(554)
روى
السيد ابن طاووس عن عبد العظيم الحسني أنّ أبا جعفر محمد بن عليّ الرضا
عليهماالسلام كتب هذه العوذة لابنه أبي الحسن عليّ بن محمد عليهماالسلام وهو صبيّ
في المهد ، وكان يعوّذه بها ويأمر أصحابه به ، الحرز :
«
بسم اللّه الرحمن الرحيم ، لا حول ولا قوة الا باللّه العليّ العظيم ، اللهم ربّ
الملائكة والروح والنبيين والمرسلين ... الخ »
(1) .
وقد
ذُكرت بأكملها في مهج الدعوات، وكان تسبيحه عليهالسلام : « سبحان من هو دائم
لايسهو، سبحان من هو قائم لايلهو ، سبحان من هو غني لايفتقر ، سبحان اللّه وبحمده
»(2) .
* * *
(1) مهج
الدعوات : 43 ، باب حزر عليّ بن محمد النقي عليهالسلام .
(2) دعوات
الراوندي : 94 .
(555)
الفصل الثاني
في فضائله ومناقبه ومكارم أخلاقه عليهالسلام
ونكتفي
من ذلك بعدة روايات :
الاُولى
: روى الشيخ الطوسي عن كافور الخادم انّه قال : قال لي الامام عليّ بن محمد
عليهماالسلام : اترك لي السطل الفلاني في الموضع الفلاني لأتطهّر منه للصلاة ،
وأنفذني في حاجة وقال : إذا عدت فافعل ذلك ليكون معدّاً إذا تأهبّت للصلاة ،
واستلقى عليهالسلام لينام و أنسيت ماقال لي ، وكانت ليلة باردة ، فحسست به وقد
قام إلى الصلاة وذكرت أنّني لم أترك السطل .
فبعدت
عن الموضع خوفاً من لومه ، وتألّمت له حيث يشقى بطلب الاناء ، فناداني نداء مغضب ،
فقلت : إنّا للّه أيش عذري أن أقول نسيت مثل هذا ولم أجد بدّاً من إجابته ، فجئت
مرعوباً ، فقال : يا ويلك اما عرفت رسمي أنّني لا أتطهّر الاّ بماء بارد فسخنت لي
ماء فتركته في السطل ؟ فقلت : واللّه ياسيدي ماتركت السطل ولا الماء ، قال :
الحمد للّه واللّه لاتركنا رخصة ولا رددنا منحة ، الحمد للّه الذي جعلنا من أهل
طاعته ، ووفّقنا للعون على عبادته ، انّ النبي صلىاللهعليهوآله يقول : انّ
اللّه يغضب على من لايقبل رخصة
(1) .
الثانية
: وروى الشيخ أيضا انّه قيل للمتوكل : مايعمل أحدٌ بك أكثر ممّا تعمله بنفسك في
عليّ بن محمد ، فلا يبقى في الدار الاّ من يخدمه ولا يتعبونه بشيل ستر، ولا فتح
باب ولا شيء ، وهذا إذا علمه الناس قالوا : لو لم يعلم استحقاقه للأمر مافعل به
هذا ، دعه إذا دخل يشيل الستر لنفسه ويمشي كما يمشي غيره ، فتمسّه بعض الجفوة ،
فتقدم أن لايُخدم ولا يُشال بين يديه ستر ، وكان المتوكل ما رُئي أحد ممن يهتمّ
بالخبر مثله .
قال
: فكتب صاحب الخبر إليه : انّ عليّ بن محمد دخل الدار ، فلم يُخدم ولم يشل أحد بين
يديه ستراً فهبّ هواء رفع الستر له . فدخل ، فقال : اعرفوا خبر خروجه ، فذكر صاحب
الخبر ، هواء خالف ذلك الهواء شال الستر له حتى خرج ، فقال : ليس نريد هواء يشيل الستر
شيلوا الستر بين يديه
(2) .
الثالثة
: روى أمين الدين الطبرسي عن محمد بن الحسن الأشتر العلوي انّه قال :
(1) البحار 50:126 ، ح 4 ،
عن امالي الطوسي .
(2) البحار 50:128 ، ضمن
حديث 6 ، عن أمالي الطوسي .
(556)
كنت مع أبي
على باب المتوكل ، وأنا صبيّ في جمع من الناس مابين طالبيّ إلى عباسيّ و جعفريّ ،
ونحن وقوف إذ جاء أبو الحسن ترجّل الناس كلّهم حتى دخل .
فقال
بعضهم لبعض : لِمَ نترجّل لهذا الغلام ، وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسنّنا
ولا بأعلمنا ؟ واللّه لا ترجّلنا له ، فقال أبو هاشم الجعفري : واللّه لتترجّلنّ
له صغرة إذا رأيتموه ، فما هو الاّ ان أقبل وبصروا به حتى ترجّل الناس كلّهم .
فقال
لهم أبو هاشم الجعفري : أليس زعمتم انكم لاترجّلون له ؟ فقالوا له : واللّه ما
ملكنا أنفسنا حتى ترجّلنا
(1) .
الرابعة
: حكى الشيخ يوسف بن حاتم الشامي في الدر النظيم ، والسيوطي في الدرّ المنثور عن
تاريخ الخطيب وهو عن محمد بن يحيى انّه قال : قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق
والفقهاء بحضرته ، من حلق رأس آدم حين حجّ ؟ فتعايى القوم عن الجواب ، فقال الواثق
: أنا أحضركم من ينبئكم بالخبر ، فبعث إلى عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى بن جعفر
بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فأحضر ، فقال : يا أبا الحسن من
حلق رأس آدم ؟ .
فقال
: سألتك باللّه يا أمير المؤمنين الاّ أعفيتني ، قال : أقسمت عليك لتقولنّ ، قال
: أما اذا أبيت فانّ أبي حدثني عن جدي عن أبيه عن جدّه ، قال : قال رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله : أمر جبرئيل ان ينزل بياقوتة من الجنة، فهبط بها فمسح بها
رأس آدم فتناثر الشعر منه ، فحيث بلغ نورها صار حرماً
(2) .
الخامسة
: روى الأربلي انّ أبا الحسن عليهالسلام كان يوماً قد خرج من سر من رأى إلى قرية
لمهمٍّ عرض له ، فجاء رجل من الاعراب يطلبه ، فقيل له : قد ذهب إلى الموضع الفلاني
فقصده ، فلمّا وصل إليه قال له : ما حاجتك ؟
فقال
: أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسكين بولاء جدّك عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ،
قد ركبني دين فادح أثقلني حمله ، ولم أرَ من أقصده لقضائه سواك ، فقال له أبو
الحسن : طب نفساً وقر عيناً ثم أنزله ، فلمّا أصبح ذلك اليوم قال له أبو الحسن :
أريد منك حاجة اللّه اللّه أنْ تخالفني فيها ، فقال الأعرابي : لا أخالفك .
فكتب
أبو الحسن ورقة بخطه معترفاً فيها أنّ عليه للأعرابي مالاً عيّنه فيها يرجح على
دينه ، وقال : خذ هذا الخط فاذا وصلتُ إلى سر من رأى أحضر اليّ وعندي جماعة
فطالبني به ، واغلظ القول عليّ في تركايفائك ايّاه ، اللّه اللّه في مخالفتي .
فقال
: افعل ، وأخذ الخط ، فلمّا وصل أبو الحسن إلى سر من رأى ، وحضر عنده
(1) اعلام الورى : 343 ،
ومثله في البحار 50:137 ، ح 20 ، عن الخرائج .
(2) الدر النظيم 2:217 ،
الباب الثاني عشر ، فصل في ذكر شيء من مناقب الهادي عليهالسلام ، وتاريخ الخطيب
12:56 ، رقم 6440 .
(557)
جماعة
كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم ، حضر ذلك الرجل وأخرج الخط وطالبه ، وقال كما
أوصاه ، فألان أبو الحسن له القول ورفقه وجعل يعتذر إليه ووعده بوفائه وطيبة نفسه
.
فنقل
ذلك إلى الخليفة المتوكل ، فأمر أن يحمل إلى أبي الحسن ثلاثون الف درهم ، فلمّا
حملت إليه تركها إلى ان جاء الرجل ، فقال : خذ هذا المال فاقض منه دينك وأنفق
الباقي على عيالك وأهلك وأعذرنا ، فقال له الأعرابي : يا ابن رسول اللّه واللّه
إنّ أملي كان يقصر عن ثلث هذا ، ولكن اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ، وأخذ المال
وانصرف
(1) .
يقول
المؤلف : هذه المنقبة تشبه ما روي عن الخضر عليهالسلام ، وهي كما روى الديلمي في
أعلام الدين عن أبي امامة انّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال ذات يوم
لاصحابه : الا أحدّثكم عن الخضر ؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه ، قال : بينا هو
يمشي في سوق من اسواق بني اسرائيل أبصره مكاتب ، فقال : تصدّق عليّ بارك اللّه
فيك ، قال الخضر : آمنت باللّه ، مايقضي اللّه يكون ، ما عندي من شيء أعطيكه .
قال
المسكين : بوجه اللّه لمّا تصدقت عليّ اني رأيت الخير في وجهك ورجوت الخير عندك،
قال الخضر : آمنت باللّه انّك سألتني بأمر عظيم ماعندي من شيء أعطيكه إلاّ أن
تأخذني فتبيعني ، قال المسكين : وهل يستقيم هذا ؟ قال : الحق أقول لك انّك سألتني
بأمر عظيم، سألتني بوجه ربي عزوجل ، اما أنّي لا أخيبك في مسألتي بوجه ربّي ،
فبعني .
فقدّمه
إلى السوق فباعه بأربع مائة درهم ، فمكث عند المشتري زماناً لايستعمله في شيء ،
فقال الخضر عليهالسلام : انّما ابتعتني إلتماس خدمتي ، فمرني بعمل ، قال : انّي
أكره أن أشقّ عليك انّك شيخ كبير .
قال
: لست تشق عليّ ، قال : فقم فانقل هذه الحجارة ، قال : وكان لاينقلها دون ستة نفر
في يوم ، فقام فنقل الحجارة في ساعته ، فقال له : أحسنت وأجملت وأطقت مالم يطقه
أحد .
قال
: ثم عرض للرجل سفر ، فقال : انّي أحسبك أميناً ، فاخلفني في أهلي خلافة حسنة ،
وانّي أكره أن أشقّ عليك ، قال : ليس تشق عليّ ، قال : فاضرب من اللِبِن شيئاً ـ
أو قال : لَبِّن ـ حتى أرجع اليك ، قال : فخرج الرجل لسفره ورجع وقد شيّد بناؤه .
فقال
له الرجل : أسألك بوجه اللّه ما حسبك وما أمرك ، قال : انّك سألتني بأمر عظيم
بوجه اللّه عزوجل ووجه اللّه عزوجل أوقعني في العبودية ، وسأخبرك من أنا ، أنا
الخضر الذي سمعت به ، سألني مسكين صدقة ولم يكن عندي شيء أعطيه ، فسألني
(1) كشف الغمة 3:166 ، عنه
البحار 50:175 ، ح 55 .
(558)
بوجه
اللّه عزوجل فأمكنته من رقبتي فباعني .
فأخبرك
انّه من سُئل بوجه اللّه عزوجل فردّ سائله وهو قادر على ذلك ، وقف يوم القيامة
ليس لوجهه جلد ولا لحم ولا دم الاّ عظم يتقعقع .
قال
الرجل : شققت عليك ولم أعرفك ، قال : لابأس ، أبقيت وأحسنت . قال : بأبي أنت وأمي
أحكم في أهلي ومالي بما أراك اللّه عزوجل ، أم أخيّرك فأخلّي سبيلك . فقال : أحبّ
اليّ أن تخلّي سبيلي فأعبد اللّه ، فخلّى سبيله ، قال الخضر : الحمد للّه الذي
أوقعني في العبودية وانجاني منها
(1) .
السادسة
: روى القطب الراوندي انّ الخليفة المتوكل أو الواثق أو غيرهما أمر العسكر وهم
تسعون ألف فارس من الأتراك الساكنين بسرّ من رأى أن يملأ كلّ واحد مخلاة فرسه من
الطين الأحمر ، ويجعلوا بعضه على بعض في وسط بريّة واسعة هناك ، ففعلوا .
فلما
صار مثل جبل عظيم صعد فوقه واستدعى أبا الحسن عليهالسلام واستصعده ، وقال :
استحضرتك لنظارة خيولي ، وقد كان أمَرَهم أن يلبسوا التجافيف ويحملوا الاسلحة ، و
قد عرضوا بأحسن زينة وأتمّ عدّة وأعظم هيبة ، وكان غرضه أن يكسر قلب كلّ من يخرج
عليه ، وكان خوفه من أبي الحسن عليهالسلام ان يأمر أحداً من أهل بيته ان يخرج على
الخليفة .
فقال
له أبو الحسن عليهالسلام : وهل تريد أن أعرض عليك عسكري ؟ قال : نعم ، فدعا
اللّه سبحانه فاذا بين السماء والأرض من المشرق إلى المغرب ملائكة مدجّجون ، فغشي
على الخليفة ، فلمّا أفاق قال أبو الحسن عليهالسلام : نحن لا ننافسكم في الدنيا،
نحن مشتغلون بأمر الآخرة ، فلا عليك شيء مما تظنّ
(2) .
السابعة
: روى الشيخ الطوسي وغيره عن اسحاق بن عبد اللّه العلوي العريضي انّه قال : اختلف
أبي وعمومتي في الأربعة ايّام تصام في السنة ، فركبوا إلى مولانا أبي الحسن عليّ
بن محمد عليهالسلام وهو مقيم بصريا قبل مصيره إلى سرّ من رأى ، فقالوا : جئناك
ياسيدنا لأمر اختلفنا فيه ، فقال عليهالسلام : نعم جئتم تسألوني عن الايّام التي
تصام في السنة ، فقالوا : ماجئنا الاّ لهذا .
فقال
عليهالسلام : اليوم السابع عشر من ربيع الاوّل ، وهو اليوم الذي ولد فيه رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله ، واليوم السابع والعشرون من رجب وهو اليوم الذي بعث
اللّه فيه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، واليوم الخامس والعشرون من ذي
القعدة وهو اليوم الذي دُحيت فيه الأرض ، واستوت بسفينة نوح على الجوديّ ، فمن صام
ذلك اليوم كان كفارة سبعين
(1) اعلام الدين : 350 ،
عنه البحار 13:321 ، ح 55 ، ورواه العسقلاني في الاصابة 1:434 .
(2) الخرائج 1:414 ، ح 19
، عنه البحار 50:155 ، ح 44 .
(559)
سنة ،
واليوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو يوم الغدير ، يوم نصّب فيه رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله أمير المؤمنين علماً ، ومن صام ذلك اليوم كان كفّارة ستين
عاماً(1) .
الثامنة
: قال القطب الراوندي : امّا عليّ بن محمد النقي عليهالسلام فقد اجتمعت الامامة
فيه ، وتكاملت علومه وفضله ، وظهرت هيبته على الحيوانات كلّها ، وكانت أخلاقه
وأخلاق آبائه وأبنائه عليهمالسلام خارقة للعادة .
وكان
بالليل مقبلاً على القبلة لايفتر ساعة ، عليه جبّة صوف وسجّادته على حصير ، ولو
ذكرنا محاسن شمائله لطال بها الكتاب
(2) .
قال
صاحب جنات الخلود : كان عليهالسلام ربع القامة ، ووجهه ابيض يميل إلى الحمرة ،
واسع الحاجبين والعينين ، حسن الوجه ، من نظر إليه زال همّه وغمّه ، وكان محبباً
للقلوب ، وذا هيبة يتملق له العدو ، دائم التبسم وذكر اللّه ، يخطو في المشي
خطوات قصيرة ، وكان المشي ثقيلاً عليه ويعرق لو مشى(3) .
(1) مصباح المتهجد : 754 ،
في اعمال يوم رجب ، عنه البحار 50:157 .
(2) الخرائج 2:901 .
(3) جنات الخلود : 36 .
(560)
الفصل الثالث
في دلائله ومعاجزه عليهالسلام
ونكتفي
هنا أيضاً بعدة روايات :
الاُولى
: روي في أمالي ابن الشيخ عن المنصوري وكافور الخادم ، قال : كان في الموضع مجاور
الامام من أهل الصنايع صنوف من الناس ، وكان الموضع كالقرية ، وكان يونس النقاش
يغشى سيدنا الامام عليهالسلام ويخدمه .
فجاء
يوماً يرعد ، فقال : يا سيدي أُوصيك بأهلي خيراً ، قال : وما الخبر ؟ قال : عزمت
على الرحيل ، قال : ولِمَ يا يونس ؟ وهو عليهالسلام متبسم ، قال : موسى بن بغا
وجّه اليّ بفصّ ليس له قيمة ، أقبلت أن انقشه فكسرته باثنين وموعده غداً ، وهو
موسى بن بغا امّا الف سوط أو القتل .
قال
: امض إلى منزلك إلى غد فما يكون الاّ خيراً ، فلمّا كان من الغد وافى بكرة يرعد ،
فقال : قد جاء الرسول يلتمس الفصّ ، قال : امض إليه فما ترى الاّ خيراً ، قال :
وما أقول له ياسيدي؟ قال : فتبسّم وقال : امض إليه واسمع مايخبرك به فلن يكون الاّ
خيراً .
قال
: فمضى وعاد يضحك ، قال : قال لي سيدي : الجواري اختصمن فيمكنك ان تجعله فصّين حتى
نغنيك ؟ فقال سيدنا الامام عليهالسلام : اللهم لك الحمد إذ جعلتنا ممّن يحمدك
حقاً ، فأيش قلت له ؟ قال : قلت له : أمهلني حتى أتأمّل أمره كيف أعمله ، فقال :
أصبت
(1) .
الثانية
: روى الشيخ الصدوق في الأمالي عن أبي هاشم الجعفري انّه قال : أصابتني ضيقة شديدة
، فصرت إلى أبي الحسن عليّ بن محمد عليهالسلام فأذن لي فلمّا جلست ، قال : يا أبا
هاشم أيّ نعم اللّه عزوجل عليك تريد ان تؤدّي شكرها ؟ قال أبو هاشم : فوجمت فلم
أدر ما أقول له .
فابتدأ
عليهالسلام ، فقال : رزقك الايمان فحرّم بدنك على النار ، ورزقك العافية فأعانتك
على الطاعة ، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل ، يا أبا هاشم إنّما ابتدأتك بهذا
لأنّي ظننت انّك تريد أن تشكو لي من فعل بك هذا ، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها
(2) .
يقول
المؤلف : يستفاد من هذا الحديث الشريف انّ الايمان من أفضل النعم
(1) البحار 50:125 ، ح 2 ،
عن الامالي .
(2) البحار 50:129 ، ح 7 ،
عن امالي الصدوق .
(561)
الالهية ،
وهو كذلك لأنّه شرط قبول جميع الاعمال ، وفي البحار باب تحت عنوان : (باب الرضا
بموهبة الايمان وانّه من أعظم النعم )(1) فنسأل اللّه سبحانه وتعالى
أن يثبت الايمان في قلوبنا ، ويطهر الديوان من ذنوبنا .
والنعمة
الثانية بعد الايمان العافية ، فنسأل اللّه تعالى العافية ، عافية الدينا
والآخرة، وروي انّه قيل لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله : ماذا أسأل اللّه
تعالى إذا أدركت ليلة القدر؟ قال : العافية . وبعد العافية نعمة القناعة ، وروي في
ذيل الآية الشريفة : « مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيِّبَةً ... »
(2) .
إنّه
سئل عليّ عليهالسلام عن قوله تعالى : « فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيِّبَةً » ؟
فقال : هي القناعة(3) .
وروي
عن الامام الصادق عليهالسلام أنّه قال : لامال أنفع من القنوع باليسير المجزي(4)
.
يقول
المؤلف : والروايات في فضل القناعة كثيرة ولا يسع المقام سردها ، وحكي انّه قيل
لحكيم : أرأيت شيئاً أحسن من الذهب ؟ قال : بلى ، القناعة ، ومثله كلام بعض
الحكماء حيث قال : استغناؤك عن الشيء خير من استغنائك به ، وحكي أنّ ديوجانس
الكلبي من أساطين حكماء اليونان ، وكان متقشفاً زاهداً لايقتني شيئاً ولا يأوي إلى
منزل ، دعاه الاسكندر إلى مجلسه ، فقال للرسول : قل له : انّ الذي منعك من المسير
الينا هو الذي منعنا من المسير اليك ، منعك استغناؤك عنّا بسلطانك ، ومنعني
استغنائي عنك بقناعتي(5) .
ولقد
أجاد من قال :
وجدت القناعة اصل الغنى
وصرت بأذيالها ممتسك فلا ذا يراني على بابه ولا ذا يراني به
منهمك وعشت غنيّاً بلا درهم أمرّ على الناس شبه الملك
ولمولانا
أبي الحسن الرضا عليهالسلام :
لبست بالعفّة ثوب الغنى
وصرت أمسي شامخ الرأس لست إلى النسناس مستأنساً لكنّني آنس
بالناس إذا رأيت التيه من ذي الغنى تهت على التائه بالياس ما إن
تفاخرت على معدم ولا تضعضعت لإفلاس
(1) راجع بحار الأنوار
67:147 .
(2) النحل : 97 .
(3) نهج البلاغة ، قصار
الحكم رقم 229 .
(4) سفينة البحار 2:452 .
(5) سفينة البحار 2:451 .
(562)
الثالثة
: روى ابن شهر آشوب والقطب الراوندي عن أبي هاشم الجعفري انّه قال : دخلت على أبي
الحسن عليهالسلام ، فكلّمني بالهندية فلم أحسن أن أردّ عليه ، وكان بين يديه ركوة
ملائى حصى ، فتناول حصاة واحدة ووضعها في فيه ومصّها مليّا ، ثم رمى بها اليّ
فوضعتها في فمي ، فو اللّه ما برحت من مكانى حتى تكلّمت بثلاث وسبعين لسانا
اوّلها الهنديّة
(1) .
الرابعة
: وروي عن أبي هاشم الجعفري أيضا انّه شكى إلى أبي الحسن (الهادي) عليهالسلام ما
يلقي من الشوق إليه إذا انحدر من عنده إلى بغداد ، ثم قال له : يا سيدي ادع اللّه
لي فربّما لم أستطع ركوب الماء خوف الاصعاد والبطء عنك ، فسرت اليك على الظهر وما
لي مركوب سوى برذوني هذه على ضعفها ، فادع اللّه لي أن يقوّيني على زيارتك .
فقال
: قوّاك اللّه يا أبا هاشم وقوّى برذونك ، قال الراوي : وكان أبو هاشم يصلّي
الفجر ببغداد ، ويسير على ذلك البرذون فيدرك الزوال من يومه ذلك في عسكر سرّ من
رأى ، ويعود من يومه إلى بغداد إذا شاء على تلك البرذون بعينه ، فكان هذا من أعجب
الدلائل التي شوهدت
(2) .
الخامسة
: روي في أمالي الشيخ الطوسي عن الامام عليّ النقي عليهالسلام انّه قال : ...
أخرجت إلى سرّ من رأى كرها ولو اخرجت عنها اخرجت كرها ، قال [ الراوي : [ قلت :
ولم يا سيّدي ؟ قال : لطيب هوائها وعذوبة مائها ، وقلّة دائها .
ثم
قال : تخرب سرّ من رأى حتى يكون فيها خان وبقّال للمارّة ، وعلامة تدارك خرابها
تدارك العمارة في مشهدي من بعدي
(3) .
السادسة
: روى القطب الراوندي عن جماعة من أهل اصفهان ، قالوا : كان باصفهان رجل يقال له
عبد الرحمن وكان شيعيّا ، قيل له : ما السبب الذي أوجب عليك به القول بامامة عليّ
النقيّ عليهالسلام دون غيره من أهل الزمان ؟
قال
: شاهدت ما أوجب ذلك عليّ ، وذلك انّي كنت رجلاً فقيرا وكان لي لسان وجرأة ،
فأخرجني أهل اصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين إلى باب المتوكل متظلّمين ، فكنّا
بباب المتوكل يوما إذ خرج الأمر باحضار عليّ بن محمد بن الرضا عليهمالسلام ، فقلت
لبعض من حضر : من هذا الرجل الذي قد أمر باحضاره ؟
فقيل
: هذا رجل علوي تقول الرافضة بامامته ، ثم قيل : ويُقدّر أنّ المتوكل يحضره للقتل
، فقلت : لا أبرح من هاهنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أيّ رجل هو ؟ قال :
(1) الخرائج 2:673 ،
والمناقب 4:408 ، عنهما البحار 50:136 ، ح 17 .
(2) الخرائج 2:672 ، ح 1 ،
عنه البحار 50:137 ، ح 21 .
(3) البحار 50:129 ، ح 8 ،
عن الأمالي ، وفي المناقب لابن شهر آشوب 3:512 .
(563)
فأقبل
راكبا على فرس وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرته صفين ينظرون إليه ، فلمّا رأيته
وقع حبّه في قلبي ، فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع اللّه عنه شرّ المتوكل .
فأقبل
يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته لاينظر يمنة ولا يسرة ، وأنا دائم الدعاء
له ، فلمّا صار بازائي أقبل اليّ بوجهه ، وقال : استجاب اللّه دعاءك وطوّل عمرك
وكثّر مالك وولدك .
قال
: فارتعدت من هيبته ووقعت بين أصحابي ، فسألوني وهم يقولون : ما شأنك ؟ فقلت : خير
، ولم أخبرهم بذلك .
فانصرفنا
بعد ذلك إلى اصفهان ، ففتح اللّه عليّ الخير بدعائه ووجوها من المال حتى أنا
اليوم أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم سوى مالي خارج داري ، ورزقت عشرة من
الأولاد ، وقد بلغت الآن من عمري نيّفا وسبعين سنة ، وأنا أقول بامامة هذا الذي
علم ما في قلبي ، واستجاب اللّه دعاءه فيّ ولي
(1) .
السابعة
: وروى القطب الراوندي أيضا انّه : ظهرت في ايام المتوكل امرأة تدّعي انّها زينب
بنت فاطمة بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، فقال لها المتوكّل : أنت امرأة
شابة وقد مضى من وقت وفاة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ما مضى من السنين .
فقالت
: انّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مسح على رأسي وسأل اللّه ان يردّ عليّ
شبابي في كل أربعين سنة ، ولم أظهر للناس إلى هذه الغاية ، فلحقتني الحاجة فصرت
اليهم .
فدعا
المتوكل مشايخ آل أبي طالب ، وولد العباس وقريش فعرّفهم حالها . فروى جماعة وفاة
زينب [ بنت فاطمة عليهاالسلام ] في سنة كذا ، فقال لها : ما تقولين في هذه الرواية
؟ فقالت : كذب و زور ، فانّ أمري كان مستورا عن الناس ، فلم يعرف لي حياة ولا موت
.
فقال
لهم المتوكّل : هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه الرواية ؟ قالوا : لا .
قال
: أنا بريء من العباس إن [ لا ] اُنزلها عمّا ادّعت الاّ بحجة [ تلزمها ] .
قالوا
: فأحضر [ علي بن محمد ] ابن الرضا عليهالسلام ، فلعلّ عنده شيئا من الحجة غير ما
عندنا ، فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة ، فقال : كذبت فانّ زينب توفّيت في سنة
كذا في شهر كذا في يوم كذا ، قال : فانّ هؤلاء قد رووا مثل هذه الرواية ، وقد حلفت
أن لا اُنزلها عمّا ادّعت الاّ بحجة تلزمها .
قال
: ولا عليك فهاهنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها ، قال : وما هي ؟ قال : لحوم ولد فاطمة
محرّمة على السباع ، فأنزلها إلى السباع ، فان كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها [
السباع ] فقال لها : ما تقولين ؟ قالت : انّه يريد قتلي ، قال : فهاهنا جماعة من
ولد الحسن والحسين عليهماالسلام فأنزل من شئت منهم ، قال : فو اللّه لقد تغيّرت
وجوه الجميع .
(1) الخرائج 1:392 ، ح 1 ،
عنه البحار 50:141 ، ح 26 .
(564)
فقال
بعض المتعصّبين : هو يحيل على غيره ، لم لا يكون هو ؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء
أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع . فقال : يا أبا الحسن لم لا يكون أنت ذلك
؟ قال : ذاك اليك ، قال : فافعل ! قال : أفعل ]إن شاء اللّه ]، فأتى بسلّم وفتح
عن السباع وكانت ستّة من الاسد، فنزل [الامام [أبو الحسن عليهالسلام اليها ،
فلمّا دخل وجلس صارت [ الأسود ] إليه ، ورمت بأنفسها بين يديه ، ومدّت بأيديها ،
ووضعت رؤوسها بين يديه . فجعل يمسح على رأس كلّ واحد منها بيده ، ثم يشير له بيده
إلى الاعتزال فيعتزل ناحية ، حتى اعتزلت كلّها وقامت بازائه .
فقال
له الوزير : ما كان هذا صوابا ، فبادر باخراجه من هناك ، قبل ان ينتشر خبره ، فقال
له : أبا الحسن ما أردنا بك سوءا ، وانّما اردنا أن نكون على يقين مما قلت ، فأحبّ
أن تصعد ، فقام وصار إلى السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه .
فلمّا
وضع رجله على اوّل درجة التفت اليها وأشار بيده أن ترجع ، فرجعت وصعد ، فقال : كلّ
من زعم انّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس . فقال لها المتوكّل : انزلي .
قالت: اللّه اللّه ادّعيت الباطل ، وأنا بنت فلان حملني الضرّ على ما قلت . فقال
[ المتوكل ] : ألقوها إلى السباع ، فبعثت والدته واستوهبتها منه وأحسنت اليها
(1) .
الثامنة
: روى الشيخ المفيد وغيره عن خيران الأسباطي انّه قال : قدمت على أبي الحسن عليّ
بن محمد عليهماالسلام المدينة ، فقال لي : ما خبر الواثق عندك ؟ قلت : جعلت فداك
خلّفته في عافية أنا من أقرب الناس عهدا به ، عهدي به منذ عشرة ايّام .
قال
: فقال لي : انّ أهل المدينة يقولون انّه قد مات ، فقلت : أنا أقرب الناس عهدا ،
قال : فقال لي : انّ الناس يقولون انّه مات ، فلمّا قال لي انّ الناس يقولون ،
علمت انّه يعني نفسه .
ثم
قال لي : ما فعل جعفر ؟ قلت : تركته أسوء الناس حالاً في السجن ، قال : فقال لي :
أما انّه صاحب الأمر ، ثم قال : ما فعل ابن الزيّات ؟ قلت : الناس معه والأمر أمره
، فقال : أما انّه شؤم عليه ، قال : ثم انّه سكت ، وقال لي : لابد أن تجري مقادير
اللّه واحكامه يا خيران ، مات الواثق وقد قعد جعفر المتوكل وقد قتل ابن الزيّات ،
قلت : متى جعلت فداك ؟ فقال : بعد خروجك بستة أيام
(2) .
يقول
المؤلف : انّ الواثق هو هارون بن المعتصم تاسع خلفاء بني العباس ، أخو جعفر
المتوكل الذي ملك الأمر بعده ، وابن الزيّات هو محمد بن عبد الملك الكاتب صاحب
التنور المعروف ، وكان وزيرا في ايام المعتصم والواثق ، فلمّا استتبَّ الأمر
للمتوكّل أخذه وقتله ، كما أشرنا إليه في باب معاجز الامام الجواد عليهالسلام .
(1) الخرائج 1:404 ، ح 11
، عنه البحار 50:149 ، ح 35 .
(2) الارشاد : 329 ، عنه
البحار 50:158 ، ح 48 .
(565)
التاسعة
: روى الشيخ الطوسي عن الفحام عن محمد بن احمد الهاشمي المنصوري ، عن عمّ ابيه ابي
موسى عيسى بن احمد بن عيسى بن المنصور انّه قال :
قصدت
الامام عليهالسلام يوما ، فقلت : يا سيّدي انّ هذا الرجل قد أطرحني ، وقطع رزقي
ومللني وما أتّهم في ذلك الاّ علمه بملازمتي لك ، وإذا سألته شيئا منه يلزمه
القبول منك فينبغي ان تتفضّل عليّ بمسألته ، فقال : تكفى إن شاء اللّه .
فلمّا
كان في الليل طرقني رسل المتوكل رسول يتلو رسولاً فجئت والفتح على الباب قائم فقال
: يا رجل ما تأوي في منزلك بالليل كدّني هذا الرجل مما يطلبك ، فدخلت وإذا المتوكل
جالس على فراشه ، فقال : يا أبا موسى نشغل عنك وتنسينا نفسك أي شيء لك عندي ؟ فقلت
: الصّلة الفلانية والرزق الفلاني ، وذكرت أشياء فأمر لي بها وبضعفها .
فقلت
للفتح : وافى عليّ بن محمد إلى هاهنا ؟ فقال : لا ، فقلت : كتب رقعة ؟ فقال : لا ،
فولّيت منصرفا فتبعني فقال لي : لست أشك انّك سألته دعاء لك فالتمس لي منه دعاء .
فلما
دخلت إليه عليهالسلام فقال لي : يا أبا موسى ! هذا وجه الرضا ، فقلت : ببركتك يا
سيدي ، ولكن قالوا لي : انّك ما مضيت إليه ولا سألته ، فقال : انّ اللّه تعالى
علم منّا انّا لا نلجأ في المهمّات الاّ إليه ، ولا نتوكّل في الملمّات الاّ عليه
، وعوّدنا إذا سألناه الاجابة ، ونخاف ان نعدل فيعدل بنا .
قلت
: ان الفتح قال لي كيت وكيت ، قال : انّه يوالينا بظاهره ، ويجانبنا بباطنه ،
الدّعاء لمن يدعو به ، إذا أخلصت في طاعة اللّه ، واعترفت برسول اللّه
صلىاللهعليهوآله وبحقّنا اهل البيت ، وسألت اللّه تبارك وتعالى شيئا لم يحرمك
، قلت : يا سيّدي فتعلّمني دعاء أختص به من الأدعية ، قال : هذا الدّعاء كثيرا
أدعو اللّه به ، وقد سألت اللّه أن لا يخيّب من دعا به في مشهدي بعدي وهو :
«
يا عدّتي عند العدد ، ويا رجائي والمعتمد ، ويا كهفي والسّند ، ويا واحد يا أحد ،
يا قل هو اللّه أحد ، وأسألك اللهم بحقّ من خلقته من خلقك ، ولم تجعل في خلقك
مثلهم احدا ، ان تصلّى عليهم وتفعل بي كيت وكيت »
(1) .
العاشرة
: روى القطب الراوندي عن هبة اللّه بن أبي منصور الموصلي انّه قال : كان بديار
ربيعة كاتب نصراني وكان من أهل كفرتوثا ، يسمّى يوسف بن يعقوب ، وكان بينه وبين
والدي صداقة ، قال : فوافانا فنزل عند والدي ، فقال له والدي : ما شأنك قدمت في
هذا الوقت ؟ قال : قد دعيت إلى حضرة المتوكل ، ولا أدري ما يراد منّي ، إلا انّي
اشتريت نفسي من اللّه بمائة دينار ، وقد حملتها لعلي بن محمد بن الرضا
عليهالسلام معي .
(1) البحار 50:127 ، ح 5 ،
عن الامالي .
(566)
فقال
له والدي : قد وفّقت في هذا . قال : وخرج إلى حضرة المتوكل وانصرف الينا بعد ايّام
قلائل فرحا مستبشرا . فقال له والدي : حدّثني حديثك .
قال
: صرت إلى سرّ من رأى وما دخلتها قط ، فنزلت في دار وقلت : احبّ ان اوصل المائة
إلى ابن الرضا عليهالسلام قبل مصيري إلى باب المتوكل ، وقبل ان يعرف احد قدومي ،
قال : فعرفت ان المتوكّل قد منعه من الركوب ، وانّه ملازم لداره ، فقلت : كيف أصنع
؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا ؟! لا آمن أن ينذر بي فيكون ذلك زيادة فيما
أحاذره .
قال
: ففكّرت ساعة في ذلك ، فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج في البلد ، فلا أمنعه من
حيث يذهب ، لعلّي أقف على معرفة داره من غير أن أسأل أحدا .
قال
: فجعلت الدنانير في كاغدة ، وجعلتها في كمّي ، وركبت فكان الحمار يخترق الشوارع
والأسواق يمرّ حيث يشاء إلى أن صرت إلى باب دار ، فوقف الحمار فجهدت أن يزول فلم
يزل ، فقلت للغلام : سل لمن هذه الدار ؟ فقيل : هذه دار [ عليّ بن محمد ] ابن
الرضا ! فقلت : اللّه اكبر دلالة واللّه مقنعة .
قال
: وإذا خادم أسود قد خرج [ من الدار ] فقال : أنت يوسف بن يعقوب ؟ قلت : نعم ، قال
: انزل ، فنزلت فأقعدني في الدهليز ودخل ، فقلت في نفسي : وهذه دلالة اخرى من أين
عرف هذا الخادم اسمي [ واسم أبي ] وليس في هذا البلد من يعرفني ، ولا دخلته قط ؟!
قال
: فخرج الخادم ، فقال : المائة الدينار التي في كمّك في الكاغدة هاتها ! فناولته
ايّاها ، فقلت : وهذه ثالثة : ثم رجع اليّ فقال : ادخل .
فدخلت
إليه وهو في مجلسه وحده : فقال : يا يوسف أما آن لك أن تسلم ؟ فقلت : يا مولاي قد
بان [ لي من البرهان ] ما فيه كفاية لمن اكتفى . فقال : هيهات أما انك لا تسلم ،
ولكن سيسلم ولدك فلان ، وهو من شيعتنا .
[
فقال : ] يا يوسف انّ أقواما يزعمون ان ولايتنا لا تنفع أمثالك ، كذبوا واللّه
انها لتنفع أمثالك ، امض فيما وافيت له ، فانّك سترى ما تحبّ [ وسيولد لك ولد
مبارك ] . قال : فمضيت إلى باب المتوكل فقلت كلّ ما أردت فانصرفت .
قال
هبة اللّه : فلقيت ابنه بعد [ موت أبيه ] وهو مسلم حسن التشيّع ، فأخبرني ان أباه
مات على النصرانيّة ، وانّه اسلم بعد موت والده ، وكان يقول : أنا بشارة مولاي
عليهالسلام
(1) .
الحادية
عشرة : روى الشيخ الطبرسي عن أبي الحسين سعيد بن سهل البصري انّه قال : ... وكان
يقول بالوقف جعفر بن القاسم الهاشميّ البصري ، وكنت معه بسر من
(1) الخرائج 1:396 ، ح 3 ،
عنه البحار 50:144 ، ح 28 .
(567)
رأى إذ رآه
أبو الحسن عليهالسلام في بعض الطرق ، فقال له : إلى كم هذه النومة ؟ أما آن لك أن
تنتبه منها ؟
فقال
لي جعفر : سمعت ما قال لي عليّ بن محمد ؟ قد واللّه قدح في قلبي شيئا ، فلمّا كان
بعد أيّام حدث لبعض أولاد الخليفة وليمة ، فدعانا فيها ودعا أبا الحسن معنا ،
فدخلنا فلمّا رأوه أنصتوا إجلالاً له ، وجعل شابّ في المجلس لا يوقّره ، وجعل يلفظ
ويضحك ، فأقبل عليه وقال له : يا هذا تضحك ملء فيك وتذهل عن ذكر اللّه ، وأنت
بعد ثلاثة من أهل القبور ؟
قال
: فقلت : هذا دليل حتى ننظر ما يكون ، قال : فأمسك الفتى وكفّ عمّا هو عليه وطعمنا
وخرجنا ، فلمّا كان بعد يوم اعتلّ الفتى ومات في اليوم الثالث من اوّل النهار ودفن
في آخره .
وروي
أيضا عنه انّه قال : اجتمعنا في وليمة لبعض أهل سرّ من رأى وابو الحسن عليهالسلام
معنا ، فجعل رجل يعبث ويمزح ولا يرى له جلالة ، فأقبل على جعفر فقال : أما انّه لا
يأكل من هذا الطعام ، وسوف يرد عليه من خبر أهله ما ينغّص عليه عيشه .
قال
: فقدّمت المائدة ، قال جعفر : ليس بعد هذا خبر قد بطل قوله ، فواللّه قد غسل
الرجل يده وأهوى إلى الطعام فاذا غلامه قد دخل من باب البيت يبكي ، وقال له : إلحق
امّك فقد وقعت من فوق البيت وهي بالموت ، قال جعفر : فقلت : واللّه لا وقفت بعد
هذا ، وقطعت عليه
(1) .
الثانية
عشرة : روى ابن شهر آشوب انّه أتى النقي عليهالسلام رجل خائف وهو يرتعد ويقول :
انّ ابني أخذ بمحبتكم والليلة يرمونه من موضع كذا ويدفنونه تحته ، قال : فما تريد
؟ قال : ما يريد الأبوان ، فقال عليهالسلام : لا بأس عليه اذهب فانّ ابنك يأتيك
غدا .
فلما
أصبح أتاه ابنه فقال : يا بني ما شأنك ؟ فقال : لما حفر القبر وشدوا لي الأيدي
أتاني عشرة أنفس مطهرة عطرة وسألوا عن بكائي ، فذكرت لهم فقالوا : لو جعل الطالب
مطلوبا تجرد نفسك وتخرج وتلزم تربة النبي صلىاللهعليهوآله .
قلت
: نعم ، فاخذوا الحاجب فرموه من شاهق الجبل ، ولم يسمع احد جزعه ولا رآني الرجال ،
وأوردوني اليك وهم ينتظرون خروجي اليهم ، وودّع اباه وذهب ، فجاء أبوه إلى الامام
بحاله ، فكان الغوغاء تذهب ، وتقول : وقع كذا وكذا ، والامام يتبسّم ويقول : انّهم
لا يعلمون ما نعلم
(2) .
الثالثة
عشرة : روى القطب الراوندي عن أبي هاشم الجعفري انّه قال : كان
(1) اعلام الورى : 346
و347 ، عنه البحار 50:181 ، ح 57 .
(2) المناقب 4:416 .
(568)
للمتوكّل
مجلس بشبابيك كيما تدور الشمس في حيطانه ، قد جعل فيها الطيور التي تصوّت ، فاذا
كان يوم السلام جلس في ذلك المجلس ، فلا يسمع ما يقال له ولا يسمع ما يقول من
اختلاف أصوات تلك الطيور ، فاذا وافاه عليّ بن محمد بن الرضا عليهالسلام سكتت
الطيور ، فلا يسمع منها صوت واحد الى أن يخرج من عنده ، فاذا خرج من باب المجلس
عادت الطيور في أصواتها .
قال
: وكان عنده عدّة من القوابج في الحيطان ، وكان يجلس في مجلس له عال ويرسل تلك
القوابج تقتتل ، وهو ينظر اليها ويضحك منها ، فاذا وافى عليّ بن محمد عليهالسلام
إليه في ذلك المجلس لصقت تلك القوابج بالحيطان ، فلا تتحرك من موضعها حتى ينصرف ،
فاذا انصرف عادت في القتال
(1) .
الفصل الرابع
في ذهابه عليهالسلام من المدينة إلى سامراء
وذكر ما جرى عليه من الظلم والجور وذكر استشهاده
إعلم
انّ الامام عليّ النقي عليهالسلام ولد ونشأ في المدينة ، ولمّا استشهد أبوه كان
عمره الشريف ثماني سنين ، فانتقلت الامامة إليه ، فكان في المدينة إلى ايّام جعفر
المتوكل ، فدعاه إلى سرّ من رأى ، وذلك انّ بريحة العبّاسي كتب إلى المتوكل : « ان
كان لك في الحرمين حاجة فأخرج عليّ بن محمد منها ، فانّه قد دعا الناس إلى نفسه
واتبعه خلق كثير »
(2) .
ثم
كتب إليه بهذا المعنى جمع آخر ، وكان عبد اللّه بن محمد ـ والي المدينة ـ يؤذي
الامام كثيرا ، وكتب كتبا إلى المتوكل سعى فيها بالامام عليّ النقي عليهالسلام
حتى غضب المتوكل ، فلمّا أحسّ الامام بفعل الوالي وسعايته به كتب كتابا إلى
المتوكل يذكر تحامل عبد اللّه بن محمد عليه وكذبه فيما سعى به .
فأجاب
المتوكّل لمصلحة في نفسه على كتاب الامام عليهالسلام بدقّة ولطف ، وزاد في إكرام
الامام وعظّمه فيه ، وكتب فيما كتب : « ... فقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد اللّه
بن محمد عمّا كان يتولّى ... إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك
... وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل ، وأمره باكرامك
وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك ... فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت ،
(1) الخرائج 1:404 ، ح 10
، عنه البحار 50:148 ، ح 34 .
(2) البحار 50:209 .
(569)
شخصت ومن
اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت
، فإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرحلون
برحيلك ، يسيرون بمسيرك ، فالأمر في ذلك اليك وقد تقدّمنا إليه بطاعتك .
فاستخر
اللّه حتى توافي أمير المؤمنين ، فما أحد من اخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف
منه منزلة ، ولا أحمد له أثرة ، ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق وبهم أبرّ واليهم
أسكن منه اليك ... وكتب ابراهيم بن العباس في جمادي الأخرى سنة ثلاث وأربعين
ومائتين »
(1) .
وأمّا
ما لقى عليهالسلام من الأذى والجور والظلم من قبل الأعداء فهو كثير ونكتفي هنا
بذكر بعضه :
أولاً
: روى المسعودي عن يحيى بن هرثمة انّه قال : وجّهني المتوكّل إلى المدينة لإشخاص
عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى بن جعفر لشيء بلغه عنه ، فلمّا صرت اليها ضجّ أهلها
وعجّوا ضجيجا وعجيجا ما سمعت مثله ، فجعلت اسكنهم وأحلف لهم انّي لم أؤمر فيه
بمكروه .
وفتشت
بيته ، فلم اجد فيه الاّ مصحفا ودعاء وما أشبه ذلك (وفي تذكرة السبط : لم أجد فيه
الاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم فعظم في عيني) ، فأشخصته وتوليت خدمته وأحسنت عشرته
، فبينا أنا نائم يوما من الايّام والسماء صاحية والشمس طالعة ، إذ ركب وعليه ممطر
وقد عقد ذنب دابته ، فعجبت من فعله فلم يكن بعد ذلك الاّ هنيئة حتى جاءت سحابة
فأرخت عزاليها ونالنا من المطر أمر عظيم جدا ، فالتفت اليّ وقال :
«
أنا أعلم انّك أنكرت ما رأيت ، وتوهّمت انّي علمت من الأمر ما لا تعلمه ، وليس ذلك
كما ظننت ولكن نشأت بالبادية ، فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر ، فلمّا
أصبحت هبّت ريح لا تخلف وشممت منها رائحة المطر ، فتأهّبت لذلك » .
فلمّا
قدمت إلى مدينة السلام بدأت باسحاق بن ابراهيم الطاهري ـ وكان على بغداد ـ فقال لي
: يا يحيى انّ هذا الرجل قد ولده رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، والمتوكل من
تعلم ، وان حرّضته على قتله كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله خصمك ، فقلت :
واللّه ما وقفت له الاّ على كل أمر جميل .
فصرت
إلى سامراء ، فبدأت بوصيف تركيّ ، وكنت من أصحابه ، فقال : واللّه لئن سقطت من
رأس هذا الرجل شعرة لا يكون المطالب بها غيري ، فعجبت من قولهما
(1) الارشاد : 333 ، عنه
البحار 50:200 ، ح 11 .
(570)
وعرّفت
المتوكل ما وقفت عليه ، وما سمعته من الثناء عليه ، فأحسن جائزته وأظهر برّه
وتكرمته(1) .
ثانيا
: روى الشيخ الكليني وغيره عن صالح بن سعيد انّه قال : دخلت على أبي الحسن
عليهالسلام فقلت له : جعلت فداك في كلّ الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى
أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك .
فقال
: هاهنا أنا يا ابن سعيد ، ثم أومأ بيده وقال : انظر ، فنظرت فاذا أنا بروضات
آنقات وروضات باسرات ، فيهنّ خيرات عطرات وولدان كأنّهنّ اللؤلؤ المكنون ، وأطيارٌ
وظبآء وانهارٌ تفور ، فحار بصري وحسرت عيني ، فقال : حيث كنّا فهذا لنا عتيد ،
لسنا في خان الصعاليك
(2) .
ثالثا
: روى المسعودي في اثبات الوصية انّه عليهالسلام دخل دار المتوكل ، فقام يصلّي
فأتاه بعض المخالفين ، فوقف حياله ، فقال له : إلى كم هذا الرياء ؟ فاسرع الصلاة
وسلّم ثم التفت اليه فقال : إن كنت كاذبا نسخك اللّه ، فوقع الرجل ميتا ، فصار
حديثا في الدار(3) .
رابعا
: روى الشيخ الكليني والمفيد وغيرهما عن ابراهيم بن محمد الطاهري انّه قال : مرض
المتوكل من خُراج خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحد ان يمسّه بحديدة،
فنذرت امّه ـ إن عوفي ـ أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد مالاً جليلاً من مالها
.
وقال
له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنّه لا يخلو أن يكون عنده صفة
يفرّج بها عنك ، فبعث إليه ووصف له علّته ، فردّ إليه الرسول بأن يُؤخذ كُسْبُ
الشاة فيداف بماء وردٍ فيوضعه عليه ، فلمّا رجع الرسول وأخبرهم أقبلوا يهزؤون من
قوله ، فقال له الفتح : هو واللّه أعلم بما قال ، وأحضر الكُسْبَ وعمل كما قال
ووضع عليه فغلبه النوم وسكن ، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبُشّرت امّه بعافيته
، فحملت إليه عشرة الاف دينار تحت خاتمها .
ثم
استقلّ من علّته ، فسعى إليه البطحائيّ العلويّ بأنّ أموالاً تحمل إليه وسلاحا ،
فقال لسعيد الحاجب : اُهجم عليه بالليل ، وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح
واحمله اليّ .
قال
ابراهيم بن محمد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى داره بالليل ومعي سلّم فصعدت
السطح ، فلمّا نزلت على بعض الدرج في الظلمة لم أدر كيف أصل إلى
(1) مروج الذهب 4:84 ، عنه
البحار 50:207 ، ح 22 .
(2) الكافي 1:498 ، ح 2 ،
باب مولد عليّ بن محمد عليهالسلام .
(3) اثبات الوصية : 202 .
(571)
الدار ،
فناداني يا سعيد : مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة ، فنزلت
فوجدته عليه جبّة صوفٍ وقلنسوة منها وسجادة على حصير بين يديه ، فلم أشك انّه كان
يصلى ، فقال لي : دونك البيوت فدخلتها وفتّشتها فلم اجد فيها شيئا ، ووجدت البدرة
في بيته مختومة بخاتم امّ المتوكل وكيسا مختوما وقال لي : دونك المصلّى ، فرفعته
فوجدت سيفا في جفن غير ملبّسٍ ، فأخذت ذلك وصرت إليه .
فلما
نظر إلى خاتم أمّه على البدرة بعث اليها فخرجت إليه ، فأخبرني بعض خدم الخاصّة
انها قالت له : كنت قد نذرت في علّتك لمّا آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي
عشرة آلاف دينار ، فحملتها إليه وهذا خاتمي على الكيس ، وفتح الكيس الآخر فاذا فيه
أربعمائة دينار فضمَّ إلى البدرة بدرة اخرى وأمرني بحمل ذلك إليه ، فحملته ورددت
السيف والكيسين وقلت له : يا سيّدي عزّ عليّ ، فقال لي : سيعلم الذين ظلموا ايّ
منقلب ينقلبون
(1) .
خامسا
: روى جمع من العلماء منهم المسعودي انه : سُعي إلى المتوكل بعليّ بن محمد الجواد
عليهماالسلام انّ في منزله كتبا وسلاحا من شيعته من أهل قم ، وانّه عازم على
الوثوب بالدّولة ، فبعث اليه جماعة من الأتراك فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها
شيئا ووجدوه في بيت مغلق عليه ، وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصا ،
وهو متوجّه إلى اللّه تعالى يتلو آيات من القرآن .
فحمل
على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له : لم نجد في بيته شيئا ، ووجدناه يقرء القرآن
مستقبل القبلة ، وكان المتوكل جالسا في مجلس الشرب ، فدخل عليه والكأس في يد
المتوكل .
فلمّا
رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده ، فقال :
واللّه ما خامر لحمي ودمي قط فاعفني ، فأعفاه ، فقال : أنشدني شعرا ، فقال
عليهالسلام : انّي قليل الرواية للشعر : فقال : لابدّ ، فأنشده عليهالسلام وهو
جالس عنده :
باتوا على قلل الاجبال
تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم
واُسكنوا حفرا يا بئسما نزلوا ناداهم صارخ من بعد دفنهمُ أين
الأساور والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منعمة من دونها تضرب
الاستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليها الدود
تنتقل قد طالما أكلوا دهرا وقد شربوا وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد
اُكلوا
قال
: فبكى المتوكل حتى بلّت لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون ، ودفع إلى عليّ
عليهالسلام أربعة آلاف دينار ، ثم ردّه إلى منزله مكرّما
(2) .
(1) الكافي 1:417 ، ح 4 ،
ومثله في الارشاد : 329 ، عنه البحار 50:198 ، ح 10 .
(572)
وعلى
رواية الكراجكي في كنز الفوائد : ... فضرب المتوكل بالكأس الأرض ، وتنغّص عيشه في
ذلك اليوم . وعلى الرواية الأولى انّ المتوكل سأله : هل عليك دَين ؟ فقال
عليهالسلام : بلى أربعة آلاف دينار ، فأعطاه المتوكل ذلك وردّه إلى منزله مكرّما
.
سادسا :
روى القطب الراوندي عن فضل بن احمد الكاتب ، عن أبيه احمد بن اسرائيل كاتب المعتز
باللّه ابن المتوكل ، انّه قال :
كنّا
مع المعتز وكان أبي كاتبه قال : فدخلنا الدار ، وإذا المتوكّل على سريره قاعد ،
فسلّم المعتزّ ووقف ووقفت خلفه ، وكان عهدي به إذا دخل عليه رحّب به ويأمره
بالقعود ، فأطال القيام ، وجعل يرفع قدما ويضع أخرى ، وهو لا يأذن له بالقعود .
ونظرت
إلى وجهه يتغيّر ساعة بعد ساعة ، ويقبل على الفتح بن خاقان ويقول : هذا الذي تقول
فيه ما تقول ، ويردّد القول ، والفتح مقبل عليه يسكّنه ، ويقول : مكذوب عليه يا
أمير المؤمنين ، وهو يتلظّى ويشطط ويقول : واللّه لأقتلنّ هذا المرائي ... وهو
الذي يدّعي الكذب ويطعن في دولتي ، ثم قال : جئني بأربعة من الخزر جلاف لا يفهمون
، فجيء بهم ودفع اليهم أربعة أسياف ، وأمرهم [ أن ] يرطنوا بألسنتهم إذا دخل أبو
الحسن ، وأن يقبلوا عليه بأسيافهم (فيخبطوه ويعلقوه) وهو يقول : واللّه لأحرقنّه
بعد القتل ، وأنا منتصب قائم خلف المعتزّ من وراء الستر .
فما
علمت الاّ بأبي الحسن قد دخل ، وقد بادر الناس قدّامه ، وقالوا : [ قد ] جاء
والتفت ، ورأى فاذا أنا به وشفتاه تتحرّكان ، وهو غير مكترث ولا جازع ، فلمّا بصر
به المتوكل رمى بنفسه عن السرير إليه وهو يسبقه ، فانكبّ عليه يقبّل بين عينيه
ويديه وسيفه بيده ، وهو يقول : يا سيدي يا ابن رسول اللّه يا خير خلق اللّه يا
ابن عمّي يا مولاي يا أبا الحسن ! وأبو الحسن عليهالسلام يقول : أعيذك يا أمير
المؤمنين باللّه [ اعفني ] من هذا ، فقال : ما جاء بك سيدي في هذا الوقت ؟ قال :
جاءني رسولك فقال : المتوكل [ يدعوك ، فقال : ] كذب ابن الفاعلة ، ارجع يا سيّدي
من حيث جئت . يا فتح ! يا عبيد اللّه ! يا معتزّ شيّعوا سيدكم وسيّدي .
فلما
بصر به الخزر خرّوا سجدا مذعنين ، فلمّا خرج دعاهم المتوكل (ثم امر الترجمان أن
يخبره) بما يقولون ، ثم قال لهم : لم لم تفعلوا ما أمرتم ؟ قالوا : شدة هيبته ،
ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأمّلهم ، فمنعنا ذلك عمّا أمرت به ،
وامتلأت قلوبنا من ذلك [ رعبا ] .
فقال
المتوكل : يا فتح هذا صاحبك ـ وضحك في وجه الفتح ، وضحك الفتح في وجهه ـ وقال :
الحمد للّه الذي بيّض وجهه ، وأنار حجّته
(1) .
(1) مروج الذهب 4:11 ،
والبحار 50:211 ، مع اختلاف ما .
(2) الخرائج 1:417 ، ح 21
، عنه البحار 50:196 ، ح 8 .
(573)
سابعا
: روى ابن بابويه وغيره عن الصقر بن أبي دلف انّه قال : لمّا حمل المتوكل سيدنا
أبا الحسن العسكري عليهالسلام جئت أسأل عن خبره ، قال : فنظر اليّ الرازقي وكان
حاجبا للمتوكل فأمر أن أدخل إليه فأُدخلت إليه ، فقال : يا صقر ما شأنك ؟ فقلت :
خيرٌ أيّها الأستاد ، فقال : اقعد ، فأخذني ما تقدّم وما تأخّر وقلت : أخطأت في
المجيء ، قال : فوحى الناس عنه ثم قال لي : ما شأنك ، وفيم جئت ؟ قلت : لخيرٍ مّا
، فقال : لعلّك تسأل عن خبر مولاك ؟
فقلت
له : ومن مولاي؟ مولاي أميرالمؤمنين، فقال : أسكت مولاك هو الحق، فلاتحتشمني فانّي
على مذهبك ، فقلت : الحمد للّه ، قال : أتحبّ أن تراه ؟ قلت : نعم ، قال : أجلس
حتّى يخرج صاحب البريد من عنده ، قال : فجلست فلمّا خرج ، قال لغلام له : خذ بيد
الصّقر وادخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وخلّ بينه وبينه ، قال :
فأدخلني الى الحجرة [ التي فيه العلويّ ] فأومأ إلى بيت فدخلت ، فاذا عليهالسلام
جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور .
قال
: فسلّمت فردّ ، ثم أمرني بالجلوس ، ثم قال لي : يا صقر ما أتى بك ؟ قلت : يا سيدي
جئت أتعرّف خبرك ؟ قال : ثم نظرت إلى القبر فبكيت ، فنظر اليّ فقال : يا صقر لا
عليك لن يصلوا الينا بسوء الآن ، فقلت : الحمد للّه ، ثم قلت : يا سيدي حديث يروى
عن النبي صلىاللهعليهوآله لا أعرف معناه ، قال : وما هو ؟ فقلت : قوله : « لا
تعادوا الأيّام فتعاديكم » ما معناه ؟
فقال
: نعم الأيّام نحن ما قامت السماوات والأرض ، فالسّبت اسم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
، والأحد كناية عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، والاثنين الحسن والحسين ، والثلثاء
عليّ بن الحسين ومحمد بن عليّ وجعفر بن محمد ، والأربعاء موسى بن جعفر وعليّ بن
موسى ومحمد بن عليّ وأنا ، والخميس ابني الحسن بن عليّ ، والجمعة ابن ابني واليه تجتمع
عصابة الحق ، وهو الذي يملأها قسطا وعدلاً كما ملئت ظلما وجورا ، فهذا معنى الأيام
فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة ، ثم قال عليهالسلام : ودّع واخرج فلا
آمن عليك
(1) .
ثامنا
: روى السيد ابن طاووس وغيره عن زرافة حاجب المتوكل انه قال : كان المتوكل يحضي
الفتح بن خاقان عنده وقرّبه منه دون الناس جميعا ودون ولده وأهله ، وأراد أن يبيّن
موضعه عندهم فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم ، والوزراء والأمراء
والقوّاد وسائر العساكر ووجوه الناس ، أن يزيّنوا بأحسن التزيين ويظهروا في أفخر
عددهم وذخائرهم ، ويخرجوا مشاة بين يديه ، وأن لا يركب أحد الاّ
(1) الخصال 2:394 ، ح 102
، عنه البحار 50:194 ، ح 6 ، ومثله في معاني الاخبار : 123 ، وايضا كمال الدين
2:382 ، ح 9 .
(574)
هو والفتح
بن خاقان خاصّة بسرّ من رأى ، ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رجّالة ، وكان
يوما قائظا شديد الحرّ ، واخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن عليّ بن محمد
عليهالسلام ، وشقّ عليه ما لقيه من الحرّ والزحمة .
قال
زرافة : فأقبلت إليه وقلت له : يا سيّدي يعزّ واللّه عليّ ما تلقى من هذه الطّغاة
، وما قد تكلّفته من المشقّة ، وأخذت بيده فتوكّأ عليّ وقال : يا زرافة ما ناقة
صالح عند اللّه بأكرم منّي أو قال بأعظم قدرا منّي ، ولم أزل اُسائله وأستفيد منه
واحادثه إلى أن نزل المتوكل من الرّكوب ، وأمر الناس بالانصراف .
فقدّمت
اليهم دوابّهم فركبوا إلى منازلهم ، وقدّمت بغلة له فركبها وركبت معه إلى داره ،
فنزل وودّعته وانصرفت إلى داري ، ولولدي مؤدّب يتشيّع من أهل العلم والفضل ، وكانت
لي عادة باحضاره عند الطعام ، فحضر عند ذلك ، وتجارينا الحديث وما جرى من ركوب
المتوكل والفتح ، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما ، وذكرت له ما شاهدته من
أبي الحسن عليّ بن محمد عليهالسلام وما سمعته من قوله : « ما ناقة صالح عند
اللّه بأعظم قدرا منّي » .
وكان
المؤدّب يأكل معي فرفع يده ، وقال : باللّه انّك سمعت هذا اللفظ منه ؟ فقلت له :
واللّه انّي سمعته يقوله ، فقال لي : اعلم انّ المتوكل لا يبقى في مملكته اكثر من
ثلاثة أيام ويهلك ، فانظر في أمرك واحرز ما تريد احرازه ، وتأهّب لأمرك كي لا
يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث ، أو سبب يجري .
فقلت
له : من أين لك ذلك ؟ فقال لي : أما قرأت القرآن في قصّة الناقة وقوله تعالى : «
... تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ
مَكْذُوبٍ »
(1) ، ولا يجوز أن يبطل قول الامام .
قال
زرافة : فو اللّه ما جاء اليوم الثالث حتّى هجم المنتصر ، ومعه بغاء ووصيف
والأتراك على المتوكّل ، فقتلوه وقطّعوه ، والفتح بن خاقان جميعا قطعا حتّى لم
يعرف احدهما من الآخر ، وأزال اللّه نعمته ومملكته ، فلقيت الامام أبا الحسن
عليهالسلام بعد ذلك وعرّفته ما جرى مع المؤدب وما قاله ، فقال : صدق انّه لمّا
بلغ منّي الجهد ، رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعزّ من الحصون والسّلاح
والجنن وهو دعاء المظلوم على الظالم ، فدعوت به عليه فأهلكه اللّه
(2) .
يقول
المؤلف : إنّ الأذى والجور الذي لاقاه الامام عليّ الهادي عليهالسلام من المتوكل
، وايضا ما لقى الشيعة المحبون والعلويون من اولاد فاطمة عليهاالسلام منه ، وما
فعل لعنه اللّه بقبر الامام الحسين عليهالسلام وزوّاره ، أكثر من أن يُحصيها هذا
المختصر ، لانّه أكفر
(1) هود : 65 .
(2) مهج الدعوات : 266 ،
عنه البحار 50:192 ، ح 5 .
(575)
بني العباس
(كما أخبر بذلك أمير المؤمنين عليهالسلام ) وكان رجلاً خبيثا حقيرا معاديا لآل
أبي طالب .
وكان
يأخذ الناس بالظن والتهمة ، ويؤذيهم لاجل حبهم أهل البيت عليهمالسلام ، وإصراره
على محو معالم قبر سيد الشهداء عليهالسلام وتعذيب زوّاره ، أظهر من الشمس وأبين
من الأمس ، وقد ذكرنا افعاله في كتاب تتمة المنتهى ، على سبيل الاختصار .
قال
القرماني احد علماء أهل السنة في أخبار الدول : وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين أمر [
المتوكل ] بهدم قبر الحسين عليهالسلام وهدم ما حوله من الدور ، وأن يعمل مزارع ،
ومنع الناس من زيارته وحرث وبقي صحراء ، فتألم المسلمون لذلك ، وكتب أهل بغداد
شتمه على الحيطان ، وهجاه الشعراء ، فمما قيل في ذلك :
تاللّه إن كانت أمية قد أتت
قتل ابن بنت نبيّها مظلوما فلقد أبان بنو أبيه بمثله هذا لعمرك
قبره مهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما(1)
قال أبو الفرج : واستعمل [
المتوكل ] على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي ، فمنع آل أبي طالب من التعرض
لمسألة الناس ، ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه انّ احدا أبرّ أحدا منهم
بشيء وإن قلّ الاّ انهكه عقوبة وأثقله غرما ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من
العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهنّ عواري حواسر،
إلى أن قتل المتوكل ...(2)
ولو
أردنا الإطناب في شرح ما طبع عليه المتوكل من خبث لخرجنا عن موضوع الكتاب ، ويظهر
ممّا نقلناه مدى ما جرى على الامام عليّ النقيّ عليهالسلام في أيامه ، واللّه
المستعان .
« في ذكر استشهاد الامام عليّ الهادي
عليهالسلام »
من
المتفق عليه انّ الامام عليهالسلام توفي سنة (254) من الهجرة ، وحصل الاختلاف في
يوم وفاته ، فذهب بعض العلماء إلى انّها كانت في اليوم الثالث من شهر رجب ، فعلى
القول بانّ ولادته وقعت في سنة (212 ه) يكون عمره عليهالسلام حين الوفاة (42) سنة
، وتوفى أبوه وهو ابن ثمان سنين وخمسة أشهر ، فانتقلت الخلافة والامامة إليه ،
وكانت مدّة امامته (33) سنة .
قال
العلامة المجلسي : أقام عليهالسلام حوالي ثلاث عشرة سنة بالمدينة الطيبة ، ثم
دعاه المتوكل إلى سر من رأى ، فمكث فيها عشرين سنة ، ودفن في البيت الذي كان
(1) أخبار الدول
وآثار الأول في التاريخ 2:113 .
(2) مقاتل الطالبيين : 396
.
(576)
ساكنا فيه(1)
.
يقول
المؤلف : بناءا على الرواية التي تقول انّ المتوكل استدعى الامام عليهالسلام إلى
سرّ من رأى في سنة (243 ه) ، تكون مدّة اقامته بها إحدى عشرة سنة ، وعلى قول
المسعودي تكون تسع عشرة سنة ، ولقد أدرك من خلفاء بني العباس : المأمون ، والمعتصم
، والواثق ، والمتوكل ، والمنتصر ، والمستعين ، والمعتز ، واستشهد في ايّام المعتز
بالسّم .
قال
المسعودي في مروج الذهب : حدّثني محمد بن الفرج بمدينة جرجان في المحلّة المعروفة
ببئر أبي عنان ، قال : حدّثني أبو دعامة ، قال : أتيت عليّ بن محمد بن عليّ بن
موسى عائدا في علّته التي كانت وفاته منها في هذه السنة ، فلمّا هممت بالانصراف
قال لي : يا أبا دعامة قد وجب حقك أفلا أحدّثك بحديث تسرّ به ؟
قال
: فقلت له : ما أحوجني إلى ذلك يا ابن رسول اللّه ، قال : حدّثني أبي محمد بن
عليّ ، قال : حدّثني أبي علي بن موسى ، قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر ، قال :
حدّثني أبي جعفر بن محمد ، قال : حدّثني أبي محمد بن عليّ ، قال : حدّثني أبي عليّ
بن الحسين ، قال : حدّثني أبي الحسين بن عليّ ، قال : حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب
عليهالسلام ، قال : قال رسول اللّه : اكتب يا عليّ ، قال : قلت : وما اكتب ؟
قال
لي : اكتب ، بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الايمان ما وقرته القلوب ، وصدقته الأعمال
، والاسلام ما جرى به اللسان ، وحلّت به المناكحة .
قال
أبو دعامة : فقلت : يا ابن رسول اللّه ما أدري واللّه أيّهما أحسن ، الحديث أم
الاسناد ؟ فقال : انّها لصحيفة بخطّ عليّ بن أبي طالب بإملاء رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله نتوارثها صاغرا عن كابر
(2).
روى
الشيخ الطبرسي عن أبي هاشم الجعفري رحمهالله انّه أنشد اشعارا في الامام وقد
اعتلّ عليهالسلام :
مادت الأرض بي و ادَّت فؤادي
واعترتني موارد العرواء حين قيل الامام نضو عليل قلت نفسي فدته
كلّ الفداء مرض الدّين لاعتلالك واعتلّ وغارت له نجوم السّماء
عجبا إن منيت بالداء والسقم وأنت الامام حسم الداء أنت آسي
الأدواء في الدين و الدنيا ومحيي الأموات والأحياء(3)
وقد سمّه المعتمد العباسي أخو
المعتز ـ على رواية الشيخ الصدوق وآخرين ـ
(1) راجع البحار 50:113
إلى 117 .
(2) مروج الذهب 4:85 ، عنه
البحار 50:208 ، ضمن حديث 22 .
(3) اعلام الورى :
348 ، عنه البحار 50:222 ، ح 9 .
(577)
ولم يكن
عنده حين وفاته غير ابنه الامام الحسن العسكري عليهالسلام ، فلمّا توفي حضر جميع
الأشراف و الأمراء ، وشقّ الامام العسكري عليهالسلام جيبه ثم انصرف إلى غسله
وتكفينه ودفنه ، ودفنه في الحجرة التي كانت محلاًّ لعبادته .
واعترض
بعض الجهلة الحمقى على الامام في انّ شق الجيب لا يناسب شأنك ، فوقّع عليهالسلام
إلى من قال ذلك : يا أحمق ما يدريك ما هذا ، قد شقّ موسى على هارون عليهماالسلام
(1) .
قال
الشيخ الأجل عليّ بن الحسين المسعودي رحمهالله في اثبات الوصية : وحدثنا جماعة
كلّ واحد منهم يحكي انّه دخل الدار ، وقد اجتمع فيها جملة من بني هاشم من
الطالبيين والعباسيين واجتمع خلق من الشيعة ، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمد
عليهالسلام ، ولا عرف خبرهم الاّ الثقات الذين نص أبو الحسن عندهم عليه .
فحكوا
انّهم كانوا في مصيبة وحيرة ، فهم في ذلك إذ خرج من الدار الداخلة خادم ، فصاح
بخادم آخر يا رياش خذ هذه الرقعة وامض بها إلى دار أمير المؤمنين وادفعها إلى فلان
وقل له : هذه رقعة الحسن بن عليّ .
فاستشرف
الناس لذلك ، ثم فتح من صدر الرواق باب وخرج خادم أسود ، ثم خرج بعده أبو محمد
عليهالسلام حاسرا مكشوف الرأس ، مشقوق الثياب وعليه مبطنة بيضاء ، وكان وجهه وجه
أبيه عليهالسلام لا يخطيء منه شيئا .
وكان
في الدار أولاد المتوكل وبعضهم ولاة العهود ، فلم يبق أحد الاّ قام على رجله ووثب اليه
أبو محمد الموفق ، فقصده أبو محمد عليهالسلام فعانقه ، ثم قال له : مرحبا يا ابن
العم ، وجلس بين بابي الرواق والناس كلّهم بين يديه ، وكانت الدار كالسوق
بالأحاديث ، فلمّا خرج وجلس امسك الناس ، فما كنّا نسمع شيئا الاّ العطسة والسعلة
، وخرجت جارية تندب أبا الحسن عليهالسلام ، فقال أبو محمد عليهالسلام : ما ها
هنا من يكفي مؤنة هذه الجاهلة ؟ فبادر الشيعة اليها ، فدخلت الدار .
ثم
خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمد عليهالسلام ، فنهض صلى اللّه عليه واخرجت الجنازة
، وخرج يمشي حتى اخرج بها إلى الشارع الذي بازاء دار موسى بن بقا ، وقد كان أبو
محمد صلى عليه قبل أن يخرج إلى الناس وصلّى عليه لما اُخرج المعتمد ، ثم دفن في
دار من دوره
(2) .
وروى
المسعودي أيضا في مروج الذهب : وكانت وفاة أبي الحسن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى
بن جعفر بن محمد .... في يوم الاثنين لأربع بقين من جمادي الآخرة سنة أربع وخمسين
ومائتين وهو ابن أربعين سنة ، وقيل ابن اثنتين وأربعين
(1) اثبات الوصية : 207 .
(2) اثبات الوصية : 205 .
(578)
سنة ...
وسمع في جنازته جارية تقول : ماذا لقينا في يوم الأثنين قديما وحديثا ؟(1)
واشارت
بهذا إلى يوم وفاة النبي صلىاللهعليهوآله ، وغصب الخلافة من قبل المنافقين ،
والبيعة التي عمّ شؤمها الاسلام ، ولا يبعد أنّ هذه الجارية هي التي سمع الامام
عليهالسلام ندبتها ولم يستحسن ذلك لكون كلامها خلاف التقية .
وقال
المسعودي أيضا في اثبات الوصية : ... واشتدّ الحرّ على أبي محمد عليهالسلام ،
وضغطة الناس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه ، فصار في طريقه إلى دكان
لبقال رآه مرشوشا ، فسلّم عليه واستأذنه في الجلوس ، فاذن له وجلس ووقف الناس حوله
.
فبينا
نحن كذلك إذ أتاه شاب حسن الوجه ، نظيف الكسوة على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض
قد نزل عنه فسأله ان يركبه ، فركب حتى أتى الدار ونزل ، وخرج في تلك العشية إلى
الناس ما كان يخرج عن أبي الحسن عليهالسلام حتى لم يفتقدوا منه الاّ الشخص
(2) .
(1) مروج الذهب 4:84 .
(2) اثبات الوصية : 206 .
(579)
(580)
الباب الثالث عشر
في تاريخ الامام الحادي عشر سبط سيد البشر ووالد
الامام المنتظر محبوب قلوب الأنبياء والأوصياء أبي محمد الحسن بن عليّ العسكري
(581)
(582)
الفصل الأول
في تاريخ ولادته وإسمه ولقبه وكنيته وأحوال والدته
إعلم
انّ الامام العسكري عليهالسلام ولد بالمدينة المنوّرة سنة (232 ه) شهر ربيع
الثاني ، ووقع الخلاف في يوم ولادته ، قال العلاّمة المجلسي رحمهالله : الأشهر
انّه ولد يوم الجمعة في الثامن من شهر ربيع الثاني ، وقيل في العاشر من هذا الشهر
، وقيل أيضا في الليلة الرابعة منه ، وقد أشار شيخنا الحر العاملي رحمهالله إلى
هذا الاختلاف في أرجوزته حيث قال :
مولده شهر ربيع الأخر
وذاك في اليوم الشريف العاشر في يوم الاثنين وقيل الرابع وقيل
في الثامن وهو شايعُ
إسمه
عليهالسلام الحسن ، وكنيته أبو محمد ، وأشهر ألقابه الزكي والعسكري ، ويقال له
ولأبيه وجدّه عليهمالسلام ابن الرضا ، ونقش خاتمه : (سبحان من له مقاليد السماوات
والأرض)
(1) وقيل : (أنا اللّه شهيد)(2)
وتسبيحه في اليوم السادس عشر والسابع عشر من الشهر وهو :
«
سبحان من هو في علوّه دانٍ ، وفي دنوّه عال ، وفي اشراقه منير ، وفي سلطانه قويّ ،
سبحان اللّه وبحمده »
(3) .
وإسم
والدته الماجدة حُديْث ، وعلى قول : سليل ، ويقال لها الجدّة ، وكانت في غاية
الصلاح والورع والتقوى ، وفي جنّات الخلود(4) : كانت في بلدها من
الأشراف في مصاف الملوك ، ويكفي في فضلها انّها كانت مفزعا وملجاءا للشيعة بعد
وفاة الامام الحسن العسكري عليهالسلام .
قال
المسعودي في اثبات الوصية : وروي عن العالم عليهالسلام انّه قال : لما أدخلت سليل
أم أبي محمد عليهالسلام على أبي الحسن عليهالسلام ، قال : سليل مسلولة من الآفات
والعاهات والأرجاس والأنجاس ، ثم قال لها : سيهب اللّه حجته على خلقه يملأ الارض
عدلاً كما ملئت جورا .
(1) راجع البحار 50:238 ،
ح 9 .
(2) راجع البحار 50:238 ،
ح 12 .
(3) دعوات الراوندي : 94 ،
ضمن حديث 228 .
(4) جنات الخلود : 38 .
(583)
وحملت
أمّه به بالمدينة وولدته بها ، فكانت ولادته ومنشأه مثل ولادة آبائه صلى اللّه
عليهم ومنشؤهم ، وولد في سنة احدى وثلاثين ومائتين من الهجرة ، وسنّ أبي الحسن
(الهادي) عليهالسلام في ذلك الوقت ست عشرة سنة وشخص بشخوصه إلى العراق في سنة ست
وثلاثين ومائتين وله أربع سنين وشهورا
(1) .
* * *
(1) اثبات الوصية : 207 .
(584)
الفصل الثاني
في مكارم أخلاقه ونوادر أحواله عليهالسلام
وفيه أحاديث
الأول
: روى الشيخ المفيد وغيره انّه : دخل العباسيّون على صالح بن وصيف عندما حبس أبا
محمد عليهالسلام ، فقالوا له : ضيق عليه ولا توسّع ، فقال لهم صالح : ما أصنع به
وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه ، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى
أمر عظيم .
ثم
أمر باحضار الموكلين ، فقال لهما : ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل ؟ فقالا :
ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كلّه ، لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة
، فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا ، وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا ، فلمّا سمع ذلك
العباسيّون انصرفوا خائبين
(1) .
يقول
المؤلف : يظهر من الروايات انّ الامام كان محبوسا دائما ، ممنوعا عن معاشرة الناس
، فكان دائم العبادة كما يظهر من الرواية الآتية ، وروى المسعودي انّ أبا الحسن
صاحب العسكر احتجب عن كثير من الشيعة الاّ عدد يسير من خواصه ، فلمّا افضى الأمر
إلى أبي محمد عليهالسلام كان يكلّم شيعته الخواص وغيرهم من وراء الستر الاّ في
الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان ، وانّ ذلك انما كان منه ومن أبيه قبله
مقدمة لغيبة صاحب الزمان ، لتألف الشيعة ذلك ولا تنكر الغيبة وتجري العادة
بالاحتجاب والاستتار(2) .
الثاني
: روي انّ المعتمد حبس أبا محمد عليهالسلام عند عليّ بن جرين ، وحبس جعفرا أخاه
معه ، وكان المعتمد يسأل عليّا عن أخباره في كلّ وقت ، فيخبر انّه يصوم النهار
ويصلّي الليل ، فسأله يوما من الأيام عن خبره ، فأخبره بمثل ذلك ، فقال له : امض
الساعة إليه واقرأه منّي السلام وقل له : انصرف إلى منزلك مصاحبا .
قال
عليّ بن جرين : فجئت إلى باب الحبس فوجدت حمارا مسرّجا ، فدخلت عليه فوجدته جالسا وقد
لبس خفّه وطيلسانه وشاشته ، فلمّا رآني نهض ، فأدّيت إليه الرسالة فركب ، فلمّا
استوى على الحمار وقف ، فقلت له : ما وقوفك يا سيدي ؟ فقال لي : حتى يجيء جعفر ،
فقلت : انّما أمرني باطلاقك دونه .
(1) الارشاد : 344 ، عنه
البحار 50:308 ، ح 6 ، وفي الكافي 1:429 .
(2) اثبات الوصية : 231 .
(585)
فقال
لي : ترجع إليه فتقول له : خرجنا من دار واحدة جميعا ، فاذا رجعت وليس هو معي كان
في ذلك ما لا خفاء به عليك ، فمضى وعاد ، فقال له : يقول لك : قد أطلقت جعفرا لك
لأنّي حبسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلّم به ، وخلّى سبيله فصار معه إلى
داره
(1) .
الثالث
: روي عن عيسى بن صبيح انّه قال : دخل الحسن العسكري عليهالسلام علينا الحبس وكنت
به عارفا ، فقال لي : لك خمس وستون سنة وشهر ويومان ، وكان معي كتاب دعاء عليه
تاريخ مولدي ، وانّي نظرت فيه فكان كما قال .
وقال
: هل رزقت ولدا ؟ قلت : لا ، فقال : اللهم ارزقه ولدا يكون له عضدا فنعم العضد
الولد ، ثم تمثل عليهالسلام :
من كان ذا عضد يدرك ظلامته
انّ الذليل الذي ليست له عضد
قلت
: ألك ولد ؟ قال : إي واللّه سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطا وعدلاً ، فأمّا الآن
فلا ، ثم تمثل :
لعلّك يوما ان تراني كأنما
بنيّ حوالي الأسود اللّوابد فانّ تميما قبل أن يلد الحصى أقام
زمانا وهو في الناس واحد(2)
الرابع : روي انّ أبا محمد
عليهالسلام سُلّم إلى نحرير ، فقالت له امرأته : اتق اللّه فانّك لا تدري من في
منزلك ؟ وذكرت عبادته وصلاحه ، وأنا أخاف عليك منه ، فقال : لأرمينّه بين السباع ،
ثم استأذن في ذلك ، فأذن له ، فرمى به إليها ، ولم تشكّ (امرأة نحرير) في أكلها له
، فنظروا من الغد إلى الموضع ليعرفوا الحال ، فوجدوه قائما يصلّي وهي حوله ، فأمر
باخراجه(3) .
يقول
المؤلف : وإلى هذه المعجزة يشير الدعاء الذي يُقرأ في اليوم الحادي عشر :
«وبالامام الحسن بن عليّ الذي طرح للسباع فخلَّصْته من مرابضها، وامتحن بالدواب
الصعاب فذللت له مراكبها».
وهذه
الفقرة الأخيرة تشير إلى انّ المستعين باللّه كان له بغل يمنع ظهره واللجام ، وقد
جمع الروّاض فلم يكن له حيلة في ركوبه ، فدعا الامام عليهالسلام كي يركبه ـ لعلّه
يقتل الامام ـ . فجاء الامام ووضع يده على كتف البغل ، فعرق ، فقال المستعين :
أرجوك أن تلجمه فألجمه وأسرجه وركبه من غير ان يمتنع عليه ، فمشى له أحسن المشي ، فتعجّب
المستعين من ذلك ووهبه إلى الامام عليهالسلام
(4) .
(1) البحار 50:314 ، ضمن
حديث 11 .
(2) الخرائج 1:478 ،
ح 19 ، عنه البحار 50:275 ، ح 48 .
(3) الخرائج 1:437 ، ح 15
، عنه البحار 50:268 ، ح 29 .
(4) الخرائج 1:432 ، ح 11
، ملخصا ، عنه البحار 50:265 ، ح 25 .
(586)
الخامس
: روى ابن شهر آشوب عن كتاب التبديل لأبي القاسم الكوفي ، انّ اسحاق الكندي كان
فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن ، وشغل نفسه بذلك وتفرد به في
منزله ، وانّ بعض تلامذته دخل يوما على الامام الحسن العسكري ، فقال له أبو محمد
عليهالسلام : اما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله
بالقرآن ؟ فقال التلميذ : نحن من تلامذته كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو
في غيره .
فقال
له أبو محمد : أتؤدّي إليه ما ألقيه اليك ؟ قال : نعم ، قال : فصر إليه وتلطف في
مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ، فاذا وقعت الأنسة في ذلك فقل : قد حضرتني
مسألة أسألك عنها ، فانه يستدعي ذلك منك ، فقل له : إن أتاك هذا المتكلم بهذا
القرآن هل يجوز ان يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها انّك ذهبت
إليها ؟ فانّه سيقول لك انّه من الجائز ، لأنّه رجل يفهم إذا سمع ، فاذا أوجب ذلك
فقل له : فما يدريك لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعا لغير معانيه
.
فصار
الرجل إلى الكندي وتلطف إلى ان ألقى عليه هذه المسألة ، فقال له : أعد عليّ ،
فأعاد عليه فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغا في النظر ، فقال :
أقسمت اليك الاّ أخبرتني من أين لك ؟ فقال : انّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك ،
فقال : كلاّ ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة ، فعرفني من أين لك
هذا ؟ فقال : أمرني به أبو محمد ، فقال : الآن جئت به وما كان ليخرج مثل هذا الاّ
من ذلك البيت ؛ ثم انّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه
(1) .
السادس
: روى العلامة المجلسي رحمهالله عن بعض مؤلفات أصحابنا عن عليّ بن عاصم الكوفي
الأعمى انّه قال :
دخلت
على سيدي الحسن العسكري ، فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام وقال : مرحبا بك يا ابن
عاصم اجلس هنيئا لك يا ابن عاصم أتدري ما تحت قدميك ؟ فقلت : يا مولاي انّي أرى
تحت قدمي هذا البساط كرّم اللّه وجه صاحبه ، فقال لي : يا ابن عاصم اعلم انّك على
بساط جلس عليه كثير من النبيين والمرسلين ، فقلت : يا سيدي ليتني كنت لا أفارقك ما
دمت في دار الدنيا ، ثم قلت في نفسي ليتني كنت أرى هذا البساط ، فعلم الامام
عليهالسلام ما في ضميري ، فقال : ادن منّي فدنوت منه فمسح يده على وجهي فصرت
بصيرا باذن اللّه .
ثمّ
قال : هذا قدم أبينا آدم ، وهذا أثر هابيل ، وهذا أثر شيث ، وهذا أثر ادريس ، وهذا
أثر هود ، وهذا أثر صالح ، وهذا أثر لقمان ، وهذا أثر ابراهيم ، وهذا اثر لوط ،
وهذا أثر شعيب ، وهذا أثر موسى ، وهذا أثر داوُد ، وهذا أثر سليمان ، وهذا أثر
الخضر ، وهذا
(1) المناقب 4:424 ، عنه
البحار 50:311 ، ضمن حديث 9 .
(587)
أثر دانيال
، وهذا أثر ذي القرنين ، وهذا أثر عدنان ، وهذا أثر عبد المطلب ، وهذا أثر عبد
اللّه ، وهذا أثر عبد مناف ، وهذا أثر جدّي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
وهذا أثر جدّي عليّ بن أبي طالب عليهالسلام .
قال
عليّ بن عاصم : فأهويت على الأقدام فقبّلتها ، وقبّلت يد الامام عليهالسلام وقلت
له : انّي عاجز عن نصرتكم بيدي ، وليس أملك غير موالاتكم والبراءة من أعدائكم ،
واللعن لهم في خلواتي ، فكيف حالي يا سيدي ؟ فقال عليهالسلام : حدّثني أبي عن
جدّي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال : من ضعف على نصرتنا أهل البيت ولعن في
خلواته أعداءنا ، بلّغ اللّه صوته إلى جميع الملائكة ، فكلّما لعن أحدكم أعداءنا
صاعدته الملائكة ، ولعنوا من لا يلعنهم ، فاذا بلغ صوته إلى الملائكة استغفروا له
وأثنوا عليه ، وقالوا : اللهم صلّ على روح عبدك هذا الذي بذل في نصرة أوليائه جهده
، ولو قدر على أكثر من ذلك لفعل ، فاذا النداء من قبل اللّه تعالى يقول : يا
ملائكتي انّي قد أحببت دعاءكم في عبدي هذا ، وسمعت نداءكم وصلّيت على روحه مع
أرواح الأبرار ، وجعلته من المصطفين الأخيار
(1) .
السابع
: روي في بحار الأنوار نقلاً عن تاريخ قم انّه روى عن مشايخ قم انّ الحسين بن
الحسن بن جعفر بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق عليهالسلام كان بقم يشرب الخمر
علانية ، فقصد يوما لحاجة باب احمد بن اسحاق الأشعري وكان وكيلاً في الأوقاف بقم ،
فلم يأذن له ورجع إلى بيته مهموما .
فتوجّه
أحمد بن اسحاق إلى الحج ، فلمّا بلغ سرّ من رأى استأذن على أبي محمد الحسن العسكري
عليهالسلام فلم يأذن له ، فبكى أحمد لذلك طويلاً وتضرّع حتى أذن له .
فلمّا
دخل قال : يا ابن رسول اللّه لم منعتني الدّخول عليك وأنا من شيعتك ومواليك ؟ قال
عليهالسلام : لأنّك طردت ابن عمّنا عن بابك ، فبكى أحمد وحلف باللّه انّه لم
يمنعه من الدخول عليه الاّ لأن يتوب من شرب الخمر ، قال : صدقت ولكن لابدّ عن
إكرامهم واحترامهم على كلّ حال ، وأن لا تحقرهم ولا تستهين بهم ، لانتسابهم الينا
فتكون من الخاسرين .
فلمّا
رجع احمد إلى قم أتاه أشرافهم وكان الحسين معهم ، فلمّا رآه أحمد وثب إليه
واستقبله وأكرمه وأجلسه في صدر المجلس ، فاستغرب الحسين ذلك منه واستبدعه ، وسأله
عن سببه فذكر له ما جرى بينه وبين العسكريّ عليهالسلام في ذلك .
فلمّا
سمع ذلك ندم من أفعاله القبيحة ، وتاب منها ، ورجع إلى بيته وأهرق الخمور وكسر
آلاتها ، وصار من الأتقياء المتورّعين ، والصّلحاء المتعبّدين ، وكان ملازما
للمساجد معتكفا فيها ، حتى أدركه الموت ، ودفن قريبا من مزار فاطمة رضي
(1) البحار 50:316 .
(588)
اللّه
عنهما(1) .
يقول
المؤلف : جاء في تاريخ قم انّ السيد أبا الحسن المذكور اوّل من جاء إلى قم من
السادة الحسينية ، فلمّا مات دفن في مقبرة بابلان، وتتصل قبته بقبة فاطمة بنت موسى
عليهالسلام من واجهة البلدة.(انتهى)
واعلم
انّه حُكي ما يشابه هذه الحكاية عن عليّ بن عيسى الوزير ، حيث قال : كنت أحسن إلى
العلوية وأجري على كلّ منهم في السنة بمدينة السلام ما يكفيه لطعامه وكسوته وكفاية
عياله ، وافعل ذلك عند استقبال شهر رمضان إلى انسلاخه ، وكان في جملتهم شيخ من
أولاد موسى بن جعفر بن محمد الباقر عليهالسلام ، وكنت أجرى عليه في كلّ سنة خمسة
الاف درهم .
قال
: واتّفق انّي عبرت يوما في الشتاء فرأيته سكرانا طافحا قد تقيأ وتلطخ بالطين ،
وهو على أقبح حال في وسط الشارع ، فقلت في نفسي : أعطي مثل هذا الفاسق كلّ سنة
خمسة آلاف درهم ينفقها في معصية اللّه تعالى ، لأمنعنّه رسمه الجاري من هذه السنة
، قال : فلمّا دخل شهر رمضان حضرني الشيخ المذكور ووقف بباب الدار ، فلمّا انتهيت
إليه سلّم عليّ وطالبني بالرسم ، فقلت : لا ولا كرامة ولا أدفع اليك مالي حتى
تنفقه في معصية اللّه تعالى ، أما رأيتك في الشتاء وانت سكران ؟ انصرف إلى منزلك
ولا تعد الي بعد هذا .
قال
: فلمّا نمت تلك الليلة رأيت النبي صلىاللهعليهوآله في المنام وقد اجتمع إليه
الناس ، قال : فتقدمت إليه ، فأعرض عنّي فشق عليّ ذلك وساءني ، فقلت : يا رسول
اللّه هذه مع كثرة احساني مع أولادك وبرّي لهم وكثرة صلاتي عليك ، فكافيتني بان
تعرض عنّي ؟
فقال
صلىاللهعليهوآله : بلى لم رددت ولدي فلانا عن بابك أقبح رد ، وخيّبته وقطعت
جائزته كلّ سنة ؟ فقلت : لانّي رأيته على فاحشة ووصفت الحال وقلت : انّما امتنعت
من جائزته لئلاّ أعينه على معصية اللّه تعالى ، فقال : أكنت تعطيه ذلك لأجله أو
لأجلي ؟ قال : فقلت : بلى لأجلك ، قال : فكنت سترت عليه ما وقع منه لأجلي ولكونه
من جملة أحفادي ، فقال : حبا وكرامة وعزازة ، فانتبهت من المنام فلمّا اصبحت ارسلت
في طلب ذلك الشيخ ، فلمّا انصرفت من الديوان ودخلت الدار أمرت بادخاله ، وتقدمت
إلى الغلام بان يحمل إليه عشرة الاف درهم في كيسين ، وقربته وأكرمته وقلت : إن
أعوزك شيء آخر فعرفنى وصرفته مسرورا .
فلمّا
وصل إلى الدار عاد إليّ وقال : أيّها الوزير ما سبب إبعادك لي بالأمس وتقريبك
ايّاي اليوم واضعافك عطيتي ؟ فقلت : ما كان الاّ خيرا فانصرف راشدا ، فقال :
واللّه لا انصرف حتى أقف على القصة ، قال : فأخبرته بها وبما رأيت في المنام ،
قال :
(1) البحار 50:323 ، ح 17
.
(589)
فدمعت
عيناه وقال : نذرت للّه نذرا واجبا انّي لا أعود إلى مثل ما رأيتني عليه ولا
أرتكب معصية أبدا ، وأحوج جدّي أن يحاجك من جهتي ، ثم تاب وحسنت توبته(1)
.
الثامن
: روي عن أبي السهل البلخي انّه قال : كتب رجل إلى أبي محمد عليهالسلام يسأله
الدعاء لوالديه وكانت الأم غالية والأب مؤمنا ، فوقّع : (رحم اللّه والدك) ، وكتب
آخر يسأل الدعاء لوالديه وكانت الأم مؤمنة والأب ثنويا ، فوقّع : (رحم اللّه
والدتك) والتاء منقوطة أي والدتك بالتاء كي لا يقرأ بالياء فيصير والديك(2)
.
الفصل الثالث
في معاجزه الباهرة
الاُولى
: روى القطب الراوندي عن جعفر بن الشريف الجرجاني انّه قال : حججت سنة ، فدخلت على
أبي محمد عليهالسلام بـ (سرّ من رأى) وقد كان أصحابنا حملوا معي شيئا من المال ،
فأردت أن أسأله إلى من أدفعه ؟ فقال قبل أن قلت له ذلك : إدفع ما معك إلى المبارك
خادمي .
قال
: ففعلت [ وخرجت ] وقلت : انّ شيعتك بجرجان يقرأون عليك السلام . قال : أولست
منصرفا بعد فراغك من الحجّ ؟ قلت : بلى .
قال
: فإنّك تصير إلى جرجان من يومك هذا إلى مائة وسبعين يوما ، وتدخلها يوم الجمعة
لثلاث ليال يمضين من شهر ربيع الآخر في اوّل النهار ، فأعلمهم انّي أوافيهم في ذلك
اليوم آخر النهار ، فامض راشدا ، فانّ اللّه سيسلّمك ويسلّم ما معك فتقدّم على
أهلك وولدك ، ويولد لولدك الشريف ابن ، فسمّه الصلت بن الشريف بن جعفر بن الشريف ،
وسيبلغه اللّه ، ويكون من أوليائنا .
فقلت
: يا ابن رسول اللّه انّ ابراهيم بن اسماعيل الجرجاني ، وهو من شيعتك كثير
المعروف إلى أوليائك ، يخرج اليهم في السنة من ماله أكثر من مائة ألف درهم ، وهو
أحد المتقلّبين في نعم اللّه بجرجان .
فقال
: شكر اللّه لأبي اسحاق ابراهيم بن اسماعيل صنيعته إلى شيعتنا ، وغفر له ذنوبه
ورزقه ذكرا سويّا قائلاً بالحق ، فقل له : يقول لك الحسن بن عليّ : سمّ ابنك احمد
.
(1) دار السلام 2:8 ، رؤيا
في اكرام أولاد أئمة الأنام عليهمالسلام .
(2) راجع كشف الغمة 3:221
.
(590)
فانصرفت
من عنده وحججت ، وسلّمني اللّه حتى وافيت جرجان في يوم الجمعة في اوّل النهار من
شهر ربيع الآخر على ما ذكر عليهالسلام ، وجاءني أصحابنا يهنّئوني وأعلمتهم انّ
الامام وعدني أن يوافيكم في آخر هذا اليوم ، فتأهّبوا لما تحتاجون إليه ، وأعدّوا
مسائلكم وحوائجكم كلّها .
فلمّا
صلّوا الظهر والعصر اجتمعوا كلّهم في داري ، فو اللّه ما شعرنا الاّ وقد وافانا
أبو محمد عليهالسلام ، فدخل الينا ونحن مجتمعون ، فسلّم هو أولاً علينا ،
فاستقبلنا وقبّلنا يده .
ثم
قال : انّي كنت وعدت جعفر بن الشريف أن اوافيكم في آخر هذا اليوم ، فصلّيت الظهر
والعصر بـ (سرّ من رأى) وصرت اليكم لأجدّد بكم عهدا ، وها أنا جئتكم الآن ،
فاجمعوا مسائلكم وحوائجكم كلّها .
فأوّل
من انتدب لمسائلته النضر بن جابر ، قال : يا ابن رسول اللّه انّ ابني جابرا أصيب
ببصره منذ أشهر ، فادع اللّه له أن يردّ عليه عينه ، قال : فهاته ، فمسح بيده على
عينيه فعاد بصيرا ، ثمّ تقدّم رجل فرجل يسألونه حوائجهم ، وأجابهم الى كلّ ما
سألوه حتى قضى حوائج الجميع ، ودعا لهم بخير ، وانصرف من يومه ذلك
(1) .
الثانية
: روي عن أبي هاشم الجعفري انّه قال : سمعته [ أي الامام العسكري عليهالسلام ]
يقول : من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل : ليتني لا أؤاخذ الاّ بهذا ، فقلت في
نفسي : انّ هذا لهو الدقيق ، وينبغي للرجل أن يتفقّد من نفسه كلّ شيء . فقال :
صدقت يا أبا هاشم ، الزم ما حدثتك به نفسك ، فانّ الشرك في الناس أخفى من دبيب
النمل على الصفا في الليلة الظلماء(2) .
يقول
المؤلف : يُعبّر عن هذه الذنوب بالمحقرات ؛ فقد روي عن الامام الصادق عليهالسلام
انّه قال : اتّقوا المحقرات من الذنوب فانها لا تُغفر(3) ، وعن رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله قال : انّ ابليس رضى منكم بالمحقرات(4) ،
وقال صلىاللهعليهوآله لابن مسعود في وصيته له : ... يا ابن مسعود لا تحقرنّ
ذنبا ولا تصغرنّه واجتنب الكبائر ، فانّ العبد إذا نظر يوم القيامة إلى ذنوبه دمعت
عيناه قيحا ودما ، يقول اللّه تعالى :
«
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرَا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدا بَعِيدا »
(5)(6) .
(1) الخرائج 1:424 ، ح 4 ،
عنه البحار 50:262 ، ح 22 .
(2) الخرائج 2:688 ، ح 11
، عنه البحار 50:250 ، ح 4 .
(3) البحار 73:345 ، ح 29
.
(4) البحار 73:363 ، ضمن
حديث 93 .
(5) آل عمران : 30 .
(591)
وقال
صلىاللهعليهوآله لأبي ذر : « ... انّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرة يخاف أن
تقع عليه ، وانّ الكافر ليرى ذنبه كأنّه ذباب مرّ على أنفه ... »(1) .
ومن
كلام أمير المؤمنين عليهالسلام : « أشد الذنوب ما استخفّ به صاحبه »(2)
.
وروى
عليّ بن ابراهيم القمي عن الامام الصادق عليهالسلام انّه قال : انّ اللّه تعالى
خلق حية قد احدقت بالسموات والأرض ، قد جمعت رأسها وذنبها تحت العرش ، فاذا رأت
معاصي العباد اسفت واستأذنت أن تبلع السموات والأرض(3) .
وروي
عن الصادق عليهالسلام انّه قال : انّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله نزل بأرض
قرعاء ، فقال لأصحابه : ائتونا بحطب ، فقالوا : يا رسول اللّه نحن بأرض قرعاء ما
بها من حطب ، قال : فليأت كلّ انسان بما قدر عليه .
فجاؤوا
به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : هكذا
تجتمع الذنوب ، ثم قال : ايّاكم والمحقرات من الذنوب ، فانّ لكلّ شيء طالبا ، ألا
وانّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في امام مبين
(4) .
الثالثة
: وروي عن أبي هاشم أيضا انّه قال : انّ أبا محمد عليهالسلام ركب يوما إلى
الصحراء فركبت معه ، فبينا نسير وهو قدّامي وانا خلفه ، إذ عرض لي فكر في دَين كان
عليّ قد حان أجله ، فجعلت أفكّر من أيّ وجه قضاؤه . فالتفت اليّ ، فقال : يا أبا
هاشم اللّه يقضيه ، ثم انحنى على قربوس سرجه فخطّ بسوطه خطة في الأرض وقال : انزل
فخذ واكتم .
فنزلت
فاذا سبيكة ذهب ، قال : فوضعتها في خفّي وسرنا ، فعرض لي الفكر ، فقلت : إن كان
فيها تمام الدين والاّ فانّي اُرضي صاحبه بها ، ويجب أن ننظر الآن في وجه نفقة
الشتاء وما نحتاج إليه فيه من كسوة وغيرها ، فالتفت اليّ ثم انحنى ثانية وخطّ
بسوطه خطّة في الأرض مثل الأولى ، ثم قال : انزل فخذ واكتم .
قال
: فنزلت وإذا سبيكة فضة ، فجعلتها في خفّي الآخر وسرنا يسيرا ، ثم انصرف الى منزله
وانصرفت إلى منزلي ، فجلست فحسبت ذلك الدين وعرفت مبلغه ثم وزنت سبيكة الذهب ،
فخرجت بقسط ذلك الدين ما زادت ولا نقصت ، ثم نظرت فيما نحتاج إليه لشتوتي من كلّ
وجه ، فعرفت مبلغه الذي لم يكن بدّ منه على الاقتصاد بلا تقتير ولا اسراف ، ثم
وزنت سبيكة الفضة فخرجت على ما قدّرته ما زادت ولا
(1) البحار 77:103 .
(2) البحار 77:79 .
(3) نهج البلاغة ، قصار
الحكم رقم 477 ، عنه البحار 73:364 .
(4) سفينة البحار 1:364 ،
عن تفسير القمي .
(5) الكافي 2:218 ، ح 3 ،
باب استصغار الذنب ، عنه البحار 73:346 ، ح 31 .
(592)
نقصت(1)
.
وروى
ابن شهر آشوب في المناقب عن أبي هاشم انّه قال : كنت مضيقا فأردت أن أطلب منه
معونة فاستحييت ، فلمّا صرت إلى منزل لي وجّه اليّ بمائة دينار ، وكتب اليّ : إذا
كانت لك حاجة فلا تستحي ولا تحتشم واطلبها فانّك ترى ما تحب ان شاء اللّه(2)
.
الرابعة
: وروى أبو هاشم أيضا ، قال : دخلت على أبي محمد العسكري عليهالسلام ، وكان يكتب
كتابا فحان وقت الصلاة الأولى ، فوضع الكتاب من يده وقام عليهالسلام إلى الصلاة ،
فرأيت القلم يمرّ على باقي القرطاس من الكتاب ويكتب حتى انتهى إلى آخره ، فخررت
ساجدا ، فلمّا انصرف من الصلاة اخذ القلم بيده وأذن للناس ] بالدخول (3)]
.
يقول
المؤلف : إنّ ما رواه أبو هاشم وما شاهده من الدلائل والمشاهد من الامام العسكري
عليهالسلام اكثر من أن تذكر هنا ، وقال هو : ما دخلت قط على أبي الحسن وأبي محمد
عليهماالسلام الاّ ورأيت منهما دلالة وبرهانا ...(4) وروينا عنه في
معاجز الامام الهادي عليهالسلام أيضا .
الخامسة
: روى القطب الراوندي عن فطرس البطريق ، وكان عالما بالطب وقد أتى عليه مائة سنة
ونيّف ، انّه قال :
كنت
تلميذ بختيشوع طبيب المتوكّل ، وكان يصطفيني ، فبعث إليه الحسن بن عليّ بن محمد بن
الرضا عليهمالسلام أن يبعث إليه بأخصّ أصحابه عنده ليفصده ، فاختارني وقال : قد
طلب منّي ابن الرضا من يفصده فصر إليه ، وهو أعلم في يومنا هذا بمن تحت السماء ،
فاحذر أن تعترض عليه فيما يأمرك به .
فمضيت
إليه فأمر بي إلى حجرة ، وقال : كن [ هاهنا ] إلى أن أطلبك . قال : وكان الوقت
الذي دخلت إليه فيه عندي جيدا محمودا للفصد ، فدعاني في وقت غير محمود له ، وأحضر
طشتا عظيما ، ففصدت الأكحل ، فلم يزل الدم يخرج حتى امتلأ الطشت .
ثم
قال لي : اقطع . فقطعت ، وغسل يده وشدّها ، وردّني إلى الحجرة وقدّم من الطعام الحارّ
والبارد شيء كثير ، وبقيت إلى العصر .
ثمّ
دعاني، فقال : سرّح . ودعا بذلك الطشت فسرّحت، وخرج الدم إلى أن امتلأ
(1) الخرائج 1:421 ، ح 2 ،
عنه البحار 50:259 ، ح 20 .
(2) المناقب 4:439 .
(3) بحار الأنوار 50:304 ،
ح 80 .
(4) الخرائج 2:684 ، ح 4 .
(593)
الطشت،
فقال : اقطع ، فقطعت وشدّ يده ، وردّني إلى الحجرة ، فبتّ فيها .
فلمّا
أصبحت وظهرت الشمس دعاني وأحضر ذلك الطشت وقال : سرّح . فسرّحت ، فخرج من يده مثل
اللبن الحليب إلى أن امتلأ الطشت ، ثم قال : اقطع . فقطعت ، وشدّ يده ، وقدّم اليّ
تخت ثياب وخمسين دينارا وقال : خذها ، وأعذر وانصرف . فأخذت وقلت : يأمرني السيد
بخدمة ؟ قال : نعم ، تحسن صحبة من يصحبك من دير العاقول .
فصرت
إلى بختيشوع ، وقلت له القصّة . فقال : أجمعت الحكماء على أنّ اكثر ما يكون في بدن
الانسان سبعة أمنان من الدم ، وهذا الذي حكيت لو خرج من عين ماء لكان عجبا ، وأعجب
ما فيه اللبن .
ففكّر
ساعة ، ثمّ مكثنا ثلاثة ايّام بلياليها نقرأ الكتب على أن نجد لهذه الفصدة ذكرا في
العالم فلم نجد ، ثمّ قال : لم تبق اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير
العاقول .
فكتب
إليه كتابا يذكر فيه ما جرى ، فخرجت وناديته ، فأشرف عليّ ، فقال : من أنت ؟ قلت :
صاحب بختيشوع ؛ قال : أمعك كتابه ؟ قلت : نعم ؛ فأرخى لي زبيلاً فجعلت الكتاب فيه
، فرفعه فقرأ الكتاب ، ونزل من ساعته .
فقال
: أنت الذي فصدت الرجل ؟ قلت : نعم . قال : طوبى لأمّك ! وركب بغلاً وسرنا ،
فوافينا « سرّ من رأى » وقد بقي من الليل ثلثه ، قلت : أين تحبّ دار أستاذنا ، أم
دار الرجل ؟ قال : دار الرجل .
فصرنا
إلى بابه قبل الأذان الأول ، ففُتح الباب وخرج إلينا خادم اسود ، وقال : أيّكما
راهب دير العاقول ؟ فقال : أنا جعلت فداك ، فقال : انزل ، وقال لي الخادم : احتفظ
بالبغلين ، وأخذ بيده ودخلا ، فأقمت إلى أن أصبحنا وارتفع النهار .
ثم
خرج الراهب وقد رمى بثياب الرهبانية ، ولبس ثيابا بيضا وأسلم ، فقال : خذني الآن
إلى دار استاذك ، فصرنا إلى باب بختيشوع ، فلمّا رآه بادر يعدو إليه ثم قال : ما
الذي أزالك عن دينك ؟
قال
: وجدت المسيح ، وأسلمت على يده ، قال : وجدت المسيح ؟! قال : أو نظيره ، فانّ هذه
الفصدة لم يفعلها في العالم الاّ المسيح ، وهذا نظيره في آياته وبراهينه . ثم
انصرف إليه ، ولزم خدمته إلى أن مات
(1) .
السادسة
: روى الشيخ الكليني عن ابن الكردي عن محمد بن عليّ بن ابراهيم بن موسى بن جعفر
عليهالسلام انّه قال : ضاق بنا الأمر فقال لي أبي : امض بنا حتى نصير إلى هذا
الرجل ـ يعني أبا محمد عليهالسلام ـ فانّه قد وُصف عنه سماحة .
(1) الخرائج 1:422 ، ح 3 ،
عنه البحار 50:260 ، ح 21 .
(594)
فقلت
: تعرفه ؟ فقال : ما أعرفه وما رأيته قط ، قال : فقصدناه ، فقال لي أبي وهو في
طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمسمائة درهم مائتا درهم للكسوة ومائتا درهم
للدين ومائة للنفقة ، فقلت في نفسي : ليته أمر لي بثلاثمائة درهم مائة أشتري بها
حمارا ومائة للنفقة ومائة للكسوة ، وأخرج إلى الجبل .
قال
: فلمّا وافينا الباب خرج الينا غلامه ، فقال : يدخل عليّ بن ابراهيم ومحمد ابنه ،
فلمّا دخلنا عليه وسلّمنا قال لأبي : يا عليّ ما خلّفك عنّا إلى هذا الوقت ؟ فقال
: يا سيدي استحييت أن ألقاك على هذه الحال، فلمّا خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول
أبي صرّة، فقال : هذه خمسمائة درهم مائتان للكسوة ومائتان للدين ومائة للنفقة ،
وأعطاني صرّة فقال : هذه ثلاثمائة درهم اجعل مائة في ثمن حمار ومائة للكسوة ومائة
للنفقة ، ولا تخرج إلى الجبل وصر إلى سوراء .
فصار
إلى سوراء وتزوّج بامرأة ، فدخله اليوم الف دينار ومع هذا يقول بالوقف ، فقال محمد
بن ابراهيم [ ابن الكردي ] : فقلت له : ويحك أتريد أمرا أبين من هذا ؟ قال : فقال
: هذا أمرٌ قد جرينا عليه
(1) .
السابعة
: روي عن اسماعيل بن محمد بن عليّ بن اسماعيل بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس بن
عبد المطلب انّه قال :
قعدت
لأبي محمد عليهالسلام على ظهر الطريق ، فلمّا مرّ بي شكوت إليه الحاجة ، وحلفت له
انّه ليس عندي درهم فما فوقها ولا غداء ولا عشاء ، قال : فقال : تحلف باللّه
كاذبا وقد دفنت مائتي دينار ، وليس قولي هذا دفعا لك عن العطية ، أعطه يا غلام ما
معك ، فأعطاني غلامه مائة دينار .
ثم
أقبل عليّ فقال لي : انّك تحرمها أحوج ما تكون إليها ـ يعني الدنانير التي دفنت ـ
وصدق عليهالسلام وكان كما قال ، دفنت مائتي دينار وقلت : يكون ظهرا وكهفا لنا ،
فاضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه وانغلقت عليّ أبواب الرزق ، فنبشت عنها فاذا
ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب ، فما قدرت منها على شيء
(2) .
الثامنة
: قال صاحب تاريخ قم عند ذكر السادة الذين أتوا إلى قم وحواليها : جاء محمد الخزري
بن عليّ بن عليّ بن الحسن الأفطس بن عليّ بن عليّ بن الحسين عليهمالسلام إلى
الحسن بن زيد في طبرستان وأقام عنده مدّة حتى سمّه الحسن بن زيد ، فمات وذهب
أولاده إلى مدينة (آبة) .
ثم
قال : حكى أبو القاسم بن ابراهيم بن عليّ انّ ابراهيم بن محمد الخزري قال : لقد خفي
عليّ وعلى أخي عليّ أمر أبي ومكانه ، فخرجنا من المدينة في طلبه ، وقلت
(1) الكافي 1:506 ، ح 3 ،
باب مولد أبي محمد الهادي عليهالسلام .
(2) الكافي 1:426 ، ح 14 ،
والبحار 50:280 ، ح 56 ، ومثله الخرائج 1:427 ، ح 6 ، ملخصا .
(595)
في نفسي لا
أجد الى أبي سبيلاً الاّ أن آتي مولاي الحسن بن عليّ العسكري عليهماالسلام وأسأله
عن أبي ، فذهبت إلى سرّ من رأى وأتيت داره ، فلم أجد أحدا وكان الجوّ حارا ، فجلست
هناك انتظر من يخرج من الدار ، فسمعت صوت جارية تقول وقد خرجت من الدار : ابراهيم
بن محمد الخزري ! فقلت : لبيك ها أنا ابراهيم بن محمد الخزري .
فقالت
: يقرئك مولاي السلام ويقول : انّ هذا سيوصلك إلى أبيك ، وأعطتني صرة فيها عشرة
دنانير ، فأخذتها ورجعت ، فخطر ببالي انّي لم أسأل مولاي عن أبي ومكانه ، فهممت أن
أرجع لكن تذكّرت قول الجارية : انّ هذا سيوصلك إلى أبيك ، فخرجت في طلبه حتى وجدته
في طبرستان عند الحسن بن زيد ، وبقي عندي من الدنانير دينارا واحدا . فحكيت على
أبي أمري وبقيت معه حتى سمّه الحسن بن زيد ، فمات منه وذهبت إلى آبة
(1) .
* * *
الفصل الثالث
في استشهاد الامام العسكري عليهالسلام
قال
العلامة المجلسي رحمهالله في جلاء العيون
(2) : روى ابن بابويه وغيره عن رجل من أهل قم
انّه قال : حضرت مجلس احمد بن عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان ، وهو عامل السلطان
يومئذ على الخراج والضياع بكورة قم ، وكان من أنصب خلق اللّه وأشدّهم عداوة لهم ،
فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسرّ من رأى ومذاهبهم وصلاحهم وأقدارهم عند
السلطان .
فقال
أحمد بن عبيد اللّه : ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلويّة مثل الحسن
بن عليّ بن محمد بن عليّ الرضا عليهمالسلام ، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه
ونبله وكرمه عند اهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم ، وتقديمهم ايّاه على ذوي السنّ
منهم والخطر ، وكذلك القواد والوزراء والكتّاب وعوام الناس ، فانّي كنت قائما ذات
يوم على رأس أبي وهو يوم مجلسه للنّاس إذ دخل عليه حجّابه فقالوا له : انّ ابن
الرضا على الباب ، فقال بصوت عال : ائذنوا له .
فدخل
رجل أسمرٌ أعينٌ ، حسن القامة ، جميل الوجه ، جيّد البدن حدث السنّ ، له جلالة
وهيبة ، فلمّا نظر إليه قام فمشى إليه خطّى ، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني
(1) تاريخ قم : 231 ـ 232
.
(2) جلاء العيون : 991 ـ
999 .
(596)
هاشم ولا
بالقوّاد ولا بأولياء العهد ، فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه ومنكبيه ، وأخذ بيده
فأجلسه على مصلاّه الذي كان عليه ، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه ، وجعل يكلّمه
ويكنّيه ، ويفديه بنفسه وبأبويه ، وأنا متعجّب مما أرى منه إذ دخل عليه الحجاب
فقالوا : الموفّق قد جاء ، وكان الموفّق إذا جاء ودخل على أبي تقدّم حجّابه وخاصّة
قوّاده .
فقاموا
بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج ، فلم يزل أبي مقبلاً عليه
يحدّثه حتّى نظر إلى غلمان الخاصّة فقال حينئذ : إذا شئت فقم جعلني اللّه فداك يا
أبامحمد، ثمّ قال لغلمانه : خذوا به خلف السّماطين كيلا يراه الأمير ـ يعني الموفق
ـ فقام وقام أبي فعانقه وقبّل وجهه ومضى ، فقلت لحجّاب أبي وغلمانه : ويلكم من هذا
الذي فعل به أبي هذا الذي فعل ؟
فقالوا
: هذا رجلٌ من العلوية يقال له : الحسن بن عليّ يعرف بابن الرضا ، فازددت تعجّبا ،
فلم أزل يومي ذلك قلقا متفكّرا في أمره وأمر أبي وما رأيت منه حتى كان الليل وكانت
عادته أن يصلّي العتمة ، ثمّ يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه
إلى السّلطان ، فلمّا صلّى وجلس جئت فجلست بين يديه ، فقال : يا أحمد ألك حاجة ؟
فقلت : نعم يا أبة إن أذنت سألتك عنها ؟ فقال : قد أذنت لك يا بني فقل ما أحببت ،
فقلت له : يا أبة من كان الرّجل الذي أتاك بالغداة وفعلت به ما فعلت من الاجلال
والاكرام والتبجيل ، وفديته بنفسك وبأبويك ؟
فقال
: يا بنيّ ذاك امام الرّافضة ، ذاك ابن الرّضا ، فسكت ساعة ، فقال : يا بنيّ لو
زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقّها أحد من بني هاشم غير هذا ، فانّ هذا
يستحقّها في فضله وعفافه ، وهديه وصيانة نفسه ، وزهده وعبادته ، وجميل أخلاقه
وصلاحه ، ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيرا فاضلاً ، فازددت قلقا
وتفكّرا وغيظا على أبي ممّا سمعت منه فيه ، ولم يكن لي همّة بعد ذلك الاّ السؤال
عن خبره ، والبحث عن أمره ، فما سألت أحدا من بني هاشم ومن القوّاد والكتّاب
والقضاة والفقهاء وسائر الناس الاّ وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام ،
والمحلّ الرّفيع ، والقول الجميل ، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه وغيرهم
، وكلّ يقول : هو امام الرافضة ، فعظم قدره عندي إذ لم أر له وليّا ولا عدوّا الاّ
وهو يُحسن القول فيه والثناء عليه .
فقال
له بعض أهل المجلس من الأشعريين : يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر ؟ فقال : ومن جعفر
فيسأل عن خبره أو يُقرن به ، انّ جعفرا معلن بالفسق ، ماجن ، شرّيب للخمور ، وأقلّ
من رأيته من الرجال وأهتكهم لستره ، فدمٌ
(1) ، خمّار ، قليلٌ في نفسه ،
(1) الفدم : العيي عن
الكلام في رخاوة وقلة فهم ، والأحمق .
(597)
خفيف ،
واللّه لقد ورد على السّلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليّ عليهماالسلام ما
تعجّبت منه وما ظننت أنّه يكون ، وذلك انّه لما اعتلّ بعث إلى أبي أنّ ابن الرضا
قد اعتل ، فركب من ساعته مبادرا إلى دار الخلافة ، ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر
من خدّام أمير المؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصّته فمنهم نحرير ، وأمرهم بلزوم دار
الحسن بن عليّ عليهماالسلام وتعرُّف خبره وحاله .
وبعث
إلى نفر من المتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحا ومساءً ، فلمّا كان
بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره انّه قد ضعف ، فركب حتّى بكّر إليه ثمّ امر
المتطبّبين بلزومه ، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه ، وأمره أن يختار من
أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه فأحضرهم ، فبعث بهم إلى دار الحسن
عليهالسلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهارا ، فلم يزالوا هناك حتّى توفّي
عليهالسلام لأيام مضت من شهر ربيع الأول من سنة ستّين ومائتين .
فصارت
سرّ من رأى ضجّة واحدة ـ مات ابن الرضا ـ وبعث السّلطان إلى داره من يفتّشها
ويفتّش حجرها ، وختم على جميع ما فيها ، وطلبوا أثر ولده وجاؤوا بنساء يعرفن
بالحبل ، فدخلن على جواريه فنظرن اليهنّ ، فذكر بعضهنّ انّ هناك جارية بها حمل ،
فأمر بها فجعلت في حجرة ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثمّ اخذوا بعد
ذلك في تهيئته، وعطّلت الأسواق وركب أبي وبنو هاشم والقوّاد والكتّاب وسائر الناس
إلى جنازته عليهالسلام ، فكانت سرّ من رأى يومئذ شبيها بالقيامة ، فلمّا فرغوا من
تهيئته بعث السّلطان إلى أبي عيسى بن المتوكّل فأمره بالصلاة عليه .
فلمّا
وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها ، فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من
العلويّة والعبّاسية والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء والمعدّلين ، وقال : هذا
الحسن بن عليّ بن محمد ابن الرضا ، مات حتف أنفه على فراشه ، حضره من خدم أمير
المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن المتطببين فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ،
ثمّ غطّى وجهه وقام فصلّى عليه وكبّر عليه خمسا وأمر بحمله ، فحمل من وسط داره
ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه عليهالسلام .
فلمّا
دفن وتفرّق الناس اضطرب السّلطان وأصحابه في طلب ولده ، وكثر التفتيش في المنازل
والدور ، وتوقّفوا على قسمة ميراثه ، ولم يزل الذين وكّلوا بحفظ الجارية التي
توهّموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبيّن لهم بطلان الحبل ، فقسم
ميراثه بين أمّه وأخيه جعفر وادّعت امّه وصيّته ، وثبت ذلك عند القاضي ، والسّلطان
على ذلك يطلب أثر ولده ، فجاء جعفر بعد قسمة الميراث إلى أبي ، وقال له : اجعل لي
مرتبة أبي وأخي ، وأوصل اليك في كلّ سنة عشرين الف دينار مسلّمة .
(598)
فزبره
أبي وأسمعه وقال له : يا أحمق انّ السلطان ـ أعزّه اللّه ـ جرّد سيفه وسوطه في
الذين زعموا انّ اباك وأخاك أئمة ليردّهم عن ذلك ، فلم يقدر عليه ولم يتهيّأ له
صرفهم عن هذا القول فيهما ، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيّأ له
ذلك ، فان كنت عند شيعة أبيك وأخيك اماما فلا حاجة بك إلى السّلطان يرتّبك مراتبهم
ولا غير السّلطان ، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا ، واستقلّه [ أبي
[ عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب عنه ، فلم يأذن له بالدخول عليه حتّى مات أبي
وخرجنا والأمر على تلك الحال ، والسّلطان يطلب أثر ولد الحسن بن عليّ عليهماالسلام
حتّى اليوم
(1) .
وروى
ابن بابويه بسند معتبر عن أبي الأديان انّه قال : كنت أخدم الحسن بن عليّ بن محمد
بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب
عليهمالسلام ، واحمل كتبه إلى الامصار ، فدخلت عليه في علّته التي توفي فيها
صلوات اللّه عليه ، فكتب معي كتبا وقال : إمض بها إلى المدائن فانّك ستغيب خمسة
عشر يوما ، وتدخل إلى سرّ من رأى يوم الخامس عشر ، وتسمع الواعية في داري وتجدني
على المغتسل .
قال
أبو الأديان : فقلت : يا سيدي فاذا كان ذلك فمن ؟ قال : من طالبك بجوابات كتبي فهو
القائم من بعدي ، فقلت : زدني ، فقال : من يصلّي عليّ فهو القائم بعدي ، فقلت :
زدني ، فقال : من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي ، ثم منعتني هيبته أن أسأله
عمّا في الهميان .
وخرجت
بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ، ودخلت سرّ من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي
عليهالسلام ، فاذا أنا بالواعية في داره ، وإذا به على المغتسل ، وإذا أنا بجعفر
بن عليّ أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يعزّونه ويهنّونه ، فقلت في نفسي : إن
يكن هذا الامام فقد بطلت الامامة لأنّي كنت أعرفه يشرب النبيذ ، ويقامر في الجوسق
، ويلعب بالطنبور .
فتقدّمت
فعزّيت وهنّيت فلم يسألني عن شيء ، ثم خرج عقيد (خادم الامام) فقال : ياسيدي قد
كفّن أخوك فقم وصلّ عليه ، فدخل جعفر بن عليّ والشيعة من حوله يقدمهم السّمان
والحسن بن عليّ قتيل المعتصم المعروف بسلمة .
فلمّا
صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن عليّ صلوات اللّه عليه على نعشه مكفّنا ، فتقدّم
جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه ، فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيٌّ بوجهه سمرة ، بشعره
قطط ، باسنانه تفليج ، فجبذ برداء جعفر بن عليّ وقال : تأخر يا عمّ فانا أحق
بالصلاة على أبي ، فتأخّر جعفر وقد اربدّ وجهه واصفرّ .
(1) كمال الدين 1:40 ، عنه
البحار 50:325 ، ح 1 .