(471)

 

شيء اُنزلت وفي أيّ وقت ، فلذلك صرت أختم في كلّ ثلاثة ايّام(1) .

السادسة :

        وروي أيضاً في الكتاب المذكور عن ابراهيم الحسني انّه قال : بعث المأمون الى أبي الحسن الرضا عليه‏السلام جاريةً فلمّا أُدخلت عليه إشمأزّت من الشيب ، فلمّا رأى كراهيّتها ردّها الى المأمون وكتب إليه بهذه الأبيات :

 

 نعى نفسي الى نفسي المشيب  وعند الشيب يتّعظ اللبيب  فقد ولّى الشباب الى مداه  فلست أرى مواضعه تؤوب  سأبكيه وأندبه طويلاً  أدعوه اليّ عسى يجيب  وهيهات الذي قد فات منه  وتمنّيني به النفس الكذوب  وراع الغانيات بياض رأسي  ومن مدّ البقاء له يشيب  أرى البيض الحسان يحدن عنّي  وفي هجرانهنّ لنا نصيب  فان يكن الشباب مضى حبيباً  فانّ الشيب أيضاً لي حبيب  سأصحبه بتقوى اللّه‏ حتى  يفرّق بيننا الأجل القريب(2)

السابعة :

        روى الشيخ الكليني عن اليسع بن حمزة القمي انّه قال : كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا عليه‏السلام أحدّثه ، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام إذ دخل عليه رجل طوال آدم فقال له : السلام عليك يا ابن رسول اللّه‏ ، رجل من محبّيك ومحبّي آبائك وأجدادك عليهم‏السلام ، مصدري من الحجّ وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلةً ، فإن رأيت أن تنهضني الى بلدي وللّه‏ عليّ نعمة ، فإذا بلغت بلدي تصدّقت بالذي تولّيني عنك ، فلست موضع صدقة .

        فقال له عليه‏السلام : اجلس رحمك اللّه‏ ، وأقبل على الناس يحدّثهم حتى تفرّقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا ، فقال : أتأذنون لي في الدخول ؟ فقال له سليمان : قدّم اللّه‏ أمرك ، فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة ، ثم خرج وردّ الباب وأخرج يده من أعلى الباب ، وقال : أين الخراساني ؟ فقال : ها أنا ذا ، فقال : خذ هذه المائتي ديناراً واستعن بها في مؤنتك ونفقتك ، وتبرّك بها ولا تصدّق بها عنّي ، واخرج فلا أراك ولا تراني ، ثم خرج .

        فقال له سليمان : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت ، فلماذا سترت وجهك عنه ؟ فقال : مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته ، اما سمعت حديث

 
(1) عيون الأخبار 2:180 ، ح 4 ، عنه البحار 49:90 ، ح 3 ، والعوالم 22:179 ، ح 3 .
 (2) عيون الاخبار 2:178 ، ح 8 ، عنه البحار 49:164 ، ح 4 ، والعوالم 22:289 ، ح 1 .
(472)

 

رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجّة ، والمذيع بالسّيئة مخذول ، والمستتر بها مغفور له » .

        أما سمعت قول الأول :

 

 متى آته يوماً لأطلب حاجةً  رجعت إلى أهلي ووجهي بمائة(1)         يقول المؤلف : ذكر ابن شهر آشوب في المناقب هذه الرواية ثم قال بعدها : وفرّق عليه‏السلام بخراسان ماله كلّه في يوم عرفة ، فقال له الفضل بن سهل : انّ هذه المغرم ، فقال : بل هو المغنم لا تعدّن مغرماً ما ابتغيت به أجراً وكرماً(2) .

        واعلم انّ التوسل بالإمام الرضا عليه‏السلام نافع للأمان من اخطار السفر في البر والبحر ، وللخلاص من الغمّ والهمّ والغربة ، ومضى في كلام الإمام الصادق عليه‏السلام تعبيره عنه بمأوى وملجأ الأمّة ، ونقرأ في زيارته : « السلام على غوث اللهفان ومن صارت به أرض خراسان خراسان » .

        قال الحموي في المعجم في معنى خراسان : وقيل خُراسم للشمس بالفارسيّة وأسان كأنّه أصل الشيء ومكانه

(3) .

        فيكون المعنى : سلام على غوث اللهفان ، وعلى الذي صارت أرض خراسان به محلاً وموضعاً للشمس .

الثامنة :

        روى ابن شهر آشوب عن موسى بن سيار انّه قال : كنت مع الرضا عليه‏السلام وقد أشرف على حيطان طوس وسمعت واعية فاتبعتها فإذا نحن بجنازة ، فلمّا بصرت بها رأيت سيدي وقد ثنى رجله عن فرسه ، ثم أقبل نحو الجنازة فرفعها ، ثم أقبل يلوذ بها كما تلوذ السخلة بامّها ، ثم أقبل عليّ وقال : ياموسى بن سّيار من شيّع جنازة وليّ من أوليائنا خرج من ذنوبه كيوم ولدته امّه لا ذنب عليه ، حتى إذا وضع الرجل على شفير قبره رأيت سيّدي قد أقبل فأخرج الناس عن الجنازة حتى بدا له الميت ، فوضع يده على صدره .

        ثم قال : يا فلان بن فلان أبشر بالجنّة فلا خوف عليك بعد هذه الساعة ، فقلت : جعلت فداك هل تعرف الرجل ؟ فواللّه‏ انّها بقعة لم تطأها قبل يومك هذا ، فقال لي : يا موسى بن سيّار ، أما علمت انّا معاشر الأئمة تعرض علينا أعمال شيعتنا صباحاً ومساءً ؟ فما كان من التقصير في أعمالهم سألنا اللّه‏ تعالى الصفح لصاحبه ، وما كان من العلوّ سألنا اللّه‏ الشكر لصاحبه

(4) .

 
 (1) الكافي 4:23 ، ح 3 ، عنه البحار 49:101 ، ح 19 ، والعوالم 22:199 ، ح 2 .
(2) المناقب 4:361 .
(3) معجم البلدان 2:350 / خراسان .
(473)

 

التاسعة :

        روى الشيخ الكليني عن سليمان الجعفري انّه قال : كنت مع الرضا عليه‏السلام في بعض الحاجة فأردت أن أنصرف إلى منزلي فقال لي : انصرف معي فبت عندي الليلة ، فانطلقت معه فدخل إلى داره مع المعتّب ، فنظر الى غلمانه يعملون بالطين أواري الدّواب وغير ذلك وإذا معهم أسود ليس منهم .

        فقال : ما هذا الرجل معكم ؟ قالوا : يعاوننا ونعطيه شيئاً ، قال : قاطعتموه على أجرته ؟ فقالوا : لا ، هو يرضى منّا بما نعطيه ، فأقبل عليهم يضربهم بالسوط وغضب لذلك غضباً شديداً ، فقلت : جعلت فداك لم تدخل على نفسك ؟

        فقال : إنّي قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته ، وأعلم انّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته الاّ ظنّ انّك قد نقّصته أجرته ، وإذا قاطعته ثم أعطيته أُجرته حمدك على الوفاء ، فإن زدته حبّة عرف ذلك لك ورأى انّك قد زدته

(1) .

العاشرة :

        روي عن ياسر الخادم انّه قال : كان الرضا عليه‏السلام إذا خلا ، جمع حشمه كلّهم عنده الصغير والكبير ، فيحدّثهم ويأنس بهم ويؤنسهم ، وكان عليه‏السلام إذا جلس على المائدة لا يدع صغيراً ولا كبيراً حتى السائس والحجّام الاّ أقعده معه على مائدته

(2) .

        قال ياسر : قال لنا أبو الحسن عليه‏السلام : إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون فلا تقوموا حتى تفرغوا ، ولربّما دعا بعضنا فيقال له : هم ياكلون فيقول : دعوهم حتى يفرغوا(3) .

الحادية عشرة :

        روى الشيخ الكليني عن رجل من أهل بلخ انّه قال : كنت مع الرضا عليه‏السلام في سفره الى خراسان ، فدعا يوماً بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم ، فقلت : جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدةً ، فقال : مه انّ الربّ تبارك وتعالى واحد ، والأمّ واحدة ، والأب واحد ، والجزاء بالأعمال

(4) .

 
(1) المناقب 4:341 ، عنه البحار 49:98 ، ح 13 ، والعوالم 22:213 ، ح 1 .
(2) الكافي 5:288 ، ح 1 ، عنه البحار 49:106 ، ح 34 ، والعوالم 22:211 ، ح 6 .
(3) عيون الاخبار 2:159 ، عنه البحار 49:164 ، والعوالم 22:359 ، ح 1 .
(4) الكافي 6:298 ، ح 10 ، عنه البحار 49:102 ، ح 22 ، والعوالم 22:175 ، ح 5 .
(474)

 

        يقول المؤلف : كانت هذه سيرته مع الفقراء والرعايا ، لكن لّما دخل عليه الفضل بن سهل وقف الفضل ساعة حتى التفت إليه الإمام وسأله عن حاجته ، فقال : سيدي هذا كتاب من أمير المؤمنين كتبه لي ـ وأشار الى كتاب الحبوة الذي أعطاه المأمون له ، وكان فيه ما أراده الفضل من الأموال والأملاك والسلطة وغيرها ـ فقال للإمام : أنت أولى ان تعطينا مثل ما اعطى امير المؤمنين إذ كنت وليّ عهد المسلمين ، فقال له الرضا عليه‏السلام : اقرأه وكان كتاباً في اكبر جلد فلم يزل قائماً حتى قرأه ، فلمّا فرغ قال له أبو الحسن عليه‏السلام : « يا فضل لك علينا هذا ما اتقيت اللّه‏ عزوجل »(1) .

        فحلّ الامام عليه‏السلام بهذا الكلام ما كان قد أحكمه الفضل لنفسه ، والغرض انّ الإمام عليه‏السلام لم يأذن له بالجلوس حتى خرج .

الثانية عشرة :

        روى الشيخ الصدوق عن رجاء بن أبي الضّحاك انّه قال : بعثني المأمون في إشخاص عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام من المدينة ، وأمرني أن آخذ به على طريق البصرة والأهواز وفارس ولا آخذ به على طريق قم ، وأمرني أن أحفظه بنفسي بالليل والنهار حتى أقدم به عليه .

        فكنت معه من المدينة الى مرو ، فواللّه‏ مارأيت رجلاً كان أتقى للّه‏ تعالى منه ، ولا اكثر ذكراً للّه‏ في جميع أوقاته منه ، ولا أشدّ خوفاً للّه‏ عزوجل منه ، وكان إذا أصبح صلّى الغداة ، فإذا سلّم جلس في مصلاه يسبح اللّه‏ ويحمده ويكبّره ويهلّله ويصلّي على النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حتى تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة يبقى فيها حتى يتعالى النهار ، ثم أقبل على الناس يحدّثهم ويعظهم الى قرب الزوال ، ثم جدّد وضوءه وعاد الى مصلاّه .

        فإذا زالت الشمس قام وصلّى ست ركعات يقرأ في الركعة الأولى (الحمد) و (قل يا ايها الكافرون) وفي الثانية (الحمد) و (قل هو اللّه‏ أحد) ويقرأ في الأربع في كلّ ركعة (الحمد للّه‏) و (قل هو اللّه‏ احد) ويسلّم في كلّ ركعتين ويقنت فيهما في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة .

        ثم يؤذّن ثم يصلّي ركعتين ، ثم يقيم ويصلّي الظهر ، فإذا سلّم سبّح اللّه‏ وحمده وكبّره وهلله ما شاء اللّه‏ ، ثم سجد سجدة الشكر يقول فيها مائة مرّة : (شكراً للّه‏) فإذا رفع رأسه قام فصلّى ست ركعات يقرأ في كلّ ركعة (الحمد للّه‏) و (قل هو اللّه‏ أحد) ويسلّم في كلّ ركعتين ، ويقنت في ثانية كلّ ركعتين قبل الركوع وبعد القراءة ، ثم يؤذّن ثم يصلّي ركعتين ويقنت في الثانية ، فإذا سلّم أقام وصلّى العصر ، فإذا سلّم جلس في

 
(1) الكافي 8:230 ، ح 296 ، عنه البحار 49:101 ، ح 18 ، والعوالم 22:202 ، ح 1 .
(2) عيون اخبار الرضا 2:162، ضمن حديث 24 ، عنه البحار 49:168، ضمن حديث 5 .
(475)

 

مصلاّه يسبّح اللّه‏ ويحمده ويكبّره ويهلّله ما شاء اللّه‏ ، ثم يسجد سجدة يقول فيها مائة مرّة : (حمداً للّه‏) .

        فإذا غابت الشمس توضّأ وصلّى المغرب ثلاثاً بأذان وإقامة ، وقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، فإذا سلّم جلس في مصلاّه يسبح اللّه‏ ويحمده ويكبّره ويهلّله ماشاء اللّه‏ ثم يسجد سجدة الشكر ، ثم يرفع رأسه ولم يتكلّم حتى يقوم ويصلّي أربع ركعات بتسليمتين ، ويقنت في كلّ ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، وكان يقرأ في الأولى من هذه الأربع (الحمد ، وقل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (الحمد ، وقل هو اللّه‏ أحد) ويقرأ في الركعتين الباقيتين (الحمد ، وقل هو اللّه‏ أحد) .

        ثم يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء اللّه‏ حتى يُمسي ثم يفطر ، ثم يلبث حتى يمضي من الليل قريب من الثلث ، ثم يقوم فيصلّي العشاء الآخرة أربع ركعات ، ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، فإذا سلّم جلس في مصلاّه يذكر اللّه‏ عزوجل يسبّحه ويحمده ويكبّره ويهلّله ما شاء اللّه‏ ، ويسجد بعد التعقيب سجدة الشكر ثم يأوي الى فراشه .

        فإذا كان الثلث الاخير من الليل قام من فراشه بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار ، فاستاك ثم توضّأ ثم قام إلى صلاة الليل ، فصلّى ثمان ركعات ويسلّم في كلّ ركعتين يقرأ في الأوليتين منها في كلّ ركعة (الحمد) مرّة و(قل هو اللّه‏ أحد) ثلاثين مرّة .

        ثم يصلّي صلاة جعفر بن أبي طالب عليه‏السلام أربع ركعات ، يسلّم في كلّ ركعتين ويقنت في كلّ ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد التسبيح ، ويحتسب بها من صلاة الليل ، ثم يقوم فيصلي الركعتين الباقيتين يقرأ في الاولى (الحمد) و(سورة الملك) وفي الثانية (الحمد) و(هل أتى على الانسان) ، ثم يقوم فيصلّي ركعتي الشفع يقرأ في كلّ ركعة منها (الحمد) مرّة و(قل هو اللّه‏ أحد) ثلاث مرّات ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، فإذا سلّم قام فصلّى ركعة الوتر يتوجّه فيها ويقرأ فيها (الحمد) و(قل هو اللّه‏ احد) ثلاث مرّات و(قل أعوذ بربّ الفلق) مرّة واحدة و(قل أعوذ بربّ الناس) مرّة واحدة ، ويقنت فيها قبل الركوع وبعد القراءة .

        ويقول في قنوته : « اللهم صلِّ على محمد وآل محمد ، اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولّنا فيمن تولّيت ، وبارِك لنا فيما أعطيت ، وقنا شرّ ما قضيت ، فانّك تقضي ولايقضى عليك ، إنَّهُ لا يذلّ مَن وَاليت ، وَلا يعزّ مَنْ عَادَيت ، تَباركت رَبنا وَتَعاليْت » .

        ثم يقول : (أستغفر اللّه‏ وأسأله التوبة) سبعين مرّة ، فإذا سلّم جلس في التعقيب ما شاء اللّه‏ ، فإذا قرب الفجر قام فصلّى ركعتي الفجر يقرأ في الاولى (الحمد) و (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (الحمد) و (قل هو اللّه‏ أحد) ، فإذا طلع الفجر اذّن وأقام وصلّى

(476)

 

الغداة ركعتين ، فإذا سلّم جلس في التعقيب حتى تطلع الشمس ثم سجد سجدتي الشكر حتى يتعالى النهار .

        وكانت قراءته في جميع المفروضات في الأولى (الحمد) و(انّا أنزلناه) وفي الثانية (الحمد) و(قل هو اللّه‏ احد) الاّ في صلاة الغداة والظهر والعصر يوم الجمعة ، فانّه كان يقرأ فيها بـ (الحمد وسورة الجمعة ، والمنافقين) .

        وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة في الأولى (الحمد) و(سورة الجمعة) وفي الثانية (الحمد) و(سبّح اسم ربّك الأعلى) وكان يقرأ في صلاة الغداة يوم الاثنين والخميس في الأولى (الحمد) و(هل أتى على الانسان) وفي الثانية (الحمد) و(هل أتاك حديث الغاشية) وكان يجهر بالقراءة في المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الليل والشفع والوتر والغداة ويخفي القراءة في الظهر والعصر .

        وكان يسبّح في الأخراوين ويقول : (سبحان اللّه‏ والحمد للّه‏ ولا اله الاّ اللّه‏ واللّه‏ اكبر) ثلاث مرّات ، وكان قنوته في جميع صلواته : « ربّ اغفر وارحم وتجاوز عمّا تعلم انّك أنت الأعزّ الأجلّ الأكرم » .

        وكان إذا أقام في بلدة عشرة أيّام صائما لا يفطر ، فإذا جنّ الليل بدأ بالصلاة قبل الافطار ، وكان في الطريق يصلّي فرائضه ركعتين ركعتين الاّ المغرب ، فانّه كان يصلّيها ثلاثا ولا يدع نافلتها ، ولا يدع صلاة الليل والشفع والوتر وركعتي الفجر في سفر ولا حضر ، وكان لا يصلّي من نوافل النهار في السفر شيئا .

        وكان يقول بعد كلّ صلاة يقصّرها : (سبحان اللّه‏ والحمد للّه‏ ولا اله الاّ اللّه‏ واللّه‏ اكبر) ثلاثين مرّة ويقول : هذا لتمام الصلاة .

        وما رأيته صلّى الضحى في سفر ولاحضر ، وكان لا يصوم في السفر شيئا ، وكان عليه‏السلام يبدأ في دعائه بالصلاة على محمد وآله ويكثر من ذلك في الصلاة وغيرها ، وكان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن ، فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنّة أو نار بكى وسأل اللّه‏ الجنة وتعوّذ به من النار .

        وكان عليه‏السلام يجهر بـ (بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم) في جميع صلواته بالليل والنهار ، وكان إذا قرأ (قل هو اللّه‏ احد) قال سرّا : (اللّه‏ احد) فإذا فرغ منها قال : (كذلك اللّه‏ ربّنا) ثلاثا ، وكان إذا قرأ سورة الجحد قال في نفسه سرّا : (يا ايها الكافرون) فإذا فرغ منها قال : (ربّي اللّه‏ وديني الاسلام) ثلاثا ، وكان إذا قرأ (والتين والزيتون) قال عند الفراغ منها : (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين) وكان إذا قرأ (لا أقسم بيوم القيامة) قال عند الفراغ منها : (سبحانك اللهم بلى) .

        وكان يقرأ في سورة الجمعة : « ... قُلْ مَا عِنْدَ اللّه‏ِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ـ للذين اتقوا ـ وَاللّه‏ُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ »

(1) .

 

 

(1) الجمعة : 11 .
(477)

 

        وكان إذا فرغ من الفاتحة قال : (الحمد للّه‏ ربّ العالمين) وإذا قرأ (سبّح اسم ربّك الأعلى) قال سرا : (سبحان ربّي الأعلى) وإذا قرأ (يا أيها الذين آمنوا) قال : (لبيك اللهم لبيك) سرّا .

        وكان عليه‏السلام لا ينزل بلدا الاّ قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم ، فيجيبهم ويحدّثهم الكثير عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهم‏السلام عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        فلمّا وردت به على المأمون ، سألني عن حاله في طريقه فأخبرته بما شاهدت منه في ليله ونهاره وظعنه واقامته ، فقال : بلى يا ابن أبي الضحّاك هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم ، فلا تخبر أحدا بما شاهدت منه ، لئلّا يظهر فضله الاّ على لساني ، وباللّه‏ أستعين على ما أقوى من الرفع منه والإشادة به

(1) .

        وذكر العلامة المجلسي رحمه‏الله في البحار دعاءً قرأه الامام الرضا عليه‏السلام لمّا غضب عليه المأمون ، فسكن غضبه وهو :

        « باللّه‏ استفتح وباللّه‏ استنجح وبمحمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أتوجّه ، الّلهم سهّل لي حزونة أمري كلّه ، ويسّر لي صعوبته ، انّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك امّ الكتاب » .

        ونقل عن أمير المؤمنين عليه‏السلام انّه قال : ما أهمّني أمر قط ، ولا ضاق عليّ معاشي قط ، ولا بارزت قرنا قط ، وقلته الاّ وقد فرّج تعالى عنّي ، همّي وغمّي ورزقني الظفر على أعدائي

(2) .

        واعلم انّ تسبيحه عليه‏السلام يقرأ في اليوم العاشر والحادي عشر من كلّ شهر وهو :

        « سبحان خالق النور ، سبحان خالق الظلمة ، سبحان خالق المياه ، سبحان خالق السماوات ، سبحان اللّه‏ خالق الأرضين ، سبحان خالق الرياح والنبات ، سبحان خالق المياه والموت ، سبحان خالق الثرى والفلوات ، سبحان اللّه‏ وبحمده »

(3) .

* * *

الفصل الثالث

في دلائل ومعاجز الامام الرضا عليه‏السلام

 
(1) عيون الاخبار 2:180 ، ح 5 ، عنه البحار 49:91 ، ح 7 ، والعوالم 22:168 ، ح 1 .
(2) بحار الانوار 94:315 .
(3) الدعوات : 93 ، ح 228 ، عنه البحار 94:207 ، ضمن حديث 3 .
(478)

 

        ونكتفي بذكر بعضها ، والعشرة الأُول نقلناها عن عيون الأخبار :

        الأولى : روي عن محمد بن داوُد انّه قال :

        كنت أنا وأخي عند الرضا عليه‏السلام ، فأتاه من أخبره انّه قد ربط ذقن محمد بن جعفر [ أي انّه مات ] فمضى أبو الحسن ومضينا معه وإذا لحياه قد ربطا ، وإذا اسحاق بن جعفر وولده وجماعة آل أبي طالب يبكون ، فجلس أبو الحسن عليه‏السلام عند رأسه ونظر في وجهه فتبسّم ، فنقم من كان في المجلس عليه .

        فقال بعضهم : إنّما تبسّم شامتا بعمّه ، قال : وخرج ليصلّي في المسجد فقلنا له : جعلنا فداك قد سمعنا فيك من هؤلاء ما نكره حين تبسّمت ، فقال : أبو الحسن عليه‏السلام : انّما تعجّبت من بكاء اسحاق وهو واللّه‏ يموت قبله ويبكيه محمد ، قال : فبرأ محمد ومات اسحاق

(1) .

        الثانية : روى عليّ بن احمد بن عبد اللّه‏ بن أحمد بن أبي عبد اللّه‏ البرقي ، عن أبيه عن أحمد بن أبي عبد اللّه‏ ، عن أبيه عن الحسين بن موسى بن جعفر عليه‏السلام انّه قال :

        كنّا حول أبي الحسن الرضا عليه‏السلام ونحن شبّان من بني هاشم إذ مرّ علينا جعفر بن عمر العلويّ وهو رثّ الهيئة ، فنظر بعضنا إلى بعض وضحكنا من هيئة جعفر بن عمر .

        فقال الرضا عليه‏السلام : « لترونه عن قريب كثير المال كثير التبع » فما مضى الاّ شهر أو نحوه حتى ولّى المدينة وحسنت حاله ، فكان يمرّ بنا ومعه الخصيان والحشم ، وجعفر هذا هو جعفر بن عمر بن الحسن بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‏السلام

(2) .

        الثالثة : روي عن أبي حبيب النباجيّ انّه قال :

        رأيت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في المنام ، وقد وافى النباج ونزل بها في المسجد الذي ينزله الحاجّ في كلّ سنة ، وكأنّي مضيت إليه وسلّمت عليه ووقفت بين يديه ، ووجدت عنده طبقا من خوص نخل المدينة فيه تمر صيحانيّ ، فكأنّه قبض قبضةً من ذلك التمر فناولني فعددته فكان ثمانية عشر تمرة ، فتأوّلت أنّي أعيش بعدد كلّ تمرة سنة .

        فلمّا كان بعد العشرين يوما كنت في أرض بين يديّ تعمر للزراعة حتى جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا عليه‏السلام من المدينة ونزوله ذلك المسجد ورأيت الناس يسعون إليه ، فمضيت نحوه فإذا هو جالس في الموضع الذي كنت رأيت فيه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وتحته حصير مثل ما كان تحته وبين يديه طبق خوصٍ فيه تمر صيحانيّ .

        فسلّمت عليه فردّ السلام عليّ واستدناني فناولني قبضة من ذلك التمر ، فعددته فإذا عدده مثل ذلك العدد الذي ناولني رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقلت له : زدني منه يا ابن

 
(1) عيون الاخبار 2:206 ، ح 6 ، عنه البحار 49:31 ، ح 6 ، والعوالم 22:78 ، ح 21 .
(2) عيون الاخبار 2:208 ، ح 11 ، عنه البحار 49:33 ، ح 11 ، والعوالم 22:81 ، ح 25 .
(479)

 

رسول اللّه‏ ، فقال عليه‏السلام : لو زادك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لزدناك(1) .

        الرابعة : روى احمد بن عليّ بن الحسين الثعالبي عن أبي عبد اللّه‏ بن عبد الرحمن المعروف بالصفواني انّه قال :

        خرجت قافلة من خراسان إلى كرمان ، فقطع اللصوص عليهم الطريق ، وأخذوا منهم رجلاً اتّهموه بكثرة المال ، فبقي في أيديهم مدّة يعذّبونه ليفتدي منهم نفسه وأقاموه في الثلج ، فشدّوه وملأوا فاه من ذلك الثلج ، فرحمته امرأة من نسائهم فأطلقته وهرب ، فأفسد فمه ولسانه حتى لم يقدر على الكلام .

        ثم انصرف إلى خراسان وسمع بخبر عليّ بن موسى الرضا عليهماالسلام وانّه بنيسابور ، فرأى فيما يرى النائم كأنّ قائلاً يقول له : انّ ابن رسول اللّه‏ قد ورد خراسان فسله عن علّتك ، فربّما يعلّمك دواءً مّا تنتفع به .

        قال : فرأيت كأنّي قد قصدته عليه‏السلام وشكوت إليه ما كنت دفعت إليه ، وأخبرته بعلّتي فقال لي : خذ من الكمّون ، والسعتر والملح ودقّه ، وخذ منه في فمك مرّتين أو ثلاثا فانّك تعافى ، فانتبه الرجل من منامه ، ولم يفكّر فيما كان رأى في منامه ولا اعتدّ به حتى ورد باب نيسابور .

        فقيل له : انّ عليّ بن موسى الرضا عليهماالسلام قد ارتحل من نيسابور وهو بـ (رباط سعد) ، فوقع في نفس الرجل أن يقصده ويصف له امره ليصف له ما ينتفع به من الدواء ، فقصده إلى رباط سعد فدخل إليه ، فقال له : يا ابن رسول اللّه‏ كان من أمري كيت وكيت ، وقد فسد عليّ فمي ولساني حتى لا أقدر على الكلام الاّ بجهد ، فعلّمني دواء انتفع به .

        فقال الرضا عليه‏السلام : ألم أعلّمك ؟ اذهب فاستعمل ما وصفته لك في منامك ، فقال له الرجل : يا ابن رسول اللّه‏ إن رأيت أن تعيده عليّ ، فقال عليه‏السلام له : خذ من الكمون والسعتر والملح فدقّه ، وخذ منه في فمك مرّتين أو ثلاثا فانّك ستعافى ، قال الرجل : فاستعملت ما وصف لي فعوفيت .

        قال أبو حامد أحمد بن عليّ بن الحسين الثعالبي : سمعت أبا أحمد عبد اللّه‏ بن عبد الرحمان المعروف بالصفواني يقول : رأيت هذا الرجل وسمعت منه هذه الحكاية

(2) .

        الخامسة : روي عن الريان بن الصلت انّه قال :

        لمّا أردت الخروج إلى العراق عزمت على توديع الرضا عليه‏السلام فقلت في نفسي : إذا ودّعته سألته قميصا من ثياب جسده لأكفّن به ، ودراهم من ماله أصوغ بها لبناتي

 

(1) عيون الاخبار 2:210 ، ح 15 ، عنه البحار 49:35 ، ح 15 ، والعوالم 22:84 ، ح 29 .
(2) عيون الاخبار 2:211 ، ح 16 ، عنه البحار 49:124 ، ح 6 ، والعوالم 22:238 ، ح 7 .
(480)

 

خواتيم .

        فلمّا ودّعته شغلني البكاء والأسى على فراقه عن مسألته ذلك ، فلمّا خرجت من بين يديه صاح بي : يا ريّان ارجع ، فرجعت ، فقال لي : أما تحبّ أن أدفع اليك قميصا من ثياب جسدي تكفّن فيه إذا فنى أجلك ؟ أو ما تحبّ أن أدفع اليك دراهم تصوغ بها لبناتك خواتيم ؟

        فقلت : يا سيدي قد كان في نفسي أن أسألك ذلك فمنعني الغمّ بفراقك ، فرفع عليه‏السلام الوسادة وأخرج قميصا فدفعه اليّ ، ورفع جانب المصلّى فأخرج دراهم فدفعها اليّ ، فعددتها فكانت ثلاثين درهما

(1) .

        السادسة : روي عن هرثمة بن أعين انّه قال :

        دخلت على سيّدي ومولاي ـ يعني الرضا عليه‏السلام ـ في دار المأمون ، وكان قد ظهر في دار المأمون أنّ الرضا عليه‏السلام قد توفي ولم يصحّ هذا القول ، فدخلت أريد الاذن عليه .

        قال : وكان في بعض ثقات خدم المأمون غلام يقال له : (صبيح الديلمي) وكان يتولّى سيدي حقّ ولايته وإذا صبيح قد خرج ، فلمّا رآني قال لي : يا هرثمة ألست تعلم انّي ثقة المأمون على سرّه وعلانيته ؟ قلت : بلى ، قال : اعلم يا هرثمة انّ المأمون دعاني وثلاثين غلاما من ثقاته على سرّه وعلانيته في الثلث الأوّل من الليل ، فدخلت عليه وقد صار ليله نهارا من كثرة الشموع وبين يديه سيوف مسلولة مشحوذة مسمومة ، فدعا بنا غلاما غلاما وأخذ عليه العهد والميثاق بلسانه وليس بحضرتنا أحد من خلق اللّه‏ غيرنا .

        فقال لنا : هذا العهد لازم لكم انّكم تفعلون ما آمركم به ولا تخالفوا منه شيئا ، قال : فحلفنا له ، فقال : يأخذ كلّ واحد منكم سيفا بيده ، وامضوا حتّى تدخلوا على عليّ بن موسى الرضا في حجرته فان وجدتموه قائما أو قاعدا أو نائما فلا تكلّموه وضعوا أسيافكم عليه ، واخلطوا لحمه ودمه وشعره وعظمه ومخّه ، ثم اقلبوا عليه بساطه وامسحوا أسيافكم به وصيروا اليّ ، وقد جعلت لكلّ واحد منكم على هذا الفعل وكتمانه عشر بدر دراهم ، وعشر ضياع منتخبة ، والحظوظ عندي ما حييت وبقيت .

        قال : فأخذنا الأسياف بأيدينا ودخلنا عليه في حجرته ، فوجدناه مضطجعا يقلّب طرف يديه ويتكلّم بكلام لا نعرفه ، قال : فبادر الغلمان إليه بالسيوف ووضعت سيفي وأنا قائم أنظر إليه ، وكأنّه قد كان علم بمصيرنا إليه ، فليس على بدنه ما لا تعمل فيه السيوف ، فطووا عليه بساطه وخرجوا حتى دخلوا على المأمون .

        فقال : ما صنعتم ؟ قالوا : فعلنا ما أمرتنا به يا أمير المؤمنين ، قال : لا تعيدوا شيئا مما كان ، فلمّا كان عند تبلّج الفجر ، فخرج المأمون ، فجلس مجلسه مكشوف الرأس

 

(1) عيون الاخبار 2:211 ، ح 17 ، عنه البحار 49:35 ، ح 16 ، والعوالم 22:85 ، ح 30 .
(481)

 

محلّل الأزرار وأظهر وفاته ، وقعد للتعزية ثم قام حافيا حاسرا فمشى لينظر إليه وأنا بين يديه ، فلمّا دخل عليه حجرته سمع همهمة فأرعد ، ثم قال : من عنده ؟ قلت : لا علم لنا يا أمير المؤمنين ، فقال : اسرعوا وانظروا .

        قال صبيح : فأسرعنا إلى البيت فإذا سيّدي عليه‏السلام جالس في محرابه يصلّي ويسبّح ، فقلت : يا أمير المؤمنين هو ذا نرى شخصا في محرابه يصلّي ويسبّح ، فانتفض المأمون وارتعد ثم قال : غررتموني لعنكم اللّه‏ ، ثم التفت اليّ من بين الجماعة فقال : يا صبيح أنت تعرفه فانظر مَن المصلّي عنده ؟ قال صبيح : فدخلت وتولّى المأمون راجعا ، فلمّا صرت عند عتبة الباب قال عليه‏السلام لي : يا صبيح ، قلت : لبيك يا مولاي ، وقد سقطت لوجهي ، فقال : قم يرحمك اللّه‏ :

        « يُرِيدُون لِيطفئوا نُور اللّه‏ بأفواههم واللّه‏ متمّ نوره وَلَو كَرِهَ الكَافِرون »

(1) .

        قال : فرجعت إلى المأمون ، فوجدت وجهه كقطع الليل المظلم ، فقال لي : يا صبيح ما وراءك ؟ قلت له : يا أمير المؤمنين هو واللّه‏ جالس في حجرته ، وقد ناداني وقال لي كيت وكيت .

        قال : فشدّ أزراره وأمر بردّ أثوابه وقال : قولوا انّه كان غشي عليه وانّه قد أفاق .

        قال هرثمة : فأكثرت للّه‏ تعالى شكرا وحمدا ، ثم دخلت على سيّدي الرضا عليه‏السلام فلمّا رآني قال : يا هرثمة لا تحدّث بما حدّثك به صبيح أحدا الاّ من امتحن اللّه‏ قلبه للإيمان بمحبتنا وولايتنا ، فقلت : نعم يا سيدي ، ثم قال لي : يا هرثمة واللّه‏ لا يضرّنا كيدهم شيئا حتى يبلغ الكتاب أجله

(2) .

        السابعة : روي عن محمد بن حفص انّه قال :

        حدّثني مولى العبد الصالح أبي الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام قال : كنت وجماعة مع الرضا عليه‏السلام في مفازة فأصابنا عطش شديد ودوابّنا حتى خفنا على أنفسنا ، فقال لنا الرضا عليه‏السلام : ائتوا موضعا ـ وصفه لنا ـ فانّكم تصيبون الماء فيه .

        قال : فأتينا الموضع فأصبنا الماء وسقينا دوابّنا حتى رويت وروينا ومن معنا من القافلة ، ثم رحلنا فأمرنا عليه‏السلام بطلب العين ، فطلبناها فما أصبنا الاّ بعر الإبل ولم نجد للعين أثرا ، [ قال الراوي : ] فذكرت ذلك لرجل من ولد قنبر كان يزعم انّ له مائة وعشرين سنة فأخبرني القنبريّ بمثل هذا الحديث سواء وقال : كنت أنا أيضا معه في خدمته ، وأخبرني القنبريّ انّه كان في ذلك مصعدا (أي ذاهبا) إلى خراسان

(3) .

        الثامنة : روي عن الهيثم بن أبي مسروق النهدي عن محمد بن الفضيل انّه قال :

 
(1) اقتباس من سورة الصف : 8 .
(2) عيون الاخبار 2:214 ، ح 22 ، عنه البحار 49:186 ، ح 18 ، والعوالم 22:347 ، ح 1 .
(3) عيون الاخبار 2:216 ، ح 25 ، عنه البحار 49:37 ، ح 20 والعوالم 22:87 ، ح 34 .
(482)

 

        نزلت ببطن مرّ فأصابني العِرق المدينيّ في جنبي وفي رجلي ، فدخلت على الرضا عليه‏السلام بالمدينة ، فقال : ما لي أراك متوجّعا ؟ فقلت : انّي لما أتيت بطن مرّ أصابني العرق المدينيّ في جنبي وفي رجلي .

        فأشار عليه‏السلام إلى الذي في جنبي تحت الإبط وتكلّم بكلام وتفل عليه ، ثم قال عليه‏السلام : ليس عليك بأس من هذا ، ونظر إلى الذي في رجلي فقال : قال أبو جعفر عليه‏السلام : « من بلي من شيعتنا ببلاء فصبر كتب اللّه‏ عزوجل له مثل أجر الف شهيد » .

        فقلت في نفسي : لا أبراء واللّه‏ من رجلي أبدا ، قال الهيثم : فما زال يعرج منها حتى مات

(1) .

التاسعة : روي عن عبد اللّه‏ بن محمد الهاشمي انّه قال :

        دخلت على المأمون يوما فأجلسني وأخرج من كان عنده ، ثم دعا بالطعام فطعمنا ثم تطيبنا ، ثم أمر بستارة فضربت ، ثم أقبل على بعض من كان في الستارة ، فقال : باللّه‏ لمّا رثيت لنا من بطوس ، فأخذت تقول :

 

 سقيا لطوس ومن أضحى بها قطنا  من عترة المصطفى أبقى لنا حزنا

        قال : ثم بكى وقال لي : يا عبد اللّه‏ أيلومني أهل بيتي وأهل بيتك أن نصّبت أبا الحسن الرضا عليه‏السلام علما ؟ فو اللّه‏ لأحدّثنّك بحديث تتعجب منه : جئته يوما فقلت له : جعلت فداك انّ آباءك موسى وجعفرا ومحمدا وعليّ بن الحسين ( عليهم‏السلام ) كان عندهم علم ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة ، وأنت وصيّ القوم ووارثهم وعندك علمهم وقد بدت لي اليك حاجة .

        قال : هاتها ، فقلت : هذه الزاهريّة حظيّتي ولا أقدّم عليها أحدا من جواريّ ، وقد حملت غير مرّة وأسقطت وهي الآن حامل ، فدلّني على ما تتعالج به فتسلم .

        فقال : لا تخف من إسقاطها فانّها تسلم وتلد غلاما أشبه الناس بأمه وتكون له خنصر زائدة في يده اليمنى ليست بالمدلاة ، وفي رجله اليسرى خنصر زائدة ليست بالمدلاة ، فقلت في نفسي : أشهد أن اللّه‏ على كلّ شيء قدير .

        فولدت الزاهريّة غلاما أشبه الناس بأمّه في يده اليمنى خنصر زائدة ليست بالمدلاة ، وفي رجله اليسرى خنصر زائدة ليست بالمدلاة على ما كان وصفه لي الرضا عليه‏السلام ، فمن يلومني على نصبي ايّاه علما ؟

        والحديث فيه زيادة حذفناها ولا حول ولا قوّة الاّ باللّه‏ العليّ العظيم .

        [ ثم قال الشيخ الصدوق : ] انّما علم الرضا عليه‏السلام ذلك ممّا وصل إليه عن آبائه عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وذلك انّ جبرئيل عليه‏السلام قد كان نزل عليه بأخبار الخلفاء وأولادهم من بني أميّة وولد العباس ، وبالحوادث التي تكون في أيامهم وما يجري على أيديهم ، ولا

 
(1) عيون الاخبار 2:221 ، ح 39 ، عنه البحار 49:42 ، ح 31 ، والعوالم 22:93 ، ح 45 .
(483)

 

قوّة الاّ باللّه‏ . (انتهى)(1)

        يقول المؤلف :

        انّ الذي حُذف من الحديث البيت الثاني للشعر وهو :

 

 أعني أبا الحسن المأمول انّ له  حقّا على كلّ من أضحى بها شجنا

        العاشرة : روي عن محمد بن الفضيل انّه قال :

        لمّا كان في السنة التي بطش هارون بآل برمك بدأ بجعفر بن يحيى وحبس يحيى بن خالد ونزل بالبرامكة ما نزل ، كان أبو الحسن عليه‏السلام واقفا بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه ، فَسُئِلَ عن ذلك ، فقال : انّي كنت أدعو اللّه‏ تعالى على البرامكة بما فعلوا بأبي عليه‏السلام فاستجاب اللّه‏ لي اليوم فيهم . فلمّا انصرف لم يلبث الاّ يسيرا حتى بطش بجعفر ويحيى وتغيّرت أحوالهم

(2) .

        قال مسافر : كنت مع الرضا عليه‏السلام بمنى فمرّ يحيى بن خالد مع قوم من آل برمك ، فقال عليه‏السلام : مساكين هؤلاء لا يدرون ما يحلّ بهم في هذه السنة ، ثم قال : هاه ، وأعجب من هذا هارون وأنا كهاتين ـ وضمّ باصبعيه ـ قال مسافر : فو اللّه‏ ما عرفت معنى حديثه حتّى دفنّاه معه(3) .

        الحادية عشرة : روى الشيخ المفيد رحمه‏الله في الإرشاد بسنده عن الغفاري انّه قال :

        كان لرجل من آل أبي رافع مولى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله (يقال له : فلان) عليّ حق ، فتقاضاني وألحّ عليّ ، فلمّا رأيت ذلك صلّيت الصبح في مسجد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ثم توجّهت نحو الرضا عليه‏السلام وهو يومئذ بالعريض ، فلمّا قربت من بابه فإذا هو قد طلع على حمار وعليه قميص ورداء .

        فلمّا نظرت إليه استحييت منه ، فلمّا لحقني وقف فنظر اليّ فسلّمت عليه ـ وكان شهر رمضان ـ فقلت له : جعلت فداك انّ لمولاك فلان عليّ حقا وقد واللّه‏ شهرني ، وأنا واللّه‏ أظن في نفسي انّه يأمره بالكفّ عنّي ، وواللّه‏ ما قلت له كم له عليّ ولا سمّيت له شيئا ، فأمرني بالجلوس الى رجوعه .

        فلم أزل حتى صلّيت المغرب وأنا صائم فضاق صدري ، وأردت أن أنصرف فإذا هو قد طلع عليّ وحوله الناس ، وقد قعد له السؤال وهو يتصدّق عليهم ، فمضى فدخل بيته ثم خرج ودعاني ، فقمت إليه فدخلت معه ، فجلس وجلست معه فجعلت أحدّثه عن ابن المسيّب (وكان أمير المدينة) وكان كثيرا ما أحدّثه عنه .

        فلمّا فرغت قال : ما أظنّك أفطرت بعد ، فقلت : لا ، فدعا لي بطعام فوضع بين

 
(1) عيون الاخبار 2:223 ، ح 44 ، وعنه البحار 49:29 ، ح 2 ، والعوالم 22:76 ، ح 17 .
(2) عيون الاخبار 2:225 ، ح 1 ، عنه البحار 49:85 ، ح 4 ، والعوالم 22:161 ، ح 2 .
(3) عيون الاخبار 2:225 ، ح 2 ، عنه البحار 49:44 ، ح 36 ، والعوالم 22:96 ، ح 50 .
(484)

 

يدي ، وأمر الغلام أن يأكل معي ، فأصبت والغلام من الطعام ، فلمّا فرغنا قال : ارفع الوسادة وخذ ما تحتها فرفعتها فإذا دنانير ، فأخذتها ووضعتها في كمّي وأمر أربعة من عبيده أن يكونوا معي حتى يبلغوني منزلي .

        فقلت : جعلت فداك انّ طائف ابن المسيّب يقعد وأكره أن يلقاني ومعي عبيدك ، فقال : أصبت أصاب اللّه‏ بك الرشاد ، وأمرهم أن ينصرفوا إذا رددتهم .

        فلمّا قربت من منزلي وآنست رددتهم ، وصرت إلى منزلي ودعوت بالسراج ونظرت الى الدنانير ، فإذا هي ثمانية وأربعون دينارا ، وكان حقّ الرجل عليّ ثمانية وعشرين دينارا ، وكان فيها دينارا يلوح فأعجبني حسنه فأخذته وقرّبته من السراج فإذا عليه نقش واضح : « حقّ الرجل عليك ثمانية وعشرون دينارا وما بقي فهو لك » ولا واللّه‏ ما كنت عرّفت ماله عليّ على التحديد

(1) .

        الثانية عشرة : روى القطب الراوندي عن الريان بن صلت انّه قال :

        دخلت على الرضا عليه‏السلام بخراسان وقلت في نفسي : أسأله عن هذه الدنانير المضروبة باسمه ، فلمّا دخلت عليه قال لغلامه : انّ أبا محمد يشتهي من هذه الدنانير التي عليها اسمي فهلمّ بثلاثين درهما منها ، فجاء بها الغلام فأخذتها .

        ثم قلت في نفسي : ليته كساني من بعض ما عليه ، فالتفت إلى غلامه فقال : قل لهم : لا يغسلون ثيابي وتأتي بها كما هي ، فأتيت بقميص وسروالٍ ونعلٍ ، [ فدفعوها اليّ

(2)] .

        الثالثة عشرة : روى ابن شهر آشوب عن الحسن بن عليّ الوشاء انّه قال :

        دعاني سيّدي الرضا عليه‏السلام بمرو ، فقال : يا حسن مات عليّ بن أبي حمزة البطائني في هذا اليوم وادخل في قبره الساعة ودخلا عليه ملكا القبر ، فسألاه : من ربك ؟ فقال : اللّه‏ .

        ثم قالا : من نبيّك ؟ فقال : محمد ، فقالا : من وليّك ؟ فقال : عليّ بن أبي طالب ، قالا : ثم من ؟ قال : الحسن ، قالا : ثم من ؟ قال : الحسين ، قالا : ثم من ؟ قال : عليّ بن الحسين ، قالا : ثم من ؟ قال : محمد بن عليّ ، قالا : ثم من ؟ قال : جعفر بن محمد ، قالا : ثم من ؟ قال : موسى بن جعفر .

        قالا : ثم من ؟ فلجلج ، فزجراه ، وقالا : ثم من ؟ فسكت ، فقالا له : أفموسى بن جعفر أمرك بهذا ؟ ثم ضربا بمقمعةٍ من نار فألهبا عليه قبره إلى يوم القيامة .

        [ قال : ] فخرجت من عند سيّدي فأرّخت ذلك اليوم ، فما مضت الأيّام حتى وردت كتب الكوفيين بموت البطائني في ذلك اليوم ، وانّه أُدخل قبره في تلك

 
(1) الارشاد : 308 ، عنه البحار 49:97 ، ح 12 ، والعوالم 22:200 ، ح 3 .
(2) الخرائج 2:768 ، ح 88 ، عنه البحار 49:56 ، ح 68 ، والعوالم 22:109 ، ح 74 .
(485)

 

الساعة(1) .

        الرابعة عشرة : روى القطب الراوندي عن ابراهيم بن موسى القزّاز ـ وكان يؤمّ في مسجد الرضا عليه‏السلام بخراسان ـ قال :

        ألححت على الرضا عليه‏السلام في شيء طلبته منه ، فخرج يستقبل بعض الطالبيين ، وجاء وقت الصلاة فمال إلى قصر هناك ، فنزل تحت شجرة بقرب القصر وأنا معه وليس معنا ثالث .

        فقال : أذّن ، فقلت : ننتظر يلحق بنا أصحابنا ؟ فقال : غفر اللّه‏ لك ، لا تؤخّرنّ صلاة عن أوّل وقتها إلى آخر وقتها من غير علّة عليك ، ابدأ بأوّل الوقت ، فأذّنت وصلّينا ، فقلت : يا ابن رسول اللّه‏ قد طالت المدّة في العدّة التي وعدتنيها وانا محتاج ، وأنت كثير الشغل ولا أظفر بمسألتك كلّ وقت .

        قال : فحكّ بسوطه الأرض حكّا شديدا ، ثم ضرب بيده إلى موضع الحكّ فأخرج سبيكة ذهب ، فقال : خذها اليك بارك اللّه‏ لك فيها ، وانتفع بها واكتم ما رأيت ، قال : فبورك لي فيها حتى اشتريت بخراسان ما كان قيمته سبعين الف دينار ، فصرت أغنى الناس من أمثالي هناك

(2) .

        الخامسة عشرة : وروى أيضا عن أحمد بن عمر انّه قال :

        خرجت إلى الرضا عليه‏السلام وامرأتي حُبلى ، فقلت له : انّي قد خلّفت أهلي وهي حامل فادع اللّه‏ أن يجعله ذكرا ، فقال لي : هو ذكر فسمّه عمر ، فقلت : نويت أن أسمّيه عليا وأمرت الأهل به ، قال عليه‏السلام : سمّه عمر .

        فوردت الكوفة وقد ولد ابن لي وسمّي عليا فسمّيته عمر ، فقال لي جيراني : لا نصدّق بعدها بشيء ممّا كان يُحكى عنك [ أي لا نصدق من اتهمك بالتشيّع ولقد علمنا انّك على مذهبنا ، وكانوا على مذهب الشيخين ] فعلمت انّه كان أنظر لي من نفسي

(3) .

        السادسة عشرة : نقل عن بصائر الدرجات انّه :

        قال أحمد بن عمر الحلاّل : سمعت الأخرس بمكة يذكر الرضا عليه‏السلام فنال منه ، قال : فدخلت مكة فاشتريت سكّينا فرأيته ، فقلت : واللّه‏ لأقتلنّه إذا خرج من المسجد ، فأقمت على ذلك فما شعرت الاّ برقعة أبي الحسن عليه‏السلام : « بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، بحقي عليك لما كففت عن الأخرس ، فانّ اللّه‏ ثقتي وهو حسبي »

(4) .

        السابعة عشرة : روى الشيخ المفيد بسند معتبر عن عليّ عن أبيه عن بعض

 
(1) المناقب 4:337 ، عنه البحار 49:58 ، والعوالم 22:111 ، ح 80 .
(2) الخرائج 1:337 ، ح 2 ، عنه البحار 49:49 ، ح 49 ، والعوالم 22:129 ، ح 2 .
(3) الخرائج 1:361 ، ح 16 ، عنه البحار 49:52 ، ح 55 ، والعوالم 22:102 ، ح 62 .
(4) بصائر الدرجات 5:272 ، باب 12 ، ح 6 ، عنه البحار 49:47 ، ح 44 ، والعوالم 22:69 ، ح 6 .
(486)

 

أصحابه عن أبي الحسن الرضا عليه‏السلام انّه خرج من المدينة ـ في السنة التي حجّ فيها هارون ـ يريد الحج ، فانتهى إلى جبل على يسار الطريق يقال له : فارع ، فنظر إليه أبو الحسن عليه‏السلام ثم قال : « باني فارع وهادمه يقطّع إربا إربا » فلم ندر ما معنى ذلك ، فلمّا بلغ هارون ذلك الموضع ، نزله وصعد جعفر بن يحيى الجبل ، وأمر أن يُبنى له فيه مجلس ، فلمّا رجع من مكة صعد إليه وامر بهدمه، فلمّا انصرف إلى العراق قُطّع جعفر بن يحيى إربا إربا(1) .

        الثامنة عشرة : روى ابن شهر آشوب عن مسافر انّه قال :

        كنت عند الرضا عليه‏السلام بمنى فمرّ يحيى بن خالد ، فغطّى أنفه من الغبار ، فقال عليه‏السلام : مساكين لا يدرون ما يحلّ بهم في هذه السنة ، ثم قال : وأعجب من هذا هارون وأنا كهاتين ـ وضمّ بين إصبعيه ـ

(2) .

        وقد مرّ مثله في رواية الشيخ الصدوق .

        التاسعة عشرة : وروى ابن شهر آشوب أيضا عن سليمان الجعفري انّه قال :

        كنت مع الرضا عليه‏السلام في حائط له وأنا معه إذ جاء عصفور فوقع بين يديه ، وأخذ يصيح ويكثر الصياح ويضطرب ، فقال لي : يا سليمان تدري ما يقول العصفور ؟ قلت : لا ، قال : انّه يقول انّ حية تريد تأكل أفراخي في البيت ، فقم فخذ النبعة في يديك ـ يعني العصا ـ وادخل البيت واقتل الحية ، فأخذت النبعة ودخلت البيت فإذا حية تجول في البيت فقتلتها

(3) .

        العشرون : وروى ابن شهر آشوب أيضا عن الحسين بن بشار انّه قال :

        قال الرضا عليه‏السلام : إنّ عبد اللّه‏ يقتل محمدا ، قلت : عبد اللّه‏ بن هارون يقتل محمد بن هارون ؟ قال: نعم، عبد اللّه‏ الذي بخراسان يقتل محمد بن زبيدة الذي هو ببغداد ، فقتله .

        وكان عليه‏السلام يتمثل :

 

 وانّ الضغن بعد الضغن يفشو  عليك ويخرج الداء الدفينا(4)         ولعلّ تمثّل الامام عليه‏السلام بهذا البيت إشارة إلى قتل عبد اللّه‏ المأمون ايّاه أيضا .

* * *

 
(1) الارشاد : 309 ، عنه البحار 49:56 ، ح 70 ، والعوالم 22:99 .
(2) المناقب 4:340 ، عنه البحار 49:59 ، والعوالم 22:112 ، ح 83 .
(3) المناقب 4:334 ، ومثله البحار 49:88 ، ح 8 ، عن الخرائج ، والعوالم 22:147 ، ح1 ، عن بصائر الدرجات.
 (4) المناقب 4:335 ، ومثله البحار 49:34 ، والعوالم 22:82، عن عيون الأخبار .
(487)

 

الفصل الرابع

في ذهابه عليه‏السلام من المدينة إلى مرو وقبوله

ولاية العهد ومناظراته مع علماء الأديان

        لا يخفى انّ المستفاد من الروايات هو انّ المأمون لمّا استتبت له الخلافة ، وأصبحت أوامره ونواهيه نافذة في أقطار العالم الاسلامي ، فوّض ولاية العراق إلى الحسن بن سهل وأقام هو بمرو ، فارتفع غبار الفتنة في الحجاز واليمن ، ورفع بعض السادة العلويين راية الثورة ضد المأمون طمعا في الوصول إلى الخلافة .

        فلمّا بلغ ذلك المأمون شاور الفضل بن سهل ذا الرياستين ـ وزيره ومشاوره ـ فاستقرّ رأيه بعد إعمال الفكر وتدبير الامر على جلب الامام الرضا عليه‏السلام من المدينة إلى مرو ، واعطائه منصب ولاية العهد لاطفاء نائرة السادة العلويين ، وجعل طوق الطاعة في أعناقهم ولينصرفوا عن التفكير في الخلافة والطمع بها .

        فأرسل المأمون رجاء بن أبي الضحاك مع بعض خواصّه إلى الإمام عليه‏السلام حتى يرغّبه الى السفر نحو خراسان ، فلمّا وصلوا إليه وأبلغوه ، امتنع عن ذلك ، لكنهم اصرّوا عليه كثيرا ، فقبل الامام عليه‏السلام مكرها مجبرا .

        روى الشيخ الصدوق رحمه‏الله عن مخوّل السجستاني انّه قال : لمّا ورد البريد باشخاص الرضا عليه‏السلام إلى خراسان كنت أنا بالمدينة ، فدخل المسجد ليودّع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فودّعه مرارا ، كلّ ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب .

        فتقدّمت إليه وسلّمت عليه فردّ السلام وهنّأته ، فقال : زرني ، فانّي أخرج من جوار جدّي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فأموت في غربة ، وأدفن في جنب هارون

(1) .

        قال الشيخ يوسف بن حاتم الشامي تلميذ المحقق الحلّي في الدرّ النظيم : روى جماعة من أصحاب الرضا عليه‏السلام انّه قال : لمّا أردت الخروج من المدينة إلى خراسان جمعت عيالي فأمرتهم أن يبكوا عليّ حتى أسمع بكآهم ، ثم فرّقت فيهم اثنى عشر الف دينار ، ثم قلت لهم : انّي لا أرجع إلى عيالي ابدا ، ثم أخذت أبا جعفر فأدخلته المسجد ووضعت يده على حافة القبر والصقته به واستحفظته رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فالتفت اليّ أبو جعفر ، فقال لي : بأبي أنت واللّه‏ تذهب إلى اللّه‏ ، وأمرت جميع وكلاي وحشمي له بالسمع والطاعة [ وترك ] مخالفته ، وعرّفتهم انّه القيّم مقامي(2) .

        قال العلّامة المجلسي : روي في كشف الغمّة وغيره عن أمية بن عليّ انّه قال : كنت مع أبي الحسن عليه‏السلام بمكة في السنة التي حجّ فيها ثم صار إلى خراسان ومعه

 

(1) عيون الاخبار 2:217 ، ح 26 ، عنه البحار 49:117 ، ح 2 ، والعوالم 22:226 ، ح 1 .
(2) الدرّ النظيم 2:203 ، الباب العاشر ، فصل في ذكر شيء من اخبار الرضا عليه‏السلام .
(488)

 

أبو جعفر عليه‏السلام وأبو الحسن يودّع البيت ، فلمّا قضى طوافه عدل إلى المقام فصلّى عنده ، فصار أبو جعفر (الجواد) عليه‏السلام على عنق موفّق يطوف به ، فصار أبو جعفر عليه‏السلام إلى الحجر ، فجلس فيه فأطال .

        فقال له موفق : قم جعلت فداك ، فقال : ما أريد أن أبرح من مكاني هذا الاّ أن يشاء اللّه‏ واستبان في وجهه الغمّ ، فأتى موفّق أبا الحسن عليه‏السلام فقال له : جعلت فداك قد جلس أبو جعفر في الحجر وهو يأبى أن يقوم .

        فقام أبو الحسن عليه‏السلام فأتى أبا جعفر عليه‏السلام فقال له : قم يا حبيبي ، فقال : ما أريد أن أبرح من مكاني هذا ، قال : بلى يا حبيبي ، ثم قال : كيف أقوم وقد ودّعت البيت وداعا لا ترجع إليه ؟ فقال : قم يا حبيبي ، فقام معه

(1) .

        وكان ذهاب الامام عليه‏السلام إلى خراسان في سنة(200) للهجرة، وكان عمر الامام الجواد عليه‏السلام ـ على المشهور ـ سبع سنين ، فلمّا توجه إلى السفر ظهرت له معاجز باهرة في كلّ منزل ، وكثير من آثارها موجود إلى الآن .

        روى السيد عبد الكريم بن طاووس المتوفي سنة 693 في كتاب فرحة الغري : لما طلبه المأمون [ أي طلب الامام الرضا عليه‏السلام ] من خراسان توجّه من المدينة إلى البصرة ولم يصل الكوفة ، ومنها توجّه على طريق الكوفة إلى بغداد ثم إلى قم ودخلها وتلقاه أهلها وتخاصموا فيمن يكون ضيفه منهم .

        فذكر أنّ الناقة مأمورة ، فما زالت حتى بركت على بابٍ ، وصاحب ذلك الباب رأى في منامه انّ الرضا عليه‏السلام يكون ضيفه في غد ، فما مضى الاّ يسيرا حتى صار ذلك الموضع مقاما شامخا وهو في اليوم مدرسة مطروقة

(2) .

        نقل صاحب كشف الغمة وغيره انّ عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام لما دخل إلى نيسابور في السفرة التي فاز فيها بفضيلة الشهادة كان في مهدٍ على بغلةٍ شهباء ، عليها مركب من فضة خالصة ، فعرض له في السوق الامامان الحافظان للأحاديث النبوية أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي رحمهماالله .

        فقال : أيها السيد بن السادة ، ايها الامام وابن الائمة ، أيها السلالة الطاهرة الرضية ، أيّها الخلاصة الزاكية النبويّة ، بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين الاّ ما أريتنا وجهك المبارك الميمون ، ورويت لنا حديثا عن آبائك عن جدّك نذكرك به .

        فاستوقف البغلةُ ورفع المظلة وأقر عيون المسلمين بطلعته المباركة الميمونة ، فكانت ذؤابتاه كذؤابتي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والناس على طبقاتهم قيام كلّهم ، وكانوا بين صارخ وباك وممزق ثوبه ، ومتمرغ في التراب ، ومقبل حزام بغلته ، ومطول عنقه إلى

 
(1) كشف الغمة 3:155 ، عنه البحار 49:120 ، ح 6 ، والعوالم 22:227 ، ح 3 .
(2) فرحة الغري : 105 .
(489)

 

مظلّة المهد إلى أن انتصف النهار ، وجرت الدموع كالأنهار وسكنت الاصوات وصاحت الأئمة والقضاة :

        (معاشر الناس اسمعوا وعوا ولا تؤذوا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في عتره وانصتوا)

(1) .

        يقول المؤلف :

        ولما انتهيت إلى هذا الكلام تذكرت موقف سيد الشهداء عليه‏السلام في يوم عاشوراء امام جيش الكوفة ، حينما أراد أن يعظهم ، فلم يستمعوا إليه ، فأمرهم بالسكوت ، فلم يسكتوا فقال : « ويلكم ما عليكم أن تنصتوا اليّ وتسمعوا قولي وأنا أدعوكم إلى سبيل الرشاد » فلم يكن بينهم رشيد موحّد يقول : ايها الناس هذا ابن بنت نبيكم فاسكتوا قليلاً حتى ينتهي من كلامه وموعظته ، وفي الحقيقة هذه احدى مصائب ورزايا سيد الشهداء عليه‏السلام ، وقد أشار اليها الكميت الشاعر في قصيدته التي قرأها على الامام الباقر عليه‏السلام ، فبكى الامام كثيرا .

قال رحمه اللّه‏ :

 

 وقتيل بالطف غودر فيهم  بين غوغاء أمّةٍ وطغام

        فبكى الامام وقال له: ياكميت لو كان عندنا مال لأعطيناك ، لكن لك ماقال رسول‏اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لحسان بن ثابت : لا زلت مؤيدا بروح القدس ما ذَبَبت عنّا أهل البيت .

        رجعنا إلى الحديث السابق :

        ... وأنصتوا ، فأملى عليه‏السلام هذا الحديث ، وعدّ من المحابر أربع وعشرون ألفا سوى الدويّ ، والمستملي أبو زرعة الرازي ومحمد بن أسلم الطوسي رحمهماالله .

        فقال عليه‏السلام : حدّثني أبي موسى بن جعفر الكاظم ، قال : حدّثني أبي محمد الصادق ، قال : حدّثني أبي محمد بن عليّ الباقر ، قال : حدّثني أبي عليّ بن الحسين زين العابدين ، قال : حدّثني أبي الحسين بن عليّ شهيد أرض كربلاء ، قال : حدّثني أبي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب شهيد أرض الكوفة ، قال : حدّثني اخي وابن عمّي محمد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، قال : حدّثني جبرئيل عليه‏السلام قال : سمعت ربّ العزة سبحانه وتعالى يقول :

        « كلمة لا اله الاّ اللّه‏ حصني فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي » .

        صدق اللّه‏ سبحانه ، وصدق جبرئيل ، وصدق رسوله ، وصدق الائمة عليهم‏السلام

(2) .

        روى الشيخ الصدوق عن أبي واسع محمد بن أحمد النيسابوري انّه قال :

        سمعت جدّتي خديجة بنت حمدان بن پسنده ، قالت : لما دخل الرضا عليه‏السلام

 

(1) كشف الغمة 3:101 .

(2) كشف الغمة 3:101 ، عنه البحار 49:126 ، ح 3 ، والعوالم 22:233 ـ 235 ، ح 2 .

(490)

 

نيسابور نزل محلّة الغربي ناحية تعرف (بلاش آباد) في دار جدّي (پسنده) وانّما سمّي (پسنده) لانّ الرضا عليه‏السلام ارتضاه من بين الناس و (پسنده) هي كلمة فارسية معناها (مرضيّ) .

        فلما نزل عليه‏السلام دارنا زرع لوزة في جانب من جوانب الدار ، فنبتت وصارت شجرة و أثمرت في سنة فعلم الناس بذلك ، فكانوا يستشفون بلوز تلك الشجرة ، فمن أصابته علّة تبّرك بالتناول من ذلك اللوز مستشفياً به فعوفي ، ومن أصابه رمد جعل ذلك اللوز على عينه فعوفي . وكانت الحامل إذا عسر عليها ولادتها تناولت من ذلك اللوز فتخفّ عليها الولادة وتضع من ساعتها ، وكان إذا أخذ دابّة من الدواب القولنج أُخذ من قضبان تلك الشجرة فأمّر على بطنها فتعافى ويذهب عنها ريح القولنج ببركة الرضا عليه‏السلام .

        فمضت الايام على تلك الشجرة فيبست ، فجاء جدّي حمدان وقطع أغصانها فعمي ، وجاء ابن حمدان يقال له : أبو عمرو فقطع تلك الشجرة من وجه الأرض فذهب ماله كلّه بباب فارس ، وكان مبلغه سبعين ألف درهم إلى ثمانين ألف درهم ولم يبق له شيء ، وكان لأبي عمرو هذا إبنان كاتبان وكانا يكتبان لأبي الحسن بن ابراهيم بن سمجور ، يقال لأحدهما : أبو القاسم و للآخر : أبو صادق . فأرادا عمارة تلك الدار وأنفقا عليها عشرين ألف درهم ، وقلعا الباقي من أصل تلك الشجرة وهما لا يعلمان ما يتولّد عليهما من ذلك ، فولّي أحدهما ضياعاً لأمير خراسان فردّ الى نيسابور في محمل قد اسودّت رجله اليمنى ، فشرحت رجله فمات من تلك العلّة بعد شهر .

        وأما الآخر وهو الاكبر فانّه كان في ديوان السلطان بنيسابور يكتب كتاباً وعلى رأسه قوم من الكتّاب وقوف فقال واحد منهم : دفع اللّه‏ عين السوء عن كاتب هذا الخط ، فارتعشت يده من ساعته وسقط القلم من يده وخرجت بيده بثرة ورجع إلى منزله ، فدخل إليه أبو العباس الكاتب مع جماعة ، فقالوا له :

        « هذا الذي أصابك من الحرارة فيجب أن تفصد » فافتصد ذلك اليوم ، فعادوا إليه من الغد وقالوا له : «يجب ان تفصد اليوم أيضاً » ففعل ، فاسودّت يده فشرحت ومات من ذلك ، وكان موتهما جميعاً في أقلّ من سنة

(1) .

        وروى الشيخ الصدوق أيضاً انّ الرضا عليه‏السلام لمّا دخل نيسابور نزل في محلّة يقال لها : (الفروينيّ) فيها حمّام ، وهو الحمّام المعروف اليوم بحمّام الرضا عليه‏السلام ، وكانت هناك عين قد قلّ ماؤها ، فأقام عليها من أخرج ماءها حتى توفّر وكثر ، واتخذ خارج الدرب حوضاً ينزل اليه بالمراقي إلى هذه العين .

        فدخله الرضا عليه‏السلام واغتسل فيه ، ثم خرج منه فصلّى على ظهره والناس يتناوبون

 

(1) عيون الاخبار 2:132 ، ح 1 ، عنه البحار 49:121 ، ح 2 ، والعوالم 22:235 ، ح 3 .
(491)

 

ذلك الحوض ويغتسلون فيه ويشربون منه التماساً للبركة ، ويصلّون على ظهره ويدعون اللّه‏ عزوجل في حوائجهم فتقضى لهم ، وهي العين المعروفة بـ (عين كهلان) يقصدها الناس الى يومنا هذا (1) .

        يقول المؤلف : ذكر هذه الرواية ابن شهر آشوب في المناقب وذكر وجه تسمية هذه العين بـ (عين كهلان) ثم قال : وروي انّه أتته ظبية فلاذت فيه ، قال ابن حماد :

 

 الذي لاذ به الظبـ  ـية والناس جلوس  من أبوه المرتضى  يزكوا ويعلوا ويروس(2)         وروى الشيخ الصدوق وابن شهر آشوب عن أبي الصلت انّه قال : لمّا خرج الرضا عليّ بن موسى عليه‏السلام من نيسابور إلى المأمون ، فبلغ قرب القرية الحمراء ، قيل له : يا ابن رسول اللّه‏ قد زالت الشمس أفلا تصلّي ؟ فنزل عليه‏السلام فقال : ائتوني بماء ، فقيل : مامعنا ماء ، فبحث عليه‏السلام بيده الأرض ، فنبع من الماء ما توضّأ به هو ومن معه ، وأثره باق إلى اليوم .

        فلّما دخل (سناباد) أسند [ ظهره ] إلى الجبل الذي تنحت منه القدور ، فقال : «اللهم انفع به وبارك فيما يجعل فيه وفيما ينحت منه » ثم أمر عليه‏السلام فنحت له قدور من الجبل ، وقال : لا يطبخ ما آكله الاّ فيها .

        وكان عليه‏السلام خفيف الأكل ، قليل الطعم ، فاهتدى الناس إليه من ذلك اليوم ، وظهرت بركة دعائه عليه‏السلام فيه ، ثم دخل دار حميد بن قحطبة الطائي ودخل القبّة التي فيها قبر هارون الرشيد ثم خطّ بيده إلى جانبه ثم قال :

        « هذه تربتي وفيها أدفن ، وسيجعل اللّه‏ هذا المكان مختلف شيعتي وأهل محبّتي ، واللّه‏ ما يزورني منهم زائر ولا يسلّم عليّ منهم مسلّم الاّ وجب له غفران اللّه‏ ورحمته بشفاعتنا أهل البيت » .

        ثم استقبل القبلة فصلّى ركعات ودعا بدعوات ، فلمّا فرغ سجد سجدة طال مكثه فيها ، فأحصيت له فيها خمسمائة تسبيحة ، ثم انصرف

(3) .

        روى السيد ابن طاووس عن ياسر خادم المأمون انّه قال : لمّا نزل أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام قصر حميد بن قحطبة نزع ثيابه وناولها حميداً ، فاحتملها وناولها جارية له لتغسلها ، فما لبثت أن جاءت ومعها رقعة ، فناولتها حميداً وقالت : وجدتها في جيب أبي الحسن عليه‏السلام .

        فقلت : جعلت فداك انّ الجارية وجدت رقعة في جيب قميصك فها هي ، قال :

 
(1) عيون الاخبار 2:134 ، عنه البحار 49:123 ، ح 5 ، والعوالم 22:236 ، ح 4 .
 (2) المناقب 4:348 .
(3) عيون الاخبار 2:136 ، ح 1 ، عنه البحار 4:125 ، ح 1 ، والعوالم 22:241 ، ح 1 ، ومثله المناقب 4:343 .
(492)

 

يا حميد هذه عوذة لانفارقها ، فقلت : لو شرّفتني بها ، فقال : هذه عوذة من أمسكها في جيبه كان البلاء مدفوعاً عنه ، وكانت له حرزاً من الشيطان الرجيم ، ثم أملى على حميد العوذة وهي :

        « بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، بسم اللّه‏ انّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً أو غير تقي ، أخذت باللّه‏ السميع البصير على سمعك وبصرك ، لا سلطان لك عليّ ولا على سمعي ، ولا على بصري ، ولا على شعري ، ولا على بشري ، ولا على لحمي ، ولا على دمي ، ولا على مخّي ، ولا على عصبي ، ولا على عظامي ، ولا على مالي ، ولا على مارزقني ربّي ، سترت بيني وبينك بستر النبوة الذي استتر انبياء اللّه‏ به من سطوات الجبابرة والفراعنة ، جبرئيل عن يميني ، وميكائيل عن يساري، واسرافيل عن ورائي ، ومحمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أمامي ، واللّه‏ مطّلع عليّ ، يمنعك منّي ويمنع الشيطان منّي . اللّهم لا يغلب جهله أناتك ان يستفزّني ويستخفّني ، اللهم اليك التجأت ، اللهم اليك التجأت ، اللهم اليك التجأت » .

        قلت : ولهذا الحرز قصة مونقة وحكاية عجيبة كما رواه أبو الصلت الهرويّ ، قال : كان مولاي عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام ذات يوم جالساً في منزله إذ دخل عليه رسول المأمون ، فقال : أجب أمير المؤمنين ، فقام عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام فقال لي : يا أبا الصلت انّه لا يدعوني في هذا الوقت الاّ لداهية ، واللّه‏ لايمكّنه أن يعمل بي شيئاً اكرهه لكلمات وقعت اليّ من جدي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .

        قال : فخرجت معه حتى دخلنا على المأمون ، فلمّا نظر به الرضا عليه‏السلام قرأ هذا الحرز الى آخره ، فلمّا وقف بين يديه نظر إليه المأمون وقال : يا أبا الحسن قد أمرنا لك بمائة الف درهم ، واكتب حوائج أهلك ، فلمّا ولّى عنه عليّ بن موسى بن جعفر عليهم‏السلام و المأمون ينظر إليه في قفاه ويقول : « أردت وأراد اللّه‏ ، وما أراد اللّه‏ خير »

(1) .

في وروده عليه‏السلام إلى مرو وبيعة الناس له بولاية العهد :

        لمّا قدم الرضا عليه‏السلام إلى مرو ، اكرمه المأمون ورحّب به وجمع خواصّ أوليائه وأصحابه فقال : ايها الناس انّي نظرت في آل العباس وآل علي ، فلم أرَ أفضل ولا أورع ولا أحق من عليّ بن موسى بالخلافة ، ثم التفت إلى الامام عليه‏السلام فقال له : « إني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك » .

        فقال له الامام الرضا عليه‏السلام : «ان كانت هذه الخلافة لك واللّه‏ جعلها لك ، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه اللّه‏ وتجعله لغيرك ، وان كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ماليس لك » .

 

(1) مهج الدعوات : 33 ، عنه البحار 94:343 ، والعوالم 22:225، ح 4، بحذف الدعاء.
(493)

 

        فقال له المأمون : يا ابن رسول اللّه‏ لابدّ لك من قبول هذا الأمر ، فقال : لست أفعل ذلك طائعاً أبداً ، فما زال يجهد به ايّاماً حتى يئس من قبوله ، فقال له : فان لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك ، فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي .

        فقال الرضا عليه‏السلام : واللّه‏ لقد حدّثني أبي عن آبائه عليهم‏السلام عن أمير المؤمنين عليه‏السلام عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، انّي أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض ، وأُدفن في أرض غربة الى جنب هارون الرشيد .

        فبكى المأمون ثم قال له : يا ابن رسول اللّه‏ ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة اليك وأنا حيّ ؟ فقال الرضا عليه‏السلام : اما انّي لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت .

        فقال المأمون : يا ابن رسول اللّه‏ انّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ، ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس انّك زاهد في الدنيا .

        فقال الرضا عليه‏السلام : واللّه‏ ماكذبت منذ خلقني ربّي عزوجل ، وما زهدت في الدنيا للدنيا ، وانّي لأعلم ما تريد ، فقال المأمون : وما أريد ؟ قال : تريد بذلك أن يقول الناس انّ عليّ بن موسى عليهماالسلام لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة ؟

        فغضب المأمون ثم قال : انّك تتلقاني أبداً بما أكرهه وقد أمنت سطوتي ، فباللّه‏ أقسم لئن قبلت ولاية العهد والاّ جبرتك على ذلك ، فإن فعلت والاّ ضربت عنقك .

        فقال الرضا عليه‏السلام : قد نهاني اللّه‏ تعالى ان القي بيدي إلى التهلكة ، فان كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك ، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أولّي أحداً ، ولا أعزل أحداً ، ولا أنقض رسماً ولا سنّة ، و أكون في الأمر من بعيد مشيراً

(1) .

        فرفع عليه‏السلام يده إلى السماء وقال : « اللهم انّك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة ، وقد أكرهت واضطررت كما اضطّر يوسف ودانيال عليهماالسلام إذ قبل كل واحد منهما الولاية من طاغية زمانه ، اللهم لا عهد الاّ عهدك ، ولا ولاية لي الاّ من قبلك ، فوفقني لإقامة دينك واحياء سنة نبيك ، فانّك أنت المولى والنصير ، ونعم المولى أنت ونعم النصير »(2) .

        ثم قبل ولاية العهد من المأمون وهو باكٍ حزين ، ولما كان في غد وهو اليوم السادس من شهر رمضان المبارك ، كما يظهر ذلك من كتاب تاريخ الشرعيّة للشيخ المفيد ، هيّأ المأمون مجلساً عظيماً ، وأجلس الامام الرضا عليه‏السلام على كرسيّ في جنبه ، وجعل له الوسادة ، وجمع الاكابر والاشراف والسادة والعلماء ، وأمر ابنه العباس ان يبايع أوّل الناس ، فبايع ثم بايع الناس علّياً الرضا عليه‏السلام ، ووضعت البدر ، وقامت الخطباء

 

(1) العوالم 22:281 ، ح 1 ، عن عيون الاخبار 2:139 ، ح 3 .
(2) العوالم 22:284 ، ح 4 .
(494)

 

والشعراء فجعلوا يذكرون فضل الرضا عليه‏السلام ، فأخذوا الجوائز، وذُكر اسمه على رؤوس المنابر ، وضربت السكك بأسمه ، وخطبوا تلك السنة على المنابر في المدينة ودعوا له وقالوا : وليّ عهد المسلمين عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‏السلام .

 

 ستة آباؤهم من هم  أفضل من يشرب صوب الغمام

        وأمر المأمون أن يتركوا لباس السواد ـ شعار العباسيين ـ ويلبسوا اللباس الأخضر ، وزوّج ابنته أمّ حبيب ايّاه ، وعقد ابنته الأخرى أم الفضل لإبنه محمد التقي عليه‏السلام ، وزوّج اسحاق بن موسى ببنت عمّه اسحاق بن جعفر ، وحجّ بالناس في تلك السنة أخو الامام الرضا عليه‏السلام ابراهيم بن موسى بأمر المأمون .

        وروي انّه : لمّا حضر العيد بعث المأمون الى الرضا عليه‏السلام يسأله أن يركب ويحضر للعيد ، ويخطب لتطمئنّ قلوب الناس ويعرفوا فضله ، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة المباركة ، فبعث إليه الرضا عليه‏السلام وقال :

        « قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر » . فقال المأمون : انّما أريد بهذا ان يرسخ في قلوب العامّة والجند والشاكريّة هذا الأمر ، فتطمئنّ قلوبهم ويقرّوا بما فضّلك اللّه‏ تعالى به ، فلم يزل يرادّه الكلام في ذلك ، فلمّا ألحّ عليه قال :

        « يا أمير المؤمنين إن أعفيتني من ذلك فهو أحبّ اليّ ، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وكما خرج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام » .

        فقال المأمون : أخرج كما تحبّ ، وأمر المأمون القوّاد والناس ان يبكّروا إلى باب أبي الحسن عليه‏السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن عليه‏السلام في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء والصبيان ، واجتمع القوّاد على باب الرضا عليه‏السلام .

        فلّما طلعت الشمس قام الرضا عليه‏السلام فاغتسل ، وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن ، والقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه وتشمّر ، ثم قال لجميع مواليه : إفعلوا مثل مافعلت ، ثم أخذ بيده عكّازةً وخرج ونحن بين يديه وهو حاف قد شمّر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمّرة .

        فلما قام ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبّر أربع تكبيرات ، فخيّل الينا أنّ الهواء والحيطان تجاوبه ، والقوّاد والناس على الباب قد تزيّنوا ولبسوا السلاح وتهيّئوا بأحسن هيئة ، فلمّا طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد شمّرنا وطلع الرضا عليه‏السلام وقف وقفة على الباب وقال :

        « اللّه‏ اكبر ، اللّه‏ اكبر على ماهدانا ، اللّه‏ اكبر على مارزقنا من بهيمة الأنعام ، والحمد للّه‏ على ما أبلانا » .

        ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا ، فتزعزعت مرو من البكاء والصياح ، فقالها

(495)

 

ثلاث مرات ، فسقط القوّاد عن دوابّهم ورموا بخفافهم لمّا نظروا الى أبي الحسن عليه‏السلام [ وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة حاجيلته ] وصارت مرو ضجّةً واحدةً ، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجيج ، فكان أبو الحسن عليه‏السلام يمشي ويقف في كلّ عشر خطوات وقفة يكبّر اللّه‏ أربع مرّات ، فيتخيّل الينا أنّ السماء والأرض والحيطان تجاوبه .

        وبلغ المأمون ذلك ، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين : يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا عليه‏السلام المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس ، فالرأي أن تسأله أن يرجع ، فبعث إليه المأمون فسأله الرجوع ، فدعا أبو الحسن عليه‏السلام بخفّه فلبسه ورجع

(1) .

        يقول المؤلف : انّ المأمون وإن كان يُداري الامام عليه‏السلام ويعظّمه ويوقّره ويحترمه ظاهراً ، لكنّه كان ينافق في الباطن ويحمل العداوة والشيطنة في قلبه على الامام عليه‏السلام ، كقوله تعالى : « ... هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ... »(2) كان المأمون عدوّه عليه‏السلام بل يعدّ من ألدّ أعدائه، وهو بحسب الظاهر صديق حميم للامام، وفي الباطن كالأفعى يؤذي الامام عليه‏السلام بلدغاته السامّة ، فكانت ولاية عهد الامام بداية مصائبه وبلاياه من قبل المأمون .

        قال أحد اصحاب الامام الرضا عليه‏السلام وخواصّه : كنت بين يديه في ذلك اليوم [ أي اليوم الذي جلس فيه الامام الرضا عليه‏السلام بعد ولاية العهد ] فنظر اليّ وأنا مستبشر بما جرى ، فأومأ إليّ ان أدن ، فدنوت منه ، فقال لي من حيث لايسمعه غيري : لا تشغل قلبك بهذا الأمر ، ولا تستبشر له ، فإنه شيء لايتم

(3) .

        وفي حديث عليّ بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام ، وقد اجتمع الفقهاء واهل الكلام وذكر اسئلة القوم والمأمون منه عليه‏السلام وجواباته ، وساق الحديث إلى ان قال : فلمّا قام الرضا عليه‏السلام تبعته فانصرف إلى منزله . فدخلت عليه وقلت له : يا ابن رسول اللّه‏ الحمد للّه‏ الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين ما حمله على ما أرى من إكرامه لك وقبوله لقولك .

        فقال عليه‏السلام : يا ابن الجهم لا يغرّنك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع منّي ، فانّه سيقتلني بالسمّ وهو ظالم لي ، أعرف بعهد معهود اليّ من آبائي عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فاكتم هذا ما دمت حيّاً

(4) .

        والخلاصة انّ الامام عليه‏السلام كان متوجّعاً متألّماً من أفعال المأمون وسوء خلقه ، ولكنه لم يكن بإمكانه إظهار ذلك لأحد ، فضاق صدره حتى كان يرجو من اللّه‏ تعجيل

 
(1) عيون الاخبار 2:149 ، ح 21 ، عنه البحار 49:134 ، ح 9 ، والعوالم 22:246 ، ح 2 .
(2) المنافقون : 4 .
(3) العوالم 22:256 ، والبحار 49:145 ، ح 23 .
(4) عيون الاخبار 2:200 ، ح 1 ، عنه البحار 49:284 ، ح 4 ، والعوالم 22:466 ، ح 3 .
(496)

 

وفاته ، كما قال ياسر الخادم : كان الرضا عليه‏السلام إذا رجع يوم الجمعة من الجامع وقد أصابه العرق والغبار رفع يديه وقال : « اللّهم إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجّل لي الساعة » . ولم يزل مغموماً مكروباً إلى أن قبض عليه‏السلام (1) .

        ولو تأمل متأمل في سلوك المأمون ومعاشرته مع الامام عليه‏السلام لأذعن بما قلناه ولصدّقه ، أيتصوّر عاقل انّ المأمون المحب لدنياه الذي أمر بقتل أخيه محمد الأمين أشد قتلة وإرسال رأسه إليه ، فنصبه في صحن داره على خشبة وأمر الجنود والعساكر أن يلعنوه ليأخذوا جوائزهم ، فهل يُعقل أنّ هذا الشخص الطالب للخلافة والرئاسة ، والمنغمر في حبّ الدنيا والجاه يدعو الامام الرضا عليه‏السلام من المدينة إلى مرو ، ويخلع نفسه من الخلافة ويفوّضها الى الامام ، ويصرّ على ذلك شهرين ؟ إنْ هذا الاّ مكرٌ وشيطنة ! كيف والخلافة قرة عين المأمون ، وكما قيل (الملك عقيم) ، وقد عرف محمد الأمين شخصية أخيه جيداً حينما سأل أحمد بن سلام ـ عندما أُلقي القبض عليه ـ أيقتلني المأمون ؟ فقال أحمد : انّه لا يقتلك وانّ الرحم ستعطفه عليك ، فقال الأمين : هيهات الملكُ عقيم لا رحم له(2) .

        فالمأمون لم يرض ولم يحب أن تُنشر أيّ فضيلة لأبي الحسن الرضا عليه‏السلام ، كما يظهر هذا وينجلي تماماً من ملاحظة الروايات في ذهابه عليه‏السلام إلى صلاة العيد ومنع المأمون له من اقامتها وغيرها ، ومضى في ذيل حديث رجاء بن أبي الضحاك انّه لما أخبر المأمون بفضائل ومناقب وعبادة الامام الرضا عليه‏السلام قال المأمون : لاتخبر الناس بهذا ، ثم قال (من أجل مصلحته وشيطنة منه) : فأنّي أريد أن لاتُنشر فضائله ومناقبه الاّ على لساني .

        لكنّه لمّا رأى ظهور علم الامام وفضله وكماله على الناس ، وانّهم يميلون إليه ويحبّونه ، إضطرمت نار الحسد في صدره ، وبدأ بتدبير حيلة للتخلص منه ، فاستقر رأيه على أن يسمّه ، فسمّه وقتله .

        وكما روى الشيخ الصدوق عن أحمد بن عليّ انّه قال : سألت أبا الصلت الهروي ، فقلت : كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه‏السلام مع إكرامه ومحبّته له ، وما جعل له من ولاية العهد بعده ؟

        فقال : إنّ المأمون انّما كان يكرمه ويحبّه لمعرفته بفضله ، وجعل له ولاية العهد من بعده ليري الناس انّه راغب في الدنيا ، فيسقط محلّه من نفوسهم ، فلمّا لم يظهر منه في ذلك للناس الاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم ، جلب عليه المتكلّمين من البلدان طمعاً في أن يقطعه واحد منهم فيسقط محلّه عند العلماء ، وبسببهم يشتهر

 

(1) عيون الاخبار 2:15 ، ح 34 ، عنه البحار 49:140 ، ح 13 ، والعوالم 22:340 ، ح 1 ، والوسائل 2:659 .
(2) مروج الذهب 3:413 .
(497)

 

نقصه عند العامة .

        فكان لا يكلّمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين له الاّ قطعه وألزمه الحجّة .

        وكان الناس يقولون : واللّه‏ انّه أولى بالخلافة من المأمون ، فكان أصحاب الاخبار يرفعون ذلك إليه ، فيغتاظ من ذلك ويشتدّ حسده له .

        وكان الرضا عليه‏السلام لايحابي المأمون من حقّ ، وكان يجيبه بم يكره في أكثر أحواله ، فيغيظه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له ، فلمّا أعيته الحيلة في أمره اغتاله ، فقتله بالسمّ

(1) .

        يقول المؤلف : تجدر الاشارة هنا الى مجلس من مجالس مناظرة الامام عليه‏السلام تبركاً .

ذكر مجلس مناظرة الإمام عليه‏السلام مع علماء الأديان :

        روى الشيخ الصدوق عن الحسن بن محمد النوفلي الهاشمي انّه قال : لمّا قدم عليّ بن موسى الرضا عليهماالسلام على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ، ورأس الجالوت ، ورؤساء الصابئين ، والهربذ الأكبر ، وأصحاب زردهشت ، ونسطاس الروميّ ، والمتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم .

        فجمعهم الفضل بن سهل ثم أعلم المأمون باجتماعهم ، فقال : أدخلهم عليّ ، ففعل فرحّب بهم المأمون ثم قال لهم : إني إنّما جمعتكم لخير وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليّ ولايتخلف منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أميرالمؤمنين نحن مبكّرون إن شاء اللّه‏ تعالى .

        قال الحسن بن محمد النوفليّ : فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه‏السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولّى أمر أبي الحسن عليه‏السلام ، فقال : يا سيديّ إنّ أمير المؤمنين يُقرِئكَ السلام ويقول :

        « فداك أخوك إنّه اجتمع إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلّمون من جميع الملل ، فرأيك في البكور إلينا إن أحببت كلامهم ، وإن كرهت ذلك فلا تتجشّم ، وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا » .

        فقال أبو الحسن عليه‏السلام : أبلغه السلام وقل له : قد علمت ما أردت وأنا صائر اليك بكرة إن شاء اللّه‏ تعالى .

        قال الحسن بن محمد النوفلي : فلمّا مضى ياسر التفت الينا ثم قال لي : يانوفليّ أنت عراقي ورقّة العراقيّ غير غليظة ، فما عندك في جمع ابن عمّك علينا أهل الشرك

 

(1) عيون الاخبار 2:239 ، ح 3 ، عنه البحار 49:290 ، ح 2 ، والعوالم 22:485 ، ح 2 .
(498)

 

وأصحاب المقالات ؟ فقلت : جعلت فداك يريد الإمتحان ويحبّ ان يعرف ماعندك ، ولقد بنى على أساسٍ غير وثيق البنيان وبئس واللّه‏ ما بنى .

        فقال لي : وما بناؤه في هذا الباب ؟ قلت : إنّ أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء ، وذلك انّ العالم لايُنكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلّمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتةٍ ، وإن احتججت عليهم أنّ اللّه‏ تعالى واحد ، قالوا : صحّح وحدانيّته ، وإن قلت : إنّ محمداً رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قالوا : أثبت رسالته ، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجّته ويغالطونه حتى يترك قوله ، فاحذرهم جعلت فداك .

        قال : فتبسّم عليه‏السلام ثم قال : يانوفليّ أتخاف أن يقطعوا عليّ حجّتي ؟ قلت : لا واللّه‏ ماخفت عليك قطّ ، وانّي لأرجو أن يظفرك اللّه‏ بهم إن شاء اللّه‏ تعالى ، فقال لي : يانوفلي أتحبّ أن تعلم متى يندم المأمون ؟ قلت : نعم .

        قال : إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الانجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميّتهم ، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم ، فإذا قطعت كلّ صنفٍ و دحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي ، علم المأمون انّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له ، فعند ذلك تكون الندامة منه ، ولا حول ولا قوّة الاّ باللّه‏ العليّ العظيم .

        فلّما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له : جعلت فداك إنّ ابن عمك ينتظرك وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه ؟ فقال له الرضا عليه‏السلام : تقدّمني فانّي صائر إلى ناحيتكم إن شاء اللّه‏ .

        ثمّ توضّأ عليه‏السلام وضوء الصلاة ، وشرب شربة سويق وسقانا منه ، ثم خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون ، فإذا المجلس غاصّ بأهله ، ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقوّاد حضور ، فلمّا دخل الرضا عليه‏السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وقام جميع بني هاشم ، فما زالوا وقوفاً والرضا عليه‏السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا ، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدّثه ساعة .

        ثم التفت الى جاثليق ، فقال : يا جاثليق هذا ابن عمّي عليّ بن موسى بن جعفر وهو من ولد فاطمة بنت نبيّنا وابن عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام ، فأحبّ أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه ، فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين كيف أحاجّ رجلاً يحتجّ عليّ بكتاب أنا منكره ونبيّ لا اُؤمن به ؟

        فقال له الرضا عليه‏السلام : يانصرانيّ فإن احتججت عليك بانجيلك أتقرّ به ؟ قال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الانجيل ؟ نعم واللّه‏ أقرّ به على رغم أنفي .

        فقال له الرضا عليه‏السلام : سل عمّا بدا لك وأفهم الجواب ، قال الجاثليق : ماتقول في نبوة عيسى عليه‏السلام وكتابه هل تنكر منهما شيئاً ، قال الرضا عليه‏السلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه

(499)

 

وما بشّر به امّته وأقرّ به الحواريّون ، وكافر بنوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوة محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وبكتابه ولم يُبشّر به أمّته .

        قال الجاثليق : أليس إنّما تقطع الاحكام بشاهدي عدل ؟ قال : بلى ، قال : فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمدٍ ممن لاتنكره النصرانية ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا ، قال الرضا عليه‏السلام : الآن جئت بالنصفة يانصراني ، الا تقبل منّي العدل المقدّم عند المسيح عيسى بن مريم .

        قال الجاثليق : ومن هذا العدل ؟ سمّه لي ، قال : ماتقول في يوحنّا الديلمي ؟ قال : بخّ بخّ ذكرت أحبّ النّاس الى المسيح ، قال : فأقسمت عليك هل نطق الانجيل انّ يوحنّا قال : إنّ المسيح أخبرني بدين محمدٍ العربي وبشّرني به انّه يكون من بعده ، فبشّرت به الحواريين فآمنوا به ؟

        قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح وبشّر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيّه ، ولم يُلَخّص متى يكون ذلك ، ولم يُسمّ لنا القوم فنعرفهم ، قال الرضا عليه‏السلام : فإن جئناك بمن يقرء الانجيل فتلا عليك ذكر محمدٍ وأهل بيته وامته أتؤمن به ؟ قال : سديداً ، قال الرضا عليه‏السلام لقسطاس الروميّ : كيف حفظك للسفر الثالث من الانجيل ؟ قال : ما أحفظني له .

        ثم التفت الى رأس الجالوت فقال له : ألست تقرأ الانجيل ؟ قال : بلى لعمري ، قال : فخذ على السفر الثالث فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وامّته سلام اللّه‏ عليهم فاشهدوا لي ، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي .

        ثم قرأ عليه‏السلام السفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وقف ، ثم قال : يانصراني انّي أسألك بحق المسيح وامّه أتعلم أني عالم بالانجيل ؟ قال : نعم ، ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمّته ، ثم قال : ماتقول يانصراني ، هذا قول عيسى بن مريم ، فإن كذّبت ماينطق به الانجيل فقد كذّبت عيسى وموسى عليهماالسلام ، ومتى انكرت هذا الذكر وجب عليك القتل لانّك تكون قد كفرت بربّك ونبيّك وبكتابك .

        قال الجاثليق : لا أنكر ما قد بان لي في الانجيل وانّي لمقرّ به ، قال الرضا عليه‏السلام : اشهدوا على إقراره ، ثم قال : ياجاثليق سلّ عمّا بدا لك ، قال الجاثليق : أخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدّتهم ؟ وعن علماء الانجيل كم كانوا ؟

        قال الرضا عليه‏السلام : على الخبير سقطت ، امّا الحواريون فكانوا اثني عشر رجلاً ، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا ، وامّا علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجالٍ : يوحنّا الأكبر بِأَج ، ويوحنّا بقرقيسيا ، ويوحنّا الديلمي بزجان ، وعنده كان ذكر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وذكر أهل بيته وامّته ، وهو الذي بشّر امّة عيسى وبني اسرائيل به .

        ثم قال عليه‏السلام : يانصراني واللّه‏ إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله و ماننقم على عيساكم شيئاً الاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته ، قال الجاثليق : أفسدت واللّه‏ علمك

(500)

 

وضعّفت امرك ، وماكنتُ ظننتُ الاّ انّك أعلم أهل الاسلام .

        قال الرضا عليه‏السلام : وكيف ذلك ، قال الجاثليق : من قولك : إنّ عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام ، قليل الصلاة ، وما أفطر عيسى يوماً قطّ ، ولا نام بليل قط ، وما زال صائم الدهر ، قائم الليل ، قال الرضا عليه‏السلام : فلمن كان يصوم ويصلي ؟ قال : فخرس الجاثليق وانقطع .

        قال الرضا عليه‏السلام : يانصراني انيّ أسألك عن مسألة ، قال : سلّ فإن كان عندي علمها أجبتك ، قال الرضا عليه‏السلام : ما أنكرت أنّ عيسى كان يحيى الموتى بإذن اللّه‏ عزوجل . قال الجاثليق : أنكرت ذلك من قِبَلِ أنّ مَنْ أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو ربّ مستحق لأن يُعبد .

        قال الرضا عليه‏السلام : فانّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى ، مشى على الماء ، وأحيا الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، فلم يتّخذه امّته ربّاً ، ولم يعبده أحد من دون اللّه‏ عزوجل ، ولقد صنع حزقيل النبي عليه‏السلام مثل ماصنع عيسى بن مريم عليه‏السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة .

        ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له : يارأس الجالوت أتجد هؤلاء في شباب بني اسرائيل في التوراة ؟ اختارهم بخت نصّر من سبي بني اسرائيل حين غزا بيت المقدس ، ثم انصرف بهم الى بابل فأرسله اللّه‏ عزوجل اليهم فأحياهم

(1) ، هذا في التوراة لايدفعه الاّ كافرٌ منكم .

        قال رأس الجالوت : قد سمعنا به وعرفناه ، قال : صدقت ، ثم قال عليه‏السلام : يا يهودي خُذ على هذا السّفر من التوراة ، فتلا عليه‏السلام علينا من التوراة آيات ، فأقبل اليهودي يترجّح لقراءته ويتعجّب ، ثم أقبل على النصراني ، فقال : يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم ؟ قال : بل كانوا قبله .

        قال الرضا عليه‏السلام : لقد اجتمعت قريش إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فسألوه أن يُحيي لهم موتاهم ، فوجّه معهم عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام فقال له : اذهب إلى الجبّانة فناد بأسماء هؤلاء الرّهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك يا فلان ويا فلان ويا فلان ، يقول لكم محمد رسول اللّه‏ ( صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ) : قوموا باذن اللّه‏ عزوجل ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، قأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ، ثم أخبروهم انّ محمدا قد بعث نبيّا وقالوا : وددنا انّا ادركناه فنؤمن به .

 

(1) حاصل القصّة انّ بخت نصر غزا بيت المقدس ، فقتل بني اسرائيل بعضهم وأسر بعض ثم اختار من الأسرى خمسة وثلاثين ألف رجل كلّهم من الشبان وأمر هؤلاء مذكور في قصص شباب بني اسرائيل ، ثم نقلهم إلى بابل عاصمة مملكته ، ثم ماتوا أو قتلوا في زمنه أو بعده ، ثم أرسل اللّه‏ عزوجل حزقيل إلى بابل فأحياهم باذنه تعالى .
(501)

 

        ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين ، وكلّمه البهائم والطير والجنّ والشياطين ولم نتخذه ربّا من دون اللّه‏ عزوجل ، ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم ، فمتى اتخذتم عيسى ربّا جاز لكم ان تتخذوا اليسع وحزقيل ربّا لأنّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره ، انّ قوما من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم الوف حذر الموت فأماتهم اللّه‏ في ساعة واحدة ، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة ، فلم يزالوا فيها حتى نَخِرَتْ عظامهم وصاروا رميما .

        فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني اسرائيل فتعجّب منهم ومن كثرة العظام البالية ، فأوحى اللّه‏ إليه : أتحبّ أن أحييهم لك فتنذرهم ؟ قال : نعم يا ربّ ، فأوحى اللّه‏ عزوجل إليه أن نادهم ، فقال : ايّتها العظام البالية قومي باذن اللّه‏ عزوجل ، فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم .

        ثم ابراهيم عليه‏السلام خليل الرحمن حين أخذ الطيور وقطعهنّ قطعا ، ثم وضع على كلّ جبل منهنّ جزءا ، ثم ناداهنّ فاقبلن سعيا إليه ، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له : انّك قد رأيت اللّه‏ سبحانه فأرناه كما رأيته ، فقال لهم : انّي لم أره ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى اللّه‏ جهرة ، فأخذتهم الصاعقة ، فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيدا .

        فقال : يا رب اخترتُ سبعين رجلاً من بني اسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي ، فكيف يُصدّقني قومي بما أُخبرهم به ، فلو شئت أهلكتهم من قبل وايّاي ، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منّا ، فأحياهم اللّه‏ عزوجل من بعد موتهم ، وكلّ شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه لأنّ التوراة والانجيل والزبور والفرقان قد نطقت به ، فان كان كلّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يُتّخذ ربّا من دون اللّه‏ فاتخذ هؤلاء كلّهم أربابا ، ما تقول يا نصرانيّ ؟ قال الجاثليق : القول قولك ولا إله الاّ اللّه‏ .

        ثم التفت عليه‏السلام إلى رأس الجالوت ، فقال : يا يهودي أقبل عليّ أسألك بالعَشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران عليه‏السلام ، هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد وامّته ، إذا جاءت الأمّة الأخيرة أتباع راكب البعير ، يسبّحون الربّ جدّا جدّا ، تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد ، فليفرغ بنو اسرائيل اليهم وإلى ملكهم لتطمئنّ قلوبهم ، فانّ بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض ، هكذا هو في التوراة مكتوب ؟

        قال رأس الجالوت : نعم انّا لنجده كذلك ، ثم قال للجاثليق : يا نصرانيّ كيف علمك بكتاب شعيا ؟ قال : أعرفه حرفا حرفا ، قال الرضا عليه‏السلام لهما : أتعرفان هذا من كلامه : « يا قوم انّي رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوؤُهُ مثل ضوء القمر ؟ » .

        فقالا : قد قال ذلك شعيا ، قال الرضا عليه‏السلام : يا نصراني هل تعرف في الانجيل قول

(502)

 

عيسى : « انّي ذاهب إلى ربّي وربّكم والفارقليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له ، وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء ، وهو الذي يُبدي فضائح الامم ، وهو الذي يُكسّر عمود الكفر ؟ » .

        فقال الجاثليق : ما ذكرت شيئا ممّا في الانجيل الاّ ونحن مقرّون به ، فقال : أتجد هذا في الانجيل ثابتا يا جاثليق ؟ قال : نعم ، قال الرضا عليه‏السلام : يا جاثليق ألا تُخبرني عن الإنجيل الأوّل حين افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الانجيل ؟ قال له : ما افتقدنا الانجيل الاّ يوما واحدا حتى وجدنا غضّا طريّا فأخرجه الينا يوحنّا ومتّى .

        فقال له الرضا عليه‏السلام : ما أقلّ معرفتك بسرّ الانجيل وعلمائه ، فان كان كما تزعم فلم اختلفتم في الانجيل ، انّما وقع الاختلاف في هذا الانجيل الذي في أيديكم اليوم ، فلو كان على العهد الأوّل لم تختلفوا فيه ولكنّي مفيدك علم ذلك .

        اعلم أنّه لمّا افتقد الانجيل الاوّل اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم : قُتل عيسى بن مريم عليه‏السلام وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم ؟ فقال لهم ألوقا ومرقابوس : ان الانجيل في صدورنا ، ونحن نُخرجه اليكم سِفراً سِفراً في كلِّ أحدٍ ، فلا تحزنوا عليه ولا تخلّوا الكنائس ، فإنّا سنتلوه عليكم في كلِّ أحدٍ سِفراً سِفراً حتّى نجمعه لكم كلّهُ ، فقعد ألوقا ومرقابوس ويوحنّا ومتّى ووضعوا لهم هذا الانجيل بعدما افتقدتم الانجيل الاوّل ، وإنّما كان هؤلاء الأربعة تلاميذَ التّلاميذ الأوّلين ، أعلمت ذلك ؟ قالَ الجاثليق : أمّا هذا فَلم أعلمهُ وقد علمتهُ الآنَ ، وقد بان لي من فضلِ علمك بالإنجيل ، وسمعتُ أشياءَ ممّا علمتهُ شهد قلبي أنّها حق فاستزدت كثيراً من الفهم .

        فقال له الرضا عليه‏السلام : فكيف شهادة هؤلاء عندك ؟ قال : جائزةٌ ، هؤلاء علماءُ الإنجيل وكلُّ ما شهدوا به فهو حق ، فقالَ الرضا عليه‏السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيرهم : اشهدوا عليه ، قالوا : قد شهدنا ، ثم قال للجاثليق : بحقِّ الابن وأُمّهِ هل تعلم أنّ متّى قال : « إنّ المسيح هو ابن داوُد بن ابراهيم بن اسحاق بن يعقوب بن حضرون » .

        وقال مرقابوس في نسبة عيسى بن مريم : « انّه كلمة اللّه‏ أحلّها في جسد الآدميِّ فصارت إنساناً » ، وقالَ ألوقا : «ان عيسى بن مريم واُمَّهُ كانا إنسانين من لحمٍ ودَمٍ فدخل فيهما روح القدس » ؟ ثم إنّك تقول من شهادة عيسى على نفسه : حقاً أقول لكم يامعشر الحوارييِّن : إنّه لايصعد إلى السماء الا ما نزل منها الاّ راكب البعير خاتم الانبياء ، فإنّه يصعد إلى السماء وينزل ، فما تقول في هذا القول ؟

        قال الجاثليق : هذا قول عيسى لاننكره ، قال الرِّضا عليهماالسلام : فما تقول في شهادة ألوقا ومرقابوس و متّى على عيسى وما نسبوه إليه ؟ قال الجاثليق : كذبوا على عيسى ، قال الرضا عليه‏السلام : ياقوم أليسَ قد زكّاهم وشهد أنّهم علماء الانجيل وقولهم حق ؟! فقال الجاثليق : ياعالم المسلمين أحبُّ أن تعفيني من أمرِ هؤلاء ، قال الرضا عليه‏السلام : فإنا قد

(503)

 

فعلنا ، سل يانصرانيّ عمّا بدا لك ، قال الجاثليق : ليسألك غيري ، فلا وحقّ المسيح ماظننتُ أنَّ في عُلماء المسلمين مثلك .

        فالتفت الرِّضا عليه‏السلام الى رأس الجالوت فقال له : تسألني أو أسألك ؟ قال : بل أسألك ، ولستُ أقبلُ منكَ حُجَّةً الاّ من التوراة أو من الانجيل أو من زبور داوُد أو مما في صحف ابراهيم وموسى ، فقال الرضا عليه‏السلام : لاتقبل منّي حُجّة الاّ بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران ، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم ، والزبور على لسان داوُد، فقال رأسُ الجالوت : من أين تُثبتُ نبوّة محمد ؟ قال الرِّضا عليه‏السلام : شَهِدَ بنبوّته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله موسى بن عمران ، وعيسى بن مريم ، و داوُد خليفة اللّه‏ عزّ وجلّ في الأرض ، فقال له : أثبِت قول موسى بن عمران .

        قال الرضا عليه‏السلام : هل تعلم يا يهودي ان موسى أوصى بني إسرائيل ، فقال لهم : إنّه سيأتيكم نبيِّ هو من إخوتكم فبِه فصدِّقوا ، ومنه فاسمعوا ، فهل تعلم انّ لبني اسرائيل إخوةً غير ولدِ اسماعيل ان كنت تعرفُ قرابة إسرائيل من اسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل ابراهيم عليه‏السلام ؟ فقال رأس الجالوت : هذا قول موسى لاندفعه ، فقال له الرِّضا عليه‏السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبيٌّ غير محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ؟ ! قال : لا ، قال الرضا عليه‏السلام : أوليس قد صحّ هذا عندكم ؟ قال: نعم ، ولكنّي أحب ان تصححهُ لي من التوراة ، فقال له الرضا عليه‏السلام : هل تنكر ان التوراة تقول لكم : جاءَ النّورُ من جبلِ طور سيناء ، وأضاء لنا من جبل ساعير ، واسْتَعْلَنَ علينا من جبل فاران ؟

        قال رأس الجالوت : أعرفُ هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها ، قال الرضا عليه‏السلام : أنا أخبرك به ، امّا قوله : جاء النور من جبل طور سيناء ، فذلك وحي اللّه‏ تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى عليه‏السلام على جبل طور سيناء ، وأمّا قوله : وأضاء لنا من جبل ساعير ، فهو الجبل الذي أوحى اللّه‏ عزوجل إلى عيسى بن مريم عليه‏السلام وهو عليه ، وأمّا قوله : واستعلن علينا من جبل فاران ، فذلك جبل من جبال مكّة بينه وبينها يوم ، وقال شعيا النبي عليه‏السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة : رأيت راكبين اضاء لهما الأرض ، أحدهما راكِب على حمار والآخر على جمل ، فمن راكِب الحمار ومن راكب الجمل ؟!

        قال رأس الجالوت : لا أعرفهما فخبِّرني بهما ، قال عليه‏السلام : أمّا راكب الحِمار فعيسى بن مريم ، وأمّا راكب الجمل فمحمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، أتنكر هذا من التوراة ؟! قال : لا ما أُنكره ، ثم قال الرضا عليه‏السلام : هل تعرف حيقوق النبي ؟ قال : نعم ، إنّي به لعارفٌ ، قال عليه‏السلام : فإنّه قال وكتابكم ينطقُ به : جاء اللّه‏ بالبيان من جبل فاران ، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأُمّته ، يحمل خيلهُ في البحر كما يحمل في البرِّ ، يأتينا بكتابٍ جديد بعد خراب بيت المقدس ـ يعني بالكتاب القرآن ـ أتعرف هذا وتؤمن به ؟ قال رأس الجالوت : قد قال ذلك حيقوق عليه‏السلام ولا ننكر قوله .

        قال الرضا عليه‏السلام : وقد قال داوُد في زبوره وأنت تقرءُ : اللهمّ ابعث مقيم السّنة بعد

(504)

 

الفترة ، فهل تعرف نبياً أقام السنّة بعد الفترة غير محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ؟!

        قال رأس الجالوت : هذا قول داوُد نعرفه ولا ننكره ، ولكن عَنى بذلك عيسى ، وأيّامه هي الفترة ، قال الرضا عليه‏السلام : جهلتَ ، إنّ عيسى لم يخالف السُنّة وقد كان موافقاً لسنّة التوراة حتى رفعه اللّه‏ إليه ، وفي الانجيل مكتوب : ان ابن البرَّةِ ذاهبٌ ، والفار قليطا جاءٍ من بعده ، وهو الذي يخفِّف الآصارَ ، ويفسِّرُ لكم كلَّ شيءٍ ، ويشهد لي كما شهدت له ، أنا جئتكم بالامثال ، وهو يأتيكم بالتأويل ، أتؤمن بهذا في الإنجيل ؟ ! قال : نعم ، لا أُنكِرهُ .

        فقال له الرضا عليه‏السلام : يارأس الجالوت أسألك عن نبيِّك موسى بن عمران ، فقال : سَل ، قال : ما الحجّة على ان موسى ثبتت نبوّته ؟ قال اليهودي : انّه جاء بما لم يجئ به أحدٌ من الأنبياء قبله ، قال له : مثل ماذا ؟ قال : مثل فلق البحر ، وقلبِه العصا حيّةً تسعى ، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون ، وإخراجه يده بيضاء للنّاظرين ، وعلاماتٍ لايقدر الخلق على مثلها .

        قال له الرضا عليه‏السلام : صدقت ، إذا كانت حجته على نبوّته أنّه جاء بما لايقدر الخلق على مثله ، أفليس كل من ادَّعى أنّه نبيٌ ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه ؟ قال : لا لأنّ موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربِّه وقربه منه ، ولا يجب علينا الإقرار بنبوّة من ادَّعاها حتى يأتي من الاعلام بمثل ماجاء به .

        قال الرضا عليه‏السلام : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه‏السلام ولم يفلقوا البحر ، ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عيناً ، ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل اخراج موسى يده بيضاء ، ولم يقلبوا العصا حيّةً تسعى ؟! قال له اليهودي : قد خبّرتُك أنَّهُ متى جاؤُوا على دعوى نبوَّتِهِم من الآيات بما لايقدر الخلق على مثله ، ولو جاؤوا بما لم يجئ به موسى أو كان على غير ما جاء به موسى ، وجب تصديقهم .

        قال الرِّضا عليه‏السلام : يارأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم وقد كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلقُ من الطين كهيئة الطير ثمّ ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه‏ ؟ قال رأس الجالوت : يقال إنّه فعل ذلك ولم نشهده ، قال له الرضا عليه‏السلام : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته ؟! أليس إنّما جاء في الاخبار به من ثقات أصحاب موسى أنّه فعل ذلك ؟! قال : بلى ، قال : فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم ، فكيف صدَّقتم بموسى ولم تصدِّقوا بعيسى ؟! فلم يُحِر جواباً .

        قال الرضا عليه‏السلام : وكذلك أمرُ محمدٍ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وماجاء به وأمر كلِّ نبي بعثه اللّه‏ ، ومن آياته أنّه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً لم يتعلم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم ، ثم جاء بالقرآن الّذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفاً حرفاً ، وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم ، وجاء بآياتٍ كثيرةٍ لا

(505)

 

تحصى .

        قال رأس الجالوت : لم يصحّ عندنا خبر عيسى ولا خبر محمّد ، ولايجوز لنا أن نقرَّ لهما بما لم يصحّ ، قال الرضا عليه‏السلام : فالشّاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله شاهد زور ؟! فلم يحِر جواباً .

        ثم دعا عليه‏السلام بالهربذ الأكبر ، فقال له الرضا عليه‏السلام : أخبرني عن زردهِشت الذي تزعم أنّه نبي ، ما حجّتك على نبوّته ؟ قال : إنّه أتى بما لم يأتنا به أحدٌ قبله ولم نشهده ، ولكنّ الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنّه أحلّ لنا ما لم يحلّه غيره فاتّبعناه ، قال عليه‏السلام : أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتبعتموه ؟! قال : بلى ، قال : فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيّون وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات اللّه‏ عليهم ، فما عذركم في ترك الاقرار لهم إذ كنتم انّما أقررتم بزردهِشت من قِبَلِ الأخبار المتواترة بأنّه جاء بما لم يجئ به غيره ؟! فانقطع الهربذ مكانه .

        فقال الرضا عليه‏السلام : ياقوم إن كان فيكم أحدٌ يخالف الاسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم ، فقام إليه عمران الصابى‏ء ، وكان واحداً في المتكلمين ، فقال : يا عالم الناس لولا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل ، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلّمين فلم أقع على أحدٍ يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانيّته ، أفتأذن لي أن أسألك ؟

        قال الرضا عليه‏السلام : ان كان في الجماعة عمران الصابى‏ء فأنت هو ، فقال : أنا هو ، فقال عليه‏السلام : سل ياعمران وعليك بالنصفة ، وإياك والخطل والجور ، قال : واللّه‏ يا سيدي ما أريد الاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به فلا أجوزه ، قال عليه‏السلام : سل عمّا بدا لك ، فازدحم عليه الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض ، فقال عمران الصابى‏ء : أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق .

        قال عليه‏السلام : سألت فافهم، أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً لاشيء معه بلاحدود ولاأعراض ولا يزال كذلك ، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراضٍ وحدودٍ مختلفةٍ لا في شيء أقامه ، ولا في شيء حدَّه ، ولا على شيءٍ حذاه ، ولا مثّله له ، فجعل من بعد ذلك الخلق صفوةً وغير صفوةٍ واختلافاً وائتلافاً وألواناً وذوقاً وطعماً لا لحاجةٍ كانت منه الى ذلك ولا لفضل منزلةٍ لم يبلغها الاّ به ، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً ، تعقل هذا يا عمران ؟ قال : نعم واللّه‏ يا سيدي .

        قال عليه‏السلام : واعلم يا عمران إنّه لو كان خلق ما خلق لحاجةٍ لم يخلق الاّ من يستعين به على حاجته ، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لايسعها لأنّه لم يحدث من الخلق شيئاً الاّ حدثت فيه حاجة اخرى ، ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجة ، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعضٍ ، وفضّل بعضهم على بعضٍ بلا حاجةٍ منه إلى من فضّل ولا نقمةٍ منه

(506)

 

على من أذّلَّ ، فلهذا خلق .

        قال عمران : ياسيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه ؟ قال الرضا عليه‏السلام : إنما تكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه وليكون الشيء نفسه بما نُفي عنه موجوداً ، ولم يكن هناك شيء يخالفه ، فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد علم منها أفهمت يا عمران ؟ قال : نعم واللّه‏ يا سيدي ، فأخبرني بأيِّ شيءٍ علم ماعلم أبضمير أم بغير ذلك ؟

        قال الرضا عليه‏السلام : أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بُدّأً من أن تجعل لذلك الضمير حدّاً ينتهي إليه المعرفة؟ ! قال عمران : لابُدَّ من ذلك ، قال الرضا عليه‏السلام : فما ذلك الضمير ؟ فانقطع ولم يحر جواباً، قال الرضا عليه‏السلام : لابأس ، ان سألتك عن الضمير نفسه تعرفه بضميرٍ آخر ؟! فقال الرضا عليه‏السلام : أفسدت عليك قولك ودعواك ياعمران ، أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير ، وليس يقال له أكثر من فعلٍ وعملٍ وصنعٍ ، وليس يتوهّم منه مذاهبُ وتجزئةٌ كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صواباً .

        قال عمران : ياسيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي وما معانيها وعلى كم نوع يتكوّن ، قال عليه‏السلام : قد سألت فافهم ، انّ حدود خلقه على ستة أنواع ، ملموسٍ وموزونٍ ومنظورٍ إليه وما لاوزن له وهو الروح ، ومنها منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حس ولا لون ولا ذوق . والتقدير ، والاعراض ، والصور ، والعرض ، والطول . ومنها العمل والحركات التي تصنع الاشياء وتُعْلِمها وتغيِّرها من حالٍ إلى حالٍ وتزيدها وتنقصها ، وأما الأعمال والحركات فانّها تنطلق لأنّها لا وقت لها أكثر من قدر مايحتاج إليه ، فاذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة وبقي الاثرُ ، ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره .

        قال له عمران : يا سيدي الا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لاشيء غيره ولا شيء معه أليس قد تغيّر بخلقه الخلق ؟ قال الرضا عليه‏السلام : لم يتغيّر عزّوجل بخلق الخلق ، ولكنّ الخلق يتغير بتغييره .

        قال عمران: فبأيّ شيءٍ عرفناه؟ قال عليه‏السلام : بغيره ، قال: فأي شيءٍ غيره ؟ قال الرضا عليه‏السلام : مشيته واسمه وصفته وما أشبه ذلك ، وكل ذلك محدثٌ مخلوقٌ مدبَّرٌ .

        قال عمران : يا سيدي فأيُّ شيءٍ هو ؟ قال عليه‏السلام : هو نورٌ ، بمعنى أنّهُ هادٍ لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض ، وليس لك عليّ أكثر من توحيدي إياه .

        قال عمران : ياسيدي أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لاينطق ثم نطق ؟ قال الرضا عليه‏السلام : لايكون السكوت إلا عن نطقٍ قبله والمثل في ذلك أنّه لايقال للسِّراج : هو ساكت لاينطق ، ولايقال : إنَّ السراج ليضيى‏ء فيما يريد أن يفعل بنا لأنّ الضوء من السِّراج ليس بفعل منه ولا كونٍ ، وانما هو ليس شيء غيره ، فلمّا استضاء لنا قلنا : قد

(507)

 

أضاء لنا حتّى استضأنا به ، فبهذا تستبصر أمركَ .

        قال عمران : ياسيدي فإنّ الذي كان عندي أنّ الكائن قد تغير في فعله عن حاله بخلقه الخلق ، قال الرضا عليه‏السلام : أحلتَ يا عمران في قولك : انّ الكائن يتغير في وجهٍ من الوجوه حتى يصيب الذات منه مايغيّره ، ياعمران هل تجد النار يغيِّرها تغيّر نفسها ، أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها ، أو هل رأيت بصيراً قطّ رأى بصره ؟ قال عمران : لم أرَ هذا .

        ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق أم الخلق فيه ؟ قال الرضا عليه‏السلام : جلّ ياعمران عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه ، تعالى عن ذلك ، وسأُعلّمك ماتعرفه به ، ولا حول ولا قوّة الاّ باللّه‏ ، أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك ؟! فان كان ليس واحدٌ منكما في صاحبه فبأيِّ شيء استدللت بها على نفسك ؟! قال عمران : بضوء بيني وبينها ، فقال الرضا عليه‏السلام : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر مما تراه في عينك ؟ قال : نعم ، قال الرضا عليه‏السلام : فأرناه ، فلم يحر جواباً .

        قال الرضا عليه‏السلام : فلا أرى النّور الاّ وقد دلّك ودلّ المرآة على أنفسكما من غير ان يكون في واحدٍ منكما ، ولهذا أمثالٌ كثيرة غير هذا لايجد الجاهل فيها مقالاً ، وللّه‏ المثل الأعلى .

        ثم التفت عليه‏السلام إلى المأمون ، فقال : الصلاة قد حضرت ، فقال عمران : يا سيدي لاتقطع عليَّ مسألتي فقد رقّ قلبي، قال الرضا عليه‏السلام : نصلي و نعود ، فنهض ونهض المأمون : فصلّى الرضا عليه‏السلام داخلاً ، وصلّى الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر ، ثم خرجا ، فعاد الرضا عليه‏السلام إلى مجلسه ودعا بعمران ، فقال : سل ياعمران ، قال : سيدي الا تخبرني عن اللّه‏ عزّوجلَّ هل يوحّد بحقيقةٍ أو يوحّدُ بوصفٍ ؟

        قال الرضا عليه‏السلام : ان اللّه‏ المبدئ الواحد الكائن الاوّل لم يزل واحداً لاشيء معه ، فرداً لاثاني معه ، لا معلوماً ولا مجهولاً ولا محكماً ولا متشابهاً ولا مذكوراً ولا منسياً ، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيءٍ من الأشياء غيره ، ولا من وقت كان وإلى وقت يكون ، ولا بشيء قام ولا الى شيء يقوم ، ولا إلى شيء استند ، ولا في شيء استكنَّ . وذلك كلُّه قبل الخلق إذ لاشيء غيره ، وما أَوْقَعَتْ عليه من الكلِّ فهي صفاتٌ محدثةٌ وترجمةٌ يفهم بها من فَهِم .

        واعلم أنّ الابداع والمشيّة والارادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة ، وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيته الحروف التي جعلها اصلاً لكلِّ شيءٍ ودليلاً على كلِّ مُدْرَكٍ وفاصلاً لكلّ مشكل ، وتلك الحروف تفريق كل شيءٍ من اسم حقٍّ وباطلٍ أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى ، وعليها اجتمعت الامور كلّها ، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنىً غير أنفسها يتناهى ولا وجود لأنّها مبدعةٌ بالإبداع ، والنور في هذا الموضع أوّل فعل اللّه‏ الذي هو نور السماوات والارض ، والحروف هي المفعول بذلك