(378)

 

الصلاة ؟ فقال : بعد الصلاة ، قال : ففكّ الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتى أتى على آخره ، ثم أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكا ولا مسرورا حتى وافى الكوفة .

        فلمّا وافينا الكوفة ليلاً بتُّ ليلتي ، فلمّا أصبحت اتيته إعظاما له ، فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علّقها ، وقد ركب قصبة وهو يقول : أجد منصور بن جمهور أميرا غير مأمور ، وأبياتا من نحو هذا ، فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئا ولم أقل له ، وأقبلت أبكي لما رأيته ، واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس وجاء حتى دخل الرحبة وأقبل يدور مع الصبيان والناس يقولون : جنّ جابر بن يزيد .

        فو اللّه‏ ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك الى واليه أن انظر رجلاً يقال له جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث اليّ برأسه ، فالتفت الى جلسائه فقال لهم : من جابر بن يزيد الجعفي ؟ قالوا : اصلحك اللّه‏ كان رجلاً له علم وفضل وحديث وحجّ فجنّ ، وهو ذا في الرحبة مع الصبيان يلعب على القصب ، فقال : الحمد للّه‏ الذي عافاني من قتله ، قال الراوي : ولم تمض الأيام حتى دخل منصور بن جمهور الكوفة وصنع ما كان يقول جابر

(1) .

        ولا يخفى انّ منصور بن جمهور تولّى المدينة سنة (126) من قبل يزيد بن الوليد الأموي بعد عزل يوسف بن عمر عنها ، وبعد سنتين من وفاة الامام الباقر عليه‏السلام ويمكن أن يكون إخبار جابر رحمه‏الله عن وقائع الكوفة الآتية بما سمعه من الامام محمد الباقر عليه‏السلام .

        يقول المؤلف :

        إن جابر بن يزيد من كبار التابعين وحامل اسرار علوم اهل البيت عليهم‏السلام وكانت تظهر منه بعض الاحيان معاجز لا تطيقها عقول الناس فلذا نسبوه الى الاختلاط والاّ فالروايات في مدحه كثيرة بل في رجال الكشي انّه انتهى علم الائمة عليهم‏السلام الى أربعة نفر : أولهم سلمان الفارسي ، والثاني : جابر ، والثالث : السيد (أي السيد الحميري) والرابع : يونس بن عبد الرحمن

(2) .

        والمراد من جابر هو جابر بن يزيد الجعفي ، ولم يكن المراد جابر الانصاري بتصريح العلماء ، وعدّه ابن شهر آشوب والكفعمي باب علم الامام محمد الباقر عليه‏السلام ، والظاهر انّ المراد من العلوم علومهم وأسرارهم سلام اللّه‏ عليهم ، وروى الحسين بن حمدان الحضيني عن الصادق عليه‏السلام قال : انّما سمي جابرا لانّه جبر المؤمنين بعلمه ، وهو بحرٌ لا يُنزح ، وهو الباب في دهره ، والحجة على الخلق من حجة اللّه‏ أبي جعفر محمد بن عليّ عليهماالسلام (3) .

 

(1) البحار 46:282 ، عن الكافي 1:396 ، ح 7 ، ونحوه في الاختصاص : 67 .
(2) اختيار معرفة الرجال 2:780 .
(379)

 

        قال القاضي نور اللّه‏ في مجالس المؤمنين عند ترجمته : جابر بن يزيد الجعفي الكوفي ، ورد ذكره في كتاب الخلاصة انّ الصادق عليه‏السلام ترحم عليه وقال : انّه يصدق علينا (أي كلّ ما ينقله عنّا صحيح وصادق) ، وقال ابن الغضايري : انّ جابر بن يزيد الجعفي الكوفي ثقة في نفسه ، ولكن جلّ من روى عنه ضعيف(1) .

        وروي في كتاب الشيخ أبو عمرو الكشي عن جابر انّه قال : دخلت على أبي جعفر عليه‏السلام وأنا شاب ، فقال : من أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة ، قال : ممن ؟ قلت : من جعفي ، قال : ما أقدمك الى هاهنا ، قلت : طلب العلم ، قال : ممن ؟ قلت : منك ، قال : فاذا سألك أحد من أين أنت فقل من أهل المدينة .

        قال : قلت : أسألك قبل كلّ شيء عن هذا ، أيحلّ لي أن أكذب ؟ قال : ليس هذا بكذب ، من كان في مدينة فهو من أهلها حتى يخرج ، قال : ودفع اليّ كتابا وقال لي : إن أنت حدّثت به حتى تهلك بنو أمية فعليك لعنتي ولعنة آبائي ، وإذا أنت كتمت منه شيئا بعد هلاك بني اميّة فعليك لعنتي ولعنة آبائي ، ثم دفع اليّ كتابا آخر ، ثم قال : وهاك هذا فان حدثت بشيء منه أبدا فعليك لعنتي ولعنة آبائي .

        وروي ايضا عن عبد الحميد بن أبي العلا قال : دخلت المسجد حين قتل الوليد (من فراعنة بني أمية) فاذا الناس مجتمعون ، قال : فأتيتهم فاذا جابر الجعفي عليه عمامة خز حمراء وإذا هو يقول : « حدثني وصيّ الأوصياء ووارث علم الانبياء محمد بن عليّ عليه‏السلام » .

        قال : فقال الناس (لمّا رأوا جرأته) : جنّ جابر ، جنّ جابر .

        وروي ايضا عن جابر انّه قال : حدثني أبو جعفر عليه‏السلام بسبعين الف حديث لم أحدث بها أحدا قط ، ولا أحدث بها أحدا أبدا ، قال جابر : فقلت لأبي جعفر عليه‏السلام : جعلت فداك انّك قد حملتني وقرا عظيما بما حدثتني به من سرّكم الذي لا أحدث به أحدا ، فربما جاش في صدري حتى يأخذني منه شبه الجنون .

        قال : يا جابر فاذا كان ذلك فاخرج الى الجبان فاحفر حفيرة ودل رأسك فيها ثم قل : حدّثني محمد بن عليّ بكذا وكذا . (انتهى)

(2)

        يقول المؤلف : قال الحسين بن حمدان(3) : كان جابر قد جنّن نفسه ، فركب القصب وطاف مع الصبيان حيث طلب للقتل ، وكان فيما يدور إذ لقيه رجل في طريقه وكان الرجل قد حلف بطلاق امرأته في ليلته تلك انّه يسأل عن النساء اوّل من يلقاه ،

 

(1) سفينة البحار 1:142 / جبر .
(2) رجال العلامة الحلي (خلاصة الاقوال) : 35 ، عنه مجالس المؤمنين .
(3) مجالس المؤمنين 1:305 ، عن اختيار معرفة الرجال 2:437 و438 و441 .
(4) وجدنا هذه الحكاية في خاتمة مستدرك الوسائل عن ميمون بن ابراهيم وكذلك في سفينة البحار .
(380)

 

فاستقبله جابر ، فسأله عن النساء .

        فقال له جابر : النساء ثلاث ، وهو راكب القصبة فمسكها الرجل ، فقال له جابر : خلِّ عن الجواد ، فركض مع الصبيان ، فقال الرجل : ما فهمت ما قال جابر ، ثم لحق به فقال له : ما معنى النساء ثلاث ؟ فقال جابر : واحدة لك وواحدة عليك وواحدة لا لك ولا عليك وقال له : خلّ عن الجواد .

        فقال الرجل : ما فهمت قول جابر ، فلحق به وقال : ما فهمت ما قلت ، فقال له : امّا التي لك فالبكر ، وامّا التي عليك فالتي كان لها بعل ولها ولد منه ، والتي لا لك ولا عليك فالثيّب التي لا ولد عليها

(1) .

الرابعة : في اظهار بدرة الذهب :

        روي في البحار عن كتاب الاختصاص وبصائر الدرجات عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر قال : دخلت عليه (على أبي جعفر عليه‏السلام ) فشكوت إليه الحاجة قال : فقال : يا جابر ما عندنا درهم ، فلم ألبث أن دخل عليه الكميت فقال له : جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي حتى أُنشدك قصيدة ؟ قال : فقال : انشد ، فأنشده قصيدة ، فقال : يا غلام اخرج من ذاك البيت بدرة فادفعها الى الكميت ، قال : فقال له : جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي أنشدك قصيدة أخرى .

        قال : أنشد ، فأنشده أخرى ، فقال : يا غلام أخرج من ذلك البيت بدرة فادفعها الى الكميت ، قال : فأخرج بدرة فدفعها إليه ، قال : فقال له : جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي أنشدك ثالثة ، قال له : أنشد فأنشده ، فقال : يا غلام اخرج من ذلك البيت بدرة فادفعها إليه ، قال : فأخرج بدرة فدفعها إليه .

        فقال الكميت : جعلت فداك واللّه‏ ما أحبكم لغرض الدنيا ، وما أردت بذلك الاّ صلة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وما أوجب اللّه‏ عليّ من الحق ، قال : فدعا له أبو جعفر عليه‏السلام ثم قال : يا غلام رُدّها مكانها ، قال : فوجدت في نفسي وقلت : قال ليس عندي درهم ، وأمر للكميت بثلاثين ألف درهم ، قال : فقام الكميت وخرج ، قلت له : جعلت فداك قلت ليس عندي درهم ، وأمرت للكميت بثلاثين الف درهم !!

        فقال لي : يا جابر قم وادخل البيت ، قال : فقمت ودخلت البيت فلم أجد منه شيئا ، قال : فخرجت إليه ، فقال لي : يا جابر ما سترنا عنكم أكثر مما أظهرنا لكم ، فقام وأخذ بيدي وأدخلني البيت ثم قال : وضرب برجله الأرض فاذا شبيه بعنق البعير قد خرجت من ذهب .

        ثم قال لي : يا جابر أُنظر الى هذا ولا تخبر به أحدا الاّ من تثق به من اخوانك انّ

 

(1) خاتمة مستدرك الوسائل : 583 ، الفائدة الخامسة .
(381)

 

اللّه‏ أقدرنا على ما نريد ، ولو شئنا أن نسوق الأرض بأزمّتها لسقناها(1) .

الخامسة : في ان الجدران لا تحجب نظره عليه‏السلام :

        روى القطب الراوندي عن أبي الصباح الكناني قال : صرت يوما الى باب أبي جعفر الباقر عليه‏السلام فقرعت الباب ، فخرجت اليّ وصيفة ناهد فضربت بيدي إلى رأس ثديها وقلت لها : قولي لمولاك انّي بالباب .

        فصاح من آخر الدار : أدخل لا أمّ لك ، فدخلت وقلت : يا مولاي واللّه‏ ما قصدت ريبة ولا أردت الاّ زيادة في يقيني ، فقال : صدقت لئن ظننتم انّ هذه الجدران تحجب أبصارنا كما تحجب أبصاركم إذن لا فرق بيننا وبينكم ، فايّاك ان تعاود لمثلها

(2) .

        يقول المؤلف : روى عن أحد أصحابه عليه‏السلام (وهو أبو بصير) قال : كنت أقريء امرأة القرآن بالكوفة فمازحتها بشيء ، فلمّا دخلت على أبي جعفر عليه‏السلام عاتبني وقال : من ارتكب الذنب في الخلاء لم يعبأ اللّه‏ به ، أي شيء قلت للمرأة ، فغطّيت وجهي حياءا وتبت ، فقال أبو جعفر عليه‏السلام لا تعده(3) .

السادسة : في اخراج الطعام وغيره من اللبنة :

        روي في مدينة المعاجز عن محمد بن جرير الطبري : قال أبو جعفر حدثنا أبو محمد سفيان عن أبيه عن الأعمش قال : قال قيس بن الربيع : كنت ضيفا لمحمد بن عليّ عليه‏السلام وليس في منزله غير لبنة ، فلمّا حضر العشاء قام فصلّى وصلّيت معه ، ثم ضرب بيده الى اللبنة فاخرج منها قنديلاً مشعلاً ومائدة مستوى عليها كل حار وبارد ، فقال : كل ، فأكلت ثم رفعت المائدة في اللبنة ، فخالطني الشك حتى إذا خرج لحاجته قلّبت اللبنة فاذا هي لبنة صغيرة ، فدخل وعلم ما في قلبي فأخرج من اللبنة قداحا وكيزانا وجرة فيها ماء ، فشرب وسقاني ثم أعاد ذلك الى موضعه وقال : مثلك معي مثل اليهود مع المسيح حين لم يثقوا به ، ثم أمر اللبنة أن تنطق فتكلّمت

(4) .

السابعة : في إخراج تفاحة من الحجر :

        وروي ايضا في مدينة المعاجز عن جابر بن يزيد قال : خرجت مع أبي جعفر عليه‏السلام وهو يريد الحيرة ، فلمّا اشرفنا على كربلاء قال لي : يا جابر هذه روضة من

 

(1) البحار 46:239 ، وبصائر الدرجات : ج 8 ، باب 2 ، ح 5 ، والاختصاص : 271 .
(2) الخرائج 1:272 ، ح 2 ، عنه في البحار 46:248 .
(3) الخرائج 2:594 ، عنه في البحار 46:247 ، ح 35 .
(4) دلائل الإمامة : 95 ، عنه مدينة المعاجز .
(382)

 

رياض الجنة لنا ولشيعتنا وحفرة من حفر جهنم لأعدائنا ، ثم قضى ما أراد والتفت إليّ وقال : يا جابر ، قلت : لبيك ، قال لي : تأكل شيئا ، قلت : نعم ، فأدخل يده بين الحجارة فأخرج لي تفاحة لم أشم قط رائحة مثلها لا تشبه فاكهة الدنيا ، فعلمت انّها من الجنة فأكلتها فعصمتني عن الطعام أربعين يوما لم آكل ولم احدث(1) .

الثامنة : فيما شاهده عمر بن حنظلة من الدلائل :

        روى الصفار عن عمر بن حنظلة قال : قلت لأبي جعفر عليه‏السلام : انّى أظنّ أن لي عندك منزلة ؟ قال : أجل ، قال : قلت : فانّ لي اليك حاجة ، قال : وما هي ؟ قلت : تعلّمني الاسم الأعظم ، قال : وتطيقه ؟ قلت : نعم .

        قال : فادخل البيت ، قال : فدخل البيت ، فوضع أبو جعفر عليه‏السلام يده على الأرض فأظلم البيت ، فأُرعدت فرائص عمر ، فقال : ما تقول أُعلّمك ؟ فقال : لا ، قال : فرفع يده فرجع البيت كما كان

(2) .

التاسعة : في نزول العنب والحلل من السماء :

        روي في مدينة المعاجز عن الثاقب في المناقب عن ليث بن سعد قال : كنت على جبل أبي قبيس أدعو فرأيت رجلاً يدعو اللّه‏ عزوجل وقال في دعائه : « اللهم انّي أريد العنب فارزقنيه » فرأيت غمامة أظلته ودنت من رأسه ، فرفع يده فأخذ منها سلّة من عنب ووضعها بين يديه .

        ثم رفع يده ثانية فقال : « اللهم انّي عريان فاكسني » فدنت الغمامة منه ثانية فرفع يده ، فأخذ منها شيئا ملفوفا في ثوب ثم جلس يأكل العنب وما ذلك في زمان العنب ، فقربت منه فمددت يدي الى السلّة وتناولت حبات فنظر اليّ وقال : ما تصنع ؟ فقلت : أنا شريكك في العنب ، قال : ومن أين ؟ قلت : لانّك كنت تدعو وأنا أؤمن على دعائك ، والداعي والمؤمّن شريكان ، فقال : اجلس وكل ، فجلست واكلت معه ، فلمّا اكتفينا ارتفعت السلّة .

        فقام وقال لي : خذ أحد هذين الثوبين ، فقلت : اما الثوب فلا احتاج إليه ، فقال : انحرف عنّي حتى ألبسه ، فانحرفت عنه فأتزر بأحدهما وارتدى بالآخر عليه وطواه ورفعه بكفّه ونزل عن أبي قبيس ، فلمّا وصل قريبا من الصفا استقبله انسان فأعطاه ، فسألت عنه وقلت لبعض من كان : من هذا ؟ قال : هذا ابن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام

(3) .

 

(1) دلائل الإمامة : 97 ، عنه مدينة المعاجز .
(2) بصائر الدرجات : ج 4 ، باب 12 ، ص 230 ، عنه في البحار 46:235 ، ح 4 .
(383)

 

العاشرة : في ابصار أبي بصير ثم رجوعه الى الحال الأولى :

        روى القطب الراوندي بسنده عن أبي بصير قال : قلت لأبي جعفر عليه‏السلام : أنا مولاك ومن شيعتك ضعيف ضرير إضمن لي الجنة ، قال : أَوَ لا أعطيك علامة الائمة ؟ قلت : وما عليك أن تجمعها لي ؟ قال : وتحب ذلك ؟ قلت : كيف لا أحبّ ، فما زاد أن مسح على بصري فأبصرت جميع ما في السقيفة التي كان فيها جالسا [ وفي رواية مختصر البصائر : فأبصرت جميع الأئمة عليهم‏السلام عنده ] ، قال : يا أبا محمد مدّ بصرك فانظر ماذا ترى بعينك .

        قال : فو اللّه‏ ما أبصرت الاّ كلبا وخنزيرا وقردا ، قلت : ما هذا الخلق الممسوخ ؟ قال : هذا الذي ترى ، هذا السواد الأعظم ، لو كشف الغطاء للناس ما نظر الشيعة الى من خالفهم الاّ في هذه الصور ، ثم قال : يا أبا محمد إن أحببت تركتك على حالك هكذا وحسابك على اللّه‏ ، وإن أحببت ضمنت لك على اللّه‏ الجنة ورددتك الى حالتك الأُولى ؟

        قلت : لا حاجة لي الى النظر الى هذا الخلق المنكوس ، ردّني ، ردّني فما للجنة عوض ، فمسح يده على عيني فرجعت كما كنت

(1) .

الحادية عشرة : في اظهار الماء للقنابر :

        روى الشيخ البرسي عن محمد بن مسلم قال : خرجت مع أبي جعفر عليه‏السلام فسرنا ... فاذا قاع مجدب يتوقّد حرّا وهناك عصافير فتطايرن ودرن حول بغلته فزجرها وقال : لا ولا كرامة ، قال : ثم صار إلى مقصده فلمّا رجعنا من الغد وَ عدنا الى القاع فاذا العصافير قد طارت ودارت حول بغلته ورفرفت فسمعته يقول اشربي واروي ، قال : فنظرت فاذا في القاع ضحضاح من الماء .

        فقلت : يا سيدي بالأمس منعتها واليوم سقيتها ، فقال : اعلم انّ اليوم خالطها القنابر فسقيتها ولو لا القنابر ما سقيتها ، فقلت : يا سيدي وما الفرق بين القنابر والعصافير ؟ فقال : ويحك امّا العصافير فانّهم موالي عمر لأنهم منه ، وامّا القنابر فانّهم من موالينا أهل البيت وانّهم يقولون في صفيرهم : بوركتم أهل البيت وبوركت شيعتكم ولعن اللّه‏ أعداءكم

(2) .

 

 

(1) الثاقب في المناقب : 375 ، الباب 8 ، الفصل الرابع ، عنه في مدينة المعاجز .
(2) الخرائج 2:821 ، ح 35 ، باب نوادر المعجزات ، عنه في البحار 27:30 ، ح 3 .
(3) البحار 27:272 ، عن مشارق الانوار : 90 .
(384)

 

الثانية عشرة : في اخباره عليه‏السلام بالغيب :

        روى الراوندي عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‏السلام قال لرجل (من أهل خراسان) : كيف أبوك ؟ قال : صالح ، قال : قد مات أبوك بعد ما خرجت حيث صرت الى جرجان ، ثم قال : كيف أخوك ؟ قال : تركته صالحا ، قال : قد قتله جار له يقال له (صالح) يوم كذا في ساعة كذا .

        فبكى الرجل وقال : انّا للّه‏ وانّا إليه راجعون مما أُصبت ، فقال أبو جعفر عليه‏السلام : اسكن فقد صاروا الى الجنّة والجنّة خير لهم مما كانوا فيه ، فقال الرجل : انّي خلّفت ابني وجعا شديد الوجع ولم تسألني عنه ، قال : قد برأ وزوّجه عمّه ابنته وأنت تقدم عليه وقد ولد له غلام اسمه عليّ وهو لنا شيعة ، وامّا ابنك فليس لنا شيعة بل هو لنا عدوّ .

        فقال له الرجل : فهل من حيلة ؟ قال : انّه لنا عدوّ ، فقام الرجل من عنده وهو وقيذ، قلت : من هذا ؟ قال : هو رجل من أهل خراسان ، وهو لنا شيعة وهو مؤمن

(1) .

* * *

 

(1) الخرائج 2:595 ، ح 6 ، وعنه في البحار 46:247 .
(385)

 

الفصل الرابع

في وفاته عليه‏السلام وما جرى بينه وبين المخالفين

        يقول المؤلف :

        أكتفي هنا بما كتبه العلامة المجلسي في (جلاء العيون)

(1) قال : روى السيد بن طاووس رضى‏الله‏عنه بسنده عن الامام الصادق عليه‏السلام قال : حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حجّ في تلك السنة محمد بن عليّ الباقر وابنه جعفر بن محمد عليهماالسلام ، فقال جعفر بن محمد عليهماالسلام : الحمد للّه‏ الذي بعث محمدا بالحق نبيا واكرمنا به ، فنحن صفوة اللّه‏ وخلفاؤه على خلقه وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا والشقي من عادانا وخالفنا .

        ثم قال : فأخبر مسلمة أخاه (هشام) بما سمع ، فلم يعرض لنا حتّى انصرف الى دمشق وانصرفنا الى المدينة ، فأنفذ بريدا الى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي فأشخصنا ، فلمّا وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثا ثم أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا وإذا قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصّته وقوف على أرجلهم سماطان متسلّحان ، وقد نصب البُرجاس حذاءه وأشياخ قومه يرمون .

        فلمّا دخلنا وأبي أمامي وأنا خلفه ، فنادى (هشام) أبي وقال : يا محمد ارم مع أشياخ قومك الغرض ، فقال له : إنّي قد كبرت عن الرمي فان رأيت أن تعفيني ، فقال : وحقّ من أعزّنا بدينه ونبيه محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لا أعفيك ، ثم أومأ الى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك ، فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ثم تناول منه سهما ، فوضعه في كبد القوس ثم انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثم رمى فيه الثانية فشق فواق سهمه الى نصله ، ثم تابع الرّمي حتى شقّ تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه فلم يتمالك أن قال : أجدت يا أبا جعفر وأنت أرمى العرب والعجم ، هلاّ زعمت انّك كبرت عن الرمي ، ثم أدركته ندامة على ما قال .

        وكان هشام لم يكن كنّى أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهمّ به وأطرق الى الأرض إطراقة يتروّى فيه ، وأنا وأبي واقف حذاءه مواجهين له ، فلمّا طال وقوفنا غضب أبي فهمّ به ، وكان أبي عليه‏السلام إذا غضب نظر الى السماء نظر غضبان يرى الناظر الغضب في وجهه ، فلمّا نظر هشام الى ذلك من أبي قال له : إليّ يا محمد ، فصعد أبي الى السرير وأنا أتبعه ، فلمّا دنا من هشام قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني

 

(1) جلاء العيون : 851 ـ 865 .
(386)

 

وأقعدني عن يمين أبي .

        ثم أقبل على أبي بوجهه فقال له : يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ، للّه‏ درّك من علّمك هذا الرمي ؟ وفي كم تعلّمتُه ؟ فقال أبي : قد علمت أنّ أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته ايّام حداثتي ثم تركته ، فلمّا أراد أمير المؤمنين منّي ذلك عدت فيه ، فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وما ظننت انّ في الأرض أحدا يرمي مثل هذا الرمي ، أيرمي جعفر مثل رميك ؟ فقال : إنّا نحن نتوارث الكمال والتمام الذين أنزلهما اللّه‏ على نبيه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في قوله : « ... الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينا ... »

(1) .

        والأرض لا تخلو ممّن يكمل هذه الأمور التي يقصر غيرنا عنها .

        قال : فلمّا سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولّت واحمرّ وجهه وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه ، فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبا ونسبكم واحد ؟ فقال أبي : نحن كذلك ولكنّ اللّه‏ جلّ ثناؤه اختصّنا من مكنون سرّه وخالص علمه بما لم يخصّ احدا به غيرنا ، فقال : أليس اللّه‏ جلّ ثناؤه بعث محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من شجرة عبد مناف الى الناس كافّة ، أبيضها وأسودها وأحمرها ، من أين ورثتم ما ليس لغيركم ؟ ورسول اللّه‏ مبعوث الى الناس كافّة وذلك قول اللّه‏ تبارك وتعالى : « ... وَللّه‏ِ مِيرَاثُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ ... »

(2) . فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبيّ ولا أنتم أنبياء ؟

        فقال : من قوله تبارك وتعالى لنبيّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ »

(3) .

        الذي لم يُحرّك به لسانه لغيرنا أمره اللّه‏ أن يخصّنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان ناجى أخاه عليّا من دون أصحابه ، فأنزل اللّه‏ بذلك قرآنا في قوله : « ... وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَّاعِيَةٌ »(4) .

        فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لأصحابه : سألت اللّه‏ أن يجعلها أذنك يا عليّ ، فلذلك قال عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه‏ عليه بالكوفة :

        علّمني رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ألف باب من العلم ، ففتح كلّ باب ألف باب ، خصّه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من مكنون سرّه بما يخصُّ أمير المؤمنين اكرم الخلق عليه ، فكما خصّ اللّه‏ نبيّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله خصّ نبيه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أخاه عليّا من مكنون سرّه بما لم يخصّ به أحدا من قومه ، حتى صار إلينا فتوارثنا من دون أهلنا .

 

(1) سورة المائدة : 3 .
(2) آل عمران : 180 .
(3) القيامة : 16 .
(4) الحاقة : 12 .
(387)

 

        فقال هشام بن عبد الملك : انّ عليّا كان يدّعي علم الغيب واللّه‏ لم يطلع على غيبه أحدا ، فمن أين ادّعى ذلك ؟ فقال أبي : انّ اللّه‏ جلّ ذكره انزل على نبيّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كتابا بيّن فيه ما كان وما يكون الى يوم القيامة في قوله تعالى : « ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيءٍ وَهدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ »

(1) .

        وفي قوله : « ... وَكُلَّ شَيءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إمَامٍ مُّبِينٍ »(2) .

        وفي قوله : « ... مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ... »(3) .

        وأوحى اللّه‏ الى نبيّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن لا يُبقي في غيبه وسرّه ومكنون علمه شيئا الاّ يناجي به عليّا ، فأمره أن يؤلّف القرآن من بعده ، ويتولّى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا الى عورتي غير أخي عليّ ، فانّه منّي وأنا منه ، له ما لي وعليه ما عليّ ، وهو قاضي ديني ومنجز وعدي .

        ثم قال لأصحابه : عليّ بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه الاّ عند عليّ عليه‏السلام ، ولذلك قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لأصحابه : أقضاكم عليّ ، أي هو قاضيكم ، وقال عمر بن الخطاب : لو لا علي لهلك عمر ، يشهد له عمر ويجحده غيره .

        فأطرق هشام طويلاً ثم رفع رأسه فقال : سل حاجتك ، فقال : خلّفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي ، فقال : قد آنس اللّه‏ وحشتهم برجوعك اليهم ولا تقم ، سر من يومك ، فاعتنقه أبي ودعا له وفعلت أنا كفعل أبي ، ثم نهض ونهضت معه وخرجنا الى بابه ، إذا ميدان ببابه وفي آخر الميدان أناس قعود عدد كثير .

        قال أبي : من هؤلاء ؟ فقال الحجّاب : هؤلاء القسيسون والرّهبان ، وهذا عالم لهم يقعد اليهم في كلّ سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم ، فلفّ أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه وفعلت أنا مثل فعل أبي ، فأقبل نحوهم حتّى قعد نحوهم وقعدت وراء أبي ، ورفع ذلك الخبر الى هشام ، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي ، فأقبل وأقبل عداد من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى وقد سدّ حاجبيه بحريرة صفراء حتى توسّطنا ، فقام اليه جميع القسيسين والرهبان مسلّمين عليه ، فجاؤوا به الى صدر المجلس فقعد فيه وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم .

        فأدار نظره ثم قال لأبي : أمنّا أم من هذه الأمة المرحومة ؟ فقال أبي : بل من هذه الأمة المرحومة ، فقال : من أيهم أنت من علمائها أم من جهّالها ؟ فقال له أبي : لست من جهّالها ، فاضطرب اضطرابا شديدا ، ثم قال له : أسألك ؟ فقال له أبي : سل ، فقال : من

 

(1) النحل : 89 .
(2) يس : 12 .
(3) الانعام : 38 .
(388)

 

أين ادّعيتم انّ أهل الجنّة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون ؟ وما الدليل فيما تدّعونه من شاهد لا يجهل ؟

        فقال له أبي : دليل ما ندّعي من شاهد لا يجهل الجنين فى بطن أُمّه يطعم ولا يحدث ، قال : فاضطرب النصرانيُّ اضطرابا شديدا ثم قال : هلاّ زعمت انّك لست من علمائها ؟ فقال له أبي : ولا من جهّالها ، وأصحاب هشام يسمعون ذلك ، فقال لأبي : أسألك عن مسألة أخرى ، فقال له أبي : سل ، فقال : من أين ادّعيتم انّ فاكهة الجنّة أبدا غضّة طريّة موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة ؟ وما الدليل عليه من شاهد لا يجهل ؟

        فقال له أبي : دليل ما ندّعي انّ ترابنا أبدا يكون غضّا طريّا موجودا غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع ، فاضطرب اضطرابا شديدا ، ثم قال : هلاّ زعمت انّك لست من علمائها ؟ فقال له أبي : ولا من جهّالها ، فقال له : أسألك عن مسألة ؟

        فقال : سل ، فقال : أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ولا من ساعات النهار ، فقال له أبي : هي الساعة التي بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس ، يهدأ فيها المبتلى ويرقد فيها الساهر ويفيق المغمى عليه ، جعلها اللّه‏ في الدنيا رغبة للراغبين وفي الآخرة للعاملين لها دليلاً واضحا وحجة بالغة على الجاحدين المتكبّرين التاركين لها .

        قال : فصاح النصرانيّ صيحة ، ثم قال : بقيت مسألة واحدة واللّه‏ لأسألك عن مسألة لا تهدي الى الجواب عنها أبدا ، قال له أبي : سل ، فانّك حانث في يمينك ، فقال : أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما خمسون سنة وعمر الآخر مائة وخمسون سنة في دار الدنيا ؟

        فقال له أبي : ذلك عُزير وعُزيرة ولدا في يوم واحد ، فلمّا بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاما مرّ عزير على حماره راكبا على قرية بأنطاكية وهي خاوية على عروشها : « ... قَالَ أنَّى يُحْيِى هَذِهِ اللّه‏ُ بَعْدَ مَوْتِهَا ... »

(1) .

        وقد كان اصطفاه وهداه ، فلمّا قال ذلك القول غضب اللّه‏ عليه فأماته اللّه‏ مائة عام سخطا عليه بما قال ، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه وعاد الى داره ، وعزيرة أخوه لا يعرفه فاستضافه فأضافه ، وبعث إليه ولد عزيرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شابّ في سنّ خمس وعشرين سنة ، فلم يزل عزير يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكّرهم ويقولون : ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور .

        ويقول له عزيرة وهو شيخ كبير ابن مائة وخمسة وعشرين سنة : ما رأيت شابا في سنّ خمسة وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض ؟ فقال : يا عزيرة أنا عزير سخط اللّه‏ عليّ بقول قلته

 

(1) البقرة : 259 .
(389)

 

بعد أن اصطفاني وهداني ، فأماتني مائة سنة ثم بعثني لتزدادوا بذلك يقينا انّ اللّه‏ على كلّ شيء قدير ، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده اللّه‏ تعالى كما كان ، فعندها أيقنوا فأعاشه اللّه‏ بينهم خمسة وعشرين سنة ثم قبضه اللّه‏ وأخاه في يوم واحد .

        فنهض عالم النصارى عند ذلك قائما وقاموا (النصارى) على أرجلهم ، فقال لهم عالمهم : جئتموني بأعلم منّي وأقعدتموه معكم حتى هتكني وفضحني ، وأعلم المسلمين بأنّ لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا ، لا واللّه‏ لا كلّمتكم من رأسي كلمة واحدة ولا قعدت لكم إن عشت سنة ، فتفرّقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه ، ورُفع ذلك الخبر الى هشام (وفي رواية أخرى انّه لما جنّ الليل جاء ذلك العالم الى الامام عليه‏السلام ورآى منه المعجزات فأسلم) .

        فلمّا تفرّق الناس نهض أبي وانصرف الى المنزل الذي كنّا فيه ، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا أن ننصرف الى المدينة من ساعتنا ولا نجلس ، لأنّ الناس ماجوا وخاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى ، فركبنا دوابّنا منصرفين ، وفي رواية اخرى ان هشام أرسل الامام عليه‏السلام الى السجن فقيل له : ان جميع من في السجن صاروا من شيعته ولذلك عجّل بإرساله الى المدينة .

        وقد سبقنا بريد من عند هشام الى عامل مدين على طريقنا الى المدينة أنّ ابني أبي تراب الساحرين ، محمد بن عليّ وجعفر بن محمد الكذابين « بل هو الكذّاب لعنه اللّه‏ » فيما يظهران من الاسلام وردا عليّ ولما صرفتهما الى المدينة مالا الى القسيسين والرهبان من كفار النصارى وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الاسلام الى الكفر دين النصارى وتقرّبا اليهم بالنصرانيّة ، فكرهت أن انكلّ بهما لقرابتهما ، فاذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس : برئت الذمة ممّن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلّم عليهما فانّهما قد ارتدا عن الاسلام ، ورأى أمير المؤمنين أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شرّ قتلة .

        قال : فورد البريد الى مدينة مدين ، فلمّا شارفنا مدينة مدين قدّم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلاً ويشروا لدوابنا علفا ولنا طعاما ، فلمّا قرب غلماننا من باب المدينة اغلقوا الباب في وجوهنا وشتمونا وذكروا عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه‏ عليه ، فقالوا : لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع يا كفّار يا مشركين يا مرتدّين يا كذّابين يا شرّ الخلائق أجمعين .

        فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا اليهم ، فكلّمهم أبي وليّن لهم القول وقال لهم : اتّقوا اللّه‏ ولا تغلظوا فلسنا كما بلغكم ولا نحن كما تقولون فأسمعونا ، فقال لهم : فهبنا كما تقولون افتحوا لنا الباب وشارونا وبايعونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس .

(390)

 

        فقالوا : أنتم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس (نعوذ باللّه‏) لأنّ هؤلاء يؤدّون الجزية وأنتم ما تؤدّون ، فقال لهم أبي : فافتحوا لنا الباب وأنزلونا وخذوا منّا الجزية كما تأخذون منهم ، فقالوا : لا نفتح ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعا نياعا أو تموت دوابكم تحتكم ، فوعظهم أبي فازدادوا عتوّا ونشوزا .

        قال : فثنّى أبي رجله عن سرجه ثم قال لي : مكانك يا جعفر لا تبرح ، ثم صعد الجبل المطلّ على مدينة مدين وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع ، فلمّا صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وجسده ، ثم وضع أصبعيه في أذنيه ثم نادى بأعلا صوته :

        « وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبا (الى قوله) بَقِيَّتُ اللّه‏ِ خَيْرٌ لَّكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ »

(1) ، نحن واللّه‏ بقيّت اللّه‏ في أرضه ، فأمر اللّه‏ ريحا سوداء مظلمة فهبّت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والصبيان والنساء ، فما بقي احد من الرجال والنساء والصبيان الاّ صعد السطوح وأبي مشرف عليهم ، وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السنّ فنظر الى أبي على الجبل ، فنادى بأعلى صوته : اتقوا اللّه‏ يا أهل مدين فانّه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب عليه‏السلام حين دعا على قومه ، فان أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه جاءكم من اللّه‏ العذاب فانّي أخاف عليكم وقد أعذر من أنذر .

        ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا ، وكُتب بجميع ذلك الى هشام ، فارتحلنا في اليوم الثاني فكتب هشام الى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة اللّه‏ عليه وصلواته (وفي رواية انّ هشام طلبه لكن مات الشيخ قبل الوصول اليه) وكتب الى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سمّ أبي في طعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيّأ له في أبي من ذلك شيء

(2) .

        وروى الكليني بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه‏السلام قال : رأيت كأنّي على رأس جبل والناس يصعدون إليه من كلّ جانب حتى إذا كثروا عليه تطاول بهم في السماء ، وجعل الناس يتساقطون عنه من كلّ جانب حتى لم يبق منهم أحد الاّ عصابة يسيرة ، ففعل ذلك خمس مرّات في كلّ مرّة يتساقط عنه الناس وتبقى تلك العصابة (فكأن الامام عليه‏السلام فهم من هنا وفاته) ... قال : فما مكث بعد ذلك الاّ نحوا من خمس حتى هلك صلوات اللّه‏ عليه(3) .

        وروى الكليني ايضا بسند معتبر انّ أبا جعفر عليه‏السلام انقلع ضرس من أضراسه فوضعه في كفّه ، ثم قال : الحمد للّه‏ ، ثم قال : يا جعفر إذا أنا متّ ودفنتني فادفنه معي ، ثم

 

(1) هود : 84 ـ 86 .
(2) البحار 46:306 ، عن الأمان : 66 ، ومثله في دلائل الامامة : 104 .
(3) الكافي 8:182 ، ح 206 ، عنه البحار 46:219 ، والعوالم 19:450 .
(391)

 

مكث بعد حين ثم انقلع ايضا آخر ، فوضعه على كفّه ثم قال : الحمد للّه‏ ، يا جعفر إذا متّ فادفنه معي(1) .

        وروي في الكافي وبصائر الدرجات وغيرهما من الكتب المعتبرة عن الامام الصادق عليه‏السلام انّه قال : انّ أبي مرض مرضا شديدا حتى خفنا عليه ، فبكى بعض أهله عند رأسه فنظر اليه فقال : انّي لست بميّت من وجعي هذا ، انّه أتاني اثنان فأخبراني انّي لست بميّت من وجعي هذا .

        قال : فبرأ ومكث ما شاء اللّه‏ أن يمكث فبينا هو صحيح ليس به بأس ، قال : يا بني انّ اللذين أتياني من وجعي ذلك أتياني فأخبراني انّي ميّت يوم كذا وكذا ، قال : فمات عليه‏السلام في ذلك اليوم

(2) .

        وقال الصادق عليه‏السلام : انّ أبي عليه‏السلام قال لي ذات يوم في مرضه : يا بني أدخل أناسا من قريش من أهل المدينة حتى أُشهدهم ، قال : فأدخلت عليه أُناسا منهم ، فقال : يا جعفر إذا أنا متّ فغسّلني وكفّنّي وارفع قبري اربع اصابع ورشّه بالماء .

        فلمّا خرجوا قلت : يا أبت لو أمرتني بهذا لصنعته ولم ترد أن أُدخل عليك قوما تشهدهم ؟ فقال : يا بني أردت أن لا تنازع

(3) .

        وفي رواية انّه عليه‏السلام قال : يا بني أما سمعت عليّ بن الحسين عليه‏السلام ناداني من وراء الجدران يا محمد تعال عجّل(4) .

        وروي أيضا في بصائر الدرجات عن الامام الصادق عليه‏السلام انّه أتى أبا جعفر عليه‏السلام ليلة قبض وهو يناجي ، فأومأ إليه بيده أن تأخّر ، فتأخّر حتى فرغ من المناجاة ثم أتاه فقال : يا بني انّ هذه الليلة التي أقبض فيها وهي الليلة التي قبض فيها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        قال : وحدّثني أنّ أباه عليّ بن الحسين عليهماالسلام أتاه بشراب في الليلة التي قبض فيها وقال : اشرب هذا ، فقال : يا بني انّ هذه الليلة التي وعدت أن أقبض فيها ، فقبض فيها

(5) .

        وروى القطب الراوندي بسند معتبر عن الصادق عليه‏السلام قال : لما كانت الليلة التي قبض فيها أبو جعفر ، قال : يا بنيّ هذه الليلة التي وعدتها ، وقد كان وضوءه قريبا ، فقال : أريقوه أريقوه ، فظننّا أنّه يقول من الحمّى ، فقال : يا بني أرقه ، فأرقناه فاذا فيه فأرة(6) .

        وروى الكليني بسند معتبر صحيح عنه عليه‏السلام قال : انّ رجلاً كان على أميال من المدينة فرأى في منامه فقيل له : انطلق فصلّ على أبي جعفر عليه‏السلام فانّ الملائكة تغسّله

 
(1) الكافي 3:262 ، ح 43 ، عنه البحار 46:215 ، والعوالم 19:449 .
(2) بصائر الدرجات ، ج 10 ، باب 9 ، ح 2 ، عنه البحار 46:213 ، والعوالم 19:447 .
(3) الكافي 3:200 ، ح 5 ، عنه البحار 46:214 ، والعوالم 19:451 .
(4) بصائر الدرجات ، ج 10 ، باب 9 ، ح 6 .
(5) بصائر الدرجات ، ج 10 ، باب 9 ، ح 7 ، عنه البحار 46:213 ، والعوالم 19:448 .
(6) الخرائج 2:711 ، ح 7 ، عنه البحار 46:214 ، والعوالم 19:449 .
(392)

 

في البقيع(1) .

        وروي ايضا انّ أبا جعفر عليه‏السلام أوصى بثمانمائة درهم لمأتمه(2) .

        وروي ايضا عن أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام قال : قال لي أبي : يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى(3) .

        يقول المؤلف :

        وقع الخلاف في تاريخ وفاته عليه‏السلام ، والمختار عندي انّه عليه‏السلام توفي يوم الاثنين في السابع من ذي الحجة سنة (114) ه وهو ابن سبع وخمسين سنة في المدينة المشرفة ، وذلك في ايّام خلافة هشام بن عبد الملك ، وقيل انّ ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان سمّ الامام عليه‏السلام ولعلّه فعل ذلك بأمر هشام، وقبره المقدس في البقيع اجماعا جنب قبر أبيه وعمّه الامام الحسن عليه‏السلام .

        وروى الكليني بسند معتبر : لما قبض أبو جعفر عليه‏السلام أمر أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام بالسراج في البيت الذي كان يسكنه حتى قبض أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام

(4) .

* * *

 

(1) الكافي 8:183 ، ح 207 ، عنه البحار 46:219 ، والعوالم 19:452 .
(2) الكافي 3:217 .
(3) الكافي 5:117 ، عنه البحار 46:220 ، والعوالم 19:452 .
(4) الكافي 3:472 .
(393)

 

الباب الثامن

في تاريخ الامام الناطق بالحـق والمبيّن للحقائق أبي عبد اللّه‏ جعفر بن محمد الصادق عليه‏السلام

(394)

 

(395)

 

الفصل الأول

في بيان ولادته واسمه ولقبه وأحوال والدته

        كانت ولادة الامام الصادق عليه‏السلام في السابع عشر من شهر ربيع الاول يوم الاثنين سنة (83) في اليوم الذي ولد فيه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وهو يوم عظيم البركة ، وكان السلف الصالح من محبّي آل محمد يعظّمون هذا اليوم ويحترمونه ، وورد ثواب عظيم في صومه ، وتستحب فيه الصدقة وزيارة المشاهد المشرفة ، وفعل الخيرات ، وادخال السرور على قلوب المؤمنين .

        إسمه الكريم جعفر ، وكنيته أبو عبد اللّه‏ ، ومن ألقابه الصابر والفاضل والطاهر والصادق وهذا الأخير أشهرها .

        روى ابن بابويه والقطب الراوندي انّ عليّ بن الحسين عليه‏السلام سُئل مَنِ الامام بعدك ؟ قال : محمد ابني ، يبقر العلم بقرا ، ومن بعد محمد جعفر إسمه عند أهل السماء الصادق ، قلت : كيف صار إسمه الصادق وكلّكم الصادقون ؟

        قال : حدّثني أبي عن أبيه انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فسمّوه الصادق ، فان الخامس الذي من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الامامة اجتراءً على اللّه‏ وكذبا عليه ، فهو عند اللّه‏ جعفر الكذّاب المفتري على اللّه‏ ، ثم بكى عليّ بن الحسين عليه‏السلام فقال : كأنّي بجعفر الكذاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ اللّه‏ والمغيّب في حفظ اللّه‏ ، فكان كما ذكر

(1) .

        وروى في شمائله عليه‏السلام انّه ربع القامة ، أزهر الوجه ، حالك الشعر ، جعد ، أشمّ الأنف ، أنزع ، رقيق البشرة ، دقيق المسربة ، على خدّه خال أسود(2) .

        وعلى رواية الامام الرضا عليه‏السلام انّ نقش خاتم جعفر بن محمد عليه‏السلام كان : (اللّه‏ وليّي وعصمتي من خلقه)(3) ، وفي رواية اخرى : (ان اللّه‏ خالق كلّ شيء)(4) وايضا برواية معتبرة أخرى : (أنت ثقتي فاعصمني من الناس) وأيضا : (ما شاء اللّه‏ لا قوة الاّ باللّه‏ استغفر اللّه‏) وروي غيرها أيضا(5) .

 

(1) الخرائج 1:268 ، عنه البحار 46:230 ، 47:9 ، دلائل الامامة : 112 .
(2) المناقب لابن شهر آشوب 4:281 ، عنه البحار 47:9 .
(3) البحار 47:8 ، وفي عيون الاخبار 2:55 ، والكافي 6:476 .
(4) الكافي 6:473 ، البحار 47:10 .
(396)

 

        ووالدته الماجدة الجليلة المكرمة فاطمة ، المكناة بامّ فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر التي قال الامام الصادق عليه‏السلام في حقها : « كانت أمي ممن آمنت واتقت وأحسنت واللّه‏ يحبّ المحسنين »(1) .

        فقد وصفها عليه‏السلام في هذا الكلام الموجز بأحسن الوصف وأتمه كما اكتفى أمير المؤمنين عليه‏السلام اوّلاً في جواب همام بن عبادة الذي سأله عن وصف المتقين بقوله :

        « إتق اللّه‏ وأحسن ، ان اللّه‏ مع الذين اتقوا والذين هم محسنون »

(2) .

        فقد قال العلماء في شرحها إنّ المراد من التقوى لعلّه اجتناب جميع ما نهى اللّه‏ عنه ، وانّ الاحسان هو اتيان كل ما أمر اللّه‏ به ، فيكون الكلام جامعا لأوصاف المتقين وفضائلهم .

        قال الشيخ الجليل عليّ بن الحسين المسعودي في اثبات الوصية : كانت (ام فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر) من أتقى نساء زمانها ، وروت عن عليّ بن الحسين أحاديث ، منها قوله لها : يا أم فروة انّي لأدعو لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة مائة مرّة ـ يعني الاستغفار ـ لانّا نصبر على ما نعلم وهم يصبرون على ما لا يعلمون

(3) .

        يقول المؤلف : كانت امّ فروة في غاية الجلالة والكرامة بحيث قيل للامام الصادق عليه‏السلام : ابن المكرمة ، وروي عن عبد الأعلى قال : رأيت أمّ فروة تطوف بالكعبة عليها كساء متنكرة ، فاستلمت الحجر بيدها اليسرى ، فقال لها رجل ممّن يطوف : يا أمة اللّه‏ أخطأت السنة ، فقالت : إنّا لأغنياء عن علمك(4) .

        يقول المؤلف : كأنّ الرجل من علماء وفقهاء العامة ، وكيف لا تكون غنيّة عن علم أهل العامة وهي زوج باقر علوم الاولين والآخرين ، وابو زوجها الامام زين العابدين عليه‏السلام ، وابنها ينبوع العلم ومعدن الحكمة جعفر بن محمد الصادق الامين عليه‏السلام ، وكان أبوها من الثقات والمعتمدين عند عليّ بن الحسين عليه‏السلام وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة ، فقد ربّيت في حجر العلم ونشأت في بيت الفقه .

* * *

 

(1) راجع مكارم الأخلاق : 89 ـ 91 ، في نقوش الخواتيم .
(2) الكافي 1:393 .
(3) نهج البلاغة ، الخطبة 193 .
(4) اثبات الوصية : 154 .
(5) البحار 46:367 .
(397)

 

الفصل الثاني

في بيان نبذة من فضائله ومكارم أخلاقه وسيرته الحميدة واعتراف

الصديق والعدو والموافق والمخالف بفضله صلوات اللّه‏ عليه

 

 أنت يا جعفر فوق المدح والمدح عنآء  انّما الأشراف أرض ولهم أنت سمآء

جاز حدّ المدح من قد ولدته الأنبياء

        قال الشيخ المفيد رحمه‏الله : وكان الصادق جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين عليهم‏السلام من بين إخوته خليفة أبيه محمد بن عليّ عليه‏السلام ، ووصيّه القائم بالامامة من بعده ، وبرز على جماعتهم بالفضل ، وكان أنبههم ذكرا وأعظمهم قدرا وأجلّهم في العامة والخاصة ، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في البلدان ، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه ، ولا لقى أحد منهم من أهل الاثار ونقلة الأخبار ، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام .

        فانّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل ، وكان له عليه‏السلام من الدلائل الواضحة في امامته ما بهرت القلوب ، وأخرست المخالف عن الطعن فيها بالشبهات ، انتهى

(1) .

        وقال السيد الشبلنجي الشافعي : ومناقبه كثيرة تكاد تفوت عد الحاسب ، ويُحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب ، روى عنه جماعة من أعيان الأئمة وأعلامهم كيحيى بن سعيد ومالك بن أنس والثوري وابن عيينة وأبي حنيفة وأيوب السختياني وغيرهم(2) .

        وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب ما معناه: انّ كتاب الجفر كتبه جعفر الصادق عليه‏السلام ، وفيه ما يحتاج الناس إلى العلم به إلى يوم القيامة وقد أشار إلى هذا الجفر أبو العلاء المعرّي حيث قال :

 

 لقد عجبوا لآل البيت لما  اتاهم علمهم في جلد جفر  ومرآة المنجم وهي صغرى  تريه كل عامرة وقفر

        وهناك روايات كثيرة تشير إلى أنّ الامام عليه‏السلام كان له مجلس للعامة والخاصة من الناس ، وكانوا يأتونه من أقصى بقاع الأرض ويسألونه عن الحلال والحرام وتأويل القرآن ، وكان قوله فصل الخطاب ولم يخرج منه أحد الاّ بجواب مُرض وواف .

        يقول هذا الفقير : الظاهر كون هذا المجلس في موسم الحج .

 

(1) الارشاد : 270 .
(2) نور الابصار : 294 .
(398)

 

        وعلى كل حال ؛ لم يُنقل من أحد غيره مثل هذه العلوم التي نقلت عنه عليه‏السلام ، ولم يظهر من علمه عشر معشاره مع كون الرواة عنه أربعة الاف نفر ، وامتلاء الكتب والمتون بأحاديثه وعلومه ، بل ما ظهر منه بمنزلة قطرة من بحر خضم .

        وقيل : انّ بعض علماء العامة كانوا من تلامذته وخدّامه وأتباعه كأبي حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وأبي يزيد طيفور السّقا الذي خدم الامام عليه‏السلام وسقاه ، وكابراهيم بن الأدهم ، ومالك بن دينار .

        يقول المؤلف : ويجدر التبرك هنا ببعض الاحاديث الواردة في فضائله ومناقبه عليه‏السلام .

الأول :

        روى ابن شهر آشوب عن مسند أبي حنيفة انّ الحسن بن زياد قال : سمعت أبا حنيفة وقد سُئل من أفقه من رأيت ؟ قال : جعفر بن محمد لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة انّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيّيء له من مسائلك الشداد ، فهيّأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إلى أبي جعفر وهو بالحيرة ، فأتيته فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه .

        فلمّا بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر (المنصور) ، فسلّمت عليه فأومأ اليّ فجلست ، ثم التفت إليه فقال : يا أبا عبد اللّه‏ هذا أبو حنيفة ، قال : نعم أعرفه ، ثم إلتلفت اليّ فقال : يا أبا حنيفة الق على أبي عبد اللّه‏ من مسائلك .

        فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا ، فربّما تابعناكم وربّما تابعناهم وربّما خالفنا جميعا ، حتى أتيت على أربعين مسألة فما أخلّ منها بشيء ، ثم قال أبو حنيفة : أليس انّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس ؟

(1)

الثاني :

        روى الشيخ الصدوق عن مالك بن أنس فقيه أهل المدينة وإمام أهل السنة إنّه قال : كنت أدخل على الصادق جعفر بن محمد عليهماالسلام ، فيقدّم لى مخدّة ويعرف لي قدرا ويقول : يا مالك إنّي أحبّك ، فكنت أسرّ بذلك وأحمد اللّه‏ عليه .

        وكان عليه‏السلام لا يخلو من احدى ثلاث خصال : امّا صائما وامّا قائما وامّا ذاكرا ، وكان من عظماء العبّاد وأكابر الزهاد الذين يخشون اللّه‏ عزوّجل ، وكان كثير الحديث ، طيّب المجالسة ، كثير الفوائد ، فاذا قال : « قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله » اخضرّ مرّة واصفرّ أخرى

 

(1) المناقب 4:255 ، عنه البحار 47:217 .
(399)

 

حتّى ينكره من يعرفه .

        ولقد حججت معه سنة ، فلمّا استوت به راحلته عند الاحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد يخرّ من راحلته ، فقلت : قل يا بن رسول اللّه‏ فلابد لك من أن تقول ، فقال عليه‏السلام : يا ابن أبي عامر كيف أجسر أن أقول : « لبيك اللهم لبيك » وأخشى أن يقول عزوجل لي : « لا لبيك ولا سعديك »

(1) .

        يقول المؤلف :

        تأمّل جيدا في حال مولانا الصادق عليه‏السلام كيف يعظّم ويوقّر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لمّا يسمع اسمه أو ينقل عنه حديثا ، وانظر إلى تغيّر حاله الشريف مع كونه ابنه وبضعة منه ، فتعلّم أيها القاريء العزيز هذا الخُلُق الجيّد ، وسمّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بتعظيم واحترام ، وصلّ عليه بعد ذكر إسمه الشريف ، واكتب الصلوات خلف اسمه من دون رمز واشارة ، ولا تكن كبعض المحرومين من السعادة الذين يكتبون خلف اسمه الكريم (ص) أو (صلعم) ونحوهما ، ولا تكتفي بهذا بل لا تتلفّظ ولا تكتب اسمه الاّ وأنت على طهارة ، ومع كل هذا اعتذر من ساحته الكريمة في تقصيرك عن أداء حقّه .

        وروي عن أبي هارون مولى آل جعدة انّه قال : كنت جليسا لأبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام بالمدينة ، ففقدني أيّاما ثم انّي جئت إليه فقال لي : لم أرك منذ ايّام يا أبا هارون ، فقلت : ولد لي غلام ، فقال : بارك اللّه‏ لك فيه ، فما سمّيته ؟

        قلت : سمّيته محمدا ، فأقبل بخدّه نحو الأرض وهو يقول : محمد ، محمد ، محمد حتى كاد يلصق خدّه بالأرض ، ثم قال : بنفسي وبولدي وبأمّي وبأبويّ وبأهل الأرض كلّهم جميعا الفداء لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، لا تسبّه ولا تضربه ولا تسيء إليه ، واعلم انّه ليس في الأرض دار فيها إسم محمد الاّ وهي تقدّس كلّ يوم

(2) .

الثالث :

        وفي كتاب توحيد المفضّل عنه قال : كنت ذات يوم بعد العصر جالسا في الروضة بين القبر والمنبر ، وانا مفكر فيما خصّ اللّه‏ تعالى به سيدنا محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من الشرف والفضائل ... إذ أقبل ابن أبي العوجاء [ ثم تكلّم بكلمات الكفر ] فلم أملك نفسي غضبا وغيظا وحنقا ، فقلت : يا عدوّ اللّه‏ ألحدت في دين اللّه‏ ، وانكرت الباريء جل قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصورك في أتمّ صورة ، ونقلك في أحوالك حتى بلغ إلى حيث انتهيت ...

        فقال : يا هذا ان كنت من أهل الكلام كلّمناك ، فان ثبتت لك حجة تبعناك وان لم

 

(1) الخصال ، باب الثلاثة : 167 ، ح 219 ، عنه البحار 47:16 .
(2) البحار 17:30 ، ح 9 ، باب 14 ، عن الكافي 6:39 ، ح 2 .
(400)

 

تكن منهم فلا كلام لك ، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا ، ولا بمثل دليلك تجادل فينا ، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما أفحش في خطابنا ولا تعدّى في جوابنا ، وإنّه الحليم الرزين ، العاقل الرصين ، لا يعتريه خرق في جوابنا ، ولا طيش ولا نزق ، يسمع كلامنا ، ويصغي الينا ، ويتعرّف حجتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننّا انّا قطعناه دحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير ، يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه ردّا ، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه ...(1)

الرابع : في قضاء حاجة الشقراني ووعظه عليه‏السلام إيّاه :

        جاء في تذكرة سبط ابن الجوزي انّ من مكارم اخلاقه ما ذكره الزمشخري في كتاب (ربيع الأبرار) عن الشقراني مولى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : خرج العطاء ايّام المنصور وما لي شفيع ، فوقفت على الباب متحيّرا واذا بجعفر بن محمد قد أقبل فذكرت له حاجتي .

        فدخل وخرج واذا بعطائي في كمّه فناولني ايّاه وقال : انّ الحسن من كل أحد حسن وانّه منك أحسن لمكانك منّا ، وانّ القبيح من كل احد قبيح وانّه منك أقبح لمكانك منّا ، وانّما قال له جعفر ذلك لأنّ الشقراني كان يشرب الشراب .

        فمن مكارم أخلاق جعفر انّه رحّب به وقضى حاجته مع علمه بحاله ووعظه على وجه التعريض ، وهذا من اخلاق الانبياء

(2) .

الخامس : في حفظ لباس الزينة باللباس الخَلِق :

        روي عن فضل بن كثير المدائني عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام قال : دخل عليه بعض أصحابه فرأى عليه قميصا فيه قبّ قد رقعه ، فجعل ينظر إليه ، فقال له أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام : ما لك تنظر ؟ فقال : قبّ يلقى في قميصك ؟

        قال : فقال : اضرب يدك إلى هذا الكتاب فاقرأ ما فيه ، وكان بين يديه كتاب أو قريب منه ، فنظر الرجل فيه فاذا فيه : لا ايمان لمن لا حياء له ، ولا مال لمن لا تقدير له ، ولا جديد لمن لا خَلِق له

(3) .

السادس : في تسلية والد البنات عن همّ رزقهنّ :

 
(1) توحيد المفضّل : 39 ، البحار 3:57 ـ 58 .
(2) تذكرة الخواص : 345 .
(3) البحار 47:45 ، ح 63 .
(401)

 

        روى الشيخ الصدوق انّ الصادق عليه‏السلام سأل عن بعض أهل مجلسه ؛ فقيل : عليل ، فقصده عائدا وجلس عند رأسه فوجده دنفا ، فقال له : أحسن ظنّك باللّه‏ تعالى ، فقال : امّا ظنّي باللّه‏ فحسن ، ولكن غمّي لبناتي ما أمرضني غير رفقي بهنّ .

        فقال الصادق عليه‏السلام : الذي ترجوه لتضعيف حسناتك ومحو سيّئاتك فارجه لاصلاح حال بناتك ، أما علمت انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : لمّا جاوزت سدرة المنتهى وبلغت أغصانها وقضبانها ، رأيت بعض ثمار قضبانها أثداؤه معلّقة يقطر من بعضها اللبن ومن بعضها العسل ومن بعضها الدهن ، ويخرج من بعضها شبه دقيق السميد ومن بعضها النبات ، ومن بعضها كالنبق فيهوي ذلك كلّه إلى نحو الأرض .

        فقلت في نفسي : أين مفر هذه الخارجات عن هذه الأثداء ، وذلك انّه لم يكن معي جبرئيل لأنّي كنت جاوزت مرتبته واختزل دوني ، فناداني ربّي عزوجل في سرّي : يا محمد هذه أنبتّها في هذا المكان الأرفع لأغذو منها بنات المؤمنين من أمتك وبنيهم ، فقل لآباء البنات : لا تضيقنّ صدوركم على فاقتهنّ فانّي كما خلقتهنّ أرزقهنّ

(1) .

السابع : في عفوه وكرمه :

        نقل عن مشكاة الأنوار : انّ رجلاً أتى أبا عبد اللّه‏ عليه‏السلام فقال : انّ فلانا ابن عمّك ذكرك فما ترك شيئا من الوقيعة والشتيمة الاّ قاله فيك ، فقال أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام للجارية : ايتيني بوضوء ، فتوضأ ودخل ، فقلت في نفسي : يدعو عليه ، فصلّى ركعتين ، فقال :

        « يا ربّ هو حقّي قد وهبته وأنت أجود منّي وأكرم فهبه لي ولا تؤاخذه بي ولا تقايسه » ثم رقّ فلم يزل يدعو فجعلت أتعجّب

(2) .

الثامن : في حمله الخبز لفقراء ظلّة بني ساعدة :

        روى الشيخ الصدوق عن معلّى بن خنيس قال : خرج أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام في ليلة قد رشّت السماء وهو يريد ظلّة بني ساعدة ـ وهي ظلّة كان الفقراء والغرباء يبيتون فيها بالليل ويمكثون تحت ظلّها بالنهار ـ فأتبعته فاذا هو قد سقط منه شيء ، فقال : بسم اللّه‏ اللهم ردّ علينا ، قال : فأتيته فسلّمت عليه ، فقال : أنت معلّى ؟ قلت : نعم جعلت فداك ، فقال لي : التمس بيدك فما وجدته من شيء فادفعه اليّ ، قال : فاذا بخبز منتشر ، فجعلت أدفع إليه ما وجدت فاذا أنا بجراب من خبز .

        فقلت : جعلت فداك أحمله عنك ؟ فقال : لا أنا أولى به منك ولكن امض معي ،

 

(1) عيون اخبار الرضا عليه‏السلام 2:3 ، عنه البحار 71:137 ، ح 190 .
(2) مشكاة الانوار : 218 ، باب 4 ، فصل 11 ، البحار 88:385 .
(402)

 

قال : فأتينا ظلّة بني ساعدة فاذا نحن بقوم نيام ، فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين تحت ثوب كلّ واحد منهم حتى أتى على آخره ثم انصرفنا ، فقلت : جعلت فداك يعرف هؤلاء الحق ؟ فقال : لو عرفوا لواسيناهم بالدُّقة (والدّقة هي الملح)(1) .

        يقول المؤلف : جاء في الكلمة الطيبة انهم لو عرفوا الحق لواسيناهم بكلّ شيء حتى بالملح ، وقيل انّهم لو عرفوا الحق لواسيناهم في الإدام أيضا وأضفنا الملح إلى الخبز(2) .

التاسع : في عطائه المخفي :

        نقل ابن شهر آشوب عن أبي جعفر الخثعمي قال : أعطاني الصادق عليه‏السلام صرّة فقال لي : ادفعها إلى رجل من بني هاشم ولا تعلمه انّي أعطيتك شيئا ، قال : فأتيته ، قال : جزاه اللّه‏ خيرا ما يزال كلّ حين يبعث بها فنعيش به إلى قابل ، ولكنّي لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله

(3) .

العاشر : في عطفه عليه‏السلام :

        وروي أيضا إنّ سفيان الثوري دخل على الصادق عليه‏السلام فرآه متغيّر اللون فسأله عن ذلك ، فقال : كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت ، فدخلت فاذا جارية من جواريّ ممن تربّي بعض ولدي قد صعدت في سلّم والصّبي معها ، فلمّا بصرت بي ارتعدت وتحيّرت وسقط الصبيّ الى الأرض فمات ، فما تغيّر لوني لموت الصبي ، وانّما تغيّر لوني لما ادخلت عليها من الرعب

(4) ، ومع ذلك قال لها الامام عليه‏السلام : لا بأس عليك انت حرّة لوجه اللّه‏ .

الحادي عشر : في طول ركوعه :

        روى ثقة الاسلام الكليني في الكافي مسندا عن أبان بن تغلب ، قال : دخلت على أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام وهو يصلّي فعددت له في الركوع والسجود ستّين تسبيحة

(5) .

الثاني عشر : في استعمال الطيب في الصوم :

 
(1) ثواب الاعمال : 144 ، باب ثواب صدقة النهار ، عنه البحار 47:20 .
(2) الكلمة الطيبة : 295 ـ 296 .
(3) المناقب 4:273 ، عنه البحار 47:23 ، ضمن حديث 26 .
(4) المناقب 4:274 ، عنه البحار 47:24 ، ضمن حديث 26 .
(5) الكافي 1:329 ، عنه البحار 47:50 ، ح 80 .
(403)

 

        وروي في الكافي أيضا انّ أبا عبد اللّه‏ عليه‏السلام كان إذا صام تطيّب بالطيب ويقول : الطيب تحفة الصائم

(1) .

الثالث عشر : في عمله عليه‏السلام في البستان :

        وروي فيه أيضا عن أبي عمرو الشيباني قال : رأيت أبا عبد اللّه‏ عليه‏السلام وبيده مسحاة وعليه أزار غليظ يعمل في حائط له والعرق يتصابُّ عن ظهره ، فقلت : جعلت فداك أعطني أكفك ، فقال لي : انّي أحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة

(2) .

الرابع عشر : في إعطائه أجرة العامل بعد إتمام العمل :

        وروي أيضا عن شعيب قال : تكارينا لأبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام قوما يعملون في بستان له وكان أجلهم إلى العصر ، فلمّا فرغوا قال لمعتّب (مولاه) : أعطهم أجورهم قبل أن يجفّ عرقهم

(3) .

الخامس عشر : في شراء بيت في الجنة لصاحبه الجبلي :

        روى القطب الراوندي وابن شهر آشوب عن هشام بن الحكم انّه قال : كان رجل من ملوك أهل الجبل يأتي الصادق عليه‏السلام في حجة كل سنة ، فينزله أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام في دار من دوره في المدينة وطال حجه ونزوله (في بيت الامام لحبه الشديد له) ، فأعطى أبا عبد اللّه‏ عليه‏السلام عشرة آلاف درهم ليشتري له دارا (في المدينة حتى لا يزاحم الامام بكثرة مجيئه والبقاء) ، وخرج الى الحج فلمّا انصرف (من الحج أتى إلى الامام) قال : جعلت فداك اشتريت لي الدار ؟ قال : نعم ، وأتى بصكّ فيه : « بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، هذا ما اشترى جعفر بن محمد لفلان بن فلان الجبلي له دار في الفردوس حدّها الاوّل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، والحدّ الثاني أمير المؤمنين عليه‏السلام ، والحدّ الثالث الحسن بن عليّ عليه‏السلام ، والحدّ الرابع الحسين بن عليّ عليه‏السلام » .

        فلمّا قرأ الرجل ذلك قال : قد رضيت جعلني اللّه‏ فداك ، قال : فقال أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام : انّي أخذت ذلك المال ففرّقته في ولد الحسن والحسين وأرجو أن يتقبّل اللّه‏ ذلك ويثيبك به الجنّة ، قال : فانصرف الرجل إلى منزله وكان الصك معه ، ثم اعتلّ علّة الموت فلمّا حضرته الوفاة جمع أهله وحلّفهم أن يجعلوا الصك معه ففعلوا ذلك .

 

(1) الكافي 4:113 ، عنه البحار 47:54 ، ح 89 .
(2) الكافي 5:76 ، عنه البحار 47:57 ، ح 101 .
(3) الكافي 5:289 ، عنه البحار 47:57 ، ح 105 .
(404)

 

        فلمّا أصبح القوم غدوا إلى قبره فوجدوا الصك على ظهر القبر مكتوب عليه : وفى لي واللّه‏ جعفر بن محمد بما قال

(1) .

السادس عشر : في ضمان الجنّة لجار أبي بصير :

        روى ابن شهر آشوب عن أبي بصير قال : كان لي جار يتّبع السلطان فأصاب مالاً فاتّخذ قيانا ، وكان يجمع الجموع ويشرب المسكر ويؤذيني ، فشكوته إلى نفسه غير مرّة فلم ينته ، فلمّا ألححت عليه قال : يا هذا أنا رجل مبتلى وأنت رجل معافى فلو عرّفتني لصاحبك رجوت أن يستنقذني اللّه‏ بك ، فوقع ذلك في قلبي .

        فلمّا صرت إلى أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام ذكرت له حاله فقال لي : إذا رجعت إلى الكوفة فانّه سيأتيك فقل له : يقول لك جعفر بن محمد : دع ما أنت عليه وأضمن لك على اللّه‏ الجنّة ، قال : فلمّا رجعت إلى الكوفة أتاني فيمن أتى فاحتبسته حتى خلا منزلي ، فقلت : يا هذا إنّي ذكرتك لأبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام فقال : اقرأه السلام وقل له : يترك ما هو عليه وأضمن له على اللّه‏ الجنة ، فبكى ثم قال : اللّه‏ قال لك جعفر هذا ؟ قال : فحلفت له انّه قال لي ما قلت لك ، فقال لي : حسبك ومضى ، فلمّا كان بعد ايّام بعث اليّ ودعاني ، فاذا هو خلف باب داره عريان ، فقال : يا أبا بصير ما بقي في منزلي شيء الاّ وخرجت عنه وانا كما ترى ، فمشيت إلى اخواني فجمعت له ما كسوته به ، ثم لم يأت عليه الاّ ايام يسيرة حتى بعث اليّ انّي عليل فأتني ، فجعلت اختلف إليه وأعالجه حتى نزل به الموت .

        فكنت عنده جالسا وهو يجود بنفسه ثم غُشي عليه غشية ثم أفاق ، فقال : يا أبا بصير قد وفى صاحبك لنا ، ثم مات ، فحججت فأتيت أبا عبد اللّه‏ عليه‏السلام فاستأذنت عليه ، فلمّا دخلت قال مبتدئا من داخل البيت وإحدى رجلي في الصحن والأخرى في دهليز داره : يا أبا بصير قد وفينا لصاحبك

(2) .

السابع عشر : في حلمه عليه‏السلام :

        روى الشيخ الكليني عن حفص بن أبي عائشة ، قال : بعث أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام غلاما له في حاجة فأبطأ ، فخرج أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام في أثره لمّا أبطأ فوجده نائما ، فجلس عند رأسه يروّحه حتى انتبه ، فلمّا انتبه قال له أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام : يا فلان واللّه‏ ما ذلك لك ، تنام الليل والنهار ؟ لك الليل ولنا منك النهار

(3) .

 
(1) المناقب 4:233 ، ونحوه في الخرائج 1:303 ، عنهما في البحار 47:134، ح183.
(2) راجع البحار 47:145 ، عن كشف الغمة .
(3) الكافي 8:87 ، عنه البحار 47:56 ، ح 97 .
(405)

 

* * *

(406)

 

الفصل الثالث

في معاجزه عليه‏السلام

الأولى : في اطلاعه على الغيب :

        روى الشيخ الطوسي عن داوُد بن كثير الرقي انّه قال : كنت جالسا عند أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام إذ قال لي مبتدئا من قبل نفسه : يا داوُد لقد عرضت عليّ أعمالكم يوم الخميس ، فرأيت فيما عرض عليّ من عملك صلتك لابن عمّك فلان فسرّني ذلك ، انّي علمت انّ صلتك له أسرع لفناء عمره وقطع أجله .

        قال داوُد : وكان لي ابن عم معاندا خبيثا بلغني عنه وعن عياله سوء حال ، فصككت له نفقة قبل خروجي إلى مكة ، فلمّا صرت بالمدينة خبّرني أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام بذلك

(1) .

الثانية : اظهار علامة الامامة لأبي بصير :

        روي في كشف الغمة عن دلائل الحميري انّ أبا بصير قال : كنت عند أبي عبد اللّه‏ ذات يوم جالسا إذ قال : يا أبا محمد هل تعرف امامك ؟ قلت : اي واللّه‏ الذي لا اللّه‏ الاّ هو ، وأنت هو ووضعت يدي على ركبته أو فخذه ، فقال : صدقت قد عرفت فاستمسك به ، قلت : أريد أن تعطيني علامة الامام .

        قال : يا أبا محمد ليس بعد المعرفة علامة ، قلت : ازداد ايمانا ويقينا ، قال : يا أبا محمد ترجع الى الكوفة ، وقد ولد لك عيسى ومن بعد عيسى محمد ومن بعدهما ابنتان ، واعلم انّ ابنيك مكتوبان عندنا في الصحيفة الجامعة مع اسماء شيعتنا ، واسماء آبائهم وامهاتهم وأجدادهم وأنسابهم ، وما يلدون إلى يوم القيامة وأخرجها فاذا هي صفراء مدرجة (ملفوفة)

(2) .

الثالثة : في إخباره عليه‏السلام بموت المرأة بعد ثلاثة أيام :

        روى ابن شهر آشوب والقطب الراوندي عن الحسين بن أبي العلاء انّه قال : كنت عند أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام إذ جاءه رجل أو مولى له ، يشكو زوجته وسوء خلقها ، قال : فأتني بها ، فأتاه بها ، فقال لها : ما لزوجك يشكوك ؟ قالت : فعل اللّه‏ به وفعل ، فقال لها :

 

(1) البحار 47:64 ، ح 3 ، عن أمالي الطوسي .
(2) كشف الغمة 3:406 ، عنه البحار 47:143 ، ح 195 .
(407)

 

إن ثبتِّ على هذا لم تعيشي الاّ ثلاثة ايّام ، قالت : لا أُبالي أن لا أراه أبدا .

        فقال له : خذ بيد زوجتك فليس بينك وبينها الاّ ثلاثة ايام ، فلمّا كان اليوم الثالث دخل عليه الرجل ، فقال عليه‏السلام : ما فعلت زوجتك ؟ قال : قد واللّه‏ دفنتها الساعة ، قلت : ما كان حالها ؟ قال : كانت معتدية فبتر اللّه‏ عمرها وأراحه منها

(1) .

الرابعة : في إنقاذه عليه‏السلام لأخي داوُد الرقي من الموت عطشا :

        روى ابن شهر آشوب عن داوُد الرقي انّه قال : خرج أخوان لي يريدان المزار ، فعطش أحدهما عطشا شديدا حتى سقط من الحمار ، وسقط الآخر في يده فقام فصلى ودعا اللّه‏ ومحمدا وأمير المؤمنين والأئمة ، كان يدعو واحدا بعد واحد حتى بلغ إلى آخرهم جعفر بن محمد ، فلم يزل يدعوه ويلوذ به ، فاذا هو برجل قد قام عليه وهو يقول : يا هذا ما قصتك ؟

        فذكر له حاله فناوله قطعة عود ، وقال : ضع هذا بين شفتيه ، ففعل ذلك فاذا هو قد فتح عينيه واستوى جالسا ولا عطش به ، فمضى حتى زار القبر ، فلمّا انصرفا إلى الكوفة أتى صاحب الدعاء المدينة فدخل على الصادق عليه‏السلام فقال له : اجلس ما حال أخيك ؟ أين العود ؟ فقال : يا سيدي انّي لمّا أصبت بأخي اغتممت غمّا شديدا ، فلمّا ردّ اللّه‏ عليه روحه نسيت العود من الفرح .

        فقال الصادق عليه‏السلام : اما انّه ساعة صرت إلى غم أخيك أتاني أخي الخضر فبعثت اليك على يديه قطعة عود من شجرة طوبى ، ثم التفت إلى خادم له فقال له : عليّ بالسفط ، فأتى به ففتحه وأخرج قطعة العود بعينها ثم أراها ايّاه حتى عرفها ثم ردّها إلى السفط

(2) .

الخامسة : في إنقياد الأسد له :

        روى ابن شهر آشوب عن أبي حازم عبد الغفار بن الحسن انّه قال : قدم ابراهيم بن أدهم الكوفة وأنا معه وذلك على عهد المنصور ، وقدمها جعفر بن محمد العلويّ عليه‏السلام فخرج جعفر عليه‏السلام يريد الرجوع إلى المدينة ، فشيّعه العلماء وأهل الفضل من الكوفة ، وكان فيمن شيّعه سفيان الثوري وابراهيم بن أدهم ، فتقدم المشيعون له فاذا هم بأسد على الطريق .

        فقال لهم ابراهيم بن أدهم : قفوا حتى يأتي جعفر فننظر ما يصنع ، فجاء جعفر عليه‏السلام فذكروا له الأسد ، فأقبل حتى دنا من الأسد فأخذ بأذنه فنحاه عن الطريق ، ثم

 

(1) الخرائج 2:610 ، والمناقب 4:224 ، عنهما البحار 47:97 ، ح 112 .
(2) المناقب 4:240 ، عنه البحار 47:138 ، ضمن حديث 188 .
(408)

 

أقبل عليهم ، فقال : أما انّ الناس لو أطاعوا اللّه‏ حق طاعته لحملوا عليه أثقالهم(1) .

        يقول المؤلف : الظاهر انّ الامام عليه‏السلام أراد التعريض بكلامه هذا على ابراهيم بن أدهم وسفيان الثوري وأمثالهما .

السادسة : عدم احراق النار لهارون المكي :

        روى أيضا عن مأمون الرَقي قال : كنت عند سيدي الصادق عليه‏السلام إذ دخل سهل بن الحسن الخراساني فسلّم عليه ثم جلس ، فقال له : يا ابن رسول اللّه‏ لكم الرأفة والرحمة وأنتم أهل بيت الإمامة ، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه ، وأنت تجد من شيعتك مائة الف يضربون بين يديك بالسيف ؟

        فقال له : اجلس يا خراساني رعى اللّه‏ حقك ، ثم قال : يا حنفيّة اسجري التنور ، فسجرته حتى صار كالجمرة وأبيضّ علوّه ، ثم قال : يا خراساني قم فاجلس في التنور ، فقال الخراساني : يا سيدي يا ابن رسول اللّه‏ لا تعذبني بالنار أقلني أقالك اللّه‏ ، قال : قد أقلتك ، فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته ، فقال : السلام عليك يا ابن رسول اللّه‏ ، فقال له الصادق عليه‏السلام : الق النعل من يدك واجلس في التنور ، قال : فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور ، وأقبل الامام يحدث الخراساني حديث خراسان حتى كأنه شاهد لها .

        ثم قال : قم يا خراساني وانظر ما في التنور ، قال : فقمت إليه فرأيته متربعا ، فخرج الينا وسلّم علينا ، فقال له الامام عليه‏السلام : كم تجد بخراسان مثل هذا ؟ فقلت : واللّه‏ ولا واحدا ، فقال عليه‏السلام : لا واللّه‏ ولا واحدا اما انّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة مُعاضدين لنا ، نحن أعلم بالوقت

(2) .

السابعة : في اخباره عليه‏السلام بالملاحم :

        روي في البحار عن مجالس المفيد مسندا عن سُدَير الصيرفي قال : كنت عند أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام وعنده جماعة من أهل الكوفة ، فأقبل عليهم وقال لهم : حجوا قبل أن لا تحجّوا ، قبل أن يمنع البرُّ جانبه

(3) ، حجوا قبل هدم مسجد بالعراق بين نخل وأنهار ، حجوا قبل أن تقطع سدرة بالزوراء على عروق النخلة التي اجتنت منها مريم عليهاالسلام رطبا

 

(1) المناقب 4:241 ، عنه البحار 47:139 ، ضمن حديث 188 .
(2) المناقب 4:237 ، عنه البحار 47:123 ، ح 172 .
(3) قال العلامة المجلسي : قبل أن يمنع البرجانبه أي يكون البرّ مخوفا لا يمكن قطعه ، وقال البعض البرجانيه ، مع الياء غلط والصحيح البر جانبه بالباء وهي كلمتان البر أي الصحراء وجانبه لكن قال بعض أهل التحقيق انّها معربة بريطانية أي حجوا قبل أن تمنعكم دولة بريطانية من الحج . (منه رحمه‏الله )
(409)

 

جنيّا ، فعند ذلك تمنعون الحجّ ، وتنقص الثمار ، وتجدب البلاد ، وتُبتلون بغلاء الأسعار ، وجور السلطان ، ويظهر فيكم الظلم والعدوان مع البلاء والوباء والجوع ، وتظلّكم الفتن من جميع الافاق ، فويل لكم يا أهل العراق إذا جاءتكم الرايات من خراسان ، وويل لأهل الريّ من الترك ، وويل لأهل العراق من أهل الري ، وويل لهم ثم ويل لهم من الثط ، قال سدير : فقلت : يا مولاي من الثط ؟ قال : قوم آذانهم كآذان الفار صغرا ، لباسهم الحديد ، كلامهم ككلام الشياطين ، صغار الحُدُق ، مُرد ، جُرد ، استعيذوا باللّه‏ من شرّهم ، اولئك يفتح اللّه‏ على أيديهم الدين ، ويكونون سببا لأمرنا(1).

الثامنة : في ظهور الماء :

        ورد في البحار عن نوادر عليّ بن أسباط عن ابن الطبال عن محمد بن معروف الهلالي ، وكان قد أتت عليه مائة وثمان وعشرون سنة ، قال : مضيت إلى الحيرة إلى أبي عبد اللّه‏ جعفر بن محمد عليه‏السلام وقت السفاح ، فوجدته قد تداكّ الناس عليه ثلاثة ايّام متواليات ، فما كان لي فيه حيلة ولا قدرت عليه من كثرة الناس وتكاثفهم عليه .

        فلمّا كان في اليوم الرابع رآني وقد خفّ الناس عنه ، فأدناني ومضى إلى قبر أمير المؤمنين عليه‏السلام فتبعته ، فلمّا صار في بعض الطريق غمزه البول ، فاعتزل عن الجادة ناحية ونبش الرمل بيده ، فخرج له الماء فتطهّر للصلاة ، ثم قام فصلّى ركعتين ثم دعا ربه وكان في دعائه :

        « اللهم لا تجعلني ممن تقدّم فمرق ، ولا ممن تخلّف فمحق ، واجعلني من النمط الأوسط » .

        ثم مشى ومشيت معه ، فقال : يا غلام البحر لا جار له ، والملك لا صديق له ، والعافية لاثمن لها ، كم من ناعم ولا يعلم ثمّ قال : تمسكوا بالخمس : قدّموا الاستخارة ، وتبرّكوا بالسهولة ، وتزيّنوا بالحلم ، واجتنبوا الكذب ، وأوفوا المكيال والميزان .

        ثم قال : الهرب الهرب إذا خلعت العرب أعنّتها ومنع البرُّ جانبه ، وانقطع الحجّ (وتقدم في الحديث السابق انّ معنى هذه الكلمة دولة بريطانيا ومنعها عن الحج) ، ثم قال : حجّوا قبل أن لا تحجّوا ، وأومأ إلى القبلة بابهامه وقال : يُقتل في هذا الوجه سبعون الف أو يزيدون

(2) .

التاسعة : في إظهاره الذهب الكثير من الارض :

        روى الشيخ الكليني رحمه‏الله عن جمع من أصحاب الامام الصادق عليه‏السلام انّهم قالوا : كنّا

 

(1) البحار 47:122 ، ح 171 .
(2) البحار 47:93 ، ح 106 .
(410)

 

عند أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام فقال : عندنا خزائن الأرض ومفاتيحها ، ولو شئت أن أقول باحدى رجلي أخرجي ما فيك من الذهب لأخرَجَت ، قال : ثم قال بإحدى رجليه فخطّها في الارض خطّا فانفجرت الارض .

        ثم قال بيده فأخرج سبيكة ذهب قدر شبر ، ثم قال : أنظروا حسنا ، فنظرنا فاذا سبائك كثيرة بعضها على بعض يتلألأ ، فقال له بعضنا : جعلت فداك أعطيتم ما أعطيتم وشيعتكم محتاجون ؟ قال : فقال : انّ اللّه‏ سيجمع لنا ولشيعتنا الدنيا والآخرة ، ويُدخلهم جنّات النعيم ، ويدخل عدوّنا الجحيم

(1) .

العاشرة : في اطلاعه عليه‏السلام على المغيّبات :

        وروى أيضا عن صفوان بن يحيى عن جعفر بن محمد بن الاشعث انّه قال : قال لي : أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الامر ، ومعرفتنا به وما كان عندنا منه ذكرٌ ولا معرفة شيء مما عند الناس ؟ قال : قلت له : ما ذاك ؟

        قال : انّ أبا جعفر يعني أبا الدّوانيق (المنصور) قال لأبي محمد بن الاشعث : يا محمد ابْغ لي رجلاً له عقل يؤدي عنّي ، فقال له أبي : قد أصبته لك هذا فلان بن مهاجر خالي ، قال : فأتني به ، قال : فأتيته بخالي ، فقال له أبو جعفر : يا ابن مهاجر خُذ هذا المال وأتِ المدينة وأتِ عبد اللّه‏ بن الحسن بن الحسن وعدّةً من أهل بيته فيهم جعفر بن محمد ، فقل لهم : انّي رجل غريب من أهل خراسان وبها شيعة من شيعتكم وجهوا اليكم بهذا المال ، وادفع إلى كلّ واحد منهم على شرط كذا وكذا ، فاذا قبضوا المال فقل : انّي رسولٌ أحبّ ان يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم .

        فأخذ المال وأتى المدينة ، فرجع إلى أبي الدوانيق ومحمد بن الأشعث عنده ، فقال له أبو الدوانيق : ما وراءك ؟ قال : أتيت القوم وهذه خطوطهم بقبضهم المال خلا جعفر بن محمد ، فانّي أتيته وهو يصلّي في مسجد الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فجلست خلفه وقلت حتى ينصرف فاذكر له ما ذكرت لأصحابه فعجّل وانصرف ، ثم التفت اليّ فقال :

        « يا هذا اتّق اللّه‏ ولا تغرّ أهل بيت محمد ، فانّهم قريبوا العهد بدولة بني مروان وكلّهم محتاج » فقلت : وما ذاك أصلحك اللّه‏ ؟ قال : فأدنى رأسه منّي وأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك حتى كأنّه كان ثالثنا ، قال : فقال له أبو جعفر : يا ابن مهاجر ، إعلم انّه ليس من أهل بيت نبوّة الاّ وفيه محدّث (يعني شخص تتحدّث معه الملائكة وتخبره) وانّ جعفر بن محمد محدّثنا اليوم ، وكانت هذه الدّلالة سبب قولنا بهذه المقالة (أي عقيدة التشيّع)

(2) .

 

 

(1) الكافي 1:394 ، باب مولد أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام ـ عنه البحار 47:87 ، ح 89 .
(2) الكافي 1:475 ، باب مولد أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام ـ عنه البحار 47:75 ، ح 41 .
(411)

 

الحادية عشرة : في إحيائه للبقرة باذن اللّه‏ :

        روي في الخرائج عن المفضل بن عمر قال : كنت أمشي مع أبي عبد اللّه‏ جعفر بن محمد بمكة (أو بمنى) إذ مررنا بامرأة بين يديها بقرة ميّتة وهي مع صبيّة لها تبكيان ، فقال عليه‏السلام لها : ما شأنك ؟ قالت : كنت أنا وصبياني نعيش من هذه البقرة وقد ماتت ، لقد تحيّرت في أمري .

        قال : أفتحبّين أن يحييها اللّه‏ لك ؟ قالت : أو تسخر منّي مع مصيبتي ؟ قال : كلاّ ما أردت ذلك ثم دعا بدعاء ، ثم ركضها برجله وصاح بها فقامت البقرة مسرعة سويّة ، فقالت : عيسى بن مريم وربّ الكعبة ، فدخل الصادق عليه‏السلام بين الناس فلم تعرفه المرأة

(1) .

الثانية عشرة : في علمه عليه‏السلام بكلام الحيوانات :

        وروى أيضا عن صفوان بن يحيى عن جابر انّه قال : كنت عند أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام فبرزنا معه فاذا نحن برجل قد أضجع جديا ليذبحه فصاح الجدي، فقال أبوعبداللّه‏ عليه‏السلام : كم ثمن هذا الجدي ؟ فقال : أربعة دراهم ، فحلّها من كمه ودفعها إليه وقال : خلّ سبيله .

        قال : فسرنا فاذا بصقر قد انقضّ على درّاجة فصاحت الدرّاجة ، فأومأ أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام إلى الصقر بكمه فرجع عن الدرّاجة ، فقلت : لقد رأينا عجبا من امرك ، قال : نعم ، أنّ الجدي لما أضجعه الرجل ليذبحه وبصر بي قال : استجير باللّه‏ وبكم أهل البيت مما يُراد بي ، وكذا قالت الدرّاجة ، ولو ان شيعتنا استقامت لأسمعتهم منطق الطير

(2) .

الثالثة عشرة : في إخباره عليه‏السلام بليلة نهر بلخ :

        وفي الخرائج أيضا عن هارون بن رئاب ، قال : كان لي أخ جاروديّ ، فدخلت على أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام فقال لي : ما فعل أخوك الجاروديّ ؟ قلت : صالح ، هو مَرْضيّ عند القاضي وعند الجيران في الحالات كلّها غير انّه لا يقرّ بولايتكم ، فقال : ما يمنعه من ذلك ؟ قلت : يزعم انّه يتورع ، قال : فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ .

        فقلت لأخي حين قدمت عليه : ثكلتك امّك دخلت على أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام فسألني عنك ، فأخبرته انّك مرضيّ عند الجيران وعند القاضي في الحالات كلّها غير انّه لا يقرّ بولايتكم ، فقال : ما يمنعه من ذلك ؟ قلت : يزعم انّه يتورع ، فقال : أين كان

 

(1) الخرائج 1:294 ، عنه البحار 47:115 ، ح 151 .
(2) الخرائج 2:616 ، عنه البحار 47:99 ، ح 118 .
(412)

 

ورعه ليلة نهر بلخ ؟ قال : أخبرك أبو عبد اللّه‏ بهذا ؟ قلت : نعم ، قال : اشهد انّه حجة ربّ العالمين ، قلت : أخبرني عن قصتك ؟

        قال : نعم ، أقبلت من وراء نهر بلخ ، فصحبني رجل معه وصيفة فارهة الجمال ، فلمّا كنّا على النهر قال لي : امّا أن تقتبس لنا نارا فأحفظ عليك وامّا أن أقتبس نارا فتحفظ عليّ ، فقلت : إذهب واقتبس وأحفظ عليك ، فلمّا ذهب قمت إلى الوصيفة وكان منّي اليها ما كان ، واللّه‏ ما أفشت ولا أفشيت لأحد ولم يعلم بذلك الاّ اللّه‏ .

        فخرجت من السنة الثانية وهو معي فأدخلته على أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام فذكرت الحديث ، فما خرج من عنده حتى قال بامامته

(1) .

الرابعة عشرة : فيما شاهده داوُد الرَقي من الآيات :

        وفي الخرائج انّ داوُد الرَقي قال : كنت عند أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام فقال لي : ما لي أرى لونك متغيرا ؟ قلت : غيّره دَين فادح عظيم ، وقد هممت بركوب البحر إلى السند لاتيان أخي فلان ، قال : إذا شئت فافعل ، قلت : تروّعني عنه أهوال البحر وزلازله .

        فقال : يا داوُد انّ الذي يحفظك في البرّ هو حافظك في البحر ، يا داوُد لولانا ما أطردت الأنهار ولا أينعت الثمار ، ولا اخضرّت الأشجار ، قال داوُد : فركبت البحر حتى اذا كنت بحيث ما شاء اللّه‏ من ساحل البحر بعد مسيرة مائة وعشرين يوما ، خرجت قبل الزوال يوم الجمعة ، فاذا السماء متغيّمة واذا نور ساطع من قرن السماء إلى جدد الأرض وإذا صوت خفيّ : يا داوُد هذا أوان قضاء دينك ، فارفع رأسك قد سلمت .

        قال : فرفعت رأسي انظر النور ونوديت : عليك بما وراء الأكمة الحمراء ، فأتيتها فاذا بصفائح ذهب أحمر ، ممسوح أحد جانبيه وفي الجانب الآخر مكتوب :

        « هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ »

(2) .

        قال : فقبضتها ولها قيمة لا تُحصى ، قلت : لا أحدث فيها حتى آتي المدينة ، فقدمتها فدخلت على أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام ، فقال لي : يا داوُد انما عطاؤنا لك النور الذي سطع لك لا ما ذهبت إليه من الذهب والفضة ، ولكن هو لك هنيئا مريئا عطاء من ربّ كريم ، فاحمد اللّه‏ .

        قال داوُد : فسألت معتبا خادمه (عن عمل الامام في ذلك الوقت ومكانه) فقال : كان في ذلك الوقت الذي تصفه يحدّث أصحابه منهم خَيْثَمَة وحمران وعبد الأعلى ، مقبلاً عليهم بوجهه يحدّثهم بمثل ما ذكرت ، فلمّا حضرت الصلاة قام فصلّى بهم .

        قال داوُد : فسألت هؤلاء جميعا فحكوا لي حكاية معتّب

(3) .

 

(1) الخرائج 2:617 ، عنه البحار 47:156 ، ح 220 .
(2) ص : 39 .
(413)

 

الخامسة عشرة : في إحيائه محمد بن الحنفية للسيد الحميري بإذن اللّه‏ :

        روي في مدينة المعاجز عن الثاقب في المناقب انّ السيد أبا هاشم إسماعيل بن محمد الحميري قال : دخلت على الصادق جعفر بن محمد عليهم‏السلام وقلت : يا ابن رسول اللّه‏ بلغني انّك تقول فيّ انّه ليس على شيء ، وأنا قد أفنيت عمري في محبّتكم وهجرت الناس فيكم في كيت وكيت ، فقال : ألست القائل في محمد بن الحنفية :

 

 حتى متى ؟ والى متى ؟ وكم المدى ؟  يابن الوصي وأنت حيّ تُرزق  تثوى برضوى لا تزال ولا تُرى  وبنا اليك من الصبابة أولق

        وأن محمد بن الحنفية قام بشعب رضوى ، أسد عن يمينه ونمر عن شماله يؤتى برزقه غدوة وعشيّة ؟! (أي انّه لا يزال حيّ يرزق كما هي عقيدة التابعين له وهم الكيسانية) ويحك انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وعليّا والحسن والحسين عليهم‏السلام كانوا خيرا منه وقد ذاقوا الموت .

        قال : فهل لك على ذلك من دليل ؟ قال : « نعم انّ أبي أخبرني انّه كان قد صلّى عليه وحضر دفنه وأنا أريك آية » فأخذ بيده فمضى به إلى قبر وضرب بيده عليه ودعا اللّه‏ تعالى ، فانشق القبر عن رجل أبيض الرأس واللحية ، فنفض التراب عن رأسه ووجهه وهو يقول : يا أبا هاشم تعرفني ؟ قال : لا ، قال : أنا محمد بن الحنفية انّ الامام بعد الحسين بن عليّ ، عليّ بن الحسين ، ثم محمد بن عليّ ، ثم هذا ، ثم أدخل رأسه في القبر وانضمّ عليه القبر .

        فقال اسماعيل بن محمد عند ذلك :

 

 تجعفرت بسم اللّه‏ واللّه‏ اكبر  وأيقنت انّ اللّه‏ يعفو ويغفر  ودنت بدين غير ما كنت دائنا  به ونهاني سيد الناس جعفر  فقلت له هبني تهوّدت برهة  والاّ فديني دين من يتنصّر  (ولست بغال ما حييت وراجعا  الى ما عليه كنت أخفي وأظهر  ولا قائلاً قولاً لكيسان بعدها  وإن عاب جهّالٌ مقالي وأكثروا)(1) فانّي إلى الرحمن من ذلك تائب    وانّي قد اسلمت واللّه‏ أكبر

السادسة عشرة : في إخباره عليه‏السلام لأبي بصير :

        روى الشيخ المفيد في الارشاد عن أبي بصير انّه قال : دخلت المدينة وكانت معي جويرية لي ، فاصبت منها ثم خرجت إلى الحمام ، فلقيت أصحابنا الشيعة وهم

 

(1) الخرائج 2:622 ، عنه البحار 47:100 ، ح 120 .
 (2) الثاقب في المناقب : 395 ، الباب التاسع ، الفصل الاول ، عنه مدينة المعاجز .
(414)

 

متوجّهون إلى جعفر بن محمد عليهماالسلام ، فخفت أن يسبقوني ويفوتني الدخول إليه ، فمشيت معهم حتى دخلت الدار ، فلمّا مثّلت بين يدي أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام نظر اليّ ثم قال : « يا أبا بصير اما علمت انّ بيوت الانبياء وأولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب ؟ » .

        فاستحييت وقلت له : يا ابن رسول اللّه‏ انّي لقيت أصحابنا فخشيت أن يفوتني الدخول معهم ، ولن أعود إلى مثلها وخرجت

(1) .

السابعة عشرة : في إخباره عليه‏السلام بما في ضمير الشخص :

        روى الشيخ الكليني انّه أتى إلى أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام رجل فقال : يا ابن رسول اللّه‏ رأيت في منامي كأنّي خارج من مدينة الكوفة في موضع أعرفه ، وكأنّ شبحا من خشب أو رجلاً منحوتا من خشب على فرس من خشب ، يلوّح بسيفه وأنا أشاهده فزعا مرعوبا .

        فقال له عليه‏السلام : أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته ، فاتّق اللّه‏ الذي خلقك ثم يميتك ، فقال الرجل : أشهد انّك قد أوتيت علما استنبطته من معدنه ، أُخبرك يا ابن رسول اللّه‏ عمّا قد فسّرت لي ، إنّ رجلاً من جيراني جاءني وعرض عليّ ضيعته ، فهممت أن أملكها بوكس كثير لمّا عرفت انّه ليس لها طالب غيري .

        فقال أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام : وصاحبك يتولاّنا ويبرأ من عدوّنا ؟ فقال : نعم يا ابن رسول اللّه‏ ، لو كان ناصبيّا حلّ لي اغتياله ؟ فقال : أدّ الأمانة لمن ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو إلى قاتل الحسين عليه‏السلام

(2) .

الثامنة عشرة : في حفظ اللّه‏ تعالى إيّاه من القتل :

        روى السيد ابن طاووس عن الربيع حاجب المنصور انّه قال : دعاني المنصور يوما ، قال : أما ترى ما هو هذا يبلغني عن هذا الحبشي ؟ قلت : ومن هو يا سيدي ؟ قال : جعفر بن محمد ، واللّه‏ لاستأصلنّ شأفته .

        ثم دعا بقائد من قوّاده ، فقال : انطلق إلى المدينة في ألف رجل ، فاهجم على جعفر بن محمد ، وخذ رأسه ورأس ابنه موسى بن جعفر في مسيرك ، فخرج القائد من ساعته حتى قدم المدينة وأخبر جعفر بن محمد ، فأمر فأُتي بناقتين فأوثقهما على باب البيت ، ودعا بأولاده موسى واسماعيل ومحمد وعبد اللّه‏ ، فجمعهم وقعد في المحراب وجعل يُهَمْهِم .

        قال أبو بصير : فحدّثني سيدي موسى بن جعفر انّ القائد هجم عليه فرأيت

 

(1) الارشاد : 273 .
(2) الكافي 8:293 ، ح 448 ، عنه البحار 47:155 ، ح 218 .
(415)

 

أبي وقد همهم بالدعاء ، فأقبل القائد وكلّ من كان معه قال : خذوا رأسي هذين القائمين فاجتزّوا رأسهما ، ففعلوا وانطلقوا إلى المنصور ، فلمّا دخلوا عليه اطّلع المنصور في المخلاة التي كان فيها الرأسان ، فاذا هما رأسا ناقتين .

        فقال المنصور : أي شيء هذا ؟ قال : يا سيدي ما كان بأسرع من انّي دخلت البيت الذي فيه جعفر بن محمد فدار ، رأسي ولم أنظر ما بين يدي ، فرأيت شخصين قائمين خُيّل لي انّهما جعفر بن محمد وموسى ابنه فأخذت رأسيهما ، فقال المنصور : اكتم عليّ ، فما حدّثت به أحدا حتى مات

(1) .

* * *

 

(1) مهج الدعوات : 214 ، ذكر ادعية الامام الصادق عليه‏السلام ، عنه البحار 47:204 ، ح 46 .
(416)

 

الفصل الرابع

في وفاة الامام جعفر الصادق عليه‏السلام

        توفى الامام الصادق عليه‏السلام في شهر شوال سنة (148) بالعنب المسموم الذي أطعمه به المنصور ، وكان عمره الشريف حين استشهاده خمسا وستين سنة ، ولم يُعيّن في الكتب المعتبرة اليوم الذي توفي فيه من شهر شوال ، نعم قال صاحب جنّات الخلود ـ المتتبع الماهر ـ : انّه توفي في اليوم الخامس والعشرين من ذلك الشهر

(1) .

        وقيل انّ وفاته عليه‏السلام كانت في النصف من رجب يوم الاثنين ، ونقل عن مشكاة الأنوار انّه : دخل بعض أصحاب أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام في مرضه الذي توفي فيه إليه وقد ذبل ، فلم يبقى الاّ رأسه فبكى ، فقال : لأيّ شيء تبكي ؟ فقال : لا أبكي وأنا أراك على هذه الحال ؟ قال : لاتفعل فانّ المؤمن تعرض كل خير ، إن قطع أعضاؤه كان خيرا له ، وان ملك ما بين الشرق والغرب كان خيرا له(2) .

        وروى الشيخ الطوسي (وكذلك الكليني) عن سالمة مولاة أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام انّها قالت : كنت عند أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام حين حضرته الوفاة فأغمي عليه ، فلمّا أفاق قال : أعطوا الحسن بن عليّ بن الحسين ـ وهو الأفطس ـ سبعين دينارا ، وأعطوا فلانا كذا وكذا ، وفلانا كذا وكذا ، فقلت : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ؟ فقال : ويحك أما تقرئين القرآن ؟ قلت : بلى ، قال : أما سمعت قول اللّه‏ عزوجل :

        «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّه‏ُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ »

(3).

        فقال : أتريدين على أن لا أكون من الذين قال اللّه‏ تبارك وتعالى : (الذين يصلون ما أمر اللّه‏ به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) نعم يا سالمة انّ اللّه‏ خلق الجنة وطيّبها وطيّب ريحها ، وانّ ريحها لتوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم(4) .

        روى الشيخ الكليني عن الامام موسى الكاظم عليه‏السلام انّه قال : أنا كفّنت أبي في ثوبين شطويّين (مصريين) كان يحرم فيهما ، وفي قميص من قُمصه ، وفي عمامة كانت لعليّ بن الحسين عليه‏السلام وفي برد اشتراه بأربعين دينارا(5) .

 

(1) جنات الخلود : 29 .
(2) مشكاة الأنوار : 41 ، الباب الاول ، الفصل السابع ، في الرضا ، البحار 71:109 .
(3) الرعد : 21 .
(4) راجع الكافي 7:55 ، ح 10 ، كتاب الوصايا ، الغيبة للطوسي : 197 .
(417)

 

        وروى أيضا انّه لمّا قبض أبو جعفر عليه‏السلام أمر أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام بالسراج في البيت الذي كان يسكنه حتى قُبض أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام ، ثم أمر أبو الحسن عليه‏السلام بمثل ذلك في بيت أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام (1).

        وروى الشيخ الصدوق عن أبي بصير انّه قال : دخلت على أمّ حميدة أعزّيها بأبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام فبكت وبكيت لبكائها ، ثم قالت : يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد اللّه‏ عليه‏السلام عند الموت لرأيت عجبا ، فتح عينيه ثم قال : اجمعوا لي كل مَنْ بيني وبينه قرابة .

        قالت : فلم نترك أحدا الاّ جمعناه ، قالت : فنظر اليهم ثم قال : انّ شفاعتنا لا تنال مستخفّا بالصلاة

(2) .

        ورُوي عن عيسى بن داب انّه قال : لما حُمل أبو عبد اللّه‏ جعفر بن محمد عليه‏السلام على سريره واُخرج إلى البقيع ليدفن قال أبو هريرة (العجلي من شعراء أهل البيت المهاجرين هذه الأبيات) :

 

 أقول وقد راحوا به يحملونه  على كاهل من حامِليه وعاتق  أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى  ثبيرا ثوى من رأس علياء شاهق  غداة حثا الحاثون فوق ضريحه  تُرابا وأولى كان فوق المفارق(3)         قال المسعودي : دفن الصادق عليه‏السلام بالبقيع عند أبيه وجدّه ، وكان عمره خمسا وستين سنة ، وقيل انّه مات مسموما ، وعند قبورهم بالبقيع حجر مرمر مكتوب عليه :

        « بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، الحمد للّه‏ مبيد الأمم ومحيي الرِمم ، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سيدة نساء العالمين ، وقبر الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، وعليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، ومحمد بن عليّ ، وجعفر بن محمد رضي اللّه‏ عنهم » وأقول : صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين .

        روي عن داوُد الرَقي انّه قال : وفد من خراسان وافد يكنّى أبا جعفر ، واجتمع إليه جماعة من أهل خراسان ، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعا ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة ، فورد الكوفة فنزل وزار أمير المؤمنين عليه‏السلام ورأى في ناحية رجلاً حوله جماعة ، فلمّا فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء ويسمعون من الشيخ .

        فسألهم عنه ، فقالوا : هو أبو حمزة الثمالي ، قال : فبينما نحن جلوس إذ أقبل أعرابي ، فقال : جئت من المدينة وقد مات جعفر بن محمد عليه‏السلام ، فشهق أبو حمزة ثم

 
(1) الكافي 1:396 ، ح 8 ، عنه البحار 47:7 ، ح 19 .
(2) الكافي 3:251 ، عنه البحار 47:7 ، ح 22 .
(3) ثواب الاعمال : 228 ، باب عقاب من استخفّ بصلاته ، عنه البحار 47:2 .
 (4) البحار 47:333 ، ح 24 ، باب 10 ، عن كتاب مقتضب الأثر ، وفي المناقب 4:278 .
(418)

 

ضرب بيده الأرض ، ثم سأل الاعرابي : هل سمعت له بوصيّة ؟ قال : أوصى إلى ابنه عبد اللّه‏ ، وإلى ابنه موسى ، وإلى المنصور .

        فقال أبو حمزة الحمد للّه‏ الذي لم يضلّنا ، دلّ على الصغير ، ومنّ على الكبير ، وستر الأمر العظيم ، ووثب إلى قبر أمير المؤمنين عليه‏السلام فصلّى وصلّينا ، ثم أقبلتُ عليه وقلت له : فسّر لي ما قلته ؟ فقال : بيّن أنّ الكبير ذو عاهة ، ودلّ على الصغير بأن أدخل يده مع الكبير ، وستر الأمر العظيم بالمنصور حتى إذا سأل المنصور من وصيّه ؟ قيل : أنت

(1) .

        يقول المؤلف : انّ قبر أمير المؤمنين عليه‏السلام كان مخفيّا من حين وفاته إلى زمن الامام الصادق عليه‏السلام ولم يطلع عليه أحد الاّ أولاد وأبناء أهل البيت ، وكان الامام زين العابدين والامام محمد الباقر يزورانه مرارا ولم يكن معهما أحد الاّ الرواحل ، لكنّ الشيعة علمت بموضع قبره عليه‏السلام في زمن الصادق عليه‏السلام وذهبت إلى زيارته ، وذلك لكثرة زيارة الصادق عليه‏السلام للقبر الشريف لمّا كان بالحيرة ، سيّما انّه كان يصطحب معه خواص شيعته ويريهم موضع القبر الشريف .

        وكان هذا إلى ايام خلافة الرشيد ، فانجلى القبر انذاك تماما فصار مزار الداني والقاصي والحاضر والبادي ، اما أبو حمزة الثمالي فقد ذهب إلى زيارة القبر الشريف مع الامام زين العابدين عليه‏السلام .

        روى الشيخ الكليني والطوسي وابن شهر آشوب (واللفظ للكليني) عن أبي أيوب النّحوي انّه قال : بعث اليّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل ، فأتيته فدخلت عليه وهو جالس على كرسيّ وبين يديه شمعة وفي يده كتاب ، قال : فلمّا سلّمت عليه رمى بالكتاب اليّ وهو يبكي .

        فقال لي : هذا كتاب محمد بن سليمان يُخبرنا انّ جعفر بن محمد قد مات ، فانّا للّه‏ وانّا اليه راجعون ـ ثلاثا ـ وأين مثل جعفر ؟

        ثم قال لي : اكتب ، قال : فكتبت صدر الكتاب ، ثم قال : أكتب إن كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه ، قال : فرجع إليه الجواب انّه قد أوصى إلى خمسة وأحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ، وعبد اللّه‏ ، وموسى ، وحميدة

(2) .

        قال العلامة المجلسي رحمه‏الله : كان الامام عليه‏السلام يعلم بعلم الامامة انّ المنصور سيقتل وصيّه ، فأشرك هؤلاء النفر ظاهرا فكتب اسم المنصور اوّلاً ، لكنّ الامام موسى بن جعفر عليه‏السلام هو الذي كان مخصوصا بالوصية دونهم ، وكان أهل العلم يعرفون ذلك كما

 

(1) الخرائج 1:328 ، عنه البحار 47:251 ، ح 23 .
(2) الكافي 1:247 ، ح 13 ، باب النص على موسى بن جعفر عليه‏السلام .
(419)

 

مضى في رواية أبي حمزة الثمالي ، فراجع(1) .

 

(1) جلاء العيون : 523 .
(420)

 

الباب التاسع

في تاريخ باب الحوائج إلى اللّه‏ تعالى

الامام موسى الكاظم عليه‏السلام

(421)

 

(422)

 

الفصل الاول

في ولادته واسمه وكنيته ولقبه عليه‏السلام

        كانت ولادته عليه‏السلام السعيدة في يوم الأحد في السابع من شهر صفر سنة (128) ه في الابواء ـ منزل بين مكة والمدينة ـ اسمه الشريف موسى ، وكنيته المشهورة أبو الحسن وأبو ابراهيم ، وألقابه الكاظم والصابر والصالح والأمين ، ولقبه المشهور الكاظم ، وذلك لكثرة كظمه الغيظ وعدم دعائه على أعدائه مع ما لقى منهم ، حتى ان الامام عليه‏السلام حينما كان في السجن كانوا ينصتون إليه في الخفاء رجاء ان يسمعوا منه دعاء عليهم إلاّ انهم لم يسمعوا ذلك منه قط .

        قال ابن الاثير ـ وهو من متعصبي أهل السنّة ـ : « وكان يلّقب الكاظم لأنّه كان يُحسن الى من يسيء إليه ، وكان هذا عادته ابداً »

(1) .

        قد قال له أصحابه تقية : العبد الصالح أو الفقيه أو العالم وغير ذلك ، ويعرف بباب الحوائج عند الناس ، والتوسّل به لشفاء الامراض الظاهريّة والباطنيّة سيّما وجع الاعضاء والعين نافع ومجرّب .

        وكان نقش خاتمه عليه‏السلام : (حسبي اللّه‏)

(2) وعلى رواية : (الملك للّه‏ وحده)(3) ، وكانت أمّه حميدة المصفّاة من الأشراف الأعاظم ، وكان الامام الصادق عليه‏السلام يقول: حميدة مصفّاة من الأدناس كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أُدّيت اليّ كرامة من اللّه‏ لي والحجّة من بعدي(4) .

        روى الشيخ الكليني والقطب الراوندي وغيرهما انّه : دخل ابن عكاشة بن محصن الأسدي على أبي جعفر عليه‏السلام ، وكان أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام قائماً عنده فقدّم إليه عنباً ، فقال : حبّة حبّة يأكله الشيخ الكبير والصبي الصغير ، وثلاثة وأربعة من يظنّ أنّه لا يشبع ، وكله حبّتين حبّتين فإنّه يُستحب .

        فقال لأبي جعفر عليه‏السلام : لأيّ شيء لا تزوّج أبا عبد اللّه‏ عليه‏السلام فقد أدرك التزويج ؟ قال : وبين يديه صرّة مختومة ، فقال : أما إنّه سيجيء نخّاس من أهل بربر فينزل دار

 

(1) الكامل في التاريخ 6:164 .
(2) الكافي 6:473 .
(3) البحار 48:11 .
(4) البحار 48:6 ، ح 7 ، باب 1 ، عن الكافي 1:477 ، ح 2 .
(423)

 

ميمون ، فنشتري له بهذه الصرّة جارية ، قال: فأتى لذلك ما أتى ، فدخلنا يوماً على أبي جعفر عليه‏السلام فقال : ألا أخبركم عن النخّاس الذي ذكرته لكم ؟ قد قدم فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرّة منه جارية .

        قال : فأتينا النخّاس ، فقال : قد بعت ما كان عندي الاّ جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الأخرى ، قلنا : فأخرجهما حتى ننظر اليهما فأخرجهما ، فقلنا : بكم تبيعنا هذه [ الجارية [المتماثلة ؟ قال : بسبعين ديناراً ، قلنا : أحسن ، قال : لا أُنقص من سبعين ديناراً ، قلنا له : نشتريها منك بهذه الصرّة ما بلغت ولا ندري ما فيها .

        وكان عنده رجل أبيض الرأس واللحية قال : فكّوا [ الخاتم ] وزنوا ، فقال النخّاس : لا تفكّوا فانّها إن نقصت حبة من سبعين دينارا لم أبايعكم ، فقال الشيخ : ادنوا ، فدنونا وفككنا الخاتم ووزنّا الدنانير فإذا هي سبعون ديناراً لا تزيد ولا تنقص ، فأخذنا الجارية فادخلناها على أبي جعفر عليه‏السلام وجعفر عليه‏السلام قائم عنده .

        فأخبرنا أبا جعفر عليه‏السلام بما كان ، فحمد اللّه‏ وأثنى عليه ثم قال لها : ما اسمك ؟ قالت : حميدة ، فقال: حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة فوهبها لابنه عليه‏السلام

(1) .

        يقول المؤلف :

        الظاهر عندي من بعض الروايات انّها كانت في غاية العلم والفقاهة والتبحر في أحكام الدين ، حتى ان الامام الصادق عليه‏السلام كان يأمر النساء بالرجوع إليها في أخذ الأحكام .

        وروى الشيخ الكليني والصفّار وغيرهما عن أبي بصير انّه قال : كنت مع أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام في السّنة التي ولد فيها ابنه موسى عليه‏السلام ، فلمّا نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام الغداء ولأصحابه ، واكثره وأطابه ، فبينا نحن نتغدّى إذْ أتاه رسول حميدة : أنّ الطلق قد ضربني ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا .

        فقام أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام فرحا مسرورا ، فلم يلبث أن عاد الينا حاسرا عن ذراعيه ضاحكا سنّه ، فقلنا : أضحك اللّه‏ سنّك وأقرّ عينيك ما صنعت حميدة ؟ فقال : وهب اللّه‏ لي غلاما وهو خير من برأ اللّه‏ ، ولقد خبّرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها .

        قلت : جعلت فداك وما خبّرتك عنه حميدة ؟ قال : ذكرت انّه لمّا وقع من بطنها وقع واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه إلى السماء ، فأخبرتها انّ تلك امارة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وامارة الامام من بعده ...

(2)

        وروى الشيخ البرقي (في المحاسن) عن منهال القصاب قال : خرجت من مكة وأنا أريد المدينة ، فمررت بالأبواء وقد ولد لأبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام ، فسبقته إلى المدينة

 

(1) الكافي 1:476 ، الخرائج 1:286 ح20 ، البحار 48:5 ح5 .
(2) بصائر الدرجات 9:460 ، باب 12 ، ح 4 ، عنه البحار 48:2 ، ح 2 ، والعوالم 21:19 ، ح 1 .
(424)

 

ودخل بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثا ، فكنت آكل فيمن يأكل ، فما آكل شيئا إلى الغد حتى أعود فاكل ، فمكثت بذلك ثلاثا أطعم حتى أرتفق ثم لا أطعم شيئا إلى الغد(1) .

        قيل للصادق عليه‏السلام : ما بلغ بك من حبّك ابنك موسى ؟ قال : وددت أن ليس لي ولد غيره حتى لا يشركه في حبّي له أحد(2) .

        وروى الشيخ المفيد عن يعقوب السرّاج انّه قال : دخلت على أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى عليه‏السلام وهو في المهد ، فجعل يسارّه طويلاً ، فجلست حتى فرغ ، فقمت إليه فقال : أُدن إلى مولاك فسلّم عليه ، فدنوت فسلّمت عليه ، فردّ عليّ بلسان فصيح ، ثم قال لي : إذهب فغيّر اسم ابنتك التي سمّيتها أمس ، فانّه اسم يبغضه اللّه‏ . وكانت وُلدت لي بنت فسمّيتها بالحميراء ، فقال أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام : انتَهِ إلى أمره ترشد ، فغيّرت اسمها(3) .

* * *

 

(1) العوالم 21:22 ، ح 3 ، والبحار 48:4 ، ح 4 ، عن المحاسن : 418 ، كتاب المأكل ، باب 24 ، ح 187 .
(2) العوالم (في المستدرك) 21:69 ، ومثله البحار 78:209 ، ح 78 .
(3) الارشاد : 290 ، عنه البحار 48:19 ، ح 24 ، والعوالم 21:31 ، ح 1 .
(425)

 

الفصل الثاني

في مكارم أخلاقه ونبذة من عبادته وسخائه ومناقبه الفاخرة

        قال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في حقّه : هو الامام الكبير القدر ، العظيم الشأن ، الكبير المجتهد الجاد في الاجتهاد ، المشهور بالعبادة ، المواظب على الطاعات ، المشهور بالكرامات ، يبيت الليل ساجدا وقائما ، ويقطع النهار متصدّقا وصائما ، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدي عليه دُعي كاظما ، كان يجازي المسيء باحسانه إليه ، ويقابل الجاني بعفوه عنه ، ولكثرة عبادته كان يسمّى بالعبد الصالح ، ويعرف في العراق بباب الحوائج إلى اللّه‏ لنجح مطالب المتوسّلين إلى اللّه‏ تعالى به ، كراماته تحار منها العقول ، وتقضي بانّ له عند اللّه‏ تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول

(1) .

        والخلاصة ، انّ الامام موسى الكاظم عليه‏السلام كان أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم وأكرمهم ، وروي انّه كان يقوم الليل للتهجد والعبادة حتى الفجر فيصلّي صلاة الفجر ، ويبدأ بالتعقيب إلى طلوع الشمس ثم يظلّ ساجدا إلى قبيل الزوال ، وكان كثيرا ما يقول : « اللهم انّي أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب »(2) ويكرر هذا الدعاء ، ومن دعائه أيضا : « عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك »(3) .

        وكان يبكي من خوف اللّه‏ كثيرا حتى تجري دموعه على لحيته ، وكان اكثر صلة لرحمه من غيره ، واكثر صلة لفقراء المدينة حتى انّه كان يحمل اليهم كلّ ليلة الذهب والفضة والخبز والتمر وهم لا يعرفونه ، ومن كرمه اعتاقُه الف مملوك .

        قال أبو الفرج : كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير ، وكانت صراره ما بين ثلاثمائة إلى المائتين دينار ، فكانت صرار موسى مثلاً

(4) .

        وروي عنه كثيرا ، وكان أفقه أهل زمانه واحفظهم لكتاب اللّه‏ ، وأحسنهم صوتا لتلاوة القرآن ويتلوه بحزن حتى كان يبكي كلّ من سمعه ، ولقّبه أهل المدينة بزين المجتهدين ، وقيل له الكاظم لكظم غيظه وصبره على ما لقى من ظلم الظالمين حتى قتل في سجنهم ، وكان يقول انّي لأستغفر كلّ يوم خمسة آلاف مرّة .

        قال الخطيب البغدادي ـ وهو من أعاظم أهل السنة والموثقين والمؤرخين

 

(1) مطالب السؤول : 83 ، الباب السابع .
(2) البحار 48:107 .
(3) المناقب 4:318 ، ولكن بدل عظم قبح .
(4) مقاتل الطالبيين : 332 .
(426)

 

القدماء ـ :

        كان موسى بن جعفر يدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده ، وروى اصحابنا انّه دخل مسجد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فسجد سجدة في أوّل الليل ، وسمع وهو يقول في سجوده : « عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك ، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة » فجعل يردّدها حتى أصبح

(1) .

        وفي خبر انّ المأمون قال لما رأى الامام عليه‏السلام داخلاً على هارون الرشيد : « إذ دخل شيخ مسخّد قد انهكته العبادة كانّه شن بال قد كلم السجود وجهه وانفه » .

        ونقرأ في ضمن الصلوات الواردة عليه : « حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة »

(2) .

        يقول المؤلف : تجدر الاشارة هنا إلى بعض الروايات في مناقبه ومفاخره عليه‏السلام :

الاُولى : في سَجَداته وعبادته :

        روى الشيخ الصدوق عن عبد اللّه‏ القروي انّه قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي : ادن ، فدنوت حتى حاذيته ، ثم قال لي : أشرف على البيت في الدار فأشرفت ، فقال : ما ترى في البيت ؟ قلت : ثوبا مطروحا ، فقال : انظر حسنا ، فتأمّلت ونظرت فتيقّنت ، فقلت : رجلاً ساجدا .

        فقال لي : تعرفه ؟ قلت : لا ، قال : هذا مولاك ، قلت : ومن مولاي ؟ فقال : تتجاهل عليّ ؟ فقلت : ما أتجاهل ولكنّي لا أعرف لي مولى ، فقال : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‏السلام ، انّي أتفقّده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الاوقات الاّ على الحال التي أخبرك بها .

        انّه يصلّي الفجر فيعقّب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتى تزول الشمس ، وقد وكّل من يترصّد له الزوال ، فلست أدري متى يقول الغلام : قد زالت الشمس ، إذ يثب فيبتديء بالصلاة من غير أن يجدّد وضوءا ، فاعلم انّه لم ينم في سجوده ولا أغفى ، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر .

        فاذا صلّى العصر سجد سجدة ، فلا يزال ساجدا إلى أن تغيب الشمس ، فاذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلّى المغرب من غير أن يحدث حدثا ، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة ، فاذا صلّى العتمة أفطر على شويّ يؤتى به ثم يجدّد الوضوء ثم يسجد ، ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة ثم يقوم فيجدّد الوضوء ، ثم

 

(1) تاريخ بغداد 13:27 ، رقم 6987 .
(2) مصباح الزائر : 382 .