next page

fehrest page

back page

في وصف زهده في الدنيا و سنته في رفضها و قناعته باليسير منها و عبادته

قال الخوارزمي و نقلته من مناقبه عن أبي مريم قال سمعت عمار بن ياسر قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يا علي إن الله تعالى زينك بزينة لم يزين العباد بزينة هي أحب إليه منها زهدك فيها و بغضها إليك و حبب إليك الفقراء فرضيت بهم أتباعا و رضوا بك إماما يا علي طوبى لمن أحبك و صدق عليك و الويل لمن أبغضك و كذب عليك أما من أحبك و صدق عليك فإخوانك في دينك و شركاؤك في جنتك و أما من أبغضك و كذب عليك فحقيق على الله تعالى يوم القيامة أن يقيمه مقام الكذابين .

و منه عن عبد الله بن أبي الهذيل قال : رأيت على علي (عليه السلام) قميصا زريا إذا مده بلغ الظفر و إذا أرسله كان مع نصف الذراع .

و منه قال عمر بن عبد العزيز : ما علمنا أن أحدا كان في هذه الأمة بعد

[163]

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أزهد من علي بن أبي طالب قال حدثنا أبو النجيب سعد بن عبد الله الهمداني المعروف بالمروزي قال حدثنا بهذا الحديث عاليا الإمام الحافظ سليمان بن إبراهيم الأصفهاني .

و منه عن سويد بن غفلة قال : دخلت على علي بن أبي طالب القصر فوجدته جالسا و بين يديه صحيفة فيها لبن حازر أجد ريحه من شدة حموضته و في يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه و هو يكسر بيده أحيانا فإذا غلبه كسره بركبته و طرحه فيه فقال ادن و أصب من طعامنا هذا فقلت إني صائم فقال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول من منعه الصوم من طعام يشتهيه كان حقا على الله أن يطعمه من طعام الجنة و يسقيه من شرابها قال فقلت لجاريته و هي قائمة بقريب منه ويحك يا فضة أ لا تتقين الله في هذا الشيخ أ لا تنخلون له طعاما مما أرى فيه من النخالة فقالت لقد تقدم إلينا أن لا ننخل له طعاما قال (عليه السلام) ما قلت لها فأخبرته فقال بأبي و أمي من لم ينخل له طعام و لم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله عز و جل .

الحازر اللبن الحامض انظر هداك الله و إيانا إلى شدة زهده و قناعته فإن إيراده الحديث و قوله (عليه السلام) من منع نفسه من طعام يشتهيه دليل على رضاه بطعامه و كونه عنده طعاما مشتهى يرغب فيه من يراه و ما ذاك لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يهتدي إلى الأطعمة المتخيرة و الألوان المعجبة و لكنه اقتدى برسول الله و وطن نفسه الشريفة على الصبر على جشوبة المأكل و خشونة الملبس رجاء ما عند الله و تأسيا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصار ذلك له ملكة و طبيعة و من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل .

و منه و فيه دليل على ما قلته عن عدي بن ثابت قال : أتي علي بن أبي طالب ع بفالوذج فأبى أن يأكل منه و قال شي‏ء لم يأكل منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أحب أن آكل منه .

و منه عن أبي مطر قال : خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي ارفع إزارك فإنه أتقى لثوبك و أبقى لك و خذ من رأسك إن كنت مسلما فمشيت خلفه

[164]

و هو مؤتزر بإزار و مرتد برداء و معه الدرة كأنه أعرابي بدوي فقلت من هذا فقال لي رجل أراك غريبا بهذا البلد قلت أجل رجل من أهل البصرة قال هذا علي أمير المؤمنين حتى انتهى إلى دار بني أبي معيط و هو سوق الإبل فقال بيعوا و لا تحلفوا فإن اليمين تنفق السلعة و تمحق البركة ثم أتى أصحاب التمر فإذا خادم تبكي فقال ما يبكيك قالت باعني هذا الرجل تمرا بدرهم فردوه موالي فأبى أن يقبله فقال خذ تمرك و أعطها درهمها فإنها خادم ليس لها أمر فدفعه فقلت أ تدري من هذا قال لا قلت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين فصب تمره و أعطاها درهمها و قال أحب أن ترضى عني فقال ما أرضاني عنك إذا وفيتهم حقوقهم ثم مر مجتازا بأصحاب التمر فقال يا أصحاب التمر أطعموا المساكين يربو كسبكم ثم مر مجتازا و معه المسلمون حتى أتى أصحاب السمك فقال لا يباع في سوقنا طاف ثم أتى دار فرات و هو سوق الكرابيس فقال يا شيخ أحسن بيعي في قميصي بثلاثة دراهم فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ثم أتى آخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئا فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم و لبسه ما بين الرسغين إلى الكعبين و قال حين لبسه الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس و أواري به عورتي فقيل له يا أمير المؤمنين هذا شي‏ء ترويه عن نفسك أو شي‏ء سمعته من رسول الله قال بل شي‏ء سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوله عند الكسوة فجاء أبو الغلام صاحب الثوب فقيل يا فلان قد باع ابنك اليوم من أمير المؤمنين (عليه السلام) قميصا بثلاثة دراهم قال أ فلا أخذت منه درهمين فأخذ أبوه درهما و جاء به

[165]

إلى أمير المؤمنين و هو جالس على باب الرحبة و معه المسلمون فقال أمسك هذا الدرهم يا أمير المؤمنين قال ما شأن هذا الدرهم قال كان ثمن قميصك درهمين فقال باعني رضاي و أخذ رضاه .

و منه عن قميصة بن جابر قال : ما رأيت أزهد في الدنيا من علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

و نقلت من كتاب اليواقيت لأبي عمر الزاهد : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) و قد أمر بكنس بيت المال و رشه فقال يا صفراء غري غيري يا بيضاء غري غيري ثم تمثل شعرا :

هذا جناي و خياره فيه *** إذ كل جان يده إلى فيه

و منه قال ابن الأعرابي : إن عليا دخل السوق و هو أمير المؤمنين فاشترى قميصا بثلاثة دراهم و نصف فلبسه في السوق فطال أصابعه فقال للخياط قصه قال فقصه و قال الخياط أحوصه يا أمير المؤمنين قال لا و مشى و الدرة على

[166]

كتفه و هو يقول شرعك ما بلغك المحل شرعك ما بلغك المحل .

الحوص الخياطة و شرعك حسبك أي كفاك .

قال ابن طلحة : حقيقة العبادة هي الطاعة و كل من أطاع الله بامتثال الأوامر و اجتناب النواهي فهو عابد و لما كانت متعلقات الأوامر الصادرة من الله تعالى على لسان رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) متنوعة كانت العبادة متنوعة فمنها الصلاة و منها الصدقة و منها الصيام إلى غيرها من الأنواع و في كل ذلك كان علي (عليه السلام) غاية لا تدرك و كان متحليا بها مقبلا عليها حتى أدرك بمسارعته إلى طاعة الله و رسوله ما فات غيره و قصر عنه سواه فإنه جمع بين الصلاة و الصدقة فتصدق و هو راكع في صلاته فجمع بينهما في وقت واحد فأنزل الله تعالى فيه قرآنا تتلى آياته و تجلى بيناته .

قال أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي في تفسيره يرفعه بسنده قال : بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل رجل متعمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا قال الرجل قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ابن عباس سألتك بالله من أنت فكشف العمامة عن وجهه و قال يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بهاتين و إلا فصمتا و رأيته بهاتين و إلا فعميتا يقول عن علي إنه قائد البررة و قاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله أما إني صليت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما من الأيام الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء و قال اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يعطني أحد شيئا و كان علي في الصلاة راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى و كان متختما فيها فأقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره و ذلك بمرأى من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يصلي فلما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال اللهم إن أخي موسى (عليه السلام) سألك فقال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ

[167]

أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي
فأنزلت فيه قرآنا ناطقا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا اللهم أنا محمد نبيك و صفيك فاشرح لي صدري و يسر لي أمري و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به أزري قال أبو ذر فما استتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلامه حتى نزل جبرئيل (عليه السلام) من عند الله عز و جل فقال يا محمد اقرأ فأنزل الله عليه إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ .

و قال الثعلبي عقيب هذه القصة سمعت أبا منصور الحمشادي يقول سمعت محمد بن عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا الحسن علي بن الحسين يقول سمعت أبا حامد محمد بن هارون الحضرمي يقول سمعت محمد بن منصور الطوسي يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول : ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و رضي عنهم من الفضائل ما جاء لعلي .

و في إيراده قول أحمد عقيب هذه القصة إشارة إلى أن هذه المنقبة العلية و هي الجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين البدنية و المالية في وقت واحد حتى نزل القرآن الكريم بمدح القائم بهما المسارع إليهما قد اختص بها علي (عليه السلام) و انفرد بشرفها و لم يشاركه فيها أحد من الصحابة قبله و لا بعده .

أقول : صدقته بالخاتم في الصلاة أمر مجمع عليه لم يتفرد به الثعلبي رحمه الله و رحم الله ابن طلحة فإنه قد جعل ذكر الثعلبي ما ذكره من قول أحمد بن حنبل بعد هذه القصة دليلا على علو مقدارها و شاهدا بارتفاع منارها و غفل عما أورده فيها من فرح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بها و شدة أثرها في نفسه و تحريكها أريحيته

[168]

(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى استدعت دعاءه لعلي (عليه السلام) لفرط سروره به و انفعال نفسه لفعله فإنها تشهد بعظم شأن هذه الفضيلة و القائم بها .

و من ذلك ما أورده الثعلبي و الواحدي و غيرهما من علماء التفسير : أن الأغنياء أكثروا مناجاة النبي ص و غلبوا الفقراء على المجالس عنده حتى كره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك و استطال جلوسهم و كثرة مناجاتهم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فأمر بالصدقة أمام النجوى فأما أهل العسرة فلم يجدوا و أما الأغنياء فبخلوا و خف ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و خف ذلك الزحام و غلبوا على حبه و الرغبة في مناجاته حب الحطام و اشتد على أصحابه فنزلت الآية التي بعدها راشقة لهم بسهام الملام ناسخة بحكمها حيث أحجم من كان دأبه الإقدام و قال علي (عليه السلام) إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها أحد بعدي و هي آية المناجاة فإنها لما نزلت كان لي دينار فبعته بدراهم و كنت إذا ناجيت الرسول تصدقت حتى فنيت فنسخت بقوله أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ... الآية .

و نقل الثعلبي قال : قال علي (عليه السلام) لما نزلت دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ما ترى ترى دينارا فقلت لا يطيقونه قال فكم قلت حبة أو شعيرة فقال إنك لزهيد فنزلت أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ... الآية .

الزهيد القليل و كأنه يريد مقلل :

شعر :
إذا اشتبهت دموع في خدود *** تبين من بكى ممن تباكى

و قال ابن عمر : ثلاث كن لعلي لو أن لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم تزويجه بفاطمة و إعطاؤه الراية يوم خيبر و آية النجوى .

[169]

قلت : لو أن ابن عمر نظر في حقيقة أمره و عرف كنه قدره و راقب الله و العربية في سره و جهره لم يجعل فاطمة (عليها السلام) من أمانيه , و لكان يوجه أمله إلى غير ذلك من المناقب التي جمعها الله فيه ; و لكن عبد الله يرث الفظاظة و يقتضي طبعه الغلاظة فإنه غسل باطن عينيه في الوضوء حتى عمي ; و شك في قتال علي (عليه السلام) فقعد عنه و تخلف و ندم عند موته .

قال ابن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب قال : قال عبد الله بن عمر عند موته : ما أجد في نفسي من أمر الدنيا شيئا إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب .

فأشكل عليه أمر علي (عليه السلام) و بايع معاوية و يزيد ابنه ; و حث ولده و أهله على لزوم طاعة يزيد و الاستمرار على بيعته , و قال : لا يكون أصعب من نقضها إلا الإشراك و من نقضها كانت صيلم بيني و بينه و ذلك حين قام الناس مع ابن الزبير و قد تقدم ذكر هذا و حاله حين جاء إلى الحجاج ليأخذ بيعته لعبد الملك معلوم و الحجاج قتله في آخر الأمر بأن دس عليه في رخام من جرح رجله بحربة مسمومة و الغرض في جمع هذا الكتاب غير هذا.

و روى الواحدي في تفسيره : أن عليا (عليه السلام) آجر نفسه ليلة إلى الصبح يسقي نخلا بشي‏ء من شعير فلما قبضه طحن ثلثه و اتخذوا منه طعاما فلما تم أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام و عملوا الثلث الثاني فأتاهم يتيم فأخرجوه إليه و عملوا الثلث الثالث فأتاهم أسير فأخرجوا الطعام إليه و طوى علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام و علم الله حسن مقصدهم و صدق نياتهم و أنهم إنما أرادوا بما فعلوه وجهه و طلبوا بما أتوه ما عنده و التمسوا الجزاء منه عز و جل فأنزل الله فيهم قرآنا و أولاهم من لدنه إحسانا و نشر لهم بين العالمين ديوانا و عوضهم عما بذلوا جنانا و حورا و ولدانا فقال وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إلى آخرها و هذه منقبة لها عند الله محل كريم و جودهم بالطعام مع شدة الحاجة إليه أمر عظيم و لهذا تتابع فيها وعده سبحانه بفنون

[170]

الألطاف و ضروب الإنعام و الإسعاف و قيل إن الضمير في حبه يعود إلى الله تعالى و هو الظاهر و قيل إلى الطعام.

و اعلم أن أنواع العبادة كثيرة و هي متوقفة على قوة اليقين بالله تعالى و ما عنده و ما أعده لأوليائه في دار الجزاء و على شدة الخوف من الله تعالى و أليم عقابه نعوذ بالله منه .

و علي (عليه السلام) القائل : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا .

فشدة يقينه دالة على قوة دينه و رجاحة موازينه و قد تظاهرت الروايات أنه لم يكن نوع من أنواع العبادة و الزهد و الورع إلا و حظه منه وافر الأقسام و نصيبه منه تام بل زائد على التمام و ما اجتمع الأصحاب على خير إلا كانت له رتبة الأمام و لا ارتقوا قبة مجد إلا و له ذروة الغارب و قلة السنام و لا احتكموا في قصة شرف إلا و ألقوا إليه أزمة الأحكام .

و روى الحافظ أبو نعيم بسنده في حليته أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إلى الله منها هي زينه الأبرار عند الله تعالى الزهد في الدنيا فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا و لا ترزأ منك الدنيا شيئا .

أي لا تنقص منها و لا تنقص منك و ارتزأ الشي‏ء نقص .

و قد أورده صاحب كفاية الطالب أبسط من هذا قال : سمعت أبا مريم السلولي يقول سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إلى الله منها الزهد في الدنيا و جعلك لا تنال من الدنيا شيئا و لا تنال الدنيا منك شيئا و وهب لك حب المساكين فرضوا بك إماما و رضيت بهم أتباعا فطوبى لمن أحبك و صدق فيك و ويل لمن أبغضك و كذب عليك فأما الذين أحبوك و صدقوا فيك فهم جيرانك في دارك و رفقاؤك في قصرك و أما الذين أبغضوك و كذبوا عليك فحق على الله أن يوقفهم موقف الكذابين يوم

[171]

القيامة و ذكره ابن مردويه في مناقبه .

فقد ثبت لعلي الزهد في الدنيا بشهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له بذلك و لا يصح الزهد في الشي‏ء إلا بعد معرفته و العلم به و علي (عليه السلام) عرف الدنيا بعينها و تبرجت له فلم يحفل بزينتها لشينها و تحقق زوالها فعاف وصالها و تبين انتقالها فصرم حبالها و استبان قبح عواقبها و كدر مشاربها فألقى حبلها على غاربها و تركها لطالبها و تيقن بؤسها و ضررها فطلقها ثلاثا و هجرها و عصاها إذ أمرته فعصته إذ أمرها و علمت أنه ليس من رجالها و لا من ذوي الرغبة في جاهها و مالها و لا ممن تقوده في حبالها و تورده موارد وبالها فصاحبته هدنة على دخن و ابتلته بأنواع المحن و جرت في معاداته على سنن و غالته بعده في ابنيه الحسين و الحسن و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزداد على شدة اللأواء إلا صبرا و على تظاهر الأعداء إلا حمدا لله و شكرا مستمرا في ذات الله شديدا على أعداء الله و أوفى بأولياء الله شاكرا لآلاء الله مستمرا على طريقة لا يغيرها جاريا على وتيرة لا يبدلها آخذا بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحول عنها مقتفيا لآثاره لا يفارقها واطيا لعقبه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يجاوزها حتى نقله الله إلى جواره و اختار له دارا خيرا من داره فمضى (صلى الله عليه وآله وسلم) محمود الأثر مشكور الورد و الصدر مستبدلا بدار الصفا من دار الكدر قد لقي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجه لم يشوهه التبديل و قلب لم تزدهه الأباطيل .

قال علي (عليه السلام)

[172]

يوما و قد أحدق به الناس :
أحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة و ليست بدار نجعة هانت على ربها فخلط شرها بخيرها و حلوها بمرها لم يصفها لأوليائه و لم يضن بها على أعدائه و هي دار ممر لا دار مستقر و الناس فيها رجلان رجل باع نفسه فأوبقها و رجل ابتاع نفسه فأعتقها إن اعذوذب منها جانب فجلا أمر منها جانب فأوبى أولها عناء و آخرها فناء من استغنى فيها فتن و من افتقر فيها حزن و من ساعاها فاتته و من قعد عنها أتته و من أبصرها بصرته و من أبصر إليها أعمته فالإنسان فيها غرض المنايا مع كل جرعة شرق و مع كل أكلة غصص لا ينال منها نعمة إلا بفراق أخرى .

و كلامه (عليه السلام) في الدنيا و صفتها و التنبيه على أحوالها و معرفتها و كثرة خدعها و مكرها و تنوع إفسادها و غرها و إيلامها بنيها و ضرها كثير جدا و هو موجود في تضاعيف الكتب و في نهج البلاغة فيستغنى بما هناك عن ذكرها هنا لئلا

[173]

يخرج من غرض الكتاب .

و لما علمه من حال الدنيا رفضها و تركها و ترفع عنها و فركها و عاملها معاملة من لم يدركها حين أدركها و خاف على نفسه التورط في مهاويها فما انتهجها و لا سلكها و خشي أن تملكه بزخارفها فلم يحفل بها لما ملكها و احترز من آلامها و آثامها و خلص من أمراضها و أسقامها و عرفها تعريف خبير بحدها و رسمها و أنزلها على حكمه و لم ينزل على حكمها فصار زهده مسألة إجماع لا شك فيه و لا إنكار و ورعه مما اشتهر في النواحي و الأقطار و عبادته و نزاهته مما أطبق عليه علماء الأمصار و هو الذي فرق بيت المال على مستحقيه و قال :

هذا جناي و خياره فيه *** إذ كل جان يده إلى فيه

و كان يرشه و يصلي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة .

قال هارون بن عنترة قال حدثني أبي قال : دخلت على علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالخورنق و هو يرعد تحت سمل قطيفة فقلت يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قد جعل لك و لأهل بيتك في هذا المال ما يعم و أنت تصنع بنفسك ما تصنع فقال و الله ما أرزأكم من أموالكم شيئا و إن هذه لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي [منزلنا] من المدينة ما عندي غيرها .

السمل الخلق من الثياب يقال ثوب أسمال كما قالوا رمح أقصاد و القطيفة ما له خمل.

و من هذا أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية بعد موت علي فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين و آل أمره إلى أن قال ما حاجتك قالت إن الله مسائلك عن أمرنا و ما افترض عليك من حقنا و لا يزال يقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك و يبطش بقوة سلطانك فيحصدنا حصيد السنبل و

[174]

يدوسنا دوس الحرمل يسومنا الخسف و يذيقنا الحتف هذا بسر بن أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا و أخذ أموالنا و لو لا الطاعة لكان فينا عز و منعة فإن عزلته عنا شكرناك و إلا كفرناك .

فقال معاوية : إياي تهددين بقومك يا سودة لقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه .

فأطرقت سودة ساعة ثم قالت :

صلى الإله على روح تضمنها *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا *** فصار بالحق و الإيمان مقرونا

فقال معاوية من هذا يا سودة ?

قالت : و الله هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

و الله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا فصادفته قائما يصلي فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة و رفق و رأفة و تعطف , و قال : أ لك حاجة ?

قلت : نعم , فأخبرته الخبر .

فبكى , ثم قال : اللهم أنت الشاهد علي و عليهم و أني لم آمرهم بظلم خلقك و لا بترك حقك .

ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها :

بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل و الميزان و لا تبخسوا الناس أشياءهم و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ; فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك و السلام .

ثم دفع الرقعة إلي فو الله ما ختمها بطين و لا خذمها فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولا .

فقال معاوية : اكتبوا لها كما تريد و اصرفوها إلى بلدها غير شاكية.

و كم له (صلى الله عليه وآله وسلم) من الآثار و الأخبار و المناقب التي لا تستر أو يستر وجه النهار و السيرة التي هي عنوان السير و المفاخر التي يتعلم منها من فخر و المآثر التي

[175]

تعجز من بقي كما أعجزت من غبر.

و خرج (عليه السلام) يوما و عليه إزار مرقوع فعوتب عليه فقال يخشع القلب بلبسه و يقتدي بي المؤمن إذا رآه علي.

و اشترى (عليه السلام) يوما ثوبين غليظين فخير قنبرا فيهما فأخذ واحدا فلبس هو الآخر و رأى في كمه طولا عن أصابعه فقطعه .

و خرج يوما إلى السوق و معه سيفه ليبيعه فقال : من يشترى مني هذا السيف فو الذي فلق الحبة لطال ما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لو كان عندي ثمن إزار لما بعته .

و كان (عليه السلام) قد ولى على عكبرا رجلا من ثقيف قال قال لي علي (عليه السلام) إذا صليت الظهر غدا فعد إلي فعدت إليه في الوقت المعين فلم أجد عنده حاجبا يحبسني دونه فوجدته جالسا و عنده قدح و كوز ماء فدعا بوعاء مشدود مختوم فقلت في نفسي قد أمنني حتى يخرج إلي جوهرا فكسر الختم و حله فإذا فيه سويق فأخرج منه فصبه في القدح و صب عليه ماء فشرب و سقاني فلم أصبر فقلت له يا أمير المؤمنين أ تصنع هذا في العراق و طعامه كما ترى في كثرته فقال أما و الله ما أختم عليه بخلا به و لكني أبتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن ينقص فيوضع فيه من غيره و أنا أكره أن أدخل بطني إلا طيبا فلذلك أحترز عليه كما ترى فإياك و تناول ما لا تعلم حله .

و من ذلك ما حكاه عنه مجاهد قال : قال لي علي جعت يوما بالمدينة جوعا شديدا فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرا فظننتها تريد بله فأتيتها فقاطعتها عليه كل ذنوب على تمرة فمددت ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداي ثم أتيت الماء فأصبت منه ثم أتيتها فقلت بكفي هكذا بين يديها و بسط

[176]

الراوي كفيه و جمعها فعدت لي ستة عشرة تمرة فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبرته فأكل معي منها .

الذنوب الدلو الملأى ماء و مجلت يده تمجل مجلا إذا تنفطت من العمل و مجلت بالكسر مجلا و أمجل العمل يده .

و من ذلك : أنه أتي بزقاق فيها عسل من اليمن و نزل بالحسن (عليه السلام) ضيف فاشترى خبزا و طلب من قنبر أدما ففتح زقا و أعطاه منه رطلا فلما قعد (عليه السلام) ليقسمها قال يا قنبر قد حدث في هذا الزق حدث قال صدقت يا أمير المؤمنين و أخبره فغضب و قال علي به فلما حضر هم بضربه فأقسم عليه بعمه جعفر و كان (عليه السلام) إذا أقسم به عليه سكن فقال ما حملك على أن أخذت قبل القسمة قال إن لنا فيه حقا فإذا أعطيتنا رددناه قال لا يجوز أن تنتفع بحقك قبل انتفاع الناس لو لا أني رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقبل ثنيتك لأوجعتك ضربا ثم دفع إلى قنبر درهما و قال اشتر به من أجود عسل يوجد قال الراوي فكأني أنظر إلى يد علي على فم الزق و قنبر يقلب العسل فيه ثم شده بيده و هو يبكي و يقول اللهم اغفرها للحسن فإنه لم يعلم .

فأعجب بهذه المكارم و الأفعال و القضايا التي هي غرر في جبهات الأيام و الزهادة التي فاق بها جميع الأنام و الورع الذي حمله على ترك الحلال فضلا عن الحرام و العبادة التي أوصلته إلى مقام وقف دونه كل الأقوام .

مناقب لجت في علو كأنها *** تحاول نارا عند بعض الكواكب

‏محاسن من مجد متى يقرنوا بها *** محاسن أقوام تعد كالمعايب

و لما ألزم نفسه الشريفة تحمل هذه المتاعب و قادها إلى أتباعه فانقادت انقياد الجنائب و ملكها حتى صاحب منها أكرم عشير و خير مصاحب و استشارها ليختبرها فلم تنه إلا عن منكر و لا أمرت إلا بواجب صار له ذلك طبعا و سجية و انضم عليه ظاهرا و نية و أعمل فيه عزيمة كهمته قوية و استوى في السعي لبلوغ غاياته علانية و طوية فما تحرك حركته إلا بفكر و في تحصيل أجر و في تخليد

[177]

ذكر لا لطلب فخر و إعلاء قدر بل لامتثال أمر و طاعة في سر و جهر فلذلك شكر الله سعيه حين سعى و عمه بألطافه العميمة و رعى و أجاب دعاءه لما دعا و جعل أذنه السميعة الواعية فسمع و وعى فأسأل الله بكرمه أن يحشرني و محبيه و إياه معا .

قال الواحدي في تفسيره يرفعه بسنده إلى ابن عباس قال : إن علي بن أبي طالب كان يملك أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا و بدرهم نهارا و بدرهم سرا و بدرهم علانية فأنزل الله سبحانه فيه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

أنشدني بعض العلويين لبعض الأصحاب :

عتبت إلى الدنيا و قلت إلى متى *** أكابد عسرا ضره ليس ينجلي

‏أ كل شريف من علي جدوده *** حرام عليه الرزق غير محلل

‏فقالت نعم يا ابن الحسين رميتكم *** بسهمي عنادا حين طلقني علي

next page

fehrest page

back page