next page

fehrest page

back page

المجلد الثاني من كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة



[2]

تتمة الجزء الثاني

[3]

ذكر الإمام الثالث

أبي عبد الله الحسين الزكي (عليه السلام)

قال الشيخ كمال الدين رحمه الله الباب الثالث في أبي عبد الله الحسين الزكي (عليه السلام) و فيه اثنا عشر فصلا :

1- في ولادته .

2- في نسبه .

3- في تسميته .

4- في كنيته و لقبه .

5- فيما ورد في حقه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إمامته .

6- في شجاعته و شرف نفسه .

7- في كرمه .

8- في كلامه .

9- في أولاده .

10- في عمره .

11- في خروجه من المدينة إلى مكة إلى العراق .

12- في مصرعه و مقتله .

الأول في ولادته (عليه السلام)

ولد بالمدينة بخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة و كانت والدته الطهر البتول فاطمة (عليها السلام) علقت به بعد أن ولدت أخاه الحسن (عليه السلام) بخمسين ليلة هكذا صح النقل فلم يكن بينه و بين أخيه (عليه السلام) سوى هذه المدة المذكورة و مدة الحمل و لما ولد و أعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به أخذه و أذن في أذنه.

قيل أذن في أذنه اليمنى و أقام في اليسرى.

قال الشيخ المفيد رحمه الله ولد بالمدينة في التاريخ المذكور قال و جاءت به أمه فاطمة (عليه السلام) إلى جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستبشر به و سماه حسينا و عق عنه كبشا و كذلك قال الحافظ عبد العزيز الجنابذي رحمه الله تعالى .

الثاني في نسبه (عليه السلام)

نسبه نسب أخيه الحسن (عليه السلام) و قد تقدم ذكره و هو النسب الذي

[4]

افترع هام الكواكب شرفا و علا و فاق النيرات سنا و سناء فلا حاجة إلى إعادة ذكره .

الثالث في تسميته

قال كمال الدين رحمه الله هذا الاسم سماه به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه لما أعلم به أخذه و أذن في أذنه اليمنى و أقام في اليسرى و قال سموه حسينا فكانت تسميته أخيه بالحسن و تسميته بالحسين صادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عق عنه و ذبح عنه كبشا و حلقت والدته (عليه السلام) رأسه و تصدقت بوزن شعره فضة كما أمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد تقدم ذلك في أخبار الحسن (عليه السلام) .

الرابع في كنيته و لقبه

قال كمال الدين رحمه الله كنيته أبو عبد الله لا غير و أما ألقابه فكثيرة الرشيد و الطيب و الوفي و السيد و الزكي و المبارك و التابع لمرضاة الله و السبط فكل هذه كانت تقال له و تطلق عليه و أشهرها الزكي لكن أعلاها رتبة ما لقبه به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله عنه و عن أخيه إنهما سيدا شباب أهل الجنة فيكون السيد أشرفها و كذلك السبط فإنه صح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال .

حسين سبط من الأسباط و سيأتي هذا الحديث في الفصل الخامس تلو هذا إن شاء الله تعالى.

قال ابن الخشاب رحمه الله يكنى بأبي عبد الله لقبه الرشيد و الطيب و الوفي و السيد و المبارك و التابع لمرضاة الله و الدليل على ذات الله عز و جل و السبط .

الخامس في إمامته و ما ورد في حقه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قولا و فعلا

أما إمامته (عليه السلام) فدليلها النص من أبيه و جده (عليه السلام) و وصيه أخيه

[5]

الحسن (عليه السلام) إليه فكانت إمامته بعد وفاة أخيه بما قدمناه ثابتة و طاعته لجميع الخلق لازمة و إن لم يدع إلى نفسه (عليه السلام) للتقية التي كان عليها و الهدنة الحاصلة بينه و بين معاوية و التزم الوفاء بها و جرى في ذلك مجرى أبيه أمير المؤمنين و ثبوت إمامته بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الصموت و إمامة أخيه الحسن (عليه السلام) بعد الهدنة مع الكف و السكوت و كانوا في ذلك على سيرة نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في الشعب محصور و عند خروجه مهاجرا من مكة فلما مات معاوية و انقضت مدة الهدنة التي كانت تمنع الحسين بن علي (عليه السلام) من الدعوة إلى نفسه أظهر أمره بحسب الإمكان و أبان عن حقه للجاهلين به حالا بحال إلى أن اجتمع له في الظاهر الأنصار فدعا (عليه السلام) إلى الجهاد و شمر للقتال و توجه بولده و أهل بيته من حرم الله و حرم رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) نحو العراق للاستنصار بمن دعاه من شيعته على الأعداء.

و قدم أمامه ابن عمه مسلم بن عقيل رضي الله عنه و أرضاه للدعوة إلى الله و البيعة له فبايعه أهل الكوفة على ذلك و عاهدوه و ضمنوا له النصرة و النصيحة و وثقوا له في ذلك و عاقدوه ثم لم تطل المدة بهم حتى نكثوا بيعته و خذلوه و أسلموه و قتل بينهم و لم يمنعوه و خرجوا إلى الحسين (عليه السلام) فحضروه و منعوه المسير في بلاد الله و اضطروه إلى حيث لا يجد ناصرا و لا مهربا منهم و حالوا بينه و بين ماء الفرات حتى تمكنوا منه و قتلوه فمضى (عليه السلام) ظمآن مجاهدا صابرا محتسبا مظلوما قد نكثت بيعته و انتهكت حرمته و لم يوف له بعهد و لا رعيت فيه ذمة عقد شهيدا على ما مضى عليه أبوه و أخوه (عليه السلام) و الصلاة و الرحمة.

أقول مناقب الحسين (عليه السلام) واضحة الظهور و سنا شرفه و مجده مشرق النور فله الرتبة العالية و المكانة السامية في كل الأمور فما اختلف في نبله و فضله و اعتلاء محله أحد من الشيعة و لا الجمهور .

عرف العالمون فضلك بالعلم *** و قال الجهال بالتقليد

[6]

و كيف لا يكون كذلك و قد اكتنفه الشرف من جميع أكنافه و ظهرت مخائل السؤدد على شمائله و أعطافه و كاد الجلال يقطر من نواحيه و أطرافه و هذا قول لا أخاف أن يقول مسلم بخلافه الجد محمد المصطفى و الأب علي المرتضى و الجدة خديجة الكبرى و الأم فاطمة الزهراء و الأخ الحسن ذو الشرف و الفخار و العم جعفر الطيار و البيت من هاشم الصفوة الأخيار فهو و أخوه (عليهما السلام) صفوة الصفوة و نور الأنوار و هو في نفسه السيد الشريف و الطود المنيف و الشجاع الغطريف و الأسد الهصور و الفارس المذكور و العلم المشهور .

أتاه المجد من هنا و هنا *** و كان له بمجتمع السيول

و قد تقدم في أخبار أبيه و أخيه ما هو قسيمهما فيه فما افترعا غارب مجد إلا افترعه و لا جمعا شمل سؤدد إلا جمعه و لا نالا رتبة علاء إلا نالها و لا طالا هضبة عز إلا طالها و أنا أذكر في هذا الفصل شيئا مما ورد في وصف فضائله و ما ورد فيه التذاذا بتكرير مناقبه و مفاخره و طربا بعد مزاياه و مآثره و إن كان في تضاعيف هذا الكتاب من نعوته و صفاته ما فيه غنية كافية لأولي الألباب و الله الموفق للصواب .

قال يعلى بن مرة سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : حسين مني و أنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط .

و روي عن أبي عوانة يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : إن الحسن و الحسين شنفا العرش و إن الجنة قالت يا رب أسكنتني الضعفاء و المساكين فقال الله تعالى لها أ ما ترضين أني زينت أركانك بالحسن و الحسين قال فماست كما تميس العروس فرحا .

[7]

و روي عن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال : اصطرع الحسن و الحسين بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال رسول الله ص إيها حسن خذ حسينا فقالت فاطمة (عليها السلام) يا رسول الله أ تستنهض الكبير على الصغير فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا جبرئيل يقول للحسين إيها حسين خذ الحسن .

و روي عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت : يا رسول الله رأيت البارحة حلما منكرا قال و ما هو قالت إنه شديد قال ما هو قالت رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت فوضعت في حجري فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأيت خيرا تلد فاطمة (عليها السلام) الحسين قالت و كان في حجري كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخلت يوما على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاته فإذا عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تهرقان بالدموع فقلت بأبي أنت و أمي يا رسول الله ما لك قال أتاني جبرئيل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا و أتاني بتربة من تربته حمراء .

و روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس و الحسن و الحسين (عليه السلام) في حجره إذ هملت عيناه بالدموع فقلت يا

[8]

رسول الله ما لي أراك تبكي جعلت فداك فقال جاءني جبرئيل (عليه السلام) فعزاني بابني الحسين و أخبرني أن طائفة من أمتي تقتله لا أنالهم الله شفاعتي .

و روي بإسناد آخر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عندنا ذات ليلة فغاب عنا طويلا و عاد و هو أشعث أغبر و يده مضمومة فقلت يا رسول الله ما لي أراك أشعث مغبرا فقال أسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له كربلاء فأريت فيه مصرع الحسين ابني و جماعة من ولدي و أهل بيتي فلم أزل ألقط دمائهم فها هي في يدي و بسطها لي فقال لي خذيها فاحتفظي بها فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر فوضعته في قارورة و سددت رأسها و احتفظت بها فلما خرج الحسين (عليه السلام) من مكة متوجها إلى العراق كنت أخرج تلك القارورة في كل يوم فأشمها و أنظر إليها و أبكي لمصابه فلما كان اليوم العاشر من المحرم و هو اليوم الذي قتل فيه (عليه السلام) أخرجتها في أول النهار و هي بحالها ثم عدت إليها في آخر النهار فإذا هي دم عبيط فصحت في بيتي و بكيت و كظمت غيظي مخافة أن تسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة فلم أزل حافظة للوقت و اليوم حتى جاء الناعي ينعاه فحقق ما رأيت .

و روي : أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ذات يوم جالسا و حوله علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليه السلام) فقال لهم كيف أنتم إذا كنتم صرعى و قبوركم شتى فقال له الحسين (عليه السلام) أ نموت موتا أو نقتل قتلا فقال بل تقتل يا بني ظلما و يقتل أخوك ظلما و تشرد ذراريكم في الأرض فقال الحسين (عليه السلام) و من يقتلنا يا رسول الله قال شرار الناس قال فهل يزورنا بعد قتلنا أحد قال نعم يا بني طائفة من أمتي يريدون بزيارتكم بري و صلتي فإذا كان يوم القيامة جئتها إلى الموقف حتى آخذ بأعضادها فأخلصها من أهواله و شدائده .

قلت هذا الخبر بهذه السياقة نقلته من إرشاد الشيخ المفيد رحمه الله تعالى و عندي فيه نظر فإن الحسين (عليه السلام) كان أصغر الجماعة الذين ذكرهم (عليه السلام)

[9]

فكيف خصه بالسؤال و الجواب دونهم و كيف صدع قلبه على صغره و حداثته بذكر القتل و أزعج قلب الأم عليها السلام بما لقي به ولديها عليهما السلام و كيف تفرغ الحسين (عليه السلام) مع سماع هذا جميعه إلى أن يسأل عن الزوار ؟ و الله سبحانه أعلم .

و روى عبد الله بن شريك العامريقال : كنت أسمع أصحاب محمد (عليه السلام) إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون هذا قاتل الحسين بن علي (عليه السلام) و ذلك قبل أن يقتل بزمان طويل .

و روى سالم بن أبي حفصة قال : قال عمر بن سعد للحسين يا با عبد الله إن قبلنا ناسا سفهاء يزعمون أني أقتلك فقال الحسين (عليه السلام) إنهم ليسوا بسفهاء و لكنهم حلماء أما إنه يقر بعيني أنك لا تأكل بر العراق بعدي إلا قليلا .

و روى يوسف بن عبيدةقال : سمعت محمد بن سيرين يقول لم نر هذه الحمرة في السماء إلا بعد قتل الحسين (عليه السلام) .

و روى سعد الإسكاف قال : قال أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) : كان قاتل يحيى بن زكريا (عليه السلام) ولد زنا و كان قاتل الحسين بن علي (عليه السلام) ولد زنا و لم تحمر السماء إلا لهما .

و روى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال : خرجنا مع الحسين (عليه السلام) فما نزلنا منزلا و لا ارتحلنا منه إلا و ذكر يحيى بن زكريا (عليه السلام) و قال يوما من الأيام من هوان الدنيا على الله عز و جل أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا من بني إسرائيل .

و تظاهرت الأخبار بأنه لم ينج أحد من قاتل الحسين (عليه السلام) و أصحابه رضي الله عنهم من قتل أو بلاء افتضح به قبل موته.

قال الشيخ كمال الدين رحمه الله :

الفصل الخامس : فيما ورد في حقه من جهة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قولا و فعلا

و هو فصل مستحلى الموارد و المصادر و مستعلى المحامد و المآثر مسفر عن جمل المناقب السوافر مشعر بأن الحسن و الحسين (عليه السلام) أحرزا على المعالي و أفخرا المفاخر فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

[10]

خصهما من مزايا العلاء بأتم معنى و منحهما من سجايا الثناء كل مثنى فأفرد و ثنى و مدح و أثنى و أنزلهما ذروة السناء الأسنى فأما ما يخص الحسن (عليه السلام) فقد تقدم في فضله و أما تمام المشترك و ما يخص الحسين فهذا أوان إحراز خصله .

فمنه حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أخرجه الإمام أحمد بن حنبل و الترمذي كل منهما في صحيحة يرويه عنه بسنده و قد تقدم طرف منه في فضل فاطمة (عليها السلام) و جملة الحديث : أن حذيفة قال لأمه دعيني آتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصلي معه و أسأله أن يستغفر لي و لك فأتيته و صليت معه المغرب ثم قام فصلى حتى صلى العشاء ثم انفتل فتبعته فسمع صوتي فقال من هذا حذيفة قلت نعم قال ما حاجتك قلت تستغفر لي و لأمي فقال غفر الله لك و لأمك إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط من قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي و يبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة و أن الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة .

و منه ما أخرجه الترمذي أيضا : أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبصر حسنا و حسينا فقال اللهم إني أحبهما فأحبهما .

و منه ما رواه ابن الجوزي رحمه الله بسنده في صفة الصفوة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : إن هذان ابناي فمن أحبهما فقد أحبني يعني الحسن و الحسين .

و من المشترك جملة تقدمت في فضل الحسن (عليه السلام) فلا حاجة إلى إعادتها هاهنا .

و منه ما أخرجه أيضا الترمذي بسنده عن يعلى بن مرةقال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسين مني و أنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط .

و منه ما نقله الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الترمذي رضي الله عنهما بسندهما كل واحد منهما في صحيحة عن ابن عمر رضي الله عنه : .... و سأله رجل عن دم البعوض .

[11]

فقال : ممن أنت ?

فقال : من أهل العراق .

فقال : انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض و قد قتلوا ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ; و سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول هما ريحانتاي من الدنيا .

و روي : أنه سأله عن المحرم يقتل الذباب فقال يا أهل العراق تسألوني عن قتل الذباب و قد قتلتم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذكر الحديث و في آخره و هما سيدا شباب أهل الجنة .

و منه ما أخرجه الترمذي رحمه الله في صحيحة بسنده عن سلمى الأنصارية قالت : دخلت على أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي تبكي فقلت ما يبكيك قالت رأيت الآن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام و على رأسه و لحيته التراب فقلت ما لك يا رسول الله قال شهدت قتل الحسين آنفا .

و منه ما أخرجه البخاري و الترمذي رضي الله عنهما في صحيحيهما كل منهما بسنده عن أنس رضي الله عنه قال : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين (عليه السلام) فجعل في طست فجعل ينكته فقال في حسنه شيئا قال أنس فقلت و الله إنه كان أشبههم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان مخضوبا بالوسمة .

و في رواية الترمذي : فجعل يضرب بقضيب في أنفه .

و لقد وفق الترمذي فإنه لما روى هذا الحديث و ذكر فعل ابن زياد زاده الله عذابا نقل ما فيه اعتبار و استبصار فإنه روى في صحيحه بسنده عن عمار بن عمير قال : لما قتل عبيد الله بن زياد و جي‏ء برأسه و رءوس أصحابه و نضدت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم و الناس يقولون قد جاءت قد جاءت فإذا حية قد جاءت تخلل الرءوس حتى جاءت فدخلت في منخر عبيد الله بن زياد فمكث هنيئة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا قد جاءت ففعلت ذلك مرارا.

قال علي بن عيسى عفا الله عنه بكرمه و وفقه لتأدية شكر إحسانه و نعمه لا ريب أن هذه موعظة لأولى الأبصار و عجيبة من عجائب هذه الدار و صغيرة بالنسبة إلى

[12]

ما أعد الله لهؤلاء الظلمة من عذاب النار فإنهم ركبوا من قتل الحسين و أهله و سبي حريمه ما لا يركب مثله مردة الكفار و لا يقدم عليه إلا من خلع ربقة الدين و جاهر الله بالعداوة فحسبه جهنم و بئس القرار.

قلت و قد ذكره عز الدين بن الأثير الجزري رحمه الله في تاريخه .

و روى الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة الطاهرة مرفوعا إلى عائشة قالت : كانت لنا مشربة فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد لقاء جبرئيل (عليه السلام) لقيه فيها فلقيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة من ذلك فيها و أمر عائشة أن لا يصعد إليه أحد و دخل حسين بن علي و لم تعلم حتى غشيهما فقال له جبرئيل من هذا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابني فأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعله على فخذه فقال أما إنه سيقتل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و من يقتله قال أمتك فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمتي تقتله قال نعم و إن شئت أخبرتك بالأرض التي تقتل فيها فأشار جبرئيل إلى الطف بالعراق و أخذ تربة حمراء فأراه إياها و قال هذه من تربة مصرعه .

و من الكتاب المذكور عن الأصبغ بن نباته عن علي (عليه السلام) قال : أتينا معه موضع قبر الحسين فقال علي (عليه السلام) هاهنا مناخ ركابهم و موضع رحالهم و هاهنا مهراق دمائهم فتية من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء و الأرض .

و منه يرفعه إلى عبد الله بن مسعود قال : بينما نحن جلوس عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ دخل فتية من قريش فتغير لونه فقلنا يا رسول الله لا نزال نرى في وجهك الشي‏ء نكرهه فقال أنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا و إن أهل بيتي سيلقون بعدي تطريدا و تشريدا .

و من كتابه مرفوعا إلى العوام بن حوشب قال : بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى شباب من قريش كأن وجوههم سيوف مصقولة ثم رئي في وجهه كابة حتى

[13]

عرفوا ذلك فقالوا يا رسول الله ما شأنك قال إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا و أني ذكرت ما يلقى أهل بيتي من بعدي من أمتي من قتل و تطريد و تشريد .

و روى الجنابذي مرفوعا إلى يحيى بن أبي بكر عن بعض مشيختهقال : قال الحسين بن علي (عليه السلام) حين أتاه الناس فقام فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس انسبوني و انظروني من أنا ثم ارجعوا أنفسكم و عاتبوها فانظروا هل يحل لكم سفك دمي و انتهاك حرمتي أ لست ابن بنت نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) و ابن ابن عمه و ابن أولى المؤمنين بالله أ و ليس حمزة سيد الشهداء عمي أ و لم يبلغكم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مستفيضا فيكم لي و لأخي أنا سيدا شباب أهل الجنة أ ما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي و انتهاك حرمتي قالوا ما نعرف شيئا مما تقول فقال إن فيكم من سألتموه لأخبركم أنه سمع ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في و في أخي الحسن سلوا زيد بن ثابت و البراء بن عازب و أنس بن مالك يحدثكم أنه سمع ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في و في أخي فإن كنتم تشكون في هذا فتشكون في إني ابن بنت نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) فو الله ما تعمدت كذبا منذ عرفت إن الله تعالى يمقت على الكذب أهله و يضربه من اختلقه فو الله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري منكم و لا من غيركم ثم أنا ابن بنت نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة دون غيره خبروني هل تطلبوني بقتيل منكم قتلته أو بمال استهلكته أو بقصاص من جراحة فسكتوا .

قال أفقر عباد الله إلى رحمته و شفاعة نبيه و أئمته (عليه السلام) علي بن عيسى أغاثه الله تعالى يوم الفزع الأكبر : كأن الحسين (عليه السلام) فارس الحرب الذي لا يصطلى بناره و لا تقدم غلب الأسود على شق غباره و لم يقل هذا القول ضراعة و لا خوارا فإنه كان عالما بما يئول أمره إليه عارفا بما هو قادم عليه عرف ذلك من أبيه و جده عليهم الصلاة و السلام و اطلع على حقيقته بما خصه الله به من بين الأنام فله الكشف و النظر و هو و أخوه قبله و بنوه من بعده خيرة

[14]

الله من البشر ينظرون إلى الغيب من وراء ستر رقيق و يشاهدون بمرايا خواطرهم الصقيلة و يشهدون بعداوة العدو و صداقة الصديق و إنما كان ذلك القول منه و تكراره إقامة للحجة عليهم و دفعا في صدر من ربما قال لم أعلم أو كنت مشدوها أو اشتبه علي الأمر فلم أهتد لوجه الصواب فنفى هذه الاحتمالات بإنذاره و إعذاره و تركهم و لا حاجز بينهم و بين عذاب الله و ناره و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .

السادس في علمه و شجاعته و شرف نفسه

أقول و الله الموفق للصواب إن علوم أهل البيت (عليهم السلام) لا تتوقف على التكرار و الدرس و لا يزيد يومهم فيها على ما كان في الأمس و لا يعلمونها بالقياس و الفكر و الحدس لأنهم المخاطبون في أسرارهم المكلمون بما يسألونه قبل ارتداد النفس فسماء معارفهم و علومهم بعيدة عن الإدراك و اللمس فمن أراد ستر فضائلهم كان كمن أراد ستر وجه الشمس و هذا مما يجب أن يكون ثابتا مقررا في النفس فهم يرون عالم الغيب في عالم الشهادة و يقفون على حقائق المعارف في خلوات العبادة و تناجيهم أفكارهم في أوقات أذكارهم بما تسنموا به غارب الشرف و السيادة و يحصلون بصدق توجههم إلى جنات القدس ما بلغوا به منتهى السؤال و الإرادة فهم كما في نفوس أوليائهم و محبيهم و زيادة فما تزيد معارفهم في زمان الشيخوخة على معارفهم في زمان الولادة فهم خيرة الخير و زبدة الحقب و واسطة القلادة و هذه أمور تثبت لهم بالقياس و النظر و مناقب واضحة الحجول بادية الغرور و مزايا تشرق إشراق الشمس و القمر و سجايا تزين عنوان التواريخ و عيون السير فما سألهم مستفيد أو ممتحن فوقفوا و لا أنكر منكر أمرا من أمور الدين إلا علموا و عرفوا و لا جروا مع غيرهم في مضمار شرف إلا سبقوا و قصر مجاروهم و تخلفوا سنة جرى عليها الذين تقدموا و أحسن اتباعهم الذين خلفوا و كم عانوا في الجلاد و الجدال أمورا

[15]

فتلقوها بالرأي الأصيل و الصبر الجميل و ما استكانوا و لا ضعفوا فلهذا و أمثاله سموا على الأمثال و شرفوا.

فأيهم اعتبرت أحواله و تدبرت أقواله و شاهدت جلاده و جداله وجدته فريدا في مآثره وحيدا في مزاياه و مفاخره مصدقا قديم أوله بحديث آخره فقد أفرغوا في قالب الكمال و تفردوا بجميل الخلال و ارتدوا مطارف المجد و الجلال و قالوا فأبانوا و بينوا تقصير كل من قال و أتوا بالإعجاز الباهر في الجواب و السؤال تقر الشقاشق إذا هدرت شقاشقهم و تصغي الأسماع إذا قال قائلهم أو نطق ناطقهم و يكثف الهواء إذا قيست به خلائقهم و يقف كل ساع عن شأوهم فلا تدرك غايتهم و لا تنال طرائقهم سجايا منحهم بها خالقهم و أخبر بها صادقهم فسر بها أولياؤهم و أصادقهم و حزن لها مبانيهم و مفارقهم فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أزال الشبهة و الالتباس و صرح بفضلهم لئلا يفتقر في إيضاحه إلى الدليل و القياس و نطق معلنا بشرفهم الداني الثمار الزاكي الغراس فقال لو سمع مقاله إنا بني عبد المطلب سادات الناس صلى الله عليه و عليهم أجمعين صلاة دائمة باقية إلى يوم الدين.

و قد حل الحسين (عليه السلام) من هذا البيت الشريف في أوجه و يفاعه و علا محله فيه علوا تطامنت النجوم عن ارتفاعه و اطلع بصفاء سره على غوامض المعارف فكشفت له الحقائق عند اطلاعه و سار صيته بالفواضل و الفضائل فاستوى الصديق و العدو في استماعه فلما اقتسمت غنائم المجد حصل على صفاياه و مرباعه فقد اجتمع فيه و في أخيه (عليه السلام) من خلال الفضل ما لا خلاف في اجتماعه و كيف لا يكونا كذلك و هما ابنا علي و فاطمة (عليها السلام) بلا فصل و سبطا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأكرم بالفرع و الأصل و السيدان الإمامان قاما أو قعدا فقد استوليا على الأمد و حازا الخصل و الحسين (عليه السلام) هو الذي أرضى غرب السنان و حد النصل و

[16]

غادر جثث الأعداء فرائس الكواسب بالهبر و الفصل و أما شجاعته (عليه السلام) فقد قال كمال الدين رحمه الله اعلم وفقك الله على حقائق المعاني و وفقك لإدراكها أن الشجاعة من المعاني القائمة بالنفوس و الصفات المضافة إليها فهي تدرك بالبصيرة لا بالبصر و لا تمكن معرفتها بالحس مشاهدة لذاتها إذ ليست أجساما كثيفة بل طريق معرفتها و العلم بها مشاهدة آثارها فمن أراد أن يعلم أن زيدا موصوف بالشجاعة فطريقه أن ينظر إلى ما يصدر منه فإذا أحدقت الرجال و حدقت الآجال و حقت الأوجال و تضايق المجال و حاق القتال فإن كان مجزاعا مهلاعا مرواعا مفزاعا فتراه يستركب الهزيمة و يستبقها و يستصوب الدنية و يتطوقها و يستعذب المفرة و يستفوقها و يستصحب الذلة و يتعلقها مبادرا إلى تدرع عار الفرار من شبا الشفار مشيحا عن الفخار باقتحام الأخطار في مقر القراع بكل خطار فذلك مهبول الأم مخبول الفهم مفلول الجمع معزول عن السمع مضروب بينه و بين الشجاعة بحجاب مكتوب بينه و بين الشهامة بإبراء في كتاب و لا تعرف نفسه شرفا و لا تجد عن الخساسة و الدناءة منصرفا.

و إن كان مجسارا مجزارا كرارا صبارا يسمع من أصوات وقع الصوارم نغم المزاهر المطربة و يسرع إلى مصاف التصادم مسارعته إلى مواصلة النواضر المعجبة خائضا غمرات الأهوال بنفس مطمئنة و عزيمة مطنبة يعد مصافحة

[17]

الصفاح غنيمة باردة و مرامحة الرماح فائدة عائدة و مكافحة الكتائب مكرمة زائدة و مناوحة المقانب منقبة شاهدة يعتقد أن القتل يلحقه ظلل الحياة الأبدية و يسعفه حلل المحامد السرمدية و يزلفه في منازل الفخار العلية المعدة للشهداء الأحدية جانحا إلى ابتياع العز بمهجته و يراها ثمنا قليلا جامحا عن ارتكاب الدنايا و إن غادره جماحه قتيلا :

يرى الموت أحلى من ركوب دنية *** و لا يغتدي للناقصين عديلا

و يستعذب التعذيب فيما يفيده *** نزاهته عن أن يكون دليلا

فهذا مالك أزمة الشجاعة و حائزها و له من قداحها معلاها و فائزها قد تفوق بها لبان الشرف و اغتذاه و تطوق درة سحابه المستحلى و تحلاه و عبق نشر أرجه المنتشر مما أتاه و نطق فعله بمدحه و إن لم يفض فاه و صدق و الله واصفه بالشجاعة التي يحبها الله.

و إذا ظهرت دلائل الآثار على مؤثرها و أسفرت عن تحقق مثيرها و مشمرها فقد صرح النقلة في صحائف السير بما رأوه و جزموا القول بما نقله المتقدم إلى المتأخر فيما رووه أن الحسين (عليه السلام) لما قصد العراق و شارف الكوفة سرب إليه أميرها يومئذ عبيد الله بن زياد الجنود لمقابلته أحزابا و حزب عليه الجيوش لمقاتلته أسرابا و جهز من العساكر عشرين ألف فارس و راجل يتتابعون كتائبا و أطلابا فلما حضروه و أحدقوا به شاكين في العدة و العديد ملتمسين منه نزوله على حكم ابن زياد و بيعته ليزيد فإن أبى ذلك فليؤذن بقتال يقطع الوتين و حبل الوريد و يصعد الأرواح إلى المحل الأعلى و يصرع الأشباح على الصعيد فتبعت نفسه الأبية جدها و أباها و عزفت عن التزام الدنية فأباها و نادته النخوة الهاشمية فلباها و منحها بالإجابة إلى مجانبة الذلة و حباها فاختار مجالدة الجنود و مضاربة ظباها و مصارمة صوارمها و شيم شباها و لا يذعن

[18]

لوصمة تسم بالصغار من شرفه خدودا و جباها.

و قد كان أكثر هؤلاء المخرجين لقتاله قد شايعوه و كاتبوه و طاوعوه و عاهدوه و تابعوه و سألوه القدوم عليهم ليبايعوه فلما جاءهم كذبوه ما وعدوه و أنكروه و جحدوه و مالوا إلى السحت العاجل فعبدوه و خرجوا إلى قتاله رغبة في عطاء ابن زياد فقصدوه فنصب (عليه السلام) نفسه و إخوته و أهله و كانوا نيفا و ثمانين لمحاربتهم و اختاروا بأجمعهم القتل على متابعتهم ليزيد و مبايعتهم فاعتلقتهم الفجرة اللئام و رهقتهم المردة الطغام و رشقتهم النبال و السهام و أوثقتهم من شبا شفارها الكلام.

هذا و الحسين (عليه السلام) ثابت لا تخف حصاة شجاعته و لا تجف عزيمة شهامته و قدمه في المعترك أرسى من الجبال و قلبه لا يضطرب لهول القتال و لا لقتل الرجال و قد قتل قومه من جموع ابن زياد جمعا جما و أذاقوهم من الحمية الهاشمية رهقا و كلما و لم يقتل من العصابة الهاشمية قتيل حتى أثخن في قاصديه و قتل و أغمد ظبته في أبشارهم و جدل فحينئذ تكالبت طغام الأجناد على الجلاد و تناسبت الأجلاد في المفاضلة بالحداد و ثبت كثرة الألوف منهم على قلة الآحاد و تقاربت من الأنوف الهاشمية الآجال المحتومة على العباد فاستبقت الأملاك البررة إلى الأرواح و باء الفجرة بالآثام في الأجساد فسقطت أشلاؤهم المتلاشية على الأرض صرعى تصافح منها صعيدا و نطقت حالهم بأن لقتلهم يوما تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا و تحققت النفوس المطمئنة بالله كون الظالم و المظلوم شقيا و سعيدا و ضاقت الأرض بما رحبت على حرم الحسين (عليه السلام) و أطفاله إذ بقي وحيدا.

فلما رأى (عليه السلام) وحدته و رزء أسرته و فقد نصرته تقدم على فرسه إلى القوم حتى واجههم

[19]

و قال لهم :

يا أهل الكوفة قبحا لكم و تعسا حين استصرختمونا والهين فأتيناكم موجفين فشحذتم علينا سيفا كان في أيماننا و حششتم علينا نارا نحن أضرمناها على أعدائكم و أعدائنا فأصبحتم ألبا على أوليائكم و يدا لأعدائكم من غير عدل أفشوه فيكم و لا ذنب كان منا إليكم فلكم الويلات هلا إذ كرهتمونا و السيف ما شيم و الجأش ما طاش و الرأي لم يستحصد و لكنكم أسرعتم إلى بيعتنا إسراع الدنيا و تهافتم إليها كتهافت الفراش ثم نقضتموها سفها و ضلة و طاعة لطواغيت الأمة و بقية الأحزاب و نبذ الكتاب ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا و تقتلونا ألا لعنة الله على الظالمين .

ثم حرك إليهم فرسه و سيفه مصلت في يده و هو آيس من نفسه عازم على الموت و قال هذه الأبيات :

أنا بن علي الخير من آل هاشم *** كفاني بهذا مفخر حين أفخر

وجدي رسول الله أكرم من مشى *** و نحن سراج الله في الخلق تزهر

و فاطمة أمي سلالة أحمد و عمي *** يدعى ذا الجناحين جعفر

و فينا كتاب الله أنزل صادقا و *** فينا الهدى و الوحي و الخير يذكر

و نحن ولاة الحوض نسقي محبنا *** بكأس رسول الله ما ليس ينكر

و شيعتنا في الناس أكرم شيعة *** و مبغضنا يوم القيامة يخسر

ثم دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقاتل و يقتل من برز إليه منهم من عيون

[20]

الرجال حتى قتل منهم مقتلة كثيرة فتقدم إليه شمر بن ذي الجوشن في جمعه و سيأتي تفصيل ما جرى بعد ذلك في فصل مصرعه (عليه السلام) إن شاء الله.

هذا و هو كالليث المغضب لا يحمل على أحد منهم إلا نفحه بسيفه فألحقه بالحضيض فيكفي ذلك في تحقيق شجاعته و شرف نفسه شاهدا صادقا فلا حاجة معه إلى ازدياد في الاستشهاد آخر كلام كمال الدين رحمه الله.

قلت شجاعة الحسين (عليه السلام) يضرب بها المثل و صبره في مأقط الحرب أعجز الأواخر و الأول و ثباته إذا دعيت نزال ثبات الجبل و إقدامه إذا ضاق المجال إقدام الأجل و مقامه في مقابلة هؤلاء الفجرة عادل مقام جده (صلى الله عليه وآله وسلم) ببدر فاعتدل و صبره على كثرة أعدائه و قلة أنصاره صبر أبيه (عليه السلام) في صفين و الجمل و مشرب العداوة واحد فبفعل الأول فعل الآخر ما فعل فكم من فارس مدل ببأسه جدله (عليه السلام) فانجدل و كم من بطل طل دمه فبطل و كم حكم سيفه فحكم في الهوادي و القلل فما لاقى شجاعا إلا و كان لأمه الهبل و حشرهم الله و جازى كلا بما قدم من العمل و إذا علمت أن شعار الحسين (عليه السلام) و أصحابه أعل يا حق و شعار أعدائه أعل هبل علمت أن هؤلاء في نعيم لا يزول و أولئك في شقاء لم يزل و كما قتل أبوه و انتقل إلى جوار ربه قتل هو و انتقل و كان له عند الله مرتبة لا تنال إلا بالشهادة فتم له ما أراد و كمل و باء قاتلوه بنار الله المؤصدة في الآخرة و لا يهدي الله من أضل و ما سلموا من آفات الدنيا بل عجلت لهم العقوبة فعمت من رضي و من خذل و من قتل فتبا لآرائهم الغائلة و عقولهم الذاهلة فلقد أعماهم القضاء إذ نزل و ختم الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم فما منهم إلا من جار عن الصواب و عدل فما أنصف و لا عدل و ضلوا عن الحق فما لهم فيه قول و لا عمل و قبحا و شقحا لتلك القلوب التي غطاها الرين فلم تفرق بين ما علا و استفل و سوأة لتلك الوجوه التي شوهها الكفر و الفسوق و العصيان و سودها الخطأ و الخطل و سبة

[21]

لتلك الأحلام الطائشة التي عذلت لإنكارها الحق بعد معرفة فسبق السيف العدل و غطى على بصائرها حب الدنيا الدنية فمالت إلى العاجل ففاتها الأجل و العاجل ما حصل و كيف لا تصدر عنهم هذه الأفعال و كبيرهم المدعو بأمير مؤمنيهم استشهد بشعر ابن الزبعري فكأنما بده به و ارتجل

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** وقعة الخزرج من وقع الأسل

‏لأهلوا و استهلوا فرحا و *** استحر القتل في عبد الأشل

‏لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء و لا وحي نزل

و الناس على دين ملوكهم كما ورد في الحديث و المثل.

فلقد ركبوا مركبا وعرا و أتوا أمرا أمرا و فعلوا فعلا نكرا و قالوا قولا هجرا و استحلوا مزاقا مرا و بلغوا الغاية في العصيان و وصلوا إلى النهاية في إرضاء الشيطان و أقدموا على أمر عظيم من إسخاط الرحمن و كم ذكرهم الحسين (عليه السلام) أيام الله فما ذكروا و زجرهم عن تقحم نار الجحيم فما انزجروا و عرفهم ما كانوا يدعون معرفته فما عرفوا و لا فهموا منذ أنكروا و أمرهم بالفكر في هذا الأمر الصعب فما ائتمروا في كل ذلك ليقيم عليهم الحجة و يعذر إلى الله في تعريفهم المحجة فأصروا و استكبروا استكبارا و مما خطاياهم فأدخلوا نار جهنم فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا و نادى لسان حال الحسين (عليه السلام) رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا فاستجاب الله دعاءه (عليه السلام) و خصه بمزيد العناية و الإكرام و نقله إلى جواره مع آبائه الكرام و وقع الفناء بعده في أولئك الطغام و دارت عليهم دوائر الانتقام و الاصطلام فقتلوا في كل أرض بكل حسام و انتقلوا إلى جوار مالك في نار جهنم و أصحاب الحسين (عليه السلام) إلى جوار رضوان في دار السلام فصارت ألوف هؤلاء الأغنام آحادا و جموعهم أفرادا و ألبسوا العار آباء و أولادا فأحياؤهم عار على الغابر و الأولون مسبة للآخر و استولى عليهم الذل و الصغار و خسروا تلك الدار و هذه الدار و كان عاقبة أمرهم إلى النار و بئس القرار و كثر الله ذرية الحسين (عليه السلام) و أنماها و ملأ بها

[22]

الدنيا و رفعها و أعلاها و إذا عرفت أن كل حسيني في الدنيا من ولد علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ظهر لك كيف بارك الله في ذريته الطاهرة و زكاها و إذ فكرت في جموع أعدائهم و انقراضهم تبينت أن العناية الإلهية تولت هذه العترة الشريفة و أبادت من عاداها و سعدت في الدنيا و الآخرة و سعد من والاها و قد تظاهرت الأخبار أن الله تعالى اختارها و اصطفاها و اختار شيعتها و اجتباها.

و لما رأى الحسين (عليه السلام) إصرارهم على باطلهم و ظهور علائم الشقاء على أخلاقهم و فعائلهم و أن إبليس و جنوده قادوا في أشطانهم و حبائلهم علم بسعادة من قتلوه و شقاوة قاتلهم و تحقق أنه قد طبع الله على قلوبهم فلا ينجع فيهم نصح ناصحهم و لا عذل عاذلهم فجد في حربهم على بصيرة و اجتهد و صبر صبر الكرام على تلك العدة و ذلك العدد و تفصيل ذلك يأتي في باب مصرعه (عليه السلام) .

و يعز علي أن يجري بذكره لساني أو يسمح بسطره بناني أو أتمثله في خاطري و جناني فإني أجد لذكره ألما و أبكي لمصابه دمعا و دما و أستشعر لما بلغ منه هما و ندما و لكن لا حيلة فيما جرى به القضاء و القدر و إن ذممنا الورد فإنا نحمد الصدر و الله يجازي كلا على فعله و لا يبعد الله إلا من كفر .

السابع في كرمه وجوده (عليه السلام)

قال كمال الدين رحمه الله تعالى قد تقدم في الفصل المعقود لذكر كرم أخيه الحسن (عليه السلام) قصة المرأة التي ذبحت الشاة و ما وصلها به لما جاءته بعد أخيه الحسن (عليه السلام) و أنه أعطاها ألف دينار و اشترى لها ألف شاة و قد اشتهر النقل عنه (عليه السلام) أنه كان يكرم الضيف و يمنح الطالب و يصل الرحم و ينيل الفقير و يسعف السائل و يكسو العاري و يشبع الجائع و يعطي الغارم و يشد من الضعيف و يشفق على اليتيم و يعين ذا الحاجة و قل أن وصله مال إلا فرقه .

و روى : أن معاوية لما قدم مكة وصله بمال كثير و ثياب وافرة و كسوات

[23]

وافية فرد الجميع عليه و لم يقبل منه و هذه سجية الجواد و شنشنة الكريم و سمة ذي السماحة و صفة من قد حوى مكارم الأخلاق فأفعاله المتلوة شاهدة له بصفة الكرم ناطقة بأنه متصف بمحاسن الشيم و قد كان في العبادة مقتديا بمن تقدم حتى نقل عنه (عليه السلام) أنه حج خمسا و عشرين حجة إلى الحرم و جنائبه تقاد معه و هو ماش على القدم آخر كلامه( رهـ) .

قال الفقير إلى الله تعالى علي بن عيسى عفى الله عنه اعلم أيدك الله بتوفيقه و هداك إلى سبيله و طريقه أن الكرم كلمة جامعة لأخلاق محمودة تقول كريم الأصل كريم النفس كريم البيت كريم المنصب إلى غير ذلك من صفات الشرف و يقابله اللؤم فإنه جامع لمساوئ الأخلاق تقول لئيم الأصل و النفس و البيت و غيرها.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن الكرم الذي الجود من أنواعه كامل في هؤلاء القوم ثابت لهم محقق فيهم متعين لهم و لا يعدوهم و لا يفارق أفعالهم و أقوالهم بل هو لهم على الحقيقة و في غيرهم كالمجاز و لهذا لم ينسب الشح إلى أحد من بني هاشم و لا نقل عنهم لأنهم يجارون الغيوث سماحة و يبارون الليوث حماسة و يعدلون الجبال حلما و رجاحة فهم البحور الزاخرة و السحب الهامية الهامرة :

فما كان من خير أتوه فإنما *** توارثه آباء آبائهم قبل‏

و هل ينبت الخطي إلا وشيجه *** و تغرس إلا في منابتها النخل

و لهذا قال علي (عليه السلام) و قد سئل عن بني هاشم و بني أمية فقال : نحن أمجد و أنجد و أجود و هم أغدر و أمكر و أنكر .

و لقد صدق (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الذي ظهر من القبيلتين في طول الوقت دال على ما قاله (عليه السلام) .

و لا ريب أن الأخلاق تظهر على طول الأيام و هذه الأخلاق الكريمة اتخذوها شريعة و جعلوها إلى بلوغ غايات الشرف ذريعة لشرف فروعهم

[24]

و أصولهم و ثبات عقولهم لأنهم لا يشينون مجدهم بما يصمه و لا يشوهون وجوه سيادتهم بما يخلقها و لأنهم مقتدى الأمة و رءوس هذه الملة و سروات الناس و سادات العرب و خلاصة بني آدم و ملوك الدنيا و الهداة إلى الآخرة و حجة الله على عباده و أمناؤه على بلاده فلا بد أن تكون علامات الخير فيهم ظاهرة و سمات الجلال بادية باهرة و أمثال الكرم العام سايرة و أن كل متصف بالجود من بعدهم بهم اقتدى و على منوالهم نسج و بهم اهتدى.

و كيف لا يجود بالمال من يجود بنفسه النفيسة في مواطن النزال و كيف لا يسمح بالعاجل من همه في الآجل و لا ريب عند العقلاء أن من جاد بنفسه في القتال فهو بالمال أجود و من زهد في الحياة المحبوبة فهو في الحطام الفاني أزهد و قد عرفت زهدهم فاعرف به وفدهم فإن الزاهد من زهد في حطامها و خاف من آثامها و رغب عن حلالها و حرامها و لعلك سمعت بما أتى في هل أتى من إيثارهم على أنفسهم أ ليسوا الذين أطعموا الطعام على حبه و رغب كل واحد منهم في الطوى لإرضاء ربه و عرضوا تلك الأنفس الكريمة لمرارة الجوع و أسهروا تلك العيون الشريفة من الخوى فلم تذق حلاوة الهجوع و جعلوها لما وجدوه من الرقة على المسكين و اليتيم و الأسير غرقى من الدموع و تكرر عليهم ألم فقد الغذاء غدوا و بكورا و أضرم السغب في قلوب أهل الجنة سعيرا و آمنوا حين قالوا إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً و شكرهم من أنعموا عليه فقالوا إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً.

و الحسين (عليه السلام) و إن كان فرعا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي و فاطمة (عليهما السلام) فهو أصل لولده من بعده و كلهم أجواد كرام .

كرموا و جاد قبيلهم من قبلهم *** و بنوهم من بعدهم كرماء

[25]

فالناس أرض في السماحة و الندى *** و هم إذا عد الكرام سماء

لو أنصفوا كانوا لآدم وحدهم *** و تفردت بولادهم حواء

و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد جاءته أم هانئ يوم الفتح تشكو أخاها عليا (عليه السلام) لله در أبي طالب لو ولد الناس كلهم كانوا شجعانا .

و كان علي (عليه السلام) يقول في بعض حروبه : أملكوا عني هذين الغلامين فإني أنفس بهما عن القتل لئلا ينقطع نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

و قيل لمحمد بن الحنفية رحمة الله عليه أبوك يسمح بك في الحرب و يشح بالحسن و الحسين (عليه السلام) فقال هما عيناه و أنا يده و الإنسان يقي عينيه بيده.

و قال مرة أخرى : و قد قيل له ذلك أنا ولده و هما ولدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

و الحماسة و السماحة رضيعتا لبان و قد تلازما في الجود فهما توأمان فالجواد شجاع و الشجاع جواد و هذه قاعدة كلية لا تنخرم و لو خرج منها بعض الآحاد و من خاف الوصمة في شرفه جاد بالطريف و التلاد و قد قال أبو تمام في الجمع بينهما فأجاد :

و إذا رأيت أبا يزيد في ندى *** و وغى و مبدي غارة و معيدا

أيقنت أن من السماح شجاعة *** تدنى و أن من الشجاعة جودا

و قال أبو الطيب :

قالوا أ لم تكفه سماحته حتى *** بنى بيته على الطرق

‏فقلت إن الفتى شجاعته تريه *** في الشح صورة الفرق

‏كن لجة أيها السماح فقد *** آمنه سيفه من الغرق

و لهذا قال القائل :

يجود بالنفس إن ضن الجواد بها *** و الجود بالنفس أقصى غاية الجود

و قيل الكريم شجاع القلب و البخيل شجاع الوجه و لما وصفهم معاوية وصف بني هاشم بالسخاء و آل الزبير بالشجاعة و بني مخزوم بالتيه و بني أمية بالحلم فبلغ ذلك الحسن بن علي (عليه السلام) فقال.

قاتله الله أراد أن يجود بنو هاشم

[26]

بما في أيديهم فيحتاجون إليه و أن يشجع آل الزبير فيقتلون و أن يتيه المخزوميون فيمقتوا و أن تحلم بنو أمية فيحبهم الناس .

و قد تقدم هذا الكلام آنفا بألفاظ و هي المروية و لعمري لقد صدق في بعض مقاله و إن كان الصدق بعيدا من أمثاله و لكن الكذوب قد يصدق فإن السماحة في بني هاشم كما قال و الشجاعة و الحلم فيهم في كل الأحوال و الناس في ذلك تبع لهم فهم عليهم كالعيال فقد حازوا قصبات السبق لما جمعوه من شرف الخلال فإذا تفرقت في الناس خصال الخير اجتمعت فيهم تلك الخصال و هذا القول هو الحق و ما بعد الحق إلا الضلال.

فإذا عرفت حقيقة هذا التقرير فاحكم لهم بالصفات المحمودة على كل تقدير فإن أضدادها من الصفات المذمومة رجس و قد طهرهم الله من الرجس تطهيرا و اختارهم من تربته و اصطفاهم من عباده و كان الله سميعا بصيرا .

الثامن في ذكر شي‏ء من كلامه (عليه السلام)

قال كمال الدين رحمه الله تعالى : كانت الفصاحة لديه خاضعة و البلاغة لأمره متبعة سامعة طائعة و قد تقدم آنفا من نثره في الفصل السادس في ذلك المقام الذي لا تفوه فيه الأفواه من الفرق و لا تنطق الألسنة من الوجل و القلق ما فيه حجة بالغة على أنه في ذلك الوقت أفصح من نطق و أما نظمه فيعد من الكلام جوهر عقد منظوم و مشهر برد مرقوم.

فمنه قطعة نقلها صاحب كتاب الفتوح و أنه (عليه السلام) لما أحاط به جموع ابن زياد و قتلوا من قتلوا من أصحابه و منعوهم الماء كان له (عليه السلام) ولد صغير فجائه سهم منهم فقتله فزمله الحسين (عليه السلام) و حفر له بسيفه و صلى عليه و دفنه و قال :

غدر القوم و قدما رغبوا *** عن ثواب الله رب الثقلين

[27]

قتلوا قدما عليا و ابنه *** حسن الخير كريم الطرفين

‏حسدا منهم و قالوا أجمعوا *** نقبل الآن جميعا بالحسين

‏يا لقوم لأناس رذل *** جمعوا الجمع لأهل الحرمين‏

ثم ساروا و تواصوا كلهم *** لاجتياحي للرضا بالملحدين

‏لم يخافوا الله في سفك دمي *** لعبيد الله نسل الفاجرين‏

و ابن سعد قد رماني عنوة *** بجنود كوكوف الهاطلين

‏لا لشي‏ء كان مني قبل ذا *** غير فخري بضياء الفرقدين

‏بعلي خير من بعد النبي *** و النبي القرشي الوالدين

‏خيرة الله من الخلق أبي *** ثم أمي فأنا بن الخيرتين

‏فضة قد صفيت من ذهب *** و أنا الفضة و ابن الذهبين‏

من له جد كجدي في الورى *** أو كشيخي فأنا بن القمرين

‏فاطم الزهراء أمي و أبي *** قاصم الكفر ببدر و حنين

‏و له في يوم أحد وقعة *** شفت الغل بفض العسكرين

‏ثم بالأحزاب و الفتح معا *** كان فيها حتف أهل القبلتين

‏في سبيل الله ما ذا صنعت *** أمة السوء معا في العترتين

‏عترة البر النبي المصطفى *** و علي الورد بين الجحفلين

و قال و قد التقاه و هو متوجه إلى الكوفة الفرزدق بن غالب الشاعر و قال

[28]

له يا ابن رسول الله كيف تركن إلى أهل الكوفة و هم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل و شيعته ?

فترحم على مسلم و قال : صار إلى روح الله و رضوانه أما أنه قضى ما عليه و بقي ما علينا و أنشده :

و إن تكن الدنيا تعد نفيسة *** فدار ثواب الله أعلى و أنبل‏

و إن تكن الأبدان للموت أنشئت *** فقتل امرئ و الله بالسيف أفضل‏

و إن تكن الأرزاق قسما مقدرا *** فقلة حرص المرء في الكسب أجمل

‏و إن تكن الأموال للترك جمعها *** فما بال متروك به المرء يبخل

هذا آخر كلام كمال الدين بن طلحة رحمه الله في هذا الفصل.

أقول إنهم (عليهم السلام) رجال الفصاحة و فرسانها و حماة البلاغة و شجعانها عليهم تهدلت أغصانها و منهم تشعبت أفنانها و لهم انقادت معانيها و هم معانها و لرياضتهم أطاع عاصيها و أصحب جرانها إذا قالوا بذوا الفصحاء و إذا ارتجلوا سبقوا البلغاء و إذا نطقوا أذعن كل قائل و أقر لهم كل حاف و ناعل :

تركت و الحسن تأخذه *** تنتقي منه و تنتحب

‏فاصطفت منه محاسنه *** و استزادت فضل ما تهب

بألفاظ تجاري الهواء رقة و الصخر متانة و حلم يوازي السماء ارتفاعا و الجبال رزانة أذعنت لهم الحكم و أجابت ندائهم الكلم و أطاعهم السيف و القلم و صابوا و أصابوا فما صوب الديم ورثوا البيان كابرا عن كابر و تسنموا قلل الفضائل تسمنهم متون المنابر و تساووا في مضمار المعارف فالآخر يأخذ عن الأول و الأول يملي عن الآخر .

شرف تتابع كابرا عن كابر *** كالرمح أنبوبا على أنبوب

[29]

يفوح أرج النبوة من كلامهم و يعبق نشر الرسالة من نثرهم و نظامهم و تعجز الأوائل و الأواخر عن مقالهم في كل موطن و مقامهم فهم سادات الناس و قادتهم في جاهليتهم و إسلامهم فما ساجلهم في منقبة إلا مغلب و ما شابهم ماجد إلا قيل أطمع من أشعب شنشنة معروفة في السلف و الخلف و عادة شريفة ينكرها من أنكر و يعرفها من عرف .

و من كلامه (عليه السلام) لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيبا فقال : الحمد لله و ما شاء الله و لا حول و لا قوة إلا بالله صلى الله على رسوله و سلم خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة و ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف و خير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصال يتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا و أجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم رضي الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه و يوفينا أجور الصابرين لن يشذ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحمته و هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه و يتنجز لهم وعده من كان فينا باذلا مهجته و موطنا على لقائنا نفسه فليرحل فإني راحل مصبحا إن شاء الله .

و خطب (عليه السلام) فقال : يا أيها الناس نافسوا في المكارم و سارعوا في المغانم و لا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوا و كسبوا الحمد بالنجح و لا تكتسبوا بالمطل ذما فمهما يكن لأحد عند أحد صنيعة له رأى أنه لا يقوم بشكرها فالله له بمكافاته فإنه أجزل عطاء و أعظم أجرا و اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم

[30]

الله عليكم فلا تملوا النعم فتحور نقما و اعلموا أن المعروف مكسب حمدا و معقب أجرا فلو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسر الناظرين و لو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجا مشوها تنفر منه القلوب و تغض دونه الأبصار أيها الناس من جاد ساد و من بخل رذل و إن أجود الناس من أعطى من لا يرجو و إن أعفى الناس من عفى عن قدرة و إن أوصل الناس من وصل من قطعه و الأصول على مغارسها بفروعها تسموا فمن تعجل لأخيه خيرا وجده إذا قدم عليه غدا و من أراد الله تبارك و تعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته و صرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه و من نفس كربة مؤمن فرج الله عنه كرب الدنيا و الآخرة و من أحسن أحسن الله إليه و الله يحب المحسنين .

قلت هذا الفصل من كلامه (عليه السلام) و إن كان دالا على فصاحته و مبينا عن بلاغته فإنه دال على كرمه و سماحته و جوده و هبته مخبر عن شرف أخلاقه و سيرته و حسن نيته و سريرته شاهد بعفوه و حلمه و طريقته فإن هذا الفصل قد جمع مكارم أخلاق لكل صفة من صفات الخير فيها نصيب و اشتمل على مناقب عجيبة و ما اجتماعها في مثله بعجيب .

و خطب (عليه السلام) فقال : إن الحلم زينة و الوفاء مروءة و الصلة نعمة و الاستكبار صلف و العجلة سفه و السفه ضعف و الغلو ورطة و مجالسة أهل الدناءة شر و مجالسة أهل الفسق ريبة .

و لما قتل معاوية حجر بن عدي رحمه الله و أصحابه لقي في ذلك العام الحسين (عليه السلام) فقال يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعت بحجر و أصحابه من شيعة أبيك قال لا قال إنا قتلناهم و كفناهم و صلينا عليهم فضحك الحسين (عليه السلام) ثم قال خصمك

[31]

القوم يوم القيامة يا معاوية أما و الله لو ولينا مثلها من شيعتك ما كفناهم و لا صلينا عليهم و قد بلغني وقوعك بأبي حسن و قيامك به و اعتراضك بني هاشم بالعيوب و ايم الله لقد أوترت غير قوسك و رميت غير غرضك و تناولتها بالعداوة من مكان قريب و لقد أطعت امرأ ما قدم إيمانه و لا حدث نفاقه و ما نظر لك فانظر لنفسك أو دع .

يريد عمرو بن العاص.

قال أنس : كنت عند الحسين (عليه السلام) فدخلت عليه جارية فحيته بطاقة ريحان فقال لها أنت حرة لوجه الله فقلت تحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها قال كذا أدبنا الله قال الله تعالى وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها و كان أحسن منها عتقها .

و قال : يوما لأخيه الحسن (عليه السلام) يا حسن وددت أن لسانك لي و قلبي لك و كتب إليه الحسن (عليه السلام) يلومه على إعطاء الشعراء فكتب إليه أنت أعلم مني بأن خير المال ما وقى العرض .

فانظر أيدك الله إلى حسن أدبه في قوله أنت أعلم مني فإن له حظا من اللطف تاما و نصيبا من الإحسان وافرا و الله أعلم حيث يجعل رسالاته .

و من دعائه (عليه السلام) : اللهم لا تستدرجني بالإحسان و لا تؤدبني بالبلاء .

و هذا دعاء شريف المقاصد عذب الموارد قد جمع بين المعنى الجليل و اللفظ الجزل القليل و هم مالك الفصاحة حقا و غيرهم عابر سبيل.

و دعاه عبد الله بن الزبير و أصحابه فأكلوا و لم يأكل الحسين (عليه السلام) فقيل له أ لا تأكل قال إني صائم و لكن تحفة الصائم قيل و ما هي قال الدهن و المجمر.

و جنى له غلام جناية توجب العقاب عليه فأمر به أن يضرب فقال يا مولاي وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال أخلوا عنه فقال يا مولاي وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال

[32]

قد عفوت عنك قال يا مولاي وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال أنت حر لوجه الله و لك ضعف ما كنت أعطيك .

و قال الفرزدق : لقيني الحسين (عليه السلام) في منصرفي من الكوفة فقال ما وراك يا أبا فراس قلت أصدقك قال (عليه السلام) الصدق أريد قلت أما القلوب فمعك و أما السيوف فمع بني أمية و النصر من عند الله قال ما أراك إلا صدقت الناس عبيد المال و الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.

و قال (عليه السلام) : من أتانا لم يعدم خصلة من أربع آية محكمة و قضية عادلة و أخا مستفادا و مجالسة العلماء .

و كان (عليه السلام) يرتجز يوم قتل (عليه السلام) و يقول :

الموت خير من ركوب العار *** و العار خير من دخول النار

و الله من هذا و هذا جاري

و قال (عليه السلام) : : صاحب الحاجة لم يكرم وجهه عن سؤالك فأكرم وجهك عن رده .

و كان يقول حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم فلا تملوا النعم فتحور نقما .

و قد ذكرناه آنفا و لما نزل به عمر بن سعد لعنه الله و أيقن أنهم قاتلوه قام في أصحابه خطيبا و أثنى عليه و قال إنه قد نزل من الأمر ما ترون و أن الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها و استمرت حذاء حتى لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء خسيس عيش كالكلاء الوبيل أ لا ترون أن الحق لا يعمل به و الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه فإني لا أرى الموت إلا سعادة و الحياة مع الظالمين إلا برما .

هذا الكلام ذكره الحافظ أبو نعيم في كتاب حلية الأولياء .

و قيل كان بينه و بين الحسن (عليه السلام) كلام فقيل للحسين (عليه السلام) ادخل

[33]

على أخيك فهو أكبر منك فقال إني سمعت جدي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول أيما اثنين جرى بينهما كلام فطلب أحدهما رضى الآخر كان سابقه إلى الجنة و أنا أكره أن أسبق أخي الأكبر فبلغ قوله الحسن (عليه السلام) فأتاه عاجلا .

و أنت أيدك الله متى أردت أن تعرف مناقب هؤلاء القوم و مزاياهم و خلالهم الشريفة و سجاياهم و تقف على حقيقة فضلهم الجزيل و تطلع من أحوالهم على الجملة و التفصيل و تعلم ما لهم من المكانة بالبرهان و الدليل فتدبر كلامهم في مواعظهم و خطبهم و أنحائهم و مقاصدهم و كتبهم تجده مشتملا على المفاخر التي جمعوها و غوارب الشرف التي افترعوها و غرائب المحاسن التي سنوها و شرعوها فإن أفعالهم تناسب أقوالهم و كلها تشبه أحوالهم فالإناء ينضح بما فيه و الولد بضعة من أبيه و ليس من يضله الله كمن يهديه و لا من أذهب عنه الرجس و طهره كمن حار في ليل الباطل فهو أبدا فيه و الكريم يحذو حذو الكريم و الشرف الحادث دليل على الشرف القديم و الأصول لا تخيب و النجيب ابن النجيب و ما أشد الفرق بين البعيد و القريب و الأجنبي و النسيب.

فالواحد منهم (عليهما السلام) يجمع خلال الجميع و يدل على أهل بيته دلالة الزهر على الربيع و لو اقتصرت على ذكر مناقب أحدهم (عليهم السلام) لم أك في حق الباقين مقصرا و لناداني لسان الحال اكتف بما ذكرت فدليل على الذي لا تراه الذي ترى نفعني الله بحبهم و قد فعل و ألحقني بتربة أوليائهم و محبيهم الأول و أوزعني أن أشكر فضله و إن عظم عن الشكر و جل.

فأما شعره (عليه السلام) فقد ذكر الرواة له شعرا و وقع إلى شعره (عليه السلام) بخط الشيخ عبد الله أحمد بن أحمد بن أحمد بن الخشاب النحوي رحمة الله عليه و فيه قال أبو مخنف لوط بن يحيى أكثر ما يرويه الناس من شعر سيدنا أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السلام) إنما هو ما تمثل به و قد أخذت شعره من مواضعه و استخرجته من مظانه و أماكنه و رويته عن ثقات الرجال منهم عبد الرحمن بن نخبة الخزاعي و كان عارفا بأمر أهل البيت (عليهم السلام) و منهم المسيب بن رافع المخزومي و غيره

[34]

رجال كثير و لقد أنشدني يوما رجل من ساكني سلع هذه الأبيات فقلت له أكتبنيها فقال لي ما أحسن ردائك هذا و كنت قد اشتريته يومي ذاك بعشرة دنانير فطرحته عليه فأكتبنيها و هي .

قال أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي (عليه السلام) :

ذهب الذين أحبهم *** و بقيت فيمن لا أحبه

‏فيمن أراه يسبني *** ظهر المغيب و لا أسبه

‏يبغي فسادي ما استطاع *** و أمره مما أدبه

‏حنقا يدب إلى الضراء *** و ذاك مما لا أدبه

‏و يرى ذباب الشر من *** حولي يطن و لا يذبه

‏و إذا جنا وغر الصدور *** فلا يزال به يشبه

‏أ فلا يعيج بعقله *** أ فلا يتوب إليه لبه

‏أ فلا يرى أن فعله *** مما يسور إليه غبه

‏حسبي بربي كافيا ما *** أختشي و البغي حسبه

‏و لقل من يبغى عليه *** فما كفا الله ربه

و قال (عليه السلام) :

إذا ما عضك الدهر *** فلا تجنح إلى خلق

‏و لا تسأل سوى الله *** تعالى قاسم الرزق

‏فلو عشت و طوفت *** من الغرب إلى الشرق

‏لما صادفت من يقدر *** أن يسعد أو يشقي

[35]

و قال (عليه السلام) :

الله يعلم أن ما *** يبدي يزيد لغيره‏

و بأنه لم يكتسبه *** بغيره و بميره

‏لو أنصف النفس الخئون *** لقصرت من سيره

‏و لكان ذلك منه أدنى *** شره من خيره

كذا بخط ابن الخشاب شعره بالإضافة و أظنه وهما منه لأنه لا معنى له على الإضافة و المعنى أنه لو أنصف نفسه أدنى الإنصاف شره على المفعولية من خيره أي صار ذا خير .

و قال (عليه السلام) :

إذا استنصر المرء امرأ لا يدا له *** فناصره و الخاذلون سواء

أنا بن الذي قد تعلمون مكانه *** و ليس على الحق المبين طخاء

أ ليس رسول الله جدي ووالدي *** أنا البدر إن خلا النجوم خفاء

أ لم ينزل القرآن خلف بيوتنا *** صباحا و من بعد الصباح مساء

ينازعني و الله بيني و بينه *** يزيد و ليس الأمر حيث يشاء

فيا نصحاء الله أنتم ولاته *** و أنتم على أديانه أمناء

بأي كتاب أم بأية سنة *** تناولها عن أهلها البعداء

و هي طويلة قال أبو مخنف كان مولانا الحسين بن علي (صلى الله عليه وآله وسلم) يظهر الكراهية لما كان من أمر أخيه الحسن (عليه السلام) مع معاوية و يقول لو حز أنفي بموسى لكان أحب إلي مما فعله أخي .

و قال (عليه السلام) :

فما ساءني شي‏ء كما ساءني أخي *** و لم أرض لله الذي كان صانعا

و لكن إذا ما الله أمضى قضائه *** فلا بد يوما أن ترى الأمر واقعا

[36]

و لو أنني شوورت فيه لما رأوا *** قريبهم إلا عن الأمر شاسعا

و لم أك أرضي بالذي قد رضوا به *** و لو جمعت كل إلى المجامعا

و لو حز أنفي قبل ذلك حزه *** بموسى لما ألقيت للصلح تابعا

قلت إن صح أن هذه الأبيات من شعره (عليه السلام) فكل منهما يرى المصلحة بحسب حاله و مقتضى زمانه و كلاهما (عليهما السلام) مصيبان فيما اعتمدا و هما إمامان سيدان قاما أو قعدا فلا يتطرق (عليه السلام) مقال و هما أعرف بالأحوال في كل حال .

و قال :

و إن تكن الدنيا تعد نفيسة *** ... ... ... ...

و قد تقدم ذكرها.

و قال :

الموت خير من ركوب العار *** ... ... ... ...

و قد سبقت.

و قال (عليه السلام) :

أنا الحسين بن علي بن أبي *** طالب البدر بأرض العرب

‏أ لم تروا و تعلموا أن أبي *** قاتل عمرو و مبير مرحب‏

و لم يزل قبل كشوف الكرب *** مجليا ذلك عن وجه النبي

‏أ ليس من أعجب عجب العجب *** أن يطلب الأبعد ميراث النبي‏

و الله قد أوصى بحفظ الأقرب

و قال (عليه السلام) :

ما يحفظ الله يصن *** ما يصنع الله يهن

‏من يسعد الله يلن *** له الزمان إن خشن

‏أخي اعتبر لا تغترر *** كيف ترى صرف الزمن

‏يجزي بما أوتي من *** فعل قبيح أو حسن

‏أفلح عبد كشف *** الغطاء عنه ففطن‏

و قر عينا من رأى *** أن البلاء في اللسن

[37]

فماز من ألفاظه في *** كل وقت و وزن‏

و خاف من لسانه *** عزبا حديدا فحزن‏

و من يك معتصما *** بالله ذي العرش فلن

‏يضره شي‏ء و من *** يعدي على الله و من

‏من يأمن الله يخف *** و خائف الله أمن‏

و ما لما يثمره *** الخوف من الله ثمن

‏يا عالم السر كما *** يعلم حقا ما علن

‏صل على جدي أبي *** القاسم ذي النور المبن

‏أكرم من حي و من *** لفف ميتا في الكفن

‏و امنن علينا بالرضا *** فأنت أهل للمنن‏

و أعفنا في ديننا من *** كل خسر و غبن

‏ما خاب من خاب *** كمن يوما إلى الدنيا ركن

‏طوبى لعبد كشفت *** عنه غيابات الوسن‏

و الموعد الله و ما *** يقض به الله مكن

و هي طويلة ; و قال (عليه السلام) :

أبي علي و جدي خاتم الرسل *** و المرتضون لدين الله من قبلي‏

و الله يعلم و القرآن ينطقه أن *** الذي بيدي من ليس يملك لي

‏ما يرتجى بامرئ لا قائل عذلا *** و لا يزيغ إلى قول و لا عمل‏

و لا يرى خائفا في سره وجلا *** و لا يحاذر من هفو و لا زلل

‏يا ويح نفسي ممن ليس يرحمها *** أ ما له في كتاب الله من مثل

‏أ ما له في حديث الناس معتبر *** من العمالقة العادية الأول

[38]

يا أيها الرجل المغبون شيمته إني *** ورثت رسول الله عن رسل

‏أ أنت أولى به من آله فبما ترى *** اعتللت و ما في الدين من علل

و فيها أبيات أخر ; و قال (عليه السلام) :

يا نكبات الدهر دولي دولي *** و اقصري إن شئت أو أطيلي

منها :

رميتني رمية لا مقيل بكل *** خطب فادح جليل

‏و كل غب‏ء أيد ثقيل *** أول ما رزئت بالرسول‏

و بعد بالطاهرة البتول *** و الوالد البر بنا الوصول‏

و بالشقيق الحسن الجليل *** و البيت ذي التأويل و التنزيل‏

و زورنا المعروف من جبريل *** فما له في الزرء من عديل

‏ما لك عني اليوم من عدول *** و حسبي الرحمن من منيل

قال : تم شعر مولانا الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هو عزيز الوجود.

قلت و الأبيات النونية التي أولها :

غدر القوم و قدما رغبوا *** عن ثواب الله رب الثقلين

لم يذكرها أبو مخنف في هذا الديوان الذي جمعه و هي مشهورة و الله أعلم .

التاسع في أولاده (عليه السلام)

قال كمال الدين : كان له من الأولاد ذكور و إناث عشرة ستة ذكور و أربع إناث فالذكور علي الأكبر و علي الأوسط و هو زين العابدين و سيأتي ذكره في بابه إن شاء الله و علي الأصغر و محمد و عبد الله و جعفر.

فأما علي الأكبر فإنه قاتل بين يدي أبيه حتى قتل شهيدا.

و أما علي الأصغر فجاءه سهم و هو طفل فقتله و قيل إن عبد الله قتل أيضا مع أبيه شهيدا.

و أما البنات فزينب و سكينة و فاطمة هذا قول مشهور.

[39]

و قيل كان له أربع بنين و بنتان و الأول أشهر.

و كان الذكر المخلد و البناء المنضد مخصوصا من بين بنيه بعلي الأوسط زين العابدين دون بقية الأولاد آخر كلامه.

قلت عدد أولاده (عليه السلام) و ذكر بعضا و ترك بعضا قال ابن الخشاب ولد له ستة بنين و ثلاث بنات علي الأكبر الشهيد مع أبيه و علي الإمام سيد العابدين و علي الأصغر و محمد و عبد الله الشهيد مع أبيه و جعفر و زينب و سكينة و فاطمة.

و قال الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي : ولد الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ستة أربعة ذكور و ابنتان علي الأكبر قتل مع أبيه و علي الأصغر و جعفر و عبد الله و سكينة و فاطمة قال و نسل الحسين من علي الأصغر و أمه أم ولد و كان أفضل أهل زمانه و قال الزهري ما رأيت هاشميا أفضل منه.

قلت قد أخل الحافظ بذكر علي زين العابدين حيث قال علي الأكبر و علي الأصغر و أثبته حيث قال و نسل الحسين من علي الأصغر فسقط في هذه الرواية علي الأصغر و الصحيح أن العليين من أولاده ثلاثة كما ذكر كمال الدين و زين العابدين (عليه السلام) هو الأوسط و التفاوت بين ما ذكره كمال الدين و الحافظ أربعة.

قال الشيخ المفيد باب ذكره ولد الحسين (عليه السلام) : كان للحسين (عليه السلام) ستة أولاد علي بن الحسين الأصغر و كنيته أبو محمد و أمه شاه زنان بنت كسرى يزدجرد بن شهريار ملك الفرس و علي بن الحسين الأكبر قتل مع أبيه بالطف و أمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية و جعفر بن الحسين لا بقية له و أمه قضاعية و كانت وفاته في حياة الحسين (عليه السلام) و عبد الله بن الحسين قتل مع أبيه صغيرا جاءه سهم و هو في حجر أبيه فذبحه و سكينة بنت الحسين و أمها الرباب بنت إمرئ القيس بن عدي كلبية و هي أم عبد الله بن الحسين و فاطمة بنت الحسين و أمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبد الله تيمية.

[40]

قلت المفيد رحمه الله قد وافق الحافظ عبد العزيز على العدة و التفصيل و على قولهما فالعليان اثنان و المشهور ثلاثة و الله أعلم و عقبه كله من الإمام زين العابدين و سيأتي ذكره إن شاء الله .

العاشر في عمره (عليه السلام)

قال كمال الدين رحمه الله : قد تقدم القول في ولادته (عليه السلام) أنها كانت في سنة أربع من الهجرة و كان انتقاله إلى الدار الآخرة على ما سيأتي تفصيله و بيانه في سنة إحدى و ستين من الهجرة فتكون مدة عمره ستا و خمسين سنة و أشهرا كان منها مع جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ست سنين و شهورا و كان مع أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثلاثين سنة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان مع أخيه الحسن بعد وفاة أبيه (عليه السلام) عشر سنين و بقي بعد وفاة أخيه الحسن (عليه السلام) إلى وقت مقتله عشر سنين .

قال ابن الخشاب حدثنا حرب بإسناده عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : مضى أبو عبد الله الحسين بن علي أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و عليهم أجمعين و هو ابن سبع و خمسين سنة في عام الستين من الهجرة في يوم عاشوراء كان مقامه مع جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبع سنين إلا ما كان بينه و بين أبي محمد و هو سبعة أشهر و عشرة أيام و أقام مع أبيه (عليه السلام) ثلاثين سنة و أقام مع أبي محمد عشر سنين و أقام بعد مضي أخيه الحسن (عليه السلام) عشر سنين فكان عمره سبعا و خمسين سنة إلا ما كان بينه و بين أخيه من الحمل و قبض في يوم عاشوراء في يوم الجمعة في سنة إحدى و ستين من الهجرة و يقال في يوم عاشوراء في يوم الإثنين و كان بقائه بعد أخيه الحسن (عليه السلام) أحد عشر سنة .

و قال الحافظ عبد العزيز : الحسين بن علي بن أبي طالب و أمه فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولد في ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة و قتل بالطف يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين و هو ابن خمس و خمسين سنة و ستة أشهر.

قلت قد اتفقوا في التاريخ و اختلفوا في الحساب و الحق منهما يظهر

[41]

لمن اعتبره. قال الشيخ المفيد في إرشاده و مضى الحسين (عليه السلام) في يوم السبت العاشر من المحرم سنة إحدى و ستين من الهجرة بعد صلاة الظهر منه قتيلا مظلوما ظمآن صابرا محتسبا و سنه يومئذ ثمان و خمسون سنة أقام منها مع جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبع سنين و مع أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثين سنة و مع أخيه الحسن (عليه السلام) عشر سنين و كانت مدة خلافته بعد أخيه إحدى عشرة سنة و كان (عليه السلام) يخضب بالحناء و الكتم و قتل (عليه السلام) و قد نصل الخضاب من عارضيه.

و قد جاء روايات كثيرة في فضل زيارته بل في وجوبها .

فروي عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال : زيارة الحسين بن علي (عليه السلام) واجبة على كل من يقر للحسين (عليه السلام) بالإمامة من الله عز و جل.

و قال (عليه السلام) : زيارة الحسين تعدل مائة حجة مبرورة و مائة عمرة متقبلة .

و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من زار الحسين (عليه السلام) بعد موته فله الجنة .

و الأخبار في هذا الباب كثيرة و قد أوردنا منها جملة كافية في كتابنا المعروف بمناسك المزار انتهى كلامه.

قلت من أعجب ما يحكى أنهم اتفقوا أنه ولد (عليه السلام) في سنة أربع من الهجرة و قتل في عاشر المحرم من سنة إحدى و ستين و اختلفوا بعد في مدة حياته ما هذا إلا عجيب و أنت إذا عرفت مولده و موته عرفت مدة عمره من طريق قريب .

[42]

الحادي عشر في مخرجه إلى العراق

قال كمال الدين بن طلحة رحمه الله هذا فصل للقلم في أرجائه مجال واسع و مقال جامع و سمع كل مؤمن و قلبه إليه و له مصيخ و سامع لكن الرغبة في الاختصار تطوي أطراف بساطه و الرهبة من الإكثار تصدف عن تطويله و إفراطه و حين وقف على أصله و زائده خص الأصل بإثباته و الزائد بإسقاطه.

و ذلك :
أن معاوية لما استخلف ولده يزيد ثم مات كتب يزيد كتابا إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان و هو يومئذ والي المدينة يحثه فيه على أخذ البيعة من الحسين (عليه السلام) فرأى الحسين أمورا اقتضت أنه خرج من المدينة قاصدا إلى مكة و أقام بها و وصل الخبر إلى الكوفة بموت معاوية و ولاية يزيد مكانه فاتفق منهم جمع جم و كتبوا كتابا إلى الحسين يدعونه إليهم و يبذلون له فيه القيام بين يديه بأنفسهم و أموالهم و بالغوا في ذلك و تتابعت إليه الكتب نحوا من مائة و خمسين كتابا من كل طائفة و جماعة كتاب يحثونه فيها على القدوم و آخر ما ورد عليه كتاب من جماعتهم على يد قاصدين من ثقاتهم و صورته بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي أمير المؤمنين من شيعته و شيعة أبيه علي أمير المؤمنين سلام الله عليك أما بعد فإن الناس منتظروك و لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يا ابن رسول الله و السلام عليك و رحمه الله.

فكتب (عليه السلام) جوابهم و سير إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل فوصل إليهم و جرت له قضايا و وقائع لا حاجة إلى ذكرها و آل الأمر إلى أن الحسين توجه بنفسه و أهله و أولاده إلى الكوفة ليقضي الله أمرا كان مفعولا و كان عند وصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة و اجتماع الشيعة إليه و أخذه البيعة للحسين بن علي (عليه السلام) كتب والي الكوفة و هو النعمان بن بشير إلى يزيد بذلك فجهز عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فلما قرب منها تنكر و دخلها ليلا و أوهم أنه الحسين و دخلها من جهة البادية في زي أهل الحجاز فصار يجتاز بجماعة جماعة فيسلم عليهم و لا

[43]

يشكون في أنه هو الحسين (عليه السلام) فيمشون بين يديه و يقولون مرحبا يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم فرأى عبيد الله من تباشرهم بالحسين ما ساءه و كشف أحوالهم و هو ساكت لعنه الله.

فلما دخل قصر الإمارة و أصبح جمع الناس و قال و أرعد و أبرق و قتل و فتك و سفك و انتهك و عمله و ما اعتمده مشهور في تحيله حتى ظفر بمسلم بن عقيل و قتله.

و بلغ الحسين (عليه السلام) قتل مسلم و ما اعتمده عبيد الله بن زياد و هو متجهز للخروج إلى الكوفة فاجتمع به ذوو النصح له و التجربة للأمور و أهل الديانة و المعرفة كعبد الله بن عباس و عمر بن عبد الرحمن بن الحرث المخزومي و غيرهما و وردت عليه كتب أهل المدينة من عبد الله بن جعفر و سعيد بن العاص و جماعة كثيرين كلهم يشيرون عليه أن لا يتوجه إلى العراق و أن يقيم بمكة هذا كله و القضاء غالب على أمره و القدر آخذ بزمامه فلم يكترث بما قيل له و لا بما كتب إليه و تجهز و خرج من مكة يوم الثلاثاء و هو يوم التروية الثامن من ذي الحجة و معه اثنان و ثمانون رجلا من أهله و شيعته و مواليه فسار فلما وصل إلى الشقوق و إذا هو بالفرزدق الشاعر و قد وافاه هنالك فسلم عليه ثم دنا منه و قبل يده فقال له الحسين (عليه السلام) من أين أقبلت يا أبا فراس فقال من الكوفة فقال له كيف تركت أهل الكوفة فقال خلفت قلوب الناس معك و سيوفهم مع بني أمية عليك و قد قل الديانون و القضاء ينزل من السماء و الله يفعل ما يشاء و جرى بينهما كلام قد تقدم ذكره في آخر الفصل الثامن.

ثم ودعه الفرزدق في نفر من أصحابه و مضى يريد مكة فقال له ابن عم له من بني مجاشع يا أبا فراس هذا الحسين بن علي قال له الفرزدق نعم هذا الحسين بن علي و ابن فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا و الله ابن خيرة الله و أفضل من مشى على وجه الأرض الآن و قد كنت قلت فيه قبل اليوم أبياتا غير متعرض لمعروفه بل أردت بذلك وجه الله و الدار الآخرة فلا عليك أن تسمعها فقال ابن

[44]

عمه إن رأيت أن تسمعنيها أبا فراس فقال قلت فيه و في أمه و أبيه و جده (عليهم السلام) :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** و البيت يعرفه و الحل و الحرم

‏هذا ابن خير عباد الله كلهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلم

‏هذا حسين رسول الله والده *** أمست بنور هداه تهتدي الأمم

‏هذا ابن فاطمة الزهراء عترتها *** في جنة الخلد مجريا به القلم

‏إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

‏يكاد يمسكه عرفاق راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

‏بكفه خيزران ريحه عبق *** بكف أروع في عرنينه شمم

‏يغضي حياء و يغضى من مهابته *** فما يكلم إلا حين يبتسم

‏ينشق نور الدجى عن نور غرته *** كالشمس تنشق عن إشراقها الظلم

‏مشتقة من رسول الله نبعته *** طابت أرومته و الخيم و الشيم

‏من معشر حبهم دين و بغضهم *** كفر و قربهم منجى و معتصم

‏يستدفع الضر و البلوى بحبهم *** و يستقيم به الإحسان و النعم

‏إن عد أهل الندى كانوا أئمتهم *** أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

‏لا يستطيع مجار بعد غايتهم *** و لا يدانيهم قوم و إن كرموا

بيوتهم في قريش يستضاء بها *** في النائبات و عند الحكم إن حكموا

فجده من قريش في أرومتها *** محمد و علي بعده علم

‏بدر له شاهد و الشعب من أحد *** و الخندقان و يوم الفتح قد علموا

و خيبر و حنين يشهدان له *** و في قريظة يوم صيلم قتم

‏مواطن قد علت أقدارها و نمت *** آثارها لم تنلها العرب و العجم

آخر كلامه.

[45]

قلت و أظنه نقل هذا الكلام و القصيدة من كتاب الفتوح لابن أعثم فإني طالعته في زمان الحداثة و نسب هذه القصيدة إلى الفرزدق في الحسين (عليه السلام) و الذي عليه الرواة مع اختلاف كثير في شي‏ء من أبياتها و أنها للحر بن الليثي قالها في قثم بن العباس رضي الله عنه و أن الفرزدق أنشدها لعلي بن الحسين و لها قصة تأتي في أخباره إن شاء الله تعالى و لو كان هذا و أمثاله من موضوع هذا الكتاب لذكرت القصيدة و نسبت كل بيت منها إلى قائله و لكنه وضع لغير هذا.

و في مسير الحسين (عليه السلام) من المدينة إلى مكة و منها إلى العراق أحوال و أمور اختصرها الشيخ كمال الدين و هي مشهورة معلومة منقولة لا يكاد يخلو مصنف في هذا الشأن منها و الله تعالى يعلم أني لا أحب الخوض في ذكر مصرعه (عليه السلام) و ما جرى عليه و على أهل بيته و تبعه فإن ذلك يفتت الأكباد و يفت في الأعضاد و يضرم في القلب نارا وارية الزناد فإنا لله و إنا إليه راجعون و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و نحن نتبع الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى في اختصاره و اقتفاء آثاره قال .

الثاني عشر في مصرعه و مقتله (عليه السلام)

قال كمال الدين بن طلحة رحمه الله : و هو فضل يسكب مضمونه المدامع من الأجفان و تجلب الفجائع لإثارة الأحزان و يلهب نيران الموجدة في أكباد ذوي الإيمان بما أجرته الأقدار للفجرة من اجترائها و فتكها و اعتدائها على الذرية النبوية لسفح دمائها و سفكها و استبائها مصونات نسائها و هتكها حتى تركوا لمم رجالها بنجيعها مخضوبة و أشلاء جثثها على الثرى مسلوبة و مخدرات حرائر سبايا منهوبة فكم كبيرة من جريمة ارتكبوها و اجترموها و كم من نفس معصومة أرهقوها و اخترموها و كم من دماء محرمة أراقوها و ما احترموها و كم من كبد حرى منعوها ورود الماء و حرموها ثم احتزوا رأس سبط رسول الله و حبه الحسين

[46]

بشبا الحداد و رفعوه كما ترفع رءوس ذوي الإلحاد على رءوس الصعاد و اخترقوا به أرجاء البلاد بين العباد و استاقوا حرمه و أطفاله أذلاء من الاضطهاد و أركبوهم على أخشاب الأقتاب بغير وطاء و لا مهاد هذا مع علمهم بأنهم الذرية النبوية المسئول لها المودة بصريح القرآن و صحيح الإسناد فلو نطقت السماء و الأرض لرثت لها و رثتها و لو اطلعت عليها مردة الكفار لبكتها و ندبتها و لو حضرت مصرعها عتاة الجاهلية لأنبتها و نعتها و لو شهدت وقعتها بغاة الجبابرة لإعانتها و نصرتها فيا لها مصيبة أنزلت الرزية بقلوب الموحدين و أورثتها و بلية أحلت الكآبة بنفوس المؤمنين سلفا و خلفا فأحزنتها فوا لهفاه لذرية نبوية ظل دمها و عترة محمدية قل مخذمها و عصبة علوية خذلت فقتل مقدمها و زمرة هاشمية استبيح حرمها و استحل محرمها و أنا الآن أفصل هذا الإجمال و أوضحه و أبين تفصيله و أشرحه.

و هو أن الحسين (عليه السلام) سار حتى صار على مرحلتين من الكوفة فوافاه إنسان يقال له الحر بن يزيد الرياحي و معه ألف فارس من أصحاب ابن زياد شاكين في السلاح فقال للحسين (عليه السلام) إن الأمير عبيد الله بن زياد قد أمرني أن لا أفارقك أو أقدم بك عليه و أنا و الله كاره أن يبتليني الله بشي‏ء من أمرك غير أني قد أخذت بيعة القوم فقال الحسين (عليه السلام) إني لم أقدم هذا البلد حتى أتتني كتب أهله و قدمت على رسلهم يطلبوننى و أنتم من أهل الكوفة فإن دمتم على بيعتكم و قولكم في كتبكم دخلت مصركم و إلا انصرفت من حيث أتيت فقال له الحر و الله ما أعلم هذه الكتب و لا الرسل و أنا فما يمكنني الرجوع إلى الكوفة في وقتي هذا فخذ طريقا غير هذه و ارجع فيه حيث شئت لأكتب إلى ابن زياد أن الحسين خالفني الطريق فلم أقدر عليه و أنشدك الله في نفسك.

فسلك الحسين طريقا آخر غير الجادة راجعا إلى الحجاز و سار هو و أصحابه طول ليلتهم فلما أصبح الحسين (عليه السلام) و إذا قد ظهر الحر و جيشه فقال الحسين ما وراك يا ابن يزيد فقال وافاني كتاب ابن زياد يؤنبني في أمرك و قد سير من

[47]

هو معي و هو عين علي و لا سبيل إلى مفارقتك أو أقدم بك عليه و طال الكلام بينهما و رحل الحسين (عليه السلام) و أهله و أصحابه فنزلوا كربلاء يوم الأربعاء أو الخميس على ما قيل الثاني من المحرم .

فقال (عليه السلام) : هذه كربلاء موضع كرب و بلاء هذا مناخ ركابنا و محط رحالنا و مقتل رجالنا .

فنزل القوم و حطوا الأثقال و نزل الحر بنفسه و جيشه قبالة الحسين (عليه السلام) ثم كتب إلى عبيد الله بن زياد و أعلمه بنزول الحسين (عليه السلام) بأرض كربلاء.

فكتب عبيد الله كتابا إلى الحسين (عليه السلام) يقول فيه أما بعد فقد بلغني يا حسين نزولك بكربلاء و قد كتب إلي يزيد بن معاوية أن لا أتوسد الوثير و لا أشبع من الخمير أو ألحقك باللطيف الخبير أو ترجع إلى حكمي و حكم يزيد بن معاوية و السلام.

فلما ورد الكتاب إلى الحسين (عليه السلام) و قرأه ألقاه من يده و قال للرسول ما له عندي جواب فرجع الرسول إلى ابن زياد فاشتد غضبه و جمع الناس و جهز العساكر و سير مقدمها عمر بن سعد و كان قد ولاه الري و أعمالها و كتب له بها فاستعفى من خروجه إلى قتال الحسين فقال له ابن زياد إما أن تخرج و إما أن تعيد علينا كتابنا بتوليتك الري و أعمالها و تقعد في بيتك فاختار ولاية الري و طلع إلى قتال الحسين بالعساكر.

فما زال عبيد الله بن زياد يجهز مقدما و معه طائفة من الناس إلى أن اجتمع عند عمر بن سعد اثنان و عشرون ألفا ما بين فارس و راجل و أول من خرج إلى عمر بن سعد الشمر بن ذي الجوشن السكوني في أربعة آلاف فارس ثم زحفت خيل عمر بن سعد حتى نزلوا شاطئ الفرات و حالوا بين الماء و بين الحسين و أصحابه.

ثم كتب عبيد الله كتابا إلى عمر بن سعد يحثه على مناجزة الحسين (عليه السلام) فعندها ضيق الأمر عليهم فاشتد عليهم الأمر و العطش فقال إنسان من أصحاب الحسين (عليه السلام) يقال له يزيد بن حصين الهمداني و كان زاهدا ائذن لي يا ابن رسول الله لآتي هذا ابن سعد فأكلمه في أمر الماء فعساه يرتدع فقال له ذلك إليك فجاء الهمداني إلى

[48]

عمر بن سعد فدخل عليه فلم يسلم عليه قال يا أخا همدان ما منعك من السلام علي أ لست مسلما أعرف الله و رسوله فقال له الهمداني لو كنت مسلما كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تريد قتلهم و بعد هذا ماء الفرات تشرب منه كلاب السواد و خنازيرها و هذا الحسين بن علي و إخوته و نساؤه و أهل بيته يموتون عطشا قد حلت بينهم و بين ماء الفرات أن يشربوه و أنت تزعم أنك تعرف الله و رسوله فأطرق عمر بن سعد ثم قال و الله يا أخا همدان إني لأعلم حرمة أذاهم و لكن :

دعاني عبيد الله من دون قومه *** إلى خطة فيها خرجت لحيني

‏فو الله لا أدري و أني لواقف *** على خطر لا أرتضيه و مين

‏أ أترك ملك الري و الري رغبة *** أم أرجع مأثوما بدم حسين‏

و في قتله النار التي ليس دونها *** حجاب و ملك الري قرة عين

يا أخا همدان ما أجد نفسي تجيبني إلى ترك الري لغيري فرجع يزيد بن حصين فقال للحسين (عليه السلام) يا ابن رسول الله قد رضي أن يقتلك بولاية الري.

قلت التوفيق عزيز المنال و من حقت عليه كلمة العذاب لم ينجع فيه لوم اللوام و عذل العذال و من غلبته نفسه تورط من شهواتها في أعظم من القيود و الأغلال و كما أن الجنة لها رجال فالنار لها رجال و كما أعد الله لقوم الفوز و الرضوان أعد للآخرين العقاب و النكال و هذا النحس ابن سعد أبعده الله عرف سوء فعله فأضله الله على علم و هو أقبح أنواع الضلال و طبع الله على قلبه و ختم على لبه و جعل على بصره غشاوة فبئست الأحوال و زهد في الآجلة و هي إلى بقاء و رغب في العاجلة و هي إلى زوال و طمع في المال فخسر في المآل فأصلى نارا وقودها الناس و الحجارة و لم يغن عنه رأيه في الري و لا نفعته الإمارة فخرج في طالع نحس و باع آخرته بثمن بخس و أصبح من سوء اختياره في أضيق من حبس فإنه عصى الله سبحانه طاعة للفجار و اتخذ ابن زياد ربا فأورده النار و بئس القرار و باء في الدنيا بالعار و حشر في الآخرة مع مردة الكفار .

صلى لها حيا و كان وقودها *** ميتا و يدخلها مع الفجار

[49]

و كذاك أهل النار في دنياهم *** يوم القيامة جل أهل النار

و يصدق هذا المدعى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمع وجبة أو هدة فقال أصحابه ما هذا يا رسول الله فقال حجر ألقي في النار منذ سبعين خريفا فالآن حين استقر في قعرها و قد كان مات في تلك الساعة يهودي عمره سبعون سنة .

فكنى عنه بالحجر لعدم انتفاعه بما بلغه من الدعوة و كنى عن مدة حياته بهويه في النار لأن سعيه مدة حياته سعي أهل النار فكأنه فيها هاو و كنى عن موته باستقراره فيها و كذا حال هذا الشقي كان يسعى دائما سعي من هذا خاتمته و عاقبته و إلى العذاب الدائم مصيره و النار غايته فتبا له محلا عن موارد الأبرار و بعدا له و سحقا في هذا الدار و تلك الدار فلقد أوغل في تمرده و بالغ في وخامة كسب يده و ترك الحق وراء ظهره و دبر أذنه إذ لم ينظر في يومه لغده و عرف الصراط المستقيم فنكب طوعا عن سننه و جدده و صدع قلب الرسول بما صنعه بولده و أبكى الأرض و السماء بجنايته و أحزن الملائكة الكرام و الأنبياء (عليهم السلام) ببشاعة فعلته و قبح ملكته و جاء بها شوهاء عقراء جذعاء تشهد بسوء ظفره و تنطق بردي أثره و لؤم مخبره و فساد اختياره و نظره كافلة له بالعذاب الأليم ضامنة له الخلود في نار الجحيم مقيما فيها أبدا إن شاء الله مع الشيطان الرجيم طعامه فيها الزقوم و الغسلين و شرابه الحميم مخصوصا بمقت الله رب العالمين قريبا للعتاة المتمردين و الطغاة الكافرين مصاحبا من شايعه و تابعه و رضى بفعله من الجنة و الناس أجمعين هذا و هو مع فعله الذي أوبقه و شرهه الذي قيده بالخزي و أوثقه و صنيعه الذي أراق ماء وجهه و أخلقه يدعي أنه من أهل الإسلام و من تابعي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ممن يرجو السلامة في دار السلام مع سفكه الدم الحرام في الشهر الحرام و إسخاطه الله و النبي و الإمام و إقدامه على ما يحمد في مثله الإحجام .

دم حرام للأخ المسلم في شهر حرام يا لنعم كيف حل .

نعوذ بالله من سوء الخاتمة.

[50]

و من العجب أن السيد و العاقب و من كان معهم لما دعاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة و ندبهم إلى المساجلة و جاء (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي و فاطمة و الحسن و الحسين ضرع النجرانيون إلى الاستسلام و خاموا بعد الإقدام و أعطوا الجزية عن يد لما شاهدوا أولئك النفر الكرام و أذعنوا حين رأوا وجوها تجلوا جنح الظلام و قالوا لو دعي الله بهذه الوجوه لأزال الجبال و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لو باهلوني لتأجج الوادي عليهم نارا.

و كما قال و هؤلاء المسلمون على ظنهم عرفوا هذا الخبر فبالغوا في طمس ذلك الأثر و ما دلهم كما دل السيد و العاقب النظر و أقدموا مع العلم إقدام ذوي الغرر فوقعوا في هوة الخطر و ما أصدق قولهم إذا نزل القضاء عمي البصر.

قال كمال الدين فلما تيقن الحسين (عليه السلام) أن القوم مقاتلوه أمر أصحابه فاحتفروا حفيرة شبيهه بالخندق و جعلوا لها جهة واحدة يكون القتال منها و ركب عسكر ابن سعد و أحدقوا بالحسين (عليه السلام) و زحفوا و قتلوا و لم يزل يقتل من أهل الحسين و أصحابه واحدا بعد واحد إلى أن قتل من أهله و أصحابه ما ينيف على خمسين رجلا.

فعند ذلك ضرب الحسين بيده على لحيته و صاح أ ما مغيث يغيثنا لوجه الله أ ما ذاب يذب عن حرم رسول الله و إذا بالحر بن يزيد الرياحي الذي تقدم ذكره قد أقبل بفرسه إليه و قال يا ابن رسول الله إني كنت أول من خرج عليك و أنا الآن في حزبك فمرني أن أكون أول مقتول في نصرتك لعلي أنال شفاعة جدك غدا ثم كر على عسكر عمر بن سعد فلم يزل يقاتلهم حتى قتل و التحم القتال حتى قتل أصحاب الحسين (عليه السلام) بأسرهم و ولده و إخوته و بنو عمه و بقي وحده و بارز بنفسه إلى أن أثخنته الجراحات و السهام تأخذه من كل جانب و الشمر لعنه الله في قبيلة عظيمة يقاتله ثم حال بينه (عليه السلام) و بين رحله و حرمه .

فصاح الحسين (عليه السلام) ويحكم يا شيعة الشيطان إن لم يكن لكم دين و لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا و ارجعوا إلى أنسابكم إن كنتم أعرابا كما تزعمون أنا الذي أقاتلكم فكفوا سفهائكم و جهالكم

[51]

عن التعرض لحرمي فإن النساء لم يقاتلنكم .

فقال الشمر لأصحابه كفوا عن النساء و حرم الرجل و اقصدوه في نفسه ثم صاح الشمر لعنه الله بأصحابه و قال ويلكم ما تنتظرون بالرجل و قد أثخنته الجراح و توالت عليه السهام و الرماح فسقط على الأرض فوقف عليه عمر بن سعد و قال لأصحابه انزلوا فجزوا رأسه فنزل إليه نضر بن خرشنة الصبابي ثم جعل يضرب بسيفه مذبح الحسين (عليه السلام) فغضب عمر بن سعد و قال لرجل عن يمينه ويلك انزل إلى الحسين فأرحه فنزل إليه خولي بن يزيد لعنه الله فاجتز رأسه و سلبوه و دخلوا على حرمه و استلبوا بزتهن.

ثم إن عمر بن سعد أرسل بالرأس إلى ابن زياد مع بشر بن مالك فلما وضع الرأس بين يدي عبيد الله بن زياد قال :

املأ ركابي فضة و ذهبا *** أنا قتلت الملك المحجبا

و من يصلي القبلتين في الصبا *** و خيرهم إذ يذكرون النسبا

قتلت خير الناس أما و أبا

فغضب عبيد الله من قوله ثم قال له إذا علمت أنه كذلك فلم قتلته و الله لا نلت مني خيرا و لألحقنك به ثم قدمه و ضرب عنقه.

قلت صدق الله وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ و على هذا مضى من شايع على الحسين (عليه السلام) إما بيد أعداء الله أو بيد أوليائه فما منهم من فاز بحمد الله بمراد و لا أمل و لا انتفع بقول و لا عمل بل مزقوا كل ممزق و فرقوا كل مفرق و استولى عليهم الحمام و عوجلوا بالعقاب و الانتقام و أبيدوا بالاستئصال و الاصطلام و باءوا بعاجل عذاب الدنيا و على الله التمام.

قال ثم إن القوم استاقوا الحرم كما تساق الأسارى حتى أتوا الكوفة فخرج الناس فجعلوا ينظرون و يبكون و ينوحون و كان علي بن الحسين زين العابدين قد نهكه المرض فجعل يقول ألا إن هؤلاء يبكون و ينوحون من

[52]

أجلنا فمن قتلنا و كان اليوم الذي قتل فيه (عليه السلام) قيل الجمعة و هو يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى و ستين من الهجرة و دفن بالطف من كربلاء من العراق و مشهده (عليه السلام) معروف يزار من الجهات و الآفاق.

و هذه الوقائع أوردها صاحب كتاب الفتوح فهي مضافة إليه و عهدتها لمن أراد تتبعها عند مطالعتها عليه فهذا تلخيص ما نقلته الأذهان و العقول مما أهداه إليها المروي و المنقول و قد ألبس القلوب ثوب جداد ما لصبغته نصول و على الجملة فأقول :

ألا أيها العادون إن أمامكم *** مقام سؤال و الرسول سئول

‏و موقف حكم و الخصوم محمد *** و فاطمة الزهراء و هي ثكول‏

و إن عليا في الخصام مؤيد *** له الحق فيما يدعي و يقول

‏فما ذا تردون الجواب عليهم *** و ليس إلى ترك الجواب سبيل‏

و قد سؤتموهم في بنيهم بقتلهم *** و وزر الذي أحدثتموه ثقيل

‏و لا يرتجى في ذلك اليوم شافع *** سوى خصمكم و الشرح فيه يطول‏

و من كان في الحشر الرسول خصيمه *** فإن له نار الجحيم مقيل

‏و كان عليكم واجبا في اعتمادكم *** رعايتهم أن تحسنوا و تنيل

‏فإنهم آل النبي و أهله و *** نهج هداهم بالنجاة كفيل

‏مناقبهم بين الورى مستنيرة *** لها غرر مجلوة و حجول

‏مناقب جلت أن يحاط بحصرها *** نمتها فروع قد زكت و أصول‏

مناقب وحي الله أثبتها لهم *** بما قام منهم شاهد و دليل

‏مناقب من خلق النبي و خلقه *** ظهرن فما يغتالهن أفول

و لما وصل القلم في ميدان البيان إلى هذا المقام أبدت الأيام من إلمام الآلام ما منع من إتمام المرام على أتم الأقسام و لم ير حزم نظام الكلام دون موقف الاختتام فاختصر مضمون الأبواب و اقتصر منه على اللباب و قصر من إطناب الأطناب و قصر أسباب الإسهاب فجاء محصول فصوله ملخصا في معانيه و مدلول أصوله مخلصا من تطويل

[53]

مبانيه اقتصارا يستغنى بمحصله عن النهاية فيه و إرشادا يكتفى بمختصره عن بسيطه و حاويه انتهى كلامه رحمه الله و قد كنى في هذا الفصل الأخير عن أسماء كتب و حيل بها.

قلت فأما تفاصيل ما جرى للحسين (عليه السلام) و صورة ما جرى بينه و بين أعداء الله و رسوله و محاربتهم إياه و قتلهم من قتلوه من أولاده و إخوته و بني أخيه و بني عمه و أصحابه و صورة موقفه (عليه السلام) و ما ظهر من نجدته و شجاعته و بأسه و بسالته و انقياده إلى أمر الله و شدته على أعداء الله و صبره على ما دفع إليه من فقد الأهل و الولد و قلة الناصر و العدد و إزهاق نفسه الشريفة فلها موضع غير هذا الكتاب فإنه موضوع لذكر مآثرهم و عد مفاخرهم و إن كان قتله (عليه السلام) مما اكتسب به فخرا مضافا إلى فخره و حوى به قدرا زائدا على شريف قدره فإنه نال بذلك مرتبة الشهادة و اختص بما بلغ به غاية الطلب و منتهى الإرادة و حصل له بذلك ما لا يحصل بدوام الذكر و طول العبادة و كان في الحياة سعيدا و كملت له في الممات السعادة و أوجب الله له بسابق وعده الحسنى و زيادة و اذكر الآن شيئا مما يتعلق بأخباره و أنت أيدك الله لا تسأم من إعادة الشي‏ء و تكراره فأني أكرر مرة لاختلاف الناقل و مرة لاختلاف الرواة و في كثرة طرق الأخبار ما يؤنس بتصديقها و يقطع بتحقيقها لا سيما و قد التزمت بالنقل من كتب الجمهور و مرة لأنه يعرض لي سهو و اكتب الشي‏ء و أنا أظن أني لم أكتبه و ربما عرفت فذكرت أنه مكرر و ربما لم أعرف و لأن هذه هي نسخة الأصل و ما عاودتها و لا راجعتها و وقتي يضيق عن مناقشتها لأني منيت في زمان جمع هذا الكتاب بأمور تشيب الوليد و تذيب الحديد و تعجز الجليد و نهبت لي كتب كنت قد أعددتها لأنقل منها في هذا الكتاب و الوقت يضيق عن الشكوى و الرجوع إلى عالم السر و النجوى و الحمد لله على ما ساء و سر و الشكر له سبحانه على ما نفع و ضر فأنعمه تعالى لا تعد و عوارفه لا تحصى و لا تحد .

له أياد علي سابقة *** أعد منها و لا أعددها

قال الحافظ عبد العزيز الجنابذي في كتاب معالم العترة الطاهرة : الحسين

[54]

بن علي بن أبي طالب و أمه فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولد في ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة و قتل بالطف يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين و هو ابن خمس و خمسين سنة و ستة أشهر و حمل رأسه إلى يزيد بن معاوية و كان قبره بكربلاء من سواد الكوفة و قتله سنان بن أنس قال الشاعر :

و أي رزية عدلت حسينا *** غداة تبيره كفا سنان

و يقال قتله شمر بن ذي الجوشن الضبابي و الذي اجتز رأسه ابن جوان اليمامي و كان أمير الجيش الذين ساروا إلى الحسين عمر بن سعد أمره عليهم عبيد الله بن زياد.

و قال يرفعه إلى أشياخ قالوا : غزونا أرض الروم فإذا كتاب في كنيسة من كنائسهم بالعربية :

أ ترجو أمة قتلت حسينا *** شفاعة جده يوم المعاد

فقلنا للروم من كتب هذا قالوا لا ندري.

قال ابن سعد قال الواقدي قتل الحسين بن علي في صفر سنة إحدى و ستين و هو ابن خمس و خمسين سنة.

و قال محمد بن عمر عن أبي معشر : قتل الحسين بن علي لعشر خلون من المحرم سنة إحدى و ستين قال الواقدي و هذا أثبت .

و عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال : أتينا معه موضع قبر الحسين فقال علي (عليه السلام) هاهنا مناخ ركابهم و موضع رحالهم هاهنا مهراق دمائهم فتية من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء و الأرض .

و عن عبد الله بن مسعود قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ دخل فتية من قريش فتغير لونه فقلنا يا رسول الله لا نزال نرى في وجهك الشي‏ء نكرهه فقال إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا و إن أهل بيتي

[55]

سيلقون بعدي تطريدا و تشريدا .

و عن العوام بن حوشب قال : بلغني أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى شباب من قريش كأن وجوههم سيوف مصقولة ثم رئي في وجهه كآبة حتى عرفوا ذلك فقالوا يا رسول الله ما شأنك قال إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا و إني ذكرت ما يلقى أهل بيتي من بعدي من أمتي من قتل و تطريد و تشريد .

و عن عاصم عن زر قال : أول رأس حمل على رمح في الإسلام رأس الحسين بن علي (عليه السلام) فلم أر باكيا و باكية أكثر من ذلك اليوم .

و عن يحيى بن أبي بكر عن بعض مشيختهقال : قال الحسين بن علي (عليه السلام) حين أتاه الناس قام فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس أنسبوني فانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها فانظروا هل يحل لكم سفك دمي و انتهاك حرمتي أ لست ابن بنت نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) و ابن ابن عمه و ابن أولى المؤمنين بالله أ و ليس حمزة سيد الشهداء عمي أ و لم يبلغكم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مستفيضا فيكم لي و لأخي إنا سيدا شباب أهل الجنة أ فما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي و انتهاك حرمتي قالوا ما نعرف شيئا مما تقول فقال إن فيكم من لو سألتموه لأخبركم أنه سمع ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في و في أخي سلوا زيد بن ثابت و البراء بن عازب و أنس بن مالك يحدثكم أنه سمع هذا القول من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في و في أخي فإن كنتم تشكون في ذلك أ تشكون في أني

[56]

ابن بنت نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) فو الله ما تعمدت الكذب منه منذ عرفت أن الله يمقت على الكذب أهله و يضربه من اختلقه فو الله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري منكم و لا من غيركم ثم إني أنا ابن بنت نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة دون غيري خبروني هل تطلبونني بقتيل منكم قتلته أو بمال استهلكته أو بقصاص من جراحة فسكتوا .

قلت قد تقدم أن هذا الكلام منه و تكراره إياه إنما هو لإقامة الحجة عليهم و إزالة الشبهة عنهم في قتاله و تعريفهم ما يقدمون عليه من عذاب الله و نكاله .

و عن منذر قال : كنا إذا ذكرنا عند محمد بن علي قتل الحسين (عليه السلام) قال لقد قتلوا سبعة عشر إنسانا كلهم ارتكض في ولادة فاطمة (عليها السلام) .

و عن ابن عباس قال : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في النوم أشعث أغبر معه قارورتان فيهما دم فقلت يا رسول الله ما هذا فقال دم الحسين و أصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم قال فحسب ذلك اليوم و إذا هو يوم قتل الحسين (عليه السلام) و قال غيره فما لبثوا إلا أربعة و عشرين يوما حتى جاءهم الخبر بالمدينة أنه قتل ذلك اليوم و تلك الساعة .

و عن الزهري قال : قال لي عبد الملك بن مروان أي واحد أنت إن أخبرتني أي علامة كانت يوم قتل الحسين بن علي قال : قلت لم ترفع حصاة ببيت المقدس إلا وجد تحتها دم عبيط فقال عبد الملك إني و إياك في هذا الحديث لقريبان.

و عن عيسى بن الحارث الكندي قال : لما قتل الحسين بن علي (عليه السلام) مكثنا سبعة أيام إذا صلينا العصر نظرنا إلى الشمس على الحيطان كأنها ملاحف معصفرة من شدة حمرتها و ضربت الكواكب بعضها بعضا.

قال و سمعت زكريا بن يحيى بن عمر الطائني قال سمعت غير واحد من مشيخة طي يقول : وجد شمر بن ذي الجوشن في ثقل الحسين ذهبا فدفع بعضه إلى ابنته و دفعته إلى صائغ يصوغ لها منه حليا فلما أدخله النار صار هباء .

قال و سمعت غير زكريا يقول صار نحاسا فأخبرت شمرا بذلك فدعا بالصائغ فدفع إليه باقي الذهب

[57]

و قال أدخله النار بحضرتي ففعل الصائغ فعاد الذهب هباء .

و قال غيره عاد نحاسا.

و عن أبي خباب قال : لقيت رجلا من طي فقلت له بلغني أنكم تسمعون نوح الجن على الحسين فقال نعم ما تشاء أن تلقى محرزا و لا غيره أ لا أخبرك بذلك فقال أنا أحب أن تخبرني أنت بما سمعت من ذلك قال أما الذي سمعت فإني سمعتهم يقولون :

مسح الرسول جبينه *** فله بريق في الحدود

أبواه من عليا قريش *** و جده خير الجدود

و عن أبي حصين عن شيخ من قومه من بني أسد قال : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام و الناس يعرضون عليه و بين يديه طست فيه دم و الناس يعرضون عليه فيلطخهم حتى انتهيت إليه فقلت بأبي و الله و أمي ما رميت بسهم و لا طعنت برمح و لا كثرت فقال لي كذبت قد هويت قتل الحسين قال فأومأ إلي بإصبعه فأصبحت أعمى فما يسرني أن لي بعماي حمر النعم .

و عن عامر بن سعيد البجلي قال : لما قتل الحسين بن علي (عليه السلام) رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام فقال لي ائت البراء بن عازب فاقرأه السلام و أخبره أن قتلة الحسين (عليه السلام) في النار و إن كاد و الله أن يسحت أهل الأرض بعذاب أليم فأتيت البراء فأخبرته فقال صدق الله و صدق رسوله قال رسول الله ص من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتصور في صورتي .

و عن زينب بنت جحش قالت : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نائما فجاء الحسين فجعلت أعلله لئلا يوقظه ثم غفلت عنه فدخل فتبعته فوجدته على صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وضع ذبه في سرته فاستيقظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يبول فقال دعي بني حتى يفرغ من بوله ثم دعا بماء فصبه عليه ثم قال يجرى على بول الغلام و يغسل بول الجارية ثم توضأ و قام يصلي فلما قام احتضنه فإذا ركع وضعه ثم جلس فبسط ثوبه و جعل يقول أرني فقلت يا رسول الله إنك تصنع شيئا ما رأيتك تصنعه قط

[58]

قال حدثني جبرئيل أن ابني تقتله أمتي و أراني تربة حمراء .

و عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبينة عن جده محمد بن عبد الرحمن قال : بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت عائشة رضي الله عنها رقدة القائلة إذ استيقظ و هو يبكي فقالت عائشة ما يبكيك يا رسول بأبي أنت و أمي قال يبكيني أن جبرئيل أتاني فقال ابسط يدك يا محمد فإن هذه تربة من تلال يقتل بها ابنك الحسين يقتله رجل من أمتك قالت عائشة و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحدثني و أنه ليبكي و يقول من ذا من أمتي من ذا من أمتي من ذا من أمتي من يقتل حسينا من بعدي .

و عن عبد الله بن يحيى عن أبيه و كان على مطهرة علي قال : خرجنا مع علي إلى صفين فلما حاذانا نينوى نادى صبرا أبا عبد الله بشاطئ الفرات فقلت يا أمير المؤمنين ما قولك صبرا أبا عبد الله قال : دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عيناه تفيضان فقلت بأبي أنت و أمي يا رسول الله ما لعينيك تفيضان دموعا أ غضبك أحد قال بل قام من عندي جبرئيل فأخبرني أن الحسين يقتل بشاطئ الفرات فقال هل لك أن أشمك من تربته قلت نعم فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم تملك عيناي أن فاضتا .

و عن شهرقال : سمعت أم سلمة حين جاء نعي الحسين لعنت أهل العراق و قالت قتلوه قتلهم الله غروه و ذلوه لعنهم الله إني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاءته فاطمة غدية ببرمة فيها عصيدة تحملها على طبق حتى وضعتها بين يديه فقال أين ابن عمك قالت هو في البيت قال فاذهبي فادعيه و ائتيني ببنيه فجاءت تقود ابنيها كل واحد بيد و علي يمشي على آثارهم حتى دخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجلسهما في حجره و أجلس عليا عن يمينه و فاطمة عن يساره قالت أم سلمة

[59]

فاجتذب من تحتي كساء خيبريا كان يبسط على المنامة فلفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعا و أخذ بيده اليسرى طرف الكساء و ألوى بيده اليمنى إلى ربه تبارك و تعالى و قال اللهم هؤلاء أهلي أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا قالها ثلاثا قلت يا رسول الله أ لست من أهلك قال بلى فادخلي تحت الكساء بعد قضاء دعائه لابن عمه و بنيه و ابنته فاطمة (عليها السلام) .

و قال عبد الله حدثنا محمد بن عمرو الشيباني قال : قال الفضل بن عباس بن عقبة بن أبي لهب يرثي من قتل مع الحسين بن علي (عليه السلام) يعني من أهله و كان قبل الحسين و العباس و عمر و محمد و عبد الله و جعفر بنو علي بن أبي طالب و أبو بكر و القاسم و عبد الله بنو الحسن بن علي و علي و عبد الله ابنا الحسن بن علي و محمد و عون ابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب و مسلم بن عقيل بن أبي طالب و عبد الله و عبد الرحمن و جعفر بنو عقيل بن أبي طالب رضي الله عنهم .

أ عيني ألا تبكيا لمصيبتي *** و كل عيون الناس عني أصبر

أ عيني جودي من دموع غزيرة *** فقد حق إشفاقي و ما كنت أحذر

أ عيني هذا الأكرمين تتابعوا *** وصلوا المنايا دارعون و حسرمن

الأكرمين البيض من آل هاشم *** لهم سلف من واضع المجد يذكر

مصابيح أمثال الأهلة إذ هم *** لدى الجود أو دفع الكريهة أبصر

بهم فجعتنا و الفواجع كاسمها *** تميم و بكر و السكون و حمير

و همدان قد جاشت علينا و أجلبت *** هوازن في أفناء قيس و أعصر

و في كل حي نضحة من دمائنا *** بني هاشم يعلو سناها و يشهر

فلله محيانا و كان مماتنا *** و لله قتلانا تدان و تنشر

لكل دم مولى و مولى دمائنا *** بمرتقب يعلو عليكم و يظهر

فسوف يرى أعداؤنا حين نلتقي *** لأي الفريقين النبي المطهر

[60]

عن يزيد بن أبي زياد قال : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بيت عائشة رضي الله عنها فمر على بيت فاطمة (عليها السلام) فسمع حسينا يبكي فقال أ لم تعلمي أن بكاءه يؤذيني .

و قال البغوي يرفعه إلى أم سلمة قال : كان جبرئيل عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الحسين معي فتركته فذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال جبرئيل أ تحبه يا محمد قال نعم قال أما إن أمتك ستقتله و إن شئت أريتك تربة الأرض التي يقتل بها فبسط جناحه إلى الأرض فأراه أرضا يقال لها كربلاء .

و قال البغوي يرفعه إلى يعلى قال : جاء الحسن و الحسين يسعيان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ أحدهما فضمه إلى إبطه و أخذ الآخر فضمه إلى إبطه الأخرى فقال هذان ريحانتان من الدنيا من أحبني فليحبهما ثم قال إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة .

عن البراء بن عازب قال : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حامل الحسين بن علي على عاتقه و هو يقول اللهم إني أحبه فأحبه .

و عن أسماء بنت عميس عن فاطمة بنت محمد : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتاها يوما فقال أين ابناي يعني حسنا و حسينا قالت قلت أصبحنا و ليس في بيتنا شي‏ء يذوقه ذائق فقال علي اذهب بهما فإني أتخوف أن يبكيا عليك و ليس عندك شي‏ء فذهبا بهما إلى فلان اليهودي فوجه إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجدهما يلعبان في مشربة بين أيديهما فضل من تمر فقال يا علي أ لا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر عليهما قال فقال علي أصبحنا و ليس في بيتنا شي‏ء فلو جلست يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أجمع لفاطمة تمرات فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي ينزع لليهودي كل دلو بتمرة حتى اجتمع له شي‏ء من تمر فجعله في حجرته ثم أقبل فحمل رسول الله ص أحدهما و حمل علي الآخر حتى أقبلهما .

[61]

و عن عروة بن الزبير : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الحسين (عليه السلام) و ضمه إليه و جعل يشمه و عنده رجل من الأنصار فقال الأنصاري إن لي ابنا قد بلغ ما قبلته قط فقال رسول الله ص أ رأيت إن كان الله تبارك و تعالى نزع الرحمة من قلبك فما ذنبي .

و عن يعلى العامري : أنه خرج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعام دعوا له قال فاشتمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمام القوم و حسين (عليه السلام) مع غلمان يلعب فأراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأخذه فطفق الصبي يفر هاهنا مرة و هاهنا مرة فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يضاحكه حتى أخذه قال فوضع إحدى يديه تحت قفاه و الأخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه و قبله و قال حسين مني و أنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط .

و عن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و معه حسن و حسين (عليه السلام) هذا على عاتقه و هذا على عاتقه و هو يلثم هذا مرة و هذا مرة حتى انتهى إلينا فقال له رجل يا رسول الله إنك لتحبهما فقال من أحبهما فقد أحبني و من أبغضهما فقد أبغضني .

قال الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي رحمه الله و من مسند الحسين بن علي (عليه السلام) عن علي بن الحسين عن أبيه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه قال كذا ما لك نعم .

و عن علي بن الحسين عن أبيه (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من حسن

[62]

إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .

و عن عمارة بن غزية الأنصاري قال : سمعت عبد الله بن علي بن حسين يحدث عن أبيه علي بن الحسين عن جده حسين بن علي قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

و عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه عن جده قال : قال وجدت في قائم سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صحيفة مربوطة فيها أشد الناس عذابا القاتل غير قاتله و الضارب غير ضاربه و من جحد نعمة مواليه فقد برئ مما أنزل الله عز و جل .

أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد و أبو الحسن علي بن أبو شتكين بن عبد الله الفقيه الجوهري قالا أنبأنا أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون الحافظ الكوفي أنبأنا الشريف أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن و عدهن في يده خمسا أنبأنا القاضي محمد بن عبد الله الجعفي و عدهن في يده خمسا أنبأنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن مخزوم ببغداد سنة ثلاثين و ثلاثمائة قال حدثني علي بن الحسن السواق و عدهن في يده قال حدثني حرب بن الحسن الطحان و عدهن في يده قال حدثنا يحيى بن مساور و عدهن في يده قال حدثني عمرو بن خالد و عدهن في يده قال حدثني زيد بن علي و عدهن في يده قال حدثني أبي علي بن الحسين و عدهن في يده قال حدثني أبي الحسين بن علي (عليه السلام) و عدهن في يده قال حدثني أبي علي بن أبي طالب و عدهن في يده قال حدثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عدهن في يده قال حدثني جبرئيل و عدهن في يده فقال جبرئيل : هكذا أنزلت به من رب العزة تبارك و تعالى : اللهم صل على محمد و آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم و بارك على محمد و آل محمد كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم و ترحم على محمد و على آل محمد كما ترحمت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم و تحنن على محمد و على آل محمد كما تحننت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم و سلم على محمد و على

[63]

آل محمد كما سلمت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد .

و عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أوحى الله عز و جل إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا و أني قاتل بابن بنتك سبعين ألفا و سبعين ألفا .

و عن راشد بن أبي روح الأنصاري قال : كان من دعاء الحسين بن علي (عليه السلام) اللهم ارزقني الرغبة في الآخرة حتى أعرف صدق ذلك في قلبي بالزهادة مني في دنياي اللهم ارزقني بصرا في أمر الآخرة حتى أطلب الحسنات شوقا وافرا من السيئات خوفا يا رب .

هذا آخر كلام الحافظ عبد العزيز رحمه الله هنا .

نذكر هنا أمورا وقعت بعد قتله (عليه السلام) .

من كتاب الإرشاد للمفيد رحمه الله : لما وصل رأس الحسين (عليه السلام) وصل ابن سعد من غد يوم وصوله و معه بنات الحسين (عليه السلام) و أهله جلس ابن زياد لعنه الله في قصر الإمارة و أذن للناس إذنا عاما و أمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه فجعل ينظر إليه و يتبسم إليه و بيده قضيب يضرب به ثناياه (عليه السلام) و كان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو شيخ كبير فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين فو الله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهما ما لا أحصيه كثيرة يقبلهما ثم انتحب باكيا فقال له ابن زياد لعنه الله أبكى الله عينيك أ تبكي لفتح الله لو لا أنك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك لضربت عنقك فنهض زيد بن أرقم من بين يديه و صار إلى منزله.

و أدخل عيال الحسين (عليه السلام) على ابن زياد لعنه الله فدخلت زينب أخت الحسين (عليه السلام) في جملتهم متنكرة و عليها أرذل ثيابها فمضت حتى جلست ناحية من القصر و حف بها إماؤها فقال ابن زياد من هذه التي انحازت و معها نساؤها فلم تجبه زينب فأعاد القول ثانية و ثالثة يسأل عنها فقال له بعض إمائها هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقبل عليها ابن زياد و قال لها الحمد لله الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم .

فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و طهرنا

[64]

من الرجس تطهيرا إنما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر و هو غيرنا و الحمد لله .

فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ?

قالت : كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع الله بينك و بينهم فتحاجون إليه و تختصمون عنده .

فغضب ابن زياد و استشاط ; فقال له عمرو بن حريث : أيها الأمير إنها امرأة و المرأة لا تؤاخذ بشي‏ء من منطقها و لا تذم على خطئها .

فقال لها ابن زياد : قد شفى الله نفسي من طاغيتك و العصاة من أهل بيتك .

فرقت زينب (عليه السلام) و بكت , و قالت له : لعمري لقد قتلت كهلي و أبرت أهلي و قطعت فرعي و اجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت .

فقال ابن زياد : هذه سجاعة و لعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا .

فقالت : ما للمرأة و السجاعة إن لي عن السجاعة لشغلا و لكن نفث صدري بما قلت.

قلت من سماع هذه الأقوال و استفظاع هذه الأفعال كنت أكره الخوض في ذكر مصرعه (عليه السلام) و بقيت سنين لم أسمعه يقرأ في عاشوراء كما جرت عوائد الناس بقراءته لأني كنت أجد لما جرى عليه و على أهل بيته (عليه السلام) ألما قويا و جزعا تاما و تحرقا مفرطا و انزعاجا بالغا و لوعة مبرحة ثم كان قصارى أن أبكي و ألعن ظالميه و أسبهم و لم أر ذلك مطفيا غليلي و لا مطامنا من غلواء حزني و جزعي و لا مسكنا حركة نفسي في طلب الانتقام من أعدائه .

ربما أخرج الحزين جوى *** الثكل إلى غير لائق بالسداد

مثل ما فاتت الصلاة سليمان *** فأنحى على رقاب الجياد

[65]

فلعن الله ابن زياد فلقد أوغل في عداوته و طغيانه و بالغ في تعديه و عدواته و شمر في استئصال أهل هذا البيت الشريف بسيف شمره و سنان سنانه و أبان عن دناءة أصله بقبح فعله و فعل أعوانه و ركب مركبا وعرا أطاع فيه داعي سلطانه و شيطانه و رجع إلى أصله الخبيث و نسبه المدخول فجرى على سننه و مضى لشأنه و ثقل وطأته على العترة الهاشمية فقضى ذلك بمروقه عن الدين و خفة ميزانه و ليته أخزاه الله إذ لم يكف عزب سيفه كف عزب لسانه و ليته قنع بتلك الأفعال الشنيعة و لم يلق النساء الكرائم بجبهه و بهتانه و لا عجب من قوله و فعله الدالين على سوء فرعه و أصله فإنه رجع إلى سنخه الخبيث و طبعه الدني فإن من قديمه ذلك القديم و حديثه هذا الحديث النغل الأديم فلا بد أن ينزع إلى نسبه و حسبه و يدل بفعله على سوء مذهبه فالإناء ينضح بما فيه و الولد سر أبيه.

و من هنا ينقطع نسبه لأن أباه ابن أبيه و رضاه بهذا النسب سلبه النخوة و الحمية و نفى عنه المروءة و الأريحية و أقامه على دعوى الجاهلية فالولد للفراش في الشريعة المحمدية و الملة الحنيفية و من هذه الأوصاف الدنية و النعوت الغير المرضية أبيح دم الحسين (عليه السلام) و سيق أهله و حرمه كما تساق الإماء في العراق و الشام .

و قد غصت البيداء بالعيس فوقها *** كرائم أبناء النبي المكرم

‏فما في حريم بعدها من تحرج *** و لا هتك ستر بعدها بمحرم

[66]

يقول ابن هانئ المغربي فيها :

بأسياف ذاك البغي أول سلها *** أصيب علي لا بسيف ابن ملجم‏

و بالحقد حقد الجاهلية أنه *** إلى الآن لم يذهب و لم يتصرم

فأبعد الله تلك الأنفس الخبيثة و العقول المختلة و الهمم الساقطة و العقائد الواهية و الأديان المدخولة و الأحلام الطائشة و الأصول الفاسدة و القلوب التي لا تهتدي إلى رشاد و العيون التي لا تنظر إلى سداد و قد غطي عليها الغين و فيهم يقال أعمى القلب و العين و صلوات الله على الحسين و أهله السادات الأفاضل ثمال اليتامى عصمة الأرامل المعروفين بالمعروف و الفواضل ليوث الجدال و الجلاد في الجمع الحافل الآمرين بالقسط و الناطقين بالحق المتحلين بالصدق العادلين في الحكم الفارعين بمجدهم الحبال الشم الآخذين بالعفو و الحلم المعصومين من الزلل المبرءين من الخطايا و الخطل الضاربين الهام و القلل المعروفين بالمعروف الناهين عن المنكر البدور الطوالع الغيوث الهوامع السيول الدوافع الفاخرين فلا مساجل و لا منازع القائمين بأمر الله الراضين بحكم الله الممسوسين في ذات الله الفرحين بلقاء الله .

نجوم طوالع جبال فوارع *** غيوث هوامع سيول دوافع

‏مضوا و كأن المكرمات لديهم *** لكثرة ما أوصوا بهن شرائع

‏فأي يد مدت إلى المجد لم يكن *** لها راحة من جودهم و أضايع

‏بها ليل لو عاينت فيض أكفهم *** تيقنت أن الرزق في الأرض واسع

‏إذا خفقت بالبذل أرواح جودهم *** خداها الندى و استنشقتها المطامع

و عرض عليه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له من أنت فقال أنا علي بن الحسين فقال أ ليس الله قد قتل علي بن الحسين فقال له علي (عليه السلام) قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس فقال له ابن زياد بل الله قتله فقال علي بن الحسين (عليه السلام) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها فغضب ابن زياد لعنه الله فقال له و بك جرأة على جوابي و بك بقية للرد علي اذهبوا به و اضربوا عنقه فتعلقت

[67]

به زينب عمته و قالت له يا ابن زياد حسبك من دمائنا و اعتنقته و قالت و الله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه فنظر ابن زياد إليه ساعة ثم قال عجبا للرحم و الله و إني لأظنها ودت أني قتلتها معه دعوه فإني أراه لما به.

ثم قام من مجلسه حتى خرج من القصر و دخل المسجد فصعد المنبر فقال الحمد لله الذي أظهر الحق و أهله و نصر أمير المؤمنين يزيد و حزبه و قتل الكذاب بن الكذاب و شيعته فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي و كان من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال يا عدو الله إن الكاذب أنت و أبوك و الذي ولاك و أبوه يا ابن مرجانة تقتل أولاد النبيين و تقوم على المنابر مقام الصديقين فقال ابن زياد علي به فأخذته الجلاوزة فنادى بشعار الأزد فاجتمع منهم سبعمائة رجل فانتزعوه من الجلاوزة فلما كان الليل أرسل إليه ابن زياد من أخرجه من بيته فضرب عنقه و صلبه في السبخة رحمه الله عليه.

و لما أصبح ابن زياد لعنه الله بعث برأس الحسين (عليه السلام) فدير به في سكك الكوفة كلها و قبائلها فروي عن زيد بن أرقم أنه قال مر به علي و هو على رمح و أنا في غرفة لي فلما حاذاني سمعته يقرأ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً فقف و الله شعري و ناديت رأسك و الله يا ابن رسول الله و أمرك أعجب و أعجب.

قلت قد تركت أمورا جرت من هؤلاء الطغام الأجلاف لعنهم الله و أبعدهم من رحمته عند قتله (عليه السلام) و ما فعلوه من قطع يده و رشقه بالسهام و الحراب و ذبحه و أخذ رأسه و إيطاء الخيل جسده الشريف و سبي حريمه و انتزاع ملابسهن إلى غير ذلك من الأفعال التي لا يعتمدها و لا بعضها مسلم و لا يتأتى لمردة الكفار و فجارهم و طغاتهم الإقدام على مثلها و الإصرار عليها و كذلك جرت الحال في حمل رأسه الكريم و حريمه الطاهرات إلى دمشق كما تحمل الأسرى و السبايا و دخولهم إلى يزيد بن معاوية على تلك الهيئة المنكرة و الأحوال الشاقة و إنفاذ ابن

[68]

زياد يبشر أولياءه و أصحابه و تابعي رأيه بقتل الحسين (عليه السلام) .

و لما دخل رسوله على عمرو بن سعيد بن العاص و هو أمير المدينة قال له ما وراك قال ما سر الأمير قتل الحسين بن علي قال اخرج فناد بقتله فنادى فلم أسمع و الله واعية قط كواعية بني هاشم في دورهم فدخلت على عمرو بن سعيد فلما رآني تبسم إلي ضاحكا ثم أنشأ متمثلا بقول عمرو بن معديكرب :

عجت نساء بني زياد عجة *** كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

ثم قال عمرو هذه واعية بواعية عثمان ثم صعد المنبر فأعلم الناس بقتل الحسين (عليه السلام) و دعا ليزيد بن معاوية و نزل.

و دخل بعض موالي عبد الله بن جعفر فنعى إليه ابنيه فاسترجع فقال أبو السلاسل مولى عبد الله هذا ما لقينا من الحسين (عليه السلام) فحذفه عبد الله بنعله ثم قال يا ابن اللخناء أ للحسين تقول هذا و الله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه و الله إنه لمما يسخى بنفسي عنهما و يعزي عن المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي و ابن عمي مواسين له صابرين معه ثم أقبل على جلسائه فقال الحمد لله عز علي بمصرع الحسين (عليه السلام) أن لا أكن آسيت حسينا بيدي فقد آساه ولدي.

و خرجت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين (عليه السلام) حاسرة و معها أخواتها أم هانئ و أسماء و رملة و زينب تبكي قتلاها بالطف و تقول :

ما ذا تقولون إذ قال النبي لكم *** ما ذا فعلتم و أنتم آخر الأمم

‏بعترتي و بأهلي بعد منقلبي *** منهم أسارى و منهم ضرجوا بدم‏

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم *** أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

فلما كان الليل من ذلك اليوم الذي خطب فيه عمرو بن سعيد بقتل الحسين

[69]

(عليه السلام) بالمدينة سمع أهل المدينة في جوف الليل مناديا ينادي يسمعون صوته و لا يرون شخصه :

أيها القاتلون جهلا حسينا *** أبشروا بالعذاب و التنكيل

‏كل من في السماء يدعو عليكم *** من نبي و ملائك و قبيل

‏قد لعنتم على لسان بن داود *** و موسى و صاحب الإنجيل

قلت أجاد ديك الجن عبد السلام في قوله من قصيدة يرثي بها الحسين (عليه السلام) :

و يكبرون بأن قتلت و إنما *** قتلوا بك التكبير و التهليلا

و من شعري :

إن في الرزء بالحسين الشهيد لعناء يؤدي بصبر الجليد

إن رزء الحسين أضرم نارا *** لا تني في القلوب ذات وقود

إن رزء الحسين نجل علي *** هد ركنا ما كان بالمهدور

حادث أحزن الولي و أضناه *** و خطب أقر عين الحسود

يا لها نكبة أباحت حمي الصبر *** و أجرت مدامعا في خدود

و مصابا عم البرية بالحزن *** و أعزى العيون بالتسهيد

يا قتيلا ثوى بقتله الدين *** و أمسى الإسلام واهي العمود

و وحيدا في معشر من عدو *** لهف نفسي على الفريد الوحيد

و نزيفا يسقي المنية صرفا *** ظاميا يرتوي بماء الوريد

و صريعا تبكي السماء عليه *** فتروي بالدمع ظامي الصعيد

و غريبا بين الأعادي يعاني *** منهم ما يشيب رأس الوليد

قتلوه مع علمهم أنه خير *** البرايا من سيد و مسود

[70]

و استباحوا دم النبي رسول الله *** إذ أظهروا قديم الحقود

و أضاعوا حق الرسول التزاما *** بطليق و رغبة في طريد

و أتوها صماء شنعاء شوهاء *** أكانت قلوبهم من حديد

و جروا في العماء إلى الغاية *** القصوى أ ما كان فيهم من رشيد

أسخطوا الله في رضى ابن زياد *** و عصوه قضاء حق يزيد

و أرى الحر كان حرا و لكن *** ابن سعد في الخزي كابن سعيد

و من شعر كنت قلته في أيام الحداثة لم أذكر غزلها :

و إذا ما الشباب ولى فما أنت *** على فعل أهله معذور

فاتباع الهوى و قد وحظ الشيب *** و أودى غصن التصابي غرور

فاله عن حاجز و سلع و دع *** وصل الغواني فوصلهن قصير

و تعرض إلى ولاء أناس *** حبل معروفهم قوي مرير

خيرة الله في الأنام و من *** وجه مواليهم بهي منير

أمناء الله الكرام و أرباب *** المعالي ففضلهم مشهور

المفيدون حين يخفق سعي *** و المجيرون حين عز المجير

كرموا مولدا و طابوا أصولا *** فبطون زكية و ظهور

عترة المصطفى و حسبك فخرا *** أيها السائل البشير النذير

بعلي شيدت معالم دين الله *** و الأرض بالعناد تمور

و به أيد الإله رسول الله *** إذ ليس في الأنام نصير

و بأسيافه أقيمت حدود *** صعرت برهة و خرت نحور

[71]

و بأولاد الهداة إلى الحق *** أضاء المستبهم الديجور

سل حنينا عنه و بدرا فما *** يخبر عما سألت إلا الخبير

إذ جلا هبوة الخطوب و *** للحرب زناد يشب منها سعير

أسد ما له إذا استحفل الناس *** سوى رنة السلاح زئير

ثابت الجأش لا يروعه الخطب *** و لا يعتريه فيه فتور

أعرب السيف منه إذ أعجم الرمح *** لأن العدى لديه سطورعزمات

أمضى من القدر المحتوم *** يجري بحكمه المقدور

و مزايا مفاخر عطر الأفق *** شذاها و يخال فيها عبير

و أحاديث سؤدد هي في الدنيا *** على رغم حاسديه تسير

و ترى المشركين يبغي رضاء الله *** تعالى و أنه موتور

حسدوه على مآثر شتى و *** كفاهم حقدا عليه الغدير

كتموا داء دخلهم و طووا *** كشحا و قالوا صرف الليالي يدور

و رموا نجله الحسين بأحقاد *** تبوخ النيران و هي تفور

لهف نفسي طول الزمان و *** ينمي الحزن عندي إذا أتى عاشور

لهف نفسي عليه لهف حزين *** ظل صرف الردي عليه يجود

أسفا غير بالغ كنه ما أكفي *** و حزنا تضيق عنه الصدور

يا لها وقعة لقد شمل الإسلام *** منها رزء جليل خطير

ليث غاب تغيث فيه كلاب *** و عظيم سطا عليه حقير

[72]

يا بني أحمد نداء ولي *** مخلص جهرة لكم و الضمير

لكم صدق وده و على *** أعدائكم سيف نطقه مشهور

و هواكم طوق له و سوار *** و عليه من المخاوف سور

أنتم ذخره إذا أخفق السعي *** و أضحى في فعله تقصير

أنتم عونه إذا دهمته حادثات *** و فاجأته أمور

أنتم غوثه و عروته الوثقى إذا ما تضمنته القبور

و إليكم يهدى المديح اعتقادا *** و بكم في معاده يستجير

بعلي يرجو علي أمانا من *** سعير شرارها مستطير

هاتان القصيدتان قلتهما قديما و كان عهدي بهما بعيدا و لما جرى القلم بجمع هذا الكتاب عزمت على أن أمدح كل واحد من الأئمة (عليهم السلام) بقصيدة لا لأنها تزيد أقدارهم أو ترفع منارهم فهم أعلى رتبة و أسمى مكانة من أن يزيد هم مجدا على مجدهم الأثيل أو شرفا على شرفهم الأصيل و لكن كان جهد المقل و نصرة من تعذرت عليه النصرة باليد و لأني أحببت أن أخلد لي ذكرا بذكرهم و حمدهم و أنبه على أني عبدهم بل عبد عبدهم فلما انتهيت إلى أخبار الحسين (عليه السلام) و أثبت تينك القصيدتين خطر أنك قلتهما قديما و الثواب عليهما حصل أولا و لا بد الآن من قصيدة وفق ما عزمت عليه فسمحت القريحة بهذه القطعة مع بعد عهد بالشعر و عمله و من الله أستمد التوفيق فيما أبتغيه و الإعانة على ما يختاره و يرتضيه و هي :

يا ابن بنت النبي دعوة عبد *** مخلص في ولائه لا يحول

‏لكم محض وده و على *** أعدائكم سيف نطقه مسلول

‏أنتم عونه و عروته الوثقى *** إذا انكسر الخليل الخليل‏

و إليكم ينضي ركاب الأماني *** فلها نحوكم سرى و ذميل

‏كرمت منكم و طابت فروع *** و زكت منكم و طابت أصول

‏فليوث إذا دعوا لنزال *** و غيوث إذا دعاهم نزيل

[73]

المجيرون من صروف الليالي *** و المنيلين حين عز المنيل

‏شرف شائع و فضل شهير *** و علاء سام و مجد أثيل‏

و حلوم عن الجناة و عفو *** و ندي فائض و رأى أصيل

‏لي فيكم عقيدة و ولاء *** لاح لي فيهما و قام الدليل

‏لم أقلد فيكم و كيف و قد *** شاركني في ولائكم جبرئيل

‏جزتم رتبة المديح جلالا *** و كفاكم عن مدحي التنزيل

‏غير أنا نقول ودا و حبا *** لا على قدركم فذاك جليل

‏للإمام الحسين أهديت مدحا *** راق حتى كأنه سلسبيل

‏و بودي لو كنت بين يديه *** باذلا مهجتي و ذاك قليل

‏ضاربا دونه مجيبا دعاه *** مستميتا على عداه أصول

‏قاضيا حق جده و أبيه *** فهما غاية المنى و السئول

‏فعليهم مني التحية ما لاح *** سنا بارق و هبت قبول

next page

fehrest page

back page