حسن بلائه في الجهاد و بلوغه الغاية
القصوى في الزهد و الورع و الصلاح و ما كان له من حق القربى ثم للنص الوارد في
القرآن و هو قوله تعالى إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ
و هذه الآية نزلت بالإجماع فيه (عليه السلام) حين تصدق بخاتمه في صلاته.
و إذا ثبت هذا فكلما ثبت لله و لرسوله من الولاية فهو ثابت لعلي (عليه السلام) بنص القرآن و بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الدار
و قد جمع بني عبد المطلب خاصة :
من يوازرني على هذا الأمر يكن أخي و وصيي و وزيري و وارثي و خليفتي فيكم
من بعدي .
فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) و قال : و كنت أصغرهم سنا و أرمصهم عينا و أحمشهم ساقا
و أكبرهم بطنا ; فقلت : أنا يا رسول الله .
و هذا صريح في استخلافه و قد أورد ابن جرير الطبري و ابن الأثير
الجزري هذا الحديث في تاريخهما بألفاظ تقارب هذه.
و بقوله في غدير خم و هو حديث
مجمع على صحته أورده نقلة الحديث و أصحاب الصحاح .
أ لست أولى
بالمؤمنين من أنفسهم ?
فقالوا : بلى .
فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه .
الحديث بتمامه .... فأوجب له من الولاية ما كان واجبا له (صلى الله عليه وآله وسلم) و هذا نص ظاهر
جلي لو لا الهوى .
[53]
و بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين توجه
إلى تبوك : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي .
و هذا أيضا من الصحاح
و قد أورده الجماعة و نقلته من مسند أحمد بن حنبل من عدة طرق .
فثبتت له وزارته (صلى الله عليه وآله وسلم) و القيام بكل ما كان هارون يقوم به و لم يستثن
عليه إلا النبوة كما أخبر الله تعالى وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي
هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و قال في استخلافه
له اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
.
فثبتت له خلافته بمحكم التنزيل فجعل له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كل ما لهارون (عليه السلام) عدا النبوة و جعل
[حصل] له استخلافه و شد أزره و شركته في أمره و قيامه بنصره و أمثال هذا كثير يرد
في مواضعه من هذا الكتاب بحول الله و قوته.
فكانت إمامته بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثين سنة
منها أربع و عشرون سنة و أشهر ممنوعا من التصرف آخذا بالتقية و المداراة محلا عن
مورد الخلافة قليل الأنصار
[64]
كما قال :
فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء .
يقال ارتأى في الأمر إذا تفكر فيه و نظر وجه المصلحة فأتاه و الجذ
القطع و الجذاء (عليه السلام) المقطوعة و الطخية قطعة من سحاب و الطخياء الليلة المظلمة.
و منها خمس سنين و أشهر ممتحنا بجهاد المنافقين من الناكثين و القاسطين و المارقين
مضطهدا بفتن الضالين واجدا من العناء ما وجده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث عشرة سنة من نبوته
ممنوعا من أحكامها خائفا و محبوسا و هاربا و مطرودا لا يتمكن من جهاد الكافرين و
لا يستطيع الدفع عن المؤمنين و أقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهدا للكافرين ممتحنا
بالمنافقين و سيرد تفصيل هذا فيما بعد إن شاء الله .