ص 106
لا يكون سفسطة (1) وحاصل كلام الأشاعرة كما أشرنا إليه سابقا: أن الرؤية لا تجب
عقلا عند تحقق الشرائط، ويجوز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادة، والخصوم
لا يفرقون بين المحال العقلي والعادي، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق. ثم
ما ذكر من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها فكلها من قعقعة الشنآن بعد ما قدمنا لك
البيان إنتهى . أقول: ما ذكره لإصلاح سفسطة الأشاعرة في هذه المسألة من وقوع خرق
العادة في معجزات الأنبياء سيما ما اتفقوا عليه من معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم
ليلة الهجرة بمروره على الكفار من غير أن يراه أحد منهم لا يصلح لما قصده من
الاصلاح. مصراع: وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر (2) وذلك لأنه لا يلزم أن يكون خرق
العادة في المعجزة المذكورة بعدم الرؤية مع وجود الشرائط، ولم لا يجوز أن يكون
بإحداث حائل من غشاوة غيم أو دخان أو غبار (3) دفعة، كما أشار إليه الباري سبحانه
في سورة البقرة بقوله: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة (4)
وبقوله في سورة يس: وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا، فأغشيناهم فهم لا
يبصرون (5) ومعنى فأغشيناهم: جعلنا على أبصارهم غشاوة وحلنا بينهم وبينه، كذا في
أكثر
(هامش)
(1) أي القول بإمكانها الذاتي على عرفت غير مرة. من الفضل بن روزبهان. (2) ما
قبلها: عجوز تمنت أن تكون فتية * وقد يبس الجنبان واحد ودب الظهر (3) أو حاجب معنوي
غير محسوس كما هو المراد بقوله تعالى في كتابه العزيز: أخذ الله بسمعهم وأبصارهم
الآية وكذا نحو المراد من الغشاوة المذكورة في الآية. (4) البقرة. الآية 7. (5) يس.
الآية 9. (*)
ص 107
التفاسير. وأما ما تكأكأ به (1) من بناء الأشاعرة ذلك على قاعدة جريان العادة، وأن
حاصل كلامهم هو أن الرؤية لا تجب عقلا عند تحقق الشرائط الخ فمع ما سبق من
الكلام على هذه القاعدة الميشومة، مردود: بأن عند تحقق الشرائط واجتماعها تكون
العلة التامة للرؤية متحققة ضرورة، فلو أمكن معها عدم الرؤية لزم إمكان تخلف
المعلول عن العلة التامة (2)، وهذا خلف. فظهر أن منشأ غلط الأشاعرة عدم الفرق بين
ما نحن فيه من المحال (3) العقلي والمحال العادي، وأن الناصب المقلد جرت عادته
بإعادة كلامهم، فإن التخلف العادي فيما نحن فيه من الرؤية وأسبابها وشرائطها إنما
يتصور: بأن يعدم القادر المختار جميع أجزاء علتها التامة أو بعضها، ويوجد بدلها
معلولا آخر مثلا، كما قيل في انقلاب الحجر ذهبا ونحوه، لا أن يوجد ذلك المعلول أعني
الرؤية بعينه بدون علته التامة وأما نفيهم للعلية والمعلولية الحقيقية بين الحوادث
فهو سفسطة أخرى، أولى بالتشنيع وأحرى فافهم. وأما ما ذكره الناصب في حاشية جرحه
هذا: من أنه إن أريد من تجويز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة لم نرها، الحكم بإمكانها
الذاتي فهذا عين مذهب الأشاعرة، وليس يظهر فيه فساد أصلا، ولا سفسطة فيه قطعا، وإن
أريد عدم اليقين بانتفائها وعدم إباء العقل من تحققها فهو ممنوع، إذ عند الرجوع
(هامش)
(1) التكاكؤ: الاجتماع. (2) إن قلت: إن العلة الثابتة للحوادث عند الأشعري، هو
الواجب تعالى، لأنه ينفي العلية والمعلولية من الحوادث مطلقا كما مر. قلت: هذا أصل
السفسطة كما مر بيانه. منه قده . (3) لفظة محال من المثلثات، فبالفتح عود ينصب
على حافة البئر وتعلق به البكرة للاستقاء وبالكسر بمعنى القوة والشدة كما في قوله
تعالى: وهو شديد المحال وبالضم مقابل الممكن والمحال من مادة الحوالة أيضا. (*)
ص 108
إلى الوجدان نعلم تحقق العلم العادي بانتفائها، ولا ينافيه الامكان الذاتي إنتهى
فمردود: بأن المراد بالجواز هو الحكم بإمكان عدم تحقق الرؤية عند شرائطها التي هو
نقيض ضرورة حكم العقل بأنها واقعة عند شرائطها، فلا يمكن أن يتحقق مع الحكم بوجوب
تحقق الرؤية عند شرائطها وقد قلت بخلافه [هذا خلف] والتحقيق أن مبنى الدليل وجوابه
على مقدمة اختلفت فيها الفرقتان، وهي: أن المعلول عند تحقق جميع ما يتوقف عليه بحسب
العادة هل يجب تحققه أم لا؟ فمن قال: باستناد الأفعال إليه تعالى، وهم الأشاعرة
قال: بأنه غير واجب (1) إلا أن عادته جارية بإيجاده عند تحقق ما يتوقف عليه، ومن
قال: بإستناد بعض الأفعال إلى غيره تعالى، وهم الإمامية والمعتزلة والحكماء، قال:
بوجوبه، وهو الموافق للعقل، والبديهة حاكمة به كما لا يخفى. قال المصنف رفع الله
درجته
البحث الرابع في امتناع الادراك عند فقد الشرائط، 
والأشاعرة خالفوا جميع
العقلاء في ذلك وجوزوا الادراك مع فقد جميع الشرائط، فجوزوا في الأعمى إذا كان في
المشرق أن يشاهد ويبصر النملة الصغيرة السوداء على صخرة سوداء في طرف المغرب في
الليل المظلم، وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد، وبينهما
(هامش)
(1) ومما تضحك منها الثكلى ويبكي العريس ويتبسم الطير المشوي، ما ذكره الإمام
الرازي في كتاب المحصل: أنه يمكن تحقق العلة بأجزائها بالأسر وأن لا يتحقق المعلول،
وذلك بإرادة منه تعالى، وعبر عنه بالصرف وعن وجود المعلول بعد العلة: بالصدفة
وصرح بهذا في كتاب الأربعين قائلا: إن تحقق المعاليل بعد تحقق العلل من باب
الصدفة الغالبة. (*)
ص 109
حجب جميع الجبال والحيطان، ويسمع الأطروش (1) وهو في طرف المشرق، أخفى صوت يسمع،
وهو في طرف المغرب، وكفى من اعتقد ذلك نقصا ومكابرة لضرورة ودخولا في السفسطة. هذا
اعتقادهم، وكيف يجوز لعاقل، أن يقلد من كان هذا اعتقاده؟! وما أعجب حالهم يمنعون من
مشاهدة أعظم الأجسام قدرا وأشدها لونا وإشراقا وأقربها إلينا مع ارتفاع الموانع
وحصول الشرائط ومن سماع الأصوات الهائلة القريبة، ويجوزون مشاهدة الأعمى لأصغر
الأجسام وأخفاها في الظلم الشديدة وبينهما غاية البعد، وكذا في السماع، فهل بلغ أحد
من السوفسطائية في إنكارهم المحسوسات إلى هذه الغاية، ووصل إلى هذه النهاية؟! مع أن
جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة، حيث جوزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان
حال خروجه أناسا فضلاء مدققين في العلوم حال الغيبة، وهؤلاء جوزوا حصول مثل هذه
الأشخاص في الحضور ولا يشاهدون، فهم أبلغ في السفسطة من أولئك، فلينظر العاقل
المنصف المقلد، هل يجوز له أن يقلد مثل هؤلاء القوم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله
تعالى ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم أم لا؟! فإن جوز ذلك لنفسه بعد تعقل
ذلك وتحصيله، فقد خلص المقلد من إثمه وباء (2) هو بالإثم، نعوذ بالله من مزال
الأقدام وقال بعض الفضلاء ونعم ما قال: كل عاقل جرب الأمور فإنه لا يشك في إدراك
السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدة مديدة حتى تنفصل أعضائه، ومحال
(هامش)
(1) الأطروش: الأصم، وقد يطلق على السميع، فاللفظ من الأضداد، والمراد هيهنا المعنى
الأول. (2) وقال في النهاية: أبوء بنعمتك أي ألتزم وأرجع وأقر، وأصل البواء اللزوم،
ومنه الحديث فقد باء به أحدهما أي التزمه ورجع به، والعرب يقول: باء بذنبه إذا
احتمله كرها لا يستطيع دفعه عن نفسه، ومنه قوله عليه السلام في الدعاء المروي:
وأبو، إليك من ذنبي. (*)
ص 110
أن يكون أهل بغداد على كثرتهم وصحة حواسهم، يجوز عليهم جيش عظيم ويقتلون وتضرب فيهم
البوقات (1) الكثيرة ويرتفع الريح وتشتد الأصوات ولا يشاهد ذلك أحد منهم ولا يسمعه،
ومحال أن يرفع أهل الأرض بأجمعهم أبصارهم إلى السماء ولا يشاهدونها، ومحال أن يكون
في السماء ألف شمس، وكل واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ولا يشاهدونها، ومحال أن
يكون لانسان واحد مشاهد أن عليه رأسا واحدا، ألف رأس لا يشاهدونها، وكل واحد منها
مثل الرأس الذي يشاهدونها، ومحال أن يخبر واحد بأعلى صوته ألف مرة بمحضر ألف نفس كل
واحد منهم يسمع جميع ما يقوله: بأن زيدا ما قام ويكون قد أخبر بالنفي، ولم يسمع
الحاضرون حرف النفي مع تكرره ألف مرة، وسماع كل واحد منهم جميع ما قاله، بل علمنا
بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنا حال [خ ل حين] خروجنا من منازلنا، لم تنقلب
الأواني التي فيها، أناسا مدققين في علم المنطق والهندسة، وأن ابني الذي شاهدته
بالأمس، هو الذي شاهدته الآن، وأنه لم يحدث حال تغميض العين ألف شمس، ثم انعدم عند
فتحها، مع أن الله تعالى قادر على ذلك كله، وهو في نفسه ممكن، وأن المولود الرضيع
الذي يولد في الحال إنما يولد من الأبوين، ولم يمر عليه ألف سنة مع إمكانه في نفسه،
وبالنظر إلى قدرة الله تعالى، وقد نسبت السوفسطائية إلى الغلط وكذبوا كل التكذيب في
هذه القضايا الجائزة فكيف بالقضايا التي جوزها الأشعرية التي تقتضي زوال الثقة عن
المشاهدات؟! ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم وأفضل متأخريهم فخر الدين الرازي (2) في
هذا الموضع حيث قال: يجوز أن يخلق الله
(هامش)
(1) جمع البوق وهي آلة ينفخ فيها. (2) هو العلامة فخر الدين محمد بن عمر الرازي
الشافعي المشتهر بالإمام المتوفى سنة 606 صاحب التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب
وعدة كتب، وما نقله مولينا القاضي (*)
ص 111
تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار، فلهذا لا يحس بالحرارة
واللون الذي فيها، والضوء المشاهد فيها يجوز أن يخلقه الله تعالى في الجسم البارد،
وغفل عن أن هذا ليس بموضع النزاع، لأن المتنازع فيه: أن الجسم الذي هو في غاية
الحرارة يلمسه الإنسان الصحيح البنية السليم الحواس حال شدة حرارته ولا يحس بتلك
الحرارة فإن أصحابه يجوزون ذلك، فكيف يكون ما ذكره جوابا؟ إنتهى قال الناصب
خفضه الله أقول: حاصل جميع ما ذكره في هذا الفصل بعد وضع القعقعة (1) إن الأشاعرة
لا ينبرون وجود الشرائط وعدمها في تحقق الرؤية وعدم تحققها، ولعدم هذا الاعتبار
دخلوا في السوفسطائية، ونحن نبين لك حاصل كلام الأشاعرة في الرؤية لتعرف أن هذا
الرجل مع فضيلته، (2) قد أخذ سبل (3) التعصب عين
(هامش)
الشهيد هيهنا مذكور في كتاب محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء، وهذا
الرجل من النوابغ في الفنون، وله يد طولى وباع غير قصير في إبداع الشكوك بالنسبة
إلى مسائل العلوم، ومن ثم اشتهر بإمام المشككين، وبالجملة الرجل من فطاحل العلم
وفرسانه، وفضله لا ينكر وإن كانت له زلات في الأصول والفروع كتجويزه الرؤية والجبر
في أفعال العباد وانسداد باب الاجتهاد وغيرها من المناكير عند المحققين، ولاغرو أن
يزل قدمه مع مقامه الشامخ حتى وصف بالإمام، وذلك لبعده وحرمانه عن كلمات الأئمة من
أهل البيت عليهم السلام، المنتهية علومهم إلى النبي صلى الله عليه وآله المتخذ من
عالم الجبروت. (1) القعقعة: صوت السلاح. (2) انظر كيف يعترف بفضيلة المصنف؟ وقد
نفاها سابقا من شدة التعصب والعناد، والفضل ما شهدت به الأعداء. (3) السبل: بفتح
الأول والثاني غشاوة تعرض للعين، أو عرق أحمر يحدث في سطح العين. (*)
ص 112
بصيرته، فنقول: ذهب السوفسطائية إلى نفي حقائق الأشياء، فهم يقولون: إن حقيقة كل
شيئ ليست حقيقته، فالنار ليست بالنار، والماء ليس بالماء، ويجوز أن يكون حقيقة
الماء حقيقة النار وحقيقة الماء حقيقة الهواء، وليس لشيئ حقيقة، فليزمهم أن تكون
النار التي نشاهدها لا تكون نارا، بل ماءا وهواءا، أو غير ذلك، وهذا هو السفسطة،
وينجر هذا إلى ارتفاع الثقة من المحسوسات وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء
وأما حاصل كلام الأشاعرة في مبحث الرؤية وغيرها مما ذكره هذا الرجل، فهو أن الأشياء
الموجودة عندهم إنما تحصل وتوجد بإرادة الفاعل المختار وقدرته التي هي العلة التامة
لوجود الأشياء فإذا كانت القدرة هي العلة التامة فلا يكون وجود شيئ واجبا عند حصول
الأسباب الطبيعية، ولا يكون شيئ مفقودا بحسب الوجوب عند فقدان الأسباب والشرائط،
ولكن جرت عادة الله تعالى في الموجودات: أن الأشياء تحصل عند وجود شرائطها (1)
وتنعدم عند انعدامها، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجوب، فالشيئ الذي له
شرائط في الوجود يجب تحققه عند وجود تلك الشرائط وانتفائه عند انتفائها بحسب ما جرى
من العادة، وإن كان ذلك الشيئ بالنسبة إلى القدرة غير واجب، لا في صورة التحقق
لتحقق الشرائط ولا في الانتفاء لانتفائها، بل جاز في العقل تحقق الشرائط وتخلف ذلك
الشيئ وكذا تحقق ذلك الشيئ مع انتفاء الشرائط إذ لم يلزم منه محال عقلي، وذلك
بالنسبة إلى قدرة المبدء الذي هو الفاعل المختار مثلا الرؤية التي نحن نباحث فيها
لها شرائط وجب تحققها عند تحققها وامتنع وقوعها عند فقدان الشرائط، كل ذلك بحسب ما
جرى من عادة الله تعالى في خلق
(هامش)
(1) ليس المراد بالشرط هنا، هو المعنى الذي اصطلح عليه الفلاسفة، بل المراد ما يقال
له الشرط في العرف بحسب ما يشاهد من المصاحبة الدائمة أو الأكثرية بينه وبين ما
يعتبر أنه المشروط كالنار للإحراق، والأكل للشبع. من الفضل بن روزبهان. (*)
ص 113
بعض الموجودات بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعية دون انتفائها، فعدم تحقق الرؤية
عند وجود الشرائط أو تحققها عند فقدان الشرائط محال عادة، لأنه جار على خلاف عادة
الله وإن كان جائزا عقلا، إذا جعلنا قدرة الفاعل وإرادته، علة تامة لوجود الأشياء،
هذا حاصل مذهب الأشاعرة، فيا معشر الأذكياء أين هذا من السفسطة؟! وإذا عرفت هذا سهل
عليك جواب كل ما أورده هذا الرجل في هذه المباحث من الاستبعادات والتشنيعات. وأما
جواب الإمام الرازي: فهو واقع بإزاء الاستبعاد فإنهم يستبعدون أن الحديدة المحماة
الخارجة من التنور يجوز عقلا أن لا تحرق شيئا، فذكر الإمام (1) وجه الجواز عقلا
بخلق الله تعالى عقيب الخروج من التنور برودة في تلك الحديدة، فيكون جوابه صحيحا
والله أعلم بالصواب، وأما قوله (إن المتنازع فيه أن الجسم الذي في غاية الحرارة
يلمسه الإنسان الصحيح البنية السليم الحواس حال شدة حرارته ولا يحس بتلك الحرارة
فإن أصحابه يجوزون ذلك) فنقول فيه: قد عرفت آنفا ما ذكرناه من معنى هذا التجويز،
وأنه لا ينافي الاستحالة عادة، فهم لا يقولون: إن هذا ليس بمحال عادة ولكن لا يلزم
منه محال عقلي (2) كاجتماع الوجود والعدم، فيجوز أن تتعلق به القدرة الشاملة
الإلهية، وتمنع
(هامش)
(1) حاصل الكلام، أن جواب الإمام الرازي ليس في موقع تصحيح ما ذهب إليه الأشاعرة،
من أنه يمكن بحسب الذات تحقق الأسباب الطبيعية مع انتفاء المسببات وإن كان ذلك
محالا عادة، بل هو واقع بإزاء الاستبعاد، والله أعلم. من الفضل بن روزبهان. (2) فإن
قيل: لا يلزم من إنكار هذا إنكار الآية، لجواز أن تكون واقعة إبراهيم عليه السلام
على طريقة أن الله تعالى سلب الحرارة من النار. قلت: الظاهر من لفظ على في قوله
تعالى: بردا وسلاما على إبراهيم، أن النار مع اتصافها بالحرارة كانت لم تؤثر في
إبراهيم، لا أنها صارت باردة وإلا كان الأنسب الاكتفاء بالبرد فقط، وهذا مما يعرفه
الذوق الصحيح. من الفضل بن روزبهان. (*)
ص 114
الحرارة من التأثير، ومن أنكر هذا فلينكر (1) كون النار بردا وسلاما على إبراهيم
إنتهى كلامه أقول: وحاصل ما ذكره في جل (2) هذا الفصل يرجع إلى التشكيك في
البديهي أو جعل النزاع لفظيا كما حققناه سابقا، ولنفصل الكلام في تزييف ما نسجه من
المقدمات لئلا يظن بنا ظان أن اكتفاءنا بالاجمال للعجز عن إيضاح المقال، فنقول
أولا: لا نسلم أن جميع السوفسطائية ذهبوا إلى نفي حقائق الأشياء فإن أفضل
السوفسطائية وهم اللا أدرية (3) على ما في المواقف، قائلون: بالتوقف في بطلان
الحسيات لا بنفي حقائق الموجودات، وهم اللذون نسبوا إليهم جواز انقلاب الأواني في
الدار أناسا فضلاء، وشبهوا مقالة الأشاعرة بمقالتهم، فما ذكره في بيان الفرق من أن
السوفسطائية ذهبوا إلى نفي حقائق الأشياء ليس على إطلاقه نعم ذلك النفي منسوب إلى
طائفة أخرى منهم يسمون بالعنادية، (4) ولا يلزم من
(هامش)
(1) وأنت خبير لو جوز تخلف الآثار عن مؤثراتها لم يبق حجر على حجر ولا محال عقلي،
والالتزام بذلك مما لا يلتزم به. (2) جل كل شيئ بالضم: معظمه. (3) هم قوم ينكرون
العلم بثبوت شيئ وبلا ثبوته ويزعمون أنه شاك، وشاك في أنه شاك وهلم جرا، هكذا أفاد
الجرجاني في رسالة الحدود انتهى. وسيأتي منا أن اللاأدرية فرقة من السوفسطائية في
مقابل العنادية بالمعنى الأخص المذكور في الكلام وعلم آداب البحث والمناظرة. ثم قد
عد من رؤساء اللاأدرية حارث البلخي حتى ينقل عنه أنه قال حين موته: ما تيقنت بشيئ
ولا شككت فيه، وألزمه بعض الحاضرين بجزمه بعدم يقينه وعدم شكه اللذين هما من
الكيفيات النفسانية. (4) العنادية لها إطلاقات في علوم الكلام والميزان والمناظرة.
ففي المنطق، هي قضية يكون التنافي فيها لذاتي الجزئين مع قطع النظر عن الواقع، (*)
ص 115
عدم مناسبة قول الأشاعرة، لقول الفرقة الثانية، عدم مناسبته ومشابهته للسفسطة
مطلقا، وبالجملة ما تكلفه في بيان الفرق بين مذهبي السوفسطائية والأشاعرة لا يدفع
اشتراكهما في أصل السفسطة، لأن السوفسطائية على ما قرره ينفون كون أصل الحقائق من
الأسباب والمسبباب موجودة، والأشاعرة ينفون كون سببية تلك الأسباب ومسببية مسبباتها
موجودة، فكلا النفيين نفي للموجود مخالف (1) لبديهة العقل كما لا يخفى، ثم لا يخفى
ما ذكره في تقرير كلام السوفسطائية (من تجويزهم أن تكون حقيقة الماء حقيقة النار
الخ) لأن هذا التجويز فرع القول بثبوت الحقيقة، والمفروض أنهم ينفون حقائق الأشياء
تأمل (2) [وأيضا] ذكر في شرح المواقف: أنه ليس يمكن أن يكون في العالم قوم عقلاء
ينحلون ما نسب إلى جماعة سموهم بالسوفسطائية، بل كل غالط سوفسطائي (3) في موضع غلطه
إنتهى، فلم لا يحمل كلام المصنف العلامة في قوله: وهل بلغ أحد من
(هامش)
كما
بين الفرد والزوج، والحجر والشجر. وفي الكلام يطلق على فرقة من السوفسطائية وهم
الذون أذعنوا بحقيقة الشيئ البديهي قلبا وأنكروها ظاهرا في مقام العناد واللجاج.
وفي علم المناظرة وآداب البحث، تطلق تارة ويراد منها المعنى المذكور، وأخرى المعنى
الأعم أي يطلق على كل معاند ولجوج في الأمور، سواء كان المورد من الأمور الضرورية
أو النظرية والخصم شاكا أو متيقنا، وأنت إذا أحطت خبرا بما تلونا عليك دريت أن اللا
أدرية تقابل المعنى الكلامي وأحد معيني المناظري فلا تغفل. (1) صفة للنفي المرفوع،
لا للموجود المجرور. (2) التأمل تدقيقي، أو إشارة إلى أنه على سبيل الفرض، وإن كان
على خلاف مبنى أهل السفسطة. (3) وبعبارة أخرى: كل منكر للضرورة سوفسطائي. (*)
ص 116
السوفسطائية الخ على هذا المعنى؟ حتى لا يقع في الغلط. (وثانيا) إنما ذكره في
بيان حاصل كلام الأشاعرة من أن الأشياء الموجودة عندهم إنما تحصل وتوجد بإرادة
الفاعل المختار وقدرته التي هي العلة التامة لوجود الأشياء الخ مدخول بأنه كلام
متناقض لأن حصره للعلة التامة في القدرة آخرا مناف لقوله: إنما يحصل ويوجد بإرادة
الفاعل المختار، بل ربما يشعر بعدم مدخلية ذات الفاعل في ذلك، وفيه ما فيه، مع أن
في كون الباري تعالى وقدرته القديمة علة تامة للحوادث كلام مذكور في علمي الحكمة
والكلام، وحاصله أنه لو كان الواجب تعالى وقدرته القديمة علة تامة للحوادث لزم قدم
الحادث أو حدوث الواجب تعالى، واستوضح ذلك في الكتب المتداولة بما لا مزيد عليه،
فليطالع ثمة، وباقي المقدمات من تجويز الأمور المخالفة لبديهة العقل والحس إعادة
لما ذكره في شرحه للمباحث السابقة، وقد ذكرنا ما فيه ثمة فتذكر. (وثالثا) أن ما
ذكره في تأويل جواب الرازي غير منتهض على دفع الاستبعاد الذي قرره هذا الشارح، فإن
الاستبعاد إنما وقع في تجويز عدم الاحساس بمس الجسم الحار حال حرارته لا مطلقا، كما
يدل عليه تصويره للصورة التي استبعدها الخصم، وبما قررناه سابقا من عدم جدوى المعنى
الذي ذكروه لتجويزهم، ما وقع فيه الاستبعاد، اندفع ما ذكره هيهنا بقوله: فقد عرفت
آنفا ما ذكر من معنى هذا التجويز الخ ، (ورابعا) أن ما ذكره، من أن من أنكر هذا
فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام، مدفوع بما ذكره في حاشية
شرحه من أنه لا يلزم من إنكار هذا إنكار الآية، لجواز أن تكون واقعة إبراهيم عليه
السلام على طريقة: أن الله تعالى سلب الحرارة من النار، وما ذكره ثمة في جوابه من
أن الظاهر من لفظة على في قوله تعالى: بردا وسلاما على إبراهيم أن النار مع اتصافها
بالحرارة لم تؤثر في إبراهيم عليه السلام لا أنها صارت باردة، وإلا كان الأنسب
الاكتفاء بالبرد فقط مردود بإجماع المفسرين على
ص 117
خلاف ما حكم بأنسبيته، وكيف يكون كذلك؟ مع ظهور أن الاكتفاء بقوله: بردا يوهم كون
البرد المتعدي بعلى للمضرة، وما قال من أن هذا يعرفه الذوق الصحيح: إن أراد به مذاق
نفسه فهو لا يصير حجة على أحد، فإن مذاقه الصفراوي المبتلى بمرارة عداوة أهل البيت
عليهم السلام وشيعتهم، ربما يجد الأمر على خلاف ما هو عليه كما يجد الصفراوي العسل
مرا، وإن أراد به ذوق غيره، فعلى تقدير حجيته لا نسلم أنهم يجدون معنى الآية على
حسب ما وجده كما أوضحناه، وهذا لم يكن مما يخفى على من به أدنى مسكة (1)، لكن ديدن
المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم بدعوى الذوق والفهم السقيم شعر: (وكم من
عائب قولا صحيحا * وآفته من الفهم السقيم) قال المصنف رفع الله درجته:
البحث الخامس
في أن الوجود ليس علة تامة في الرؤية: 
خالفت الأشاعرة كافة العقلاء هيهنا، وحكموا
بنقيض المعلوم بالضرورة، فقالوا: إن الوجود علة تامة في كون الشيئ مرئيا، فجوزوا
رؤية كل شيئ موجود (2)، سواء كان في حيز أو لا وسواء كان مقابلا أو لا، فجوزوا
إدراك الكيفيات النفسانية كالعلم والإرادة والقدرة والشهوة واللذة، وغير النفسانية
مما لا يناله البصر، كالروائح والطعوم والأصوات والحرارة والبرودة وغيرها (غير هما
خ ل) من الكيفيات الملموسة، ولا شك في أن هذا مكابرة للضروريات، فإن كل عاقل يحكم
بأن الطعم إنما يدرك
(هامش)
(1) المسكة. بالضم العقل. (2) لا يخفى أن الامكان الذاتي المصحح للقدرة العامة أمر
لا يجزم العقل بانتفائه، بل ربما يحققه، فلا إشكال أصلا في تجويز شيئ مما هو خلاف
العادة. (*)
ص 118
بالذوق لا بالبصر، والروائح إنما تدرك بالشم لا بالبصر، والحرارة وغيرها من
الكيفيات الملموسة إنما تدرك باللمس لا بالبصر، والصوت إنما يدرك بالسمع لا بالبصر
ولهذا (1) فإن فاقد البصر يدرك هذه الأعراض، ولو كانت مدركة بالبصر لاختل الادراك
باختلاله. وبالجملة فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك وأن من شكك فيه فهو سوفسطائي
(2)، ومن أعجب الأشياء تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء مع عدم الساتر
بيننا، وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر، وهل هذا إلا من تغفل
قائله؟ إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: إعلم أن الشيخ أبا الحسن الأشعري (3)
استدل بالوجود على
(هامش)
(1) قوله: ولهذا فإن فاقد البصر الخ إنما يتجه إذا كان مذهب الأشاعرة إدراك هذه
الأعراض بالبصر فقط، وليس فليس كما لا يخفى، وهكذا قوله: ولو كانت مدركة بالبصر
لاختل الادراك. من الفضل بن روزبهان. (2) هذه العبارة مشعرة بما ذكره السيد قده
في شرح المواقف من أن السوفسطائية ليس لهم نحلة فافهم. منه قده . (3) هو الشيخ
أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري قدوة الأشاعرة ومؤسس تلك الفرقة، ينتهي نسبه إلى
أبي موسى الأشعري المشهور ومن ثم اشتهر بالأشعري، كان من تلاميذ أبي علي الجبائي
المعتزلي وللأشعري تآليف منها الإبانة في أصول الديانة واللمع والموجز، توفي ببغداد
سنة 324 أو 329 أو 330 وقيل غيرها والرجل ممن أتى بالغرائب في الإسلام، فجوز الرؤية
والظلم في حقه تعالى وأنكر الحسن والقبح العقليين ونحوها مما ستقف عليها في الكتاب
وفي تعاليقنا. (*)
ص 119
إثبات جواز رؤية الله تعالى وتقرير الدليل كما ذكر في المواقف وشرحه: (1) أنا
(هامش)
(2) لا يخفى على الناقد البصير أن بناء الدليل المذكور، كما ذكره في شرح المواقف
عند التعرض لهذا الدليل، (ج 2 ص 371) على تركب الجسم من الجواهر الفردة وأن الطول
والعرض عين الجسم وليسا أمرين عرضيين عرضا عليه فإن الطول والعرض إن كانا عرضين
قائمين بواحد من تلك الجواهر إلى آخر ما نقله الناصب أقول تركب الجسم من الجواهر
الفردة هو قول ذيمقراطيس وهو قول مزيف ضعيف غاية الضعف، والذي ذهب إليه أهل التحقيق
منع انقسام الجسم إلى أجزاء بالفعل وذكروا أن انقسام الجسم إلى الأجزاء إنما هو
بالقوة لا بالفعل، فإنه لو اشتمل الجسم على أجزاء بالفعل للزم وقوع الأجزاء الغير
المتناهية بين حاصرين، فإن كل جزء منها أيضا ينقسم إلى أجزاء بالفعل حسب الفرض وكل
جزء منها أيضا ينقسم إلى أجزاء وهكذا، فيلزم اشتمال كل جسم على أجزاء غير متناهية
بالفعل وهو محال فانهدم بناء القول بكون الطول والعرض عين الجسم واندفع ما توهمه
الأشعري محذورا لكون الطول والعرض من قبيل الأعراض فثبت أن التحقيق كما عليه قاطبة
أهل التحقيق أن الطول والعرض من قبيل العرض من مقولة الكم وليسا جوهرين، حتى يلزم
من صحة رؤيتهما صحة رؤية الجواهر. ثم إنه على تقدير تسليم ما توهمه الأشعري من كون
الطول والعرض جوهرا يرد على استدلاله به على جواز رؤية مطلق الوجود الشامل لوجود
الباري عز اسمه، أن بين وجود الجوهر ووجود العرض جامع لا يشتمل وجود الباري جلت
عظمته، وهو الوجود الامكاني الذي هو مرتبة من مراتب الوجود لا يشمل ما فوقها من
المرتبة، فلا تكون صحة رؤية وجود الجوهر ووجود العرض إلا مستلزما لصحة رؤية المرتبة
الجامعة بينهما من الوجود دون مطلق الوجود هذا وقد ذكر فخر الدين الرازي في
الأربعين (ص 198 - 191) اثني عشر وجها في الاعتراض على الدليل المذكور ونحن نذكر
خلاصتها، وقد اعترف بالعجز عن جوابها بعين العبارة التي سيذكرها القاضي الشهيد
قده . (أولها) أن الصحة أمر عدمي على ما تقرر في محله والأمر العدمي لا يفتقر إلى
العلة
ص 120
نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيره من الحركة والسكون والاجتماع
(هامش)
(ثانيها) أنه على تقدير كون الصحة أمرا وجوديا لا يجب تعليله، لما اتفق المتكلمون
على أن من الأحكام ما لا يعلل كما أن صحة المعلومية والمذكورية والمخبرية لا تعلل
لأن هذه الأحكام ثابتة للمعدومات أيضا وهي لا تصلح للتعليل (ثالثها) أن صحة رؤية
الجوهر مخالفة لصحة رؤية العرض فإنه يمتنع قيام كل واحدة منهما مقام الآخر بدليل أن
الجوهر يمتنع أن يرى سوادا والسواد يمتنع أن يرى جوهرا، واختلافهما في النوع ولو مع
اشتراك الجنس يوجب جواز تعليلهما بعلتين مختلفتين (رابعها) سلمنا أن صحة رؤية
الجوهر وصحة رؤية العرض حكمان متماثلان ولكن يجوز تعليل المتماثلين بعلتين مختلفتين
لوجوه تقرر في محله (خامسها) أن قولكم: لا مشترك بين الجوهر والعرض إلا الوجود
والحدوث لا نسلمه وعدم الدليل ليس دليل العدم (سادسها) أن قولكم: إن الحدوث هو
الوجود المسبوق بالعدم فهو مركب من الوجود والعدم باطل فإن المسبوقية وصف ثبوتي
ثابت للوجود والوجود لا يتصف بالعدم لاستحالة اتصاف الشيئ بنقيضه (سابعها) أن حقيقة
الشيئ عند أبي الحسن الأشعري هو وجوده ولما كانت الحقايق مختلفة فوجود الواجب مختلف
لا محالة مع وجود الممكنات (ثامنها) أن حصول العلة غير كافية في حصول المعلول، فإنه
قد تحصل العلة ولا يحصل المعلول لعدم حصول شرطه أو اقترانه بالمانع، كما أن الحياة
علة لحصول الشهوة والألم واللذة وغير حاصلة في حقه تعالى مع أن الحياة ثابتة له
(تاسعها) أن لازم القول: بصحة الرؤية القول: بصحة اللمس والذوق بعين ما ذكرتم في
ذلك وهو مما لا تلتزمونه. (عاشرها) أن قولكم: الوجود علة لصحة الرؤية أن أردتم به
صحة رؤية الوجود، ففيه أن لازمه تعلق الرؤية في كل مبصر بالوجود المشترك بين جميع
الموجودات وعدم تعلقه بالخصوصيات الخارجة عما به الاشتراك. (الحادي عشر) أنه يمكن
الالتزام بصحة الرؤية في حقه تعالى ولا ينافي ذلك توقفها على شرط ممتنع، فيمتنع
تحقق الرؤية لأجل امتناع الشرط. (الثاني عشر) النقض بالمخلوقية فإنها أمر مشترك بين
الجوهر والأعراض ولا يجوز حصولها في حقه تعالى. (*)
ص 121
والافتراق، وهذا ظاهر، ونرى الجوهر أيضا، لأنا نرى الطول والعرض في الجسم وليس
الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم لما تقرر: من أنه مركب من الجواهر الفردة، فالطول
مثلا إن قام بجزء واحد فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر فيقبل القسمة، هذا
خلف، وإن قام بأكثر من جزء واحد لزم قيام العرض الواحد بمحلين، وهو محال، فرؤية
الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركب منها الجسم، فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة
بين الجوهر والعرض، وهذه الصحة لها علة مختصة بحال وجودهما، وذلك لتحققها عند
الوجود وانتفائها عند العدم، ولولا تحقق أمر مصحح حال الوجود غير متحقق حال العدم
لكان ذلك ترجيحا بلا مرجح وهذه العلة لا بد أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض،
والالزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة وهو غير جائز، ثم نقول: هذه العلة
المشتركة إما الوجود أو الحدوث إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما، لكن الحدوث
عدمي لا يصلح للعلية فإذن العلة المشتركة، الوجود، فإنه مشترك بينهما وبين الواجب،
فعلة صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية وهو المطلوب. ثم إن هذا
الدليل يوجب أن تصح رؤية كل موجود كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم كما ذكره
هذا الرجل، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول: لا يلزم من صحة الرؤية لشيئ تحقق
الرؤية له، وأنا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله بذلك أي بعدم
رؤيتها، فإن الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فيها ولا يمتنع أن يخلق الله
فينا رؤيتها، كما خلق رؤية غيرها، والخصوم يشد دون عليه الانكار ويقولون: هذه
مكابرة محضة وخروج عن حيز العقل بالكلية، ونحن نقول: ليس هذا الانكار إلا استبعادا
ناشئا عما هو معتاد في الرؤية، والحقائق والأحكام الثابتة المطابقة للواقع لا تؤخذ
من العادات بل مما تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات. ثم من
الواجب
ص 122
في هذا المقام أن نذكر حقيقة الرؤية حتى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة، فنقول:
إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها، ثم غمضنا العين فعند التغميض نعلم الشمس علما جليا،
وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة، وهذه الحالة المغايرة
الزايدة ليست هي تأثر الحاسة فقط، كما حقق في موضعه، بل هي حالة أخرى يخلقها الله
تعالى في العبد شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات، وكما أن البصيرة في الإنسان
تدرك الأشياء ومحلها القلب، كذلك البصر يدرك الأشياء ومحلها الحدقة في الإنسان،
ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحل وإن كان يستحيل أن
تدرك الأشياء إلا بالمقابلة وباقي الشروط عادة، فالتجويز عقلي والاستحالة عادية،
كما ذكرنا مرارا فأين الاستبعاد إذا تأمله المصنف؟ ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد
قدمناه إنتهى أقول: لا يخفى أن جميع ما ذكره من التوجيه والتعليل الذي سماه
بالبرهان والدليل تشكيك في البديهي، كما ذكره المصنف، فلا يلتفت إليه كما في سائر
البديهيات على ما مر ثم إن الدليل الذي نسبه إلى شيخه الأشعري، قد بلغ من الاختلال
والفساد إلى غاية لا يليق أن يسمى بالشبهة، وفيه سوى ما ذكر من النقض مفاسد أخرى
مذكورة في كتب الأصحاب وغيرهم، حتى أن فخر الدين الرازي أورد عليه في كتاب الأربعين
عدة من الأسؤلة واعترف بالعجز عن الجواب عنها وسيجئ كلامه بعينه عن قريب إن شاء
الله تعالى، وأقبح من ذلك التزامه لازم النقض المذكور الذي لا يلتزمه إلا الأشعري
الذي هو بمعزل عن الشعور، وما أشبه حال مدافعته مع الخصم الذي أوقعه في مضيق
الالزام بالالتزام بحال رجلين تضاربا وكان أحدهما أقوى في القدرة من الآخر فيطرحه،
فيدوس صدره حتى ينقطع نفسه، ثم لما سئل بالفارسية عن ذلك العاجز الذي لم يكن يعترف
من غاية الجهل والعصبية بعجزه:، چگونه بود ماجراى تو با فلان؟، قال في الجواب: او
لگد
ص 123
بر سينه من ميزد ومن نفس ميزدم، فليضحك قليلا وليبك كثيرا (1) وأما ما ذكره في دفع
الاستبعاد، فقد مر فيه الكلام مكررا ثم ما ذكره من التحقيق المشهور لا يقتضي أن
الرؤية ليست بالإبصار حتى يدفع استبعاد ما جوزه الأشاعرة: من عدم رؤية المرئي مع
شرائطها، بل هو إنما ذكر لتحقيق محل النزاع، وأنه لا نزاع لنا في جواز الانكشاف
التام العلمي، ولا للمثبتين في امتناع ارتسام الصورة من المرئي في العين، أو اتصال
الشعاع في الخارج من العين بالمرئي، وإنما محل النزاع (أنا إذا رأينا الشمس الخ)
وهو مذكور في شرح المواقف والشرح الجديد (2) للتجريد، فلا فائدة في ذكر ذلك إلا
تكثير السواد، وتضييع المداد كما لا يخفى على من أمعن النظر وأجاد. قال المصنف رفع
الله درجته:
البحث السادس في أن الادراك ليس بمعنى 
والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك
وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا، لزمهم بواسطته إنكار الضروريات فإن العقلاء بأسرهم
قالوا: إن صفة الادراك تصدر عن كون الواحد منا حيا لا آفة به، والأشاعرة قالوا إن
الادراك إنما يحصل بمعنى (لمعنى خ ل) حصل في المدرك فإن حصل ذلك المعنى في المدرك
حصل الادراك وإن فقدت جميع الشرائط، وإن لم يحصل لم يحصل الادراك وإن وجدت جميع
الشرائط، وجوزوا بسبب ذلك إدراك المعدومات، لأن من شأن الادراك أن يتعلق بالمرئي
على ما هو عليه في نفسه، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده، فإن الواحد منا
(هامش)
(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة التوبة. الآية 82: فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا.
(2) المراد به شرح المولى علي القوشچى المتوفى سنة 879 وله تصانيف كثيرة كالهيئة
الفارسية وغيرها. (*)
ص 124
يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلق، وحينئذ يلزم تعلق،
الادراك بالمعدوم، وبأن الشيئ سيوجد، وبأن الشيئ قد كان موجودا (1) وبأن يدرك ذلك
بجميع الحواس من الذوق والشم واللمس والسمع، لأنه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح
وبين رؤية المعدوم، وكما أن العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروري، كذا العلم باستحالة
رؤية الطعوم والروائح، (وأيضا) يلزم أن يكون الواحد منا رائيا مع الساتر العظيم
البتة، ولا يرى الفيل الأعظم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر على تقدير أن يكون
المعنى قد وجد في الأول وانتفى في الثاني، وكان يصح منا أن نرى ذلك المعنى، لأنه
موجود، وعندهم أن كل موجود يصح رؤيته ويتسلسل، لأن رؤية المعنى إنما أيكون بمعنى
آخر، وأي عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والحرارة
والبرودة والصوت بالعين وجواز لمس العلم والقدرة والطعوم والرائحة والصوت باليد
وذوقها باللسان وشمها بالأنف وسماعها بالأذن؟ وهل هذا إلا مجرد سفسطة وإنكار
المحسوسات ولم يبالغ السوفسطائية في مقالتهم هذه المبالغة؟ إنتهى قال الناصب
خفضه الله أقول: الظاهر أنه استعمل الادراك وأراد به الرؤية، وحاصل كلامه أن
الأشاعرة يقولون: إن الرؤية معنى يحصل في المدرك، ولا يتوقف حصوله على شرط من
الشرائط، وهذا ما قدمنا ذكره غير مرة وبينا ما هو مرادهم من هذا الكلام ثم إن قوله:
وجوزوا بسبب ذلك إدراك المعدومات لأن من شأن الادراك أن يتعلق بالمرئي على ما هو
عليه في نفسه، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل
(هامش)
(1) إشارة إلى قسمي المعدوم. (*)
ص 125
حال وجوده، استدلال باطل على مدعى مخترع له، فإن كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا
يوجب جواز تعلقها بالمعدوم، بل المدعى أنه يتعلق بكل موجود كما ذكر هو في الفصل
السابق. وأما تعلقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.
ثم ما ذكره من أن العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروري مثل العلم باستحالة
رؤية المعدوم، فقد ذكرنا: أنه إن أراد بهذه، الاستحالة العقلية فممنوع، وإن أراد
العادية فمسلم، والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان، ثم ما ذكر من أنه
على تقدير كون ذلك المعنى موجودا كان يصح منا أن نرى ذلك المعنى، لأنه موجود، وكل
موجود يصح رؤيته ويتسلسل، لأن رؤية المعنى إنما تكون لمعنى آخر، فالجواب: أن العقل
يجوز رؤية كل موجود وإن استحال عادة، فالرؤية إذا كانت موجودة به يصح أن يرى بنفسها
لا برؤية أخرى، فانقطع التسلسل كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا، فلا
استحالة فيه ولا مصادمة للضرورة. ثم ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مر
جوابه غير مرة ونزيد جوابه في هذه المرة بهذين البيتين: شعر وذي سفه يواجهني بجهل *
وأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة وأزيد حلما * كعود زاده الاحراق طيبا إنتهى
كلامه. أقول: لا يخفى أن كلام المصنف قدس سره صريح في هذا المبحث أيضا في استعمال
الادراك في الأعم، وأصرح من الكل في التعميم للكل قوله في آخر هذا المبحث: وأي عاقل
يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والحرارة والبرودة والصوت
بالعين، وجواز لمس العلم والقدرة والطعوم والرائحة الخ وأما ما قدمه من البيان
فقد أتينا عليه سابقا بما يجري مجرى
ص 126
العيان، وأما ما ذكره من أن كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلقها
بالمعدوم، بل المدعى أنه يتعلق بكل موجود كما ذكر هو في الفصل السابق وأما تعلقه
بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ولا يلزم من أقوالهم، فأقول وهنه ظاهر، لأن ما ذكره
المصنف في الفصل السابق، هو أن الأشاعرة قالوا: إن الوجود علة في كون الشيئ مرئيا،
وقد ذكر الشارح الجديد للتجريد: تصريح إمام الحرمين (1) لدفع بعض مفاسد الدليل
المشهور المأخوذ فيه كون الوجود علة للرؤية كما نقله الشارح سابقا: بأن المراد
بالعلة هيهنا ما يصح أن يكون متعلقا للرؤية المؤثر في الصحة على ما فهمه الأكثرون،
ويلزم من ذلك رؤية المعدوم، لأنهم جعلوا الوجود بشهادة إمامهم متعلقا للرؤية، وهو
أمر اعتباري انتزاعي غير موجود في الخارج كما تقرر في محله. إن قلت: يمكن أن يكون
المراد بالوجود، الموجود، كما يشعر به كلام الشارح بناء على المسامحة المشهورة (2)
قلنا لا يفيد لأنه لا يخلو إما أن يراد من الوجود، مفهوم الموجود الكلي، فالكلام
فيه كالكلام في الوجود، وأما أن يراد به ما صدق عليه الموجود، فهو ليس أمرا واحدا
مشتركا بين الجوهر والعرض، كما أخذ في الدليل المذكور ثم ما ذكره من الترديد في دفع
استبعاد رؤية الطعوم والروائح (مردود) بما قدمناه أيضا، فتذكر ثم ما أجاب به عن
لزوم التسلسل في الرؤية من أن الرؤية إذا كانت موجودة تصح أن ترى بنفسها، تخصيص
بارد من هذا الرجس المارد في القاعدة الكلية التي زعم أصحابه عقليتها في الرؤية.
وأفسد منه ما ذكره:
(هامش)
(1) هو أبو المعالي ضياء الدين عبد الملك بن عبد الله الخراساني الجويني الشافعي
المشهور بإمام الحرمين، صاحب كتاب الارشاد في أصول العقايد، والبرهان في أصول
الفقه، تلمذ عند الحافظ أبي نعيم الأصفهاني وغيره توفي سنة 478. (2) من إطلاق
المصدر وإرادة اسم الصفة منها. (*)
ص 127
من أن القوم دفعوا التسلسل في الوجود على تقدير كونه موجودا بمثل ما ذكره في دفع
التسلسل في الرؤية، فإنه فرية (1) بلا مرية، (2) فإن القوم ذكروا: أن الوجود ليس
بموجود في الخارج، وإلا لكان له وجود آخر موجود في الخارج أيضا، وتسلسلت الموجودات
الخارجية، ولم يقولوا إن التسلسل ينقطع بكون الوجود موجودا بنفسه لا بوجود آخر وأما
ما أنشده في دفع استبعادات المصنف قدس سره من البيتين، فهو معارض بعدة أبيات أنشأها
أبو العلاء المعري (3) في شأن أمثاله من القاصرين المجاهرين في طعن الكملة الماهرين
(شعر)
إذا وصف الطائي (4) بالبخل مادر (5)* وعير قسا (6) بالفهاهة باقل (7)
(هامش)
(1) الفرية: الكذب. (2) المرية: الجدل. (3) هو أحمد بن عبد الله التنوخي من أهل
معرة النعمان الشاعر الأديب المشهور توفي سنة 449 له آثار علمية منها كتاب سقط
الزند ولزوم ما لا يلزم وملقى السبيل وغيرها وله محاضرات مع الشريفين الرضيين
وغيرهما من أئمة الفضل والأدب وكفى في فضله رثاء الشريف له بعد موته وتأبينه إياه
فليراجع. (4) هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشر ج ويضرب به المثل في الجود. وهو
ممن ورد في حقه التخفيف في العذاب من الكفار. (5) لقب مخارق لئيم من بني هلال بن
مالك بن صعصعة. سقى إبله فبقي في الحوض قليل فسلح فيه وقذر الحوض ق. (6) هو قس بن
ساعدة الاباري بليغ حكيم، ومنه الحديث، ويرحم الله قسا إني لأرجو يوم القيامة أن
يبعث أمة واحدة ويقال له حكيم العرب أيضا. (7) بأقل، رجل اشترى ظبيا بأحد عشر
درهما، فسئل عن شراه، ففتح كفيه وفرق أصابعه وأخرج لسانه يشير بذلك إلى أحد عشر
فانفلت الظبي، فضربوا به المثل في العى. (*)
ص 128
وقال السهى (1) للشمس أنت خفية * وقال الدجى (2) للصبح لونك حائل (3)
وطاولت الأرض
السماء سفاهة * وفاخرت الشهب (4) الحصى والجنادل (5)
فيا موت زر إن الحياة ذميمة *
ويا نفس جدي إن دهرك هازل (6)
المبحث السابع في استحالة رؤيته تعالى . 
قال المصنف رفع الله درجته: المبحث السابع في أنه
تعالى يستحيل أن يرى، خالفت الأشاعرة كافية العقلاء في هذه المسألة حيث حكموا: بأن
الله تعالى مرئي للبشر، أما الفلاسفة والإمامية والمعتزلة فإنكارهم لرؤيته تعالى
ظاهر، ولا شك فيه. وأما المشبهة والمجسمة فإنهم إنما جوزوا رؤيته تعالى، لأنه عندهم
جسم وهو مقابل للرائي فلهذا قالوا بإمكان رؤيته، ولو كان تعالى مجردا عندهم لحكموا
بامتناع رؤيته، فلهذا خالفت الأشاعرة باقي العقلاء وخالفوا الضرورة أيضا، فإن
الضرورة قاضية بأن ما ليس بجسم ولا حال في جسم ولا في جهة ولا مكان ولا حيز ولا
يكون مقابلا ولا في حكم المقابل، فإنه لا يمكن رؤيته، ومن كابر في ذلك فقد أنكر
الحكم الضروري، وكان في ارتكاب هذه المقالة سوفسطائيا، وخالفوا أيضا آيات الكتاب
العزيز الدالة على امتناع رؤيته تعالى، فإنه قال عز من قائل: لا تدركه الأبصار (7)
تمدح (8) بذلك لأنه ذكره بين مدحين، فيكون مدحا، لقبح إدخال ما
(هامش)
(1) السهى: كوكب خفي في بنات النعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارهم. ص (2) الدجى
بضم الدال: الظلمة. (3) الحائل: المتغير اللون. (4) الشهب: جمع الشهاب، ما يرى كأنه
كوكب انقض. (5) الجندل: الصخر العظيم. (6) الهزل. ضد الجد. (7) الأنعام. الآية 103.
(8) تمدح أي قرظ على نفسه وأثنى عليه وهو مأخوذ من التمدح. (ج 8) (*)
ص 129
لا يتعلق بالمدح بين مدحين، فإنه لا يحسن أن يقال: فلان عالم فاضل يأكل الخبز زاهد
ورع، وإذا تمدح بنفي الأبصار له، كان ثبوته له نقصا، والنقص عليه تعالى محال، وقال
تعالى في حق موسى عليه السلام: لن تراني (1)، و لن للنفي المؤبد، وإذا امتنعت
الرؤية في حق موسى عليه السلام ففي حق غيره أولى، وقال الله تعالى: فقد سألوا موسى
أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم (2) ولو جازت رؤيته لم
يستحقوا الذم ولا يوصفوا بالظلم، وإذا كانت الضرورة قاضية بحكم ودل محكم القرآن
أيضا عليه، فقد توافق العقل والنقل على هذا الحكم والأشاعرة قالوا: بخلافه وأنكروا
ما دلت الضرورة عليه، وما قاد القرآن إليه، ومن خالف الضرورة والقرآن كيف لا يخالف
العلم النظري والأخبار؟ وكيف يجوز تقليده والاعتماد عليه والمصير إلى أقواله وجعله
إماما يقتدون به؟ وهل يكون أعمى قلبا ممن يعتقد ذلك؟ وأي ضرورة تقود الإنسان إلى
تقليد هؤلاء الذين لم يصدر عنهم شيئ من الكرامات، ولا ظهر عنهم ملازمة التقوى
والانقياد إلى ما دلت الضرورة عليه، ونطقت به الآيات القرآنية؟ بل اعتمدوا مخالفة
نص الكتاب وارتكاب ضد ما دلت الضرورة عليه، ولو جاز ترك إرشاد المقلدين ومنعهم من
ارتكاب الخطأ الذي ارتكبه مشايخهم إن أنصفوا (3) لم نطول الكلام بنقل مثل هذه
الطامات بل أوجب الله تعالى علينا إهداء (هداية ظ) العامة بقوله تعالى: ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (4)، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل
فإنما
(هامش)
(1) النساء. الآية: 153. (2) البقرة. الآية: 55. (3) متعلق بقوله ارتكبه يعني أن
ارتكاب الخطأ واقع في مشايخهم إن أنصفوا ولم ينكروا عنادا منه قده . (4) التوبة.
الآية: 122. (*)
ص 130
يضل عليها (1) إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: ذكر في هذا المبحث خلاف الناس
في رؤية الله تعالى وما اختص به الأشاعرة من إثباتها مخالفة للباقين، وذكر أنهم
خالفوا الضرورة لأنه لا يمكن رؤية ما ليس بجسم، فقد علمت أن الرؤية بالمعنى الذي
ذكرناه ليست مختصة بالأجسام، ولا يشترط بشرط، لكن جرى في العادة اختصاصها بالجسم
المقابل، وقد علمت أن الله تعالى ليس جسما، ولا في جهة، ويستحيل عليه مقابلة
ومواجهة وتقليب حدقة ونحوه، ومع ذلك يصح أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر،
كما ورد في الأحاديث الصحيحة (2)، وأن يحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة
المعبر عنها بالرؤية، فمن عبر عن الرؤية بما ذكرناه وجوز حصولها في حقه تعالى على
الوجه المذكور، فأين هو من المكابرة ومخالفة الضرورة؟ ثم إن ما استدل به على عدم
جواز الرؤية من قوله تعالى: لا تدركه الأبصار (3)، فإن الادراك في لغة العرب هو
الإحاطة، ألا ترى في قوله تعالى: قال أصحاب موسى إنا لمدركون (4)، فلا شك أنه يريد
به الإحاطة؟، وأما الادراك بالمعنى المرادف للعلم، فهو من اصطلاحات الحكماء، لا أن
في كلام العرب يكون الادراك بمعنى العلم والاحساس، ولا شك أن الإحاطة به تعالى نقص،
فيكون
(هامش)
(1) الاسراء. الآية 15. (2) وسيأتي عدم صلاحية الاستناد بها لاشتمال أسانيدها على
من كان عقله مختلا حين الرواية وعلى من كان مرميا بالكذب. (3) الظاهر أن خبر إن
ساقط وهو لفظة غير صحيح وما بمعناها. (4) الشعراء. الآية 61. (*)
ص 131
نفيه مدحا، والرؤية التي نثبتها ليست إحاطة، ثم الاستدلال بجواب موسى، وهو قوله
تعالى لن تراني لما سئل الرؤية و لن لنفي المؤبد فامتنعت الرؤية في حق موسى،
ففي حق غيره من باب الأولى، فقد أجاب عنه الأشاعرة بمنع كونه للنفي المؤبد، بل هو
للنفي المؤكد، وعندي أنه للنفي المؤبد وهذا ظاهر على من يعرف كلام العرب، ولكن
التأييد المستفاد منه بحسب مدة الحياة، مثلا إذا قال أحد لغيره: لن أكلمك، فلا شك
أنه يقصد التأبيد في زمان حياته، لا التأييد الحقيقي الذي يشمل زمان الآخرة، وهذا
معلوم في العرف، فالمراد بلن تراني نفي الرؤية في مدة الدنيا، وهذا لا ينافي
رؤية موسى عليه السلام في الآخرة (1) وكذا في قوله تعالى ولن يتمنوه أبدا: (2)
فإن المراد منه تأبيد نفي التمني مدة الحياة للعلم بأن اليهود في الآخرة يتمنون
الموت للتخلص من عذاب الآخرة. ثم ما ذكره: من إعظام الله تعالى سؤال الرؤية من
اليهود في القرآن والذم لهم بذلك السؤال ولو جاز ذلك لما استحقوا الذم بالسؤال،
فالجواب أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا، ولهذا نسبهم إلى الظلم،
ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عن ذلك كما منعهم حين طلبوا أمرا ممتنعا، وهو أن
يجعل لهم إلها فلما علمت أن العقل لا ينافي صحة رؤية الله تعالى، والنصوص لا تدل
على نفيه، فقد تحققت أن ما ادعاه هذا الرجل من دلالة الضرورة والنص وتوافقهما على
نفي الرؤية دعوى كاذبة خاطئة،
(هامش)
(1) يظهر منه إن الفضل بن روزبهان ممن يقول برؤية الله تعالى في الآخرة وإن لم ير
في الدنيا وهذا أحد مذاهبهم الباطلة في باب الرؤية. (2) البقرة. الآية: 95، قال
المولى حسن الفاضل الچلبي: لا يخفى أن هذه الآية ظاهرة في التأبيد: ولما تحقق أنهم
يتمنونه في الآخرة، علم أن المراد التأبيد بالنسبة إلى أوقات الدنيا ونظير هذه
الآية آيات أخر. (*)
ص 132
ولولا أن الكتاب غير موضوع لبسط الدلائل على المدعيات الصادقة الأشعرية بل هو موضوع
للرد على ما ذكر من القدح والطعن عليهم، لذكرنا من الدلائل العقلية على صحة الرؤية،
بل وقوعها، ما تحيرت فيه ألباب العقلاء لرزانتها (1) ومكان رصانتها، ولكن لا شغل
لنا في هذا الكتاب إلا كسر طامات ذلك الرجل ومزخرفاته، وبالله التوفيق ثم اعلم أنه
قد سنح لي بعد التأمل في مسألة الرؤية أن المنازعة فيها قريبة بالمنازعات اللفظية،
وهذا شيئ ما أظن سبقني فيه أحد من علماء السلف، وذلك أن المعتزلة ومن تابعهم من
الإمامية من نفاة الرؤية يذكرون في معنى الحديث المشهور، وهو قوله صلى الله عليه
وسلم: سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر (2)، أن المراد الانكشاف التام العلمي
الذي لم يحصل في هذه النشأة الدنيوية، وسيحصل هذا الانكشاف في النشأة الثانية،
والأشاعرة المثبتون للرؤية ذكروا: أن المراد بالرؤية حالة يخلقها الله تعالى في
الحي، ولا يشترط بضوء ولا مقابلة ولا غيرهما من الشرائط، ثم ذكر الشيخ الأشعري في
إدراكات الحواس
(هامش)
(1) يقال: امرأة رزان ورزينة إذا كانت ذات ثبات ووقار وسكون (والرزانة) في الأصل،
الثقل كما في نهاية ابن الأثير وغيره. (2) روي في المسند (ج 2 ص 360 ط مصر) قال
حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن إسماعيل قال سمعت قيس بن
حازم يحدث عن جرير قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وروي أيضا في
المسند (ج 4 ص 362 ط مصر) قال حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا يحيى عن إسماعيل حدثنا
قيس الخ، وروي أيضا في المسند (ج 4 ص 365 ط مصر) حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا وكيع
ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم الحديث، وكلها تنتهي إلى رجل واحد وهو
قيس بن أبي حازم، وسيأتي القدح فيه وعدم صلاحية الحديث المشتمل في المسند على مثل
هذا الرجل للاستناد في هذا الأمر الخطير الذي دلت على استحالته البراهين الواضحة
النقلية والشواهد المتينة العقلية. (*)
ص 133
الخمس الظاهرة: إنها علم بمتعلقاتها فالإبصار الذي هو عبارة عن الادراك بالباصرة
يكون علما بالمبصرات، وليست الرؤية إلا إدراكا بالباصرة، فعلى هذا تكون الرؤية علما
خاصا وانكشافا تاما، غاية الأمر أنه حاصل من هذه الحاسة المخصوصة، فظهر اتفاق
الفريقين على أن رؤية الله تعالى التي دلت عليها الأحاديث هي العلم التام والانكشاف
الكامل، وبقي النزاع في محل حصولها، فكما يجوز أن يكون محل حصول هذه الانكشاف قلبا،
فليجوز المجوز أن يكون محله عضوا آخر، هو البصر، فيرتفع النزاع بالكلية والله تعالى
أعلم إنتهى كلامه أقول: كل ما ذكره توهمات باطلة وتخيلات مموهة عاطلة، لا يعود
إلى طائل ولا يرجع إلى حاصل أما أولا فلما قد علمت من حال ما أحاله هيهنا على ما
أسبقه بقوله (فقد علمت) وقد (1) علمت إذ قد سبق منا ما حاصله: أن أحدنا لا يرى إلا
بالحاسة، والرائي بالحاسة لا يرى إلا ما كان مقابلا كالجسم أو حالا في المقابل
كاللون، أو في حكم المقابل كالوجه في المرآة، والله تعالى ليس كذلك، وقد ذكرنا: أن
الضرورة قاضية بذلك، ولهذا نبادر إلى تكذيب من أخبر بأنه رأى شيئا ليس كذلك، كما
نكذب من أخبر بأنه رأى جسما غير متحرك ولا ساكن، وجحد الضرورة التي حكم بها عقول
الحكماء وأهل العدل من الإمامية والمعتزلة ومن تابعهم غير مستنكر من هذا الشارح
الناصب وأصحابه، لأن لهم مدخلا عظيما في المكابرة وصناعة التمويه كما لا يخفى على
العاقل النبيه، وأما ثانيا فلأن ما استدل به من حديث انكشاف الله تعالى على عبده
انكشاف القمر ليلة البدر مدفوع بعدم صحة سنده، فإن راويه قيس (2) بن أبي حازم، وقد
اختل عقله في
(هامش)
(1) لفظة وقد علمت من كلام القاضي قده . (2) قيس بن أبي حازم واسمه حصين بن عوف،
ويقال: عوف بن عبد الحارث ويقال: عبد عوف بن الحارث بن عوف البجلي الأحمسي أبو عبد
الله الكوفي أدرك الجاهلية و(*)
ص 134
آخر عمره، ولذا لا يقبل قوله ما لم يعلم تاريخه، ولو سلم صحته فمن الجائز أن يكون
المراد من الرؤية فيه، العلم التام كما في قوله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب
الفيل (1)، أو لم ير الإنسان أنا خلقناه (2) ويكون معناه أنكم ستعلمون
(هامش)
رحل إلى النبي صلى الله عليه وآله ليبايعه فقبض وهو في الطريق. روى عن أبيه والزبير
وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبي بكر وعمر وأبي هريرة وعمرو بن العاص وجرير بن عبد
الله والمغيرة بن شعبة وغيرهم، روى عنه إسمعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر والمغيرة
ابن شبيل وغيرهم، وحال الرجل مختلف فيه عند العامة، فذهب جماعة كثيرة منهم إلى
تضعيفه، وأنه كان يروي المناكير والغرائب، ومنهم من حمل عليه في مذهبه، وقالوا: كان
يحمل علي علي عليه السلام والمشهور أنه كان يقدم عثمان، ولذلك تجنب كثير من قدماء
الكوفيين الرواية عنه، قال الحافظ بن حجر العسقلاني في كتاب تهذيب التهذيب (الجزء
الثامن ص 388 ط حيدرآباد) ما لفظه: وقال يحيى بن أبي عبد الله: ثنا إسمعيل بن أبي
خالد قال: كبر قيس حتى جاز المأة بسنين كثيرة حتى خرف وذهب عقله، وقال ابن المديني:
قال لي يحيى بن سعيد قيس بن أبي حازم منكر الحديث، ثم ذكر له يحيى أحاديث مناكير
الخ. ولا يذهب عليك أن أحمد بن حنبل روى حديث الرؤية بأسانيد كلها منتهية إلى قيس
بن أبي حازم، فظهر أن قول الناصب هناك عدة أحاديث، مما لا أصل له، بل هو حديث واحد
رواه عدة عن شخص واحد، وهو ممن لا يعتنى به لنقله المناكير والغرائب، مضافا إلى
خبطه واختلاله في أواخر عمره، على أنه كان متروك الحديث عند الكوفيين أهل البحث
والتنقيب في قبول الرواية، مضافا إلى أن خبر الواحد الظني الصدور كيف يقاوم
البراهين العقلية السديدة والأدلة النقلية الرصينة، أفيمكن المصير إلى رؤيته تعالى
وجعل أمثال هذا الخبر مستمسكا ومتكئا؟ (1) الفيل. الآية: 1. (2) يس. الآية: 77. (*)
ص 135
ربكم علما يقينيا ضروريا كما تعلمون القمر علما كذلك، والتشبيه المدلول عليه بقوله
كما ترون القمر لا يقتضي مساواة طرفيه من كل وجه كما لا يخفى، ويؤيد إرادة ما
ذكرناه: ما روي (1) في المشهور عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وقد سئل عنه هل
ترى ربك؟ فقال لا أعبد ربا لم أره قيل له كيف تراه قال لا تدركه العيون بمشاهدة
العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان، لا يقال لو كان معنى الرؤية في الحديث
ذلك لتعدى إلى مفعولين، لأنا نقول: العلم قد يكون يقينيا وحينئذ لا يتعدى إلى
المفعولين، ولو سلم فلم لا يجوز أن يكون له مفعول ثان قد حذف؟ لدلالة سوق الكلام
عليه، كما في قولة تعالى: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا
(2) لهم، على قراءة من قرأ بالياء وأما ثالثا فلأن ما ذكره: من أن الادراك في لغة
العرب هو الإحاطة، فلعله أخذ ذلك من كلام الشارح الجديد للتجريد عند ذكر جواب
الأشاعرة عن استدلال أهل التنزيه بالآية المذكورة فإنهم على ما ذكره أجابوا: بأنا
لا نسلم أن الادراك بالبصر هو الرؤية أو لازم لها، بل هو رؤية مخصوصة (3) وهو أن
يكون على وجه الإحاطة بجوانب المرئي، و(إذ خ ل) حقيقته النيل والوصول مأخوذا من
أدركت فلانا إذا لحقته، ولهذا يصح رأيت القمر وما أدركه بصري، لإحاطة الغيم به، ولا
يصح أدركه بصري وما رأيته إنتهى وفساده ظاهر، لأن تخصيص معنى الرؤية بذلك مما
لا يوجد في كتب اللغة المعروفة، فيكون القول به على سبيل التشهي والعناد، ولأن كون
حقيقة الادراك النيل
(هامش)
(1) رواه في الكافي كتاب التوحيد باب إبطال الرؤية (ج 1 ص 98 الطبع الجديد بطهران)
عن أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد الله عليه السلام. (2) آل عمران. الآية 180. (3)
قال في الصحاح: أدركته ببصري أي رأيته وقال في القاموس: الدرك محركة اللحاق وأدركه
لحقه. منه قدس سره. (*)
ص 136
والوصول كما اعترفوا به لا يدل على أن الادراك بالبصر هو الرؤية على وجه الإحاطة
بجوانب المرئي، ولأن أخذ ذلك من أدركت فلانا إذا لحقته، غير ظاهر، ولأنا لا نسلم
صحة قوله: رأيت القمر وما أدركه بصري، فلا يثبت ما هو بصدده، على أنه معارض بأنهم
يقولون: أدركت الشمس ولا يريدون رؤيتها من جميع جوانبها، وأما رابعا فلأن ما ذكره
من أن نفي الإحاطة مدح له تعالى غير مسلم، لأن السماء وغيرها من الأجسام العظيمة
تشاركه في أنه لا تحيط بها الأبصار تأمل وما قال الرازي: من أنه إنما يحصل
التمدح بنفي الرؤية إذا كانت الرؤية جائزة عليه، وكان تعالى قادرا على منع الإبصار
عن ذلك، مدفوع بجريان ذلك في المدح بنفي السنة والنوم والصاحبة والولد وجوابه
جوابنا وأما قياسه لذلك على المدح بنفي الظلم والعبث فغير صحيح، لأن المدح هنا راجع
إلى الفعل، وما كان كذلك فلا يتم المدح فيه إلا مع القدرة عليه، ولهذا لا يصح المدح
بنفي الجمع بين الضدين ونحو ذلك، بخلاف ما كان راجعا إلى الذات فإنه غير مقدور وأما
خامسا فلأنه إن أراد بنفي كون الادراك في لغة العرب بمعنى العلم أو الاحساس عدم
كونهما داخلين تحت مفهوم الادراك، فتوجه المنع عليه ظاهر، وإن أراد عدم تفسيرهم
إياه بذلك وإن كان ذلك التفسير صادقا عليهما فلا يفيد، فإن أرباب اللغة (1) يضعون
بعض الألفاظ لمفهومات كلية صادقة على أفرادها من غير تعقلهم لتفاصيل الأفراد عند
الوضع، بل يكفي عندهم في كون تلك الأفراد أفرادا لبعض المفهومات كونها بحيث يصح أن
يحكم عليها بذلك، وهذا حاصل فيما نحن فيه، وارتكاب التجوز في وصول العلم إلى
المعلوم والاحساس إلى المحسوس، والرؤية إلى المرئي مطلقا (2) مشترك، وأما سادسا
فلأن ما ذكره: من جواب الأشاعرة
(هامش)
(1) المراد بأرباب اللغة وضعة الألفاظ وأهل اللسان لا علماء اللغة بحسب الاصطلاح.
(2) أي على سبيل الإحاطة وعدمها. منه قده . (*)
ص 137
عن استدلال أهل العدل بقوله تعالى: لن تراني من أن كلمة لن للنفي المؤكد دون
المؤيد مردود، بأن الحمل على التأكيد مجاز بدليل سبق الذهن عند إطلاق هذه اللفظة
إلى التأييد، وأيضا الآية دالة على نفي رؤيته تعالى في المستقبل مطلقا، فلا بد
لجوازها أو وقوعها في وقت من المستقبل من مخصص، ولا مخصص وما توهم من تخصيصه بقوله
تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة (1)، مدفوع بأن النظر ليس بمعنى الرؤية
فقط، بدليل أنه يثبت عند انتفائها، فيقال: نظرت إلى الهلال فلم أره وتثبت الرؤية
عند انتفاء النظر، فيقال في الله تعالى: راء ولا يقال ناظر، وتعقب الرؤية بالنظر
فيقال: نظرت فرأيت، ويجعل وصلة للرؤية فيقال: انظر لعلك ترى، ويجعل غاية في الرؤية،
فيقال: ما زلت أنظر حتى رأيت وما قيل: من أن النظر إذا قارن (بإلى) أفاد الرؤية
منقوض، بقوله تعالى: وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (2) إلى غير ذلك من الآيات
والأشعار المنقولة في هذا المقام من كتب أصحابنا الأعلام في علم الكلام، على أن نفي
الادراك في الآية على الاطلاق ينصرف إلى عموم الأوقات في المستقبل، فيؤدي إلى تأييد
النفي بدلالة الاطلاق لا بدلالة النافية عند من ينكر التأييد فيها ثم إن تأييد لن
ثابت بالنقل (3) فالمنع في مقابله كما ترى، نعم إذا دل الدليل على إرادة خلاف الأصل
كما في قوله تعالى: لن أبرح الأرض حتى يأذن لي (4)، وجب العدول، والحمل على النفي
المؤكد (5) في ذلك الموضع لنوع من المبالغة، فاندفع استدلال
(هامش)
(1) القيامة. الآية: 22. (2) الأعراف. الآية: 198. (3) أي بالنقل من أرباب اللغة.
(4) يوسف. الآية: 80. (5) وأنت خبير بأنه لا يلزم لحملها على النفي المؤكد ح أيضا
بلى التحقيق حملها على (*)
ص 138
بعض شارحي الكافية على نفي كون لن للتأييد بالآية المذكورة (1) وأما سابعا فلأن
ما ذكره من عند نفسه مدخول بأنه لو سلم أن العرف يفهم من كلمة لن التأييد في
مدة الحياة فإنما يسلم فهم ذلك إذا كان كل من المتكلم بتلك الكلمة والمخاطب له
قابلا للفناء، ولا نسلم أنه يفهم ذلك إذا كان المتكلم بها حيا أبديا باقيا سرمديا
كما فيما نحن فيه (فتدبر). وأما ثامنا فلأن ما ذكره من أن المراد من قوله تعالى:
ولن يتمنوه أبدا تأييد نفي التمني في مدة الحياة للعم بأن اليهود في الآخرة يتمنون
الموت للتخلص من عذاب الآخرة، ففيه ما لا يخفى على معاشر العقلاء من أن أحدا لا
يتمنى الموت عن صميم القلب وخلوص العقيدة خصوصا في الآخرة التي يعلم كل أحد أن
الحياة فيها أبدية، نعم يتمنون التخلص عن العذاب بأن يرحمهم الله تعالى ويخلصهم عن
العقوبة بلطفه، ويعطيهم الحياة أبدا كسائر عبادة المؤمنين، أما أنهم يتمنونه عن
صميم القلب فلا، كما يشهد به وجدان غير المعادن، وقد قيل في تفسير قوله تعالى:
ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (2)، وفي موضع من الكشاف تصريح به، ولو سلم فنقول
نظم الآية ظاهر في التأبيد، ولما تحقق أنهم يتمنونه في الآخرة علم بهذه القرينة: أن
المراد التأبيد بالنسبة إلى أوقات الدنيا، فمنع كون لن للتأبيد مطلقا والتنظير
بهذه الآية (3) محل نظر وأما تاسعا فلأن ما ذكره في جواب احتجاج العدلية باستعظام
الله تعالى أمر الرؤية، ففساده ظاهر، أما أولا فلأن كل منصف لا ينكر أن العقاب
والعتاب
(هامش)
المؤبد غاية الأمر أن التأبيد له ضروب كضروب الحصر وذلك واضح لمن تدرب واضطلع في
علوم البلاغة وكان من فرسان تلك المضامير. (1) أي قوله تعالى: لن أبرح الأرض. (2)
النباء. الآية: 40. (3) أي بآية لن يتمنوه أبدا. (*)
ص 139
في كلتا الآيتين لطلبهم الرؤية وامتناعها كما يظهر من التأمل في قوله تعالى: فقد
سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ومن ينكر ذلك
فهو ظالم فإنها لو كانت ممكنة لما عذبهم الله تعالى بإيقاع الصاعقة عليهم حين
طلبها، إذ نعلم بالضرورة أن الله تعالى لا يرضى بتعذيب جماعة علقوا إيمانهم على أمر
ممكن وطلبوه واعترفوا بأن يؤمنوا بعد وقوعه، كما يدل عليه قوله تعالى: لن نؤمن لك
حتى نرى الله جهرة بل كان يخبرهم بعدم إمكانها على وجه ملائم، كما قيل في قوله
تعالى: وأما السائل فلا تنهر (1) وقال النبي العربي صلى الله عليه وآله أغنوهم عن
مسألتهم ولو بصقرة (2) تمرة، فعلى هذا ظهر: أن حمل ذلك على تعنتهم وعنادهم تعنت
وعناد، إذ لا يعقل تعذيب جماعة علقوا إيمانهم على أمر ممكن ولو في الآخرة، وطلبوا
الهداية عن نبيهم لكونهم متعنتين باعتبار شيئ آخر، ولعلهم فهموا التعنت من اقتراح
دليل زايد يدل على صدق المدعى بعد ثبوته كما ذكره الفاضل النيشابوري (3) في تفسيره،
وفيه أن اقتراح دليل زايد سيما إذا كان الدليل
(هامش)
(1) الضحى. الآية: 10. (2) ويقرب منه ما رواه الخاصة من قوله عليه السلام تصدقوا
ولو بشق تمرة (الوسائل ج 2 كتاب الزكاة أبواب الصدقة ص 67 ط أمير) وغيره. ورواه
العامة عن النبي ص (الجامع الصغير ج 2 ص 384 ط مصر). وما رواه الخاصة عن حفص
ابن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله لا
تردوا السائل ولو بظلف محترق (الوسائل ج 2 كتاب الزكاة أبواب الصدقة ص 51 ط أمير).
ورواه أحمد في (مسنده ج 5 ص 380). (3) هو المولى الحسن (الحسين خ ل) بن محمد بن
الحسين النيسابوري المشتهر بالنظام الأعرج المفسر المحدث العارف صاحب التفسير
الكبير المعروف وشرح شافية ابن الحاجب في الصرف المتداول بين المحصلين ويعرف بشرح
النظام وله رسالة في الحساب وكتاب في وقوف القرآن (*)
ص 140
الأول نقليا والزايد دليلا عقليا ليتوافق النقل والعقل ويحصل الاطمينان التام لا
يدل على التعنت، ولا يوجب العقاب والعتاب، كيف؟ وقد أتى شيخ الأنبياء إبراهيم عليه
السلام بمثل ذلك: حيث اقترح إرائة إحياء الموتى لاطمينان قلبه كما أخبر عنه في
القرآن مع علمه بذلك من الوحي وغيره من الأدلة، حتى أنه لما خاطبه تعالى بقوله: أو
لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، (1) أي بتعاضد الأدلة، وأما ما قيل (2): من أن
قولهم لن نؤمن لك، يدل على لجاجهم، وأنه بعد ما رد موسى عليه السلام الرؤية لجوا
وقالوا: لن نؤمن لك، إذ لا يقال ابتداءا: لن يقوم، بل يقال: لا يقوم، فإذا خولف
يقال لتأكيد الرد: لن يقوم إنتهى ، فأقول سقوط ظاهر، لأن وقوع الرد عليهم من
موسى عليه السلام قبل ذلك من قبيل الرجم بالغيب ولم يذكره أحد من المفسرين في شأن
نزول هذه الآية، وما ذكره من دلالة كلمة لن على ذلك، لأنه لا يذكر في ابتداء الكلام
فهو مقدمة كاذبة افتراها على أهل اللسان، وكم لها نظير في فصيح الكلام، بل الوجه في
إيراد كلمة (لن) هيهنا هو أنهم لما سألوا موسى عليه السلام أولا أن يكلمهم الله
تعالى وأجاب الله تعالى سؤالهم فتشرفوا بلذة استماع كلامه، ازداد طمعهم وحرصهم
[جرهم خ ل] إلى طلب ما هو أكبر وألذ، كما ورد في المشهور، أن من كرم المولى سوء أدب
غلمانه فلغاية الاهتمام في تحصيل ذلك المطلوب زادوا في الابرام وأدرجوا كلمة لن في
الكلام، وأما ثانيا فلأن
(هامش)
توفي في حدود سنة 730 ببلدة نيسابور ثم إن لقبه النظام أي نظام الدين لا النظام على
وزن شداد كما هو المشهور فلا تغفل. ثم الصحيح في وفاته ما ذكرنا لا ما في بعض كتب
التراجم ولا ما في كشف الظنون فلا تغفل. (1) البقرة. الآية: 260. (2) القائل عصام
الدين الاسفرائني العربشاهي صاحب الحاشية على شرح الجامي في النحو والمطلب الذي
نقله القاضي الشهيد مذكور في حاشيته على تفسير القاضي البيضاوي. (*)