(هامش)
(1) خطبة المصنف: بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي، الحمد لله الذي غرفت في بحار
معرفته أفكار العلماء وتحيرت في إدراك كنه ذاته أنظار العقلاء، وحسرت عن معرفة
كماله عقول الأولياء، وقصرت عن وصف لاهوتيته ألسنة الفضلاء، وعجزت من تحقيق ماهيته
أذهان (أفكار خ ل) الأذكياء، ولم يحصل أحد منهم إلا على الصفات والأسماء، لا يشبهه
شيئ في الأرض ولا في السماء، رافع درجات العلماء إلى ذروة العلى، وجاعلهم ورثة
الأنبياء، ومفضل مدادهم على دماء الشهداء. أحمده حمدا يتجاوز عن الحد والاحصاء،
ويرتفع عن التناهى والانقضاء، وصلى الله عليه سيد الأنبياء محمد المصطفى، وعلى
عترته البررة الأصفياء، الأئمة الأتقياء، صلاة تملأ أقطار الأرض والسماء. أما بعد
فإن الله تعالى حيث حرم في كتاب العزيز كتمان آياته وحظر إخفاء براهينه ودلالاته،
فقال تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في
الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، وقال تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزل
الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا
يكلمهم الله يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب عليم، أولئك الذين اشتروا الضلالة
بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار، وقال رسول الله صلى الله عليه
وآله: من علم علما وكتمه: ألجمه الله يوم القيمة بلجام من النار، تفضلا منه على
بريته وطلبا لإدراجهم في رحمته، فيرجع الجاهل عن زلله، ويستوجب الثواب بعلمه وعمله،
وجب على كل مجتهد وعارف إظهار ما أوجب الله تعالى إظهاره من الدين، وكشف الحق
وإرشاد الضالين، لئلا يدخل تحت الملعونين على لسان رب العالمين، وجميع الخلائق
أجمعين بمقتضى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وقد قال النبي صلى الله عليه
وآله: إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم منكم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة
الله. ولما كان أبناء هذا الزمان ممن استغويهم الشيطان إلا الشاذ القليل، الفايز
بالتحصيل (*)
ص 76
البحث الأول : في أعرفية الادراك 
لما كان الادراك أعرف الأشياء وأظهرها على ما يأتي وبه تعرف الأشياء،
(هامش)
حتى أنكروا كثيرا من الضروريات، وأخطأوا في معظم المحسوسات وجب بيان خطأهم لئلا
يقتدي غيرهم بهم، فتعم البلية جميع الخلق ويتركوا نهج الصدق. وقد وضعنا هذا الكتاب
الموسوم بنهج الحق وكشف الصدق طالبين فيه الاختصار وترك الاكثار، بل اقتصرنا فيه
على مسائل ظاهرة معدودة، ومطالب واضحة محدودة، وأوضحت فيه لطائفة المقلدين من طوائف
المخالفين إنكار رؤسائهم ومقلديهم، القضايا البديهية، والمكابرة في المشاهدات
الحسية، ودخولهم تحت فرق السوفسطائية، وارتكاب الأحكام التي لا يرتضيها لنفسه ذو
عقل وروية، لعلمي بأن المنصف منهم إذا وقف على من يقلده تبرء منه وحاد عنه، وعرف
أنه ارتكب الخطأ والزلل، وخالف الحق في القول والعمل، فإن اعتمدوا الانصاف وتركوا
المعاندة بالخلاف وراجعوا إلى أذهانهم الصحيحة وما تقتضيه جودة القريحة، ورفضوا
تقليد الآباء، والاعتماد على قول الرؤساء، الذين طلبوا اللذة العاجلة، وأهملوا
أحوال الأجلة، حازوا القسط الأوفى من الاخلاص، وحصلوا بالنصيب الأوفر من النجاة
والخلاص، وإن أبوا إلا الاستمرار على التقليد، فالويل لهم من نار الوعيد، وصدق
عليهم قوله تعالى: إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم
الأسباب. وإنما وضعنا هذا الكتاب حسبة لله تعالى ورجاء لثوابه، وطلبا للخلاص من
أليم عقابه بكتمان الحق وترك إرشاد الخلق، وامتثلت فيه مرسوم سلطان وجه الأرض،
الباقية دولته إلى يوم النشر والعرض سلطان السلاطين وخاقان الخواقين مالك رقاب
العباد وحاكمهم وحافظ أهل البلاد وراحمهم المظفر على جميع الأعداء المنصور من إله
السماء المؤيد بالنفس القدسية والرياسة الملكية الواصل بفكره العالي إلى أسنى مراتب
المعالي البالغ بحدسه الصائب إلى معرفة الشهب الثواقب غياث الملة والحق والدين
اولجايتو خدا بنده محمد خلد الله ملكه إلى يوم الدين، وقرن دولته بالبقاء والنصر
والتمكين وجعل ثواب هذا الكتاب واصلا إليه، أعاد الله تعالى بركاته إليه بمحمد وآله
الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين، وقد اشتمل هذا الكتاب على مسائل. (*)
ص 77
وحصل فيه من مقالاتهم أشياء عجيبة غريبة، وجب البداية به فلهذا قدمناه اعلم أن الله
تعالى خلق النفس الإنسانية في مبدء الفطرة خالية عن جميع العلوم بالضرورة قابلة
لها، بالضرورة وذلك مشاهد في حال الأطفال، ثم إن الله تعالى خلق للنفس آلات (1) بها
يحصل الادراك وهي القوى الحاسة فيحس الطفل في أول ولادته بحس اللمس ما يدركه من
الملموسات، ويميز بواسطة الادراك البصري على سبيل التدريج بين أبويه وغيرهما، وكذا
يتدرج في الطعوم وباقي المحسوسات إلى إدراك ما يتعلق بتلك الآلات، ثم يزداد تفطنه
فيدرك بواسطة إحساسه بالأمور الجزئية الأمور الكلية من المشاركة (2) والمباينة،
ويعقل الأمور الكلية الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية، ثم إذا استكمل
العلوم وتفطن بمواضع الجدال، أدرك بواسطة العلوم الضرورية العلوم الكسبية، فقد ظهر
من هذا أن العلوم الكسبية فرع على العلوم الضرورية الكلية، والعلوم الضرورية الكلية
فرع على المحسوسات الجزئية، فالمحسوسات إذن هي أصول الاعتقادات ولا يصح
(هامش)
(1) وعبر بعض الفلاسفة عنها بخدام النفس تارة وموالي العقل أخرى والفرق بالاعتبار
كما هو غير خفي لدى أهل الفن. ثم إن جعلها آلات للنفس إحدى المسالك هنا، وذهب بعض
بأنه لا تعدد بين النفس وتلك القوى، وإليه يومئ على بعض الاحتمالات قول الحكيم في
نظمه: النفس في وحدتها كل القوى * وفعلها في فعله قد انطوى. وفي مسألة النفس مباحث
عديدة، منها اتحادها مع الآلات وعدمه، ومنها اتحادها مع العقل وعدمه، ومنها اتحادها
مع الروح وعدمه، ومنها انقسامها إلى أقسام مذكورة في كتب القوم طوينا عنها كشحا
روما للاختصار. (2) المشاركة إشارة إلى معرفة الشيئ بأمثاله كما أن المبائنة معرفته
بأضداده، ومن ثم قيل: تعرف الأشياء بالأضداد والأمثال. از در رهائى كه پيغمبر بسفت
* تعرف الاشياء بالاضداد گفت
ص 78
الفرع إلا بعد صحة أصله، فالطعن في الأصل طعن في الفرع، وجماعة الأشاعرة الذين هم
اليوم كل الجمهور من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلا اليسير من فقهاء
(1) ما وراء النهر، أنكروا قضايا محسوسة على ما يأتي بيانه، فلزمهم إنكار المعقولات
الكلية التي هي فرع المحسوسات ويلزمهم إنكار الكسبيات، وذلك عين السفسطة (2) انتهى
كلامه قدس سره. قال الناصب خفضه الله (3) إعلم أن هذه المباحث التي صدر بها كتابه،
كلها ترجع إلى بحث الرؤية التي وقع فيها الخلاف بين الأشاعرة (4) والمعتزلة ومن
تابعهم من الإمامية وغيرهم وذلك في رؤية الله تعالى التي تجوزه الأشاعرة وينكره
المعتزلة كما ستراه واضحا
(هامش)
(1) فإنهم كانوا ما تريدية من أتباع الشيخ أبي منصور الماتريدي، وبين هذه الطائفة
وبين الأشاعرة خلاف في عدة مسائل وسنشير إليها في المظان. (2) السفسطة: المغلطة،
وتعرف في الصناعة العلمية: بأنها القياس المركب من الوهميات والغرض منها تغليط
الخصم وإسكاته ومثل لها بأمثلة منها قولك: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في
الذهن قائم بالذهن عرض لينتج: أن الجوهر عرض. (3) قال ابن الأثير في النهاية في
أسماء الله تعالى، الخافض هو الذي يخفض الجبارين والفراعنة أي يضعهم ويهينهم ويخفض
كل شيئ يريد خفضه، والخفض ضد الرفع. منه قده . (4) الأشاعرة: هم جماعة من العامة
لهم مقالات منكرة من نفي الحسن والقبح وإسناد الأفعال الاختيارية للعباد إلى الله
تعالى ونحوهما من الشنايع تبعوا في تلك الأمور شيخهم أبا الحسن، علي بن إسماعيل
الأشعري الشهير ومن ثم عرفوا بالأشعرية وهم فرق كثيرة ذكرها مؤلفوا كتب مقالات
الأديان، كتبصرة العوام لسيدنا الرازي والملل للشهرستاني والفصل لابن حزم والفرق
بين الفرق ومقالات أرباب الأهواء والملل وغيرها من الزبر والأسفار. (*)
ص 79
إن شاء الله تعالى، فجعل المسألة الأولى في الادراك مع إرادة الرؤية التي هي أخص من
مطلق الادراك، من باب إطلاق العام وإرادة الخاص بلا إرادة المجاز وقيام القرينة،
وهذا أول أغلاطه، والدليل على أنه أراد بهذا الادراك الذي عنون به المسألة الرؤية:
أنه قال: لما كان الادراك أعرف الأشياء وأظهرها على ما يأتي، وحصل فيه من مقالاتهم
أشياء عجيبة غريبة، وجب البدأة به، وإنما ظهرت مقالاتهم العجيبة على زعمه في الرؤية
لا في مطلق الادراك كما ستعرف بعد هذا، فإن الأشاعرة لا بحث لهم مع المعتزلة في
مطلق الادراك، فثبت أنه أطلق الادراك وأراد به الرؤية وهو غلط، إذ لا دلالة للعام
على الخاص، ثم إن قوله الادراك أعرف الأشياء وأظهرها وبه تعرف الأشياء، كلام غير
محصل المعنى، لأنه إن أراد أن الرؤية التي أراد من الادراك هي أعرف الأشياء في
كونها محققة ثابتة، فلا نسلم الأعرفية فأن كثيرا من الأجسام والأعراض معروفة محققة
الوجود مثل الرؤية، وإن أراد أن الاحساس الذي هو الرؤية أعرف بالنسبة إلى باقي
الاحساسات، ففيه أن كل حاسة بالنسبة إلى متعلقه، حالها كذلك، فمن أين حصل هذه
الأعرفية للرؤية، وبالجملة هذا الكلام غير محصل المعنى ثم قوله: إن الله تعالى خلق
النفس الإنسانية في مبدء الفطرة خالية عن جميع العلوم بالضرورة وقابلة لها بالضرورة
وذلك مشاهد في حال الأطفال، كلام باطل، يعلم (1) منه أنه لم يكن يعرف شيئا من
العلوم العقلية، فإن الأطفال لهم علوم ضرورية كثيرة من المحسوسات البصرية والسمعية
والذوقية، وكل هذه المحسوسات علوم حاصلة من الحس، ولما لم يكن هذا الرجل من
(هامش)
(1) لم يدع المصنف، خلو نفوس الأطفال عن مطلق الاحساسات، حتى يرد عليه بأن الأطفال
لهم علوم ضرورية (الخ)، بل صرح بخلافه حيث قال: فيحس الطفل في أول ولادته فتدبر.
ص 80
أهل العلوم العقلية (1)، حسب أن مبدأ الفطرة الذي يذكره الحكماء ويقولون إن النفس
في مبدء الفطرة خالية عن العلوم، فهو حال الطفولية، وذلك باطل عند من يعرف أدنى شيئ
من الحكمة، فإن الجنين فضلا عن الطفل له علوم كثيرة، بل المراد من بدء الفطرة آن
تعلق النفس بالبدن، فالنفس في تلك الحال خالية عن جميع العلوم إلا العلم بذاته،
وهذا تحقيق ذكر في موضعه من الكتب الحكمية، ولا يناسب بسطه في هذا المقام، والغرض
أنه لم يكن من أهل المعقولات حتى يظن أنه شنع على الأشاعرة من الطرق العقلية: ثم
قوله: وأنكروا قضايا محسوسة على ما يأتي بيانه فلزمهم إنكار المعقولات الكلية، أراد
به أنهم أنكروا وجوب تحقق الرؤية عند شرائطها، وعدم امتناع الادراك (2) عند فقد
الشرائط، وأنت ستعلم أن كل ما ذكره ليس إنكارا للقضايا المحسوسة، ثم إن إنكار
القضايا المحسوسة أريد به أنهم يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة، لوقوع الغلط
في المحسوسات فلا يعتمد على حكم الحس، وهذا هو مذهب جماعة من العقلاء، ذكره
الأشاعرة وأبطلوه، وحكموا بأن حكم الحس معتبر في المحسوسات، كما اشتهر هذا في
(هامش)
(1) تبا وتعسا لهذا الرجل الذي أخذ العلوم العقلية عمن أخذ عن مولينا العلامة
المصنف بالوسائط يعبر عن أستاذ أساتيذه في تلك الفنون هكذا، وويحا له أهو أعمى أم
تراه يتعامى ولا يرى كتاب معارج الفهم وأنوار الملكوت وشرح التجريد وحاشية الشفاء
وغيرها من مؤلفات المصنف الهمام في المسائل العقلية أو لا سمع ولا رأى ما ذكره
المحقق الطوسي خريت العقليات في حق المصنف، فكيف يجتري على التفوه بأمثال هذه
الكلمات. (2) قد استعمل الناصب هنا الادراك في معنى الرؤية كما لا يخفى، مع أنه شنع
على المصنف في هذا الاستعمال، إلا أن يقال: إنه ساق كلامه هنا مساق كلام المصنف،
وفيه ما فيه منه قدة (*)
ص 81
كتبهم ومقالاتهم، ولو فرضنا أن هذا مذهبهم، فليس كل من يعتقد بطلان حكم الحس يلزمه
إنكار كل المعقولات، فإن مبادئ البرهان أشياء متعددة، من جملتها المحسوسات فمن أين
هذه الملازمة، فعلم أن ما أراد في هذا المبحث أن يلزم الأشاعرة من السفسطة لم
يلزمهم، بل كلامه المشوش على ما بينا عين الغلط والسفسطة والله أعلم إنتهى .
أقول: فيه وجوه من الكلام وضروب من الملام، أما أولا فلأنا لا نسلم رجوع المباحث
المذكورة إلى بحث الرؤية، وإنما يكون كذلك لو كان البحث فيها مقصورا على البحث عن
الرؤية وليس كذلك، كيف؟! وقد صرح المصنف في هذا المبحث ببيان أحكام العلم الضروري
والكسبي وإدراك الحواس الخمسة من الأبصار واللمس وغيرهما، حيث قال: بعد بيان حكم حس
البصر واللمس وكذا يتدرج في الطعوم وباقي المحسوسات إلى إدراك ما يتعلق بتلك الآلات
انتهى وكذا في المباحث الآتية (1) عمم الالزام في باقي الحواس، نعم عمدة ما وقع
البحث فيه هي مسألة الرؤية وأين هذا من الرجوع؟، وأما ثانيا فلأن ما أشعر به كلامه
من أن الإمامية تابعون في هذه المسألة ونحوها للمعتزلة فرية بلا مرية، فإن الإمامية
أيدهم الله بنصره مقدمون على الكل في الكل، متفردون بالعقائد الحقة المقتبسة عن
مشكاة النبوة والولاية، فكانت المعتزلة هم المتأخرون المرتكبون موافقة الشيعة في
بعض المسائل (2) وبالجملة تقدم الشيعة وتابعية المعتزلة لهم
(هامش)
(1) فقال في آخر البحث السادس: وأي عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية
الطعم والرائحة والحرارة والبرودة والصوت بالعين، وجواز لمس العلم والقدرة والطعوم
والرائحة والصوت باليد، وذوقها باللسان، وشمها بالأنف، وسماعها بالأذن، وهل هذا إلا
مجرد سفسطة وإنكار للمحسوسات؟! (2) وذلك أمر ظاهر، انظر إلى خطب مولينا أمير
المؤمنين عليه السلام وكلماته (*)
ص 82
والأخذ عن أئمتهم عليهم السلام أمر ظاهر مشهور، ويدل عليه كلام الشهرستاني الأشعري
في كتاب الملل والنحل، حيث قال: إن أبا الهذيل، حمدان بن الهذيل العلاف شيخ
المعتزلة، ومقدم الطائفة والمناظر عليها أخذا الاعتزال، عن عثمان بن خالد الطويل،
وأخذ عثمان عن واصل بن عطا، وأخذ واصل عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية
إنتهى . ولا ريب في أن أبا هاشم وأباه رضي الله عنهم كانا أئمة الشيعة ولهذا نسبت
الكيسانية من فرق الشيعة إليهما في بعض المسائل، ولهذا قال الشهرستاني أيضا في ذيل
أحوال طوائف المعتزلة: إن من شيوخ المعتزلة من يميل إلى الروافض ومنهم من يميل إلى
الخوارج، والجبائي وابنه هاشم قد وافقا أهل السنة في الإمامة وأنها بالاختيار الخ،
وأما ثالثا فلأنا نقول: من أين علم أن المصنف قدس سره أطلق العام وأراد الخاص بلا
إرادة المجاز؟ وأي فساد في عدم إرادة ذلك؟ مع ما تقرر عند أئمة العربية من: أن
اللفظ إذا استعمل (1) في أمر خاص لا من جهة الخصوص، بل من جهة أن الموضوع له في ذلك
المخصوص، كان حقيقة كإطلاق الإنسان على زيد فإنه من حيث الخصوصية مجاز، ومن حيث إنه
موضوع له حقيقة وقد صرح بهذا سيد المحققين قدس سره الشريف في حاشية شرح العضدي،
وغيره في غيرها، وأما رابعا فلأنا لا نسلم ما ذكره من أن المصنف جعل العنوان
الادراك بمعنى الرؤية (2)، وهو ظاهر مما قد مناه، نعم الاختلاف
(هامش)
حيث استفادت الشيعة بعض عقايدها منها كمسألة عينية بعض صفاته تعالى لذاته، وعدم
العينية في غيرها، وكذا من كلمات الإمام سيد الساجدين عليه السلام في الصحائف، ومن
كلمات الباقرين وغيرهم من أئمة أهل بيت عليهم السلام. (1) وفرق أئمة البلاغة بين
هذين وعبروا عن الأول بالاطلاق وعن الثاني بالاستعمال كما في شرح التلخيص للمحقق
التفتازاني والحواشي المعلقة عليه. (2) ولقوة دلالة الادراك على الاحساس وتبادره
منه كما ذكرنا اعترض الفاضل الشيرواني (*)
ص 83
في الأبصار والرؤية أعظم من غيرها، وهذا لا يستلزم حمل لفظ الادراك هيهنا على
الرؤية، وأما خامسا فلأن آخر كلامه مناقض مبطل لأوله، حيث نفى قيام القرينة في
إطلاق الادراك على الرؤية، ثم قال: والدليل على أنه أراد بهذا الادراك الذي عنون به
المسألة الرؤية أنه قال: لما كان الادراك أعرف الأشياء إنتهى، وأغرب من ذلك أنه
بالغ في إظهار قوة القرينة حتى سماه دليلا، فطريقته في تأسيس المقال وهدمه وإبطال
بلا إمهال [خ ل إهمال]، يشبه بناء الأطفال بنوا وخربوا في الحال، والتحقيق أن
الادراك قد يطلق ويراد به الاحساس بالحواس وقد يطلق على الصورة الحاصلة من المدرك
عند المدرك، فيتناول الاحساس والتخيل والتوهم والتعقل، وعلى المعنى الأول وقع قول
المحقق الطوسي طيب الله مشهده في إلهيات التجريد حيث قال في إثبات صفتي السمع
والبصر له تعالى: والنقل دل على اتصافه تعالى بالادراك الخ (1) بل ربما يدعي تبادره
في هذا المعنى كما صرح به بعض الفضلاء (2) في رسالة الحدود (3)، وقد صرح المصنف
(هامش)
(الشيرازي ظ) في بحث الوجود من حاشيته على شرح المواقف عند تقييد الادراك الواقع في
كلام المصنف بأنه لا حاجة إلى تقييد الادراك بالاحساس، بل قد يستعمل الادراك في
معنى الاحساس على سبيل الاشتراك. إنتهى منه قده . (1) لا يذهب عليك أن الادراك
في كلام المحقق هيهنا محمول على مطلق الاحساس أيضا لأن المراد منه أنه تعالى مدرك
للمحسوسات بلا آلة، إلا أنه لا يجوز عليه إطلاق اللامس والذائق والشام وإن كان
مدركا للمشمومات والمذوقات والملموسات، وذلك لأن إطلاق أسماء الصفات لا تجوز
الجسارة عليها بغير إذن الشارع، ولا إذن من الشارع فيها بخلاف السميع والبصير، فإن
إطلاقهما عليه تعالى في الشرع واقع وقوله تعالى وهو السميع البصير على جوازه نص
قاطع. منه قده . (2) حيث قال الادراك وجدان المرئيات وسماع الأصوات وغيرها فهو
في الأصل لحوق جسم بجسم انتهى كلامه قده . (3) وهي رسالة تصدى مؤلفها لتحديد
الأشياء وتعريفها على ترتيب الحروف الهجائية، (*)
ص 84
أيضا بذلك في كتاب الموسوم بنهج المسترشدين، حيث جعله قسما مقابلا للاعتقاد المنقسم
إلى العلم والتقليد والجهل المركب، وأراد به اطلاع الحيوان على الأمور الخارجية
بواسطة الحواس، وحكم بكونه زائدا على العلم مستندا بأنا نجد تفرقة ضرورية بين علمنا
بحرارة النار وبين اللمس الذي هو إدراكها، إذا الثاني مؤلم دون الأول، وأيضا لو كان
الادراك غير زائد على العلم لزم أن يتصف بالعلم كل ما اتصف به وليس كذلك إذ
الحيوانات العجم تتصف به دون العلم، وأما سادسا فلأن ما ذكره من الترديد في بيان
كون كلام المصنف غير محصل المعنى، ترديد مردود قبيح لا محصل له، لاتحاد عنوان
الشقين أعني قوله: الرؤية التي أراد من الادراك وقوله الاحساس الذي هو الرؤية وهو
ظاهر ثم إن إرادة الأعرفية في التحقق والثبوت كما ذكره الناصب في الشق الأول يقتضي
أن يكون الادراك أعرف تحققا وثبوتا، لا مجرد كونه محققا ثابتا حتى يلزم اشتراكه مع
كثير من الأجسام والأعراض كما زعمه الناصب، وأيضا كون كثير من الأجسام والأعراض
محققا ثابتا لا يصلح سندا لمنعه أعرفية الادراك بقوله: فلا نسلم الأعرفية، لأن كون
كثير من الأجسام والأعراض محققة معروفة، لا يقتضي عدم أعرفية الادراك عنها، وكذا لا
محصل لقوله في الشق الثاني أنه إن أراد أن الاحساس الذي هو الرؤية أعرف بالنسبة إلى
باقي الاحساسات، ففيه أن كل حاسة بالنسبة إلى متعلقه حالها كذلك الخ لظهور أنه إذا
اعتبر الأعرفية بالنسبة إلى باقي الاحساسات، وسلم أن الاحساس البصري أعرف بالنسبة
إلى باقي الاحساسات، تم كلام المصنف (1)، ولا يقدح فيه أن يكون لباقي الاحساسات
أعرفية بالنسبة إلى متعلقاتها أو غيرها، وبالجملة
(هامش)
وذكر لفظ الادراك في باب الألف ويظن كونها للمحقق الشريف الجرجاني فليراجع. (1) ثم
لا يخفى أن المصنف رفع الله درجته قد ذكر هذه المقدمة لبيان وجه الابتداء بذكر بحث
الادراك، ويكفي في ذلك معرفة الأشياء به في الجملة تأمل. منه قده . (*)
ص 85
أعرفية الرؤية بالنسبة إلى باقي الاحساسات يكاد أن يكون محسوسا، ولهذا تراهم يقدمون
في الكتب الكلامية والحكمية القوى المدركة الظاهرة على الباطنة لظهورها وقوة
الأبصار على غيرها من الظاهرة لأظهريتها وأعرفيتها كما نبه عليه سيد المحققين (1)
في شرح المواقف، وغيره في غيره، وبما قررنا ظهر أنه يمكن الجواب بإرادة الشق الثالث
وهو أن يراد بالادراك ما يشمل سائر الحواس الظاهرة، فإنها أعرف الادراكات الباطنة
من إدراك نفس النفس وآلاتها الباطنة كما عرفت، فظهر أن الشارح الجارح الناصب لقصور
فهمه واستعداده وبعده عن أهل التحصيل، لم يحصل معنى كلام القوم، ولا معنى كلام
المصنف الجليل، وأما سابعا فلأن قوله وكل هذه المحسوسات علوم حاصلة من الحس مما لا
محصل له أصلا، لأن المحسوسات معلومات لا علوم، ومن قال: إن العلم والمعلوم متحدان
بالذات، أراد أن العلم بمعنى الصورة الحاصلة في العقل متحد مع المعلوم الحاصل فيه،
لا أن العلم بمعنى إدراك الحواس الظاهرة متحد مع المحسوس الموجود في الخارج فإن هذا
غلط وسفسطة كما لا يخفى، وأما ما ذكره من أن المصنف حسب أن مبدأ الفطرة هو حال
الطفولية مدخول بأن ذلك مما لا يفهمه من كلام المصنف إلا معاند حريص في الرد عليه،
فإن ظاهر معنى قوله وذلك مشاهد في حال الأطفال، هو: أن خلو النفس في مبدء الفطرة عن
مجموع العلوم وكونها قابلة لها مشاهد معلوم في حال الطفولية التي هي قريبة من مبدء
الفطرة، فإن النفس خالية فيها أيضا عن جميع العلوم وقابلة لها، غاية الأمر أن الخلو
في مبدء الفطرة أكثر من الخلو في حال الطفولية، فقوله قدس سره: وذلك مشاهد في حال
الأطفال، تنبيه على دعوى خلو النفس الإنسانية في مبدء الفطرة من مشاهدة خلوها في
حال الطفولة، لا تفسير لمبدء الفطرة بحال الطفولية كما توهمه هذا الجارح، فلا يلزم
من كلام المصنف
(هامش)
(1) المراد هو السيد الشريف الجرجاني. (*)
ص 86
الحكم بأن الطفل لا يعرف شيئا من العلوم العقلية كما توهمه ثانيا، على أنه لو تم ما
أورده على عبارة المصنف لكان أظهر ورودا على عبارة حاشية المطالع لسيد المحققين (1)
قدس سره الشريف الذي كان تلميذ تلميذه، وممن لا ينكر أحد كونه من علماء المعقولات
سيما الجارح الذي استمد في جرحه هذا عن شرحه قدس سره على المواقف، فقد قال قدس سره
الشريف، عند تحقيق قول شارح المطالع: ويمكن حمل قرائن الخطبة على مراتبها (الخ) إن
خلو النفس في مبدء الفطرة عن العلوم كلها ظاهر وإن نوقش فيه بأنها لا تغفل عن ذاتها
أصلا، وإن كانت في ابتداء طفوليتها إنتهى ، فإن مقتضى كلمة إن الوصلية، أن يكون
ابتداء الطفولية أسبق الأحوال ولا أسبق من مبدء الفطرة فيكون في كلامه أيضا إشعال
بل تصريح باتحادهما تأمل (2)، وأما ثامنا فلأن الحكم بخلو النفس في مبدء الفطرة عن
العلوم وإيراد الاعتراض عليه بمثل ما ذكره الناصب والجواب عنه مذكور في كتب القوم
فلا وجه لذكر الاعتراض من غير ذكر جوابه، وذلك لأن عمر (3) الكاتب القزويني من أهل
نحلة الناصب قال في بحر الفوائد في شرح عين القواعد: ووجه الحاجة إلى المنطق أن
الإنسان في مبدء الفطرة ليس له شيئ من العلوم الخ واعترض عليه بأن المراد من
مبدء الفطرة إما أول حال تعلقت فيها النفس (4) بالبدن أو حالة الولادة وأياما كان،
فإن الإنسان في تلك الحالة عالم بخصوصية ذاته و
(هامش)
(1) المراد منه الشريف الجرجاني. (2) فعل أمر تدقيقي أو تمريضي إشارة إلى أن الظاهر
من عبارة المصنف كون ابتداء الطفولية أسبق الأحوال في النشأة الدنيوية بعد الولادة
فالأسبقية نسبية، وعليه فلا مساغ لاعتراض الناصب أصلا. (3) قد مرت ترجمة أحواله.
(4) ويعبر عنها بالحياة الأولية والحياة البدوية. (*)
ص 87
بسائر الوجدانيات من اللذة والألم والحر والبرد والجوع والشبع، فلا يكون عاريا عن
جميع العلوم (1)، وأجيب بأن الشعور بخصوصية الذات إدراك جزئي (2) ولا يسمى علما،
لكنه إذا طلب بعد العلم بتلك الخصوصية ماهية لك على وجه كلي فهناك يسمى علما، مثل
أن يعلم أن نفسه جوهر مجرد قائم مفارق، وهذا المجموع أمور كلية، وكذلك الوجدانيات
ليست علوما، بل هي من قبيل الادراكات الشبيهة بالاحساسات في كونها جزئية، والعلوم
إدراكات كلية، فلا يرد الاشكال على أن المصنف لم يقل: إن النفس خالية عن العلوم، بل
صرح بخلوها عن جميع العلوم، والمراد أنها خالية في مبدء الفطرة عن جميع العلوم لا
عن كل واحد (3)، كما نبه عليه شارح المطالع (4) رحمه الله بتأكيد العلوم بقوله:
كلها، فلا يتوجه
(هامش)
(1) خلوه عن كل العلوم مما اختلف فيه كلماتهم، ولا طريق لنا في استكشاف الحال إلا
الأدلة السمعية، ويستشم من بعضها كونه عالما بالاسر لكن لا بالفعل. (2) ويطلق على
الادراك الجزئي المعرفة، وغير خفي أن اتصاف الادراك بالكلية والجزئية باعتبار
المتعلق. (3) مراده أن المقام من باب نفي العموم لا عموم النفي. (4) هو العلامة
المحقق المدقق في العلوم العقلية والنقلية والرياضية قطب الدين محمد الرازي البويهي
صاحب كتاب المحاكمات وشرحي المطالع والشمسية وغيرها، وكان من تلاميذ مولانا العلامة
المصنف وابنه فخر المحققين، توفي سنة 766 وقيل سنة 776، وله ذرية مباركة فيها
العلماء والفقهاء والأدباء والحكماء، وبالجملة كان المترجم من نوابغ الشيعة
الإمامية وممن يفتخر به، والعجب كل العجب من بعض أرباب التراجم حيث زعم كون الرجل
من علماء العامة، ولله در شيخ مشايخنا ثقة الإسلام النوري في خاتمة المستدرك حيث
أزاح العلة وأبان غفلة ذلك المؤلف في حسبانه، عصمنا الله تعالى من الزلل في القول
والعمل، ويروي عن قطب الدين جماعة من فطاحل العلم من الفريقين العامة والخاصة. (*)
ص 88
ما أورده الناصب من أن الجنين فضلا عن الطفل له علوم كثيرة، بل لو لم يكن لفظ
الجميع موجودا في العبارة لأمكن تصحيحها بحمل الألف واللام في العلوم على
الاستغراق، وأما ما ذكره من أن المصنف لم يكن من أهل المعقولات (1) فلا يروج على من
وصلت إليه مصنفات المصنف في العلوم العقلية، كشرحه الموسوم بكشف الخفاء في حل
مشكلات الشفاء وحاشيته على شرح الإشارات وشرحه على التجريد وغير ذلك مما اعترف
بنفاستها العلماء الأعلام، وإليه تنتهي سلسلة تلمذ سيد المدققين صدر الملة والدين
محمد الشيرازي (2) في العقليات، وأما تاسعا فلأن ما ذكره من أن المصنف أراد بقوله:
أنكروا قضايا محسوسة على ما يأتي أنهم أنكروا وجوب تحقق الرؤية عند شرائطها الخ
غير مسلم، وإنما أراد إنكارهم
(هامش)
(1) وكفى في كون مولانا العلامة قدس سره من أئمة العلوم العقلية، كلام المحقق
الطوسي المسلم كونه قدوة في هذه الفنون ما محصله: لولا هذا الشباب العربي لكانت
تآليفي وتصانيفي كبخاتى خراسان، لم يمكن لأحد قودها وسوقها، وقد ابتذلت بشروحه تلك
المشكلات والعوائص. (2) هو العلامة السيد صدر الدين محمد الحسيني الدشتكي الشيرازي
المدقق المحقق في العقليات استشهد يوم الجمعة 12 رمضان سنة 903 ببلدة شيراز، وقبره
بباب المدرسة المنصورية في تلك البلدة معروف يزار إلى الآن، أخذ الله بحقه من
قاتليه الأسرة التركمانية، وله تآليف وآثار شهيرة كالحاشية على شرح التجريد ورسالة
إثبات الواجب، ورسالة في تحقيق المغالطة المشهورة بالجذر الأصم والحاشية على شرح
الشمسية في المنطق والحاشية على شرح المطالع في المنطق، وابنه الأمير غياث الدين
منصور سيد الحكماء صاحب المدرسة المنصورية، وهو جد العلامة مولينا السيد علي خان
المدني شارح الصحيفة، وينتهي نسبه الشريف إلى زيد الشهيد ابن الإمام علي بن الحسين
زين العابدين سلام الله عليه. وللمترجم عقب إلى يومنا هذا فيهم الأجلاء في الفقه
والأدب والحديث. (*)
ص 89
وجوب تحقق أثر كل من الحواس عند تحقق شرائطه كما أوضحناه سابقا، وسيأتي من المصنف
في البحث الرابع أيضا ما هو صريح في ذلك، حيث نسبهم إلى تجويز خلاف ما يحكم به حس
البصر والسمع واللمس، وظاهر أن الاقتصار على هذه الثلاثة من باب الاكتفاء بالأهم،
فظهر صدق قول المصنف: إنهم. أنكروا قضايا محسوسة مرادا به المحسوسة بالأعم من البصر
والسمع واللمس والذوق والشم، مع أن وجه إنكارهم للمحسوس بواحد منها جار في الأعم
فافهم، وأما عاشرا فلأن ما ذكره بقوله: ثم إنكار القضايا المحسوسة، أراد به أنهم
يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة الخ (1) فيه نظر من وجوه، الأول أنا لا
نسلم أن
(هامش)
(1) وقال بعض فضلاء الحنابلة: إن الشبهة التي أوردوها في التشكيك في الحسيات
والبديهيات وإن عجز كثير من الناس عن حلها، فهم يعلمون أنها قدح فيما علموه بالحس
والاضطرار، فمن قدر على حلها وإلا فلم يتوقف جزمه بما علمه بحسه واضطراره على حلها
إنتهى . وقال في موضع آخر: إن الأمور الحسية والعقلية اليقينية قد وقعت فيها
شبهات كثيرة، تعارض ما علم بالحس والعقل، فلو توقف علمنا بذلك على الجواب عنها
وحلها، لم يثبت لنا ولا لأحد علم شيئ من الأشياء، ولا نهاية لما تقذف به النفوس من
الشبه الخيالية وهي من جنس الوساوس والخطرات والخيالات التي لا تزال تحدث في النفوس
شيئا فشيئا بل إذا جزمنا بثبوت الشيئ جزمنا ببطلان ما يناقض ثبوته، ولم يكن ثبوت ما
يقدر من الشبه الخيالية على نقيضه مانعا من جزمنا به، ولو كانت الشبه ما كانت فما
من موجود وصل بدرك الحس إلا ويمكن لكثير من الناس أن يقيم على عدمه شبها كثيرة يعجز
السامع عن حلها، وقد رأينا وسمعنا ما أقامه كثير من المتكلمين من الشبه على أن
الإنسان تتبدل نفسه الناطقة في الساعة الواحدة أكثر من ألف مرة، وكل لحظة تذهب روحه
وتفارق وتحدث له روح أخرى غيرها هكذا أبدا، وما أقاموه من الشبه على أن السماوات
والجبال والبحار تتبدل كل لحظة ويخلف غيرها، وما أقاموه من الشبه (*)
ص 90
المصنف أراد بالانكار المذكور منع الاعتماد على القضايا المذكورة حتى يتجه أن هذا
مذهب جماعة من العقلاء غير الأشاعرة، فإن الأشاعرة لم يعللوا إنكارهم للقضايا
المحسوسة بشيئ أصلا، ولهذا نسبوا إلى المكابرة، الثاني أن المذكور في شرح المواقف
أن ذلك ينسب إلى جماعة من العقلاء، وفيه إشارة إلى بطلان تلك النسبة فحكم هذا
الناصب الجارح بأن هذا مذهب جماعة من العقلاء تمويه صريح وتدليس قد ارتكبه لدفع
الاستبعاد عما وقع من أصحابه الأشاعرة قريبا من هذه المكابرة، الثالث أن ما دل عليه
كلامه من أن الأشاعرة ذكروا مذهب تلك الجماعة من
(هامش)
على أن روح الإنسان ليست فيه ولا خارجة عنه، وزعموا أن هذا أصح المذاهب في الروح
وما أقاموا من الشبه على أن الإنسان إذا انتقل من مكان إلى مكان لم يمر على تلك
الأجزاء التي من مبدء حركته ونهايتها ولا قطعها ولا حاذاها، وهي مسألة طفرة النظام
وأضعاف أضعاف ذلك، وهيهنا طائفة من الملاحدة الاتحادية كلهم يقولون: إن ذات الخالق
هي عين ذات المخلوق ولا فرق بينهما البتة، وإن الاثنين واحد، وإنما الحس والوهم
يغلط في التعدد ويقيمون على ذلك شبها كثيرة، وقد نظمها ابن الفارض في قصيدته وذكرها
صاحب الفتوحات في فصوصه (خ ل فتوحه) وغيرها، وهذه الشبه كلها من واد واحد، وهي
خزانة الوساوس، ولو لم نجزم بما علمناه إلا بعد العلم برد تلك الشبهات لم يثبت لنا
علم أبدا إنتهى وقال صاحب المواقف: قلنا كون الاجماع حجة قطعية معلوم بالضرورة
من الدين، فيكون التشكيك فيه بالاستدلال في مقابلة الضرورة سفسطة لا يلتفت إليها
إنتهى وقال في شرحه لأصول ابن الحاجب: المقام الثاني النظر في ثبوته عنهم وهو
العلم باتفاقهم، وقد زعم منكروا الاجماع أنه على تقدير ثبوته في نفسه فثبوته عنهم
محال قالوا في بيانه: إن العادة قاضية بأنه لا يتفق أن يثبت عن كل واحد من علماء
الشرق والغرب إنه حكم في المسألة الفلانية بالحكم الفلاني، ومن أنصف من نفسه جزم
بأنهم لا يعرفون بأنفسهم فضلا عن تفاصيل أحكامهم، هذا مع جواز خفاء بعضهم عمدا لئلا
يلزمه الموافقة والمخالفة أو (*)
ص 91
العقلاء وأبطلوه غير مسلم، وإنما أبطل ذلك من تأخر عن هؤلاء الجماعة من عقلاء
الحكماء، ووافقهم المتأخرون من الأشاعرة في ذلك الابطال، وذكروا ذلك في كتبهم مع
عدم تنبيههم من إفضاء ذلك إلى بطلان ما ذهبوا إليه، الرابع أن قوله: ليس كل من
يعتقد بطلان حكم الحس يلزمه إنكار كل المعقولات مدخول: بأن المصنف قد استدل على
ذلك، فمنع المدعي المستدل عليها من غير تعرض لدليلها مناقشة غير مسموعة.
(هامش)
انقطاعه لطول غيبته، فلا يعلم له خبر لأسره في مطمورة أو خمولة، فلا يعرف له أثر،
أو كذبة في قوله رأيي في هذه المسألة هكذا، والعبرة بالرأي دون اللفظ، وإن صدق فيما
قال لكن لا يمكن السماع منهم في آن واحد بل في زمان متطاول، فربما يتغير اجتهاد بعض
فيرجع عن ذلك الرأي قبل قول الآخر، فلا يجتمعون على قول في عصر. المقام الثالث
النظر في نقل الاجماع إلى من يحتج به، وقد زعم المنكرون أنه مستحيل عادة لأن الآحاد
لا تفيد إذ لا يجب العمل به في الاجماع كما سيأتي، فتعين التواتر، ولا يتصور إذ يجب
فيه استواء الطرفين والواسطة، ومن البعيد جدا أن تشاهد أهل التواتر جميع المجتهدين
شرقا وغربا ويسمعوا منهم وينقلوا عنهم إلى أهل التواتر، هكذا طبقة بعد طبقة إلى أن
يتصل بنا. والجواب عن شبهة المقامين واحد وهو أن ذلك تشكيك في مصادفة الضرورة، فإنا
نعلم قطعا من الصحابة والتابعين الاجماع على تقديم الدليل القاطع على المظنون، وما
ذلك إلا بثبوته عنهم وبنقله إلينا، فانتقض الدليلان إنتهى . ولا يخفى على المنصف
المتأمل أن دعوى الضرورة في مقامي الاجماع أخفى بمراتب من دعوى الضرورة فيما نحن
فيه، كما أن الشبهة الموردة فيهما أقوى وأظهر من الشبهة الموردة فيما نحن فيه فلا
تكون تلك الشبهة الفاجرة إلا محض العناد والمكابرة. منه قده .
ص 92
البحث الثاني في شرائط الادراك 
قال المصنف رفع الله درجته: أطبق العلماء بأسرهم عدى
الأشاعرة على أن الادراك مشروط بأمور ثمانية لا يحصل بدونها، الأول سلامة الحاسة،
الثاني المقابلة أو ما في حكمها كما في الأعراض والصور في المرايا فلا تبصر شيئا لا
يكون مقابلا، ولا في حكم المقابل، الثالث عدم القرب المفرط، فإن الجسم لو التصق
بالعين لم يمكن رؤيته، الرابع عدم البعد المفرط لأن البعد إذا أفرط لم يمكن الرؤية،
الخامس عدم الحجاب فإن مع وجود الحجاب بين الرائي والمرئي لا يمكن الرؤية، السادس
عدم الشفافية، فإن الجسم الشفاف الذي لا لون له كالهواء لا يمكن رؤيته، السابع تعمد
الرائي للادراك، الثامن وقوع الضوء عليه، فإن الجسم الملوك لا يشاهد في الظلمة،
وحكموا بذلك حكما ضروريا لا يرتابون فيه، وخالفت الأشاعرة في ذلك جميع العقلاء من
المتكلمين والفلاسفة، ولم يجعلوا للادراك شرطا من هذه الشرائط، وهو مكابرة محضة، لا
يشك فيها عاقل إنتهى كلامه.
قال الناصب خفضه الله أقول: إعلم أن شرط الشيئ ما
يكون وجوده موقوفا عليه ويكون خارجا عنه، فمن قال شرط الرؤية هذه الأمور ماذا يريد
من هذا؟ إن أراد أن الرؤية لا يمكن أن يتحقق عقلا إلا بتحقق هذه الأمور، واستحال
عقلا تحققه بدون هذه الأمور فنقول به لا نسلم الاستحالة العقلية، لأنا وإن نرى في
الأسباب الطبيعية وجود الرؤية عند تحقق هذه الشرائط وفقدانها عند فقدان شيئ منها،
إلا أنه لا يلزم بمجرد ذلك من فرض تحقق الرؤية بدون هذه الشرائط محال، وكل ما كان
كذلك لا يكون
ص 93
محالا عقليا، وإن أراد أن العادة جرت (1) بتحقق المشروط الذي هو الرؤية عند حصول
هذه الشرائط، ومحال عادة أن تتحقق الرؤية بدون هذه الشرائط مع جوازه عقلا، فلا نزاع
للأشاعرة في هذا، بل غرضهم إثبات جواز الرؤية عقلا عند فقدان الشرائط، ومن ثمة
تراهم يقولون إن الرؤية أمر يخلقه الله في الحي، ولا يشترط بضوء ولا مقابلة، ولا
غيرهما من الشرائط التي اعتبرها الفلاسفة، وغرضهم من نفي الشرطية ما ذكرنا، لا أنهم
يمنعون جريان العادة، على أن تحقق الرؤية إنما يكون عند تحقق هذه الشرائط، ومن تتبع
قواعدهم علم أنهم يحيلون كل شيئ إلى إرادة الفاعل المختار وعموم قدرته، ولا يعتبرون
في خلق الأشياء توقفه على الأسباب الطبيعية كالفلاسفة، ومن يلحس (2) فضلاتهم
كالمعتزلة ومن تابعهم، فحاصل كلامهم: إن الله تعالى قادر على أن يخلق الرؤية في حي
مع فقدان هذه الشرائط وإن كان هذا خرقا للعادة، فأين هذا من السفسطة وإنكار
المحسوسات والمكابرة التي نسب هذا الرجل إليهم؟! وسيأتي عليك باقي التحقيقات
إنتهى كلام الناصب . أقول: فيه نظر من وجوه، أما أولا فلأن حاصل كلام المصنف قدس
سره في هذا المقام دعوى البداهة، ومرجع رد الناصب المطرود وترديده المردود منع
البداهة، وهو مكابرة لا يشك فيها عاقل، كما قال المصنف، وكثيرا ما يجاب عن مثل هذا
المنع بأنه مكابرة لا يستحق الجواب أو لا يلتفت إليها، كما
(هامش)
(1) في بعض النسخ: إن في العادة جرى تحقق المشروط. (2) لا تخفى عليك ركاكة كلمات
هذا العنيد وبذائة لسانه في المسائل العلمية التي يدور البحث عليها بين الأعلام!
ومع هذا يبرئ نفسه من العناد والتعصب، وينسب نفسه إلى مهيع الانصاف وبرائتها من
الاعتساف!. (*)
ص 94
أجاب به صاحب المواقف (1) عن مناقشة من قدح في حجية الاجماع وغيره عن غيرها،
والحاصل أنا لا نثبت اشتراط الأمور المذكورة في الرؤية بدليل حتى يتجه إيراد المنع
والنقض على مقدماته، بل نقول: إن بديهة العقل الصريح يقتضيه، كما أجاب بمثله أفضل
المحققين (2) قدس سره في نقد المحصل عن شبهة من استشكل حكم الحس، ونسبه إلى الغلط
حيث قال: لو أثبتنا صحة الحكم بثبوت المحسوسات في الخارج بدليل، لكان الأمر على ما
ذكره، لكنا لم نثبت ذلك إلا بشهادة العقل من غير رجوعه إلى دليل، فليس لنا أن نجيب
عن هذه الاشكالات إنتهى . وقال المصنف فيما سيجئ من مسألة بقاء الأعراض: إن
الاستدلال على نقيض الضروري باطل، كما في شبه السوفسطائية، فإنها لا تسمع لما كانت
الاستدلالات في مقابلة الضروريات إنتهى ولو علمنا أنه يمكن ذلك لعموم قدرته
تعالى، لكنه خارج عن محل النزاع، إذا النزاع في إدراك الباصرة بالآلة المشهورة،
والقوة المودعة فيها، والحاصل أن الرؤية لها معنى معروف لا يتصور، إلا بأن يكون
المرئي في جهة والرائي له حاسة، فلو أطلقوا الرؤية على معنى آخر غير المعنى
المشهور، كالانكشاف التام والابصار بغير تلك القوة، فمسلم أنه يمكن ذلك إمكانا
عقليا لكن يصير به النزاع لفظيا، وهو كما ترى، وأما ثانيا فلأن ما نقله عن
الأشاعرة: من أنهم بنوا مسألة الرؤية ونحوها على
(هامش)
(1) وقد مرت ترجمته على سبيل الاختصار. (2) المحصل للإمام الرازي في أصول الدين،
ونقده للمحقق الطوسي الخواجه نصير الدين الشهير وهو المعنى هنا بأفضل المحققين،
وللعلامة السيد نصير الدين الحسني المرعشي جدي المحقق كتاب سماه محصل المحصل في
تلخيص المحصل وهو نفيس في بابه. (*)
ص 95
ما أسسوه من إحالة كل شيئ إلى إرادة الفاعل المختار وعموم قدرته، ولا يعتبرون في
خلق الأشياء توقفه على الأسباب الطبيعية، بل الواجب تعالى مع إرادته كاف فيها
حقيقة، بحيث لو فرض انتفاء جميع ما يتوهم أن له مدخلا فيها بحسب الظاهر من سائر
العلل لم يلزم الاختلال في تلك الموجودات والمعدومات، حتى أنه يجوز أن يتحقق
الاحتراق في شيئ بدون النار، إذا أراد الله تعالى احتراق شيئ مما يقبله، فأقول: في
ذلك الأساس اختلال والبناء عليه محال، وذلك لظهور استلزامه محالا ظاهرا وهو عدم
توقف تحقق الكل على تحقق جزئه، واللازم باطل، أما بيان الاستلزام فلأن تحقق الجزء
جزء تحقق الكل وكون الكل متوقفا على الجزء حقيقة ضروري، بل أولى، وكذا يستلزم عدم
توقف تحقق العرض على الجوهر ووجه الاستلزام بين مما بين، وبطلان اللازم مما حكم به
بديهة العقل، وإن قال شرذمة قليلة، لا يعتنى بشأنهم، بقيام العرض بنفسه، على (1)
أنا نقول: لا يظهر حصول معلول حادث لا يكون قبله حادث بجري العادة مع قولهم بحصول
حادث كذلك (2) وقال الخطيب الكازروني (3) الشافعي في بعض تعليقاته: إن القول بأن
مذهب الأشعري أن لا شيئ من الأشياء يستلزم شيئا آخر، وأن لا علاقة بوجه بين الحوادث
المتعاقبة بعيد جدا، فإن وجود العرض مستلزم لوجود الجوهر، و
(هامش)
(1) وجه ارتباط هذه العلاوة مع ما قبلها من أجل كلام الأشاعرة إن ما ذكر هناك من
قولهم: بنفي الأسباب الحقيقية مستلزم للقول بجري العادة، فتتوجه عليهم هذه العلاوة.
منه. (2) وإلا لزم نفي انتهاء الحوادث إلى الواجب القديم تعالى شأنه. كما هو واضح.
(3) هو المحقق المولى سعيد بن محمد بن مسعود بن محمد بن مسعود الكازروني الشافعي
الخطيب البليغ صاحب كتاب سيرة النبي (ص) المشهور في بلاد اليمن، وكان من أعيان
المأة الثامنة. (*)
ص 96
لا يقول عاقل: بأن العرض يمكن وجوده بدون الجوهر كوجود حركة بدون متحرك والحاصل أنه
قد يكون شيئان لا يمكن وجود أحدهما بدون الآخر، وقال فخر الدين الرازي في المباحث
المشرقية: الحق عندي أن لا مانع من استناد كل الممكنات إلى الله تعالى، لكنها على
قسمين: منها ما إمكانه اللازم لماهيته، كاف في صدوره عن الباري تعالى من غير شرط،
(1) ومنها ما لا يكفي إمكانه (2)، بل لا بد من حدوث أمر قبله ثم إن تلك الممكنات
متى استعدت للوجود استعدادا تاما، صدرت عن الباري تعالى، ولا تأثير للوسائط في
الايجاد بل في الاعداد إنتهى ، وظاهره يدل على توقف بعض الأشياء على بعض وإن كان
التأثير مخصوصا بالباري تعالى فتأمل (3) وأما ثالثا، فلأن ما ذكره من أن الإمامية
يلحسون من فضلات الفلاسفة فليس إلا مجرد إظهار العصبية على الحكماء والإمامية وبعده
عن سرائر الحكمة الإلهية، وأنه تعالى ما وفق الناصب وأصحابه لفقه الحكمة (4) ضالة
المؤمن أما تعصبه على الحكماء فلظهور أن بالإرتقاء إلى أعلام الفطنة والاهتداء إلى
أقسام الحكمة يصير الناظر في حقائق الأشياء بصيرا، ومن يؤتي الحكمة فقد أوتي خيرا
(هامش)
(1) وفي بعض النسخ: فلا جرم يكون وجودها فائضا عن الباري من غير شرط. (2) وفي بعض
النسخ: ومنها ما لا يكفي في إمكانه فيضانها عن الباري. (3) التأمل تدقيقي وإشارة
إلى التهافت بين توقف الشيئ على شيئ وكون التأثير منه تعالى. (4) وفي نسخة مخطوطة
مصححة هكذا: الفقه: الحكمة، والحكمة ضالة المؤمن، وفي الجامع الصغير للسيوطي
الجزء الثاني ص 255 ط مصر عن النبي (ص) أنه قال الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث
وجدها فهو أحق بها. ونقلت في بعض الكتب تتمة وهي حيث ما وجد أحدكم ضالته فليأخذها.
وفي كتاب الاثني عشرية (ص 8 ط قم) الحكمة ضالة المؤمن، وأيضا الحكمة ضالة الحكيم.
(*)
ص 97
كثيرا (1) وأما على الإمامية فلأنهم أساطين حكماء الإسلام الذين أخذوا جواهر الحكمة
عن معدنها أهل البيت عليهم السلام، وفازوا برحيق التحقيق من منابعها الكافلة لإحياء
الميت، فاشتدت في علوم الإسلام عراهم (2) وتأكدت في دقائق الحكمة قواهم، وإن وافقوا
الرعيل (3) الأول من الحكماء في بعض المسائل والأحكام، فلا يقتضي خروجهم عن قواعد
الإسلام حتى يتوجه عليهم الشناعة والملام، وإنما الشناعة كل الشناعة على من لم تصل
يده إلى مائدة الحكمة ولم يظفر على زلال الفطنة، وشرب في ظماء الجهل من سؤر
الحشوية، واختار الثوم والبصل على الطيور المشوية، ولنعم ما قال الحكيم الكامل أبو
علي (4) عيسى بن زرعة في بعض رسائله
(هامش)
(1) البقرة. الآية 269. وليس المراد من الحكمة في الآية الشريفة والخبر المومي إليه
الفلسفة التي هي تراث اليونانيين ولا الغربية التي أهدتها إلينا الأورباويون، بل
المراد العلم الذي به حياة الأرواح وشفاءها من الأسقام، وهل هي إلا العلوم الدينية
الإسلامية والمعتقدات الحقة وأسرار الكون بشرط اتخاذها عن الراسخين في العلم الذين
من تمسك بذيلهم فقد نجى، كيف؟ وعلومهم مستفادة من المنابع الإلهية، واستنادت من
أنوار الأنبياء والمرسلين والسفراء المقربين، فهي التي لا شرقية ولا غربية يكاد
زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار. ولله در العلامة المحقق خادم علوم الأئمة الهداة
المهديين المولى محمد طاهر بن محمد حسين الشيرازي ثم القمي قده حيث أبان الحق
في كتابه الموسوم بحكمة العارفين وأثبت أن الحكمة الحقة هي المتخذة عن آل الرسول
(ص) لا ما نسجته النساجون والحيكة التي تتبدل بتلا حق الأفكار والأزمنة. (2) العرى:
جمع عروة. وعروة الكوز معروفة. (3) الرعلة: قطعة من الخيل القليلة، كالرعيل أو
مقدمتها. ق. (4) في نسخة مصححة أبو زرعة عيسى بن علي، وعليه فهو الفيلسوف النابغة
الشهير الذي قال (*)
ص 98
تعريضا على الأشاعرة ومن يحذو حذوهم من فرق أهل السنة المحرومين عن ذوق الحكمة
المنكرين لها الحاكمين بحرمة تعلم المنطق ونحوه من العلوم الحكمية حيث قال: إن علم
الحكمة أقوى الدواعي إلى متابعة الشرع، ومن زعم أن الحكمة تخالف الشريعة فهي مفسدة
لها قد بنى فيه على مقدمة فاسدة غير كلية، تقريرها أن الحكمة مخالفة للشريعة وكل ما
هو مخالف للشيئ مفسد له، والكبرى غير (1) كلية، فإن الحلاوة تخالف البياض ولا
تفسده، والصورة تخالف المادة ولا تفسدها وإذا كانت غير كلية، فلا ينتج القياس. ومن
قال: إن الناظر في المنطق مستخف بالشريعة، فإن ذلك القائل طاعن في الشريعة، لأن
كلامه في قوة قول من يقول إن الشريعة لا تثبت عند البحث والتحقيق، ومنزلته منزلة
رجل حامل للدراهم البهرجة (2) التي يهرب معها من النقاد، ويأنس بمن ليس من أهل
المعرفة، فمن قال: إن الحكمة تفسد الشريعة فهو الطاعن في الشريعة لا المنطقي الذي
يميز بين الصدق والكذب إنتهى كلامه وأيضا فذلك تشنيع بما هو وأصحابه أولى به،
(هامش)
أبو حيان في حقه، في كتاب المقايسات: وهذا الشيخ ممن قد أعلى الله كعبه في علم
الأوائل، ووفر حظه من الحكمة المبثوثة في هذا العالم، وله كلمات، منها أنه قال:
الملك بحق من ملك رقاب الأحرار بالمحبة إلى آخر ما قال، وقال في كتابه المسمى
بالامتاع والمؤانسة: وأما عيسى بن علي فله الذراع الواسع، والصدر الرحيب في
العبارة، حجة في الترجمة والنقل، والتصرف في فنون اللغات إلى آخر ما قال. (1) لا
يخفى إن الأولى أن يردد ويقال إن عني بالمخالفة التباين الكلي كما هو ظاهر لفظ
المخالفة ففيه إن كل واحد من مسائل الحكمة ليست كذلك وإن أريد بالمخالفة ما ينطبق
على التباين الجزئي ففيه إن مخالفة بعضها لا تضر ببعضها الآخر. (2) البهرج: الباطل
والردي. (*)
ص 99
لافتخار أجلتهم (1) على الإمامية والمعتزلة في مسألة خلق الأعمال وغيرها بموافقتهم
للفلاسفة فيها، فهو في ذلك حقيق بأن ينشد عليه شعر لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار
عليك إذا فعلت عظيم ومما ينبغي أن ينبه عليه في هذا المقام: أن المقالات العجيبة
التي تفرد بها شيخ الأشاعرة ليست مما تنتهي إلى مقدمات دقيقة قد اطلع هو عليها بدقة
الفكر وممارسة الفنون العقلية والنقلية، لأنه قد علم وتواتر أنه لم يكن من أهل هذا
الشأن، والعلماء المطلعين على قوانين الحد والبرهان، بل إنما ذهب إلى بعض تلك
المقالات بمجرد مخالفة أرباب الاعتزال، وحب التفرد في المقال طلبا (2) لرياسة
الجهال، ولهذا ترى الحكيم شمس الدين الشهرزوري (3) جعل متابعة فخر الدين الرازي
لمذهب الشيخ الأشعري قدحا على ذكائه وشعوره ودليلا على نقصان كماله وقصوره عن مرتبة
الحكماء المحققين، والرعيل الأول من المدققين فقال: وأعجب أحوال هذا الرجل أنه صنف
في الحكمة كتبا كثيرة، توهم أنه من الحكماء المبرزين الذين وصلوا إلى غايات المراتب
ونهايات المطالب، ولم يبلغ مرتبة أقلم، ثم يرجع وينصر مذهب أبي الحسن الأشعري الذي
لا يعرف أي طرفيه أطول (4)؟ لأنه
(هامش)
(1) ومنهم الفخر الرازي. (2) وفي نسخة: وطلب رياسة الجهال. (3) هو العلامة العارف
الشيخ عبد الله بن القاسم الإربلي البغدادي العارف الشهير المتوفى سنة 511 صاحب
القصيدة السائرة الدائرة في العرفان مطلعها: لمعت نارهم وقد عسعس ال * لميل ومل
الحادي وحار الدليل فتأملتها وفكري من ال * بين عليل ولحظ عيني كليل أو المراد
العلامة الشيخ محمد بن عبد الله بن قاسم القاضي المتوفى سنة 586 أو غيرهما
والشهرزوري نسبة إلى شهرزور على وزن عنكبوت كورة قريبة من إربل. (4) قال ابن
الأعرابي: قولهم أي طرفيه أطول؟ طرفاه: ذكره ولسانه. (*)
ص 100
كان خاليا عن الحكمتين: البحثية والذوقية، لا يعرف يرتب حدا ولا يقيم برهانا، بل هو
شيخ مسكين متحير في مذاهبه الجاهلية التي يخبط فيه خبط عشواء (1) إنتهى وإني
كنت أظن أولا أن الحكيم المذكور ربما يتعصب في إظهار نقص الشيخ الأشعري لعداوة
دينية ونحوها، حتى رأيت في رسالة عملها السيد معين الدين الإيجي (2) الشافعي
الأشعري صاحب التفسير المشهور، في مسألة الكلام ما يؤيد كلام الحكيم المذكور ويصدقه
حيث قال: وليت شعري ما للأشعري لم يجعل مطلب الكلام كالاستواء والنزول والعين واليد
والقدم وغير ذلك، فإنه ذهب إلى أن كلا من ذلك، الايمان به واجب والكيفية مجهولة
والسؤال عنه بدعة فلا أدري لم فرعن حقيقة الكلام إلى المجاز البعيد، ثم قال: واعلم
أنه رضي الله عنه قدير عوي (3) إلى عقيدة جديدة بمجرد اقتباس قياس لا أساس له، مع
أنه مناف لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث مثل أن أفعال الله تعالى غير معللة بغرض،
ودليله كما صرح به في كتبه: أنه يلزم تأثر الرب عن شعوره بخلقه وأنت تعلم أنه لا
يشك ذو فكرة (4) أن علمه تعالى بالممكنات والغايات المرتبة عليه صفة ذاتية وفعله
متوقف عليه، فأين التأثر؟ نعم صفة فعلية موقوفة على صفة ذاتية، وكم من الصفات
(هامش)
(1) مثل مشهور عند العرب لمن غفل وخبط خبطا عظيما في شيئ، والعشواء: هي الناقة التي
لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شيئ ويقال: مركب عشواء إذا خبط أمره على غير
بصيرة كما في الصراح وكتب الأمثال. (2) قد مرت ترجمته. (3) أي يميل عن عقيدة مقررة
عتيقة إلى عقيدة جديدة مخترعة من عنده. (4) وفي نسخة أخرى: ذو مرة، والمرة بكسر
الميم وفتح الراء المهملة: قوة الخلق وإصابة العقل، والخلط الصفراوي في البدن،
والمعنى الأخير غير مناسب للمقام. (*)
ص 101
الذاتية موقوفة على صفة مثلها؟ إنتهى بل يفهم من شرح جمع الجوامع (1) للفناري
الرومي في مبحث القدرة: أن أكثر تلك المسائل التي تفرد بها الأشعري قد أخذها من
ألسنة القصاص والوعاظ، حيث قال: أما المستحيلات فلعدم قابليتها للوجود لم تصلح أن
تكون محلا لتعلق الإرادة لا لنقص في القدرة، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم (2).
فقال في الملل والنحل: إن الله عز وجل قادر على أن يتخذ ولدا، إذ لو لم يقدر عليه
لكان عاجزا، ورد ذلك بأن اتخاذه الولد محال لا يدخل تحت القدرة، وعدم القدرة على
الشيئ قد يكون لقصورها عنه وقد يكون لعدم قبوله لتأثيرها فيه، لعدم إمكانه لوجوب أو
امتناع، والعجز هو الأول دون الثاني. وذكر الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني (3): أن
أول من أخذ منه ذلك، إدريس عليه السلام، حيث جاءه إبليس في صورة انسان وهو يخيط
ويقول في كل دخلة (4) وخرجة: سبحان
(هامش)
(1) الفناري هو العلامة الشيخ محمد بن حمزة بن محمد الرومي الحنفي شمس الدين
المتوفى سنة 834، كان متقلدا منصب مشيخة الإسلام في دولة السلطان محمد خان من بلوك
آل عثمان، وله تآليف كثيرة منها عويصات الأفكار في اختبار أولي الأبصار وغيره، ثم
إن جمع الجوامع في أصول الفقه تأليف تاج الدين عبد الوهاب السبكي المتوفى سنة 771
شرحه جماعة منهم الفناري المذكور. (2) هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن
غالب الأندلسي القرطبي الظاهري النسابة المحدث الفقيه الأصولي المتكلم المتوفى سنة
456 صاحب كتاب المحلى في الفقه والجمهرة في النسب والفصل في الأديان والاعتقادات،
وهو من نوابغ الظاهرية بل من أجلة علماء العامة وممن يرى انفتاح باب الاجتهاد
وبطلان الرأي والقياس والاستحسان. (3) هو أبو إسحاق أحمد بن أبي طاهر الشافعي
البغدادي، أخذ عنه الخطيب البغدادي صاحب التاريخ الكبير وغيره توفي سنة 406. (4)
الدخلة: مرة من الدخول، والخرجة: مرة من الخروج. (*)
ص 102
الله والحمد لله، فجاءه بقشرة وقال: هل الله تعالى يقدر أن يجعل الدنيا في هذه
القشرة فقال: الله قادر أن يجعل الدنيا في سم هذه الإبرة ونخس بالإبرة إحدى عينيه،
فصار أعور، وهذا وإن لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد اشتهر وظهر ظهورا
لا ينكر قال: وقد أخذ الأشعري من جواب إدريس عليه السلام أجوبة في مسائل كثيرة من
هذا الجنس إنتهى كلامه وكفى بذلك شناعة وفضيحة لهم ولمذهبهم وقدوتهم في مذهبهم.
قال المصنف رفع الله درجته
البحث الثالث في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط 
أجمع
العقلاء كافة عدا الأشاعرة على ذلك للضرورة القاضية به، فإن عاقلا من العقلا لا يشك
في حصول الرؤية عند استجماع شرائطها وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك وارتكبوا
السفسطة فيه، وجوزوا أن يكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة من الأرض إلى عنان (1)
السماء محيطة بنا من جميع الجوانب، ملاصقة لنا تملأ
(هامش)
(1) لعنان السماء إطلاقات في الهيئة وغيرها منها أنه يطلق على أربعة عشر كوكبا،
اجتماعها على صورة رجل قائم خلف ممسك رأس الغول، بين الثريا وبين كوكبة الدب
الأكبر، ونقل عن بطليموس إن كواكبه أربعة عشر، وقيل أزيد، ويؤيده كلام بعض
المتأخرين من الغربيين. قال عبد الرحمن الفلكي الشهير المتوفى سنة 376 في كتاب
الصور ص 89 إن كواكبه الأربعة عشر هي هذه: الأنور الجنوبي الأنور الشمالي العيوق
النير المنكبي الأيمني أي الذي على منكبة الأيمن المرفقي الأيمني أي الذي على مرفقه
الأيمن الكوكب الذي في خلف مرفقه الأيمن المرفقي الأيسري أي الذي على مرفقه الأيسر
المعصمي الأيسري أي الذي على معصمه الأيسر الكوكب الذي يميل إلى الجنوب في وسط
المجرة * الكعبي الأيسري أي الكوكب الذي على كعبه الأيسر في الحافة الغربية من
المجرة * كوكب نير عظيم على كعبه الأيمن أيضا و(*)
ص 103
الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ظاهرة غاية الظهور، وتقع عليها الشمس وقت
الظهيرة، ولا نشاهدها ولا نبصرها ولا شيئا منها ألبتة. وكذا تكون بحضرتنا أصوات
هائلة تملأ أقطار الأرض بحيث ينزعج منها كل أحد يسمعها أشد ما يكون من الأصوات،
وحواسنا سليمة (غير مستقيمة) ولا حجاب بيننا وبينها ولا بعد ألبتة، بل هي في غاية
القرب منا ولا نسمعها ولا نحسسها أصلا، وكذا إذا لمس أحد بباطن كفه حديدة محماة
بالنار حتى يقبض (ينقبض ظ) ولا يحس بحرارتها، بل يرمى في تنور أذيب فيه الرصاص أو
الزيت، وهو لا يشاهد التنور ولا الرصاص المذاب، ولا يدرك حرارته، وتنفصل أعضائه،
وهو لا يحس بالألم في جسمه، ولا شك أن هذا هو عين السفسطة. والضرورة تقضي بفساده،
ومن يشك في هذا فقد
(هامش)
هو أعظم من الرابع المذكور الواقع على منكبه الأيمن كوكب منير واقع على اللفافة
التي على ساق الرجل اليمنى الكوكب المنير المائل عن الواقع على اللفافة إلى الشمال
كوكب واقع تحت الرجل اليسرى. ثم اعلم أنه كثيرا ما يقال ممسك الاعنة لصورة الرجل
الحاصلة من أربعة عشر كوكبا المذكورة فلا تظنن التعدد. وليعلم أن ممسك رأس الغول
الذي أشرنا إليه قريبا يسمى (برشاوش) أيضا، والمراد منه صورة رجل قائم على رجله
اليسرى وقد رفع رجله اليمنى ويده اليمنى فوق رأسه وبيده اليسرى رأس غول، وكواكبها
كلها فيما بين الثريا وبين ذات الكرسي، وصورة الممسك حاصلة من ستة وعشرين كوكبا من
الصورة وثلاثة حوالي الصورة وليست منها. وقد يطلق عنان السماء على وسط نصف الدائرة
الموهومة فوق الرأس، إحدى طرفيها متصلة بالمشرق والأخرى بالمغرب. وقد يطلق على وسط
السماء وقد يطلق على مطلق الفوقية إلى غير ذلك من الاستعمالات والاطلاقات في العرف
الخاص أو العام. (*)
ص 104
أنكر أظهر المحسوسات إنتهى كلامه . قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أن
شرائط الرؤية إذا تحققت لم تجب الرؤية، ومعنى نفي هذا الوجوب: إن الله تعالى قادر
على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط وإن كانت العادة جارية على تحقق
الرؤية عند تحقق الأمور المذكورة، ومن أنكر هذا وأحاله عقلا فقد أنكر خوارق العادات
ومعجزات الأنبياء، فإنه مما اتفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب من الأشاعرة
والمعتزلة والإمامية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج ليلة الهجرة من داره،
وقريش قد حفوا بالدار، يريدون قتله، فمر بهم ورمى على وجوههم بالتراب، وكان يقرأ
سورة يس، وخروج ولم يره أحد، وكانوا جالسين غير نائمين ولا غافلين، فمن لا يسلم أن
عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشرائط بأن يمنع الله تعالى البصر بقدرته عن الرؤية،
فعليه أن ينكر هذا وأمثاله، ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرؤية عند استجماع الشرائط:
بأنا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا، وما ذلك إلا لأنا نرى بعض أجزائه دون البعض
مع تساوي الكل في حصول الشرائط، فظهر أنه لا تجب الرؤية عند اجتماع الشرائط.
والتحقيق ما قدمناه من أنهم يريدون من عدم الوجوب جواز عدم الرؤية عقلا وإمكان تعلق
القدرة به، فأين إنكار المحسوسات؟ وأين هو من السفسطة؟ ثم ما ذكر: من تجويز أن تكون
(1)
(هامش)
(1) والجواب على طريق الحل أن يقال: إن أريد بقوله: وإلا جاز، أنه لو لم تجب الرؤية
عند اجتماع شرائطها لأمكن بحسب الذات أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة لم نرها، فمسلم
وبطلانه ممنوع، وإن أريد أنه لو لم يجب لجاز عند العقل ذلك ولم يأب عنه فممنوع، إذ
التجويز العقلي أنما يكون عند انتفاء العلم العادي بانتفائها، وهو ممنوع، (*)
ص 105
بحضرتنا جبال شاهقة مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات (1) الشنيعة والكلمات
الهائلة المرعدة المبرقة التي تميل بها خواطر القلندرية، والعوام إلى مذهبه الباطل
ورأيه الكاسد الفاسد، فهو شيئ ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة، بل يورد الخصم
عليهم في الاعتراض، ويقول: إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية، وإلا
جاز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة (2) ونحن لا نراها، هذا هو الاعتراض. وأجاب
الأشاعرة عنه بأن هذا منقوض بجملة العاديات، فإن الأمور العادية يجوز نقائضها (3)
مع جزمنا بعدم وقوعها ولا سفسطة هيهنا، فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا
نراها، فإنا نجوز وجودها ونجزم بعدمها، وذلك لأن الجواز (4) لا يستلزم الوقوع، ولا
ينافي الجزم بعدمه، فمجرد تجويزها
(هامش)
بل الوجدان يقتضي تحقق هذا العلم العادي المنافي لأن يجوز العقل خلافه. من الفضل بن
روزبهان في هامش بعض النسخ. (1) تقعقع: اضطرب وتحرك وصوت عند التحرك. (2) والتحقيق
أنه إن أزيد من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة لم نرها، الحكم بإمكانها الذاتي،
فهذا عين مذهب الأشاعرة، وليس يظهر فيه فساد أصلا، ولا سفسطة فيه قطعا، وإن أريد
عدم اليقين بانتفائها وعدم إباء العقل من تحققها فهو ممنوع، إذ عند الرجوع إلى
الوجدان نعلم تحقق العلم العادي بانتفائها ولا ينافيه الامكان الذاتي من الفضل بن
روزبهان أيضا في نسخة أخرى. (3) قوله: يجوز نقائضها، أي يحكم بإمكانها الذاتي، لا
أن العقل لا يأبى من تحقق نقائضها في الواقع كيف؟ والعلم العادي لا يحتمل متعلقه
النقيض. وقد صرح هيهنا أيضا بجزمنا بعدم وقوعها، وكذا الكلام في قوله: فإنا نجوز
وجودها، وقد عرفت تحقيق الكلام في الحاشيتين. من الفضل بن روزبهان. (4) أي الامكان
الذاتي لا التجويز العقلي، لظهور أن الأول لا ينافي الجزم دون الثاني من الفضل بن
روزبهان. (*)