(508)

 

الفعل ، وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلّها من اللّه‏ عزوجل ، علّمها خلقه ، وهي ثلاثةٌ وثلاثون حرفاً .

        فمنها ثمانيةٌ وعشرون حرفاً تدلّ على اللغات العربية ، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفاً تدلّ على اللغات السريانية والعبرانية . ومنها خمسة أحرفٍ متحرِّفةٌ في سائر اللغات ، من العجم لأقاليم اللّغات كلّها ، وهي خمسة أحرفٍ تحرّفت من الثمانية والعشرين الحرف من اللغات فصارت الحروف ثلاثةً وثلاثين حرفاً .

        فأما الخمسة المختلفة فبحججٍ لايجوز ذكرها أكثر مما ذكرناه ، ثم جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدّتها فعلاً منه كقوله عزوجل : « كُنْ فَيَكُون » وكن منه صنع ، وما يكون به المصنوع ، فالخلق الأول من اللّه‏ عزوجل الابداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حسّ ، والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون ، وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها ، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلّها محسوساً ملموساً ذا ذوقٍ منظوراً إليه ، واللّه‏ تبارك وتعالى سابق للابداع لأنّه ليس قبله عزوجلّ شيء ولا كان معه شيء ، والابداع سابقٌ للحروف ، والحروف لا تدلّ على غير أنفسها . قال المأمون : وكيف لاتدلُّ على غير أنفسها ؟

        قال الرضا عليه‏السلام : لأن اللّه‏ تبارك وتعالى لايجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً ، فإذا ألّف منها أحرفاً أربعةً أو خمسةً أو ستةً أو أكثر من ذلك أو أقلّ لم يؤلّفها لغير معنى ، ولم يكُ الاّ لمعنى محدثٍ لم يكن قبل ذلك شيئاً . قال عمران : فكيف لنا بمعرفة ذلك ؟ قال الرضا عليه‏السلام : امّا المعرفة فوجه ذلك وبابه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتَها فرداً فقلتَ : ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها فلم تجد لها معنى غير أنفسها ، فاذا ألّفتها وجمعت منها أحرفاً وجعلتها اسماً وصفةً لمعنى ما طلبت ووجه ماعنيت كانت دليلةً على معانيها داعيةً الى الموصوف بها ، أفهمته ؟ قال : نعم .

        قال الرضا عليه‏السلام : واعلم انّه لايكون صفةٌ لغير موصوفٍ ، ولا اسمٌ لغير معنى ، ولا حدٌّ لغير محدودٍ ، والصفات والاسماء كلّها تدل على الكمال والوجود ، ولا تدلّ على الاحاطة كما تدلُّ على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس لأن اللّه‏ عزوجل وتقدّس تُدرَك معرفته بالصفات والاسماء ، ولا تُدْرَك بالتحديد بالطول والعرض والقلّة والكثرة واللّون والوزن وما أشبه ذلك ، وليس يحلّ باللّه‏ جل وتقدّس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا ، ولكن يُدَلُّ على اللّه‏ عزوجل بصفاته ويُدْرَك بأسمائه ويُسْتَدَلُّ عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عينٍ ، ولا استماع اذنٍ ، ولا لمس كفٍّ ، ولا إحاطة بقلبٍ .

        فلو كانت صفاته جلّ ثناؤه لا تدلّ عليه وأسماؤه لاتدعو إليه والمعلمة من الخلق لاتدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه ، فلولا أنّ ذلك كذلك لكان المعبود الموحّد غير اللّه‏ تعالى لأنّ صفاته وأسماءه غيره ، أفهمت ؟

(509)

 

قال : نعم يا سيدي زدني .

        قال الرضا عليه‏السلام : إياك وقول الجّهال أهل العمى والضّلال الذين يزعمون ان اللّه‏ عزوجل وتقدّس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب ، وليس بموجودٍ في الدنيا للطاعة والرجاء ، ولو كان في الوجود للّه‏ عزوجل نقص و اهتضامٌ لم يوجد في الآخرة أبداً ، ولكنّ القوم تاهوا وعموا وصمّوا عن الحق من حيث لا يعلمون ، وذلك قوله عزوجل : « وَمَنْ كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِى الاْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً »

(1) .

        يعني أعمى عن الحقائق الموجودة، وقد علم ذووا الالباب ان الاستدلال على ما هناك لايكون الا بما هاهنا ، ومن أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك الا بُعداً لأن اللّه‏ عزوجل جعل علم ذلك خاصّةً عند قومٍ يعقلون ويعلمون ويفهمون .

        قال عمران : ياسيدي ألا تخبرني عن الإبداع خَلْقٌ هو أم غير خَلْقٍ ؟ قال الرضا عليه‏السلام : بل خَلقٌ ساكنٌ لايُدرك بالسكون ، وإنّما صار خَلْقاً لأنّه شيءٌ محدثٌ ، واللّه‏ الذي أحدثه فصار خلقاً له ، وإنّما هو اللّه‏ عزوجل وخلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما ، فما خلق اللّه‏ عزوجل لم يعد أن يكون خلقه ، وقد يكون الخلق ساكناً ومتحرّكاً ومختلفاً ومؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً ، وكل ماوقع عليه حدّ فهو خلق اللّه‏ عزوجل .

        واعلم انّ كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس وكل حاسّةٍ تدلُّ على ما جعل اللّه‏ عزوجل لها في إدراكها ، والفهم من القلب بجميع ذلك كلّه .

        واعلم انّ الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديدٍ خلق خلقاً مقدّراً بتحديدٍ وتقديرٍ، وكان الذي خلق خلقين اثنين التقدير والمقدّرَ، فليس في كل واحدٍ منهما لونٌ ولا ذوقٌ ولا وزنٌ ، فجعل أحدهما يدرك بالآخر ، وجعلهما مدركين بأنفسهما ، ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره للّذي أرادَ من الدلالة على نفسه وإثبات وجوده واللّه‏ تبارك وتعالى فردٌ واحدٌ لا ثاني معه يقيمه ولا يعضده ولا يمسكه ، والخلقُ يمسكُ بعضه بعضاً بإذن اللّه‏ ومشيّته ، وانما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظّلمةِ في وصفهم اللّه‏ بصفة أنفسهم فازدادوا من الحق بعداً ، ولو وصفوا اللّه‏ عزوجل بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين ولما اختلفوا ، فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيّروا فيه ارتبكوا واللّه‏ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

        قال عمران : يا سيدي أشهد أنّه كما وصفت ، ولكن بقيت لي مسألةٌ ، قال : سل عما أردت ، قال : أسألك عن الحكيم في أيِّ شيءٍ هو ، وهل يحيط به شيءٌ ، وهل يتحوّل من شيءٍ الى شيءٍ ، أو به حاجةٌ إلى شيءٍ ؟

 

(1) الإسراء : 72 .
(510)

 

        قال الرضا عليه‏السلام : أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه فإنّه من أَغْمَضِ ما يرد على المخلوقين في مسائلهم ، وليس يفهمه المتفاوت عقله ، العازبُ علمه ، ولا يعجز عن فهمه أولوا العقل المنصفون ، اما أول ذلك فلو كان خَلَقَ ما خَلَقَ لحاجةٍ منه لجازَ لقائلٍ أن يقول : يتحوّل إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك ، ولكنه عزوجل لم يخلق شيئاً لحاجته ولم يزل ثابتاً لا في شيءٍ ولا على شيءٍ الا أنّ الخلق يمسكُ بعضه بعضاً ويدخل بعضه في بعضٍ ويخرج منه ، واللّه‏ عزوجل وتقدّس بقدرته يمسك ذلك كله ، وليس يدخل في شيءٍ ولا يخرج منه ، ولا يؤوده حفظه ولا يعجز عن امساكه ، ولا يعرف أحدٌ من الخلق كيف ذلك إلا اللّه‏ عزوجل ومن أطلعه عليه من رسله وأهل سرِّه والمستحفظين لأمره وخزّانهِ القائمين بشريعته، وانما امره كلمح البصر أو هو أقرب إذا شاء شيئاً فإنما يقول له : كن ، فيكون بمشيّته وإرادته ، وليس شيء من خلقه أقرب إليه من شيءٍ ، ولا شيءٌ منه هو أبعد منه من شيءٍ ، أفهمت ياعمران ؟ قال : نعم ياسيدي قد فهمت وأشهد ان اللّه‏ على ماوصفته و وحّدته ، وانّ محمداً عبده المبعوث بالهدى ودين الحق ، ثم خرَّ ساجداً نحو القبلة وأسلَمَ .

        قال الحسن بن محمد النوفلّي : فلمّا نظر المتكلّمون إلى كلام عمران الصابى‏ءِ ، وكان جَدِلاً لم يقطعه عن حجته أحدٌ قطّ لم يدنُ من الرضا عليه‏السلام أحدٌ منهم ولم يسألوه عن شيء ، وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه‏السلام فدخلا وانصرف الناس ، وكنت مع جماعةٍ من أصحابنا إذ بعث اليَّ محمد بن جعفر فأتيته .

        فقال لي : يانوفلي أما رأيت ماجاء به صديقك ، لا واللّه‏ ماظننت أنّ عليَّ بن موسى خاضَ في شيءٍ من هذا قطّ ، ولا عرفناه به أنّه كان يتكلّم بالمدينة أو يجتمع إليه أصحاب الكلام ، قلت ، قد كان الحاجُّ يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم ، وكلّمه من يأتيه لحاجةٍ ، فقال محمد بن جعفر : يا أبا محمدٍ انّي أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمّه أو يفعل به بليّةً ، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الاشياء ، قلتُ : اذاً لايقبل مني ، وما أراد الرجل الاّ امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه عليهم‏السلام ، فقال لي : قل له : انّ عمك قد كرهَ هذا الباب وأحبَّ أن تمسك عن هذه الأشياء لخصالٍ شتى .

        فلمّا انقلبت الى منزل الرضا عليه‏السلام أخبرته بما كان من عمّه محمد بن جعفر فتبسّم ، ثم قال : حفظ اللّه‏ عمّي ما أعرفني به لِمَ كَرِهَ ذلك ، يا غلام صر الى عمران الصابى‏ء فأتني به . فقلتُ : جعلتُ فداك أنا أعرف موضعه هو عند بعض اخواننا من الشيعة ، قال عليه‏السلام : فلا بأس قرِّبوا إليه دابةً ، فصرتُ الى عمران فأتيته به فرحَّب به ودعا بكسوةٍ فخلعها عليه وحملهُ ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله بها .

        فقلت : جعلت فداك حكيت فعل جدِّك أمير المؤمنين عليه‏السلام ، فقال : هكذا نحبُّ ، ثم دعا عليه‏السلام بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره حتّى إذا فرغنا قال

(511)

 

لعمران : انصرف مصاحباً وبكّر علينا نطعمك طعام المدينة ، فكان عمران بعد ذلك يجتمع عليه المتكلّمون من أصحاب المقالات فيبطل أمرهم حتى اجتنبوه ، ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم ، وأعطاه الفضل مالاً وحَمَلهُ ، وَ ولاّهُ الرضا عليه‏السلام صدقات بلخٍ ، فأصابَ الرَّغائبَ(1) .

* * *

 

(1) التوحيد للصدوق : 417 ، ح 1 ، باب 65 ، عنه البحار 10:299 ، ح 1 ، وفي الاحتجاج 2:199 ، وعيون الاخبار 1:154 .
(512)

 

الفصل الخامس

في الإخبار بشهادة فلذة كبد النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الامام عليّ بن موسى الرضا عليه‏السلام

        يقول المؤلف : اكتفي هنا بما قاله العلامة المجلسي رضى‏الله‏عنه في جلاء العيون قال :

        روى ابن بابويه بسند معتبر انّه : قال لأبي الحسن عليه‏السلام رجل من أهل خراسان : يا ابن رسول اللّه‏ رأيت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في المنام كأنّه يقول لي : كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي ، واستحفظتم وديعتي ، وغيّب في ثراكم نجمي ؟

        فقال له الرضا عليه‏السلام : أنا المدفون في أرضكم وأنا بضعة نبيّكم ، وأنا الوديعة والنجم ، ألا فمن زارني وهو يعرف ما أوجب اللّه‏ تبارك وتعالى من حقّي وطاعتي ، فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة ، ومن كنّا شفعاؤه يوم القيامة نجى ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجنّ والانس ، ولقد حدّثني أبي عن جدّي عن أبيه عليهم‏السلام انّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال :

        « من رآني في منامه فقد رآني ، لانّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي ، ولا في صورة واحد من أوصيائي ، ولا في صورة أحد من شيعتهم ، وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة

(1) .

        وروي عنه عليه‏السلام بسند معتبر انّه قال : ... واللّه‏ ما منّا الاّ مقتول شهيد ، فقيل له : فمن يقتلك يا ابن رسول اللّه‏ ؟ قال : شرّ خلق اللّه‏ في زمانه يقتلني بالسمّ ويدفنني في دار مضيعة وبلاد غربة ، ألا فمن زارني في غربتي كتب اللّه‏ عزوجل له أجر مائة ألف شهيد ، ومائة ألف صدّيق ، ومائة حاج ومعتمر ، ومائة الف مجاهد ، وحشر في زمرتنا ، وجعل في الدرجات العلى من الجنة رفيقنا(2) .

        وروي أيضا بسند معتبر عن الامام الصادق عليه‏السلام انّه قال : قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : ستدفن بضعة منّي بأرض خراسان ، لا يزورها مؤمن الاّ أوجب اللّه‏ عزوجل له الجنّة ، وحرّم جسده على النار(3) .

        وروي أيضا بسند معتبر عن الامام الصادق عليه‏السلام انّه قال : ... يخرج رجل من ولد ابني موسى اسمه اسم أمير المؤمنين صلوات اللّه‏ عليه ، فيدفن في أرض طوس وهي بخراسان ، يُقتل فيها بالسّم فيدفن فيها غريبا ، من زاره عارفا بحقّه أعطاه اللّه‏ عزوجل أجر من أنفق قبل الفتح وقاتل (4) .

 

(1) أمالي الصدوق : 61 ، مجلس 15 ، ح 10 ، عنه البحار 49:283 ، ح 1 ، وفي عيون الاخبار 2:257 ، ح 11 .
(2) أمالي الصدوق : 61 ، مجلس 15 ، ح 8 ، عنه البحار 102:32 ، ح 3 .
(3) أمالي الصدوق : 60 ، مجلس 15 ، ح 6 ، عنه البحار 102:31 ، ح 1 .
(513)

 

        وروي أيضا بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‏السلام انّه قال : سيتقل رجل من ولدي بأرض خراسان بالسمّ ظلما ، اسمه اسمي واسم أبيه أسم ابن عمران موسى عليه‏السلام ، ألا فمن زاره في غربته غفر اللّه‏ ذنوبه ما تقدّم منها وما تأخّر ولو كانت مثل عدد النجوم ، وقطر الأمطار ، وورق الأشجار(1)(2) .

        وروى المجلسي أيضا في كتبه بسند معتبر عن الامام الرضا عليه‏السلام انّه قال : انّي سأقتل بالسمّ مسموما ومظلوما ، وأُقبر إلى جنب هارون ، ويجعل اللّه‏ عزوجل تربتي مختلف شيعتي وأهل بيتي ، فمن زارني في غربتي وجبت له زيارتي يوم القيامة .

        والذي اكرم محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالنبوة واصطفاه على جميع الخليقة لا يصلّي أحد منكم عند قبري ركعتين الاّ استحقّ المغفرة من اللّه‏ عزوجل يوم يلقاه ، والذي اكرمنا بعد محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالامامة وخصّنا بالوصية ، انّ زوّار قبري لأكرم الوفود على اللّه‏ يوم القيامة ، وما من مؤمن يزورني فتصيب وجهه قطرة من السماء الاّ حرّم اللّه‏ عزّوجل جسده على النار

(3) .

        وأما كيفية استشهاده عليه‏السلام فهي كما في رواية أبي الصلت انّه قال : بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهماالسلام إذ قال لي : يا أبا الصلت ادخل هذه القبة التي فيها قبر هارون فآتني بتراب من أربعة جوانبها ، قال : فمضيت فأتيت به ، فلمّا مثلت بين يديه قال لي : ناولني من هذا التراب وهو من عند الباب ، فناولته فأخذه وشمه ثم رمى به ، ثم قال : سيحفر لي هاهنا قبر ، وتظهر صخرة لو جمع عليها كل معول بخراسان لم يتهيأ قلعها ، ثم قال : في الذي عند الرجل والذي عند الرأس مثل ذلك .

        ثم قال : ناولني هذا التراب فهو من تربتي ، ثم قال : سيحفر لي في هذا الموضع ، فتأمرهم أن يحفروا لي سبع مراقي إلى أسفل وأن يشق لي ضريحة ، فإن أبوا إلا أن يلحدوا ، فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبرا ، فان اللّه‏ عزوجل سيوسعه لي ما شاء ، فإذا فعلوا ذلك فإنك ترى عند رأسي نداوة فتكلم بالكلام الذي اعلمك ، فإنه ينبع الماء حتى يمتليء اللحد ، وترى فيه حيتانا صغارا فتفتت لها الخبز الذي أعطيك فإنها تلتقطه ، فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوتة كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتى لا يبقى منها شيء ثم تغيب ، فإذا غابت فضع يدك على الماء وتكلم بالكلام الذي اعلمك فإنّه ينضب ولا يبقى منه شيء ، ولا تفعل ذلك إلا بحضرة المأمون .

        ثم قال عليه‏السلام : يا أبا الصلت غدا أدخل إلى هذا الفاجر ، فإن خرجت وأنا مكشوف

 

(1) امالي الصدوق : 103 ، مجلس 25 ، ح 1 ، وعيون الاخبار 2:255 ، ح 3 ، عنهما البحار 102:33 ، ح 9 .
(2) امالي الصدوق : 104 ، مجلس 25 ، ح 5 ، وعيون الاخبار 2:258 ، ح 17 ، عنهما البحار 102:34 ، ح 11 .
(3) جلاء العيون : 544 .
(4) البحار 102:36 ، ح 23 ، عن عيون الاخبار .
(514)

 

الرأس فتكلم أكلمك ، وإن خرجت وأنا مغطى الرأس فلا تكلّمني ، قال أبو الصلت : فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينتظر ، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون ، فقال : أجب أمير المؤمنين ، فلبس نعله ورداءه وقام يمشي وأنا أتبعه حتى دخل على المأمون وبين يديه طبق عنب ، وأطباق فاكهة بين يديه وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه .

        فلمّا بصر بالرضا عليه‏السلام وثب إليه وعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ، ثم ناوله العنقود وقال : يا ابن رسول اللّه‏ هل رأيت عنبا أحسن من هذا ، فقال الرضا : ربما كان عنبا حسنا يكون من الجنة ، فقال له : كل منه ، فقال له الرضا : أو تعفيني منه ، فقال : لابدّ من ذلك ، ما يمنعك منه لعلّك تتهمنا بشيء ، فتناول العنقود فأكل منه ، ثم ناوله فأكل منه الرضا عليه‏السلام ثلاث حبّات ثم رمى به وقام ، فقال له المأمون : إلى أين ، قال : إلى حيث وجهتني .

        وخرج عليه‏السلام مغطى الرأس فلم اكلمه حتى دخل الدار ، ثم أمر أن يغلق الباب ، فغلق ثم نام على فراشه ، فمكثت واقفا في صحن الدار مهموما محزونا ، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه ، قطط الشعر ، أشبه الناس بالرضا عليه‏السلام ، فبادرت إليه فقلت له : من أين دخلت والباب مغلق ، فقال : الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق .

        فقلت له : ومن أنت ، فقال لي : أنا حجة اللّه‏ عليك يا أبا الصلت أنا محمد بن عليّ ، ثم مضى نحو أبيه عليه‏السلام فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلمّا نظر إليه الرضا عليه‏السلام وثب إليه وعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، ثم سحبه سحبا إلى فراشه وأكبّ عليه محمد بن عليّ عليه‏السلام يقبّله ويساره بشيء لم أفهمه ، ورأيت على شفتي الرضا عليه‏السلام زبدا أشد بياضا من الثلج ، ورأيت أبا جعفر يلحسه بلسانه ، ثم أدخل يده بين ثوبه وصدره ، فاستخرج منها شيئا شبيها بالعصفور فابتلعه أبو جعفر وقضى الرضا عليه‏السلام .

        فقال أبو جعفر عليه‏السلام : قم يا أبا الصلت فائتني بالمغتسل والماء من الخزانة ، فقلت : ما في الخزانة مغتسل ولا ماء ، فقال : ائتمر بما آمرك به ، فدخلت الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء ، فأخرجته وشمرت ثيابي لأغسله معه ، فقال لي : تنح يا أبا الصلت فإنّ لي من يعينني غيرك فغسله ، ثم قال لي : ادخل الخزانة فاخرج اليّ السفط الذي فيه كفنه وحنوطه ، فدخلت فإذا أنا بسفط لم أرَه في تلك الخزانة فحملته إليه فكفنه وصلى عليه .

        ثم قال : أئتني بالتابوت ، فقلت : أمضي إلى النجار حتى يصلح تابوتا ، قال : قم فإن في الخزانة تابوتا ، فدخلت الخزانة فإذا تابوتا لم أرَ مثله (لم أرَه قط) فأتيته ، فأخذ الرضا عليه‏السلام بعد أن كان صلّى عليه فوضعه في التابوت وصف قدميه وصلى ركعتين لم يفرغ منهما حتى علا التابوت وانشقَّ السقف ، فخرج منه التابوت ومضى .

(515)

 

        فقلت : يا ابن رسول اللّه‏ الساعة يجيئنا المأمون فيطالبني بالرضا عليه‏السلام فما أصنع ، فقال : اسكت فإنّه سيعود يا أبا الصلت ، ما من نبي يموت في المشرق ويموت وصيّه بالمغرب الاّ جمع اللّه‏ عزوجل بين أرواحهما وأجسادهما ، فما تمّ الحديث حتى انشق السقف ونزل التابوت ، فقام عليه‏السلام فاستخرج الرضا من التابوت ووضعه على فراشه كأنّه لم يغسل ولم يكفن ، وقال : يا أبا الصلت قم فافتح الباب للمأمون ، ففتحت الباب فإذا المأمون والغلمان بالباب .

        فدخل باكيا حزينا قد شقّ جيبه ، ولطم رأسه ، وهو يقول : يا سيداه فجعت بك يا سيدي ، ثم دخل وجلس عند رأسه وقال : خذوا في تجهيزه ، وأمر بحفر القبر ، فحضرت الموضع وظهر كل شيء على ما وصفه الرضا عليه‏السلام ، فقال بعض جلسائه : ألست تزعم انّه امام ، قال : نعم ، قال : لا يكون الامام الاّ مقدم الرأس ، فأمر أن يحفر له في القبلة ، فقلت : أمرني أن أحفر له سبع مراقي وأن أشق له ضريحه ، فقال : انتهوا إلى ما يأمركم به أبو الصلت سوى الضريحة ، ولكن يحفر ويلحد .

        فلمّا رأى ما ظهر من النداوة والحيتان وغير ذلك ، قال المأمون : لم يزل الرضا عليه‏السلام يرينا عجائبه في حياته حتى أراناها بعد وفاته ، فقال له وزير كان معه : أتدري ما أخبرك به الرضا عليه‏السلام ، قال : لا ، قال : إنّه أخبرك إنّ ملككم بني العباس مع كثرتكم وطول مدتكم مثل هذه الحيتان حتى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم سلّط اللّه‏ تبارك وتعالى عليكم رجلاً منّا فأفناكم عن آخركم .

        قال له : صدقت ، ثم قال لي : يا أبا الصلت علّمني الكلام الذي تكلّمت به ، قلت : واللّه‏ لقد نسيت الكلام من ساعتي وقد كنت صدقت ، فأمر بحبسي ودفن الرضا عليه‏السلام ، فحبست سنة وضاق عليّ الحبس ، وسهرت الليل فدعوت اللّه‏ عزوجل بدعاء ذكرت فيه محمدا وآل محمد ، وسألت اللّه‏ بحقهم أن يفرّج عنّي ، فلم استتم الدعاء حتى دخل عليّ محمد بن عليّ عليه‏السلام ، فقال لي : يا أبا الصلت ضاق صدرك ، فقلت : إي واللّه‏ ، قال : قم فاخرج ، ثم ضرب يده إلى القيود التي كانت عليّ ففكّها ، وأخذ بيدي وأخرجني من الدار والحرسة والغلمة يروني ، فلم يستطيعوا أن يكلّموني وخرجت من باب الدار .

        ثم قال : امض في ودائع اللّه‏ فإنك لن تصل إليه ولا يصل اليك أبدا ، قال أبو الصلت : فلم التق مع المأمون إلى هذا الوقت ، وصلى اللّه‏ على رسوله محمد وآله الطاهرين ، وحسبنا اللّه‏ ونعم الوكيل

(1) .

        وروى ابن بابويه أيضا والشيخ المفيد باسانيد مختلفة عن عليّ بن الحسين الكاتب انّه قال : انّ الرضا عليه‏السلام حُمّ فعزم على الفصد [ وقد كان المأمون أمر بعض غلمانه

 

(1) الامالي للصدوق : 526 ، ح 17 ، مجلس 94 ، وعيون الاخبار 2:242 ، ح 1 ، عنه البحار 49:300 ، ح 10 ، والعوالم 22:494 ، ح 2 .
(516)

 

أن يطوّل أظفاره وعلى رواية الشيخ المفيد أمر عبد اللّه‏ بن بشير بذلك وقال له : طوّل أظفارك على العادة ولا تظهر ذلك أحدا ، ثم أخرج المأمون شيئا يشبه التمر الهندي فأمر غلامه أن يعجنه بيده وقال له : ] كن معي ولا تغسل يدك .

        فركب إلى الرضا عليه‏السلام وجلس حتى فصد بين يديه وعلى رواية ، أَخّر فصده ، وقال المأمون لذلك الغلام : هات من ذلك الرمان ، وكان الرمّان في شجرة في بستان في دار الرضا عليه‏السلام ، فقطف منه ، ثم قال : اجلس ففتّه ، ففتّ منه في جام وأمر بغسله ، ثم قال للرضا : مص منه شيئا ، فقال : حتى يخرج أمير المؤمنين .

        فقال : لا واللّه‏ الاّ بحضرتي ، ولو لا خوفي أن يرطّب معدتي لمصصته معك ، فمصّ منه ملاعق وخرج المأمون ، فما صلّيت العصر حتى قام الرضا عليه‏السلام خمسين مجلسا ]ونزلت احشاؤه وأمعائه عليه‏السلام من ذلك السمّ ] .

        فوجّه إليه المأمون : قد علمت انّ هذه إفاقة وفتار للفضل الذي في بدنك ، وزاد الأمر في الليل فأصبح عليه‏السلام ميتا ، فكان آخر ما تكلّم به : « ... قُلْ لَّوْ كُنْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ ... »

(1) .

        « ... وَكَانَ أَمْرُ اللّه‏ِ قَدَرَا مَّقْدُورَا »(2) .

        وبكّر المأمون من الغد فأمر بغسله وتكفينه ، ومشى خلف جنازته حافيا حاسرا ، يقول : يا أخي لقد ثلم في الاسلام بموتك وغلب القدر تقديري فيك(3) .

        قال أبو الصلت الهروي : دخلت على الرضا عليه‏السلام بعد خروج المأمون ، فلمّا رأني الامام قال : يا أبا الصلت فعلوا ما أرادوا ، فاشتغل بذكر اللّه‏ وتحميده وتمجيده ولم يتكلّم قط .

        وروي في بصائر الدرجات بسند صحيح انّ الامام الرضا عليه‏السلام قال : أمّا إنّي رأيت رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله البارحة وهو يقول : يا عليّ عندنا خير لك

(4) .

        روى ابن بابويه بسند الحسن عن ياسر الخادم انّه قال : لما كان بيننا وبين طوس سبعة منازل اعتلّ أبو الحسن عليه‏السلام فدخلنا طوس وقد اشتدّت به العلّة ، فبقينا بطوس أياما ، فكان المأمون يأتيه في كلّ يوم مرّتين .

        فلمّا كان في آخر يومه الذي قبض فيه كان ضعيفا في ذلك اليوم ، فقال لي بعد ما صلّى الظهر: يا ياسر أكل الناس شيئا ؟ قلت : يا سيدي من يأكل هاهنا مع ما أنت فيه ؟

 
(1) آل عمران : 154 .
(2) الأحزاب : 38 .
(3) عيون الاخبار 2:240 ، ح 1 ، عنه البحار 49:305 ، ح 14 ، والعوالم 22:499 ، ح 4 ، والارشاد : 315 ، مع اختلاف وتلخيص .
(4) بصائر الدرجات 10:503 ، باب 9 ، ح 9 ، عنه البحار 49:306 ، ح 15 .
(517)

 

فانتصب عليه‏السلام ثم قال : هاتوا المائدة ، ولم يدع من حشمه أحدا الاّ اقعده معه على المائدة يتفقّد واحدا واحدا ، فلمّا أكلوا قال : ابعثوا إلى النساء بالطعام .

        فحمل الطعام إلى النساء ، فلمّا فرغوا من الأكل أغمي عليه وضعف ، فوقعت الصيحة وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات ، ووقعت الوحية بطوس ، وجاء المأمون حافيا حاسرا يضرب على رأسه ، ويقبض على لحيته ، ويتأسف ، ويبكي ، وتسيل الدموع على خدّيه ، فوقف على الرضا عليه‏السلام وقد أفاق ، فقال :

        « يا سيدي واللّه‏ ما أدري أيّ المصيبتين أعظم عليّ ، فقدي لك وفراقي ايّاك أو تهمة الناس لي انّي اغتلتك وقتلتك ؟ » .

        قال : فرفع طرفه إليه ثم قال : أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر ، فانّ عمرك وعمره هكذا ـ وجمع بين سبّابتيه ـ .

        قال : فلمّا كان من تلك الليلة قضى عليه بعد ما ذهب من الليل بعضه ، فلمّا أصبح اجتمع الخلق وقالوا : هذا قتله واغتاله ـ يعنون المأمون ـ وقالوا : قتل ابن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله واكثروا القول والجلبة .

        وكان محمد بن جعفر بن محمد عليهماالسلام استأمن إلى المأمون وجاء إلى خراسان ، وكان عمّ أبي الحسن الرضا عليه‏السلام فقال له المأمون : يا أبا جعفر أخرج إلى الناس واعلمهم انّ أبا الحسن لا يخرج اليوم ، وكره أن يخرجه فتقع الفتنة ، فخرج محمد بن جعفر إلى الناس ، فقال : « أيها الناس تفرقوا فانّ أبا الحسن لا يخرج اليوم » فتفرّق الناس وغسّل أبو الحسن عليه‏السلام في الليل ودفن

(1) .

        قال الشيخ المفيد انّه : لما توفّي الرضا عليه‏السلام كتم المأمون موته يوما وليلة ، ثم أنفذ إلى محمد بن جعفر الصادق وجماعة من آل أبي طالب الذين كانوا عنده ، فلمّا حضروا نعاه اليهم وبكى وأظهر حزنا شديدا وتوجّعا ، وأراه اياه صحيح الجسد وقال :

        « يعزّ عليّ يا أخي أن أراك في هذه الحال ، قد كنت أؤمّل أن أقدّم قبلك ، فأبى اللّه‏ الاّ ما أراد »

(2) .

        وروى ابن بابويه بسند معتبر عن هرثمة بن أعين انّه قال : كنت ليلة بين يدي المأمون حتى مضى من الليل أربع ساعات ، ثم أذن لي في الانصراف فانصرفت ، فلمّا مضى من الليل نصفه قرع قارع الباب ، فأجابه بعض غلماني ، فقال له :

        قل لهرثمة أجب سيدك ، قال : فقمت مسرعا وأخذت عليّ اثوابي واسرعت إلى سيدي الرضا عليه‏السلام ، فدخل الغلام بين يدي ودخلت وراءه ، فاذا أنا بسيدي عليه‏السلام في صحن داره جالس فقال لي : يا هرثمة ، فقلت : لبيك يا مولاي ، فقال لي : اجلس ،

 

(1) عيون الأخبار 2:241 ، ح 1 ، عنه البحار 49:299 ، ح 9 ، والعوالم 22:498 ، ح 3 .
(2) الارشاد : 316 .
(518)

 

فجلست ، فقال لي : اسمع وعه يا هرثمة هذا أوان رحيلي إلى اللّه‏ تعالى ولحوقي بجدي وآبائي عليهم‏السلام ، وقد بلغ الكتاب أجله ، وقد عزم هذا الطاغي على سمّي في عنب ورمان مفروك .

        فاما العنب فانه يغمس السلك في السم ويجذبه بالخيط بالعنب ، واما الرمان فانه يطرح السم في كف بعض غلمانه ويفرك الرمان بيده ليتلطخ حبة في ذلك السم ، وإنّه سيدعوني في اليوم المقبل ويقرب اليَّ الرمان والعنب ويسألني أكلها فآكلها ، ثم ينفذ الحكم ويحضر القضاء ، فاذا أنا متّ فسيقول أنا أغسله بيدي ؛ فاذا قال ذلك فقل له عني بينك وبينه إنّه قال لي : لا تتعرض لغسلي ولا لتكفيني ولا لدفني ، فانك ان فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أُخر عنك ، وحلّ بك أليم ماتحذر فانه سينتهي .

        قال : فقلت نعم يا سيدي ، قال : فاذا خلّى بينك وبين غسلي حتى ترى فيجلس في علو من ابنيته مشرفاً على موضع غسلي لينظر ، فلا تتعرض يا هرثمة لشيء من غسلي حتى ترى فسطاطا ابيض قد ضرب في جانب الدار ، فاذا رأيت ذلك فأحملني في أثوابي التي أنا فيها ، فضعني من وراء الفسطاط وقف من ورائه ويكون من معك دونك ، ولا تكشف عني الفسطاط حتى تراني فتهلك ، فانه سيشرف عليك ويقول لك : يا هرثمة أليس زعمتم ان الامام لايغسله الاّ امام مثله ، فمن يغسل أبا الحسن علي بن موسى وابنه محمّد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بطوس .

        فاذا قال ذلك فأجبه وقل له : إنّا نقول ان الامام لايجب ان يغسله الا امام مثله ، فان تعدى متعد فغسل الامام لم تبطل امامة الامام لتعدي غاسله ، ولا بطلت امامة الامام الذي بعده بأن غلب على غسل أبيه ، ولو ترك أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه‏السلام بالمدينة لغسله ابنه محمّد ظاهراً مكشوفاً ، ولا يغسله الآن أيضا الا هو من حيث يخفى ، فاذا ارتفع الفسطاط فسوف تراني مدرجاً في أكفاني فضعني على نعشي واحملني ، فاذا أراد ان يحفر قبري ؛ فانه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلة لقبري ولا يكون ذلك أبداً .

        فاذا ضربت المعاول ينب عن الارض ولم يحفر لهم منها شيء ولا مثل قلامة ظفر ، فاذا اجتهدوا في ذلك وصعب عليهم فقل له عني اني امرتك ان تضرب معولاً واحداً في قبلة قبر أبيه هرون الرشيد ، فاذا ضربت نفذ في الارض إلى قبر محفور وضريح قائم ، فاذا انفرج القبر فلا تنزلني إليه حتى يفور من ضريحه الماء الابيض فيمتلى منه ذلك القبر حتى يصير الماء [ مساوياً مع وجه الأرض ] ثم يضطرب فيه حوت بطوله ؛ فاذا اضطرب فلا تنزلني إلى القبر الاّ إذا غاب الحوت وأغار الماء ، فانزلني في ذلك القبر وألحدني في ذلك الضريح ، ولا تتركهم يأتوا بتراب يلقونه عليّ ، فان القبر ينطبق من نفسه ويمتلى ، قال : قلت : نعم يا سيدي .

        ثم قال لي : احفظ ما عهدت اليك واعمل به ولا تخالف ، قلت : أعوذ باللّه‏ ان

(519)

 

أخالف لك أمراً ياسيدي ، قال هرثمة : ثم خرجت باكياً حزيناً ، فلم أزل كالحبة على المقلاة لايعلم ما في نفسي الاّ اللّه‏ تعالى ، ثم دعاني المأمون ، فدخلت إليه ، فلم أزل قائماً إلى ضحى النهار ، ثم قال المأمون : امضِ يا هرثمة إلى أبي الحسن عليه‏السلام فأقرأه مني السلام وقل له : تصير الينا أو نصير إليك ؟ فان قال لك : بل نصير إليه ، فاسأله عني أن يقدم ذلك ، قال : فجئته ، فلمّا اطّلعت عليه ، قال لي : يا هرثمة أليس قد حفظت ما أوصيتك به ، قلت : بلى ، قال : قدموا اليَّ نعلي ، فقد علمت ما أرسلك به .

        قال : فقدمت نعليه ومشى إليه ؛ فلمّا دخل المجلس قام إليه المأمون قائماً ، فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه إلى جانبه على سريره وأقبل عليه يحادثه ساعة من النهار طويلة ، ثم قال لبعض غلمانه : يؤتى بعنب ورمان .

        قال هرثمة : فلمّا سمعت ذلك لم استطع الصبر ورأيت النفضة قد عرضت في بدني ، فكرهت ان يتبين ذلك فيّ ، فتراجعت القهقرى حتى خرجت ، فرميت نفسي في موضع من الدار ، فلمّا قرب زوال الشمس أحسست بسيدي قد خرج من عنده ورجع إلى داره ، ثم رأيت الأمر قد خرج من عند المأمون باحضار الاطباء والمترفقين ، فقلت : ما هذا ؟ فقيل لي : علة عرضت لأبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‏السلام ، وكان الناس في شك وكنت على يقين لما أعرف منه ، قال : فما كان من الثلث الثاني من الليل ، علا الصياح و سمعت الصيحة من الدار ، فاسرعت فيمن أسرع ، فاذا نحن بالمأمون مكشوف الرأس ، محلل الأزرار ، قائماً على قدميه ، ينتحب ويبكي .

        قال : فوقفت فيمن وقف وأنا اتنفس الصعداء ، ثم أصبحنا ، فجلس المأمون للتعزية ؛ ثم قام فمشى إلى الموضع الذي فيه سيدنا عليه‏السلام ؛ فقال : اصلحوا لنا موضعاً ، فاني أريد أن أُغسله فدنوت منه ؛ فقلت له ما قاله سيدي بسبب الغسل والتكفين والدفن ؛ فقال لي : لست أعرض لذلك ، ثم قال : شأنك يا هرثمة .

        قال : فلم أزل قائماً حتى رأيت الفسطاط قد ضرب ، فوقفت من ظاهره وكل من في الدار دوني ، وأنا اسمع التكبير والتهليل والتسبيح وتردد الأواني وصب الماء وتضوُّع الطيب الذي لم أشم أطيب منه ، قال : فاذا أنا بالمأمون قد أشرف على بعض أعالي داره ، فصاح : يا هرثمة أليس زعمتم ان الامام لايغسله الا امام مثله ؟ فأين محمد بن علي ابنه عنه ؟ وهو بمدينة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وهذا بطوس خراسان ؟! قال : فقلت له : يا أمير المؤمنين إنّا نقول : ان الامام لايجب ان يغسله الا امام مثله ، فان تعدى متعد فغسّل الامام لم تبطل امامة الامام لتعدى غاسله ، ولا تبطل امامة الامام الذي بعده بأن غُلب على غسل أبيه ، ولو ترك أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه‏السلام بالمدينة لغسله ابنه محمد ظاهراً ، ولا يغسله الآن أيضا الا من حيث يخفى .

        قال : فسكت عنّي ، ثم ارتفع الفسطاط فاذا أنا بسيدي عليه‏السلام مدرج في اكفانه ، فوضعته على نعشه ، ثم حملناه ، فصلّى عليه المأمون وجميع من حضر ؛ ثم جئنا إلى

(520)

 

موضع القبر ؛ فوجدتهم يضربون المعاول دون قبر هارون ليجعلوه قبلة لقبره ، والمعاول تنبو عنه حتى ما يحفر ذرة من تراب الارض ، فقال لي : ويحك يا هرثمة أما ترى الأرض كيف تمتنع من حفر قبر له ؟ فقلت له: يا أمير المؤمنين إنّه قد أمرني ان أضرب معولاً واحداً في قبلة قبر أمير المؤمنين أبيك الرشيد ولا أضرب غيره .

        قال : فاذا ضربت يا هرثمة يكون ماذا ؟ قلت : انّه أخبر انّه لايجوز ان يكون قبر ابيك قبلة لقبره ، فاذا أنا ضربت هذا المعول الواحد نفذ إلى قبر محفور من غير يد تحفره وبان ضريح في وسطه ، قال المأمون : سبحان اللّه‏ ما أعجب هذا الكلام؟ ! ولا أعجب من أمر أبي الحسن عليه‏السلام ؛ فاضرب يا هرثمة حتى نرى ، قال هرثمة : فأخذت المعول بيدي فضربت به في قبلة قبر هارون الرشيد ، قال : فنفذ إلى قبر محفور من غير يد تحفره ، وبان ضريح في وسطه والناس ينظرون إليه ، فقال : انزله إليه يا هرثمة ، فقلت : يا أمير المؤمنين ان سيدي أمرني ان لا أنزل إليه حتى ينفجر من ارض هذا القبر ماء أبيض ، فيمتلئ منه القبر حتى يكون الماء مع وجه الأرض ، ثم يضطرب فيه حوت بطول القبر ، فاذا غاب الحوت وغار الماء وضعته على جانب القبر وخليت بينه وبين ملحده ، فقال : فافعل يا هرثمة ما اُمرت به .

        قال هرثمة : فانتظرت ظهور الماء والحوت ، فظهر ثم غاب وغار الماء والناس ينظرون ؛ ثم جعلت النعش إلى جانب قبره ، فغطّي قبره بثوب أبيض لم أبسطه ، ثم أُنزل به إلى قبره بغير يدي ولا يد أحد ممن حضر ، فأشار المأمون إلى الناس : ان هاتوا التراب بأيديكم واطرحوه فيه ، فقلت : لانفعل يا أمير المؤمنين ، قال : فقال ويحك ! فمن يملؤه ؟ فقلت : قد أمرني ان لايطرح عليه التراب ، وأخبرني ان القبر يمتلئ من ذات نفسه ثم ينطبق ويتربع على وجه الأرض ، فأشار المأمون إلى الناس : ان كفوا .

        قال : فرموا مافي أيديهم من التراب ، ثم امتلأ القبر وانطبق وتربع على وجه الأرض ، فانصرف المأمون وانصرفت ، فدعاني المأمون وخلاني ، ثم قال لي : أسألك باللّه‏ يا هرثمة لمّا صدقتني عن أبي الحسن « قدّس اللّه‏ روحه » بما سمعته منه ؛ قال : فقلت قد أخبرت يا أمير المؤمنين بما قال لي ، فقال باللّه‏ الاّ ما صدقتني عمّا أخبرك به غير هذا الذي قلت لي ، قال : فقلت : يا أمير المؤمنين فعمّا تسألني ، فقال لي : يا هرثمة هل أسرّ اليك شيئاً غير هذا ؟ قلت : نعم ؛ قال : ما هو ؟ قلت : خبر العنب والرمان .

        قال : فأقبل المأمون يتلوّن ألواناً يصفر مرة ويحمر اخرى ، ويسود اخرى ثم تمدد مغشياً عليه ، فسمعته في غشيته وهو يهجر ويقول : ويل للمأمون من اللّه‏ ، ويل له من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وويل له من علي بن أبي طالب عليه‏السلام ، ويل للمأمون من فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ويل للمأمون من الحسن والحسين ، ويل للمأمون من علي بن الحسين ، ويل للمأمون من محمّد بن علي ، ويل للمأمون من جعفر بن محمّد ويل له من موسى بن جعفر ، ويل للمأمون من علي بن موسى الرضا عليه‏السلام ، هذا واللّه‏ هو الخسران المبين ،

(521)

 

يقول هذا القول ويكرره ، فلمّا رأيته قد أطال ذلك وليت عنه ، وجلست في بعض نواحي الدار .

        قال : فجلس ودعاني ، فدخلت عليه وهو جالس كالسكران ، فقال : واللّه‏ ما أنت عليّ أعزّ منه ولا جميع من في الارض والسماء ، واللّه‏ لئن بلغني انّك اعدت مما رأيت وسمعت شيئاً ليكوننّ هلاكك فيه ، قال : فقلت : ياأمير المؤمنين ان ظهرت على شيء من ذلك مني فأنت في حل من دمي ، قال : لا واللّه‏ وتعطيني عهداً وميثاقاً على كتمان هذا وترك اعادته ، فأخذ عليَّ العهد والميثاق وأكده عليّ .

        قال : فلمّا وليت عنه صفق بيديه وقال : « يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه‏ِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّه‏ُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطا »

(1) وكان للرضا عليه‏السلام من الولد محمد الامام عليه‏السلام ، وكان يقول له الرضا عليه‏السلام : الصادق ، والصابر ، والفاضل ، وقرة أعين المؤمنين ، و غيظ الملحدين (2) .

        روى القطب الراوندي عن الحسن بن عباد ـ وكان كاتب الرضا عليه‏السلام ـ انّه قال : دخلت عليه وقد عزم المأمون بالمسير إلى بغداد ، فقال : يابن عبّاد ما ندخل العراق ولا نراه ، قال : فبكيت وقلت : فآيستني أن آتي أهلي وولدي ، قال عليه‏السلام : امّا أنت فستدخلها وانّما عنيت نفسي .

        فاعتلّ وتوفّي بقرية من قرى طوس ، وقد كان تقدّم في وصيّته أن يحفر قبره ممّا يلي الحائط بينه وبين قبر هارون ثلاثة أذرع ، وقد كانوا حفروا الموضع لهارون ، فكسرت المعاول والمساحي ، فتركوه وحفروا حيث أمكن الحفر .

        فقال : احفروا ذلك المكان فانّه سيلين عليكم ، وتجدون صورة سمكة من نحاس وعليها كتابة بالعبرانية ، فاذا حفرتم لحدي فعمّقوه وردّوها فيه ممّا يلي رجلي ، فحفرنا ذلك المكان وكانت المحافر تقع في الرمل الليّن ، ووجدنا السمكة مكتوب عليها بالعبرانية : « هذه روضة عليّ بن موسى الرضا وتلك حفرة هارون الجبّار »

(3) .

        لقد تمّ ما نقلناه عن كتاب جلاء العيون للمجلسي رحمه‏الله (4) .

        وتجدر الاشارة هنا إلى نكات ثلاثة :

        النكتة الاولى : الأشهر في تاريخ استشهاد الامام الرضا عليه‏السلام انّه كان في سنة (203) وفي شهر صفر ، وكان عمره الشريف يومئذٍ خمسة وخمسين سنة ، ولكن وقع الاختلاف في اليوم الذي استشهد فيه ، قال ابن الأثير والطبرسي وجمع آخر انّه كان في

 
(1) النساء : 108 .
(2) عيون اخبار الرضا 2:245 ، ح 1 ، عنه البحار 49:293 ، ح 8 ، والعوالم 22:488 ، ح 1 .
(3) الخرائج 1:367 ، ح 25 ، عنه البحار 49:307 ، والعوالم 22:500 .
(4) جلاء العيون : 544 .
(522)

 

اليوم الاخير من الشهر ، وقيل : في الرابع عشر منه ، وقال الكفعمي في السابع عشر ، وقال صاحب كتاب العدد وصاحب مسار الشيعة انها كانت في اليوم الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة ، وهو اليوم الذي تستحبّ فيه زيارته عليه‏السلام للقريب والبعيد ، كما نقله السيد ابن طاووس في الإقبال .

        وروى الحميري عن الثقة الجليل معمّر بن خلاّد انّه قال : قال أبو جعفر عليه‏السلام : يا معمّر اركب ، قلت : إلى أين ؟ قال : اركب كما يقال لك ، قال : فركبت فانتهيت إلى واد ـ أو إلى وهدة ، الشك من أبي علي ـ فقال لي : قف هاهنا .

        فوقفت فأتاني فقلت له : جعلت فداك أين كنت ؟ قال : دفنت أبي الساعة وكان بخراسان

(1) .

        وروى الشيخ الطبرسي في اعلام الورى عن امية بن عليّ انّه قال : كنت بالمدينة وكنت أختلف إلى أبي جعفر عليه‏السلام ، وأبو الحسن عليه‏السلام بخراسان وكان أهل بيته وعمومة أبيه يأتونه ويسلّمون عليه ، فدعا يوما الجارية فقال : « قولي لهم يتهيّأون للمأتم » .

        فلمّا تفرّقوا قالوا : ألا سألناه مأتم من ؟ فلمّا كان من الغد فعل مثل ذلك ، فقالوا : مأتم من ؟ قال : مأتم خير من على ظهرها ، فأتانا خبر أبي الحسن عليه‏السلام بعد ذلك بأيّام فاذا هو قد مات في ذلك اليوم

(2) .

        النكتة الثانية : لم يذكر العلماء للامام الرضا عليه‏السلام ابنا غير الامام محمد التقي عليه‏السلام ، بل قال البعض بانحصار أولاده فيه .

        قال الشيخ المفيد : ومضى الرضا عليّ بن موسى عليهماالسلام ولم يترك ولدا نعلمه الاّ ابنه الامام بعده أبا جعفر محمد بن عليّ عليهماالسلام ، وكانت سنّه يوم وفاة أبيه سبع سنين وأشهرا

(3) .

        وصرّح ابن شهر آشوب بانّ ابنه هو الامام محمد التقي ، لكن المجلسي روى في البحار عن قرب الاسناد عن البزنطي انّه قال : قلت [ للرضا عليه‏السلام : ] جعلت فداك ... قد سألتك منذ سنين وليس لك ولدا عن الامامة فيمن تكون من بعدك ، فقلت : في ولدي ، وقد وهب اللّه‏ لك ابنين ... الخ(4)

        قال ابن شهر آشوب في المناقب : الأصل في مسجد زرد في كورة مرو انّه صلّى فيه الرضا عليه‏السلام ، فبنى مسجدا ثم دفن فيه ولد الرضا عليه‏السلام ويروي فيه من الكرامات(5) .

 

 
(1) البحار 49:310 ، ح 20 ، والعوالم 22:503 ، ح 8 .
(2) أعلام الورى : 334 ، عنه البحار 49:310 ، ح 21 ، والعوالم 22:503 ، ح 9 .
(3) الارشاد : 316 ، عنه البحار 49:309 ، ضمن حديث 18 .
(4) البحار 23:67 ، ح 1 ، عن قرب الاسناد : 378 ، ح 1331 .
(5) المناقب 4:362 ، في مكارم اخلاقه ، عنه البحار 49:336 ، ح 15 ، باب 23 .
(523)

 

        وروى العلامة المجلسي في البحار في باب حسن الخلق عن عيون أخبار الرضا عليه‏السلام رواية يدل ظاهرها على انّ الامام الرضا عليه‏السلام كان له بنت اسمها فاطمة تروي الحديث عن أبيها ، وإليك نص الرواية : عن فاطمة بنت الرضا عن أبيها عن أبيه عن جعفر بن محمد عن ابيه وعمّه زيد عن أبيهما عليّ بن الحسين عن أبيه وعمّه ، عن عليّ بن أبي طالب عليهم‏السلام عن النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : من كفّ غضبه كفّ اللّه‏ عنه عذابه ، ومن حسن خلقه بلّغه اللّه‏ درجة الصائم القائم(1) .

        وروى الشيخ الصدوق أيضا مسندا عن فاطمة بنت عليّ بن موسى الرضا عن أبيها الرضا عن آبائه عن عليّ عليهم‏السلام قال : لا يحلّ لمسلم أن يُروّع مسلما(2) .

        وذُكر في كتب الأنساب انّ للامام الرضا عليه‏السلام بنتا اسمها فاطمة زوجة محمد بن جعفر بن القاسم بن اسحاق بن عبد اللّه‏ بن جعفر بن أبي طالب ، ابن أخي أبي هاشم الجعفري ، وهي أمّ الحسن بن محمد بن جعفر بن القاسم ، وذكر الشبلنجي في نور الأبصار كرامة ومنقبة لها فليرجع الطالب إلى هناك .

        النكتة الثالثة : اعلم انّ الشعراء رثوا الامام عليه‏السلام بأشعار ومراثي كثيرة ، وخصّص العلامة المجلسي رحمه‏الله في البحار بابا في مراثي الامام الرضا عليه‏السلام ، نذكر هنا بعضا منها مراعاةً للإختصار .

        قال دعبل :

 

 الا مالعينٍ بالدموع استهلّت  ولو نفدت ماء الشّؤون لقلّت  على من بكته الأرض واسترجعت له  رؤوس الجبال الشامخات وذلّت  وقد أعولت تبكي السماء لفقده  وأنجمها ناحت عليه وكلّت  فنحن عليه اليوم أجدر بالبكاء  لمرزئةٍ عزّت علينا وجلّت  رزينا رضيّ اللّه‏ سبط نبيّنا  فأخلفت الدنيا له وتولّت  تجلّت مصيبات الزمان ولا أرى  مصيبتنا بالمصطفين تجلّت(3)         ولدعبل أشعار كثيرة في رثاء الامام عليه‏السلام .

        وقال محمد بن حبيب الظّبّي :

 

 قبر بطوس به أقام امام  حتم إليه زيارة ولمام  قبر أقام به السلام وإذ غدا  تُهدى إليه تحيّة وسلام  قبر سنا أنواره تجلو العمى  وبتربه قد يدفع الأسقام  قبر إذا حلّ الوفود بربعه  رحلوا وحطّت عنهم الأثام

 
(1) البحار 71:388 ، ح 36 ، عن عيون الاخبار 2:71 ، ح 328 .
(2) راجع البحار 75:147 ، ح 1 ، باب 57 ، عن الامالي .
 (3) راجع المناقب 4:376 ، عنه العوالم 22:512 ، ح 3 ، والبحار 49:315، ح 1.
(524)

 

 

 وتزوّدوا أمن العقاب واُومنوا  من أن يحلّ عليهم الإعدام  قبر عليٌّ بن موسى حلّه  بثراه يزهو الحلّ والاحرام  من زاره في اللّه‏ عارف حقّه  فالمسّ منه على الجحيم حرام(1)         واعلم انّ ثواب زيارته عليه‏السلام لا يمكن احصاؤه ، وذكرنا في كتاب مفاتيح الجنان(2) روايات في هذا الباب ، وأشرنا في اوّل هذا الفصل إلى بعضها ، ولو لا البناء على الاختصار لذكرت الحكايات والكرامات التي ظهرت من مشهده المقدس ، لكن المقام لا يسع لاكثر من هذا .

* * *

 

 (1) عيون الأخبار 2:252 ، باب 65 ، عنه العوالم 22:517 ، ح 1 ، والبحار 49:319 ، ح 4 .
(2) راجع مفاتيح الجنان : 495 .
(525)

 

الباب الحادي عشر

في تاريخ امام العاكف والباد ، وحجة اللّه‏ على جميع العباد ، أبي جعفر محمد التقي الجواد صلوات اللّه‏ عليه وعلى آبائه وأولاده الأماجد

(526)

 

(527)

 

الفصل الاول

في ولادته واسمه ولقبه وكنيته ونسبه عليه‏السلام

        اعلم انّه وقع الخلاف في ولادته عليه‏السلام ، والأشهر بين العلماء والمشايخ انّه ولد في التاسع عشر من شهر رمضان المبارك ، أو الخامس عشر سنة (195 ه) في المدينة المشرفة ، وذكر ابن عيّاش انّ ولادته صادفت العاشر من شهر رجب ، وورد في دعاء الناحية المقدسة :

(1)

        « اللهم انّي أسألك بالمولودين في رجب محمد بن عليّ الثاني وابنه عليّ بن محمد المنتجب » ، وهذا الدعاء يؤيد قول ابن عياش .

        اسمه الشريف محمد ، وكنيته المشهورة أبو جعفر ، وألقابه التقي والجواد ، وقيل أيضا : المختار والمنتجب والمرتضى والقانع والعالم وغيرها ، وقال الشيخ الصدوق : سمّي محمد بن عليّ الثاني التقي لانّه اتقى اللّه‏ عزوجل ، فوقاه شرّ المأمون لمّا دخل عليه بالليل سكران ، فضربه بسيفه حتّى ظنّ انّه قد قتله فوقاه اللّه‏ شرّه

(2) .

        يقول المؤلف : سيأتي تفصيل هذه المعجزة إن شاء اللّه‏ تعالى .

        ووالدته امّ ولد اسمها سبيكة ، وسمّاها الامام الرضا عليه‏السلام خيزران ، وكانت من اهل النوبة ومن قبيلة مارية القبطية امّ ابراهيم بن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وكانت أفضل نساء زمانها وأشار إليها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بقوله : « بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيّبة »

(3) .

        وفي رواية يزيد بن سليط عندما لقى الامام موسى الكاظم عليه‏السلام في طريق مكة قال له : انّي أؤخذ في هذه السنة والأمر هو إلى ابني عليّ ، سمّي عليّ وعليّ ، فاما عليّ الاول فعليّ بن أبي طالب ، وامّا الآخر ، فعليّ بن الحسين عليهماالسلام ، أعطي فهم الأول وحلمه ونصره وودّه ودينه ومحنته ، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره وليس له ان يتكلّم الاّ بعد موت هارون بأربع سنين .

        ثم قال لي : يا يزيد ، وإذا مررت بهذا الموضع ولقيته وستلقاه فبشّره انّه سيولد له غلام أمين مأمون مبارك ، وسيعلمك انّك قد لقيتني فأخبره عند ذلك انّ الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهل بيت مارية جارية رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله امّ ابراهيم ، فان

 
(1) مفاتيح الجنان : 135 ، في أدعية شهر رجب .
(2) معاني الاخبار : 65 ، عنه البحار 50:16، ح 23 ، ومستدرك العوالم 23:27، ح 2 .
(3) الانوار البهية : 207 .
(528)

 

قدرت أن تبلّغها منّي السلام فافعل(1) .

        يقول المؤلف : يكفي في جلالة امّه عليه‏السلام انّ الامام موسى الكاظم عليه‏السلام يأمر يزيد بن سليط ان يبلّغ سلامه لها ، كما فعل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حينما أمر جابر بن عبد اللّه‏ الانصاري أن يبلّغ سلامه للامام الباقر عليه‏السلام .

        أمّا كيفية ولادته عليه‏السلام فكما رواها العلامة المجلسي في جلاء العيون انّه قال : روى ابن شهر آشوب بسند معتبر عن حكيمة بنت الامام موسى الكاظم عليه‏السلام انّها قالت : لما حضرت ولادة الخيزران امّ أبي جعفر عليه‏السلام دعاني الرضا عليه‏السلام فقال لي : يا حكيمة احضري ولادتها وادخلي وايّاها والقابلة بيتا .

        ووضع لنا مصباحا واغلق الباب علينا ، فلمّا أخذها الطلق طفى المصباح وبين يديها طست ، فاغتممت بطفى المصباح ، فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر عليه‏السلام في الطست ، وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتى أضاء البيت ، فأبصرناه فأخذته فوضعته في حجري ونزعت عنه ذلك الغشاء .

        فجاء الرضا عليه‏السلام ففتح الباب وقد فرغنا من أمره ، فأخذه فوضعه في المهد وقال لي : يا حكيمة الزمي مهده ، قالت : فلمّا كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثم نظر يمينه ويساره ، ثم قال : « أشهد أن لا إله الاّ اللّه‏ وأشهد انّ محمدا رسول اللّه‏ » .

        فقمت ذعرة فزعة ، فأتيت أبا الحسن عليه‏السلام فقلت له : لقد سمعت من هذا الصبي عجبا ، فقال: وما ذاك ؟ فأخبرته الخبر ، فقال : يا حكيمة ما ترون من عجائبه اكثر

(2) .

        وروي في عيون المعجزات بسند معتبر عن كلثم بن عمران انّه قال : قلت للرضا عليه‏السلام : أدع اللّه‏ ان يرزقك ولدا ، فقال : انّما أرزق ولدا واحدا وهو يرثني ، فلمّا ولد أبو جعفر عليه‏السلام قال الرضا عليه‏السلام لأصحابه :

        « قد ولد لي شبيه موسى بن عمران ، فالق البحار ، فيبكي له وعليه أهل السماء ، ويغضب اللّه‏ تعالى على عدوّه وظالمه ، فلا يلبث الاّ يسيرا حتى يعجّل اللّه‏ به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد ، وكان طول ليلته يناغيه في مهده

(3) .

        والمشهور انّه كان شديد الادمة وقيل أبيض معتدل ، وكان نقش خاتمه : « نعم القادر اللّه‏ »(4) وتسبيحه عليه‏السلام في اليوم الثاني والثالث عشر وهي :

        « سبحان من لا يعتدي على اهل مملكته ، سبحان من لا يؤاخذ أهل الأرض بألوان العذاب ، سبحان اللّه‏ وبحمده »(5) .

 
(1) الكافي 1:252 ، ح 14 ، عنه مستدرك العوالم 23:60 ، ح 1 .
(2) المناقب 4:394 ، عنه البحار 50:10 ، ح 10 .
(3) عيون المعجزات : 121 ، عنه البحار 50:15 ، ومستدرك العوالم 23:153 .
(4) الفصول المهمة : 262 .
(529)

 

        وروي في الدر النظيم انّ حكيمة قالت : ... لما كان اليوم الثالث عطس (الامام الجواد عليه‏السلام ) فقال : الحمد للّه‏ وصلى اللّه‏ على سيدنا محمد وعلى الائمة الراشدين(1) .

* * *

 

(1) دعوات الراوندي : 93 .
(2) الدر النظيم 2:211 ، الباب الحادي عشر ، فصل في ذكر مولد الجواد عليه‏السلام .
(530)

 

الفصل الثاني

في بيان فضائله ومناقبه عليه‏السلام

الاُولى : في دلائله الباهرة وذكر مجلس المأمون المنعقد لامتحانه :

        روى العلّامة المجلسي وغيره انّه : كان عمر الامام الجواد عليه‏السلام عند وفاة ابيه عليه‏السلام تسع سنين ، وقيل سبع سنين ، ولمّا استشهد أبوه كان في المدينة ، وشكّ بعض الشيعة في امامته لصغر سنّه ، حتى حجّ العلماء والأفاضل والأشراف وأماثل الشيعة من اطراف العالم ، ثم جاؤوا إلى الامام عليه‏السلام بعد اتمام مناسكهم ، فزالت شبهاتهم وشكوكهم بعد ما رأوا غزارة علمه ، وكثرة معاجزه وكراماته وأقرّوا بامامته .

        وفي رواية الشيخ الكليني وغيره انّه عليه‏السلام أجاب في مجلس واحد أو مجالس متوالية عن ثلاثين ألف مسألة غامضة

(1) .

        وأراد المأمون بعد أن أخذ الناس بلومه والطعن عليه لقتله الامام الرضا عليه‏السلام ، أراد أن يدفع تهمة الخطأ والجرم عنه ، فكتب بعد ما جاء من خراسان إلى بغداد يدعو الامام محمد التقي عليه‏السلام باعزازٍ وإكرام ، فلمّا وصل الامام إلى بغداد ، خرج المأمون يوما للصيد [ قبل أن يلقي الامام ] فاجتاز بطرف البلد ، وثَمّ صبيان يلعبون ومحمد الجواد عليه‏السلام واقف عندهم ، فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد عليه‏السلام وعمره إذ ذاك تسع سنين .

        فلمّا قرب منه الخليفة نظر إليه ، وكان اللّه‏ تعالى ألقى في قلبه مسحة قبول ، فقال له : يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك ؟ فقال له محمد الجواد عليه‏السلام مسرعا : يا أمير المؤمنين فرّ أصحابي خوفا ، والظنّ بك حسن انّه لا يفرّ منك من لا ذنب له ، ولم يكن بالطريق ضيق فانتهي عن أمير المؤمنين .

        فأعجب المأمون كلامه وحسن صورته ، فقال : ما اسمك يا غلام ؟ فقال : محمد بن عليّ الرضا ، فترحّم الخليفة على أبيه ، وساق جواده إلى ناحية وجهته ، وكان معه بزاة الصيد ، فلمّا بعد عن العمارة اخذ الخليفة بازيّا منها وأرسله على درّاجة ، فغاب البازي عنه قليلاً ، ثم عاد وفي منقاره سمكة صغيرة وبها بقايا من الحياة ، فتعجّب المأمون من ذلك غاية العجب .

        ثم انّه أخذ السمكة في يده وكرّ راجعا إلى داره ، وترك الصيد في ذلك اليوم وهو متفكر فيما صاده البازي من الجوّ ، فلمّا وصل موضع الصبيان وجدهم على حالهم ،

 

(1) راجع الكافي 1:496 ، ح 7 ، المناقب 4:384 ، البحار 50:86 .
(531)

 

ووجد محمّدا معهم فتفرّقوا على جاري عادتهم الاّ محمدا ، فلمّا دنا منه الخليفة قال : يا محمد ! قال : لبيك .

        قال : ما في يدي ؟ فأنطقه اللّه‏ تعالى بأن قال : انّ اللّه‏ تعالى خلق في بحر قدرته المستمسك في الجو ببديع حكمته سمكا صغارا تصيدها بزاة الخلفاء كي يختبر بها سلالة بيت المصطفى .

        فلمّا سمع المأمون كلامه تعجّب منه اكثر ، وجعل يطيل النظر فيه ، وقال : أنت ابن الرضا حقا ومن بيت المصطفى صدقا ، وأخذه معه وأحسن إليه وقرّبه وبالغ في اكرامه واجلاله وإعظامه

(1) .

        ثم عزم المأمون على أن يزوّج ابنته أم الفضل منه عليه‏السلام ، فلمّا علم بنو العباس الخبر كرهوا ذلك ، فاجتمعوا عند المأمون وقالوا : ننشدك اللّه‏ يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه ، فانّا نخاف أن تُخرِجَ به عنّا أمرا قد ملّكناه اللّه‏ ، وتنزع منّا عزّا قد ألبسناه اللّه‏ ، فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا ، وما كان عليه الخلفاء والراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم ، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا ما علمت حتى كفانا اللّه‏ المهمّ من ذلك ...

        فقال لهم المأمون : امّا ما بينكم وبين آل أبي طالب فآباؤكم سبب ذلك (ولو انّهم لم يغصبوا حقّهم لما وقعت عداوة بيننا وبينهم ، وهم أولى بالخلافة منّا) .

        فقالوا : انّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه فانّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدّب ويتفقّه في الدين ، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك ، فقال لهم : ويحكم انّي أعرف بهذا الفتى منكم ، وانّ هذا من اهل بيت علمهم من اللّه‏ وموادّه وإلهامه ، وصغيرهم وكبيرهم افضل من كلّ الخلق ، فان شئتم اجمعوا العلماء كي يمتحنوه .

        فاجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن اكثم ـ وهو قاضي الزمان ـ أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها ، فهيّأ المأمون مجلسا عظيما ، فاجتمع عنده يحيى بن أكثم وسائر العلماء والأشراف ، فأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر عليه‏السلام دست ، ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك .

        قال الشيخ المفيد : وخرج أبو جعفر عليه‏السلام وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر ، فجلس بين المسورتين ، وجلس يحيى بن اكثم بين يديه ، وقام الناس في مراتبهم ، والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر عليه‏السلام .

        فقال يحيى بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر ؟ فقال له المأمون : استأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيى بن أكثم ، فقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ قال له أبو جعفر عليه‏السلام : سل إن شئت ، قال يحيى : ما تقول جعلني اللّه‏ فداك في

 

(1) مستدرك العوالم 23:522 ، والبحار 50:56 .
(532)

 

مُحْرم قتل صيدا ؟

        فقال له أبو جعفر عليه‏السلام : قتله في حلّ أو حرم ؟ عالما كان المحرم أم جاهلاً ؟ قتله عمدا أو خطأ ؟ حرّا كان المحرم أم عبدا ؟ صغيرا كان أم كبيرا ؟ مبتدئا بالقتل أم معيدا ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ من صغار الصيد كان أم من كباره ؟ مصرّا على ما فعل أو نادما ؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهارا ؟ محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما ؟

        فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره ، فقال المأمون : الحمد للّه‏ على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟

        ثم أقبل على أبي جعفر فقال له : أتخطب يا أبا جعفر؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، فقال له المأمون : اخطب جعلت فداك لنفسك فقد رضيتك لنفسي ، وأنا مزوّجك ام الفضل ابنتي وإن رغم قوم لذلك .

        فقال أبو جعفر عليه‏السلام : الحمد للّه‏ إقرارا بنعمته ، ولا اله الاّ اللّه‏ اخلاصا لوحدانيّته ، وصلى اللّه‏ على محمّد سيّد بريّته ، والأصفياء من عترته ، أما بعد فقد كان مِن فضل اللّه‏ على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال سبحانه : « وَأنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللّه‏ُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّه‏ُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ »

(1) .

        ثم انّ محمد بن عليّ بن موسى يخطب امّ الفضل بنت عبد اللّه‏ المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وهو خمسمائة درهم جيادا ، فهل زوّجتني يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟

        قال المأمون : نعم قد زوّجتك يا أبا جعفر ابنتي على هذا الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ؟ فقال أبو جعفر عليه‏السلام : قد قبلت ذلك ورضيت به ...

(2) .

        ثم جاؤوا بالغالية فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة من تلك الغالية ، ثم مدّت إلى دار العامّة فطيّبوا منها ، ووضعت الموائد فأكل الناس وخرجت الجوائز إلى كلّ قوم على قدرهم ، فلمّا تفرّق الناس وبقي من الخاصة من بقي ، قال المأمون لأبي جعفر عليه‏السلام : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده .

        فبدأ الامام عليه‏السلام بتفصيل المسألة وأجاب عن كلّ فقرة منها ، فقال له المأمون : أحسنت يا أبا جعفر أحسن اللّه‏ اليك ، فان رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك ،

 

(1) النور : 32 .
(2) الارشاد : 319 ، عنه مستدرك العوالم 23:342 ، ح 1 .
(533)

 

فقال أبو جعفر عليه‏السلام ليحيى : أسألك ؟ قال : ذلك اليك جعلت فداك ، فإن عرفت جواب ما تسألني عنه والاّ استفدته منك .

        فقال له أبو جعفر عليه‏السلام : أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في اوّل النهار فكان نظره اليها حراما عليه ، فلمّا ارتفع النهار حلّت له ، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر حلّت له ، فلمّا غربت الشمس حرمت عليه ، فلمّا دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له ، فلمّا كان انتصاف الليل حرمت عليه ، فلمّا طلع الفجر حلّت له ، ما حال هذه المرأة ؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه ؟

        فقال له يحيى بن أكثم : واللّه‏ ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال ، ولا أعرف الوجه فيه ، فإن رأيت أن تفيدناه .

        فقال أبو جعفر عليه‏السلام : هذه أمة لرجل من الناس ، نظر اليها أجنبي في اوّل النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له ، فلمّا كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له ، فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه ، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له ، فلمّا كان في نصف الليل طلّقها واحدة فحرمت عليه ، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له .

        قال : فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته ، فقال لهم : هل فيكم أحد يجيب عن المسألة بمثل هذا الجواب ، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟

        فقالوا : لا واللّه‏ ، انّ أمير المؤمنين أعلم بما رأى ، فقال لهم : ويحكم ، انّ اهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل ، وانّ صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال

(1) .

        ثم ذكر المأمون نبذة من فضائلهم حتى تفرّق المجلس ، وأعطى المأمون في اليوم الثاني ايضا عطايا وجوائز كثيرة ، وأكرم الامام الجواد عليه‏السلام واحترمه كثيرا ، وكان يفضّله على أولاده وأقربائه حتى مات .

        يقول المؤلف : قسّم العلماء اليوم إلى إثنتي عشرة ساعة ، وجعلوا كلّ ساعة منها لإمام ، والساعة التاسعة تختصّ بالامام الجواد عليه‏السلام ، وقد اشير في دعاء هذه الساعة إلى سؤال المأمون للامام عمّا في يده ، وأيضا سؤال يحيى بن اكثم وجوابه عليه‏السلام ، وهذا الدعاء هو :

        « وبالامام الفاضل محمد بن عليّ عليه‏السلام الذي سُئل فوفّقته للجواب ، وامتُحِن فعضدته بالتوفيق والصواب ، صلى اللّه‏ عليه وعلى أهل بيته الأطهار » .

        والتوسّل به عليه‏السلام في هذه الساعة نافعة للسعة في الرزق ، ولا بأس بقراءة هذه

 

(1) الارشاد : 321 ـ 323 ، عنه مستدرك العوالم 23:345 ـ 347 ، البحار 50:59 .
(534)

 

الدعاء عند التوسل به عليه‏السلام :

        « اللهم انّي أسألك بحق وليك محمد بن عليّ عليه‏السلام الاّ جُدْتَ به عليّ من فضلك ، وتفضلت به عليّ من وسعك ، ووسّعت به عليّ من رزقك ، وأغنيتني عمّن سواك ، وجعلت حاجتي اليك ، وقضاها عليك ، انّك لما تشاء قدير »

(1) .

        وقيل انّ هذا الدعاء مجرّب لأداء الدين لو قُرء بعد كلّ فريضة .

الثانية : في أمره بالطواف للائمة عليهم‏السلام :

        روى الشيخ الكليني عن موسى بن القاسم انّه قال : قلت لأبي جعفر الثاني عليه‏السلام : قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك ، فقيل لي : انّ الأوصياء لا يُطاف عنهم ، فقال لي : بل طف ما أمكنك فانّ ذلك جائز .

        ثم قلت له بعد ذلك بثلاث سنين : انّي كنت استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك فأذنت لي في ذلك ، فطفت عنكما ما شاء اللّه‏ ، ثم وقع في قلبي شيء فعملت به ، قال : وما هو ؟ قلت : طفت يوما عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فقال ثلاث مرّات : صلى اللّه‏ على رسول اللّه‏ ، ثم اليوم الثاني عن أمير المؤمنين ، ثم طفت اليوم الثالث عن الحسن ، والرابع عن الحسين ، والخامس عن عليّ بن الحسين ، والسادس عن أبي جعفر محمد بن عليّ ، واليوم السابع عن جعفر بن محمد ، واليوم الثامن عن أبيك موسى ، واليوم التاسع عن أبيك عليّ ، واليوم العاشر عنك يا سيدي ، وهؤلاء الذين أدين اللّه‏ بولايتهم .

        فقال : إذن واللّه‏ تدين اللّه‏ بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره ، قلت : وربّما طفت عن امّك فاطمة وربّما لم أطف ، فقال : استكثر من هذا فانّه أفضل ما أنت عامله إن شاء اللّه‏

(2) .

الثالثة : في تفكّره فيما جرى على أمّه الزهراء عليهاالسلام :

        روي في دلائل الطبري عن محمد بن هارون بن موسى عن أبيه عن ابن الوليد عن البرقي عن زكريا بن آدم انّه قال : انّي لعند الرضا عليه‏السلام إذ جيء بأبي جعفر عليه‏السلام له وسنّه اقلّ من أربع سنين ، فضرب بيده إلى الارض ورفع رأسه إلى السماء وهو يفكّر .

        فقال له الرضا عليه‏السلام : بنفسي انت لِمَ طال فكرك ؟ فقال : فيما صُنع بامّي الزهراء ، أما واللّه‏ لأخرجنّهما ، ثم لأحرقنّهما ، ثم لأذرينّهما ، ثم لأنسفنّهما في اليم نسفا ، فاستدناه وقبّل بين عينيه ثم قال : بأبي أنت وامّي أنت لها ـ يعني الامامة ـ

(3) .

 

 
(1) مفاتيح الجنان : 111 .
(2) الكافي 4:314 ، ح 2 ، عنه البحار 50:101 ، ح 15 ، ومستدرك العوالم 23:585 ، ح 1 .
(3) دلائل الامامة : 212 ، عنه البحار 50:59 ، ضمن حديث 34 ، ومستدرك العوالم 23:78 ، ح 22 .
(535)

 

الرابعة : رواية الوسائل إلى المسائل :

        روى السيد ابن طاووس رضى‏الله‏عنه عن محمد بن الحارث النوفلي خادم الامام محمد التقي عليه‏السلام انّه قال : لمّا زوّج المأمون أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى الرضا عليهم‏السلام ابنته كتب إليه :

        انّ لكلّ زوجة صداقا من مال زوجها ، وقد جعل اللّه‏ اموالنا في الآخرة مؤجّلة مذخورة هناك ، كما جعل أموالكم معجّلة في الدنيا وكنزها ها هنا ، وقد أمهرت ابنتك « الوسائل إلى المسائل » .

        وهي مناجاة دفعها إليّ أبي ، قال : دفعها إليّ أبي موسى . قال : دفعها إليّ أبي (جعفر) ، قال : دفعها إليّ محمد أبي ، قال : دفعها إليّ عليّ بن الحسين أبي ، قال : دفعها إليّ الحسين أبي ، قال : دفعها إليّ الحسن أخي ، قال : دفعها إليّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه‏ عليه قال : دفعها إليّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، قال : دفعها إليّ جبرئيل عليه‏السلام قال :

        « يا محمد ربّ العزّة يقرئك السلام ويقول لك : هذه مفاتيح كنوز الدنيا والآخرة ، فاجعلها وسائلك إلى مسائلك ، تصل إلى بغيتك وتنجح في طلبتك ، فلا تؤثرها في حوائج الدنيا فتبخس بها الحظّ من آخرتك » .

        وهي عشرون وسائل تطرق بها أبواب الرغبات فتفتح ، وتُطلب بها الحاجات فتنجح ، وهذه نسختها : « بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، اللهم انّ خيرتك فيما استخرتك فيه تُنيل الرغائب ... الخ »

(1) .

        يقول المؤلف : قد ذكرت هذه العشرة من المناجات في كتاب (الباقيات الصالحات) فليرجع إلى هناك .

الخامسة : في إخباره عليه‏السلام بالغيّب :

        روى الطبري عن الشلمغاني انّه قال : حجّ اسحاق بن اسماعيل في السنة التي خرجت الجماعة إلى أبي جعفر عليه‏السلام ، قال اسحاق : فأعددت لي في رقعة عشر مسائل لأسأله عنها وكان لي حمل .

        فقلت : إذا أجابني عن مسائلي سألته أن يدعو اللّه‏ لي أن يجعله ذكرا ، فلمّا سأله الناس قمت والرقعة معي لأسأله عن مسائلي ، فلمّا نظر إليّ قال لي : يا أبا يعقوب سمّه أحمد ، فولد لي ذكر وسمّيته أحمد ، فعاش مدّة ومات .

 

(1) مهج الدعوات : 258 ، ادعية الامام الجواد عليه‏السلام ، والبحار 94:113 ـ 120 ، ح 17 ، ومستدرك العوالم 23:227 ـ 229 ، ح 1 .
(536)

 

        وكان ممّن خرج مع الجماعة عليّ بن حسّان الواسطي المعروف بالعمش ، قال : حملت معي إليه عليه‏السلام من الالة التي للصبيان بعضها من فضة ، وقلت : أتحف مولاي أبا جعفر عليه‏السلام بها ، فلمّا تفرّق الناس عنه بعد جواب الجميع ، قام فمضى فاتبعته فلقيت موفّقا (الخادم) ، فقلت :

        استأذن لي على أبي جعفر عليه‏السلام ، فدخلت وسلّمت فردّ عليّ السلام وفي وجهه الكراهة ولم يأمرني بالجلوس ، فدنوت منه وأفرغت ما كان في كمّي بين يديه ، فنظر إليّ نظر مغضب ، ثم رمى يمينا وشمالاً وقال : « ما لهذا خلقني اللّه‏ ، ما أنا واللعب ؟! » . فاستعفيته ، فعفى عنّي ، فأخذتها فخرجت

(1) .

السادسة : في الاشارة إلى قدرة اللّه‏ تعالى :

        نقل في مدينة المعاجز عن عيون المعجزات إنّ عمر بن فرج الرخجي قال : قلت لأبي جعفر عليه‏السلام : انّ شيعتك تدّعي انّك تعلم كلّ ماء في دجلة وزنه ؟ وكنّا على شاطئ دجلة . فقال عليه‏السلام لي : يقدر اللّه‏ تعالى أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضة من خلقه أم لا ؟ قلت : نعم يقدر ، فقال : أنا اكرم على اللّه‏ تعالى من بعوضة ومن اكثر خلقه

(2) .

السابعة : في اجابته عليه‏السلام على ثلاثين ألف مسألة :

        روى الشيخ الكليني وغيره عن عليّ بن ابراهيم عن أبيه انّه قال : استأذن على أبي جعفر عليه‏السلام قوم من اهل النواحي من الشيعة فأذن لهم ، فدخلوا فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب عليه‏السلام وله عشر سنين

(3) .

        يقول المؤلف : من الممكن انهم سألوه بشكل جماعي من دون مراعات اتمام أسئلة الآخرين ، وأجاب الامام عليه‏السلام عن اكثرها بـ (لا) ونعم ، ويحتمل انّ الامام بما انّه محيط بقلوبهم وضمائرهم كان يجيب عن أسئلتهم بمجرّد الشروع في السؤال كما روي انّ رجلاً جاء إليه عليه‏السلام فقال : يا سيدي جعلت فداك ، فقال عليه‏السلام : لا تقصّر . فسُئل عليه‏السلام عمّا قاله ؟ قال : فانّه قام يسألني عن الملاّح يقصّر في السفينة ؟ قلت : لا ...(4) .

        وذكر العلامة المجلسي رحمه‏الله وجوها أخر لرفع استبعاد هذا الحديث لم يسع المقام ذكرها ، واللّه‏ العالم(5) .

 

 
(1) دلائل الامامة : 212 ، عنه البحار 50:58 ، ح 34 ، ومستدرك العوالم 23:83 ، ح 6 .
(2) راجع عيون المعجزات : 127 ، عنه البحار 50:100 ، ومستدرك العوالم 23:308 ، ح 1 .
(3) الكافي 1:415 ، ح 7 ، باب مولد أبي جعفر الثاني عليه‏السلام .
(4) راجع مستدرك العوالم 23:89 ، ح 16 .
(5) راجع البحار 50:93 ـ 94 .
(537)

 

* * *

(538)

 

الفصل الثالث

في دلائله ومعجزاته عليه‏السلام

        ونكتفي بذكر نبذة منها :

        الاُولى : قال الشيخ المفيد وابن شهر آشوب وغيرهما انّه : لمّا توجّه أبو جعفر عليه‏السلام من بغداد منصرفا من عند المأمون ، ومعه ام الفضل قاصدا بها المدينة ، صار إلى شارع باب الكوفة ومعه الناس يشيعونه ، فانتهى إلى دار المسيب عند مغيب الشمس ، [ف] نزل ودخل المسجد ، وكان في صحنه نبقة لم تحمل بعد ، فدعا بكوز فيه ماء فتوضّأ في أصل النبقة .

        وقام عليه‏السلام وصلّى بالناس صلاة المغرب ، فقرأ في الأولى منها الحمد وإذا جاء نصر اللّه‏ ، وقرأ في الثانية الحمد وقل هو اللّه‏ احد ، وقنت قبل ركوعه فيها ، وصلّى الثالثة وتشهّد وسلّم ، ثم جلس هنيئة يذكر اللّه‏ جلّ اسمه وقام من غير أن يعقّب ، فصلّى النوافل اربع ركعات وعقّب تعقيبها وسجد سجدتي الشكر ثم خرج .

        فلما انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملاً حسنا ، فتعجبوا من ذلك واكلوا منه فوجدوا نبقا حلوا لا عجم له ، وودعوه ومضى من وقته إلى المدينة ، فلم يزل بها إلى أن أشخصه المعتصم في اوّل سنة خمس وعشرين ومائتين إلى بغداد ، فأقام بها حتى توفي في آخر ذي القعدة من هذه السنة ، فدفن في ظهر جدّه أبي الحسن موسى عليه‏السلام

(1) .

        نُقل عن الشيخ المفيد انّه قال : وقد اكلت من ثمرها وكان لاعجم له (أي لا نواة فيه)(2) .

        الثانية : روى القطب الراوندي عن محمد بن ميمون انّه كان مع الرضا عليه‏السلام بمكة قبل خروجه إلى خراسان ، قال : قلت له : انّي اُريد أن أتقدّم إلى المدينة فاكتب معي كتابا إلى أبيجعفر عليه‏السلام ، فتبسّم وكتب ، فصرت إلى المدينة وقد كان ذهب بصري ، فأخرج الخادم أبا جعفر عليه‏السلام الينا يحمله من المهد ، فناولته الكتاب .

        فقال لموفق الخادم : فضّه وانشره ، ففضّه ونشره بين يديه فنظر فيه ، ثم قال لي : يا محمد ما حال بصرك ؟ قلت : يا ابن رسول اللّه‏ اعتلّت عيناي فذهب بصري كما ترى ، فقال : أدن منّي فدنوت منه ، فمدّ يده فمسح بها على عيني ، فعاد إليّ بصري كأصحّ ما

 

(1) الارشاد : 323 ، عنه البحار 50:89 ، ح 4 ، ومستدرك العوالم 23:129 ، ح 1 .
(2) راجع المناقب 4:390 .
(539)

 

كان ، فقبّلت يده ورجله وانصرفت من عنده وأنا بصير(1) .

        الثالثة : وروي أيضا عن الحسين المكاري انّه قال : دخلت على أبي جعفر عليه‏السلام ببغداد وهو على ما كان من أمره ، فقلت في نفسي : هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبدا ، وانا أعرف مطعمه ، قال : فأطرق رأسه ثم رفعه وقد اصفرّ لونه ، فقال : يا حسين خبز شعير وملح جريش في حرم جدّي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أحبّ إليّ ممّا تراني فيه(2) .

        الرابعة : روي في كشف الغمة عن القاسم بن عبد الرحمن ـ وكان زيديّا ـ قال : خرجت إلى بغداد فبينا أنا بها إذ رأيت الناس يتعادون ويتشرّفون ويقفون ، فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : ابن الرضا ، ابن الرضا .

        فقلت : واللّه‏ لأنظرنّ إليه ، فطلع على بغل ـ أو بغلة ـ فقلت : لعن اللّه‏ اصحاب الامامة حيث يقولون انّ اللّه‏ افترض طاعة هذا ، فعدل إليّ وقال : يا قاسم بن عبد الرحمن : « ... أَبَشَرَا مِّنَّا وَاحِدَا نَّتَّبِعُهُ إنَّا إذا لَّفِى ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ »

(3) .

        فقلت في نفسي : ساحر واللّه‏ ، فعدل إليّ فقال : « ءَأُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ »(4) .

        قال : فانصرفت وقلت بالامامة ، وشهدت انّه حجة اللّه‏ على خلقه واعتقدت(5) .

        يقول المؤلف : هاتان الآيتان في سورة القمر ، ومعنى الأولى حسبما جاء في التفاسير ، ان قوم ثمود كذّبوا نبيّهم صالح عليه‏السلام وقالوا : أيمكن أن نتّبع بشرا مثلنا ليس له خدم ؟ فهذا الاستفهام استفهام انكاري ، أي نحن لا نتّبع شخصا وحيدا فريدا لا عشيرة له ولا فضل ولا مزيّة له علينا فلو تبعناه لوقعنا في هلاك عظيم .

        ومعنى الآية الثانية : ءألقي عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أفضل منه وأولى ، فهذا مما لا يكون بل هو كذّاب أشر متكبّر .

        الخامسة : روى الشيخ المفيد والطبرسي وغيرهما عن عليّ بن خالد انّه قال : كنت بالعسكر فبلغني انّ هناك رجلاً محبوسا اتي به من ناحية الشام مكبولاً ، وقالوا : انّه تنبّأ .

        قال : فأتيت وداريت البوابين حتى وصلت إليه ، فإذا رجل له فهم وعقل ، فقلت له : يا هذا ما قصتك ؟ فقال : انّي كنت رجلاً بالشام أعبد اللّه‏ تعالى في الموضع الذي يقال انّه نصب فيه رأس الحسين عليه‏السلام ، فبينا أنا ذات ليلة في موضعي مقبل على المحراب

 

(1) الخرائج 1:372 ، ح 1 ، عنه البحار 50:46 ، ح 20 ، ومستدرك العوالم 23:111 ، ح 1 .
(2) الخرائج 1:383 ، ح 11 ، عنه البحار 50:48 ، ح 25 ، ومستدرك العوالم 23:88 ، ح 14 .
(3) القمر : 24 .
(4) القمر : 25 .
(5) كشف الغمة 3:156 ، عنه البحار 50:64 ، ضمن حديث 40 ، ومستدرك العوالم 23:89 ، ح 15 .
(540)

 

اذكر اللّه‏ عزوجل إذ رأيت شخصا بين يدي ، فنظرت إليه ، فقال لي : قم . فقمت معه ، فمشى بي قليلاً فإذا أنا بمسجد الكوفة ، فقال لي : تعرف هذا المسجد ؟ فقلت : نعم هذا مسجد الكوفة .

        قال : فصلّى وصلّيت معه ثم انصرف وانصرفت معه ، فمشى بي قليلاً وإذا نحن بمسجد الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فسلّم على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وصلّى وصلّيت معه ، ثم خرج وخرجت ، فمشى قليلاً فإذا أنا بمكّة ، فطاف بالبيت وطفت معه ، ثم خرج فمشى قليلاً فإذا أنا بموضعي الذي كنت أعبد اللّه‏ فيه بالشام وغاب الشخص عن عيني .

        فبقيت متعجبا حولاً مما رأيت ، فلمّا كان في العام المقبل رأيت ذلك الشخص فاستبشرت به ودعاني فاجبته ، ففعل كما فعل في العام الماضي ، فلمّا أراد مفارقتي بالشام ، قلت له : سألتك بالحق الذي أقدرك على ما رأيت منك الاّ أخبرتني من أنت ؟

        فقال : أنا محمد بن عليّ بن موسى بن جعفر ، فحدّثت من كان يصير إليّ بخبره ، فرقى ذلك إلى محمد بن عبد الملك الزيات (وزير المعتصم) ، فبعث إليّ ، فأخذني وكبّلني في الحديد وحملني إلى العراق ، وحبست كما ترى وادُّعي عليّ المحال .

        فقلت له : فأرفع عنك قصة إلى محمد بن عبد الملك الزيّات ؟ فقال : إفعل ، فكتبت عنه قصته شرحت أمره فيها ورفعتها إلى محمد بن عبد الملك الزيات ، فوقّع في ظهرها : قل للذي أخرجك من الشام في ليلة إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى المدينة ، ومن المدينة إلى مكة ، وردّك من مكة إلى الشام ان يخرجك من حبسك هذا .

        قال عليّ بن خالد : فغمّني ذلك من أمره ورققت له وانصرفت محزونا عليه ، فلمّا كان من الغد باكرت الحبس لأعلمه الحال وآمره بالصبر والعزاء ، فوجدت الجند واصحاب الحرس وصاحب السجن وخلقا عظيما من الناس يهرعون .

        فسألت عن حالهم ، فقيل لي : المحمول من الشام المتنبّي افتقد البارحة من الحبس ، فلا ندري خسفت به الأرض أو اختطفه الطير ، وكان هذا الرجل أعني عليّ بن خالد زيديّا ، فقال بالامامة لما رأى ذلك ، وحسن اعتقاده

(1) .

        يقول المؤلف : قد رأى محمد بن عبدالملك الزيّات عقوبة اعماله السيئة في الدنيا كما قال المسعودي : وقد كان سخط المتوكّل على محمد بن عبد الملك الزيّات بعد خلافته باشهر ، فقبض امواله وجميع ما كان له ...

        وقد كان ابن الزيات اتخذ للمصادرين والمغضوب عليهم تنّورا من الحديد ، رؤوس مساميره إلى داخل قائمة مثل رؤوس المسال في ايام وزارته للمعتصم والواثق ، فكان يعذّب الناس فيه ، فأمر المتوكل بادخاله في ذلك التنور ، فقال محمد بن عبدالملك الزيات للموكّل به أن يأذن له في دواة وبطاقة يكتب فيها ما يريد ، فاستأذن

 

(1) الارشاد : 324 ، ومستدرك العوالم 23:140 ، ح 1 .
(541)

 

المتوكل في ذلك فأذن له فكتب :

 

 هي السبيل فمن يوم إلى يوم  كأنّه ما تُريك العين في النوم  لا تجزعنّ رويدا انّها دول  دنيا تنقّل من قوم إلى قوم

        قال : وتشاغل المتوكل في ذلك اليوم فلم تصل الرقعة إليه ، فلمّا كان الغد قرأها فأمر باخراجه فوجده ميتا

(1) .

        وقد ذكرنا في باب استشهاد الامام الرضا عليه‏السلام انّ المأمون حبس أبا الصلت ، فبقي في السجن سنة حتى ضاق عليه فتوسل بانوار محمد وآل محمد عليهم‏السلام ، فجاءه الامام الجواد عليه‏السلام إلى السجن قبل أن يتم دعاءه وأخرجه منه .

        السادسة : روى الشيخ الكشي عن محمد بن سنان انّه قال : شكوت إلى الرضا عليه‏السلام وجع العين ، فأخذ قرطاسا ، فكتب إلى أبي جعفر (الجواد) عليه‏السلام وهو أقلّ من نيتي ، فدفع الكتاب إلى الخادم ، وأمرني أن أذهب معه ، وقال : اكتم ، فأتيناه وخادم قد حمله ، قال : ففتح الخادم الكتاب بين يدي أبي جعفر عليه‏السلام .

        [ قال ] : فجعل أبو جعفر عليه‏السلام ينظر في الكتاب ويرفع رأسه إلى السماء ويقول : ناج ، ففعل ذلك مرارا ، فذهب كلّ وجع في عيني ، وأبصرت بصرا لا يبصره أحد .

        قال : فقلت لأبي جعفر عليه‏السلام : جعلك اللّه‏ شيخا على هذه الأمة ، كما جعل عيسى بن مريم شيخا على بني اسرائيل ، قال : ثم قلت له : يا شبيه صاحب فطرس ، قال : فانصرفت وقد أمرني الرضا عليه‏السلام ان اكتم ، فما زلت صحيح البصر حتى أذعت ما كان من أبي جعفر عليه‏السلام في أمر عيني ، فعاودني الوجع .

        قال : قلت لمحمد بن سنان : ما عنيت بقولك : يا شبيه صاحب فطرس ؟ فقال : انّ اللّه‏ غضب على ملك من الملائكة يدعى فطرس ، فدقّ جناحه ورمى به في جزيرة من جزائر البحر ، فلمّا ولد الحسين عليه‏السلام بعث اللّه‏ عزوجل جبرئيل إلى محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ليهنّئه بولادة الحسين عليه‏السلام .

        وكان جبرئيل صديقا لفطرس، فمرّ به وهو في الجزيرة مطروح، فخبّره بولادة الحسين عليه‏السلام وما أمر اللّه‏ به ، فقال له : هل لك أن أحملك على جناح من أجنحتي وأمضي بك إلى محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يشفع لك ؟ قال : فقال فطرس : نعم .

        فحمله على جناح من اجنحته حتى أتى به محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فبلّغه تهنئة ربّه تعالى ثم حدّثه بقصّة فطرس ، فقال محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لفطرس : امسح جناحك على مهد الحسين وتمسّح به ، ففعل ذلك فطرس ، فجبر اللّه‏ جناحه وردّه إلى منزله مع الملائكة

(2) .

        السابعة : روى الشيخ الكليني وغيره عن محمد بن أبي العلاء انّه قال : سمعت

 

(1) مروج الذهب 4:5 .
(2) اختيار معرفة الرجال 2:849 ، ح 1092 ، عنه البحار 50:66 ، ح 43 ، ومستدرك العوالم 23:113 ، ح 1 .
(542)

 

يحيى بن اكثم ـ قاضي سامراء ـ بعدما جهدت به وناظرته وحاورته وواصلته وسألته عن علوم آل محمد ، فقال : بينا أنا ذات يوم دخلت اطوف بقبر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فرأيت محمد بن عليّ الرضا عليه‏السلام يطوف به ، فناظرته في مسائل عندي ، فأخرجها إليّ .

        فقلت له : واللّه‏ انّي أريد أن أسألك مسألة وانّي واللّه‏ لأستحيي من ذلك ، فقال لي : أنا أخبرك قبل أن تسألني ، تسألني عن الامام ؟ فقلت : هو واللّه‏ هذا ، فقال : أنا هو ، فقلت : علامة . فكان في يده عصا ، فنطقت وقالت : انّ مولاي امام هذا الزمان وهو الحجّة

(1) .

        الثامنة : روى السيد ابن طاووس رحمه‏الله في مهج الدعوات عن أبي نصر الهمداني عن حكيمة بنت الامام محمد التقي عليه‏السلام انّها قالت :

        لمّا مات محمد بن عليّ الرضا عليه‏السلام ، أتيت زوجته أمّ عيسى بنت المأمون فعزّيتها ، فوجدتها شديدة الحزن والجزع عليه ، تقتل نفسها بالبكاء والعويل ، فخفت عليها أن تتصدّع مرارتها .

        فبينما نحن في حديثه وكرمه ووصف خلقه ، وما أعطاه اللّه‏ تعالى من الشرف والاخلاص ومنحه من العزّ والكرامة ، إذ قالت امّ عيسى : ألا اخبرك عنه بشيء عجيب وأمر جليل ، فوق الوصف والمقدار ؟

        قلت : وما ذاك ؟ قالت : كنت أغار عليه كثيرا واُراقبه أبدا ، وربّما يُسمعني الكلام فأشكو ذلك إلى أبي ، فيقول : يا بنيّة احتمليه ، فانّه بضعة من رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله . فبينما أنا جالسة ذات يوم إذ دخلت عليّ جارية ، فسلّمت [ عليّ ] فقلت : من أنت ؟ فقالت : أنا جارية من ولد عمّار بن ياسر ، وأنا زوجة أبي جعفر محمد بن عليّ الرضا عليه‏السلام ، زوجك .

        فدخلني من الغيرة ما لا أقدر على احتمال ذلك ، وهممت ان اخرج وأسيح في البلاد ، وكاد الشيطان [ أن ] يحملني على الاساءة اليها ، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها ، فلمّا خرجت من عندي المرأة ، نهضت ودخلت على أبي وأخبرته بالخبر ، وكان سكرانا لا يعقل ، فقال : يا غلام عليّ بالسيف . فأتي به ، فركب وقال :

        واللّه‏ لأقتلنّه ! فلمّا رأيت ذلك قلت : انّا للّه‏ وانّا إليه راجعون ، ما صنعت بنفسي وبزوجي ، وجعلت ألطم حرّ وجهي ؛ فدخل عليه والدي ، وما زال يضربه بالسيف حتى قطّعه ؛ ثم خرج من عنده ، وخرجت هاربة من خلفه ، فلم أرقد ليلتي .

        فلمّا ارتفع النهار أتيت أبي ، فقلت : أتدري ما صنعت البارحة ؟ قال : وما صنعت ؟ قلت : قتلت ابن الرضا عليه‏السلام ، فبرّق عينيه، وغشي عليه ، ثم أفاق بعد حين وقال : ويلك ما تقولين؟ قلت : نعم ـ واللّه‏ ـ يا أبت ، دخلت عليه ولم تزل تضربه

 

(1) الكافي 1:353 ، ح 9 ، عنه البحار 50:68 ، ح 46 ، ومستدرك العوالم 23:84 ، ح 7 .
(543)

 

بالسيف حتى قتلته ، فاضطرب من ذلك اضطرابا شديدا ، وقال : عليّ بياسر الخادم .

        فجاء ياسر فنظر إليه المأمون وقال : ويلك ما هذا الذي تقول هذه ابنتي ؟ قال : صدقت يا أمير المؤمنين ، فضرب بيده على صدره وخدّه ، وقال : انّا للّه‏ وانّا إليه راجعون ، هلكنا واللّه‏ وعطبنا ، وافتضحنا إلى آخر الأبد .

        ويلك يا ياسر ! فانظر ما الخبر والقصّة عنه عليه‏السلام ؟ وعجّل عليّ بالخبر ، فانّ نفسي تكاد أن تخرج الساعة . فخرج ياسر وأنا ألطم حرّ وجهي ، فما كان بأسرع من أن رجع ياسر ، فقال : البشرى يا أمير المؤمنين ، قال : لك البشرى ، فما عندك ؟

        قال ياسر : دخلت عليه ، فإذا هو جالس وعليه قميص ودوّاج وهو يستاك ؛ فسلّمت عليه وقلت : يا ابن رسول اللّه‏ ، أحبّ أن تهب لي قميصك هذا أصلّي فيه وأتبرّك به ، وانّما أردت أن أنظر إليه وإلى جسده هل به أثر السيف ؟

        [ قال : لا ، بل أكسوك خيرا من هذا . فقلت : يا ابن رسول اللّه‏ ، لا أريد غير هذا ، فخلعه وأنا أنظر إليه وإلى جسده هل به أثر السيف ؟ ] فواللّه‏ كانّه العاج الذي مسّته صُفرة ، ما به أثر .

        [ قال : ] فبكى المأمون طويلاً ، وقال : ما بقي مع هذا شيء ، انّ هذا لعبرة للأوّلين والآخرين ، وقال : يا ياسر ! امّا ركوبي إليه ، وأخذي السيف ، ودخولي عليه فانّي ذاكر له ، وخروجي عنه فلست أذكر شيئا غيره ، ولا أذكر أيضا انصرافي إلى مجلسي ، فكيف كان أمري وذهابي إليه ؟ لعنة اللّه‏ على هذه الابنة لعنا وبيلاً ، تقدّم اليها وقل لها : يقول لك ابوك : واللّه‏ لئن جئتني بعد هذا اليوم وشكوت [ منه ] ، أو خرجت بغير إذنه ، لأنتقمنّ له منك ، ثمّ سر إلى ابن الرضا ، وأبلغه عنّي السلام واحمل إليه عشرين ألف دينار ، وقدّم إليه الشّهريّ الذي ركبته البارحة ، ثمّ مر بعد ذلك الهاشميين ان يدخلوا عليه بالسلام ، ويسلّموا عليه .

        قال ياسر : فأمرت لهم بذلك ، ودخلت أنا أيضا معهم ، وسلّمت عليه وأبلغت التسليم ، ووضعت المال بين يديه ، وعرضت الشّهريّ عليه ، فنظر إليه ساعة ، ثم تبسّم ، فقال : يا ياسر ! هكذا كان العهد بيننا ، [ وبين أبي ] وبينه حتّى يهجم عليّ بالسيف ، أما علم انّ لي ناصرا وحاجزا يحجز بيني وبينه ؟

        فقلت : يا سيّدي ، يا ابن رسول اللّه‏ (دع عنك هذا العتاب واصفح ، واللّه‏ وحق جدّك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ) ما كان يعقل شيئا من أمره ، وما علم أين هو من أرض اللّه‏ ؟ وقد نذر للّه‏ نذرا صادقا ، وحلف أن لا يسكر بعد ذلك أبدا ، فانّ ذلك من حبائل الشيطان ، فإذا أنت يا ابن رسول اللّه‏ أتيته فلا تذكر له شيئا ، ولا تعاتبه على ما كان منه . فقال عليه‏السلام : هكذا كان عزمي ورأيي واللّه‏ .

        ثمّ دعا بثيابه ، ولبس ونهض ، وقام معه الناس اجمعون حتّى دخل على المأمون ، فلمّا رآه قام إليه وضمّه إلى صدره ، ورحّب به ، ولم يأذن لأحد في الدخول

(544)

 

عليه ، ولم يزل يحدّثه ويسامره . فلمّا انقضى ذلك ، قال له أبو جعفر محمد بن عليّ الرضا عليه‏السلام : يا أمير المؤمنين . قال : لبيك وسعديك ، قال : لك عندي نصيحة فاقبلها . قال المأمون : بالحمد والشكر ، ما ذاك يا ابن رسول اللّه‏ ؟

        قال : أحبّ لك أن لا تخرج بالليل ، فانّي لا آمن عليك من هذا الخلق المنكوس ، وعندي عقد تحصّن به نفسك ، وتحترز به من الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات ، كما أنقذني اللّه‏ منك البارحة ؛ ولو لقيتَ به جيوش الرّوم والترك ، واجتمع عليك وعلى غلبتك أهل الأرض جميعا ما تهيأ لهم منك شرّ باذن اللّه‏ الجبار ، وان أحببت بعثت به اليك لتحترز به من جميع ما ذكرت لك .

        قال : نعم ، فاكتب ذلك بخطّك وابعثه إليّ ، قال : نعم . قال ياسر : فلمّا أصبح أبو جعفر عليه‏السلام بعث إليّ فدعاني ، فلمّا صرت إليه وجلست بين يديه، دعا برقّ ظبي من أرض تهامة ، ثم كتب بخطّه هذا العقد ؛ ثم قال : يا ياسر ، احمل هذا إلى أمير المؤمنين وقل له : حتّى يصاغ له قصبة من فضّة منقوش عليها ما أذكره بعده .

        فإذا أراد شدّه على عضده ، فليشدّه على عضده الايمن ، وليتوضّأ وضوءً حسنا سابغا ، وليصلّ أربع ركعات يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة ، وسبع مرّات آية الكرسي ، وسبع مرّات « شهد اللّه‏ » ، وسبع مرّات « والشمس وضحاها » ، وسبع مرّات « والليل إذا يغشى » ، وسبع مرّات « قل هو اللّه‏ أحد » .

        فإذا فرغ منها فليشدّه على عضده الأيمن عند الشدائد والنوائب ، يسلم بحول اللّه‏ وقوّته من كلّ شيء يخافه ويحذره ، وينبغي أن لايكون طلوع القمر في برج العقرب ، ولو انّه غزا أهل الروم وملكهم ، لغلبهم باذن اللّه‏ وبركة هذا الحرز .

        وروي : انّه لمّا سمع المأمون من أبي جعفر عليه‏السلام في أمر هذا الحرز هذه الصفات كلّها ، غزا أهل الرّوم فنصره اللّه‏ تعالى عليهم ، ومنح منهم من المغنم ما شاء اللّه‏ ، ولم يفارق هذا الحرز عند كلّ غزاة ومحاربة ، وكان ينصره اللّه‏ عزوّجل بفضله ، ويرزقه الفتح بمشيّته ، انّه وليّ ذلك بحوله وقوّته .

الحرز :

        بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، الحمد للّه‏ ربّ العالمين ـ إلى آخرها ـ

(1) .

        إلى آخر الحرز المعروف بحرز الجواد عليه‏السلام ، وهو معروف عند الشيعة ولا يسع المقام ذكره .

        قال العلامة الطباطبائي بحر العلوم في الدرة :

 

(1) مهج الدعوات : 36 ، عنه مستدرك العوالم 23:239 ، ح 1 .
(545)

 

 

 وجاز في الفضة ما كان وعآء  لمثل تعويذٍ وحرز ودعاء  فقد أتى فيه صحيح من خبر  عاضده حرز الجواد المشتهر

        التاسعة : روى أبو جعفر الطبري عن ابراهيم بن سعيد انّه قال : رأيت محمد بن عليّ عليهماالسلام يضرب بيده إلى ورق الزيتون فيصير في كفّه ورقا (أوراق نقدية) فأخذت منه كثير وأنفقته في الأسواق فلم يتغيّر

(1) .

        العاشرة : وروى أيضا عن عمارة بن زيد انّه قال : رأيت محمد بن عليّ عليهماالسلام فقلت له : يا ابن رسول اللّه‏ ، ما علامة الامام ؟ قال : إذا فعل هكذا ، ووضع يده على صخرة فبان أصابعه فيها ، ورأيته يمدّ الحديدة بغير نار ، ويطبع على الحجارة بخاتمه(2) .

        الحادية عشرة : روى ابن شهر آشوب وغيره عن محمد بن الريان انّه قال : احتال المأمون على أبي جعفر عليه‏السلام بكلّ حيلة فلم يمكنه فيه شيء ، فلمّا أراد أن يثني عليه ابنته دفع إلى مائة وصيفة من أجمل ما يكون إلى كلّ واحدة منهنّ جاما فيه جوهر يستقبلون أبا جعفر عليه‏السلام اذا قعد في موضع الأختان ، فلم يلتفت اليهنّ .

        وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب ، طويل اللحية ، فدعاه المأمون فقال : يا أمير المؤمنين ان كان في شيء من امر الدنيا فانا اكفيك امره .

        فقعد بين يدي أبي جعفر عليه‏السلام فشهق مخارق شهقة اجتمع إليه أهل الدار ، وجعل يضرب بعوده ويغني ، فلمّا فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه ولا يمينا ولا شمالاً ، ثم رفع رأسه وقال : « اتقّ اللّه‏ يا ذا العثنون » . قال : فسقط المضراب من يده والعود ، فلم ينتفع بيده إلى ان مات

(3) .

        فسأله المأمون عن سبب ذلك ، فقال : لمّا صاح بي أبو جعفر فزعت فزعا شديدا لا صحّة لي بعده .

        الثانية عشرة : روى القطب الراوندي ان ّ المعتصم دعا بجماعة من وزرائه ، فقال : اشهدوا لي على محمد بن عليّ بن موسى عليهم‏السلام زورا ، واكتبوا انّه أراد أن يخرج ، ثم دعاه فقال : انّك اردت أن تخرج عليّ ؟

        فقال : واللّه‏ ما فعلت شيئا من ذلك ، قال : انّ فلانا وفلانا شهدوا عليك ، واحضروا فقالوا : نعم هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك ، قال : وكان جالسا في بهو فرفع أبو جعفر عليه‏السلام يده ، فقال : اللهم ان كانوا كذبوا عليّ فخذهم ، قال : فنظرنا إلى ذلك البهو كيف يزحف ويذهب ويجيء ، وكلّما قام واحد وقع .

 
(1) دلائل الامامة : 210 ، عنه مستدرك العوالم 23:131 ، ح 1 .
(2) دلائل الامامة : 211 ، عنه مستدرك العوالم 23:134 ، ح 1 .
(3) المناقب 4:396 .
(546)

 

        فقال المعتصم : يا ابن رسول اللّه‏ انّي تائب ممّا فعلت فادع ربّك أن يسكّنه ، فقال : اللهم سكّنه ، وانّك تعلم انّهم أعداؤك وأعدائي ، فسكن

(1) .

        الثالثة عشرة : وروي أيضا عن اسماعيل بن العباس الهاشمي انّه قال : جئت إلى أبي جعفر عليه‏السلام يوم عيد ، فشكوت إليه ضيق المعاش ، فرفع المصلّى وأخذ من التراب سبيكة من ذهب فأعطانيها ، فخرجت بها إلى السوق ، فكان فيها ستة عشر مثقالاً من ذهب(2) .

        الرابعة عشرة : روى الشيخ الكشي عن احمد بن عليّ بن كلثوم السرخسي انّه قال : رأيت رجلاً من أصحابنا يعرف بأبي زينبة ، فسألني عن أحكم بن بشار المروزي ، وسألني عن قصته وعن الأثر الذي في حلقه ؟ وقد كنت رأيت في بعض حلقه شبه الخطّ ، كأنّه أثر الذبح فقلت له : سألته مرارا فلم يخبرني .

        قال : فقال : كنّا سبعة نفر في حجرة واحدة ببغداد في زمان أبي جعفر الثاني عليه‏السلام ، فغاب عنّا احكم من عند العصر ولم يرجع في تلك الليلة ، فلمّا كان جوف الليل جاءنا توقيع من أبي جعفر عليه‏السلام : انّ صاحبكم الخراساني مذبوح مطروح في لبد في مزبلة كذا وكذا ، فاذهبوا وداووه بكذا وكذا .

        فذهبنا فوجدناه مذبوحا مطروحا كما قال ؛ فحملناه وداويناه بما أمرنا به فبرأ ، قال أحمد بن عليّ : كان من قصته انّه تمتع ببغداد في دار قوم ، فعلموا به فأخذوه وذبحوه ، وأدرجوه في لبد وطرحوه في مزبلة

(3) .

* * *

 

(1) الخرائج 2:670 ، ح 18 ، عنه البحار 50:45 ، ح 18 .
(2) الخرائج 1:383 ، ح 12 ، عنه البحار 50:49 ، ح 26 ، ومستدرك العوالم 23:134 ، ح 1 .
(3) اختيار معرفة الرجال 2:839 ، ح 1077 ، عنه البحار 50:64 ، ح 41 ، ومستدرك العوالم 23:90 ، ح 1 .
(547)

 

الفصل الرابع

في استشهاد الامام الجواد عليه‏السلام

        لا يخفى انّ المأمون لمّا استدعى الامام الجواد عليه‏السلام بعد وفاة أبيه إلى بغداد وزوّجه ابنته ، مكث الامام ببغداد مدّة ، فضاق صدره من سوء معاشرة المأمون ، فاستأذنه في الذهاب إلى الحج ، وتوجّه إلى حج بيت اللّه‏ الحرام ، ومن هناك عاد إلى مدينة جدّه ، وبقي هناك إلى أن مات المأمون ، واغتصب الخلافة بعده أخوه المعتصم ، وكان ذلك في السابع عشر من شهر رجب سنة (218 ه) .

        فلّما استوى المعتصم على الملك ، وسمع فضائل ومناقب الامام الجواد عليه‏السلام ، وبلغه غزارة علمه اضطرمت نار الحسد في قلبه وصمّم على القضاء على الامام ، فاستدعاه إلى بغداد فلمّا توجه الامام إلى بغداد جعل وصيّه وخليفته ابنه عليّ النقي عليه‏السلام ، ونصّ على امامته عند كبار الشيعة وثقات الأصحاب ، و سلّم إليه كتب العلوم الالهية والاسلحة التي كانت للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وسائر الأنبياء عليهم‏السلام .

        ثم ودّع الامام اهله وولده ، وترك حرم جدّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وذهب إلى بغداد بقلب حزين ، ودخلها يوم الثامن والعشرين من شهر محرم سنة (220 ه) ، وقتله المعتصم في أواخر هذه السنة بالسمّ.

        وامّا كيفية شهادته عليه‏السلام فقد وقع الخلاف فيها لكنّ الأشهر انّ زوجته أم الفضل بنت المأمون سمّته بعد تحريض عمّها المعتصم ، لأنّها كانت تضمر العداء والبغض للامام لميله عليه‏السلام إلى الجواري دونها ، وكان يرجّح أمّ الامام علي النقي عليه‏السلام عليها ، فكانت دائمة الشكاية منه عند أبيها وهو لايستمع اليها ، وقد عزم بعد ان قتل الامام الرضا عليه‏السلام على ترك أذى أهل بيت الرسالة عليهم‏السلام ، وعدم التعرض لهم للحفاظ على الملك .

        وقد جاءت ام الفضل إلى المأمون يوماً تشكو الإمام الجواد عليه‏السلام ، وانه تزوج امرأة من أولاد عمّار بن ياسر ، وكان المأمون آنذاك سكران لايعقل ، فغضب و أخذ السيف وجاء إلى بيت الامام وبدأ يضربه بالسيف حتى ظنّ الحاضرون انّ المأمون قد قطّعه اِرباً اِربا ، فلمّا أصبحوا رأوا الامام سالماً ليس عليه اثر للجراح ، كما فصلناه في الفصل الثالث .

        نُقل عن كتاب عيون المعجزات انّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر عليه‏السلام ، وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر عليه‏السلام وشدّة غيرتها عليه ... فأجابته إلى ذلك وجعلت سمّاً في عنب رازقي

(548)

 

ووضعته بين يديه . فلّما أكل منه ندمت وجعلت تبكي ، فقال : ما بكاؤك ؟ واللّه‏ ليضربنّك اللّه‏ بفقر لاينجبر وبلاء لاينستر .

        فماتت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها ، صارت ناسوراً ، فأنفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة حتى احتاجت إلى الإسترفاد ، وروي انّ الناسور كان في فرجها

(1) .

        وروى المسعودي في اثبات الوصية مايقرب من هذا الاّ انّه ذكر انّ المعتصم وجعفر بن المأمون حرّضا أمّ الفضل على قتل الامام عليه‏السلام ، وتردّى جعفر في بئر ـ وكان سكراناً ـ فأُخرج ميّتاً (2) .

        قال العلاّمة المجلسي رحمه‏الله في جلاء العيون : لما بويع المعتصم جعل يتفقّد أحواله عليه‏السلام ، فكتب إلى عبد الملك الزيات [ والي المدينة ] أن ينفذ إليه التقي عليه‏السلام وأمّ الفضل ، فانفذ الزيات عليّ بن يقطين إليه فتجهّز وخرج إلى بغداد ، فأكرمه وعظّمه وأنفذ أشناس [ خادمه ] بالتحف اليه وإلى أم الفضل .

        ثم أنفذ إليه شراب حمّاض الاترج تحت ختمه على يدي أشناس ، فقال : انّ أمير المؤمنين ذاقه قبل أحمد بن أبي داوُد وسعيد بن الخضيب وجماعة من المعروفين ويأمرك أن تشرب منه بماء الثلج ، وصنع في الحال ، فقال : أشربه بالليل ، قال : انّه ينفع بارداً وقد ذاب الثلج ، وأصرّ على ذلك [ بعد ان امتنع الامام من شربه في بداية الأمر [ فشربه عليه‏السلام عالماً بفعلهم

(3) .

        روى الشيخ العياشي عن زرقان صاحب ابن أبي داوُد وصديقه بشدّة انّه قال : رجع ابن أبي داوُد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ ، فقلت له في ذلك ، فقال : وددت اليوم انّي قد متّ منذ عشرين سنة ، قال : قلت له : ولِمَ ذاك ؟

        قال : لِما كان من هذا الأسود ! أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين المعتصم ، قال : قلت له : وكيف كان ذلك ؟ قال : انّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة ، وسأل الخليفة تطهيره باقامة الحدّ عليه ، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن عليّ ، فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب ان يقطع ؟ قال : فقلت : من الكرسوع .

        قال : وما الحجة في ذلك ؟ قال : قلت : لأن اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع ، لقول اللّه‏ في التيمم : « ... فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... »

(4) واتفق معي

 
(1) عيون المعجزات : 132 ، عنه البحار 50:17 ، ضمن حديث 26 .
(2) إثبات الوصية : 192 ، عنه مستدرك العوالم 23:602 ، ح 3 .
(3) المناقب 4:384 ، عنه البحار 50:8 ، ح 9 ، ومستدرك العوالم 23:603 ، ح 7 .
(4) المائدة : 6 .
(549)

 

على ذلك قوم .

        وقال آخرون : بل يجب القطع من المرفق ، قال : وما الدليل على ذلك ؟ قالوا : لأنّ اللّه‏ لمّا قال : « ... وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ ... »

(1) في الغسل دلّ ذلك على أنّ حدّ اليد هو المرفق .

        قال : فالتفت إلى محمّد بن عليّ عليه‏السلام ، فقال : ماتقول في هذا يا أبا جعفر ؟ فقال : قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين ، قال : دعني ممّا تكلّموا به ، أيّ شيء عندك ؟ قال : اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين ، قال : أقسمت عليك باللّه‏ لما أخبرت بما عندك فيه .

        فقال : امّا إذا أقسمت عليّ باللّه‏ انّي أقول : انّهم أخطأوا فيه السنّة ، فانّ القطع يجب ان يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف، قال : وما الحجة في ذلك؟ قال : قول رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين » فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال اللّه‏ تبارك وتعالى : « وَأنَّ الْمَسَاجِدَ للّه‏ِ ... »

(2) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها : « ... فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللّه‏ِ أَحَداً »(3) وما كان للّه‏ لم يقطع .

        قال : فأعجب المعتصم ذلك ، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الاصابع دون الكف ، قال ابن أبي داوُد : قامت قيامتي و تمنّيت انّي لم أك حيّاً .

        قال زرقان : إنّ ابن أبي داوُد قال : صرت إلى المعتصم بعد ثالثة ، فقلت : انّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة ، وانا اكلّمه بما أعلم انّي أدخل به النار ، قال : وما هو ؟

        قلت : إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أُمور الدين ، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك ، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ، ثم يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه الامة بامامته ، ويدّعون إنّه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء ؟!

        قال : فتغيّر لونه وانتبه لما نبّهته له وقال : جزاك اللّه‏ عن نصيحتك خيراً ، قال : فأمر يوم الرابع (فلاناً) من كتّاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله فدعاه ، فأبى أن يجيبه و قال : قد علمت اني لا أحضر مجالسكم ، فقال : انّي انّما أدعوك إلى الطعام ، وأحبّ أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك فقد أحبّ (فلان بن فلان) من وزراء الخليفة لقاءك .

        فصار إليه ، فلمّا طعم منه أحس السمّ ، فدعا بدابّته فسأله ربّ المنزل أن يقيم ،

 
(1) المائدة : 6 .
(2) الجن : 18 .
(3) الجن : 18 .
(550)

 

قال : خروجي من دارك خير لك ، فلم يزل يومه ذلك وليله في خِلقة حتى قبض عليه‏السلام (1) .

        ثم غُسّل وكُفّن ودفن عليه‏السلام في مقابر قريش خلف رأس جده الامام موسى عليه‏السلام ، وصلى عليه ظاهراً الواثق باللّه‏ ولكنّ الحقيقة هي ان الامام عليّ النقي عليه‏السلام جاء من المدينة بطيّ الأرض ، وتولّى أمر تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه .

        وروي في كتاب بصائر الدرجات عن رجل كان رضيع أبي جعفر عليه‏السلام قال : بينا أبو الحسن الهادي عليه‏السلام جالس مع مؤدّب له يكنى أبا زكريا وأبو جعفر عليه‏السلام عندنا انّه ببغداد وأبو الحسن يقرأ من اللوح إلى مؤدّبه إذ بكى بكاءً شديداً ، سأله المؤدب مابكاؤك ؟ فلم يجبه .

        فقال : إئذن لي بالدخول ، فاذن له ، فارتفع الصياح والبكاء من منزله ، ثم خرج الينا فسألنا عن البكاء ، فقال : انّ أبي قد توّفي الساعة ، فقلنا : بما علمت ؟ قال : فادخلني من اجلال اللّه‏ ما لم أكن أعرفه قبل ذلك ،فعلمت انّه قد مضى ، فتعرّفنا ذلك الوقت من اليوم والشهر فاذا هو قد مضى في ذلك الوقت

(2) .

        ووقع الخلاف في تاريخ استشهاد الامام الجواد عليه‏السلام والأشهر انّه استشهد في آخر شهر ذي القعدة سنة (220 ه) ، وقيل في اليوم السادس من ذي الحجة ، وكان هذا بعد سنتين ونصف من موت المأمون ، كما قال الامام نفسه : الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً (3) .

        وعدّ المسعودي (4) وفاته في الخامس من شهر ذي الحجة سنة (219 ه) ، وعمره الشريف آنذاك خمس وعشرون سنة وأشهر .

* * *

 

(1) تفسير العياشي 1:319، ح 109 ، عنه البحار 50:5 ، والعوالم 23:532 ، ح 1 .
(2) بصائر الدرجات 9:487 ، باب 21 ، ح 2 ، عنه البحار 50:2 ، ح 3 .
(3) البحار 50:64 ، عن كشف الغمة 3:215 .
(4) راجع مروج الذهب 3:464 .
(551)

 

الباب الثاني عشر

في تاريخ الامام العاشر والبدر الباهر

أبي الحسن الثالث مولانا الهادي

الامام عليّ النقي صلوات اللّه‏ عليه

(552)

 

(553)

 

الفصل الأوّل

في تاريخ ولادته واسمه وكنيته

        الأشهر في ولادته عليه‏السلام انّها كانت في النصف من ذي الحجة سنة (212 ه) ، قرب المدينة في موضع يقال له (صريا) ، وعلى رواية ابن عيّاش انّ ولادته كانت في الثاني أو الخامس من رجب

(1) .

        ووالدته الماجدة سمانة المغربيّة المعروفة بالسيدة ، وفي جنات الخلود : انّها كانت دائمة الصوم ولا مثيل لها في الزهد والتقوى .

        وفي الدرّ النظيم : امّه ... تكنّى أم الفضل .. وروى محمد بن الفَرْخ وعليّ بن مهزيار عن السيد عليه‏السلام انّه قال : أمّي عارفة بحقّي ، وهي من أهل الجنة لايقربها شيطان مارد ، ولا ينالها كيد جبّار عنيد ، وهي مكلوة بعين اللّه‏ التي لاتنام ، ولا تخلف عن أمهات الصديقين والصالحين

(2) .

        اسمه الشريف عليّ ، وكنيته أبو الحسن ، وبما ان كنية الامامين موسى الكاظم والرضا عليهماالسلام أبا الحسن أيضا فلذا يقال لهذا الامام أبو الحسن الثالث ، كما يقال للامام الرضا أبو الحسن الثاني ، وربما قيل مكان الثالث الماضي أو الهادي أو العسكري ، كما هو المتداول عند أهل الحديث وهم يعلمون به .

        وأشهر ألقابه النقي والهادي ، وربما قيل له النجيب والمرتضى والعالم والفقيه والناصح والأمين والمؤتمن والطيّب والمتوكل ، لكنّه عليه‏السلام كان يخفي هذا اللقب الأخير ويأمر أصحابه بالإعراض عنه ، لكونه لقب الخليفة المتوكل على اللّه‏ في ذلك الزمان .

        ولكونه عليه‏السلام سكن سرّ من رأى مع ابنه في محلّة تسمى بالعسكر لُقِّب هو وابنه بالعسكري ، وقيل في شمائله انّه كان : ربع القامة ، وسيع الحاجبين ، له وجه حسن يميل إلى الحمرة والبياض .

        ونقش خاتمه « اللّه‏ ربي وهو عصمتي من خلقه »

(3) وله خاتم آخر نقشه « حفظ العهود من أخلاق المعبود »(4) .

 

 
(1) مصباح المتهجد : 741 .
(2) الدر النظيم 2:216 و 217 ، الباب الثاني عشر فصل في ذكر مولد الهادي عليه‏السلام .
(3) الفصول المهمة : 274 .
(4) بحار الانوار 50:117 ، عن مصباح الكفعمي .