fehrest page next page

الخرائج والجرائح / الجزء الثالث

للشيخ قطب الدين الراوندي

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الثامن عشر

في أم المعجزات و هو القرآن المجيد

الحمد لله الذي جعل القرآن لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) أم المعجزات و معظمها و صلى الله على خيرته من خلقه محمد و آله أشرف الصلوات و أعظمها .

و بعد فإن كتاب الله المجيد ليس هو مصدقا لنبي الرحمة خاتم النبيين فقط بل هو مصدق لسائر الأنبياء و الأوصياء قبله و سائر الأوصياء بعده جملة و تفصيلا و ليست جملة الكتاب معجزة واحدة بل هو معجزات لا تحصى و فيه أعلام عدد الرمل و الحصى لأن أقصر سورة منه إنما هي الكوثر و فيها الإعجاز من وجهين أحدهما أنه قد تضمن خبرا عن الغيب قطعا قبل وقوعه فوقع كما أخبر عنه من غير خلف فيه و هو قوله تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ لما قال قائلهم إن محمدا رجل صنبور و إذا مات انقطع ذكره و لا خلف له يبقى به ذكره

[972]

فعكس ذلك على قائله و كان كذلك .

و الثاني من طريق نظمه لأنه على قلة عدد حروفه و قصر آيه يجمع نظما بديعا و أمرا عجيبا و بشارة للرسول و تعبدا للعبادات بأقرب لفظ و أوجز بيان و قد نبهنا على ذلك في كتاب مفرد لذلك .

ثم إن السور الطوال متضمنة للإعجاز من وجوه كثيرة نظما و جزالة و خبرا عن الغيوب فلذلك لا يجوز أن يقال إن القرآن معجز واحد و لا ألف معجز و لا أضعافه .

فلذلك خطأنا قول من قال إن للمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف معجزة أو ألفي معجزة بل يزيد ذلك عند الإحصاء على الألوف .

فصل :

في أن القرآن المجيد معجز :

اعلم أن الكلام في كيفية الاستدلال بالقرآن فرع على الكلام في الاستدلال بالقرآن و الاستدلال به لا يتم إلا بعد بيان خمسة أشياء أحدها ظهور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة و ادعاؤه أنه مبعوث إلى الخلق و رسول إليهم .

و ثانيها تحديه العرب بهذا القرآن الذي ظهر على يده و ادعاؤه أن الله سبحانه أنزله عليه و خصه به .

و ثالثها أن العرب مع طول المدة لم يعارضوه .

و رابعها أنهم لم يعارضوه للتعذر و العجز .

و خامسها أن هذا التعذر خارق للعادة .

[973]

فإذا ثبت ذلك فإما أن يكون القرآن نفسه معجزا خارقا للعادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه أو لأن الله سبحانه و تعالى صرفهم عن معارضته و لو لا الصرف لعارضوه و أي الأمرين ثبت ثبتت صحة نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه تعالى لا يصدق كذابا و لا يخرق العادة لمبطل .

فصل :

أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تحدى بالقرآن :

و أما ظهوره (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة و دعاؤه إلى نفسه فلا شبهة فيه بل هو معلوم ضرورة لا ينكره عاقل فظهور هذا القرآن على يده أيضا معلوم ضرورة و الشك في أحدهما كالشك في الآخر .

و أما الذي يدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تحدى بالقرآن فهو أن معنى قولنا إنه تحدى بالقرآن أنه كان يدعي أن الله سبحانه خصه بهذا القرآن و إنبائه به و أن جبرئيل (عليه السلام) أتاه به و ذلك معلوم ضرورة لا يمكن لأحد دفعه و هذا غاية التحدي في المعنى و المبعث على إظهار معارضتهم له إن كان معذورا .

و أما الكلام في أنه لم يعارض فهو أنه لو عورض لوجب أن ينقل و لو نقل لعلم كما علم نفس القرآن فلما لم يعلم دل على أنه لم يعارض كما يعلم أنه ليس بين بغداد و البصرة بلد أكبر منهما لأنه لو كان كذلك لنقل و علم .

و إنما قلنا إن المعارضة لو كانت لوجب نقلها لأن الدواعي تتوفر إلى

[974]

نقلها و لأنها لو كانت لكانت هي الحجة و القرآن شبهة و نقل الحجة أولى من نقل الشبهة .

و أما الذي به يعلم أن جهة انتفاء المعارضة التعذر لا غير فهو أن كل فعل ارتفع عن فاعله مع توفر دواعيه إليه علم إنما ارتفع للتعذر و لهذا قلنا إن هذه الجواهر و الألوان ليست في مقدورنا و خاصة إذا علمنا أن الموانع المعقولة مرتفعة كلها فيجب أن نقطع على ذلك في جهة التعذر لا غير .

و إذا علمنا أن العرب تحدوا بالقرآن فلم يعارضوه مع شدة حاجتهم إلى المعارضة علمنا أنهم لم يعارضوه للتعذر لا غير .

و إذا ثبت كون القرآن معجزا و أن معارضته تعذرت لكونه خارقا للعادة ثبت بذلك نبوته المطلوبة .

فصل :

في معرفة صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوصي (عليه السلام) :

و الطريق إلى معرفة صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوصي (عليه السلام) ليس إلا ظهور المعجز عليه أو خبر نبي ثابت نبوته بالمعجز .

و المعجز في اللغة ما يجعل غيره عاجزا ثم تعورف في الفعل الذي يعجز القادر عن الإتيان بمثله و في الشرع هو كل حادث من فعل الله أو بأمره أو تمكينه ناقض لعادة الناس في زمان تكليف مطابق لدعوته أو ما يجري مجراه .

[975]

و اعلم أن شروط مفهوم المعجزات أمور منها أن يعجز عن مثله أو عما يقاربه المبعوث إليه و جنسه لأنه لو قدر عليه أو واحد من جنسه في الحال لما دل على صدقه و وصي النبي (عليه السلام) حكمه حكمه .

و منها : أن يكون من فعل الله تعالى أو بأمره و تمكينه لأن المصدق للنبي بالمعجز هو الله تعالى فلا بد أن يكون من جهته تعالى ما يصدق به النبي أو الوصي .

و منها : أن يكون ناقضا للعادة لأنه لو فعل معتادا لم يدل على صدقه كطلوع الشمس من مشرقها .

و منها : أن يحدث عقيب دعوى المدعي أو جاريا مجراه و الذي يجري مجرى ذلك هو أن يدعي النبوة و يظهر عليه معجزا ثم تشيع دعواه في الناس ثم يظهر معجز من دون تجديد دعوى لذلك لأنه إذا لم يظهر كذلك لم يعلم تعلقه بالدعوى فلا يعلم أنه تصديق له في دعواه .

و منها : أن يظهر ذلك في زمان التكليف لأن أشراط الساعة تنتقض بها عادته تعالى و لا يدل على صدق مدع .

[976]

فصل :

تحدي العرب الإتيان بمثل القران :

و القرآن معجز لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تحدى العرب الإتيان بمثله و هم النهاية في البلاغة و قويت دواعيهم إلى الإتيان بما تحداهم به و لم يكن لهم صارف عنه و لا مانع منه و لم يأتوا به فعلمنا أنهم عجزوا عن الإتيان بمثله .

و إنما قلنا إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تحداهم لأن القرآن الكريم نفسه نطق بذلك كقوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .

و معلوم أن العرب في زمانه و بعده كانوا يتباهون بالبلاغة و يفخرون بالفصاحة و كانت لهم مجامع يعرضون فيها شعرهم و حضر زمانه من يعد في الطبقة الأولى كالأعشى و لبيد و طرفة .

و في زمانه كانت العرب قد مالت إلى استعمال المستأنس من الكلام دون الغريب الوحشي الثقيل على اللسان فصح أنهم كانوا الغاية في الفصاحة .

و إنما قلنا إن دواعيهم اشتدت إلى الإتيان بمثله لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تحداهم ثم قرعهم بالعجز عنه كقوله تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً

[977]

و قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا .

فإن قيل لعل صارفهم هو قلة احتفالهم به أو بالقرآن لانحطاطه في البلاغة .

قلنا لا شبهة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من الشط في التثبيت حتى سموه الأمين و الصدوق فكيف لا يحتفلون به و هم كانوا يستعظمون القرآن حتى شبهوه بالسحر و منعوا الناس من استماعه لئلا يأخذ بمجامع قلوب السامعين فكيف يرغبون عن معارضته .

فصل :

في أن القرآن هو كلام الله و فعله :

فإن قيل أ لستم تقولون إن ما أتى به محمد من القرآن هو كلام الله و فعله و قلتم إن مقدورات العباد لا تنتقض بها العادة و قلتم إن القرآن هو أول كلام تكلم به تعالى و ليس بحادث في وقت نزوله و الناقض للعادة لا بد أن يكون هو متجدد الحدوث و لأن الكلام مقدور للعباد فما يكون من جنسه لا يكون ناقضا للعادة فلا يكون معجزا للعباد .

و الجواب أن الناقض للعادة هو ظهور القرآن عليه في مثل بلاغته المعجزة و ذلك يتجدد و ليس يظهر مثله في العادة سواء جوز أن يكون من قبله أو من قبل

[978]

ملك أظهر عليه بأمره تعالى و أوحى الله تعالى به إليه فإذا علم صدقه في دعواه بظهور مثل هذا الكلام البليغ الذي يعجز عنه المبعوث إليه و حبسه عن مثله و عما يقاربه فكان ناقضا للعادة كان معجزا دالا على صدقه و لم يضرنا في ذلك أن يكون تعالى تكلم به من قبل إذا لم تجر عادته تعالى في إظهاره على أحد غيره .

فصل :

الإعجاز فيه هو من جهة البلاغة :

و قولهم إنه مركب من جنس مقدور العباد لا يقدح في كونه ناقضا للعادة و لا في كونه معجزا لأن الإعجاز فيه هو من جهة البلاغة و فيها يقع التفاوت بين البلغاء أ لا ترى أن الشعراء و الخطباء يتفاضلون في بلاغتهم في شعرهم و خطبهم فصح أن يكون في الكلام ما يبلغ حدا في البلاغة ينتقض به العادة في بلاغة البلغاء من العباد .

يبين ذلك أن البلاغة في الكلام البليغ لا تحصل بقدرة القادر على إحداث الحروف المركبة و إنما تظهر بعلوم المتكلم بالكلام البليغ و تلك العلوم لا تحصل للعبد باكتسابه و إنما تحصل له من قبل الله تعالى ابتداء و عند اجتهاد العبد في استعمال ما يحصل عنده و تلك العلوم من قبله تعالى .

و قد أجرى الله سبحانه عادته فيما يمنحه العباد من العلوم بالبلاغة فلا يمنح من ذلك إلا مقدارا يتقارب فيه بلاغة البلغاء فيتفاوتون في ذلك بعد تقارب بلاغاتهم .

[979]

فإذا تجاوز بلاغة البليغ المقدار الذي جرت به العادة في بلاغة العبيد و تجاوز ذلك بلاغة أبلغهم ظهر كونه ناقضا للعادة .

و إنما نتبين ذلك بما ذكرنا و بينا أنه تحداهم بمثل القرآن فعجزوا عنه و عما يقاربه .

فصل :

فإن قيل بما ذا علمتم أن القرآن ظهر معجزة له دون غيره و ما أنكرتم أن الله سبحانه بعث نبيا غير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و آمن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) به فتلقاه منه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قتل ذلك النبي فادعاه معجزة لنفسه .

و الجواب أنا نعلم باضطرار أنه مختص به (صلى الله عليه وآله وسلم) كما نعلم في كثير من الأشعار و التصانيف أنها مختصة بمن تضاف إليه كشعر إمرئ القيس و كتاب العين للخليل .

ثم إن القرآن المجيد ظهر عنه و سمع منه و لم يجر في الناس ذكر أنه ظهر لغيره و لا جوزوه و كيف يجوز في حكمة الحكيم سبحانه أن يمكن أحدا من مثل ذلك و قد علم حال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عزوف نفسه عن ملاذ الدنيا و طلق النفس من أول أمره و آخره فكيف يتهم بما قالوا .

[980]

فصل :

فإن قيل لعل من تقدم محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كإمرئ القيس و أضرابه لو عاصره لأمكنه معارضته .

قلنا إن التحدي لم يقع بالشعر فيصح ما قلته و من كان في زمانه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قريبا منه لم تقصر بلاغتهم في البدلة عن بدلهم كإمرئ القيس بل كانت في زمانه قريبا منه من قدم في البلاغة على من تقدم .

و لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كلفهم أن يأتوا بالمعارضة من عند أنفسهم و إنما تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم من كلامهم أو كلام غيرهم ممن تقدمهم .

فلو علموا أن في كلامهم ما يوازي بلاغة القرآن لأتوا به و قالوا إن هذا كلام من ليس بنبي و هو مساو للقرآن في بلاغته .

و معلوم أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قرأ الكتب و لا تتلمذ لأحد من أهل الكتاب و كان ذلك معلوما لأعدائه ثم قص عليهم (صلى الله عليه وآله وسلم) قصة نوح و موسى و يوسف و هود و صالح و شعيب و لوط و عيسى و قصة مريم على طولها .

فما رد عليه أحد من أهل الكتاب شيئا منها و لا خطئوه في شي‏ء من ذلك .

و مثل ذه الأخبار لا يتمكن منها بالبحث و الاتفاق و قد نبه الله تعالى بقوله ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ و نحوها من قصص الأنبياء و أمم الماضين

[981]

فصل في وجه إعجاز القرآن :

اعلم أن المسلمين اتفقوا على ثبوت دلالة القرآن على النبوة و صدق الدعوة و اختلف المتكلمون في جهة إعجاز القرآن على سبعة أوجه و قد ذهب قوم إلى أنه معجز من حيث كان قديما أو لأنه حكاية للكلام القديم و عبارة عنه .

فقولهم هذا أظهر فسادا من أن يخلط بالمذاهب المذكورة في إعجاز القرآن .

فأول ما ذكر من تلك الوجوه ما اختاره السيد المرتضى رض و هو أن وجه الإعجاز في القرآن أن الله سبحانه صرف الخلق عن معارضته و سلبهم العلم بكيفية نظمه و فصاحته و قد كانوا لو لا هذا الصرف قادرين على معارضته و متمكنين منها .

و الثاني ما ذهب إليه الشيخ المفيد ره أنهم لم يعارضوا من حيث اختص برتبة في الفصاحة خارقة للعادة لأن مراتب البلاغة محصورة متناهية فيكون ما زاد على المعتاد معجزا و خارقا للعادة .

و الثالث ما قال قوم و هو أن إعجازه من حيث كانت معانيه صحيحة مستمرة على النظر موافقة للعقل .

[982]

و الرابع أن جماعة جعلوه معجزا من حيث زال عنه الاختلال و التناقض على وجه لم تجر العادة بمثله .

و الخامس ما ذهب إليه أقوام و هو أن وجه إعجازه أنه يتضمن الإخبار عن الغيوب .

و السادس ما قاله آخرون و هو أن القرآن إنما كان معجزا لاختصاصه بنظم مخصوص مخالف للمعهود .

و السابع ما ذكره أكثر المعتزلة و هو أن تأليف القرآن و نظمه معجزان لا لأن الله أعجز عنهما بمنع خلقه في العباد و قد كان يجوز أن يرتفع فيقدروا عليه لكن محال وقوعه منهم كاستحالة إحداث الأجسام و الألوان و إبراء الأكمه و الأبرص من غير دواء .

و لو قلنا إن هذه الوجوه السبعة كلها هو وجه إعجاز القرآن على وجه دون وجه لكان حسنا .

فصل :

في أن التعجيز هو الإعجاز :

استدل السيد المرتضى رضي الله عنه على أنه تعالى صرفهم عن المعارضة و أن العدول عنها كان لهذا لا لأن فصاحة القرآن خرقت عادتهم لأن الفصل بين الشيئين أو أكثر لم تقف المعرفة بحالهما على ذوي القرائح الذكية

[983]

دون من لم يساوهم بل يغني ظهور أمرهما عن الروية بينهما و لهذا لا يحتاج في الفرق بين الخز و الصوف إلى أحذق البزازين .

و إنما يحتاج إلى التأمل الشديد المتقارب الذي يشكل مثله .

و نحن نعلم أنا على مبلغ علمنا بالفصاحة نفرق بين شعر إمرئ القيس و شعر غيره من المحدثين و لا يحتاج في هذا الفرق إلى الرجوع إلى من هو الغاية في علم الفصاحة بل يستغنى معه عن الفكرة .

و ليس بين الفاضل و المفضول من أشعار هؤلاء و كلام هؤلاء قدر ما بين الممكن و المعجز و المعتاد و الخارج عن العادة لأن جميع الشعراء لو كانوا بفصاحة الطائيين و في منزلتهما ثم أتى آت بمثل شعر إمرئ القيس لم يكن معجزا و كذلك لو كان البلغاء في الكتابة في طبقة أهل عصرنا لم يكن كلام عبد الحميد و إبراهيم بن العباس و نحوهما خارقا لعادتهم و معجزا لهم و إذا استقر هذا

[984]

و كان الفرق بين قصار سور المفصل و بين أفصح قصائد العرب غير ظاهر لنا الظهور الذي ذكرناه و لعله إن كان ثم فرق فهو مما يقف عليه غيرنا و لا يبلغه علمنا فقد دل على أن القوم صرفوا عن المعارضة و أخذوا عن طريقها .

فصل :

في أن الإعجاز هو الفصاحة :

و الأشبه بالحق و الأقرب إلى الحجة بعد ذلك القول قول من قال إن وجه معجز القرآن المجيد خروجه عن العادة في الفصاحة فيكون ما زاد على المعتاد هو المعجز كما أنه لما أجرى الله تعالى العادة في القدر التي يتمكن بها من ضروب أفعال الجوارح كالظفر للنخر و حمل الخيل بقدر كثيرة خارجة عن العادة كانت لاحقة بالمعجزات فكذلك القرآن الكريم .

[985]

فصل إن الفصاحة مع النظم معجز :

و اعلم أن هؤلاء الذين قالوا إن جهة إعجاز القرآن الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة صاروا صنفين منهم من اقتصر على ذلك و لم يعتبر النظم و منهم من اعتبر الفصاحة و النظم و الأسلوب المخصوص .

و قال الفريقان إذا ثبت أنه خارق للعادة بفصاحته دل على نبوته لأنه إن كان من فعل الله تعالى فهو دال على نبوته و معجز له .

و إن كان من فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه لم يتمكن من ذلك مع خرقه العادة لفصاحته إلا لأن الله تعالى خلق فيه علوما خرق بها العادة فإذا علمنا بقوله أن القرآن من فعل الله دون فعله قطعنا على ذلك دون غيره .

فصل :

في أن معناه أو لفظه هو المعجز :

و أما القول الثالث و الرابع فكلاهما مأخوذ من قول الله تعالى وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً .

فحمل الأولون ذلك على المعنى و الآخرون على اللفظ و الآية الكريمة مشتملة عليهما عامة فيهما .

و يجوز أن يكون كلا القولين معجزا على بعض الوجوه لارتفاع التناقض منه و الاختلاف فيه على وجه مخالف للعادة .

[986]

فصل في أن المعجز هو إخباره بالغيب :

و أما من جعل جهة إعجازه ما تضمنه من الإخبار عن الغيوب فذلك لا شك في أنه معجز لكن ليس هو الذي قصد به التحدي و جعل العلم المعجز لأن كثيرا من القرآن خال من الإخبار بالغيب و التحدي وقع بسورة غير معينة و الله أعلم .

فصل :

في أن النظم هو المعجز :

و أما الذين قالوا إنما كان معجزا لاختصاصه بأسلوب مخصوص ليس بمعهود فإن النظم دون الفصاحة لا يجوز أن يكون جهة إعجاز القرآن على الإطلاق لأن ذلك لا يقع فيه التفاضل .

و في ذلك كفاية لأن السابق إلى ذلك لا بد أن يقع فيه مشاركة بمجرى العادة على ما تبين .

فصل :

في أن تأليفه المستحيل من العباد هو المعجز :

و أما من قال إن القرآن نظمه و تأليفه مستحيلان من العباد كخلق الجواهر و الألوان فقوله على الإطلاق باطل لأن الحروف كلها من مقدورنا و الكلام كله يتركب من الحروف التي يقدر عليها كل متكلم .

فأما التأليف فإطلاقه مجاز في القرآن لأن حقيقته في الأحكام و إنما يراد في القرآن حدوث بعضه في أثر بعض .

[987]

فإن أريد ذلك فهو إنما يتعذر لفقد العلم بالفصاحة و كيفية إيقاع الحروف لا أن ذلك مستحيل كما أن الشعر يتعذر على العجز لعدم علمه بذلك لا أنه مستحيل منه من حيث القدرة .

و متى أريد باستحالة ذلك ما يرجع إلى فقد العلم فذلك خطأ في العبارة دون المعنى .

باب في الصرفة

و الاعتراض عليها و الجواب عنه

و تقرير ذلك في الصرفة هو أنه لو كانت فصاحة القرآن خارقة فقط لوجب أن يكون بينه و بين أفصح كلام العرب التفاوت الشديد الذي يكون بين الممكن و المعجز و كان لا يشتبه فصل بينه و بين ما يضاف إليه من أفصح كلام العرب كما لا يشتبه الحال بين كلامين فصيحين و إن لم يكن بينهما ما بين الممكن و المعجز .

أ لا ترى أن الفرق بين شعر الطبقة العليا من الشعراء و بين شعر المحدثين يدرك بأول نظر و لا نحتاج في معرفة ذلك الفصل إلى الرجوع إلى من تناهى في العلم بالفصاحة .

[988]

و قد علمنا أنه ليس بين هذين الشعرين ما بين المعتاد و الخارق للعادة فإذا ثبت ذلك و كنا لا نفرق بين بعض قصار سور المفصل و بين أفصح شعر العرب و لا يظهر لنا التفاوت بين الكلامين الظهور الذي قدمناه فلم حصل الفرق القليل و لم يحصل الكثير و لم ارتفع اللبس مع التقارب و لم يرتفع مع التفاوت .

فصل :

الفرق بين أفصح كلام العرب و بين القرآن :

و الاعتراضات على ذلك كثيرة منها قولهم إن الفرق بين أفصح كلام العرب و بين القرآن موقوف على متقدمي الفصحاء الذين تحدوا به .

و الجواب أن ذلك لو وقف عليهم مع التفاوت العظيم لوقف ما دونه أيضا عليهم و قد علمنا خلافه .

فأما من ينكر الفرق بين أشعار الجاهلية و المحدثين فإن أشار بذلك إلى عوام الناس و الأعاجم فلا ينكر ذلك و إن أشار إلى الذين عرفوا الفصاحة فإنه لا يخفى عليهم .

فإن قالوا الصرف عن ما ذا وقع قلنا الصرف وقع عن أن يأتوا بكلام يساوي أو يقارب القرآن في فصاحته و طريقة نظمه بأن سلب كل من رام المعارضة التي يتأتى بها ذلك .

فإن العلوم التي يتمكن بها من ذلك ضرورية من فعل الله تعالى بمجرى العادة و على هذا لو عارضوه بشعر منظوم لم يكونوا معارضين .

يدل عليه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أطلق التحدي و أرسله فوجب أن يكون إنما أطلق تعويلا على ما تعارفوه في تحدي بعضهم بعضا فإنهم اعتادوا ذلك بالفصاحة و طريقة النظم

[989]

و لهذا لم يتحد الخطيب الشاعر و لا الشاعر الخطيب و لو شكوا في مراده لاستفهموه فلما لم يستفهموه دل على أنهم فهموا غرضه و لو لم يفهموه لعارضوه بالشعر الذي له فصاحة كثير من القرآن و اختصاص القرآن بنظم مخالف لسائر النظم يعلم ضرورة .

فصل :

لو لا الصرف لعارضوه :

و الذي يدل على أنه لو لا الصرف لعارضوه هو أنه إذا ثبت في فصيح كلامهم ما يقارب كثيرا من القرآن و النظم لا يصح فيه التزايد و التفاضل بدلالة أنه يشترك الشاعران في نظم واحد لا يزيد أحدهما على صاحبه و إن تباينت فصاحتهما .

و إذا لم يدخل النظم تفاضل لم يبق إلا أن يقال الفضل في السبق إليه و ذلك يقتضي أن يكون من سبق إلى ابتداء الشعر و وزن من أوزانه أتى بمعجز و ذلك باطل و لا يتعذر نظم مخصوص بمجرى العادة على من يتمكن من نظوم غيره و لا يحتاج في ذلك إلى زيادة علم كما يقول في الفصاحة .

فمن قدر على البسيط يقدر على الطويل و غيره و لو كان على سبيل الاحتذاء و إن خلا كلامه من فصاحة فعلم بذلك أن النظم لا يقع فيه تفاضل .

فصل :

في الاعتراضات :

و الاعتراض على ذلك من وجوه أحدها أنهم قالوا يخرج قولكم هذا القرآن من كونه معجزا على ذلك لأن على هذا المذهب المعجز هو الصرف و ذلك خلاف إجماع المسلمين .

[990]

الجواب أن هذه مسألة خلاف لا يجوز أن يدعى فيها الإجماع على أن معنى قولنا معجز في العرف بخلاف ما في اللغة و المراد به في العرف ما له حظ في الدلالة على صدق من ظهر على يده .

و القرآن بهذه الصفة عند من قال بالصرفة فجاز أن يوصف بأنه معجز و إنما ينكر العوام أن يقال القرآن ليس بمعجز متى أريد به أنه غير دال على النبوة و أن العباد يقدرون عليه و أما أنه معجز بمعنى أنه خارق للعادة بنفسه و بما يسند إليه فموقوف على العلماء المبرزين .

على أنه يلزم من جعل جهة إعجاز القرآن الفصاحة الشناعة لأنهم يقولون إن من قدر على الكلام من العرب و العجم يقدرون على مثل القرآن و إنما ليست له علوم بمثل فصاحته .

  fehrest page next page