(427)

 

يقوم فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتى يطلع الفجر ، فلست أدري متى يقول الغلام : انّ الفجر قد طلع ، إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل إليّ .

        فقلت : اتّق اللّه‏ ولا تحدثنّ في أمره حدثا يكون منه زوال النعمة ، فقد تعلم انّه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءا الاّ كانت نعمته زائلة ، فقال : قد أرسلوا اليّ في غير مرّة يأمروني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك ، وأعلمتهم انّي لا أفعل ذلك ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني ...

(1)

الثانية : في دعائه للخلاص من السجن :

        وروى أيضا عن ماجِيلَوَيه عن عليّ بن ابراهيم عن أبيه انّه قال : سمعت رجلاً من أصحابنا يقول : لما حبس الرشيد موسى بن جعفر عليه‏السلام جنّ عليه الليل ، فخاف ناحية هارون أن يقتله فجدّد موسى عليه‏السلام طهوره واستقبل بوجهه ، القبلة وصلّى للّه‏ عزوجل أربع ركعات ثم دعا بهذه الدعوات فقال :

        « يا سيدي نجّني من حبس هارون وخلّصني من يده ، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين ، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر ، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والامعاء ، خلّصني من يدي هارون » .

        قال : فلمّا دعا موسى عليه‏السلام بهذه الدعوات أتى هارون رجل أسود في منامه وبيده سيف قد سلّه ، فوقف على رأس هارون وهو يقول : يا هارون أطلق عن موسى بن جعفر والاّ ضربت علاوتك بسيفي هذا ، فخاف هارون من هيبته ثم دعا الحاجب فجاء الحاجب ، فقال له : إذهب إلى السجن فأطلق عن موسى بن جعفر .

        قال : فخرج الحاجب فقرع باب السجن فأجابه صاحب السجن ، فقال : من ذا ؟ قال : انّ الخليفة يدعو موسى بن جعفر فاخرجه من سجنك وأطلق عنه ، فصاح السجّان : يا موسى انّ الخليفة يدعوك .

        فقام موسى عليه‏السلام ... وهو يقول : لا يدعوني في جوف هذا الليل الاّ لشرّ يريد بي ، فقام باكيا حزينا مغموما آيسا من حياته فجاء إلى هارون... فقال : سلام على هارون، فردّ عليه السلام، ثم قال له هارون : ناشدتك باللّه‏ هل دعوت في جوف هذه الليلة بدعوات ؟ فقال : نعم ، قال : وما هنّ ؟

        فقال : جدّدت طهورا وصلّيت للّه‏ عزوجل أربع ركعات ، ورفعت طرفي إلى السماء وقلت : « يا سيدي خلّصني من يد هارون وشرّه » وذكر له ما كان من دعائه ، فقال هارون : قد استجاب اللّه‏ دعوتك يا حاجب أطلق عن هذا ، ثم دعا بخلع فخلع عليه

 

(1) عيون الأخبار 1:106 ، ح 10 ، عنه البحار 48:210 ، ح 9 ، والعوالم 21:434 ، ح 1 .
(428)

 

ثلاثا وحمله على فرسه واكرمه وصيّره نديما لنفسه .

        ثم قال : هات الكلمات ، فعلّمه ، فأطلق عنه وسلّمه إلى الحاجب ليسلّمه إلى الدار ويكون معه ، فصار موسى بن جعفر عليه‏السلام كريما شريفا عند هارون ، وكان يدخل عليه في كلّ خميس الى أن حبسه الثانية فلم يطلق عنه حتّى سلّمه إلى السندي بن شاهك وقتله بالسّم

(1) .

الثالثة : في هداية جارية هارون :

        انّ هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية خصيفة لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجن ، وانفذ الخادم ليتفحّص عن حالها ، فرآها ساجدة لربّها لا ترفع رأسها تقول : « قدوس سبحانك سبحانك » فاتي بها وهي ترتعد شاخصة نحو السماء بصرها ، فقال : ما شأنك ؟ قالت : هكذا رأيت العبد الصالح ، فما زالت كذلك حتى ماتت

(2) .

        ذكر ابن شهر آشوب هذه الرواية بتفصيل اكثر ، وذكرها أيضا العلامة المجلسي رحمه‏الله في جلاء العيون(3) .

الرابعة : في حسن خلقه للعمري البذيء الأخلاق :

        روى الشيخ المفيد وغيره انّ رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه‏السلام ويسبّه إذا رآه ويشتم عليّا عليه‏السلام ، فقال له بعض جلسائه يوما : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي وزجرهم أشدّ الزجر ، فسأل عن العمري ، فذكر انّه يزرع بناحية من نواحي المدينة ، فركب إليه فوجده في مزرعة له .

        فدخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري : لا توطأ زرعنا ، فتوطأه أبو الحسن عليه‏السلام بالحمار حتى وصل إليه ، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له : كم غرمت في زرعك هذا ؟ فقال له : مائة دينار ، قال : وكم ترجو أن تصيب ؟ قال : لست أعلم الغيب ، قال له : انّما قلت لك ترجو أن يجيئك فيه ، قال : أرجو أن يجيئني فيه مائتا دينار .

        قال : فأخرج أبو الحسن عليه‏السلام صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال : هذا زرعك على حاله واللّه‏ يرزقك فيه ما ترجو ، قال : فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسّم اليه أبو الحسن عليه‏السلام وانصرف .

 

(1) عيون الاخبار 1:93 ، ح 13 ، عنه البحار 48:219 ، ح 20 ، والعوالم 21:287 ، ح 1 .
(2) المناقب 4:297 ، ملخّصا .
(3) جلاء العيون : 537 .
(429)

 

        قال : وراح إلى المسجد فوجد العمري جالسا ، فلمّا نظر إليه قال : « اللّه‏ أعلم حيث يجعل رسالته » ، قال : فوثب أصحابه إليه ، فقالوا له : ما قصتك قد كنت تقول غير هذا ؟ قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن وجعل يدعو لأبي الحسن عليه‏السلام ، فخاصموه وخاصمهم ، فلمّا رجع أبو الحسن عليه‏السلام إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري : أيما كان خيرا ما أردتم أو ما أردت ، إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شرّه

(1) .

الخامسة : في جلوسه عليه‏السلام يوم النيروز بأمر المنصور :

        روى ابن شهر آشوب انّه : حكي انّ المنصور تقدّم إلى موسى بن جعفر عليه‏السلام بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز وقبض ما يُحمل إليه ، فقال عليه‏السلام : انّي قد فتّشت الاخبار عن جدّي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فلم أجد لهذا العيد خبرا ، وانّه سنّة للفرس ومحاها الاسلام ، ومعاذ اللّه‏ أن نحيي ما محاه الاسلام .

        فقال المنصور : انّما نفعل هذا سياسة للجند ، فسألتك باللّه‏ العظيم الاّ جلست ، فجلس ودخلت عليه الملوك والامراء والأجناد يُهنّونه ويحملون إليه الهدايا والتحف وعلى رأسه خادم المنصور يُحصي ما يحمل .

        فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السنّ ، فقال له : يا بن بنت رسول اللّه‏ انّني رجل صلعوك لا مال لي ، أُتحفك بثلاث أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن عليّ عليه‏السلام :

 

 عجبت لمصقول علاك فرنده  يوم الهياج وقد علاك غبار  ولأسهم نفذتك دون حرائر  يدعون جدّك والدموع غزار  الاّ تغضغضت السهام وعاقها  عن جسمك الاجلال والاكبار

        قال عليه‏السلام : قبلت هديتك اجلس بارك اللّه‏ فيك ، ورفع رأسه إلى الخادم وقال : امض الى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال وما يصنع به ، فمضى الخادم وعاد وهو يقول : كلّها هبة منّي له يفعل به ما أراد ، فقال موسى عليه‏السلام للشيخ : اقبض جميع هذا المال فهو هبة منّي لك

(2) .

السادسة : في كتابه إلى الوالي يوصي فيه بحقّ مؤمن :

        نقل العلامة المجلسي في البحار في ذكر أحوال الامام موسى بن جعفر عليه‏السلام عن كتاب قضاء حقوق المؤمنين ، وهو بأسناده عن رجل من أهل الري قال : وُلّي علينا

 

(1) الارشاد : 297 ، عنه البحار 48:102 ، ح 7 ، والعوالم 21:191 ، ح 1 .
(2) المناقب 4:318 ، عنه البحار 48:108 ، والعوالم 21:189، ضمن حديث 4 .
(430)

 

بعض كتّاب يحيى بن خالد ، وكان عليّ بقايا يطالبني بها ، وخفت من إلزامي ايّاها خروجا عن نعمتي ، وقيل لي : انّه ينتحل هذا المذهب ، فخفت أن أمضي إليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أحبّ ، فاجتمع رأيي على انّي هربت إلى اللّه‏ تعالى وحججت ولقيت مولاي الصابر ـ يعني موسى بن جعفر عليه‏السلام ـ فشكوت إليه .

        فأصحبني مكتوبا نسخته : « بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، إعلم انّ للّه‏ تحت عرشه ظلاًّ لا يسكنه الاّ من أسدى إلى أخيه معروفا أو نفّس عنه كربة ، أو أدخل على قلبه سرورا ، وهذا أخوك والسلام » .

        قال : فعدت من الحج إلى بلدي ، ومضيت إلى الرجل ليلاً واستأذنت عليه وقلت : رسول الصابر عليه‏السلام ، فخرج اليّ حافيا ماشيا ، ففتح لي بابه وقبّلني وضمّني إليه ، وجعل يقبّل بين عينيّ ويكرّر ذلك كلّما سألني عن رؤيته عليه‏السلام وكلّما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشر وشكر اللّه‏ ، ثم ادخلني داره وصدّرني في مجلسه وجلس بين يدي .

        فأخرجت إليه كتابه عليه‏السلام فقبّله قائما وقرأه ثم استدعى بماله وثيابه ، فقاسمني دينارا دينارا ، ودرهما درهما ، وثوبا ثوبا ، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته ، وفي كلّ شيء من ذلك يقول : يا أخي هل سررتك ؟ فأقول : إي واللّه‏ وزدت على السرور ، ثم استدعى العمل فأسقط ما كان بأسمي وأعطاني براءة ممّا يتوّجه عليّ منه وودّعته وانصرفت عنه ، فقلت : لا أقدر على مكافاة هذا الرجل الاّ بأن أحجّ في قابل وأدعو له ، وألقي الصابر عليه‏السلام وأعرّفه فعله .

        ففعلت ولقيت مولاي الصابر عليه‏السلام ، وجعلت أحدّثه ووجهه يتهلّل فرحا، فقلت: يا مولاي هل سرّك ذلك ؟ فقال : إي واللّه‏ لقد سرّني وسرّ أمير المؤمنين ، واللّه‏ لقد سرّ جدّي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ولقد سرّ اللّه‏ تعالى

(1) .

        يقول المؤلف :

        ذكر هذه الحكاية الشيخ احمد بن فهد في كتابه (عدّة الداعي)

(2) ، باختلاف يسير ، عن يقطين جدّ الحسن بن عليّ بن يقطين ، وقال : انّه كان بالاهواز وذكر الصادق عليه‏السلام بدل الصابر ، وأشار العلامة المجلسي في كتاب (العشرة)(3) إلى رواية ابن فهد وقال : كونها من موسى بن جعفر عليه‏السلام أظهر .

السابعة : في توبة بشر الحافي بسببه :

 
(1) البحار 48:174 ، ح 16 ، والعوالم 21:426 ، ح 1 .
(2) راجع عدّة الداعي : 193 .
(3) راجع البحار كتاب العشرة 74:313 ، ضمن حديث 69 .
(431)

 

        قال العلامة الحلي في منهاج الكرامة : وعلى يده عليه‏السلام تاب بشر الحافي ، لانّه عليه‏السلام اجتاز على داره ببغداد فسمع الملاهي واصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار ، فخرجت جارية وبيدها قُمامة النّقل ، فرمت بها في الدرب ، فقال لها : يا جارية صاحب هذا الدار حرّ أم عبد ؟ فقالت : بل حرّ ، فقال : صدقت لو كان عبدا خاف من مولاه ، فلمّا دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر : ما أبطأك علينا ؟ فقالت : حدّثني رجل بكذا وكذا ، فخرج حافيا حتى لقى مولانا الكاظم عليه‏السلام فتاب على يده

(1) .

الثامنة : في مساعدته للشيخ الضعيف :

        روي عن زكريا الاعور انّه قال : رأيت أبا الحسن عليه‏السلام يصلّي قائما والى جانبه رجل كبير يريد أن يقوم ومعه عصا له ، فأراد أن يتناولها ، فانحطّ أبو الحسن عليه‏السلام وهو قائم في صلاته فناول الرجل العصا ثم عاد الى صلاته

(2) .

        يقول المؤلف : يظهر من هذه الرواية كثرة الاهتمام بالشيوخ واعانتهم واجلالهم وتوقيرهم ، فقد روي عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله انّه مَن عرف فضل كبير لسنه فوقّره آمنه اللّه‏ تعالى من فزع يوم القيامة(3) ، وأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بتوقير الشيوخ وذكر ان من اجلال اللّه‏ إجلال ذي الشيبة(4) ، وروي عنه ايضا انّه قال : الشيخ في اهله كالنبي في امته(5) .

التاسعة : في دخوله على هارون وتوقير هارون له :

        روى الشيخ الصدوق في العيون عن سفيان بن نزار انّه قال : كنت يوما على رأس المأمون فقال : أتدرون من علّمني التشيع ، فقال القوم جميعا : لا واللّه‏ ما نعلم ، قال : علّمنيه الرشيد ، قيل له : وكيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت ؟ قال : كان يقتلهم على الملك لانّ الملك عقيم ، ولقد حججت معه سنة فلمّا صار إلى المدينة تقدّم إلى حجّابه ، وقال : لا يدخلنّ عليّ رجل من اهل المدينة ومكة من أبناء المهاجرين والأنصار وبني هاشم وسائر بطون قريش الاّ نسب نفسه .

        فكان الرجل إذا دخل عليه قال : أنا فلان بن فلان ، حتى ينتهي إلى جدّه من هاشميّ أو قرشيّ أو مهاجريّ أو أنصاريّ ، فيصله من المال بخمسة الاف درهم وما

 

(1) منهاج الكرامة : 32 ، ضمن الوجه الرابع .
(2) البحار 84:304 ، ضمن حديث 27 ، باب 17 ، عن من لا يحضره الفقيه .
(3) نوادر الراوندي : 8 .
(4) سفينة البحار 2:728 ، في الشيب وما يتعلق به .
(5) سفينة البحار 2:728 ، في توقير المشايخ .
(432)

 

دونها إلى مائتي دينار على قدر شرفه وهجرة آبائه ، فأنا ذات يوم واقف إذ دخل الفضل بن الربيع ، فقال : يا أمير المؤمنين على الباب رجل زعم انّه موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب .

        فأقبل علينا ونحن قيام على رأسه والأمين والمؤتمن وسائر القوّاد ، فقال : احفظوا على أنفسكم ، ثم قال لآذنه : ائذن له ولا ينزل الاّ على بساطي ، فأنا كذلك إذ دخل شيخ مسخّد قد انهكته العبادة ، كأنّه شنّ بال قد كلم السجود وجهه وأنفه ، فلمّا رأى الرشيد رمى بنفسه عن حمار كان راكبه ، فصاح الرشيد : لا واللّه‏ الاّ على بساطي ، فمنعه الحجّاب من الترجّل ، ونظرنا إليه بأجمعنا بالإجلال والإعظام .

        فما زال يسير على حماره حتى سار إلى البساط ، والحجّاب والقوّاد محدقون به ، فنزل ، فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط وقبّل وجهه وعينيه وأخذ بيده حتى صيّره في صدر المجلس وأجلسه معه فيه ، وجعل يحدّثه ويقبل بوجهه عليه ويسأله عن أحواله ، ثم قال له : يا أبا الحسن ما عليك من العيال ؟ فقال : يزيدون على الخمسمائة ، قال : أولاد كلّهم ؟ قال : لا أكثرهم موالي وحشم ، فامّا الولد فلي نيّف وثلاثون ، الذكران منهم كذا والنسوان منهم كذا .

        قال : فلم لا تزوّج النسوان من بني عمومتهنّ واكفائهنّ ؟ قال : اليد تقصر عن ذلك ، قال : فما حال الضيعة ؟ قال : تعطي في وقت وتمنع في آخر ، قال : فهل عليك دَيْن ؟ قال : نعم ، قال : كم ؟ قال : نحوا من عشرة الاف دينار ، فقال الرشيد : يا بن عمّ أنا أعطيك من المال ما تزوّج به الذكران والنسوان وتقضي الدين وتعمّر الضياع ، فقال له : وصلتك رحم يا بن عم ، وشكر اللّه‏ لك هذه النّية الجميلة والرحم ماسّة ، والقرابة واشجة والنسب واحد ، والعباس عمّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وصنو أبيه وعمّ عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام وصنو أبيه ، وما أبعدك اللّه‏ من أن تفعل ذلك وقد بسط يدك ، واكرم عنصرك واعلى محتدك .

        فقال : افعل ذلك يا أبا الحسن وكرامة ، فقال : يا أمير المؤمنين انّ اللّه‏ عزوجل قد فرض على ولاة عهده أن ينعشوا فقراء الامة ، ويقضوا عن الغارمين ، ويؤدّوا عن المثقل ، ويُكسوا العاري ، ويُحسنوا إلى العاني وأنت أولى من يفعل ذلك ، فقال : أفعل يا أبا الحسن .

        ثم قام ، فقام الرشيد لقيامه ، وقبّل عينيه ووجهه ، ثم أقبل عليّ وعلى الأمين والمؤتمن فقال : يا عبد اللّه‏ ويا محمد ويا ابراهيم امشوا بين يدي عمّكم وسيّدكم ، خذوا بركابه ، وسوّوا عليه ثيابه ، وشيّعوه إلى منزله .

        فأقبل أبو الحسن موسى بن جعفر سرّا بيني وبينه ، فبشّرني بالخلافة وقال لي : إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى ولدي ، ثم انصرفنا وكنت اجرأ ولد أبي عليه ، فلمّا خلا المجلس قلت : يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد عظّمته وأجللته وقمت من

(433)

 

مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه ، ثمّ أمرتنا بأخذ الركاب له ؟

        قال : هذا امام الناس وحجة اللّه‏ على خلقه وخليفته على عباده ، فقلت : يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلّها لك وفيك ؟ فقال : أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر امام حق ، واللّه‏ يا بنيّ انّه لأحقّ بمقام رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله منّي ومن الخلق جميعا ، وواللّه‏ لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ، فانّ الملك عقيم .

        فلمّا أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرّة سوداء فيها مائتا دينار ، ثمّ أقبل على الفضل بن الربيع فقال له : اذهب بهذه إلى موسى بن جعفر وقل له : يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيقة وسيأتيك برّنا بعد هذا الوقت ، فقمت في صدره فقلت : يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ، ومن لا يُعرف حسبه ونسبه خمسة الاف دينار إلى ما دونها ، وتعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مائتي دينار ؟ أخسّ عطيّة أعطيتها أحدا من الناس .

        فقال : اسكت لا أمّ لك ، فانّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه ، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم ...

(1)

العاشرة : حديث الهندي وإسلام الراهب والراهبة :

        روى الشيخ الكليني عن يعقوب بن جعفر انّه قال : كنت عند أبي ابراهيم عليه‏السلام وأتاه رجل من أهل نجران اليمن من الرهبان ومعه راهبة ، فاستأذن لهما الفضل بن سوار ، فقال له : إذا كان غدا فأت بهما عند بئر أمّ خير .

        قال : فوافينا من الغد فوجدنا القوم قد وافوا ، فأمر بخصفة بواري ، ثمّ جلس وجلسوا ، فبدأت الراهبة بالمسائل ، فسألت عن مسائل كثيرة كل ذلك يجيبها .

        وسألها أبو ابراهيم عليه‏السلام عن أشياء لم يكن عندها فيه شيء ، ثم أسلمت . ثم أقبل الراهب يسأله فكان يجيبه في كل ما يسأله . فقال الراهب : قد كنت قويّا على ديني وما خلّفت احدا من النصارى في الأرض يبلغ مبلغي في العلم ، ولقد سمعت برجل في الهند ، إذا شاء حجّ إلى بيت المقدس في يوم وليلة ، ثمّ يرجع إلى منزله بأرض الهند . فسألت عنه بأيّ أرض هو ؟ فقيل لي : انّه بسبذان .

        وسألت الذي اخبرني فقال : هو عَلِمَ الإسم الذي ظفر به آصف صاحب سليمان لمّا أتى بعرش سبأ . وهو الذي ذكره اللّه‏ لكم في كتابكم ولنا معشر الأديان في كتبنا ،

 

(1) عيون الاخبار 1:88 ، ح 11 ، عنه البحار 48:129 ، ح 4 ، والعوالم 21:245 ، 1 .
(434)

 

فقال له أبو ابراهيم عليه‏السلام : فكم للّه‏ من اسم لا يردّ ؟ فقال الراهب : الأسماء كثيرة فأمّا المحتوم منها الذي لا يردّ سائله فسبعة .

        فقال له أبو الحسن عليه‏السلام : فأخبرني عمّا تحفظ منها . فقال الراهب : لا واللّه‏ ـ الذي أنزل التوراة على موسى ، وجعل عيسى عبرة للعالمين وفتنة لشكر أولي الألباب ، وجعل محمّدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بركة ورحمة ، وجعل عليّا عليه‏السلام عبرة وبصيرة ، وجعل الأوصياء من نسله ونسل محمد ـ ما أدري ، ولو دريت ما احتجت فيه إلى كلامك ولا جئتك ولا سألتك .

        فقال له أبو ابراهيم عليه‏السلام : عُد إلى حديث الهنديّ .

        فقال له الراهب : سمعت بهذه الاسماء ولا أدري ما بطانتها ولا شرائحها ، ولا أدري ما هي ، ولا كيف هي ، ولا بدعائها ، فانطلقت حتى قدمت سبذان الهند ، فسألت عن الرجل فقيل لي : انّه بنى ديرا في جبل فصار لا يخرج ولا يُرى الاّ في كل سنة مرّتين .

        وزعمت الهند انّ اللّه‏ تعالى فجّر له عينا في ديره ، وزعمت الهند انّه يُزرع له من غير زرع يلقيه ، ويُحرث له من غير حرث يعمله ، فانتهيت إلى بابه ، فأقمت ثلاثا لا أدقّ الباب ، ولا أعالج الباب ، فلمّا كان اليوم الرابع فتح اللّه‏ الباب ، وجاءت بقرة عليها حطب تجرّ ضرعها يكاد يخرج ما في ضرعها من اللبن ، فدفعت الباب فانفتح فتبعتها ودخلت ، فوجدت الرجل قائما ينظر إلى السماء فيبكي ، وينظر إلى الأرض فيبكي ، وينظر إلى الجبال فيبكي ، فقلت : سبحان اللّه‏ ما أقلّ ضربك في دهرنا هذا .

        فقال لي : واللّه‏ ما أنا الاّ حسنة من حسنات رجل خلّفته وراء ظهرك . فقلت له : أُخبرت انّ عندك اسما من أسماء اللّه‏ [ تعالى ] تبلغ به في كلّ يوم وليلة بيت المقدس وترجع إلى بيتك ، فقال لي : وهل تعرف بيت المقدس ؟ قلت : لا أعرف الاّ بيت المقدس الذي بالشام .

        قال : ليس بيت المقدس ولكنّه « البيت المقدس » وهو بيت آل محمّد .

        فقلت له : أمّا ما سمعت به إلى يومي هذا فهو بيت المقدس .

        فقال لي : تلك محاريب الانبياء ، وانّما كان يقال لها « حظيرة المحاريب » حتى جاءت الفترة التي كانت بين محمّد وعيسى (صلّى اللّه‏ عليهما) وقرب البلاء من أهل الشرك ، وحلّت النقمات في دور الشياطين ، فحوّلوا وبدّلوا ونقلوا تلك الاسماء ، وهو قول اللّه‏ تبارك وتعالى ـ البطن لآل محمد والظهر مثلٌ ـ : « إنْ هِىَ إلاَّ أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا أَنْزَلَ اللّه‏ُ بِهَا مِنْ سُلْطَان »

(1) .

        فقلت له : انّي قد ضربت اليك من بلد بعيد ، تعرّضت اليك بحارا وغموما

 

(1) النجم : 23 .
(435)

 

وهموما وخوفا ، وأصبحت وأمسيت مؤيسا الاّ أكون ظفرت بحاجتي ، فقال لي : ما أرى امّك حملت بك الاّ وقد حضرها ملك كريم ، ولا أعلم انّ أباك حين أراد الوقوع بامّك الاّ وقد اغتسل وجاءها على طهر ، ولا أزعم الاّ انّه قد كان درس السفر الرابع من سحره ذلك فختم له بخير ، ارجع من حيث جئت ، فانطلق حتى تنزل مدينة محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله التي يقال لها (طيّبة) وقد كان اسمها في الجاهلية (يثرب) ، ثم اعمد إلى موضع منها يقال له البقيع ، ثم سل عن دار يقال لها دار مروان فانزلها وأقم ثلاثا .

        ثم سـل عن الشيخ الأسـود الذي يكـون على بابها يعمل البواري وهي في بلادهم اسمها (الخصف) ، فألطف بالشيخ وقل له : بعثني اليك نزيلك الذي كان ينزل في الزاوية في البيت الذي فيه الخشيبات الأربع ، ثم سله عن فلان بن فلان الفلاني ، وسله أين ناديه ؟ وسله أيّ ساعة يمرّ فيها ؟ فليريكاه أو يصفه لك فتعرفه بالصفة وسأصفه لك .

        قلت : فاذا لقيته فاصنع ماذا ؟ فقال : سله عمّا كان وعمّا هو كائن ، وسله عن معالم دين من مضى ومن بقي ، فقال له أبو ابراهيم عليه‏السلام : قد نصحك صاحبك الذي لقيت ، فقال الراهب : ما اسمه جعلت فداك ؟

        قال عليه‏السلام : هو متمّم بن فيروز ، وهو من أبناء الفرس ، وهو ممّن آمن باللّه‏ وحده لا شريك له ، وعبده بالاخلاص والإيقان ، وفرّ من قومه لمّا خافهم ، فوهب له ربّه حكما ، وهداه لسبيل الرشاد ، وجعله من المتّقين ، وعرّف بينه وبين عباده المخلصين ، وما من سنة الاّ وهو يزور فيها مكة حاجّا ، ويعتمر في كلّ رأس شهر مرّة ، ويجيء من موضعه من الهند إلى مكة فضلاً من اللّه‏ وعونا وكذلك نجزي الشاكرين .

        ثم سأله الراهب عن مسائل كثيرة كلّ ذلك يجيبه فيها ، وسأل الراهب عن أشياء لم يكن عند الراهب فيها شيء فأخبره بها ، ثم أنّ الراهب قال : أخبرني عن ثمانية أحرف نزلت فتبيّن في الأرض منها أربعة وبقي في الهواء منها أربعة ، على من نزلت تلك الأربعة التي في الهواء ومن يفسّرها ؟

        قال : ذاك قائمنا يُنزله اللّه‏ عليه فيفسّره ، ويُنزّل عليه ما لم يُنزّل على الصدّيقين والرسل والمهتدين ، ثم قال الراهب : فأخبرني عن الاثنين من تلك الأربعة الأحرف التي في الأرض ما هي ؟ قال : أخبرك بالاربعة كلّها ، أمّا أوّلهنّ : فلا اله الاّ اللّه‏ وحده لا شريك له باقيا ، والثانية : محمد رسول اللّه‏ مخلصا ، والثالثة : نحن اهل البيت ، والرابعة : شيعتنا منّا ونحن من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ورسول اللّه‏ من اللّه‏ بسبب .

        فقال له الراهب : أشهد أن لا اله الاّ اللّه‏ ، وانّ محمدا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وانّ ما جاء به من عند اللّه‏ حق وإنّكم صفوة اللّه‏ من خلقه ، وانّ شيعتكم المطهّرون والمستبدلون ولهم عاقبة اللّه‏ ، والحمد للّه‏ ربّ العالمين .

        فدعا أبو ابراهيم عليه‏السلام بجبّة خزّ وقميص قوهيّ ، وطيلسان ، وخفٍّ ، وقلنسوة ،

(436)

 

فأعطاه ايّاها وصلّى الظهر ، وقال له : اختتن ، فقال : قد اختتنت في سابعي(1) .

        يقول المؤلف :

        قال الفاضل النبيل ملاّ خليل في شرح الكافي عند توضيح كلام الراهب حيث قال انّ الأسماء المحتومة التي لا تردّ سبعة : المراد من الأسماء السبعة أسماء الأئمة السبعة وهم عليّ ، والحسن ، والحسين ، وعليّ ، ومحمد ، وجعفر ، وموسى عليهم‏السلام ، وفي زماننا هذا تكون الأسماء اثني عشر ، ومضى في كتاب التوحيد في الحديث الرابع باب الثالث والعشرين قوله عليه‏السلام :

        « نحن واللّه‏ الأسماء الحسنى التي لا يقبل اللّه‏ من العباد عملاً الاّ بمعرفتنا »

(2) .

        يقول المؤلف : يا حبذا لو كان يقول انّ المراد من الاسماء السبعة جميع المعصومين عليهم‏السلام ، لانّ اسماءهم الكريمة لا تتجاوزها وهي : محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين وجعفر وموسى عليهم‏السلام وهذا هو تأويل قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعا مِنَ الْمَثَانِى وَالْقُرآنَ الْعَظِيمَ »(3) .

        وأمّا معنى هذه الآية الكريمة :

        « إنْ هِىَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا اَنْزَلَ اللّه‏ُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ... »

(4) .

        فالظاهر منها مع مراعاة الآيات التي قبلها وهي :

        « أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنوةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إنْ هِىَ إلاَّ أسْمَاءٌ ... »

(5) .

        إن المشركين كان لهم ثلاثة أصنام ولكلٍ اسمٌ ، اللات والعزّى ومناة ، ووجه التسمية انّ اللات كان يُعتكف عنده للعبادة ، والعزّى للاكرام والاعزاز ، ومناة كان يُذبح الهدي عنده ويُتقرب له بالقرابين ، فاللّه‏ تعالى يقول : انّ هذه الأصنام سميتموها انتم بهذه الاسماء ما أنزل اللّه‏ بها من سلطان ولا أيّدها ، وتتمّة الآيات هكذا :

        « إنْ يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِّنْ رَّبِّهِمُ الْهُدَى »

(6) .

        فَعُلم انّ ظاهر الآية في الأصنام ، واما ما يشير إليه باطنها فهو : انّها نزلت في خلفاء الجور والأصنام الثلاثة الكبيرة حيث أطلقوا عليهم ألقابا لا يستحقونها كأمير المؤمنين ، الذي هو لقب سلطان الولاية (عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام ) فصادروه واعطوه إلى غيره .

 

(1) الكافي 1:481، ح 5 ، عنه البحار 48:92، ح 107 ، والعوالم 21:302، ح 1 .
(2) اصول الكافي 1:144 ، ح 4 .
(3) الحجر : 87 .
(4) النجم : 23 .
(5) النجم : 19 ـ 22 .
(6) النجم : 23 .
(437)

 

* * *

الفصل الثالث

في ذكر نبذة من معاجزه عليه‏السلام الباهرة

الأولى : في إخباره عليه‏السلام عمّا في ضمير هشام بن سالم :

        روى الشيخ الكشي عن هشام بن سالم انّه قال : كنّا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام أنا ومؤمن الطاق أبو جعفر ، قال : والناس مجتمعون على أنّ عبد اللّه‏ صاحب الأمر بعد أبيه ، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون عند عبد اللّه‏ ، وذلك أنّهم رووا عن أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام أن الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة .

        فدخلنا نسأله عمّا كنّا نسأل عنه أباه ، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ قال : في مائتين خمسة ، قلنا : ففي مائة ؟ قال : درهمان ونصف درهم ، قال : قلنا له : واللّه‏ ما تقول المرجئة هذا ، فرفع يده إلى السماء فقال : لا واللّه‏ ما أدري ما تقول المرجئة ، قال : فخرجنا من عنده ضُلاّلاً لا ندري إلى أين نتوجّه أنا وأبو جعفر الأحول ، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد والى من نتوجّه ، نقول إلى المرجئة ، إلى القدريّة ، إلى الزيديّة ، الى المعتزلة ، إلى الخوارج .

        قال : فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخا لا أعرفه يومي اليّ بيده ، فخفت أن يكون عينا من عيون أبي جعفر [ المنصور ] وذاك انّه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق شيعة جعفر فيضربون عنقه ، فخفت أن يكون منهم ، فقلت لأبي جعفر : تنح فانّي خائف على نفسي وعليك وانّما يريدني ليس يريدك ، فتنحّ عنّي لا تهلَك وتعين على نفسك ، فتنحّى غير بعيد وتبعت الشيخ ، وذاك انّي ظننت انّي لا أقدر على التخلّص منه .

        فمازلت أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى عليه‏السلام ثم خلاني ومضى ، فاذا خادم بالباب فقال لي : إدخل رحمك اللّه‏ ، قال : فدخلت فاذا أبو الحسن عليه‏السلام فقال لي ابتداءا : لا الى المرجئة ، ولا إلى القدريّة ، ولا إلى الزيديّة ، ولا إلى الخوارج ، اليّ اليّ اليّ .

        قال : فقلت له : جُعلت فداك مضى أبوك ؟ قال : نعم ، قال : قلت : جعلت فداك مضى في موت ؟ قال : نعم ، قلت : جعلت فداك فمن لنا بعده ؟ فقال : إن شاء اللّه‏ يهديك هداك ، قلت : جعلت فداك انّ عبد اللّه‏ يزعم انّه من بعد أبيه ، فقال : يريد عبد اللّه‏ أن لا

(438)

 

يعبد اللّه‏ ، قال : قلت له : جعلت فداك فمن لنا بعده ؟ فقال : إن شاء اللّه‏ أن يهديك هداك أيضا .

        قلت : جعلت فداك أنت هو ؟ قال : ما أقول ذلك ، قلت في نفسي : لم أصب طريق المسألة ، قال : قلت : جعلت فداك عليك امام ، قال : لا ، فدخلني شيء لا يعلمه الاّ اللّه‏ إعظاما له وهيبة أكثر ما كان يحلّ بي من أبيه إذا دخلت عليه .

        قلت : جعلت فداك أسألك عمّا كان يُسأل أبوك ؟ قال : سل تُخبر ولا تذع فان أذعت فهو الذبح ، قال : فسألته فاذا هو بحر ، قال : قلت : جعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك ضُلاّل فالقي إليهم وأدعوهم اليك فقد اخذت عليّ بالكتمان ؟ قال : من آنست منهم رشدا فألق اليهم وخذ عليهم الكتمان ، فان أذاعوا فهو الذبح وأشار بيده إلى حلقه .

        قال : فخرجت من عنده فلقيت أبا جعفر ، فقال لي : ما وراءك ؟ قال : قلت : الهدى ، قال : فحدّثته بالقصة ، قال : ثم لقيت المفضل بن عمر وأبا بصير ، قال : فدخلوا عليه فسمعوا كلامه وسألوه ، قال : ثم قطعوا عليه عليه‏السلام ، ثم قال : ثم لقينا الناس أفواجا ، قال : فكان كلّ من دخل عليه قطع عليه الاّ طائفة مثل عمّار وأصحابه ، فبقى عبد اللّه‏ لا يدخل عليه أحد الاّ قليل من الناس .

        قال : فلمّا رأى ذلك وسأل عن حال الناس ، قال : فأُخبر أن هشام بن سالم صد عنه الناس ، قال : فقال هشام : فأقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني

(1) .

الثانية : خبر شطيطة النيشابورية :

        روى أبو علي بن راشد وغيره في خبر طويل انّه قال : اجتمعت العصابة الشيعة بنيسابور واختاروا محمد بن عليّ النيسابوري ، فدفعوا إليه ثلاثين الف دينار وخمسين الف درهم والفي شقة من الثياب ، وأتت شطيطة بدرهم صحيح وشقة خام من غزل يدها تساوي أربعة دراهم ، فقالت : انّ اللّه‏ لا يستحيي من الحق .

        قال : فثنيت درهمها وجاؤوا بجزء فيه مسائل مل‏ء سبعين ورقة في كلّ ورقة مسألة وباقى الورق بياض ليكتب الجواب تحتها ، وقد حُزمت كلّ ورقتين بثلاث حزم ، وخُتم عليها بثلاث خواتيم على كلّ حزام خاتم وقالوا : ادفع إلى الامام ليلة وخذ منه في غد ، فان وجدت الجزء صحيح الخواتيم فاكسر منها خمسة وانظره هل أجاب عن المسائل ، وإن لم تنكسر الخواتيم فهو الامام المستحق للمال فادفع إليه والاّ فردّ الينا أموالنا .

        فدخل على الأفطح عبد اللّه‏ بن جعفر وجرّبه وخرج عنه قائلاً : ربّ اهدني إلى سواء الصراط ، قال : فبينما أنا واقف إذا أنا بغلام يقول : اجب من تريد ، فأتى بي دار موسى بن جعفر ، فلمّا رأني قال لي : لِمَ تقنط يا أبا جعفر ؟ ولم تفزع إلى اليهود

 

(1) اختيار معرفة الرجال 2:565 ، ح 502 ، ونحوه في المناقب 4:290 .
(439)

 

والنصارى فأنا حجة اللّه‏ ووليه ، ألم يعرفك أبو حمزة على باب مسجد جدّي ؟ وقد أجبتك عمّا في الجزء من المسائل بجميع ما تحتاج إليه منذ أمس فجئني به وبدرهم شطيطة الذي وزنه درهم ودانقان الذي في الكيس الذي فيه أربعمائة درهم للوازواري ، والشقة التي في رزمة الأخوين البلخيين .

        قال : فطار عقلي من مقاله ، وأتيت بما أمرني ووضعت ذلك قبله ، فأخذ درهم شطيطة وازارها ثم استقبلني وقال : انّ اللّه‏ لا يستحيي من الحق ، يا أبا جعفر أبلغ شطيطة سلامي واعطها هذه الصرة ـ وكانت أربعين درهما ـ ثم قال : واهديت لك شقة من أكفاني من قطن قريتنا صيداء قرية فاطمة عليهاالسلام ، وغزل أختي حليمة إبنة أبي عبد اللّه‏ جعفر بن محمد الصادق عليه‏السلام ، ثم قال : وقل لها ستعيشين تسعة عشر يوما من وصول أبي جعفر ووصول الشقة والدراهم ، فانفقي على نفسك منها ستة عشر درهما ، واجعلي أربعة وعشرين صدقة منك وما يلزم عنك وأنا أتولى الصلاة عليك ، فاذا رأيتني يا أبا جعفر فاكتم عليّ فانه أبقى لنفسك .

        ثم قال : واردد الأموال إلى أصحابها ، وافكك هذه الخواتيم عن الجزء وانظر هل أجبناك عن المسائل أم لا من قبل أن تجيئنا بالجزء ، فوجدت الخوتيم صحيحة ، ففتحت منها واحدا من وسطها فوجدت فيه مكتوبا ، ما يقول العالم عليه‏السلام في رجل قال نذرت للّه‏ لأعتقنّ كلّ مملوك كان في رقي قديما وكان له جماعة من العبيد ؟

        الجواب بخطّه : ليعتقنّ من كان في ملكه من قبل ستة أشهر ، والدليل على صحة ذلك قوله تعالى : « وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرجُونِ الْقَدِيمِ »

(1) ، والحديث(2) : من ليس له من ستة أشهر .

        وفككت الختم الثاني فوجدت ما تحته : ما يقول العالم في رجل قال : واللّه‏ لأتصدّقنّ بمال كثير فيما يتصدق ؟ الجواب تحته بخطّه : إن كان الذي حلف من أرباب شياة فليتصدق باربع وثمانين شاة ، وإن كان من أصحاب النعم فليتصدّق بأربع وثمانين بعيرا ، وإن كان من أرباب الدراهم فليتصدّق بأربع وثمانين درهما ، والدليل عليه قوله تعالى :

        « لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه‏ُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ... »

(3) .

        فعددت مواطن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قبل نزول تلك الآية فكانت أربعة وثمانين

 

(1) يس : 39 .
(2) والمراد أنّ اللّه‏ تعالى شبّه القمر بعد سيره في منازله بعذق النخلة اليابسة الذي فيه الشماريخ ، وعبّر عنه بالقدم ، ولمّا كان عذق النخل ينحني كالهلال بعد ستة أشهر ، فالقديم هو الذي مضى عليه ستة أشهر وغير القديم هو المملوك الذي لم تمض عليه ستة أشهر . (منه رحمه‏الله ) .
(3) التوبة : 25 .
(440)

 

موطنا .

        فكسرت الختم الثالث فوجدت تحته مكتوبا : ما يقول العالم في رجل نبش قبر ميت وقطع رأس الميت وأخذ الكفن ؟ الجواب بخطّه : يُقطع السارق لاخذ الكفن من وراء الجزر ، ويلزم مائة دينار لقطع رأس الميت لانّا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمّه قبل ان ينفخ فيه الروح فجعلنا في النطفة عشرين دينارا ، المسألة إلى آخرها .

        فلمّا وافى خراسان وجد الذين ردّ عليهم أموالهم ارتدّوا إلى الفطحيّة ، وشطيطة على الحق فبلغها سلامه وأعطاها صرته وشقته ، فعاشت كما قال عليه‏السلام ، فلمّا توفيت شطيطة جاء الامام على بعير له ، فلمّا فرغ من تجهيزها ركب بعيره وانثنى نحو البرية وقال : عرف أصحابك واقرأهم منّي السلام وقل لهم : انّي ومن يجري مجراي من الائمة عليهم‏السلام لابد لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كنتم فاتقوا اللّه‏ في أنفسكم

(1) .

        يقول المؤلف :

        لم يذكر الرواة تمام الجواب عن الامام عليه‏السلام حينما سُئل عن رأس الميت ، لكن هناك رواية عن الامام الصادق عليه‏السلام تكون متممة للجواب السابق ، وهي كما رواها ابن شهر آشوب ، قال : أتى الربيع أبا جعفر المنصور وهو في الطواف فقال : يا أمير المؤمنين مات فلان مولاك البارحة فقطع فلان رأسه بعد موته ، قال : فاستشاط وغضب وقال لابن شبرمة وابن أبي ليلى وعدة من القضاة والفقهاء : ما تقولون في هذا ؟ فكل قال : ما عندنا في هذا شيء ، فكان يقول : أقتله أم لا ؟ فقالوا : قد دخل جعفر الصادق في السعي ، فقال المنصور للربيع : اذهب إليه وسله عن ذلك .

        فقال عليه‏السلام : فقل له عليه مائة دينار ، قال : فأبلغه ذلك ، فقالوا له : فاسأله كيف صار عليه مائة دينار ، فقال أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام : في النطفة عشرون ، وفي العلقة عشرون ، وفي المضغة عشرون ، وفي العظم عشرون ، وفي اللحم عشرون ، ثم أنشأه خلقا آخر ، وهذا هو ميت بمنزلة قبل أن ينفخ الروح في بطن امّه جنين .

        قال : فرجع إليه فأخبره بالجواب فأعجبهم ذلك ، فقالوا : ارجع إليه وسله الدية لمن هي لورثته أم لا ؟ فقال أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام : ليس لورثته فيها شيء لانّه أتى إليه في بدنه بعد موته ، يحج بها عنه أو يتصدّق بها عنه ، أو تصير في سبيل من سبل الخير

(2) .

الثالثة : ما شاهده أبو خالد الزَّبالي من الدلائل :

        روى الشيخ الكليني عن أبي خالد الزَّبالي انّه قال : لما اُقدم بأبي الحسن موسى عليه‏السلام على المهدي القُدمة الأولى نزل زَبالة فكنت احدّثه فرآني مغموما فقال لي : يا أبا خالد ما لي أراك مغموما ؟ فقلت : وكيف لا أغتم وأنت تحمل إلى هذه الطاغية ولا

 
(1) المناقب 4:291 ، عنه البحار 48:73 ، ح 100 ، والعوالم 21:172 ، ح 1 .
(2) المناقب 4:263 .
(441)

 

أدري ما يُحدث فيك ، فقال : ليس عليّ بأس إذا كان شهر كذا ويوم كذا فوافني في اوّل الميْلِ ، فما كان لي همّ الاّ إحصاء الشهور والأيّام حتى كان ذلك اليوم .

        فوافيت الميْل فما زلت عنده حتى كادت الشمس أن تغيب ، ووسوس الشيطان في صدري وتخوّفت أن أشك فيما قال ، فبينا أنا كذلك إذا نظرت إلى سواد قد أقبل من ناحية العراق ، فاستقبلتهم فاذا أبو الحسن عليه‏السلام أمام القطار على بغلة ، فقال : أيه يا أبا خالد ، قلت : لبيك يا بن رسول اللّه‏ ، فقال : لا تشكّنّ ، ودّ الشيطان انّك شككت ، فقلت : الحمد للّه‏ الذي خلّصك منهم ، فقال : انّ لي اليهم عودة لا أتخلّص منهم

(1) .

الرابعة : في إخباره عليه‏السلام بالغيب :

        روى الكليني أيضا عن سيف بن عميرة عن اسحاق بن عمار انّه قال : سمعت العبد الصالح يَنعى إلى رجل نفسه ، فقلت في نفسي : وانّه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته ؟ فالتفت اليّ شِبه مُغضب فقال : يا اسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا والامام أولى بعلم ذلك .

        ثم قال : يا اسحاق إصنع ما أنت صانع ، فانّ عمرك قد فني وانّك تموت إلى سنتين وإخوتك وأهل بيتك لا يلبثون بعدك الاّ يسيرا حتى تتفرّق كلمتهم ويخون بعضهم بضعا حتى يشمت بهم عدوّهم ، فكان هذا في نفسك ؟ فقلت : إنّي استغفر اللّه‏ بما عرض في صدري ، فلم يلبث اسحاق بعد هذا المجلس الاّ يسيرا حتى مات ، فما أتى عليهم الاّ قليل حتى قام بنو عمّار بأموال الناس فأفلسوا

(2) .

الخامسة : في اتيانه من مكة إلى بطن الرمة بطيّ الأرض :

        روى الشيخ الكشي عن اسماعيل بن سلام وفلان بن حميد قالا : بعث الينا عليّ بن يقطين فقال : اشتريا راحلتين وتجنبا الطريق ، ودفع الينا مالاً وكتبا ، حتى توصلا ما معكما من المال والكتب إلى أبي الحسن موسى عليه‏السلام ولا يعلم بكما احد .

        قالا : فأتينا الكوفة فاشترينا راحلتين وتزودنا زادا ، وخرجنا نتجنّب الطريق حتى اذا صرنا ببطن الرُّمة شددنا راحلتنا ووضعنا لها العلف وقعدنا نأكل ، فبينا نحن كذلك اذا راكب قد أقبل ومعه شاكري ، فلمّا قرب منّا فاذا هو أبو الحسن موسى عليه‏السلام ، فقمنا إليه وسلّمنا عليه ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا فأخرج من كمه كتبا فناولنا اياها ، فقال : هذه جوابات كتبكم .

        قال : قلنا : إنّ زادنا قد فنى فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة فزرنا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وتزودنا زادا ، فقال : هاتا ما معكما من الزاد فأخرجنا الزاد إليه فقلبه بيده فقال : هذا

 
(1) الكافي 1:477 ، ح 3 ، ومثله في البحار 48:228 ، ح 32 ، والعوالم 21:220 ، ح 1 ، عن قرب الاسناد .
(2) الكافي 1:404 ، ح 7 ، باب مولد الامام موسى الكاظم عليه‏السلام ، بصائر الدرجات : 265 .
(442)

 

يبلغكما إلى الكوفة ، وأما رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقد رأيتماه انّي صلّيت معهم الفجر وأنا أريد أن أصلّى معهم الظهر انصرفا في حفظ اللّه‏(1) .

        يقول المؤلف : إنّ لكلامه عليه‏السلام : « اما رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقد رأيتماه » معنيين :

        الأوّل : انكما قربتما المدينة والقرب من الزيارة بحكم الزيارة ؛ والثاني : انّ رؤيتي بمنزلة رؤية رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وهذا صحيح لو كانت المسافة إلى المدينة بعيدة ، واستظهر العلامة المجلسي المعنى الاوّل

(2) .

        لكنّي أرى أنّ المعنى الثاني أظهر ، والمؤيد لهذا ما رواه ابن شهر آشوب ان أبا حنيفة جاء ليسمع منه [ أي من أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام ] وخرج أبو عبد اللّه‏ يتوكأ على عصا ، فقال له أبو حنيفة : يا ابن رسول اللّه‏ ما بلغت من السن ما تحتاج معه إلى العصا ، قال : هو كذلك ولكنها عصا رسول اللّه‏ أردت التبرّك بها ، فوثب أبو حنيفة وقال له : اقبلها يا ابن رسول اللّه‏ ، فحسر أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام عن ذراعه وقال له : واللّه‏ لقد علمت انّ هذا بشر رسول اللّه‏ وانّ هذا من شعره فما قبلته وتقبل عصا(3) .

السادسة : في اطلاعه على المغيّبات :

        روى الحميري عن موسى بن بكر إنّه قال : دفع اليّ أبو الحسن الأوّل عليه‏السلام رقعة فيها حوائج وقال لي : اعمل بما فيها ، فوضعتها تحت المصلّى وتوانيت عنها ، فمررت فاذا الرقعة في يده ، فسألني عن الرقعة فقلت : في البيت ، فقال : يا موسى إذا أمرتك بالشيء فاعمله والاّ غضبت عليك ، فعلمت انّ الذي دفعها إليه بعض صبيان الجن

(4) .

السابعة : في خلاص عليّ بن يقطين من شرّ هارون ببركته عليه‏السلام :

        ورد في حديقة الشيعة عند ذكر معاجز الامام موسى بن جعفر عليه‏السلام ، من جملة معاجزه التي ظهرت لعليّ بن يقطين وزير هارون الرشيد ومن الشيعة الخلّص لموسى بن جعفر عليه‏السلام ، انّه حمل الرشيد في بعض الايام إلى ابن يقطين ثيابا اكرمه بها ، وكان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب ، وتقدم عليّ بن يقطين بحمل تلك الثياب إلى أبي الحسن موسى عليه‏السلام ، وأضاف إليها مالاً كان أعدّه على رسمه له فيما يحمله إليه من خمس ماله ، فلمّا وصل ذلك الى أبي الحسن عليه‏السلام قبل المال والثياب و ردّ الدراعة على يد غير الرسول إلى عليّ بن يقطين ، وكتب إليه : احتفظ بها

 

(1) اختيار معرفة الرجال 2:735 ، ح 821 ، عنه البحار 48:34 ، ح 5 ، والعوالم 21:130 ، ح 1 .
(2) راجع بحار الأنوار 48:35 .
(3) المناقب 4:248 .
(4) قرب الاسناد : 333 ، ح 1234 ، عنه البحار 48:44 ، ح 24 ، باب 4 .
(443)

 

ولا تخرجها من يدك فيكون لك شأن تحتاج اليها معه ، فارتاب عليّ بن يقطين بردّها عليه ولم يدر ما سبب ذلك ، فاحتفظ بالدراعة ، فلمّا كان بعد ايّام تغيّر ابن يقطين على غلام له كان يختص به فصرفه عن خدمته ، فسعى به إلى الرشيد وقال : انّه يقول بامامة موسى بن جعفر ويحمل إليه خمس ماله في كل سنة ، وقد حمل إليه الدراعة التي أكرمه أمير المؤمنين بها في وقت كذا وكذا .

        فاستشاط الرشيد غضبا وقال : لأكشفنّ عن هذه الحال ، وأمر باحضار عليّ بن يقطين ، فلمّا مَثُلَ بين يديه قال : ما فعلت تلك الدراعة التي كسوتك بها ؟ قال : هي يا أمير المؤمنين عندي في سفط مختوم فيه طيب ، وقد احتفظت بها وكلّما أصبحت فتحت السفط ونظرت اليها تبركا بها وأردّها إلى موضعها ، وكلّما أمسيت صنعت مثل ذلك ، فقال : أئت بها الساعة ، قال : نعم ، وأنفذ بعض خدمه فقال : امض إلى البيت الفلاني وافتح الصندوق وجئني بالسفط الذي ختمته ، فلم يلبث الغلام أن جاء بالسفط مختوما ووضع بين يدي الرشيد ، ففكّ ختمه ونظر الى الدراعة مطويّة مدفوفة بالطيب ، فسكن غضب الرشيد وقال : ارددها إلى مكانها وانصرف راشدا فلن أصدق عليك بعدها ساعيا ، وأمر له بجائزة سنيّة وأمر بضرب الساعي ألف سوط ، فضرب خمسمائة سوط فمات في ذلك

(1) .

        والمعجزة الثانية انّ عليّ بن يقطين كتب إلى الامام عليه‏السلام : انّ أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فإن رأيت أن تكتب اليّ بخطّك ما يكون عملي عليه فعلت إن شاء اللّه‏ .

        فكتب إليه أبو الحسن عليه‏السلام : فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا ، وتستنشق ثلاثا ، وتغسل وجهك ثلاثا ، وتخلّل شعر لحيتك ، وتمسح رأسك كلّه ، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا ، ولا تخالف ذلك إلى غيره .

        فلمّا وصل الكتاب إلى عليّ بن يقطين تعجّب بما رسم فيه ممّا أجمع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما قال وأنا ممتثل أمره ، وكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة إمتثالاً لأمر أبي الحسن عليه‏السلام .

        وسُعي بعليّ بن يقطين إلى الرشيد وقيل : انّه رافضي مخالف لك ، فقال الرشيد لبعض خاصّته : قد كثر عندي القول في عليّ بن يقطين والقرف له بخلافنا وميله إلى الرفض ، ولست أرى في خدمته لي تقصيرا ، وقد امتحنته مرارا فما ظهرت منه عليّ ما يُقرف به ، وأحبّ أن أستبريء أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرّز منّي .

        فقيل له : انّ الرافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخّففه ،

 

(1) اعلام الورى : 293 ، والارشاد : 293 ، عنهما البحار 48:137 ، ح 12 ، ومثله في المناقب 4:289 .
(444)

 

ولا ترى غسل الرجلين ، فامتحنه يا أمير المؤمنين من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه ، فقال : أجل أنّ هذا الوجه يظهر به أمره ، ثم تركه مدّة ، وناطه بشيء من الشغل في الدار حتى دخل وقت الصلاة ، وكان عليّ بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته .

        فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحُجرة بحيث يرى عليّ بن يقطين ولا يراه هو ، فدعا بالماء للوضوء فتمضمض ثلاثا ، واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، وخلّل شعر لحيته ، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ، ومسح رأسه وأذنيه ، وغسل رجليه ، والرشيد ينظر إليه .

        فلمّا رآه قد فعل ذلك لم يملك نفسه حتى أشرف عليه بحيث يراه ثم ناداه : كذب يا عليّ بن يقطين من زعم إنّك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن عليه‏السلام ابتداءا من الآن يا عليّ بن يقطين فتوضّ كما أمر اللّه‏ ـ واغسل وجهك مرّة فريضة ، وأخرى اسباغا ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح مقدّم رأسك وظاهر قدميك بفضل نداوة وضوءك ، فقد زال ما كان يُخاف عليك والسلام

(1) .

الثامنة : في إخباره عليه‏السلام بالغيب :

        وورد في الحديقة أيضا عن الفصول المهمة وكشف الغمة [ واللفظ لكشف الغمة [قال : لما حبس هارون أبا الحسن عليه‏السلام دخل عليه أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة ، فقال أحدهما للآخر : نحن على أحد أمرين إما أن نساويه وإما أن نشككه ، فجلسا بين يديه فجاء رجل كان موكلاً به من قبل السندي فقال : انّ نوبتي قد انقضت ، وأنا على الإنصراف فان كانت لك حاجة فامرني حتى آتيك بها في الوقت التي تلحقني النوبة ، فقال : ما لي حاجة .

        فلمّا خرج قال لأبي يوسف ومحمد بن الحسن : ما أعجب هذا يسألني أن اكلّفه حاجة ليرجع وهو ميت في هذه الليلة ، قال : فغمز أبو يوسف محمد بن الحسن فقاما فقال أحدهما للآخر انّا جئنا لنسأله عن الفرض والسنة ، وهو الآن جاء بشيء آخر كأنّه من علم الغيب .

        ثم بعثنا برجل مع الرجل فقالا : اذهب حتى تلازمه وتنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة وتأتينا بخبره من الغد ، فمضى الرجل فنام في مسجد عند باب داره ، فلمّا أصبح سمع الواعية ورأى الناس يدخلون داره ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علّة .

 

(1) البحار 48:38 ، ح 14 ، باب 4 .
(445)

 

        فانصرف إليهما فأخبرهما فأتيا أبا الحسن عليه‏السلام فقالا : قد علمنا انّك أدركت العلم في الحلال والحرام ، فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل انّه يموت في هذه الليلة ؟ قال : من الباب الذي كان أخبر بعلمه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عليّ بن أبي طالب ، فلمّا ورد عليهما هذا بقيا لا يحيران جوابا

(1) .

        وأشاعا هذه الرواية ولم يقدرا على الكتمان ، لتكون حجة عليهما في يوم القيامة .

التاسعة : في أمره للأسد بابتلاع الساحر :

        روى ابن شهر آشوب عن عليّ بن يقطين انّه قال : استدعى الرشيد رجلاً يبطل به أمر أبي الحسن و يخجله في المجلس ، فانتدب له رجل مُعزِّم

(2) ، فلمّا أحضرت المائدة عمل ناموسا على الخبز ، فكان كلّما رام خادم أبي الحسن تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه ، واستقر هارون الفرح والضحك لذلك .

        فلم يلبث أبو الحسن أن رفع رأسه إلى أسد مصور على بعض الستور فقال له : يا أسد اللّه‏ خذ عدوّ اللّه‏ ، قال : فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع فافترس ذلك المعزم ، فخرّ هارون وندماؤه على وجوههم مغشيا عليهم ، وطارت عقولهم خوفا من هول ما رأوه ، فلمّا أفاقوا من ذلك بعد حين قال هارون لأبي الحسن عليه‏السلام : أسألك بحقي عليك لما سألت الصورة أن ترد الرجل .

        فقال : إن كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيّهم ، فانّ هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل

(3) .

        يقول المؤلف :

        روى بعض الفضلاء ـ ولعلّه السيد الأجل السيد حسين المفتي ـ هذا الحديث عن الشيخ البهائي هكذا ، قال : حدّثني ليلة الجمعة في السابع من شهر جمادى الآخرة سنة (1003) ه أمام ضريح الامامين المعصومين موسى بن جعفر وابي جعفر الجواد عليهماالسلام ، عن أبيه الشيخ حسين ، عن مشايخه ـ فذكرهم ـ عن الشيخ الصدوق ، عن ابن الوليد ، عن الصفار وسعد بن عبد اللّه‏ ، عن احمد بن عيسى ، عن الحسن بن عليّ بن يقطين ، عن أخيه الحسين ، عن أبيه عليّ بن يقطين .

        ورجال هذا الحديث كلّهم ثقات ومن شيوخ الطائفة ، ثم ذكر الحديث كما مرّ حذو القذّة بالقذّة الاّ انّه لم يذكر الخادم ، بل ورد انّ الامام عليه‏السلام هو الذي أراد أخذ الخبز ،

 
(1) كشف الغمة 3:41 ، ومثله الفصول المهمة : 238 ، حديقة الشيعة 2:828 .
(2) المعزم : الذي يستعمل العزائم والرقى لنفع أو ضرر .
(3) المناقب 4:299 ، ومثله في البحار 48:41، ح 17 ، والعوالم 21:145، ح 1 .
(446)

 

وانّ صورة الأسد كانت في بعض صحون البيت لا على الستر ، ثم قال : لقد أنشدني الشيخ البهائي أدام اللّه‏ ايامه ثلاثة أبيات في مدح الامامين موسى بن جعفر ومحمد الجواد عليهماالسلام ، وهنّ أحسن أبيات قيلت في مدحهما :

 

 ألا يا قاصد الزوراء عرّج  على الغربيّ من تلك المغاني  ونعليك اخلعن واسجد خضوعا  إذا لاحت لديك القبّتان  فتحتهما لعمرك نار موسى  ونور محمد متقارنان

العاشرة : في كلامه عليه‏السلام مع الأسد :

        وروى ابن شهر آشوب أيضا عن عليّ بن أبي حمزة البطائني انّه قال : كنت مع أبي الحسن عليه‏السلام في طريق إذ استقبلنا أسد ووضع يده على كفل بغلته ، فوقف له أبو الحسن كالمصغي الى همهمته ، ثم تنحّى الاسد إلى جانب الطريق وحول أبو الحسن وجهه إلى القبلة وجعل يدعو بما لم أفهمه ، ثم أومى إلى الأسد بيده أن امض ، فهمهم الأسد همهمة طويلة وأبو الحسن يقول آمين آمين ، وانصرف الأسد .

        فقلت له : جعلت فداك عجبت من شأن هذا الاسد معك ، فقال : انّه خرج اليّ يشكو عسر الولادة على لبوته ، وسألني أن أسأل اللّه‏ أن يفرج عنها ، ففعلت ذلك وألقى في روعي انّها تلد ذكرا فخبرته بذلك فقال لي : امض في حفظ اللّه‏ ، فلا سلّط اللّه‏ عليك ولا على ذريّتك ولا على أحد من شيعتك شيئا من السباع ، فقلت : آمين .

        وقد نظم ذلك :

 

 واذكر الليث حين ألقى يديه  فسعى نحوه وزار وزمجر  ثم لما رأى الامام أتاه  وتجافى عنه وهاب واكبر  وهُوَ طاوٍ ثلاثا هذا هو الحق  وما لم أقله أوفى وأكثر(1)

الحادية عشرة : خبر شقيق البلخي وما شاهده من الدلائل :

        روى الشيخ الأربلي عن شقيق البلخي انّه قال : خرجت حاجا في سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلنا القادسية فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه ، شديد السمرة ، ضعيف ، فوق ثيابه ثوب من صوف ، مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان ، وقد جلس منفردا ، فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد ان يكون كلاًّ على الناس في طريقهم ، واللّه‏ لأمضينّ إليه ولأوبخنّه .

        فدنوت منه ، فلمّا رآني مقبلاً قال : يا شقيق : « ... إجْتَنِبُواْ كَثِيرَا مِّنَ الظَّنِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ... »

(2) .

 

 (1) المناقب 4:298 ، ومثله البحار 48:57 ، ح 67 ، والعوالم 21:141 ، ح 1 ، وأورده في الصراط المستقيم 2:192 ، ح 22 .
(447)

 

        ثم تركني ومضى ، فقلت في نفسي : انّ هذا الأمر عظيم قد تكلّم بما في نفسي ونطق باسمي ، وما هذا الاّ عبد صالح لألحقنّه ولأسألنّه أن يحالني ، فاسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني ، فلمّا نزلنا واقصة وإذا به يصلّي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري ، فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلّه .

        فصبرت حتى جلس وأقبلت نحوه ، فلمّا رآني مقبلاً قال : يا شقيق أتل : « وَإنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَا ثُمَّ اهْتَدَى »

(1) .

        ثم تركني ومضى فقلت : انّ هذا الفتى لمن الأبدال لقد تكلّم على سرّي مرّتين ، فلمّا نزلنا زبالة إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ماء ، فسقطت الركوة من يده في البئر وأنا أنظر إليه فرأيته وقد رمق السماء وسمعته يقول :

 

 أنت ربّي إذا ظمئت إلى الماء  وقوّتي إذا أردت الطعاما

        اللهم سيدي ما لي غيرها فلا تعدمنيها ، قال شقيق : فو اللّه‏ لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها ، فمدّ يده وأخذ الركوة وملأها ماءا ، فتوضّأ وصلّى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب ، فأقبلت إليه وسلّمت عليه فردّ عليّ السلام ، فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم اللّه‏ عليك .

        فقال : يا شقيق لم تزل نعمة اللّه‏ علينا ظاهرة وباطنة ، فأحسن ظنّك بربك ، ثم ناولني الركوة فشربت منها فاذا هو سويق وسكّر ، فو اللّه‏ ما شربت قط ألذ منه ولا أطيب ريحا ، فشبعت ورويت وبقيت أياما لا أشتهي طعاما وشرابا ، ثم انّي لم أره حتى دخلنا مكة ، فرأيته ليلة إلى جنب قبة الشراب في نفس الليلة قائما يصلّي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل .

        فلمّا رأى الفجر جلس في مصلاّه يسبّح ، ثم قام فصلّى الغداة وطاف بالبيت اسبوعا فخرج ، فتبعته وإذا له حاشية وموال وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه ، فقلت لبعض من رأيته يقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‏السلام ، فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب الاّ لمثل هذا السيد

(2) .

        يقول المؤلف : انّ شقيق البلخي أحد مشايخ الطريقة ، وقد صاحب إبراهيم بن أدهم وأخذ منه الطريقة ، وكان استاذا لحاتم الأصمّ ، وقتل سنة (194) في غزوة كولان من بلاد الترك .

        وفي كشكول البهائي وغيره انّ شقيق البلخي كان في اوّل أمره ذا ثروة عظيمة ،

 

(1) الحجرات : 12 .
(2) طه : 82 .
(3) كشف الغمة 3:3 ، ومثله حلية الأبرار 2:246 .
(448)

 

وكان في اوّل أمره كثير الأسفار للتجارة ، فدخل سنة من السنين في بلاد الترك وهم عبدة الأصنام ، فقال لعظيمهم : انّ هذا الذي أنتم فيه باطل ، وانّ لهذا الخلق خالقا ليس كمثله شيء وهو رزّاق كلّ شيء .

        فقال له : إنّ قولك هذا لا يوافق فعلك ، فقال شقيق : وكيف ذلك ؟ فقال : زعمت انّ لك خالقا رازقا وقد تعبت في السفر إلى هنا لطلب الرزق . فلمّا سمع شقيق منه هذا الكلام رجع وتصدّق بجميع ما يملكه ولازم العلماء والزّهاد إلى أن مات رحمه‏الله

(1) .

        واعلم انّ الكثير من علماء الشيعة والسنة أوردوا حكاية شقيق مع موسى بن جعفر عليه‏السلام في كتبهم وأعقبوها بأبيات وهي :

 

 سل شقيق البلخي عنه بما شا  هد منه وما الذي كان أبصر  قال لمّا حججت عاينت شخصا  ناحل الجسم شاحب اللون أسمر  سائرا وحده وليس له زا  د فما زلت دائبا أتفكّر  وتوهّمت انّه يسأل النا  س ولم أدر انّه الحجّ الأكبر  ثم عاينته ونحن نزول  دون فيدٍ على الكثيّب الأحمر  يضع الرمل في الانا ويشربه  فناديته وعقلي محيّر  إسقني شربة فلمّا سقاني  منه عاينته سويقا وسكّر  فسألت الحجيج من يك هذا  قيل هذا الامام موسى بن جعفر

الثانية عشرة : في إخباره عليه‏السلام بالغيب :

        روى الشيخ الكشي عن شعيب العقرقوفي انّه قال : قال لي أبو الحسن عليه‏السلام مبتدئا من غير أن أسأله عن شيء : يا شعيب يلقاك غدا رجل من أهل المغرب يسألك عنّي ، فقل هو واللّه‏ الامام الذي قال لنا أبو عبد اللّه‏ عليه‏السلام ، فاذا سألك عن الحلال والحرام فأجبه منّي .

        فقلت : جعلت فداك فما علامته ؟ فقال : رجل طويل جسيم يقال له يعقوب ، فاذا أتاك فلا عليك أن تجيبه عن جميع ما سألك فانّه واحد قومه ، وإن أحبّ أن تُدخله اليّ فادخله .

        قال : فو اللّه‏ انّي لفي طوافي إذ أقبل اليّ رجل طويل من أجسم ما يكون من الرجال ، فقال لي : أريد أن أسألك عن صاحبك ؟ فقلت : عن أي صاحب ؟ قال : عن فلان بن فلان ، فقلت : ما إسمك ؟ فقال : يعقوب ، فقلت : ومن أين أنت ؟ فقال : رجل من أهل المغرب .

        قلت : فمن أين عرفتني ؟ قال : أتاني آت في منامي : ألق شعيبا فسله عن جميع ما

 

(1) الكشكول 3:230 .
(449)

 

تحتاج إليه ، فسألتُ عنك فدللت عليك ، فقلت : أجلس في هذا الموضع حتى أفرغ من طوافي وآتيك إن شاء اللّه‏ ، فطفت ثم أتيته فكلّمت رجلاً عاقلاً ، ثم طلب اليّ أن أدخله على أبي الحسن عليه‏السلام ، فأخذت بيده فاستأذنت على أبي الحسن عليه‏السلام فأذن لي ، فلمّا رآه أبو الحسن عليه‏السلام قال له : يا يعقوب قدمت أمس ، ووقع بينك وبين أخيك شرّ في موضع كذا وكذا حتى شتم بعضكم بعضا ، وليس هذا ديني ولا دين آبائي ، ولا نأمر بهذا أحدا من الناس ، فاتق اللّه‏ وحده لا شريك له فإنّكما ستفترقان بموت .

        أما انّ أخاك سيموت في سفره قبل أن يصل إلى أهله وستندم أنت على ما كان منك ، وذلك أنكما تقاطعتما فبتر اللّه‏ أعماركما ، فقال له الرجل : فانا جعلت فداك متى أجلي ؟ فقال : أما انّ أجلك قد حضر حتى وصلت عمتك بما وصلتها به في منزل كذا وكذا فزيد في أجلك عشرون .

        قال : فأخبرني الرجل ولقيته حاجّا انّ أخاه لم يقبل إلى أهله حتى دفنه في الطريق

(1) .

        وأورده القطب الراوندي عن عليّ بن أبي حمزة بالنحو المذكور .

الثالثة عشرة : خبر علي بن مسيّب الهمداني :

        قال المحقق البهبهاني في تعليقته على كتاب الرجال الكبير عند ذكر أحوال عليّ بن المُسيّب الهمداني : وفي بعض الكتب المعتمدة انّه اُخذ [ أي عليّ بن المسيب ] من المدينة مع الكاظم عليه‏السلام وحبس معه في بغداد ، وبعد ما طال حبسه واشتد شوقه إلى عياله قال عليه‏السلام له : اغتسل ، فاغتسل ، فقال : غض عينيك ، فغض ، فقال : افتح ، ففتح فرآه عند قبر الحسين عليه‏السلام ، فصلّيا عنده وزاراه .

        ثم قال : غمّض ، وقال : افتح فرآه معه عند قبر الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فقال : هذا بيتك فاذهب الى عيالك وجدّد العهد وارجع اليّ ، ففعل ، فقال : غمّض ، وقال : افتح ، ففتح فرآه معه فوق جبل قاف ، وكان هناك من أولياء اللّه‏ أربعون رجلاً ، فصلّى عليه‏السلام وصلّوا مقتدين به ، ثم قال : غمّض ، وقال : افتح ، ففتح فرآه معه في السجن

(2) .

* * *

 
(1) اختيار معرفة الرجال 2:741 ، ح 831 ، عنه البحار 48:35 ، ح 7 ، والخرائج 1:307 .
(2) تعليقة منهج المقال : 95 ، حرف العين .
(450)

 

الفصل الرابع

في استشهاده عليه‏السلام وذكر ما جرى عليه من الظلم

        الأشهر في تأريخ شهادة الإمام موسى الكاظم عليه‏السلام كونها في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة (183 ه) ببغداد في حبس السندي بن شاهك ، وقال البعض في الخامس من رجب

(1) ، وكان عمره الشريف خمسا وخمسين سنة ، وعلى رواية الكافي اربعا وخمسين سنة(2) .

        انتقلت إليه الامامة وهو ابن عشرين سنة ، وكانت مدّة امامته خمسا وثلاثين سنة ، أدرك عليه‏السلام منها أواخر ايام المنصور ، ولم يتعرض له ظاهرا ، ومنها عشر سنين مدة المهدي فجيء به إلى العراق وحبس ، ولم يجرؤ المهدي على ايذائه بسبب المعاجز الكثيرة التي رآها منه فأعاده إلى المدينة ، ثم أدرك أيام الهادي ولم يتعرض له أيضا ، وكان ملكه حوالي سنة وأشهر .

        قال صاحب عمدة الطالب : وقبض عليه موسى‏الهادي وحبسه ، فرأى عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام في نومه يقول له : يا موسى « فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ »

(3) .

        فانتبه من نومه وقد عرف انّه المراد فأمر باطلاقه ثم تنكر له من بعد ذلك فهلك قبل أن يوصل إلى الكاظم عليه‏السلام أذى ، ولما ولي هارون الرشيد الخلافة اكرمه وأعظمه ثم قبض عليه وحبسه [ ببغداد وقتله بالسمّ بعد أربع عشرة سنة من خلافته (4)] .

        أما سبب أخذ هارون الامام وإرساله إلى العراق ، فكما رواه الشيخ الطوسي وابن بابويه وغيرهما قالوا : كان السبب في وقوع موسى بن جعفر عليه‏السلام إلى بغداد انّ هارون الرشيد أراد أن يعقد الأمر لابنه محمد بن زبيدة ، وكان له من البنين أربعة عشر ابنا فاختار منهم ثلاثة : محمد بن زبيدة وجعله وليّ عهده ، وعبد اللّه‏ المأمون وجعل الامر له بعد ابن زبيدة ، والقاسم المؤتمن وجعل الأمر له بعد المأمون .

        فلمّا وضع الرشيد ابنه محمد بن زبيدة في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث ، ساء ذلك يحيى [ البرمكي من أعظم وزراء هارون ] وقال : إذا مات الرشيد وأفضى

 
(1) عيون الاخبار 1:99 ، ح 4 .
(2) الكافي 1:486 ، ح 9 ، باب مولد أبي الحسن موسى عليه‏السلام .
(3) محمد : 22 .
(4) عمدة الطالب : 196 .
(451)

 

الإمر إلى محمد انقضت دولتي ودولة ولدي وتحوّل الأمر إلى جعفر بن محمد بن الأشعث وولده ، فصار في مقام تضييع ابن الأشعث والسعي به عند هارون حتى نسبه إلى التشيّع والاعتقاد بامامة موسى بن جعفر عليه‏السلام وقال له : انّه لا يصل إليه مال من جهة من الجهات الاّ أخرج خمسه فوجّه به الى موسى بن جعفر ، فصار ذلك سببا لتوجس هارون من الامام ، فسأل يوما يحيى وغيره بأنّهم هل يعرفون أحدا من آل أبي طالب حتى يدعوه ويسأله عن موسى بن جعفر .

        فعيّنوا محمد بن اسماعيل بن جعفر ابن أخي الامام عليه‏السلام الذي أحسن الامام إليه كثيرا وكان مطلعا على أحوال الامام ، فكتبوا إليه كتابا بأمر هارون وطلبوه ، فقال الامام له : مالك والخروج مع السلطان ؟ قال : لأنّ عليّ دينا ، فقال : دينك عليّ ، قال : وتدبير عيالي ، قال : أنا أكفيهم فأبي الاّ الخروج .

        ثم قال للامام : أوصني ، فقال له : أوصيك بأن لا تشرك بدمي ولا تؤتم ولدي ، فقال مرّة أخرى أوصني فأوصاه بمثله إلى ثلاث مرّات ، فأعطاه الامام ثلاثمائة دينار وأربعة الاف درهم ، فلمّا قام وذهب قال الامام عليه‏السلام لمن حضره : واللّه‏ ليسعينّ في دمي ويوتمنّ أولادي ، فقالوا : جعلنا اللّه‏ فداك وأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله ؟

        قال : نعم ، حدّثني أبي عن آبائه عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : انّ الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها اللّه‏ ، وانني أردت أن أصله بعد قطعه حتى إذا قطعني قطعه اللّه‏ .

        فذهب محمد بن اسماعيل إلى بغداد ونزل دار يحيى بن خالد البرمكي ، فتواطأ على انّه لو ذهب إلى الرشيد يقول له أمورا عن الامام يهيج بها غضبه ، فلمّا جاء إليه سلّم عليه وقال له: ما ظننت أنّ في الأرض خليفتين أنت هنا خليفة وموسى بن جعفر في المدينة خليفة تجبى اليه الأموال من كلّ أقطار العالم ، واشترى ضيعة بثلاثين الف درهم وسمّاها اليسيرة ، فأمر له هارون بمائتي الف درهم ، لكنّه لم ينتفع بها ، فأصابه وجع في حلقه بعد رجوعه إلى البيت فمات منه .

        وفي رواية اخرى انّه دخل في بعض الايام إلى الخلاء فزحر زحرة خرجت منها حشوته ، وجهدوا في ردّها فلم يقدروا فوقع لما به وجاءه المال وهو ينزع فقال : ما أصنع به وأنا في الموت فعيد المال إلى دار الخلافة

(1) .

        وحجّ الرشيد في تلك السنة أي سنة ( 179 ه ) لاحكام أمر سلطانه وأخذ الامام موسى بن جعفر عليه‏السلام ، وكتب إلى الأطراف والنواحي يأمر العلماء والسادة والأعيان والأشراف بالاجتماع في مكة كي يجدد البيعة لنفسه ويأخذ البيعة لولديه بولاية العهد ، وجاء اوّلاً إلى المدينة الطيّبة ، وروى ابراهيم بن أبي بلاد قال : كان يعقوب بن داوُد يخبرني انّه قد قال بالامامة ، فدخلت إليه بالمدينة في الليلة التي أُخذ فيها موسى

 

(1) انظر الغيبة للشيخ الطوسي : 21 ، مع اختلاف ، وفي الارشاد : 298 .
(452)

 

بن جعفر عليه‏السلام في صبيحتها فقال لي : كنت عند الوزير الساعة ـ يعني يحيى بن خالد ـ فحدّثني انّه سمع الرشيد يقول عند رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كالمخاطب له : « بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه‏ انّي أعتذر إليك من أمر قد عزمت عليه ، فانّي أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لانّي قد خشيت أن يُلقي بين أمتك حربا يسفك فيها دماءهم » وأنا أحسب انّه سيأخذه غدا(1) .

        فلمّا كان الغد أرسل إليه الفضل بن الربيع ، وهو قائم يصلي في مقام رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأمر بالقبض عليه ، فقطع عليه صلاته وحُمل وهو يبكي ويقول : « إليك أشكو يا رسول اللّه‏ ما ألقى » وأقبل الناس من كلّ جانب يبكون ويضجّون ، فلمّا حمل إلى بين يدي الرشيد شتمه وجفاه (نعوذ باللّه‏) .

        فلمّا جنّ عليه الليل قيّده وأمر بقبتين فهيئتا له ، فحُمل موسى بن جعفر عليه‏السلام إلى أحدهما في خفاء ، ودفعه إلى حسّان السروي وأمره أن يصير به في قبّة إلى البصرة فيسلّمه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور وهو أميرها وابن عمّ هارون ، ووجّه قبة أخرى علانية نهارا إلى الكوفة معها جماعة ليعمي على الناس أمر موسى بن جعفر عليه‏السلام .

        فقدم حسّان البصرة في السابع من شهر ذي الحجة قبل التروية بيوم ، فدفعه إلى عيسى بن جعفر نهارا علانية حتى عُرف ذلك وشاع أمره ، فحبسه عيسى في بيت من بيوت المحبس الذي كان يحبس فيه وأقفل عليه وشغله عنه العيد ، فكان لايفتح عنه الباب الاّ في حالتين حال يخرج فيها إلى الطهور وحال يُدخل إليه فيها الطعام .

        قال محمد بن سليمان النوفلي : فقال لي الفيض بن أبي صالح ـ وكان نصرانيا ثم أظهر الاسلام ، وكان يكتب لعيسى بن جعفر وكان بي خاصّا ـ فقال : يا أبا عبد اللّه‏ لقد سمع هذا الرجل الصالح في ايّامه هذه في هذه الدار التي هو فيها من ضروب الفواحش والمناكير ، ما أعلم ولا أشك انّه لم يخطر بباله

(2) .

        وبالجملة كان عليه‏السلام في حبس عيسى حوالي سنة ، فكتب إليه الرشيد مرارا أن يقتله ، فلم يجرأ على ذلك ومنعه أيضا جمع من أصدقائه ، فلمّا طال حبسه كتب إلى هارون : « ان خذه منّي وسلّمه إلى من شئت والاّ خلّيت سبيله فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجّة فما أقدر على ذلك ، حتى انّي لأستمع عليه إذا دعا لعلّه يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو الاّ لنفسه ، يسأل اللّه‏ الرحمة والمغفرة »(3) .

        روى الشيخ الصدوق عن الثوباني انّه قال : كانت لأبي الحسن موسى بن

 

(1) البحار 48:213 ، ح 13 .
(2) راجع البحار 48:207 إلى 221 ، ملخّصا .
(3) البحار 48:233 ، ح 38 ، باب 9 .
(453)

 

جعفر عليه‏السلام ـ بضع عشرة سنة ـ كل يوم سجدة بعد انقضاض الشمس إلى وقت الزوال .

        فكان هارون ربّما صعد سطحا يُشرف منه على الحبس الذي حبس فيه أبا الحسن عليه‏السلام ، فكان يرى أبا الحسن عليه‏السلام ساجدا ، فقال للربيع : يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب وانّما هو موسى بن جعفر عليهماالسلام ، له كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال .

        قال الربيع : فقال لي هارون : أما انّ هذا من رهبان بني هاشم ، قلت : فما لك قد ضيّقت عليه في الحبس ؟ قال : هيهات لابدّ من ذلك

(1) .

        وروي في كتاب الدر النظيم عن الفضل بن الربيع عن أبيه قال : بعثني هارون الى أبي الحسن عليه‏السلام برسالة وهو في حبس السندي بن شاهك ، فدخلت عليه وهو يصلّي فهبته أن أجلس ، فوقفت متكيا على سيفي ، فكان عليه‏السلام إذا صلّى ركعتين وسلّم واصل بركعتين أُخراوتين ، فلمّا طال وقوفي وخفت أن يسأل عنّي هارون وحانت منه سليمة فشرعت في الكلام ، فامسك ... [ فأبلغته رسالة هارون وقلت له انّ هارون ] يقرئك السلام ويقول لك انّه بلغني عنك أشياء أقلقتني فأقدمتك اليّ ، وفحصت عن ذلك فوجدتك نقيّ الجيب بريّا من العيب ، مكذوبا عليك فيما رُميت به ، ففكرت بين اصرافك إلى منزلك ومقامك ببابي ، فوجدت مقامك ببابي أبرى لصدري ... ، ولكلّ انسان غذاء قد اغتذاه وألفت عليه طبيعته ، ولعلّك اغتذيت بالمدينة اغذية لا تجد من يصنعها لك ها هنا ، وقد أمرت الفضل أن يقيم لك من ذلك ما شئت ، فمره بما أحببت وانبسط فيما تريده .

        قال : فجعل عليه‏السلام الجواب في كلمتين من غير أن يلتفت اليّ فقال : لا حاضر مالي فينفعني ولم أخلق سؤولاً ، اللّه‏ اكبر ودخل في الصلاة ، قال : فرجعت إلى هارون فأخبرته ، فقال لي : فما ترى في أمره ؟ فقلت : يا سيدي لو خططت في الأرض خطة فدخل فيها ثم قال لا أخرج منها ما خرج منها ، قال : هو كما قلت ولكن مقامه عندي أحبّ اليّ ، وروي غيره .

        قال : قال هارون : ايّاك أن تخبر بهذا أحدا ، قال : فما أخبرت به أحدا حتى مات هارون

(2).

        وروى الشيخ الطوسي عن محمد بن غياث انّه قال : لمّا حبس هارون الرشيد أبا ابراهيم موسى عليه‏السلام ، وأظهر الدلائل والمعجزات وهو في الحبس تحيّر الرشيد ، فدعا يحيى بن خالد البرمكي فقال : ... انطلق إليه وأطلق عنه الحديد وقل له : يقول لك ابن عمّك انّه قد سبق منّي فيك يمين انّي لا أخلّيك حتى تقرّ لي بالإساءة وتسألني العفو

 
(1) عيون الاخبار 1:95 ، ح 14 ، عنه البحار 48:220 ، ح 24 ، والعوالم 21:293 ، ح 1 .
(2) الدر النظيم 2:195 ، الباب التاسع ، فصل في ذكر بعض أخبار موسى عليه‏السلام .
(454)

 

عمّا سلف منك ، وليس عليك في إقرارك عار ولا في مسألتك إيّاي منقصة ، وهذا يحيى بن خالد هو ثقتي ووزيري وصاحب أمري ، فسله بقدر ما أخرج من يميني وانصرف راشدا .

        قال محمد بن غياث : فأخبرني موسى بن يحيى بن خالد أنّ أبا ابراهيم قال ليحيى : « يا أبا عليّ أنا ميّت وانّما بقي من أجلي اسبوع ... »

(1) .

        وروي عن الفضل بن الربيع [ في الايام التي كان الامام محبوسا عنده ] قال : قد أرسلوا اليّ في غير مرّة يأمروني بقتله فلم أُجبهم إلى ذلك ، وأعلمتهم انّي لا أفعل ذلك ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني .

        فلمّا كان بعد ذلك حُوّل إلى الفضل بن يحيى البرمكي ، فحبس عنده أياما فكان الفضل بن الربيع يبعث إليه في كلّ ليلة مائدة ، ومنع أن يدخل إليه من عند غيره ، فكان لا يأكل ولا يفطر الاّ على المائدة التي يؤتى بها حتى مضى على تلك الحال ثلاثة ايام ولياليها ، فلمّا كانت الليلة الرابعة قدّمت إليه مائدة الفضل بن يحيى .

        قال : ورفع يده إلى السماء فقال : « يا ربّ انّك تعلم انّي لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي » قال : فأكل فمرض ، فلمّا كان من الغد بعث إليه بالطبيب ليسأله عن العلّة فقال له الطبيب : ما حالك ؟

        فتغافل عنه ، فلمّا اكثر عليه أخرج إليه راحته فأراها الطبيب ثم قال : هذه علّتي ، وكانت خضرة وسط راحته تدّل على انّه سم فاجتمع في ذلك الموضع ، قال : فانصرف الطبيب اليهم وقال : واللّه‏ لهو أعلم بما فعلتم به منكم ، ثم توفي عليه‏السلام

(2) .

        وفي رواية أخرى انّ الفضل بن يحيى لم يقدم على قتل الامام مع إصرار هارون على قتله ، فبلغ هارون وهو بالرقة انّ الامام عند الفضل بن يحيى في سعة ورفاهة ، فأنفذ مسرور الخادم الى بغداد على البريد ، وأمره أن يدخل من فوره إلى موسى بن جعفر فيعرف خبره ، فان كان الأمر على ما بلغه أوصل كتابا منه إلى العباس بن محمد وأمره بامتثاله ، وأوصل كتابا منه الى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس .

        فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد ، ثم دخل على موسى بن جعفر عليه‏السلام فوجده على ما بلغ الرشيد ، فمضى من فوره إلى العباس بن محمد والسندي فأوصل الكتابين اليهما ، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض إلى الفضل بن يحيى ، فركب معه وخرج مشدوها دهشا حتى دخل على العباس فدعا بسياط وعقابين فوجّه ذلك إلى السندي ، وأمر بالفضل فجرّد ثم ضربه مائة سوط ...

        وكتب مسرور بالخبر إلى الرشيد ، فأمر بتسليم موسى عليه‏السلام إلى السندي بن

 

(1) الغيبة للطوسي : 19 ، عنه البحار 48:230 ، ح 37 ، والعوالم 21:446 ، ح 3 .
(2) عيون الاخبار 1:106 ، ح 10 ، عنه البحار 48:210 ، ح 9 ، والعوالم 21:436 ، ضمن حديث 1 .
(455)

 

شاهك ، وجلس مجلسا حافلاً وقال : ايّها الناس انّ الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي ورأيت أن ألعنه فالعنوه ، فلعنه الناس من كلّ ناحية حتى ارتجّ البيت والدار بلعنه .

        وبلغ يحيى بن خالد ، فركب إلى الرشيد ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه حتى جاءه من خلفه وهو لا يشعر ثم قال : التفت اليّ يا أمير المؤمنين ... انّ الفضل حدث وأنا اكفيك ما تريد ، فانطلق وجهه وسرّ وأقبل على الناس فقال : انّ الفضل كان عصاني في شى‏ء فلعنته وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولّوه ، فقالوا : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت وقد تولّيناه .

        ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد ، فماج الناس وأرجفوا بكلّ شيء ، فأظهر انّه ورد لتعديل السواد والنظر في أمر العمّال وتشاغل ببعض ذلك ودعا السندي فأمره فيه بأمره وامتثله

(1) [ اي تقبل الامام وأعطاه رطبا مسموما كي يعطيها إلى الامام ويبالغ في أكله إيّاه ] .

        وفي رواية انّ السندي بن شاهك حضر بعد ما كان بين يديه السم في الرطب ، وانّه عليه‏السلام أكل منها عشر رطبات ، فقال له السندي : تزداد ؟ فقال عليه‏السلام له : حسبك قد بلغت ما يحتاج إليه فيما أمرت به ، ثم انّه أحضر القضاة والعدول قبل وفاته بأيّام وأخرجه اليهم وقال : انّ الناس يقولون : انّ أبا الحسن موسى في ضنك وضرّ وهاهو ذا لا علّة به ولا مرض ولا ضرّ .

        فالتفت عليه‏السلام فقال لهم : اشهدوا عليّ انّي مقتول بالسمّ منذ ثلاثة ايام ، إشهدوا انّي صحيح الظاهر لكنّي مسموم ، وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة ، وأصفر غدا صفرة شديدة ، وأبيضّ بعد غد وأمضي إلى رحمة اللّه‏ ورضوانه ، فمضى عليه‏السلام كما قال في آخر اليوم الثالث

(2) .

        وهو مصداق قوله تعالى : « وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللّه‏ِ ... »(3) .

        روى الشيخ الصدوق وغيره عن الحسن بن محمد بن البشار قال : حدّثني شيخ من أهل قطيعة الربيع من العامة ممّن كان يُقبل قوله ، قال : قال لي : قد رأيت بعض من يقرّون بفضله من أهل هذا البيت فما رأيت مثله قط في نسكه وفضله قال : قلت : من وكيف رأيته ؟

        قال : جمعنا ايّام السندي بن شاهك ثمانين رجلاً من الوجوه ممّن ينسب إلى الخير ، فأدخلنا الى موسى بن جعفر عليه‏السلام ، فقال لنا السندي : يا هؤلاء انظروا إلى هذا

 
(1) العوالم 21:431 ، والبحار 48:231 ، ضمن حديث 38 .
(2) البحار 48:247 ، ح 56 ، والعوالم 21:462 ، ح 7 .
(3) آل عمران : 107 .
(456)

 

الرجل هل حدث به حدث ؟ فانّ الناس يزعمون انّه قد فُعل مكروه به ويكثرون في ذلك ، وهذا منزله وفرشه موسّع عليه غير مضيّق ، ولم يرد به أمير المؤمنين سوءا وانّما ينتظره أن يقدم فيناظره أمير المؤمنين ، وهاهو ذا صحيح موسّع عليه في جميع امره فاسألوه .

        قال : ونحن ليس لنا همّ الاّ النظر إلى الرجل والى فضله وسمته ، فقال عليه‏السلام : امّا ما ذكر من التوسعة وما أشبه ذلك فهو على ما ذكر ، غير انّي أخبركم أيّها النفر انّي قد سقيت السمّ في تسع تمرات ، وانّي أخضرّ غدا وبعد غد أموت ، قال : فنظرت إلى السندي بن شاهك يرتعد ويضطرب مثل السعفة

(1) .

        ووفقا لبعض الروايات انّ الامام عليه‏السلام سأل السندي عند وفاته أن يحضره مولى له ينزل عند دار العباس بن محمد ليغسّله ، ففعل ذلك ، قال السندي : وسألته أن يأذن لي أن اكفنه فأبى وقال : انّا أهل بيت مهور نسائنا وحج صرورتنا واكفان موتانا من طهرة أموالنا وعندي كفني .

        فلمّا مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد ... فنظروا إليه لا أثر به وشهدوا على ذلك ، وأخرج فوضع على الجسر ببغداد ونودي : « هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة انّه لايموت فانظروا إليه » فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميّت

(2).

        وروى الشيخ الصدوق أيضا عن عمر بن واقد انّه قال : أرسل اليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد ، فاستحضرني فخشيت أن يكون ذلك لسوء يريده بي ، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه وقلت : انّا للّه‏ وانّا إليه راجعون ، ثم ركبت إليه .

        فلمّا رآني مقبلاً قال : يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأفزعناك ، قلت : نعم ، قال : فليس هاهنا الاّ خير ، قلت : فرسول تبعثه إلى منزلي يخبرهم خبري ، فقال : نعم ، ثم قال : يا أبا حفص أتدري لم أرسلت اليك ؟ فقلت : لا ، فقال : أتعرف موسى بن جعفر ؟ فقلت : إي واللّه‏ انّي لأعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر .

        فقال : من هاهنا ببغداد يعرفه ممّن يقبل قوله ؟ فسمّيت له أقواما ووقع في نفسي انّه قد مات ، قال : فبعث اليهم وجاء بهم كما جاء بي فقال : هل تعرفون قوما يعرفون موسى بن جعفر ؟ فسمّوا له قوما فجاء بهم ، فأصبحنا ونحن في الدار نيّف وخمسون رجلاً ممّن يعرف موسى بن جعفر عليه‏السلام وقد صحبه .

        قال : ثم قام ودخل وصلّينا ، فخرج كاتبه ومعه طومار ، فكتب أسماءنا ومنازلنا وأعمالنا ثم دخل إلى السندي ، قال : فخرج السندي فضرب يده اليّ فقال : قم يا أبا حفص فنهضت ونهض أصحابنا ودخلنا فقال لي : يا أبا حفص اكشف الثوب عن

 

(1) امالي الصدوق : 128 ، ح 20 ، المجلس 29 ، عنه البحار 48:212 ، ح 10 ، والعوالم 21:436 ، ح 2 .
(2) البحار 48:234 ، ح 38 ، والعوالم 21:432 ، بتغيير .
(457)

 

وجه موسى بن جعفر فكشفته فرأيته ميّتا ، فبكيت واسترجعت .

        ثم قال للقوم : انظروا إليه ، فدنا واحد بعد واحد فنظروا إليه ، ثم قال : تشهدون كلّكم انّ هذا موسى بن جعفر بن محمد ؟ قالوا : نعم نشهد انّه موسى بن جعفر بن محمد ، ثم قال : يا غلام اطرح على عورته منديلاً واكشفه ، قال : ففعل ، فقال : أترون به أثرا تنكرونه ؟ فقلنا : لا ما نرى به شيئا ولا نراه الاّ ميّتا .

        قال : لا تبرحوا حتّى تغسّلوه واكفنّه وأدفنه ، قال : فلم نبرح حتى غُسّل وكُفّن وحُمل ، فصلّى عليه السندي بن شاهك ودفنّاه ورجعنا

(1) .

        قال صاحب عمدة الطالب : ومضى الرشيد إلى الشام ، فأمر يحيى بن خالد السندي بقتله ، فقيل انّه سُمّ وقيل بل غمر في بساط ولفّ حتى مات ، ثم اُخرج للناس وعمل محضرا انّه مات حتف أنفه ، وترك ثلاثة ايّام على الطريق يأتي من يأتي فينظر إليه ثم يكتب في المحضر ودفن بمقابر قريش(2) .

        وفي رواية انّ السندي بن شاهك لمّا رفع جنازة الامام عليه‏السلام أمر مناديا ينادي : (هذا امام الرافضة فاعرفوه) فوضعت الجنازة في السوق ، فنادى المنادي : (هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه فانظروا اليه) فاجتمع الناس حوله ونظروا إليه ، فلم يروا أثرا من الجراحة أو الخنق ورأوا الحنّاء في رجليه ، فأمر الفقهاء والعلماء أن يشهدوا بذلك ، فشهدوا الاّ أحمد بن حنبل لم يكتب شيئا مع اصرارهم الشديد .

        والسوق الذي وضع فيه نعش الامام عليه‏السلام سمّى « سوق الرياحين » وبني عليه بناءا وجعلت له باب كي لا تطأه الأقدام بل يتبرّكوا به ويزوروه ، ونقل عن مولى أولياء اللّه‏ صاحب تاريخ مازندران انّه قال : ذهبت مرارا إلى هذا الموضع الشريف وقبّلته .

        قال الشيخ المفيد رحمه‏الله : ووضع على الجسر ببغداد ونودي هذا موسى بن جعفر عليه‏السلام قد مات فانظروا إليه ، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميّت

(3) .

        قال ابن شهر آشوب : ولمّا مات عليه‏السلام أخرجه السندي ووضعه على الجسر ببغداد ونودي : « هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة انّه لا يموت فانظروا إليه » وانّما قال ذلك لاعتقاد الواقفة انّه القائم وجعلوا حبسه غيبة القائم ، فنفر بالسندي فرسه نفرة وألقاه في الماء ، فغرق فيه وفرّق اللّه‏ جموع يحيى بن خالد(4) .

        وفي رواية الشيخ الصدوق انّه حمل على نعش .... فلمّا اُتي به مجلس الشرطة أقام أربعة نفر فنادوا : « ألا من أراد أن ينظر إلى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر

 

(1) كمال الدين : 37 ، وعيون الاخبار 1:97 ، ح 3 ، عنهما البحار 48:225 ، ح 27 ، والعوالم 21:459 ، ح 3 .
(2) عمدة الطالب : 196 ، عنه البحار 48:248 ، ح 57 ، والعوالم 21:463 ، ح 8 .
(3) الارشاد : 302 .
(4) المناقب 4:328 ، باب وفاته عليه‏السلام .
(458)

 

فليخرج » وخرج سليمان بن أبي جعفر من قصره إلى الشطّ ، فسمع الصياح والضوضاء فقال لولده وغلمانه : ما هذا ؟ قالوا : السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر على نعش .

        فقال لولده وغلمانه : يوشك أن يُفعل به هذا في الجانب الغربي ، فاذا عبر به فأنزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم ، فان مانعوكم فاضربوهم واخرقوا ما عليهم من السواد ، قال : فلمّا عبروا به نزلوا اليهم فأخذوه من أيديهم وضربوهم وخرّقوا عليهم سوادهم ووضعوه في مفرق أربعة طرق ، وأقام المنادين ينادون : « ألا من أراد أن ينظر إلى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج » .

        وحضر الخلق وغسّله وحنّطه بحنوط ، وكفّنه بكفن فيه حبره استعملت له بألفين وخمسمائة دينار ، مكتوبا عليها القرآن كلّه ، واحتفى ومشى في جنازته متسلّبا مشقوق الجيب إلى مقابر قريش ، فدفنه هناك وكتب بخبره إلى الرشيد .

        فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر : وصلت رحمك يا عم وأحسن اللّه‏ جزاءك ، واللّه‏ ما فعل السندي بن شاهك لعنه اللّه‏ ما فعله عن أمرنا

(1) .

        روى الشيخ الكليني رحمه‏الله عن أحد خدمة الامام موسى الكاظم عليه‏السلام انّه قال : أمر أبو ابراهيم عليه‏السلام ـ حين أخرج به ـ أبا الحسن أن ينام على بابه في كلّ ليلة أبدا ما كان حيّا إلى أن يأتيه خبره .

        قال : فكنّا في كلّ ليلة نفرش لأبي الحسن عليه‏السلام في الدهليز ، ثمّ يأتي بعد العشاء فينام فإذا أصبح انصرف إلى منزله ، قال : فمكث على هذه الحال أربع سنين ، فلمّا كان ليلة من الليالي أبطأ عنّا وفُرش له ، فلم يأت كما كان يأتي فاستوحش العيال وذعروا ودَخَلَنا أمرٌ عظيم من إبطائه .

        فلمّا كان من الغد أتى الدار ودخل إلى العيال وقصد إلى أمّ أحمد ، فقال لها : هاتِ التي أودعك أبي ، فصرخت ولطمت وجهها وشقّت جيبها وقالت : مات واللّه‏ يا سيدي ، فكفّها وقال لها : لا تكلّمي بشيء ولا تظهريه حتى يجيء الخبر إلى الوالي .

        فأخرجت إليه سفطا وألفي دينار أو أربعة الاف دينار ، فدفعت ذلك أجمع إليه دون غيره ، وقالت : انّه قال لي فيما بيني وبينه ـ وكانت أثيرة عنده ـ : « أحتفظي بهذه الوديعة عندك لا تطلعي عليها أحدا حتى أموت ، فاذا مضيت فمن أتاك من ولدي فطلبها منك فادفعيها اليه واعلمي انّي قد متّ » وقد جاءتني واللّه‏ علامة سيدي .

        فقبض عليه‏السلام ذلك منها وأمرهم بالإمساك جميعا إلى أن ورد الخبر وانصرف فلم يعد لشيء من المبيت كما كان يفعل ، فما لبثنا الاّ أيّاما يسيرة حتى جاءت الخريطة بنعيه ، فعدّدنا الايّام وتفقّدنا الوقت ، فاذا هو قد مات في الوقت الذي فعل

 

(1) كمال الدين : 38 ، وعيون الاخبار 1:99 ، ح 5 ، عنهما البحار 48:227 ، ح 29 ، والعوالم 21:461 ، ح 6 .
(459)

 

أبو الحسن عليه‏السلام ما فعل من تخلّفه عن المبيت وقَبْضِهِ لما قبض(1) (ثم أقام الامام الرضا عليه‏السلام واهل بيته مأتما لموسى بن جعفر عليه‏السلام ) .

        يقول المؤلف : ذكر السيد ابن طاووس رحمه‏الله في مصباح الزائر في جملة زيارات الامام موسى الكاظم عليه‏السلام صلواتا عليه تحتوي على فضائل ومناقب ومصائب شتّى حدثت له عليه‏السلام من الجدير ذكرها ، قال :

        « اللهم صلّ على محمد وأهل بيته (الطاهرين) وصلّ على موسى بن جعفر وصيّ الأبرار ، وامام الأخيار ، وعيبة الأنوار ، ووارث السكينة والوقار ، والحكم والآثار ، الذي كان يُحيي الليل بالسهر إلى السحر بمواصلة الاستغفار .

        حليف السجدة الطويلة ، والدموع الغزيرة ، والمناجات الكثيرة ، والضراعاة المتّصلة ، ومقرّ النّهى والعدل ، والخير والفضل ، والنّدى والبذل ، ومألف البلوى والصبر ، والمضطهد بالظلم ، والمقبور بالجور ، والمعذّب في قعر السجون وظُلَمِ المطأمير ، ذي الساق المرضوض بحلق القيود ، والجنازة المنادى عليها بذلّ الاستخفاف ، والوارد على جدّه المصطفى وأبيه المرتضى وامّه سيدة النساء بإرثٍ مغصوب ، وولاءٍ مسلوب ، وأمرٍ مغلوب ، ودمٍ مطلوب ، وسمٍّ مشروب .

        اللهم وكما صبر على غليظ المحن ، وتجرّع غصص الكرب ، واستسلم لرضاك ، وأخلص الطاعة لك ، ومَحض الخشوع ، واستشعر الخضوع ، وعادى البدعة وأهلها ، ولم يلحقه في شيء من أوامرك ونواهيك لومة لائم ، صلّ عليه صلوة ناميةً منيفةً زاكية ، تُوجب له بها شفاعة أمم من خلقك ، وقرون من براياك ، وبلّغه عنّا تحيّة وسلاما ، وآتنا من لدنك في مولاته فضلاً وإحسانا ، ومغفرةً ورضوانا ، انّك ذو الفضل العميم ، والتجاوز العظيم برحمتك يا أرحم الراحمين »

(2) .

        وردت أحاديث كثيرة انّ زيارته عليه‏السلام كزيارة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله (3) ، وفي رواية انّ زائره كزائر رسول اللّه‏ وأمير المؤمنين صلوات اللّه‏ عليهما(4) وفي رواية كالذي زار الحسين عليه‏السلام (5) وفي رواية انّ من زاره فله الجنة(6) سلام اللّه‏ عليه .

        نَقَل الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن أبي علي الخلال انّه قال : ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر ، فتوسّلت به الاّ سهّل اللّه‏ تعالى لي ما أحبّ(7) .

 

 
(1) الكافي 1:312 ، ح 6 ، عنه البحار 48:247 ، ح 53 ، والعوالم 21:471 ، ح 1 .
(2) مصباح الزائر : 288 .
(3) بحار الأنوار 102:4 ، ح 17 .
(4) بحار الأنوار 102:4 ، ح 19 ، وفي كامل الزيارات : 299 .
(5) بحار الأنوار 102:5 ، ح 24 .
(6) بحار الأنوار 102:2 ، ح 5 ، وفي كامل الزيارات : 301 .
(7) تاريخ بغداد 1:120 ، البحار 102:1 .
(460)

 

* * *

(461)

 

(462)

 

الباب العاشر

في تاريخ الإمام الثامن الضامن زبدة الأصفياء ومأوى الغرباء مولانا أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه آلاف التحيّة والثناء

(463)

 

(464)

 

الفصل الأول

في ولادته واسمه وكنيته ولقبه ونسبه عليه‏السلام

        اعلم انّه قد وقع خلاف في تاريخ ولادته ، والأشهر أنّه ( عليه‏السلام ) ولد في الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة (148) ه في المدينة المنوّرة ، وقيل في الحادي عشر من شهر ذي الحجة سنة (153) بعد وفاة الامام الصادق عليه‏السلام بخمس سنين ، وعلى الرواية الأولى المشهورة تكون ولادته بعد وفاة الامام الصادق عليه‏السلام بايّام قليلة ، وكان الصادق عليه‏السلام يتمنّى رؤيته كما روي عن الامام موسى الكاظم عليه‏السلام انّه قال : « ... سمعت أبي جعفر بن محمد عليه‏السلام غير مرّة يقول لي : انّ عالم آل محمد لفي صلبك وليتني أدركته فانّه سميّ أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام »

(1) .

        روى الشيخ الصدوق عن يزيد بن سليط انّه قال : لقينا أبا عبد اللّه‏ عليه‏السلام في طريق مكة ونحن جماعة ، فقلت له : بأبي أنت وأمّي أنتم الأئمة المطهرون والموت لا يعري منه أحد ، فأحدث إليّ شيئاً ألقيه إلى من يخلفني .

        فقال لي : نعم هؤلاء ولدي وهذا سيّدهم ـ وأشار إلى ابنه موسى عليه‏السلام ـ وفيه علم الحكم ، والفهم ، والسخاء ، والمعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم ، وفيه حسن الخلق وحسن الجوار ، وهو باب من أبواب اللّه‏ عزوجل ، وفيه أخرى هي خيرٌ من هذا كلّه ، فقال له أبي : وماهي بأبي أنت وأمّي ؟

        قال: يخرج اللّه‏ منه غوث هذه الأمة وغياثها ، وعلمها ونورها ، وفهمها وحكمها ، خير مولود وخير ناشيء ، يحقن اللّه‏ به الدماء ، ويصلح به ذات البين ، ويلمّ به الشعث ، ويشعب به الصدع ، ويكسو به العاري ، ويشبع به الجائع ، ويؤمن به الخائف ، وينزل به القطر ، ويأتمر له العباد ، خير كهل ، وخير ناشيء ، يُبشّر به عشيرته قبل أوان حمله ، قوله حكم ، وصمته علم ، يبيّن للناس ما يختلفون فيه ...

(2)

        قال العلامة المجلسي رحمه‏الله في جلاء العيون عند ذكر احوال الإمام الرضا عليه‏السلام : اسمه الشريف عليّ ، وكنيته أبو الحسن ، وأشهر ألقابه ، الرضا وقيل أيضاً الصابر والفاضل والرضيّ والوفيّ وقرة أعين المؤمنين وغيظ الملحدين .

        وروى ابن بابويه بسند حسنٍ عن البزنطي انّه قال : قلت لأبي جعفر محمد بن

 
(1) اعلام الورى : 315 ، والعوالم 22:179 ، ح 1 .
(2) عيون الاخبار 1:23 ، ح 9 ، عنه البحار 48:12 ، ح 1 ، والعوالم 21:51 ، ح 1 .
(465)

 

عليّ بن موسى عليه‏السلام : إنّ قوماً من مخالفيكم يزعمون أنّ أباك عليه‏السلام انّما سّماه المأمون (الرضا) لما رضيه لولاية عهده ، فقال عليه‏السلام : كذبوا واللّه‏ وفجروا ، بل اللّه‏ تبارك وتعالى سمّاه (الرضا) لأنّه كان رضيّاً للّه‏ تعالى في سمائه ورضيّاً لرسوله والائمة من بعده صلوات اللّه‏ عليهم في أرضه .

        قال : فقلت له : ألم يكن كلّ واحد من آبائك الماضين عليهم‏السلام رضيّاً للّه‏ تعالى ولرسوله والأئمة عليهم‏السلام ؟ فقال : بلى ، فقلت : فلم سّمي أبوك عليه‏السلام من بينهم الرضا ؟ قال : لأنّه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه ، ولم يكن ذلك لأحدٍ من آبائه عليهم‏السلام فلذلك سّمي من بينهم الرضا عليه‏السلام

(1) .

        وروى أيضاً عن سليمان بن حفص بسند معتبر أنّه قال : كان موسى بن جعفر عليه‏السلام يسمّي ولده عليّاً (الرضا) ، وكان يقول : ادعوا لي ولدي الرضا ، وقلت لولدي الرضا ، وقال لي ولدي الرضا ، وإذا خاطبه قال يا أبا الحسن(2) .

        وأبوه الإمام موسى بن جعفر عليه‏السلام وامّه أم ولد ولها أسماء منها : تُكتَم ونَجمة وأَرْوى وسَكن وسمانَة وام البنين وقيل أيضاً خيزران وصقر وشقراء .

        وقد روى ابن بابويه بسند معتبر عن عليّ بن ميثم انّه قال : اشترت حميدة المصفّاة ـ وهي أمّ أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‏السلام ـ وكانت من أشراف العجم ، جارية مولّدة واسمها تكتَم ، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة حتى انّها ما جلست بين يديها منذ ملكتها إجلالاً لها .

        فقالت لابنها موسى عليه‏السلام : يابني انّ تُكتَم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها ، ولست أشكّ انّ اللّه‏ تعالى سيطهر نسلها إن كان لها نسل ، وقد وهبتها لك فاستوص بها خيراً .

        فلّما ولدت له الرضا عليه‏السلام سّماها الطاهرة ، قال : وكان الرضا عليه‏السلام يرتضع كثيراً وكان تامّ الخلق ، فقالت : أعينوني بمرضعة ، فقيل لها : أنقص الدّر ؟ فقالت : لا اكذب ، واللّه‏ ما نقص ولكن عليّ ورد من صلاتي وتسبيحي وقد نقص منذ وَلدت

(3) .

        وروى أيضاً بسند معتبر انّه : لّما اشترت حميدة ـ ام موسى بن جعفر عليه‏السلام ـ ام الرضا نجمة ذكرت حميدة انّها رأت في المنام رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يقول لها : ياحميدة هبي نجمة لابنك موسى فانّه سيولد به منها خير أهل الأرض ، فوهبتها له ... وكانت نجمة بكراً لمّا اشترتها حميدة(4) .

 

(1) عيون الاخبار 1:13 ، ح1 ، عنه البحار 49:4 ، ح5 ، والعوالم 22:14 ، ح2 ، ونحوه في مجمع البحرين : 37 ، باب معنى الرضا .
(2) عيون الاخبار 1:13 ، ح 2 ، عنه البحار 49:4 ، والعوالم 22:14 ، ح 1 .
(3) عيون الاخبار 1:14 ، ح 2 ، عنه البحار 49:4 ، ح 7 ، والعوالم 22:19، ح 1.
(466)

 

        وروى أيضاً بسند معتبر عن هشام انّه قال : قال أبو الحسن الأوّل عليه‏السلام : هل علمت أحداً من أهل المغرب قدم ؟ قلت : لا ، فقال : بلى قد قدم رجل فانطلق بنا إليه ، فركب وركبنا معه حتى انتهينا إلى الرجل ، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق ، فقال له : أعرض علينا ، فعرض علينا تسع جوار كلّ ذلك يقول أبو الحسن عليه‏السلام : لا حاجة لي فيها .

        ثم قال له : أعرض علينا ، قال : ما عندي شيء ، فقال له : بلى أعرض علينا ، قال : لا واللّه‏ ما عندي الاّ جارية مريضة ، فقال له : ما عليك ان تعرضها ؟ فأبى عليه ، ثم انصرف عليه‏السلام ثم انّه أرسلني من الغد إليه ، فقال لي : قل له : كم غايتك فيها ؟ فإذا قال : كذا وكذا ، فقل : قد أخذتها .

        فأتيته فقال : ما أريد أن انقصها من كذا وكذا ، قلت : قد أخذتها وهو لك ، فقال : هي لك ، ولكن من الرجل الذي كان معك بالأمس ؟ فقلت : رجل من بني هاشم ، فقال : من أيّ بني هاشم ؟ قلت : من نقبائهم ، فقال : أريد اكثر منه ، فقلت : ماعندي اكثر من هذا ، فقال : أخبرك عن هذه الوصيفة : انّي اشتريتها من أقصى بلاد المغرب ، فلقيتني امرأة من اهل الكتاب ، فقالت : ما هذه الوصيفة معك ؟ فقلت : اشتريتها لنفسي .

        فقالت : ما ينبغي أن تكون هذه الوصيفة عند مثلك ، انّ هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض ، فلا تلبث عنده الاّ قليلاً حتى تلد منه غلاماً يدين له شرق الأرض وغربها . قال : فأتيته بها فلم تلبث عنده الاّ قليلاً حتى ولدت له عليّاً عليه‏السلام

(1) .

        روى في الدرّ النظيم عن اثبات الوصية عن أبي هارون عليه‏السلام انّه قال : لّما ابتاعها (اي تكتم) جمع قوماً من أصحابه ثم قال : واللّه‏ ما اشتريت هذه الأمة الاّ بأمر اللّه‏ ووحيه ، فسُئِل عن ذلك ، فقال : بينا أنا نائم إذ أتاني جدّي وأبي ومعهما شقّة حرير فنشراها ، فإذا قميص وفيه صورة هذه الجارية .

        فقال : يا موسى ليكوننّ من هذه الجارية خير أهل الأرض بعدك ، ثم أمراني إذا ولدته أن أسّميه عليّاً وقالا لي : انّ اللّه‏ تعالى يظهر به العدل والرأفة ، طوبى لمن صدّقه وويل لمن عاداه وجحده وعانده

(2) .

        وروى الصدوق بسند معتبر عن نجمة أمّ الرضا عليهماالسلام انّها قالت : لّما حملت بابني عليّ لم أشعر بثقل الحمل ، وكنت أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً من بطني فيفزعني ذلك ويهولني ، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً .

 

(1) عيون الاخبار 1:16 ، ح 3 ، عنه البحار 49:7 ، ح 8 ، ومستدرك العوالم 23:22 ، ح 2 .
(2) عيون الاخبار 1:17 ، ح 4 ، والبحار 49:7 ، ح 11 ، والعوالم 22:23 ، ح 3.
(3) الدر النظيم 2:203 ، الباب العاشر ، فصل في ذكر مولده عليه‏السلام ، واثبات الوصية : 179 ، عنه مستدرك العوالم 22:25 ، ح 1 .
(467)

 

        فلّما وضعته وقع على الأرض واضعاً يديه على الأرض ، رافعاً رأسه الى السماء ، يحّرك شفتيه كأنّه يتكلّم ، فدخل اليّ أبوه موسى بن جعفر عليهماالسلام فقال لي : هنيئاً لك يانجمة كرامة ربك ، فناولته ايّاه في خرقة بيضاء فأذّن في أذنه الُيمنى وأقام في اليسرى ، ودعا بماء الفرات فحنّكه به ثم ردّه إليّ ، وقال : خذيه فانّه بقيّة اللّه‏ تعالى في أرضه

(1) .

        وروى ابن بابويه بسند معتبر عن محمد بن زياد انّه قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‏السلام يقول ـ لّما ولد الرضا عليه‏السلام ـ : إنّ ابني هذا ولد مختوناً طاهراً مطهراً ، وليس من الأئمة أحدٌ يولد إلاّ مختوناً طاهراً مطهراً، ولكن سنمر الموسيّ عليه لإصابة السنّة واتباع الحنيفيّة(2) .

        وكان نقش خاتمه عليه‏السلام : « ما شاء اللّه‏ ولا قوّة الاّ باللّه‏ » وعلى رواية : « حسبي اللّه‏ » .

        يقول المؤلف : لا منافات بين هاتين الروايتين ، لأنّه كان للامام عليه‏السلام خاتمان أحدهما لنفسه والآخر لأبيه وصل إليه ، كما روى الشيخ الكليني عن موسى بن عبد الرحمن انّه قال :

        سألت أبا الحسن الرضا عليه‏السلام عن نقش خاتمه وخاتم أبيه عليه‏السلام قال : نقش خاتمي « ما شاء اللّه‏ ولا قوّة الاّ باللّه‏ » ونقش خاتم أبي « حسبي اللّه‏ » وهو الذي كنت أتختّم به

(3) .

* * *

 
(1) عيون الاخبار 1:20 ، ح 2 ، عنه البحار 49:9 ، ح 14 ، والعوالم 22:30 ، ح 1 .
(2) كمال الدين 2:433 ، ح 15 ، عنه البحار 25:44 ، ح 19 ، والعوالم في المستدرك 22:31 ، ح 1 .
(3) الكافي 6:473 ، ح 5 ، باب نقش الخواتيم .
(468)

 

الفصل الثاني

في مناقب ومكارم أخلاق ثامن الأئمة عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام

        لا يخفى أنّ فضائل ومناقب الإمام أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام لكثرتها وتوافرها خرجت عن حد الاحصاء ، وفي الحقيقة انّ إحصاء فضائله مستحيل كاحصاء النجوم ، ولقد أجاد أبو نواس في قوله عند هارون الرشيد كما في المناقب ، أو عند المأمون كما في سائر الكتب حيث قال :

 

 قيل لي أنت أوحد الناس طُرّاً  في علوم الورى وشعر البديه  لك من جوهر الكلام نظام  يُثمر الدرّ في يدي مجتنيه  فعلى ماتركت مدح ابن موسى  والخصال التي تجمّعن فيه  قلت لا أستطيع مدح إمام  كان جبريل خادماً لأبيه(1)         ولكن من أجل التبرّك والتيمّن نذكر نبذة من فضائله ، والتي هي بالقياس الى سائر فضائله كالقطرة من البحر .

الأولى : في كثرة علمه :

        روى الشيخ الطبرسي عن أبي الصلت الهروي انّه قال : ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام ولا رآه عالم الاّ شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين ، فغلبهم عن آخرهم حتى ما بقي أحد منهم إلاّ أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور ، ولقد سمعت عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام يقول :

        « كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون ، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا اليّ بأجمعهم ، وبعثوا اليّ بالمسائل فأجيب عنها » .

        قال أبو الصلت : ولقد حدّثني محمد بن اسحاق بن موسى بن جعفر عن أبيه موسى بن جعفر عليهماالسلام أنّه كان يقول لبنيه : هذا أخوكم عليّ بن موسى الرضا عالم آل محمد ، فاسألوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول لكم ، فانّي سمعت أبي جعفر بن محمد عليهماالسلام غير مرّة يقول لي : انّ عالم آل محمد لفي صلبك ، وليتني أدركته فانّه سميّ أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام

(2) .

 

 
 (1) المناقب 4:243 ، فصل في انبائه بالمغيبات ، عيون الاخبار 2:143 ، كشف الغمة 2:327 .
(2) اعلام الورى : 315 ، عنه البحار 49:100 ، ح 17 ، والعوالم 22:179 ، ح 1 و2.
(469)

 

الثانية :

        روى الشيخ الصدوق عن ابراهيم بن العباس انّه قال : ما رأيت أبا الحسن الرضا عليه‏السلام جفا أحداً بكلمة قط ، وما رأيته قطع على أحدٍ كلامه حتى يفرغ منه ، وما ردّ أحداً عن حاجةٍ يقدر عليها ، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قط ، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط ، ولا رأيته تفل قط ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط بل كان ضحكه التبسم .

        وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتى البواب والسائس ، وكان عليه‏السلام قليل النوم بالليل ، كثير السهر ، يحيي اكثر لياليه من أوّلها الى الصبح ، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة ايام في الشهر [ وهي الخميس من أوّل كل شهر وآخره والاربعاء من وسط الشهر ] ويقول : ذلك صوم الدهر .

        وكان عليه‏السلام كثير المعروف والصدقة في السرّ ، واكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ، فمن زعم انّه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه

(1) .

        وروي عن محمد بن أبي عباد انّه قال : كان جلوس الرضا عليه‏السلام في الصيف على حصير ، وفي الشتاء على مسح ، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيّن لهم(2) .

الثالثة :

        روى الشيخ الأجل أحمد بن محمد البرقي عن معمر بن خلاد انّه قال : كان أبو الحسن الرضا عليه‏السلام إذا اكل أتي بصحفة فتوضع قرب مائدته ، فيعمد الى أطيب الطعام مما يؤتى به ، فيأخذ من كلّ شيء شيئاً فيوضع في تلك الصحفة ثم يأمر بها للمساكين ، ثم يتلو هذه الآية : « فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ »

(3) .

        [ وحاصل الآية الشريفة والآيات بعدها أنّ أصحاب الميمنة وأهل الجنة يدخلون في العقبة أي الأمر الصعب وهو مخالفة النفس وتلك العقبة هي إعتاق رقبة أو اطعام في يوم ذي مسغبة الى اليتيم القريب أو اعانة مسكين ذي مقربة ] ثم يقول عليه‏السلام : علم اللّه‏ تعالى أن ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة ، فجعل لهم السبيل الى الجنّة باطعام الطعام(4) .

 

 
(1) عيون الاخبار 2:184 ، ح 7 ، عنه البحار 49:90 ، ح 4 ، والعوالم 22:174 ، ح 3 .
(2) عيون الاخبار 2:178 ، ح 1 ، عنه البحار 49:89 ، ح 1 ، والعوالم 22:207 ، ح 1 .
(3) البلد : 11 .
(4) محاسن البرقي : 392 ، باب الاطعام ، ح 39 ، عنه البحار 49:97 ، ح 11 ، والعوالم 22:198 ، ح 1 .
(470)

 

الرابعة :

        روى الشيخ الصدوق في عيون الأخبار عن الحاكم أبي عليّ البيهقي عن محمد بن يحيى الصولي أنّه قال : حدّثتني جدّتي اُمّ أبي واسمها (غدر) قالت : اُشتريت مع عدّة جوار من الكوفة وكنت من مولّداتها ، قالت : فحُملنا الى المأمون ، فكنّا في داره في جنّة من الأكل والشرب والطيب وكثرة الدنانير ، فوهبني المامون للرضا ( عليه‏السلام ) .

        فلّما صرت في داره فقدت جميع ما كنت فيه من النعيم ، وكانت علينا قيّمة تنبّهنا من الليل وتأخذنا بالصلاة ، وكان ذلك من أشدّ ما علينا ، فكنت أتمنّى الخروج من داره إلى أن وهبني لجدّك عبد اللّه‏ بن العباس ، فلمّا صرت الى منزله كنت كأنّي قد أُدخلت الجنّة .

        قال الصولي : وما رأيت إمرأة قطّ أتم من جدّتي هذه عقلاً ولا أسخى كفّاً ، وتوفيت سنة سبعين ومائتين ولها نحو مائة سنة ، وكانت تُسأل عن أمر الرضا عليه‏السلام كثيراً فتقول : ما أذكر منه شيئاً الاّ أنّي كنت أراه يتبخّر بالعود الهنديّ النيّ ، ويستعمل بعده ماء ورد ومسكاً ، وكان عليه‏السلام إذا صلّى الغداة كان يصلّيها في أوّل وقت ، ثم يسجد فلا يرفع رأسه إلى أن ترتفع الشمس ، ثم يقوم فيجلس للناس أو يركب ، ولم يكن أحد يقدر أن يرفع صوته في داره كائناً من كان ، أنّما كان يتكلّم الناس قليلاً قليلاً .

        وكان جدّي عبد اللّه‏ يتبرّك بجدّتي هذه ، فدبّرها يوم وهبت له ، فدخل عليه خاله العباس بن الأحنف الحنفي الشاعر ، فأعجبته فقال لجديّ : هب لي هذه الجارية ، فقال : هي مدبّرة ، فقال العباس بن الأحنف :

 

 أيا غدر زُيّن باسمِكِ الغدرُ  وأساء لم يحسن بك الدهر(1)         لا يخفى انّ العرب تسمّي الجواري غالباً باسم غدر وغادرة بمعنى عدم الوفاء ، فيكون معنى البيت : أيتها المسّماة بالغدر وعدم الوفاء زينّت عدم الوفاء والغدر ولقد أساء اليك الدهر لمّا سمّاكِ غدراً .

الخامسة :

        وروى بالسند السابق عن أبي ذكوان عن ابراهيم بن العباس انّه قال : ما رأيت الرضا عليه‏السلام يُسأل عن شيء قط الاّ علم ، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوّل الى وقته وعصره ، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلّ شيء فيجيب فيه ، وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن ، وكان يختمه في كلّ ثلاثة ويقول : لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمته ، ولكنّي ما مررت بآية قط الاّ فكّرت فيها ، وفي أيّ

 

 (1) عيون الاخبار 2:179 ، ح 3 ، عنه البحار 49:89 ، ح 2 ، والعوالم 22:173 ، ح 2 .