و روي : أن رجلا ممن يخدم الخليفة قد مرض مرضة شديدة و لم ينفع فيه الدواء فقالت أمه تناول من تربة الحسين (عليه السلام) فلعل الله تعالى يشفيك ببركته (عليه السلام) فقد روينا أنه شفاء من كل داء و أنت تؤمن بهم و بما قالوا فتناولت من تربته (عليه السلام) فعوفيت
[874]
قال الراوي فلما برأ و رجع إلى دار الخلافة قال له خادم من خدم الخليفة كنا قد آيسنا منك فبأي شيء تداويت قال إن لنا عجوزا و لها سبحة من تربة الحسين (عليه السلام) فأعطتني واحدة منها فجعلها الله سبحانه لي شفاء قال الخادم فهل بقي منها شيء قال نعم قال فأتني منها بشيء قال فخرجت و أتيت بحبات منها فأخذها و أدخلها في دبره تهاونا بها فبينما هو كذلك إذ صاح النار النار الطشت الطشت و وقع على الأرض يستغيث ثم خرجت أمعاؤه كلها و وقعت في الطشت و بعث الخليفة إلى طبيبه النصراني فاستحضره فلما رأى ذلك قال هذا إنما يداويه المسيح و سأل عن حاله فأخبروه بما فعل الخادم فأسلم النصراني في الحال و حسن إسلامه .
[875]
الباب السابع عشر في الموازاة بين معجزات نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) و معجزات أوصيائه (عليهم السلام) و معجزات الأنبياء (عليهم السلام)
أما بعد حمد الله الذي جعل الحجة قبل الخلق و مع الخلق و بعد الخلق و الصلاة على سيدنا محمد و آله الذين هم حجج الله على الخلق بالحق فإن ذكر موازاة نبينا سائر الأنبياء المتقدمين في المعجزات و غيرها تكفي الإشارة إليها و كذلك الزيادة من المعجزات التي كانت له عليهم فهي أظهر من أن تحتاج إلى الاستدلال عليها فقد صح أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من كل نبي سبق إذ أجمع عليه جميع المحققين و اتفق و لذلك قال : أنا سيد ولد آدم و لا فخر .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة .
[876]
و قد ذكرنا من معجزاته (صلى الله عليه وآله وسلم) و معجزات أوصيائه (عليهم السلام) التي رواها الرواة المعروفون بالأمانة ما يربي على أعلام الرسل الماضين عند الموازاة و الموازنة و نذكر هاهنا شيئا يفتقر إليه في هذا المعنى إن شاء الله .
[877]
باب
الكلام على الخرمية القائلين
بتواتر الرسل بعد نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)
اعلم أنهم زعموا أن الأنبياء بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تترى و أن الرسالة لا تنقطع إلى الأخرى و تمسكوا بقوله تعالى يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ قالوا و هذا في المستقبل يدل على أن الرسل تترى .
و استدلوا أيضا بقوله تعالى وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ و قالوا الخاتم في المعتاد يكون مستعملا في وسط الكتاب فدل هذا على أنه ليس بآخر الرسل .
و ربما كانوا يقولون قد علمنا ذلك بالعقل و الخبر .
فصل :
في إبطال قولهم :
اعلم أولا أنا إنما قطعنا على القول بأن لا نبي بعد نبينا و لا رسول بعد رسولنا من جهة الخبر على ما يذكر من بعد فأما من جهة العقل فقد كان جائزا أن يكون بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي أو رسول
[878]
ثم يقول لهم في الآية الأولى إنها لا تدل على ما ذكرتم لأن معناها إن يأتكم نبأ رسل كانوا من قبلكم و كانوا يقصون دلالاتي و آياتي لأممهم و قد أنزلت عليكم فمن عمل بأوامره و انتهى عن زواجره فلا خوف عليه و لا حزن له فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ و الإيجاز في الكلام من أعجب البراعة و فصاحة القرآن من أغرب البلاغة و من نظر في هذا الخطاب يعلم منه ما ذكرنا و لا يتذكر إلا أولو الألباب .
و يؤيد صحة ما ذكرناه : الآية التي بعدها و هي قوله تعالى وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .
و هذا وعيد لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا خلاف أنه للماضي دون الاستقبال و معناه فكل أمة من أمم هؤلاء الرسل كذبوهم بسبب تلك الآيات و استكبروا عن قبول تلك المعجزات فقد صاروا أصحاب النار فإن كنتم مثلهم و لا تقبلونها فتكونوا أيضا من أهل النار .
على أن هذا الخطاب و إن كان على الاستقبال و المراد به الماضي على ما ذكرنا لما خصه نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله لا نبي بعدي و تخصيص القرآن بالسنة جائز شائع .
و فيه جواب آخر : و هو أن هذا يقال لهم يوم القيامة يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ كما قال تعالى في موضع آخر يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا .
[879]
و قيل إن معنى الآية إن يأتكم رسل من الملائكة من أجل مصالحكم فلا تكون من النبيين فلا تتعلق إلا بقوله يَأْتِكُمْ دون قوله رُسُلٌ و هذا أيضا حسن .
فصل :
و أما قوله تعالى و خاتم النبيين بكسر التاء و المعنى الذي ختم النبوات بنبوته .
و مثله خاتمه مسك و ختامه مسك أي آخر طعمه المسك و كقوله هذا خاتم هذا الأمر أي هو آخره و قد قرأ عاصم خاتَمَ النَّبِيِّينَ بفتح التاء و معناه يئول إلى كسر التاء لأنه من خاتم الكتاب الذي جمع الجميع ففرغ من أمره .
كذلك رسولنا خاتم المرسلين لأنه بعث آخرا و ليس بعده رسول .
فمن فتح التاء أجراه مجرى المصدر و المصدر يوضع موضع الفاعل مرة و موضع المفعول أخرى و بكسر التاء اسم الفاعل من ختم أي آخرهم و واضع الختم على النبوة فلا يكون بعده نبي فعلى القراءتين لا حجة لهم فيه و أما قولهم عرفنا ذلك فلا يخلو إما أن قالوا بالعقل قلنا و ما في العقل ما يوجب أن تكون الرسل تترى و أنها لا تنقطع و إنما يجب في العقل أن يكون في المكلفين معصوم إذ لم يكونوا معصومين و هذا المعصوم يحفظ الشرع الذي أداه الرسول إليهم و يكون وصيا لذلك النبي كما كان منذ عهد آدم (عليه السلام) إلى وقتنا هذا .
[880]
و إن قالوا بالخبر علمنا ذلك و في العقل تحريره قلنا و أي خبر جاء به فلا بد يجدون شيئا من ذلك .
فصل :
و يقال لهم : أ لستم تثبتون نقل المسلمين لأعلام نبيهم و تقولون أنها صحيحة فإذا قالوا نعم قلنا لهم فإذا أثبتم نبوته بالأعلام التي نقلها أهل الإسلام فقد نقلوا بعدها أيضا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لا نبي بعدي و لا رسول و كانوا قد عرفوا معناه معرفة لا يشكون فيها .
فإن قالوا : الكذب يجوز عليهم في نقلهم قلنا فما أنكرتم من جواز الكذب عليهم في نقلهم أعلام كل نبي أقررتم به و تؤمنون بنبوته .
فإن قالوا : لا يجوز ذلك قلنا فإذا لم تجوزوا عليهم في ذلك الكذب لزمكم أن لا تجوزوا مجيء رسول بعده من قبل الله تعالى و ذلك أن الذين نقلوا أعلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى علم بها نبوته هم الذين نقلوا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا نبي بعدي و إذا جاز صدق أحد النقلين جاز الآخر .
و الناقلون الذين نقلوا إلينا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقفهم على أنه لا نبي بعده قد بلغوا في الكثرة إلى حد لا يجوز عليهم التواطؤ و نحوه فيه .
و قد أجمعت الطائفة المحقة عليه و إجماعهم حجة و ذلك توقيف يعلم منه مراده و قصده في أنه أراد التعميم الذي لا تخصيص فيه بوجه من الوجوه .
فعلمنا عند سماع أخبارهم على هذا الوجه أنه لا نبي بعده قطعا .
فإن قالوا : فما بالنا لا نعلم ذلك قلنا لأنكم لا تنظرون في هذا الخبر كما
[881]
لا تنظر اليهود و النصارى في أعلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي يرونها و يصدقونها فلو نظرتم في الخبر و نظروا فيها لحصل لكم و لهم العلم بالأمرين كما حصل لنا .
فصل :
فإن قالوا : فبم تنفصلون من أهل الكتابين إذا قالوا إن موسى و عيسى قد أمرانا بالتمسك بشريعتهما أبدا و إن ذلك يقتضي التأبيد الذي لا تخصيص فيه قلنا الفرق بيننا و بينهم فيه وجوه كثيرة أحدها أن موسى و عيسى (عليه السلام) من قولهم و قولنا قد أمرا بتصديق الأنبياء بعدهما و أخبرا عن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) و بشرا به .
و هم جميعا أعني اليهود و النصارى معترفون بأنبياء قد كانوا بعدهما و نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال لا نبي بعدي قولا قطعا و نصا و حزما .
فعلم السامعون قصده في التعميم الذي لا تخصيص فيه من الوجوه .
و إنما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : سيكون بعدي أوصياء بعدد نقباء بني إسرائيل .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : سيكون بعدي كذابون .
و في رواية أخرى : سيكون بعدي ثلاثون دجالا يظهرون عند اقتراب الساعة و لم يقل إنه يكون بعدي نبي صادق .
[882]
و أيضا فإن القوم إنما ينقلون عن موسى و عيسى على نبينا و عليهما السلام ترجمة كلامهما لأن لغتهم غير لغتنا هذه و المترجم يجوز عليه الخطأ و الغلط و السهو .
و لأن المسلمين قد أجمعوا على أنه لا نبي بعده و الحجة قد قامت على أنه على التعميم لا خاص فيه بوجه من الوجوه لأن فيهم معصوما في كل زمان و لا معصوم في أهل الكتاب اليوم .
و يمكن أن يستدل من القرآن الكريم في مواضع منه كقوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ إلى قوله وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ و كقوله تعالى لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ و لا خلاف أن ذلك اللفظ يجب حمله على التعميم في الشرع أيضا فالكتاب و السنة و الإجماع التي تلائمها دلائل الشريعة يدل على قولنا .
فإن قيل : فالخرمية تخالف في هذا الباب فكيف تقولون الإجماع منعقد فيه قلنا خلاف الخرمية خلاف حادث سبقه الإجماع و تأخر عنه من أهل الأعصار .
[883]
باب في معجزات محمد و أوصيائه عليه و عليهم أفضل الصلاة و السلام من جهة الأخلاق
اعلم أن هذه آية عظيمة و دلالة قوية و معجزة كبيرة لا يعرفها على التفصيل إلا الخاصة و إنما العامة يعرفونها على الإجمال تبعا للخاصة فيه .
و ذلك أنه لم يتيسر لأحد قط و لا سمع صبر كصبر محمد و الأئمة من عترته و أهل بيته و لا حلم كحلمهم و لا وفاء كوفائهم .
و لم يوجد كرأفتهم و رحمتهم و لا كزهدهم و نجدتهم و لا كجودهم و صدق لهجتهم و لا كتواضعهم و كرم عشرتهم و لا كعلمهم و حكمتهم و لا كحفظهم لما سمعوا و لا كصمتهم إذا صمتوا و لا كقولهم إذا قالوا و لا كعجيب مولدهم و منشئهم و لا كقلة تلونهم و لا ككثرة علومهم في كل فن و لا كدوام طريقتهم و لا كحسن سيرتهم و لا كعفوهم و قلة امتنانهم و لا كحسن خلقهم و لا كطهارة مولدهم و طيب محتدهم .
إذ لم يكن أحد منهم بفظ و لا غليظ و لا صخاب و لا فحاش و لا كذاب و لا مهذار .
و لا يرى أحد منهم قط فارغا إذا لم يكن في عبادة و اجتهاد كان في هداية و جهاد إما يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرملة أو إصلاح ذات البين للمسلمين .
[884]
فجميع هذه الخلال الحميدة و غيرها من مكارم الأخلاق ما لم نذكره قد بلغت فيهم غاية و أدركت منزلة خرقت العادات و صارت من المعجزات فما يستطيع منافق و لا كافر أن يقول فيهم غميزة و لا شتارا و لا عيبا و لا عارا بل يثني عليهم اضطرارا كل عدو و حاسد و يمدحهم كل زنديق و جاحد كما حمدهم الله تعالى إلى أنبيائه المتقدمين و باهى بهم الملائكة المقربين إذ لم يقع منهم قط عثرة و لا غدرة و لا فجرة .
و كانت من جميع الناس سواهم سقطات و هفوات و لم يقعد إليهم شر الناس على الأكثر و الأغلب إلا صار خير الناس و قد أطبق الثقلان و أهل السماوات و الأرضين أنهم كانوا أزهد الناس و أعلمهم و أحلمهم و أشجعهم و أفضلهم و صارت كل خصلة خير و خلة بر من سيرهم و أخلاقهم إلى درجة خارقة للعادة و ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد .
فصل :
أما سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه كان يعلم جميع ما علمه الله تعالى آدم و جميع الأنبياء و الملائكة و قد علمه الله تعالى ما لم يعلموا و أوصله إلى ما لم يصلوا كان في طول الأيام يلقى السفه بالحلم و الأذى بالاحتمال و التضييق بالصبر .
و العجب من قريش فهم كانوا أحلم جيل في الأرض إلا فيما بينهم و بينه
[885]
(صلى الله عليه وآله وسلم) فهم كانوا إذا صاروا إليه أفحشوا في القول و أفرطوا في السفه و رموه بالفروث و الدماء و ألقوا في طريقه الشوك و حثوا في وجهه (صلى الله عليه وآله وسلم) التراب .
فلما دخل مكة عليهم عنوة قام خطيبا فقال أقول كما قال أخي يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ .
فكرم عفوه عنهم معروف إذ قابل منكرهم بالمعروف .
و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) أحفظ الناس للتوراة و الإنجيل و الزبور و كتب جميع الأنبياء (عليه السلام) و أقاصيص الرسل و الأمم من غير دراسة و لا قراءة كتب .
و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف أخبار الملوك و الجبابرة و كون العبر و المثلات في جميع الدهور السالفة و الآنفة من لدن آدم و ما بعده إلى قيام الساعة .
و كان الصدق شعاره و دثاره و كان أوفاهم عقدا و عهدا و غدر قريش و العرب به مرة بعد أخرى مشهور في قصة الحديبية و غيرها .
ثم لا يستطيع أحد أن يذكر له غدرة و لا كذبة لا في حداثته و لا كهوليته و كانوا يسمونه قبل نبوته الصادق الأمين .
و أما زهده (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد ملك من أقصى اليمن إلى شجر عمان إلى أقصى الحجاز إلى نواحي العراق ثم توفي و عليه دين و درعه مرهونة بطعام أهله ما ترك درهما و لا دينارا و لا شيد قصرا و لا غرس نخلا لنفسه و لا شق نهرا .
[886]
و أما شجاعته ففرسان الجاهلية كعامر بن الطفيل و عتبة بن الحارث بن شهاب صياد الفوارس و بسطام بن قيس كان لكل منهم فر و ما انحاز (صلى الله عليه وآله وسلم) قط من شجعان و إن أحاطوا به و كان ضربه للأعداء و لو برأس سوطه نارا محرقة .
و كان أشد الناس زهدا يلبس العباءة و يجالس المساكين و يتوسد يده و يلطع أصابعه و لا يأكل متكئا بل يجلس جلسة العبد و لم ير ضاحكا ملء فمه .
و كان أرحم الناس بالصبيان و أشد حياء من عذراء في خدرها و لا يأنف و لا يستكبر و ما سئل شيء قط فقال لا .
و كان يقضي حوائج الأرملة و اليتيم و المسكين يحسن الحسن و يصوبه و يقبح القبيح و يوهنه لا يأكل وحده و لا يضرب عبده يأكل العبد معه و يطحن عنه إذا أعيا يحلب الشاة بيده و يعلف الناضج و يقم البيت و يخصف النعل و يرقع الثوب .
و هذه قصيرة من طويلة من أخلاقه الخارقة للعادة فإنها كانت أبدا على وتيرة واحدة لا تتغير .
[887]
فصل :
و أما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فمن براهينه ما ساوى به نبيين عيسى و يحيى (عليه السلام) فقال تعالى في عيسى وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ و خرق العادة بإكمال عقله و قال في يحيى وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا .
و كان من آيات الله الخارقة للعادة في علي (عليه السلام) كمال عقله و وفور علمه و معرفته بالله تعالى و برسوله مع عداده في الأطفال حتى دعاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التصديق به و الإقرار بنبوته و كلفه العلم بحقه و عهد إليه في الاستتار بما أودعه من دينه و أداء الأمانة فيه و كلفه العلم و العمل الشرعيين و كان إذ ذاك من أبناء عشر فما دونها .
فكان كمال عقله و حصول معرفته بالله و برسوله آية لله فيه باهرة خرق بها العادة و دل بها على مكانته منه و اختصاصه به و تأهيله لما رشحه له من الإمامة و الحجة على الخلق فجرى في خرق العادة مجرى عيسى و يحيى (عليه السلام) .
و لو لا أنه كان كاملا في تلك الحال لما كلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإقرار بنبوته و لا دعاه إلى الإقرار بحقه و لا افتتح به الدعوة قبل جميع الرجال .
و أما زهده و علمه و حلمه و شجاعته فقد أقر أعداؤه بذلك و قد علمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع ما علمه الله تعالى مما كان و مما يكون .
[888]
و ما ولى قط عن أحد مع طول ملاقاته الحروب و كثرة من مني به فيها من صناديد الأعداء و لم يفلت منه قرن في الحروب .
و كان من أعجوبة أفرده الله تعالى بها أنه لم يعهد لأحد من مبارزة الأبطال مثل ما عرف له من كثرة ذلك فإنهم ما عروه بشر و لا شين و لا وصل إليه أحد منهم بسوء حتى كان من أمره مع ابن ملجم عليه اللعنة في المحراب على اغتياله إياه ما كان و هذه آيات خارقة للعادات .
و لما قبض (عليه السلام) خطب ابنه الحسن (عليه السلام) فقال لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل و لا يدركه الآخرون بعمل لقد كان يجاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقيه بنفسه و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوجهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى يفتح الله على يديه .
و لقد ولد في بيت الله الحرام و لم يولد فيه أحد غيره قط .
و لقد توفي في الليلة التي عرج فيها بعيسى ابن مريم (عليه السلام) و فيها قبض يوشع بن نون وصي موسى (عليه السلام) و ما خلف صفراء و لا بيضاء و لم يزل ينشر معالم الدين من السنة و القرآن و يحكم بالعدل و يأمر بالإحسان .
[889]
و كان قبل الهجرة مشاركا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في محنه كلها متحملا عنه أكثر أثقالها .
و بعد الهجرة كان يكافح عنه المشركين و يجاهد دونه الكافرين .
و قد قاسى من بعده في حفظ الدين ما لا يحيط به كتاب و كل ذلك خارق للعادة .
فصل :
و أما الحسن و الحسين (عليه السلام) فسيرتهما المرضية و أخلاقهما الرضية و علومهما و كمالهما في حال الصغر أشهر من أن يتكلم عليه هاهنا .
و كفى لهما فضيلة .
أن فاطمة (عليها السلام) أتت بهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في شكواه التي توفي فيها فقالت هذان ابناك ورثهما شيئا فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أما الحسن فله هيبتي و سؤددي و أما الحسين فله جودي و شجاعتي .
و لا يخفى أن أكثر شمائل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تندرج تحت قوله هذا و كان الحسن (عليه السلام) يشبه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من صدره إلى رأسه و الحسين (عليه السلام) يشبه به من صدره إلى رجليه و روي هذا على عكسه أيضا .
[890]
و كان من برهان كمالهما و حجة اختصاص الله سبحانه لهما مباهلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهما (عليه السلام) و بيعته لهما و لم يبايع صبيا في ظاهر الحال غيرهما .
و قد نزل القرآن الكريم في سورة هل أتى بإيجاب ثواب الجنة لهما على عملهما مع ظاهر الطفولية فيهما و لم ينزل في مثلهما بذلك فعمهما قوله تعالى إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً مع أبيهما و أمهما و تضمن نطقهما و ضميرهما الدالين على الآية الباهرة و الحجة العظمى على الخلق بهما كما تضمن عن نطق المسيح على نبينا و آله و عليه السلام في المهد .
فصل :
و أما علي بن الحسين (عليه السلام) فإنه كان أفضل خلق الله تعالى بعد أبيه علما و عملا و كان اجتهاده و عبادته و زهده و سيرته مع الخلق كلها خارقة للعادة .
عن الباقر (عليه السلام) : كان أبي يصلي في اليوم و الليلة ألف ركعة و كانت الريح تميله بمنزلة السنبلة و قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد و قد اصفر لونه من السهر و رمضت عيناه من البكاء و دبرت جبهته و انخرم أنفه من السجود و ورمت
[891]
ساقاه و قدماه من القيام في الصلاة فبكيت حين رأيته بتلك الحال فالتفت إلي و قال يا بني أعطني بعض الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب فأعطيته فقرأ فيها يسيرا ثم تركها و قال من يقوى على عبادة أمير المؤمنين (عليه السلام) .
و كل هذا خرق للعادة ملحق بالأعلام الباهرة و كان (عليه السلام) في صباه عالما حكيما .
و أطرى الصادق (عليه السلام) عليا (عليه السلام) فقال : ما عرض له أمران قط هما لله رضا إلا أخذ بأشدهما عليه في دينه و ما نزلت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نازلة إلا دعاه ثقة به و ما أطاق علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الأمة غير علي (عليه السلام) و إن كان ليعمل عمل رجل كأن وجهه بين الجنة و النار يرجو ثواب هذه و يخاف عقاب هذه و لقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله تعالى مما كد بيده و رشح منه جبينه و إن كان ليقوت أهله بالزيت و الخل و العجوة و ما كان لباسه إلا الكرابيس إذا فضل شيء عن يده من كمه دعا بالجلم فقصه
[892]
و ما أشبه من ولده و لا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه و فقهه من علي بن الحسين (عليه السلام) .
فصل :
و أما محمد بن علي (عليه السلام) فلم يظهر من أحد بعد آبائه (عليه السلام) من علم الدين و الآثار و السنة و علم القرآن و السيرة و فنون العلم ما ظهر منه .
و روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة و وجوه التابعين و رؤساء الفقهاء و صار في الفضل علما يضرب به الأمثال .
و دخل عليه جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقبل رجليه و قال : قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم لعلك تبقى حتى تلقى رجلا من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسين يهب الله له النور و الحكمة فاقرأه مني السلام .
فقال (عليه السلام) : و على رسول الله السلام و رحمة الله و بركاته .
و سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عرفه بباقر العلوم و قد روى الناس من أخلاقه و مناقبه الخارقة للعادة ما إن أثبتناه لكثر به الخطب .
و قال (عليه السلام) ما ينقم الناس منا نحن أهل بيت الرحمة و شجرة النبوة و معدن الحكمة و موضع الملائكة و مهبط الوحي .
[893]
و قال (عليه السلام) بلية الناس علينا عظيمة إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا و إن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا .
و قال (عليه السلام) إذا حدثت الحديث و لم أسنده فسندي فيه أبي عن جدي عن أبيه عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل (عليه السلام) عن الله عز و جل .
و هذا كلام من هو معصوم من الغلط و الهذيان و طريقته خارقة للعادة .
فصل :
و أما جعفر بن محمد (عليه السلام) فإنه كان أنبه أهل زمانه ذكرا و أعظمهم قدرا و أجلهم في الخاصة و العامة و انتشر ذكره في البلدان و نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان و كان له و لآبائه و أبنائه الأئمة من الدلائل الواضحة ما بهرت القلوب و أخرست المخالف عن الطعون فيها بالشبهات .