ص 141
قوله: ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عليه السلام عن ذلك (الخ) يدل على أن موسى
لم يمنعهم عنه وليس كذلك بل منعهم عنه (1) كما يدل عليه ما روي في شأن النزول وسياق
قوله تعالى: إذ قلتم يا موسى لن نؤمن يلك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم
تنظرون، مع قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء (2) منا كما يجده العارف بخواص الكلام
ومقتضيات الحال والمقام وأما عاشرا، فلأن ما أتى به من إظهار القدرة على إقامة
الدلائل الرزينة والرصينة العقلية على صحة الرؤية ففيه إزراء (3) بجلالة قدر شيخه
الأشعري وسائر مشايخه حيث لم يقدروا مع كثرتهم في مدة ثمانمأة سنة على إقامة دليل
عقلي إقناعي على ذلك سوى الدليل المشهور الذي قد صار من توارد سهام الاعتراض عليه
كبيت الزنبور، بل في ذلك إهانة عظيمة لإمامه فخر الدين الرازي لما سنذكره: من أنه
هرب (4) عن هذا المضمار، وارتكب عار الفرار، فظهر أن ما ذكره من التصلف (5) زيادة
نغمة (6) منه على
(هامش)
(1) ويشهد لمنع موسى وإبائه عن مسئلتهم إصرارهم له وقولهم لا والله حتى نرى الله
جهرة كما رواه الطبري في تفسيره (ج 1 ص 224) من أن موسى لما آتيهم بالألواح قد كتب
فيها التورية وقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمره الذي أمركم به نهيوه
الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذ بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع
علينا. (2) البقرة. الآية: 155. (3) الازراء. التعييب. (4) حيث التجاء في إثبات
جواز الرؤية إلى ظواهر الأدلة النقلية بعد الاعتراف بتعذر إثباته بالأدلة العقلية
وسيأتي كلامه قريبا. (5) التصلف. التملق. (6) إشارة إلى مثل معروف، قال الميداني في
المجمع ص 221: إنه من الأمثال المولدة. (*)
ص 142
طنبور طامات شيخه الأشعري لا كسرا لما سماه طاماتا من كلام غيره وأما الحادي عشر،
فلأن ما سنح له بعد التأمل في مسألة الرؤية من جعل النزاع لفظيا وظن أنه لم يسبقه
أحد من علماء السلف، ففيه أنه من بعض الظن، (1) لأن إمامه فخر الدين الرازي وشيخه
الفاضل التفتازاني (2) قد سبقاه في ذلك، لكنه رجوع صريح وهرب فضيح من غير عذر يفي
بإصلاح قباحته، ويدفع لوث لوم الفرار عن ساحته، فإن جعل النزاع المشهور الممتد بين
الجمهور على مر الدهور لفظيا بأمثال التكلفات التي ارتكبوها كما ترى، مع أن بعده عن
التوفيق في التوفيق المذكور ظاهر، لظهور أن ما فرعه على ما نسجه بقوله: فعلى هذا
تكون الرؤية علما خاصا وانكشافا تاما غير متفرع على ما نقله عن الإمامية في معنى
الحديث المشهور كيف؟ وقد نقلنا سابقا عن المصنف في كتاب نهج المسترشدين: أنهم جعلوا
الاحساس بأقسامه مقابلا للعلم والاعتقاد، وبهذا ظهر كذب ما ذكره بعيد ذلك من اتفاق
الفريقين: على أن رؤية الله تعالى هي العلم التام والانكشاف الكامل، واتضح أن ما
تكلفه من التوفيق بين الفريقين صلح من غير تراضي الخصمين، فالأولى به أن يتركه في
مخلات (3) حماقاته، أو يخص نفعه بأعقابه وأهل موالاته، وما أشبه تكلفه هذا بما
يحكى: أنه قد سمع بعض الأكارين (4) والبقارين (5) أن العنبر
(هامش)
(1) إيماء إلى قوله تعالى: إن بعض الظن إثم في سورة الحجرات. الآية 12. (2) هو
العلامة المحقق سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، توفي سنة 793 أو 792، وله تآليف
نفيسة أشهرها المطول في شرح تلخيص المفتاح، وكتاب المقاصد في الكلام وغيرهما. (3)
المخلات: ما يجعل فيه النبات ويعلق في عنق الدابة. (4) الأكارين. جمع الأكار وهو
حارث الأرض. (5) البقارين. رعاة البقر وأربابها. (*)
ص 143
خثى (1) البقر البحري، فتشاوروا في ذلك، وأسروا النجوى مع الرئيس، فأجمعوا عن آخرهم
على أن لنا ثيرانا (2) فنصنع حوضا عظيما، وندخل تلك الثيران فيه ليحصل لنا من
العنبر قدر كثير فنتطيب به ونهديه إلى الأصحاب والأحباب، ونبيع ما فضل من ذلك
ونصرفه في حوائجنا ونستغني بذلك عما نحن فيه من الأعمال الشاقة والحركات العنيفة،
ونخلص بذلك الشغل عن الإخراجات والحراجات والمطالبات الديوانية، فجزموا على هذا
الرأي وصنعوا حوضا عظيما وأجروا فيه الماء وأدخلوا ثيرانهم فيه وقت الربيع، فلما
راثت الثيران أخذوا من خثاها واستطابوه، لأن لخثاء البقر في ذلك الوقت رائحة غير
منكرة، فلما كثر ذلك عندهم وفضل عن حاجاتهم حملوا بعضا منه إلى العطار ليبيعوا منه،
فلما رآه العطار قال هذا عنبر زكي الرائحة لا يوجد مثله في خزانة السلاطين، فاحفظوه
لنفسكم ولأحبابكم وما فضل منكم فادخروه لأعقابكم، فإنه علق (3) نفيس لا يعرف قدره
إلا بصير كامل خبير عاقل مثلكم، وأنى لكم الأمثال؟!، ثم لا يذهب عليك أن الذي ألجأ
فخر الدين الرازي وما تأخر عنه إلى أن جعلوا النزاع لفظيا، هو العجز عن إتمام
الدليل العقلي على إمكان الرؤية حتى أن الرازي فضح نفسه في كتاب الأربعين، فقال بعد
ذكر دليل الأشاعرة وذكر الأسؤلة والإيرادات الكثيرة عليه: إعلم أن (4) الدليل
العقلي المعول عليه في هذه المسألة هذا الذي أوردناه،
(هامش)
(1) الخثى: بكسر الخاء مختوما بالألف المقصورة: الروث. (2) هو جمع ثور. يطلق على
الذكور والإناث. (3) بكسر الأول وسكون الثاني. النفيس من كل شيئ. (4) ذكره في كتابه
المسمى بالأربعين في أصول الدين ص 197، طبع حيدرآباد، في أواخر السؤال الثاني عشر
وكذا في رد شبهات المعتزلة، والتجأ في طي كلماته تارة بجعل الرؤية بمعنى الكشف
المعنوي القلبي، وأخرى بمعنى آخر وثالثة لاذ بالأخذ بظواهر الأدلة النقلية، من دون
تأويل، كداود الجواربي وغيره فراجع. (*)
ص 144
وأوردنا هذه الأسئلة عليه واعترفنا بالعجز عن الجواب عنها، إذا عرفت هذا فنقول
مذهبنا في هذه المسألة ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي (1) وهو أنا لا نثبت
صحة رؤية الله تعالى بالدلائل العقلية، بل نتمسك في المسألة بظواهر القرآن
والأحاديث، فإن أراد الخصم تأويل هذه الدلايل وصرفها عن ظواهرها بوجوه عقلية يتمسك
بها في نفي الرؤية اعترضنا على دلائلهم وبينا ضعفها ومنعناهم عن تأويل الظواهر
أنهى كلامه ، وقال في شرح المواقف بعد ترويج الدليل العقلي للأشاعرة بما أمكنه:
فالأولى ما قد قيل: من أن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر، فلنذهب
إلى ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسك بالظواهر النقلية هذا كلامه
ونحن نقول: ليس لهذا الرجل المتسمى بالإمام ولا للسيد المحقق الشريف الهمام، مع علو
شأنهما وشهرة مكانهما بين الأنام إيثار هذا الطريق وإثبات صحة رؤية الله تعالى
وإمكانه بالظواهر، إذ لا يمكن التمسك بالظواهر النقلية إلا بعد إثبات الامكان
الذاتي للرؤية بالبرهان العقلي وإلا وجب التأويل كما في سائر آيات التجسم، وقد
اعترف بذلك شارح المقاصد (2) حيث قال: ولم
(هامش)
(1) هو الشيخ محمد بن محمد أبو منصور الحنفي المتكلم الباحث المتوفى سنة 333،
والماتريدي نسبة إلى ماتريد من أعمال سمرقند، وله تآليف وتصانيف ككتاب أوهام
المعتزلة وكتاب مآخذ الشرايع وكتاب الرد على القرامطة وكتاب التوحيد وكتاب تأويلات
أهل السنة وغيرها، تلمذ عند أبي نصر العياضي، قال المولى علي القاري الخراساني في
ذيل كتاب الجواهر المضيئة (ص 556 ط حيدرآباد): أن أتباع الماتريدي من الحنفية أكثر
من غيرها، وأتباع أبي الحسن الأشعري من الشافعية أكثر من غيرها انتهى. ثم إن الفرقة
الماتريدية أتباع أبي منصور المذكور تفترق عن الأشاعرة في أمور سنوردها إن شاء الله
تعالى قريبا فاصبر إن الله مع الصابرين. (2) وهو التفتازاني السابق ذكره. (*)
ص 145
يقتصر الأصحاب على أدلة الوقوع مع أنها تفيد الامكان أيضا لأنها سمعيات ربما يدفعها
الخصم بمنع إمكان المطلوب، فاحتاجوا إلى إثبات الامكان أولا والوقوع ثانيا، ولم
يكتفوا بما يقال: إن الأصل في الشيئ سيما ما ورد به الشرع هو الامكان ما لم يذر عنه
الضرورة أو البرهان (1)، لأن هذا إنما يحسن في مقام النظر والاستدلال دون المناظرة
والاحتجاج إنتهى كلامه ، وقد صرح بمثله تلميذه الخيالي (2) في بحث المعاد من
حاشية شرح العقائد، وقال الغزالي (3) في رسالته المشهورة
(هامش)
(1) مأخوذ من قول الشيخ الرئيس كل ما قرع سمعك من غرائب الأكوان فذره في بقعة
الامكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان. والامكان فيه بمعنى الاحتمال كما حقق في
محله. (2) الخيالي هو الشيخ أحمد بن موسى الحنفي المتوفى سنة 862 وكان مدرسا في
مدرسة ازنيق من طرف السلطان العثماني وله تآليف منها حاشية على شرح التفتازاني على
العقايد النسفية. (3) الغزالي هو العارف العلامة الشيخ محمد بن محمد المشتهر في كتب
القوم بحجة الإسلام توفي يوم الاثنين 14 جمادى الثانية سنة 505 وقيل 507 وله تآليف
كثيرة أشهرها إحياء العلوم في مجلدات، والغزالي نسبة إلى قرية غزالة من قرى طوس
وكان شافعي الفروع، أشعري الأصول من تلمذة إمام الحرمين الجويني. وللمترجم مشرب
وذوق مخصوص في العرفان، امتاز به عن أضرابه كما هو واضح لمن سبر في الإحياء وفي
تشيعه خلاف بين أرباب التراجم، فمنهم من ذهب إلى استبصاره في أواخر عمره وتحكى في
ذلك قصص، ومنهم من قال بأنه مات سنيا، ورأيت في بعض المجاميع المخطوطة أن سبب
هدايته مصاحبته في سفر الحج أحد علماء الشيعة وأنه استبصر ببركة صاحبه وترنم بهذا
البيت. شعر: يار بر ما عرض ايمان كرد ورفت * پيرگبرى را مسلمان كرد ورفت وكتاب سر
العالمين مما يمكن استكشاف عقيدته منه والله العالم. (*)
ص 146
الكافلة لبيان معنى النفخ والتسوية في قوله تعالى: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
(1) (الآية)، أن أمر الظاهر هين، فإن تأويلها ممكن، والبرهان القاطع لا يدرء
بالظاهر، بل يسلط على تأويل الظاهر كما في الظواهر التشبيهية (ظواهر التشبيه خ ل)
في حق الله تعالى إنتهى هذا. والحق أن الحق سبحانه وتعالى لا يرى، فإنه بالمنظر
الأعلى (2)، إذ لا يخفى على أحد أن نور الشمس يكاد أن يذهب بالأبصار، فكيف يقدر
الإنسان على مشاهدة نور الأنوار الذي نسبة نور الشمس إليه كنسبة نور الذرة إليها،
بل أقل منه؟ وأنت خبير بأن الهواء لا يرى، وكذا السماء للطافتهما، والظاهر أن الله
تعالى ألطف (3) الأشياء، ولذلك يقول جل جلاله في مقام التمدح: لا تدركه الأبصار وهو
يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير فظهر أن كونه مرئيا نقص بالنسبة إليه تعالى، كيف
لا؟ وقد عرفت مما مر أن الرؤية بالبصر سواء كان في الحاضر أو الغائب مشروط بأمور
ثمانية، ومن الشروط، المقابلة أو ما في حكمها والجهة، وهذان الأمران من اللوازم
المساوية لأخس الممكنات أي السفليات الحسية الكثيفة، لأنك علمت: أن اللطافة المفرطة
مانعة عنها، وكذا النور المفرط، وهو الله سبحانه مستور بحجب الأنوار ومحجوب
بسرادقات الجلال والجمال، فكيف تدركه عيون خفافيش الجهال؟! تعالى الله عما يقول
الظالمون علو كبيرا، وقال جل جلاله: فلما تجلى ربه للجبل
(هامش)
(1) ص. الآية 70. حجر. الآية 29. (2) وهو مقتبس من قوله تعالى وهو بالأفق الأعلى
النجم: الآية 7. (3) لا يخفى أن التعبير من باب ضيق الخناق وإلا فهو غير مناسب
لساحة قدسه تعالى شأنه كما لا يخفى. ثم إطلاق الشيئ عليه عز وجل قد ورد في قول
مولينا أمير المؤمنين (ع) حيث قال: إنه تعالى شيئ لا كالأشياء. وكذا في بعض الأدعية
والروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. (*)
ص 147
جعله دكا وخر موسى صعقا، فلما أفاق قال سبحانك إني تبت إليك وأنا أول المؤمنين (1)،
والظاهر أن تسبيحه عليه السلام في هذا المقام تنزيهه عن مشابهة الأعراض والأجسام
وتبرئة لسؤال الرؤية، ولهذا قالوا: إنما أخذتهم الصاعقة لذنوبهم بسؤال الرؤية، وقد
يخطر بالبال أنه لولا كرامة نبينا صلى الله عليه وآله في أنه تعالى رفع عن أمته
المسخ (2) وبعض العقوبات الفضيحة، لنزلت عليهم أيضا صاعقة من السماء، وإنما أطنبنا
في هذا المقام لكونه مزلة لأقدام الخصام وبالله التوفيق في نيل المطلوب وإصابة
المرام.
المسألة الثانية في النظر 
قال المصنف رفع الله درجته المسألة الثانية في النظر وفيه مباحث
المبحث الأول في أن النظر الصحيح يستلزم العلم: 
البحث الأول أن
النظر الصحيح يستلزم العلم، الضرورة قاضية بأن كل من عرف أن الواحد نصف الاثنين وأن
الاثنين نصف الأربعة، فإنه يعلم أن الواحد نصف نصف الأربعة، وهذا الحكم لا يمكن
الشك فيه، ولا يجوز تخلفه عن المقدمتين السابقتين، وأنه لا يحصل من تينك المقدمتين
السابقتين أن العالم حادث، ولا أن النفس جوهر، وأن الحاصل أولا أولى من حصول هذين،
وخالفت الأشاعرة كافة العقلاء في ذلك، فلم يوجبوا حصول العلم عند حصول المقدمتين،
وجعلوا حصول العلم عقيب المقدمتين اتفاقيا يمكن أن يحصل وأن لا يحصل، ولا فرق بين
حصول العلم بأن الواحد نصف نصف الأربعة عقيب قولنا: الواحد نصف الاثنين، والاثنان
نصف الأربعة، وبين حصول العلم بأن العالم محدث أو إن النفس جوهر، أو إن الإنسان
حيوان أو إن العدل حسن، عقيب قولنا: الواحد نصف الاثنين، والاثنان نصف الأربعة، وأي
عاقل يرضى لنفسه
(هامش)
(1) الأعراف. الآية 143. (2) كما تدل عليه عدة روايات مودعة في كتب علماء الإسلام
من الفريقين الخاصة والعامة (*)
ص 148
اعتقاد أن من علم أن الواحد نصف الاثنين والاثنان نصف الأربعة، يحصل له علم أن
العالم محدث، وأن من علم أن العالم متغير، وأن كل متغير محدث، يحصل له العلم بأن
الواحد نصف نصف الأربعة؟، وأن زيدا يأكل ولا يحصل له العلم بأن العالم محدث وهل هذا
إلا عين السفسطة إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الشيخ أبي الحسن (1)
الأشعري أن حصول العلم الذي هو النتيجة عقيب النظر الصحيح بالعادة، وإنما ذهب إلى
ذلك بناءا على أن جميع المكنات مستندة عنده إلى الله سبحانه ابتداءا، أي بلا واسطة،
وعلى أنه تعالى قادر مختار، فلا يجب عنه صدور شيئ منها، ولا يجب عليه ولا علاقة
بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقيب بعض كالاحراق عقيب
مماسة النار والري بعد شرب الماء، فليس للمماسة والشرب مدخل في وجود الاحراق والري،
بل الكل واقعة بقدرته واختياره تعالى، فله أن يوجد المماسة بدون الاحراق، وأن يوجد
الاحراق بدون المماسة، وكذا الحال في سائر الأفعال، وإذا تكرر صدور الفعل منه وكان
دائما أو أكثريا، يقال: إنه فعله بإجراء العادة، وإذا لم يتكرر أو تكرر قليلا فهو
خارق العادة أو نادر، ولا شك أن العلم بعد النظر ممكن حادث محتاج إلى المؤثر، ولا
مؤثر إلا الله، فهو فعله الصادر عنه بلا وجوب منه، ولا عليه، وهو دائم أو أكثري
فيكون عاديا، هذا مذهب الأشاعرة في هذه المسألة، وقد بينا فيما سبق، أن المراد من
العادة ماذا؟ فالخصم إما أن يقول: إن استلزام النظر الصحيح
(هامش)
(1) قد مرت ترجمته على سبيل الاختصار. فليراجع ومن رام الوقوف على مقالات في الأصول
الاعتقادية فليراجع كتابه المسمى بالإبانة فإنه يجد ضالته المنشودة فيه. (*)
ص 149
للعلم واجب وتخلفه عنه محال عقلا فهذا باطل، لإمكان عدم التفطن للنتيجة مع حصول
جميع الشرائط عقلا، فلا يكون التخلف محالا عقلا، وإن أراد الوجوب عادة بمعنى
استحالة التخلف عادة وإن جاز عقلا، فهذا عين مذهب الأشاعرة كما بينا وأما قوله: إن
الأشاعرة جعلوا حصول العلم عقيب المقدمتين اتفاقيا، فافتراء محض، لأن من قال:
بالاستلزام عادة على حسب ما ذكرناه من مراده، لم يكن قائلا بكون اتفاقيا، كما صوره
هو في الأمثلة على شاكلة طاماته وترهاته وكأنه لم يفرق بين اللزوم العادي وكون
الشيئ اتفاقيا (1) أو يفرق ولكن يتعامى ليتيسر له التشنيع والتنفير والله إنتهى.
أقول: فيه نظر ظاهر، أما أولا فلأن ما فرعه على كونه تعالى قادرا مختارا من عدم
وجوب صدور شيئ، ولا وجوب شيئ عليه مردود، بأنه لا يلزم من كون الشيئ قادرا مختارا
أن لا يجب عليه شيئ كما قالوا: إن الوجوب بالاختيار عين الاختيار، فإنهم قالوا: إنه
يجب صدور الأشياء عن الله تعالى على مقتضى علمه ويمتنع عدم صدورها مع أنه لا ينافي
الاختيار، وأما ثانيا فلأن ما ذكره: من أن الخصم إما أن يقول: كذا، وإما أن يريد:
كذا، مدفوع بأن الخصم لا يقول ولا يريد شيئا من ذلك، بل يدعي البداهة هنالك مع تجشم
الأشعري تلفيق ألف ترديد وتشكيك مثل ذلك، ويقول: إن بديهة العقل حاكمة بأن تخلف
النتيجة عن النظر الصحيح المستجمع للشرائط محال عقلا، والمنكر مكابر لا يستحق
الجواب، وقد سبق ما يوضح هذا في أوائل الكتاب، وأما ثالثا فلأن ما ذكره من أن نسبة
الأشاعرة إلى جعلهم حصول العلم عقيب المقدمتين اتفاقيا افتراء محض
(هامش)
(1) لا يخفى على من نظر إلى كلام مولينا العلامة ظهر له أن مراده قده من
الاتفاق عدم الترتب القهري لا الاتفاقية المقابلة للزوم العادي كما لا يخفى.
ص 150
غلط محض، (1) وما ذكره في بيان ذلك تلبيس بحت (2) فإن القضية الاتفاقية في مقابلة
اللزومية التي حكم فيها بلزوم أحد الطرفين للآخر لعلاقة بينهما من العلاقات المقررة
في محله، واللزوم العادي ليس من العلاقات المعتبرة في القضية اللزومية المقتضية
لعدم التخلف عقلا، بل قد اعترف هذا الناصب هيهنا في بيان مذهب شيخه: بأنه لا علاقة
بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة، فتكون مصاحبة أمرين عادة مساوقة
لوقوعهما اتفاقا، كما أشار إليه المصنف قدس سره، بل إطلاق اللزوم على ذلك مجاز من
قبيل إطلاقه على اللزوم العرفي الذي اعتبره أهل العربية في الدلالة الالتزامية، ومن
القضايا الاتفاقية أن هذا الناصب حاول ببيان الفرق رفع التشنيع عن أصحابه، فانعكست
القضية، بل زيدت نغمة في طنبور (3) البلية زادهم الله مرضا، وجعلهم لسهام البلايا
غرضا (4) بحق النبي الأمين وعترته المعصومين. قال المصنف رفع الله درجته:
المبحث الثاني في أن النظر واجب بالعقل. 
ألحق أن مدرك وجوب النظر عقلي لا سمعي وإن كان
السمع (5) قد دل عليه أيضا بقوله تعالى، قل انظروا، (6)
(هامش)
(1) خبر قوله فلأن. (2) البحت: الخالص. (3) الطنبور: بضم الطاء المهملة وسكون النون
من آلات اللهو. (4) الغرض: الهدف. (5) لكنه إرشادي بالمعنى المصطلح بين المتأخرين
لا الارشادي بالمعنى الذي أفاده شيخ الطائفة في العدة فراجع. (6) يونس. الآية: 110.
(*)
ص 151
وقال الأشاعرة: قولا يلزم منه انقطاع حجج الأنبياء، وظهور المعاندين عليهم وهم
معذورون في تكذيبهم، مع أن الله تعالى قال: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
(1)، فقالوا: إنه واجب بالسمع لا بالعقل وليس يجب بالعقل شيئ ألبتة، فيلزمهم إفحام
الأنبياء واندحاض (2) حجتهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء إلى المكلف فأمر
بتصديقه واتباعه لم يجب ذلك عليه إلا بعد العلم بصدقه، إذ بمجرد الدعوى لا يثبت
صدقه، ولا بمجرد ظهور المعجزة على يده ما لم تنضم إليه مقدمات، منها أن هذه المعجزة
من عند الله تعالى فعله لغرض التصديق، ومنها أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق،
لكن العلم بصدقه حيث يتوقف على هذه المقدمات النظرية لم يكن ضروريا بل يكون نظريا،
فللمكلف أن يقول: لا أعرف صدقك إلا بالنظر والنظر لا أفعله إلا إذا وجب على وعرفت
وجوبه، ولا أعرف وجوبه إلا بقولك، وقولك ليس بحجة قبل العلم بصدقك، فتنقطع حجة
النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى له جواب يخلص به، فتنتفي فائدة بعثة الرسل حيث
لا يحصل الانقياد إلى أقوالهم ويكون المخالف لهم معذورا، وهذا هو عين الالحاد
والكفر نعوذ بالله منه، فلينظر العاقل المنصف من نفسه هل يجوز له اتباع من يؤدي
مذهبه إلى الكفر؟ وإنما قلنا: بوجوب النظر لأنه دافع للخوف، ودفع الخوف واجب
بالضرورة إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: إعلم أن النظر في معرفة الله تعالى
واجب بالاجماع، والاختلاف في طريق ثبوته، فعند الأشاعرة طريق ثبوته السمع، لقوله
تعالى: انظروا، ولأن معرفة الله واجبة إجماعا، وهي لا تتم إلا بالنظر، وما لا يتم
الواجب المطلق
(هامش)
(1) النساء. الآية: 165. (2) الاندحاض: البطلان. (*)
ص 152
إلا به فهو واجب، ومدرك هذا الوجوب هو السمع كما سنحقق بعد هذا، وأما أ المعتزلة
ومن تبعهم من الإمامية فهم أيضا يقولون: بوجوب النظر، لكن يجعلون مدركه العقل لا
السمع، ويعترضون على الأشاعرة بأنه لو لم يجب النظر إلا بالشرع لزم إفحام الأنبياء
وعجزهم عن إثبات نبوتهم في مقام المناظرة، كما ذكره من الدليل، والجواب من وجهين:
الأول النقض، وهو أن ما ذكرتم من إفحام الأنبياء مشترك بين الوجوب الشرعي الذي هو
مذهبنا، والوجوب العقلي الذي هو مذهبكم، فما هو جوابكم فهو جوابنا، وإنما كان
مشتركا إذ لو وجب النظر بالعقل فوجوبه ليس ضروريا، بل بالنظر فيه والاستدلال عليه
بمقدمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من أن المعرفة واجبة وأنها لا تتم إلا بالنظر، وأن
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيقول المكلف حينئذ: لا أنظر أصلا ما ليم يجب
ولا يجب ما لم أنظر، فيتوقف كل واحد من وجود النظر مطلقا ووجوبه على الآخر لا يقال
إنه يمكن أن يكون وجوب النظر فطري القياس، فيضع النبي للمكلف مقدمات ينساق ذهنه
إليها بلا تكلف، ويفيده العلم بذلك يعني بوجوب النظر ضرورة، فيكون الحكم بوجوب
النظر ضروريا محتاجا إلى تنبيه على طرفيه، (1) لأنا نقول: كونه فطري القياس مع
توقفه على ما ذكرتموه من المقدمات الدقيقة الأنظار باطل وعلى تقدير صحته بأن يكون
هناك دليل آخر فللمكلف أن لا يستمع إليه وإلى كلامه الذي أراد به تنبيهه ولا يأثم
بترك النظر أو الاستماع، إذ لم يثبت بعد وجوب الشيئ أصلا، فلا يمكن الدعوة وإثبات
النبوة، وهو المراد بالإفحام، والجواب الثاني الحل: وهو أن يقال: النبي له أن يقول
إذا قال المكلف:
(هامش)
(1) ولا منافاة بين كون الشيئ بديهيا ومحتاجا إلى التنبيه لكثرة المشاغل والشواغل
في نشاة الناسوت بحيث قد يكون الإنسان ذاهلا عن ما يعشقه ويتعلق به كما لا يخفى.
(*)
ص 153
لا أعرف صدقك إلا بالنظر، والنظر لا أفعله إلا إذا وجب على وعرفت وجوبه، إن الوجوب
عليك محقق بالشرع في نفس الأمر، ولكن لا يلزم أن تعرف ذلك الوجوب، فإن قال: الوجوب
موقوف على علمي به، قلنا: لا يتوقف، إذ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب، فلو توقف
الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفا على العلم
بالوجوب، (1) فإن قال: ما لم أعرف الوجوب لم أنظر، قلنا: ماذا تريد من الوجوب الذي
ما لم تعرفه لم تنظر؟ فإن قال: أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله
ثوابا، قلنا: فقد أثبت الشرع حيث قلت بالثواب، وإلا فبطل قولك: ووجوبه لا أعرف إلا
بقولك، فاندفع الافحام وإن قال: أردت بالوجوب ما يكون ترك الواجب قبيحا لا يستحسنه
العقلا، ويترتب عليه المفسدة، فيرجع إلى استحسان العقل، قلنا: فأنت تعرف هذا الوجوب
إذا راجعت العقلاء وتأملت فيه بعقلك، فإن كل عاقل يعرف أن ترك النظر في معرفة خالقه
مع بث النعم قبيح وفيه مفسدة، فبطل قوله: لم أنظر ما لم أعرف الوجوب واندفع
الافحام، لا يقال: هذا الوجه الثاني هو عين القول: بالحسن والقبح العقليين، وليس
هذا مذهب الأشاعرة، بل هذا إذعان لمذهب المعتزلة ومن تابعهم، لأنا نقول: ليس هذا من
الحسن والقبح الذين وقع فيهما المنازعة أصلا، لأن الحسن والقبح بمعنى تعلق المدح
(2) والثواب والذم و
(هامش)
(1) وهذا غير متوجه بناء على الالتزام بالمراتب في الحكم وجعل العلم بمرتبة شرطا
لتحقق مرتبة أخرى منه كما لا يخفى والمراتب هي الاقتضاء والانشاء والفعلية والتنجز
أما لو نوقش في تعدد المراتب له كما ذهب إليه بعض أهل العصر نظرا إلى أن مرتبة
الاقتضاء ليست من الحكم إذ هي الداعية والداعي إلى الشيئ خارج عنه وإن المراتب في
الخارجيات والأحكام من سنخ الاعتباريات فلا مسرح للاعتراض المذكور. (2) وسيأتي أن
الحسن والقبح بمعنى تعلق الثواب والعقاب مما اخترعه الناصب تبعا لبعض مشايخه
الأشعريين وليس منه في كلمات من سبقه عين ولا أثر. (*)
ص 154
العقاب هو محل النزاع، فهو عند الأشاعرة شرعي وعند المعتزلة عقلي، وأما الحسن
والقبح بمعنى ملائمة الغرض ومنافرته وترتب المصلحة والمفسدة عليهما فهما عقليان
بالاتفاق، وهذا من ذلك الباب، وسنبين لك حقيقة هذا المبحث في فصل الحسن والقبح إن
شاء الله. ثم اعلم أنا سلكنا في دفع لزوم الافحام عن الأنبياء مسلكا لم يسلكه قبلنا
أحد من السلف، وأكثر ما اطلعنا عليه من كلامهم لم يفد دفع الافحام كما هو ظاهر على
من يراجع كلامهم والله أعلم إذا عرفت هذا علمت أن الافحام ندفع على تقدير القول:
بالوجوب الشرعي في هذا المبحث، فأين الانجرار إلى الكفر والالحاد؟، ثم من غرائب
طامات هذا الرجل أنه أورد شبهة على كلام الأشاعرة، وهي مندفعة بأدنى تأمل، ثم رتب
عليه التكفير والتفسيق، وهذا غاية الجهل والتعصب، وهو رجل يريد ترويج طاماته
ليعتقده القلندرية (1)
(هامش)
(1) القلندرية، نسبة إلى قلندر، على وزن سمندر وسلندر، يقال لجماعة من الدراويش
الصوفية: قلندرية وهم الذين، نشروا الشعور، وأطالوا اللحى، وفتلوا الشوارب، وتركوا
الأظافر بحالها ولم يقصوها، ومشوا حفاة، وشدوا حجر القناعة على بطونهم والمخلاة على
أوساطهم، وأخذوا الكشكول بأيديهم، والطبرزين على عواتقهم والسبحة ذات الألف خرزة
على أعناقهم، وجلود السباع على أكتافهم، وجعلوا الاستعطاء والسؤال وسيلة معاشهم،
وأراحوا نفوسهم من التكاليف العبادية، وأكثر مقالتهم لا مؤثر في الوجود إلا هو هرچه
هست از او است، وحده لا الا هو است. هو هو هو يا هو يا من هو، لا موجود الا هو كل
ما في الكون وهم او خيال او عكوس في مرايا او ظلال وهم الذين اعتقدوا بأن كل ملة
ومذهب وطريقة حق من جهة إنها الطرق إلى الله تعالى. وهم الذين ذهبوا إلى أنه لا شر
ولا خير ولا سوء في النشأة الناسوتية بل الكل خير وهم الذين اعتادوا الأفيون،
والبنج، والحشيش، واقتناء الحياة، والأفاعي، والثعابين، (*)
ص 155
والأوباش (1) ورعاع (2) الجهلة من الرفضة والمبتدعة إنتهى كلامه . أقول: فيه
نظر، أما أولا فلأن ما ذكره في دفع الايراد عن النقض مردود، بأن للعدلي (3) أن
يقول: نحن نعلم بالبديهة أن النظر يزيل الخوف مع قطع النظر عن تلك المقدمات، ودفع
الخوف واجب، فينتقل الذهن بهما إلى وجوب النظر ويحصل العلم من غير تعب ومشقة
وملاحظة مقدمات خارجة عنهما فإنا نعلم أنه إذا جاء رجل موصوف بالصفات الكاملة، فقال
أنا نبي الله وعندي خوارق شاهدة على دعواي، فمن له عقل وفهم يحصل له خوف، ودفع
الخوف
(هامش)
وهم الذين أطعموا (الديك جوش) وهو اللحم المطبوخ بطريق مخصوص، وآداب وسنن ابتدعوها
في طبخه وتقسيمه بين الفقراء على مصطلحهم. وهم الذين دققوا النظر والأبصار في المرد
الحسان الوجوه فمنهم من يقول: إني ناظر إلى صنع الصانع القادر كيف خلق من ماء دافق
وجها الطف من الورد وعينا سحارة وثغرا كالدر وغيرها من التشبيهات ثم يقول سبحان ما
أبدعه في صنعه ومنهم من يعتذر في تلك النظرة المسموعة التي هي سهم من سهام إبليس
ويقول: إني انظر إلى مجلى الحبيب كيف تجلى تعالى شأنه في هذه المرأة ويقول المجاز
قنطرة الحقيقة عصمنا الله وإياكم من الزلل، وجعلنا من المتمسكين بأذيال آل الرسول
(ص)، الذين من تمسك بهم فقد نجى، آمين آمين. (1) الأوباش جمع وبش بمعنى سفلة الناس،
وأخلاطهم، ويقال للكلام الردئ وبش الكلام، ويقال ما بهذه الأرض إلا أوباش من شجر أو
نبات، وهو مأخوذ من رقط الجرب يتفشى في جلد البعير والنمنم الأبيض يكون على الظفر.
(2) الرعاع. السفلة من الناس. (3) العدلية تطلق على الإمامية والمعتزلة والزيدية
والكيسانية والظاهرية وكل من يثبت صفة العدل له تعالى من طوائف المسلمين. (*)
ص 156
واجب (1) بالضرورة كما ذكره المصنف، وأيضا ما ذكره من أنه على تقدير صحة كونه فطري
القياس للمكلف أن لا يستمع إليه، غير مسموع، إذ ليس له أن لا يستمع إليه إذا كان
وجوبه عقليا، فإن إلزام العقل له حينئذ لا يقتضي الاستماع عن النبي بل عن العقل،
وليس له أن لا يستمع من العقل، لوجود مقدمات عقلية فطرية مثبتة له أنه يجب سماعه
قفاءا (2) عليه، والحاصل أنه إذا كان شرعيا فكل الواجبات بعد ثبوت الشرع، فللمكلف
أن يقول للنبي ثبت العرش ثم انقش (3)، وإذا كان عقليا فالكل بعد العقل وهو ثابت له،
فهو ينقش النقوش قفاءا عليه، وما له محيص عنه وعن حكمه، وله محيص قبل ثبوت الشرع عن
الشرع وأحكامه، فلا يكون الالزام مشتركا، على أنه يمكن أن يقال في دفع النقض عن أهل
العدل بناءا على أصلهم وهو وجوب اللطف على الله تعالى: إنه يجب عليه تعالى إرائتهم
المعجزة فلا يلزم الافحام، وأيضا يمكن تقرير الدليل على وجه لا يتوجه إليه النقض،
بأن يقال: لو كان الحسن والقبح عقليين أمكن أن يتحقق الالزام في بعض من الأوقات
بالنسبة إلى من حصل تلك المقدمات، وعرف بها عقلا أن النظر في المعجزة واجب سواء
كانت تلك المقدمات ظاهرة أو خفية، أو بالنسبة إلى من يلقى النبي إليه تلك المقدمات
الموصلة إلى وجوب النظر، وبواسطة تلك المقدمات حصل له العلم بوجوب النظر، وأما لو
كانا شرعيين فلا يمكن أن يتحقق الالزام، لأنه لا وسيلة حينئذ إلى معرفة
(هامش)
(1) ويمكن أن ينبه عليه بأن السالك في الآجام قد احتمل عقله وجود السباع فيها إذا
قال له رفيقه الماشي في أثره: إياك والأسد من يمينك، فلم يلتفت إلى يمينه دفعا
للضرر إلى أن افترسه الأسد نسبه الناس إلى الحماقة والتقصير كما لا يخفى. منه قده
. (2) قفى على أثره قفاءا أي تبع أثره. (3) مثل معروف يضرب به في من يثبت شيئا
تحققه مبتن على آخر قبل ثبوت المبتنى ثم العرش خشبة السقف أو هو نفسه. (*)
ص 157
وجوب النظر إلا قول النبي وإخباره الموقوف قبوله على معرفة صدقه الموقوفة على معرفة
وجوب النظر الموقوفة (1) على قوله، والحاصل أنهما لو كانا شرعيين لزم عدم صحة إلزام
النبي للمكلف بالنظر في بعض من الأوقاف، وكفى به محذورا، وأما ثانيا فلأن ما ذكره
في مقام الحل من كفاية تحقق الوجوب في الشرع في نفس الأمر إن أراد بنفس الأمر فيه
مقتضى الضرورة والبرهان ونحوه مما فسروه به فهو راجع إلى الحسن والقبح العقليين،
وإن أراد به ما في العقل الفعال ونحوه من المعاني فيتوجه عليه: أن نفس الأمر بهذا
المعنى مما لا يطلع عليه إلا المعصومون فثبوت الوجوب في نفس الأمر لا يدفع الافحام،
وإنما يدفع بإثبات الوجوب على المكلفين، والحاصل أنه لا نزاع لأحد في أن تحقق
الوجوب بحسب نفس الأمر بهذا المعنى لا يتوقف (2) على العلم بالوجوب، وإنما النزاع
في أن وجوب الامتثال لقول النبي حين أمر المكلف بالنظر في المعجزة إنما يثبت إذا
ثبت حجية قوله، وهي لا تثبت عقلا على ذلك التقدير، فيكون بالسمع، فمتى لم يثبت
السمع لم يثبت ذلك الوجوب، والسمع إنما يثبت بالنظر، فله أن لا ينظر ولم يأثم، لأنه
لم يترك ما هو الواجب عليه بعلمه، كما إذا وجب علينا حكم ولم يظهر عندنا وجوبه فلم
نأت به لم نأثم، فيلزم الافحام بخلاف ما إذا ثبت الوجوب العقلي، فإنه إذا قال: انظر
ليظهر لك صدق مقالتي ليس له تركه لوجوبه عقلا لثبوت الحسن
(هامش)
(1) وقال بعض القدماء رب متنبي وليس بنبي (كماني النقاش) و(منصور الحلاج) و(زرادشت)
و(مسيلمة) وغيرهم. فلو كان صرف الدعوى مسوغا للقبول لكان متبعو هؤلاء المذكورين
معذورين في اتباعهم. (2) وهذا مما لا غبار عليه سيما بعد تلطيف النظر فيما حققه
المتأخرون من الأصحاب من الالتزام بالمراتب الأربعة في الأحكام وهي الاقتضاء
والانشاء والفعلية والتنجز كما مر بيان ذلك والمناقشة فيه. فتدبر. (*)
ص 158
العقلي الحاكم بحسن التكليف، ومن المكلف به ما لا يستقل العقل للاهتداء إلى دركه،
فيجب الرجوع في مثله إلى المؤيد من عند الله تعالى، وأما ثالثا، فلأن ما خص به في
هذا المقام من إفاداته المضحكة الباطلة مردود من وجوه: أما أولا فلأنه لا يلزم من
قول المكلف: أريد بالوجوب الذي ألزمتك إثباته على ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله
ثوابا إثباته للشرع وإذعانه به، إذ يكفي في إلزامه للنبي سماعه تلك العبارات من أهل
الشرع قديما أو حديثا من غير إذعانه [خ ل إذعان] له بحقائقها، وأما ثانيا، فلأن
قوله: فإن كل عاقل يعرف أن ترك النظر في معرفة خالقه مع بث النعم قبيح وفيه مفسدة
الخ ، مدخول بأن مجرد العلم بنحو من القبيح [خ ل القبح] لا يوجب إقدام المكلف إلى
الفعل الحسن أو امتناعه عن الفعل القبيح، بل الداعي له إلى ذلك إنما يكون كون الفعل
حسنا أو قبيحا عقلا بالمعنى المتنازع فيه أي كونه مستحقا للثواب، أو العقاب، أو
جديرا بالذم من الله تعالى أو المدح منه، فإن المعاني الأخر التي لا نزاع في
عقليتها لا تؤدي بمفهومها إلى خوف المكلف من مؤاخذة في العاجل أو الآجل حتى وجب له
الاقدام إلى الفعل أو الاحجام (1) عنه، فإن كثيرا ممن يعتقد الخير والشر وترتب
الثواب والعقاب من الله تعالى على الفعل، ولا يستحل فعل القبيح وترك الحسن، ربما
يخل بالواجب لتورطه في الشهوات، فكيف بالمكلف الذي نشأ في أيام الجاهلية ولم يعتقد
بعد شيئا من ذلك؟ لظهور أن مجرد تعقله لكون الفعل متضمنا لصفة كمال أو نقص أو
مشتملا على مصلحة أو مفسدة من غير توقع خوف عاجلا أو آجلا لا يوجب له ذلك، نعم لو
كان المراد من المصلحة والمفسدة الثواب والعقاب دون ما يعتبر من ذلك في مجاري
العادات، لحصل الخوف، لكن إذا فسر
(هامش)
(1) الاحجام عن الشيئ الكف عنه. (*)
ص 159
المصلحة والمفسدة بذلك يرجع إلى المعنى المتنازع فيه كما لا يخفى وأما ثالثا فلأن
قوله: قلنا هذا ليس من الحسن والقبح الذين وقع فيهما المنازعة، مدفوع بما أشرنا
إليه: من أن إدراك حسن شيئ أو قبحه بذلك المعنى لا يوجب كونه حسنا أو قبيحا عند
الله مستحقا للثواب أو العقاب منه، فلا يوجب للمكلف شيئا من الفعل أو الترك، وإنما
الموجب له علمه بأنه حسن أو قبيح عند الله، ومستلزم لنيل الثواب أو العقاب، وبما
حققناه وقررناه ظهر أن ما سلكه في دفع لزوم الافحام إنما هو مسلك الشيطان، وحقيق
بأن يضحك منه الصبيان، وأن انجرار أصحابه إلى الكفر والالحاد متوجه، والتعبير عن
كلام المصنف بالطامات غير متجه، وإنما الطامات ما ذكره هو: من المقدمات السخيفة
والكلمات التي هي أوهن من استحسان أبي حنيفة، فموه بها العذب الفرات بالملح الأجاج
(1)، وتوقع منها دفع ما لا مدفع له من الاحتجاج، ولعمري (2) لا يروج ذلك المزيف
المردود إلا على أهل نحلته الذين هم أشد غباوة من كوادن (3) اليهود وأكثر غواية من
عبدة العجل وقوم عاد وثمود. قال المصنف رفع الله درجته
المبحث الثالث في أن معرفة
الله تعالى واجبة بالعقل، 
الحق أن وجوب معرفة الله تعالى مستفاد من العقل وإن كان
السمع قد دل عليه، لقوله تعالى: فأعلم أنه لا إله إلا الله (4)، لأن شكر النعمة
واجب (1) مقتبس من قوله تعالى في سورة الفرقان. الآية 53. (2) العمر: بفتح العين
المهملة (الحياة جمعه أعمار) والدين وفي القسم يقال: لعمري أي لديني ولعمر الله
وهكذا. (3) الكودن البرذون الهجين ويطلق في العرف العام على الشخص البليد وجمعه
كوادن. (4) سورة محمد. الآية 19. (*)
ص 160
بالضرورة وآثار النعمة علينا ظاهرة، فيجب أن نشكر فاعلها، وإنما يحصل بمعرفته، ولأن
معرفة الله تعالى دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف، ودفع الخوف واجب بالضرورة، وقالت
الأشعرية: إن معرفة الله تعالى واجبة بالسمع لا بالعقل، فلزمهم ارتكاب الدور
المعلوم بالضرورة وبطلانه، لأن معرفة الايجاب تتوقف على معرفة الموجب، فإن من لا
نعرفه بشيئ من الاعتبارات ألبتة نعلم بالضرورة أنا لا نعرف أنه أوجب، فلو استفيدت
معرفة الموجب من معرفة الايجاب لزم الدور المحال، وأيضا لو كانت المعرفة إنما تجب
بالأمر لكان الأمر بها إما أن يتوجه إلى العارف بالله تعالى، أو إلى غير العارف،
والقسمان باطلان، فتعليل الايجاب بالأمر محال، أما بطلان الأول فلأنه يلزم منه
تحصيل الحاصل وهو محال، وأما بطلان الثاني فلأن غير العارف بالله يستحيل أن يعرف أن
الله تعالى قد أمره وأن امتثال أمره واجب، وإذا استحال أن يعرف أن الله قد أمره وأن
امتثال أمره واجب، استحال أمره وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وسيأتي بطلانه إن شاء
الله تعالى. قال الناصب خفضه الله أقول: لا بد في هذا المقام من تحرير محل النزاع
أولا، فنقول: وجوب معرفة الله تعالى الذي اختلف فيه، هل أنه مستفاد من الشرع أو
العقل؟ إن أريد به الاستحسان وترتب المصلحة فلا يبعد أن يقال: إنه مستفاد من العقل
لأن شكر المنعم موقوف على معرفته، والشكر واجب بهذا المعنى بالعقل، ولا نزاع
للأشاعرة في هذا، وإن أريد به ما يوجب ترتب الثواب والعقاب فلا شك أنه مستفاد من
الشرع، لأن العقل ليس له أن يحكم بما يوجب الثواب عند الله، والمعتزلة أيضا يوافقون
أهل السنة في أن الحسن والقبح بهذا المعنى مركوزان (ج 10)
ص 161
في العقل، ولكن الشرع كاشف عنهما، ففي المذهبين لا بد وأن يؤخذ من الشرع إما لكونه
حاكما أو كاشفا، فكل ما يرد على الأشاعرة في هذا المقام بقولهم: إن الشرع حاكم
بالوجوب دون العقل، يرد على المعتزلة بقولهم: إن الشرع كاشف للوجوب، لأن في القولين
لا بد من الشرع ليحكم أو يكشف، ثم ما ذكر أن معرفة الله تعالى دافعة للخوف الحاصل
من الاختلاف، ودفع الخوف واجب بالضرورة، فنحن نقول فيه بعد تسليم حكم العقل بالحسن
والقبح في الأفعال وما يتفرع عليهما من الوجوب والحرمة وغيرهما: بمنع حصول الخوف
المذكور، لعدم الشعور بما جعلتم الشعور به سببا له من الاختلاف وغيره، ودعوى ضرورة
الشعور من العاقل ممنوعة، لعدم الخطور في الأكثر، فإن أكثر الناس لا يخطر ببالهم أن
هناك اختلافا بين الناس فيما ذكر، وأن لهذه النعم منعما قد طلب منهم الشكر عليها،
بل هم ذاهلون عن ذلك، فلا يحصل لهم خوف أصلا، وإن سلم حصول الخوف، فلا نسلم أن
العرفان الحاصل بالنظر يدفعه، إذ قد يخطي فلا يقع العرفان على وجه الصواب، لفساد
النظر فيكون الخوف حينئذ أكثر ثم ما ذكر من لزوم الدور مندفع، بأن وجوب المعرفة
بالشرع في نفس الأمر لا يتوقف على معرفة الايجاب وإن توقف على الايجاب في نفس الأمر
فلا يلزم الدور، ثم ما ذكر: أن المعرفة لا تجب إلا بالأمر، والأمر إما أن يتوجه إلى
العارف أو الغافل وكلاهما باطل، فنقول في جوابه: المقدمة الثانية القائلة: بأن
تكليف غير العارف باطل لكونه غافلا ممنوعة، إذ شرط التكليف فهمه وتصوره لا العلم
والتصديق به، لأن الغافل من لا يفهم الخطاب أو لم يقل له (1) إنك مكلف، فتكليف غير
العارف ليس من المحال في شيئ والله أعلم إنتهى كلامه ،
(هامش)
(1) لم يقل مبني للمفعول من قال يقول فلا تغفل. (*)
ص 162
أقول: فيه نظر، أما أولا فلأنا سنبين حكم العقل بالوجوب بمعنى ترتب الثواب والعقاب
فانتظر، وأما ما ذكره من أن المعتزلة أيضا يوافقون أهل السنة في أن الحسن والقبح
بهذا المعنى مركوزان في العقل مسلم، لكن قوله: ولكن الشرع كاشف عنهما لا يصح على
مذهب المعتزلة فإنهم لم يقولوا: بتوقف حكم العقل بالحسن والقبح على انكشاف الشرع
عنهما، بل قالوا: إن في ما هو حسنه وقبحه (1) نظري، لا يستقل العقل بمعرفة جهته
المحسنة أو المقبحة، يكون الشرع كاشفا عن جهته، لا أن حكم العقل بالحسن والقبح
مطلقا موقوف على كشف الشرع عن ذلك كما يفهم من كلام هذا الناصب الجارح بعيد ذلك،
فبطل ما فرعه على ذلك بقوله: ففي المذهبين لا بد أن يؤخذ من الشرع إما لكونه حاكما
أو كاشفا وذلك لعدم صحة الحصر المذكور، فإن العقل أيضا حاكم بالحسن والقبح في بعض
أقسام الفعل من غير توقف على كشف الشرع عنه كما ذكرنا، فما ذكره صلح من غير تراضي
الخصمين (2) كما لا يخفى، وكذا بطل ما حكم به من استواء الأشاعرة مع المعتزلة فيما
يتوجه عليهم في هذا المقام وهو ظاهر، وأما ثانيا، فلأن تقديره لتسليم العقل بارد،
كما أشرنا إليه، إذ يجب عليه تسليم ذلك بما سيذكره المصنف من الأدلة المثبتة للحسن
والقبح العقليين، وأما منعه لحصول الخوف المذكور مستندا بعدم شعور الناس بما جعل
سببا لذلك من الاختلاف، فمدفوع، بأن مراد المصنف بالاختلاف ليس مجرد الاختلاف
الواقع من العلماء في هذ المسألة، بل ما يعم الاختلاف والتردد والاحتمال الذي ربما
يحصل لعقل الشخص الواحد عند النظر
(هامش)
(1) حاصله أن ما كان حسنه وقبحه نظريا، لا استقلال للعقل فيه لمعرفة جهته المحسنة
أو المقبحة. (2) وتوجيه بما لا يرضى به المتحاكمان. (*)
ص 163
في هذه المسألة، والحاصل أن احتمال وجوب المعرفة وعدمه حاصل في مشعر كل ذي شعور، بل
الراجح عنده وجوب المعرفة الذي يورث ترك النظر فيه خوف العقوبة، وهو قادر على دفع
هذا الخوف الذي هو مضرة ناجزة (1) له، فإن لم يدفعه كان مستحقا لأن يذمه العقلاء
فيكون واجبا عقليا، وأما ثالثا فلأن ما ذكره من منع أن العرفان الحاصل بالنظر يدفع
الخوف مستندا بأنه قد يخطي، فلا يقع العرفان على وجه الصواب مردود، بأن العرفان
يدفع الخوف لاعتقاده أنه مصيب، واحتمال الخطأ في نفس الأمر لا يقدح في ذلك، وأما
رابعا فلأن ما ذكره في دفع الدور اللازم على الأشاعرة من أن وجوب المعرفة ثابت في
نفس الأمر الخ ، فساقط جدا، لأنه إن أراد بنفس الأمر مقتضى الضرورة والبرهان فهو
راجع إلى القول بالحسن والقبح العقليين كما مر، وإن أراد به مقتضى الأمر الشرعي
فالدور بحاله، وإن أراد به معنى آخر فليذكره أوليائه حتى نتكلم عليه وأما خامسا
فلأن ما ذكره في منع المقدمة القائلة: بأن تكليف غير العارف باطل من أن شرط التكليف
فهمه وتصوره لا العلم والتصديق به الخ فمدخول بأنه بنى في ذلك على أن المصنف
أراد بالمعرفة العلم التصديقي وليس كذلك، بل أراد أن المعرفة في الجملة لو لم يجب
إلا بالأمر كما يقتضيه كلام الأشاعرة لكان كذا، ومن البين أنه يلزم حينئذ تكليف
الغافل كما ذكره المصنف فلا تغفل. قال المصنف رفع الله درجته
المسألة الثالثة في
صفاته تعالى 
وفيه مباحث،
المبحث الأول أنه تعالى قادر على كل مقدور، 
الحق ذلك لأن المقتضي
لتعلق القدرة بالمقدور هو الامكان، فيكون الله تعالى قادرا على جميع المقدورات،
وخالف في ذلك جماعة من الجمهور، فقال
(هامش)
(1) الناجزة. المبارزة وتوصيف المضرة بها لمكان مبارزتها مع الصحة والحسن (*)
ص 164
بعضهم: إنه تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد، وقال آخرون: إنه لا يقدر على عين
(1) مقدور العبد، وقال آخرون: إنه لا يقدر على القبيح، وقال آخرون: إنه لا يقدر أن
يخلق فينا علما ضروريا، يتعلق بما علمناه مكتسبا، وكل ذلك بسبب سوء فهمهم وقلة
تحصيلهم، والأصل في هذه أنه تعالى واجب الوجود، وكل ما عداه ممكن، وكل ممكن فإنه
إنما يصدر عنه أو يصدر عما يصدر عنه، ولو عرف هؤلاء الله سبحانه وتعالى حق معرفته
لما تعددت آراؤهم ولا تشعبوا بحسب تشعب أهواءهم إنتهى قال الناصب خفضه الله
أقول: مذهب الأشاعرة أن قدرته تعالى تعم سائر الممكنات، والدليل عليه أن المقتضي
للقدرة هو الذات، والمصحح للمقدورية هو الامكان ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على
السواء، فإذا ثبت قدرته على بعضها ثبتت على كلها، هذا مذهبهم، وقد وافقهم الإمامية
في هذا وإن خالفهم المعتزلة، فقوله خالف في ذلك جماعة من الجمهور، إن أراد به
الأشاعرة فهو افتراء وإن أراد غيرهم فهو تلبيس وإرائة للطالبين أن مذهبهم هذا، لأن
الجمهور في هذا الكتاب لا يطلقه إلا على الأشاعرة، وبالجملة تعصبه ظاهر وغرضه غير
خاف، وأما قول بعضهم: إن الله تعالى لم يقدر على مثل مقدور العبد فهو مذهب أبي
القاسم البلخي (2)، وأما
(هامش)
(1) وفي بعض النسخ (غير مقدور العبد بدل عين مقدور العبد) ولكل منهما وجه وقائل،
كما يظهر من كتب الملل والأهواء. (2) في بعض النسخ أبو زيد البلخي، وعليه فهو أبو
زيد أحمد بن سهل البلخي، المتكلم الحكيم الشهير، المتوفى سنة 340 كما في الجواهر
المضية ص 69، روى عنه حفيده عبد الله بن محمد بن سهل وعبد الله بن محمد بن شاه
السمرقندي وغيرهما. وفي بعض النسخ (*)
ص 165
أنه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا فهو مذهب جماعة مجهولين ولم أعرف من
نقله سوى هذا الرجل والحق ما قدمناه إنتهى أقول: مراد المصنف من الجمهور في هذا
الكتاب كل من خالف الإمامية في مسألة الإمامة سواء كانوا أشاعرة أو ما تريدية (1)
(هامش)
أبو القاسم الكعبي وعليه فهو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المولد
والكعبي النسب صاحب المقالات المشهورة، توفي سنة 317، وإليه تنتسب مسألة إنكار
المباحاث فراجع، وفي نسخة، أبو القاسم البلخي، وعليه فهو أبو القاسم بن أبي محمد بن
أبي القاسم البلخي الأشعري العقيدة المتكلم النحوي صاحب كتاب الاختيار وغيره،
والظاهر من المحتملات الثالث كما هو واضح لدى التأمل. (1) الماتريدية هم أتباع
الشيخ أبي منصور الماتريدي السمرقندي وستأتي ترجمته، ثم الفرق بين الماتريدية
والأشاعرة من وجوه، منها في جواز تعذيب الله تعالى عبده المطيع، فالأشاعرة جوزوه
عقلا ومنعوه شرعا، والماتريدية منعوه عقلا وشرعا، ومنها في وجوب معرفة الله تعالى
هل هي بالشرع أو بالعقل؟ فالأشاعرة على أنها واجبة بالشرع والماتريدية على أنها
بالعقل، ومنها في صفات الأفعال كالخلق والرزق والإحياء والإماتة هل هي قديمة أو
حادثة؟ فعند الأشاعرة أنها حادثة وعند الماتريدية كل صفاته تعالى قديمة، ومنها
أنهما بعد ما اتفقا على ثبوت الكلام النفسي اختلفوا في أنه هل يجوز أن يسمع أم لا؟
فقال الأشعري: إن كلامه مسموع بناء على مبناه أن كل موجود يصح أن يرى فكذا يصح أن
يسمع، وعند الماتريدي أن كلام الله تعالى لا يجوز أن يسمع بوجه من الوجوه كما نقل
ذلك العلامة النسفي في العمدة، ومنها في مسألة التكليف بما لا يطاق، فالأشاعرة
يجوزونه والماتريدية يمنعونه. ومنها في عصمة الأنبياء عن الكبائر والصغائر،
فالأشاعرة لم يشترطوها، والماتريدية ذهبوا كأصحابنا إلى اشتراطها حتى صنفوا في ذلك
كتبا ورسائل مفردة ككتاب تنزيه الأنبياء لسيدنا المرتضى وكتاب التنزيه للشيخ شكر
البغدادي (*)
ص 166
(هامش)
وكتاب التنزيه لأخطب خوارزم وغيرها. ومنها في مسألة إيمان المقلد، فعند الأشعري لا
يصح وعند الماتريدي يصح. ومنها في مسألة أن السعيد هل يشقى والشقي هل يسعد أم لا؟
فالأشعري منع كون السعيد شقيا والشقي سعيدا، والماتريدي جوز كون السعيد قد يشقى
والشقي قد يسعد. ومنها في مسألة الكسب، فالأشعري فسر الكسب في فعل العباد بأن العبد
إذا صمم عزمه فالله تعالى يخلق الفعل عنده، والعزم أيضا فعل يكون واقعا بقدرة الله
تعالى فلا يكون للعبد في الفعل مدخل على سبيل التأثير وإن كان له مدخل على سبيل
الكسب، أو أن الكسب عندهم هو تعلق القدرة الحادثة بالمقدور في محلها من غير تأثير،
وأما الكسب عند الماتريدي هو صرف القدرة إلى أحد المقدورين وهو غير مخلوق، وحاصل
مرامه كما صرح أبو عذبة أن ذات الأفعال من حيث إنها حركات منسوبة إليه تعالى ومن
حيث العناوين كالصلاتية والزكاتية والزنائية منسوبة إلى العبد لأنها الصفة التي
باعتبارها جزم العبد المصمم، فمن ثم يقال: إن قدرة الله تعالى تتعلق بأصل الفعل
وقدرة العبد تتعلق بوصفه من كونه طاعة أو معصية، فمتعلق تأثير القدرتين مختلف كما
في لطمة اليتيم تأديبا، فإن ذات اللطمة واقعة بقدرة الله تعالى وتأثيره وكونها طاعة
أو معصية بقدرة العبد وتأثيره لمتعلق ذلك بعزمه المصمم أعني قصده الذي لا تردد معه.
ثم ليعلم أن المحقق التفتازاني قال في شرح المقاصد: إن المشهور في ديار خراسان
والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري، وفي ديار ما
وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي انتهى. قال في الروضة: إن المشتهر
ببلاد المغاربة عقائد الأشاعرة، لأن الغالب على تلك البلاد مذهب مالك والمالكية في
المعتقدات توافق الأشعري، وفي بلاد الهند على كثرتها وسعتها وبلاد الروم على كثرتها
وسعتها مع كونهم بأسرهم حنفية عقائد الماتريدية إنتهى أقول: ولله در مذهب
أصحابنا شبعة آل الرسول التابعين لهم في الفروع والأصول حيث ترى أنها مطابقة
للبراهين السديدة والأدلة المتقنة الرصينة كما سيتحقق لك بعد هذا إن شاء الله في
الكتاب والتعاليق التي علقناها عليه. (*)
ص 167
أو كرامية (1) أو معتزلة (2) أو ظاهرية (3) أو من أصحاب
(هامش)
(1) الكرامية هم أصحاب محمد بن كرام السجستاني تزهد واغتر جماعة بزهده وظهرت منه
مقالات منكرة مذكورة في الكتب الكلامية وهم من أهل السنة والجماعة ولهم فرق كثيرة
أوردها الإمام الرازي في رسالة اعتقادات المسلمين والمشركين وغيره في غيرها توفي
ابن كرام سنة 256 وكان من أشد القائلين بتجسمه تعالى. (2) قد مرت ترجمة المعتزلة
وأنهم أي طائفة من المسلمين وبيان مقالاتهم. (3) الظاهرية هم أتباع أبي سليمان داود
بن علي بن خلف الإصبهاني الظاهري المتوفى سنة 270، قال ابن النديم في الفهرست ص 303
ط مصر، هو أول من استعمل قول الظاهر وأخذ بالكتاب والسنة وألغى ما سوى ذلك من الرأي
ولا قياس وكان فاضلا صادقا ورعا، له كتاب الافصاح وكتاب الدعوى والبينات كبير إلى
آخر ما سردها من أسماء تآليفه، وذكر من علماء الظاهرية جماعة: منهم، محمد بن داود
أبو بكر صاحب التآليف الكثيرة أخذ من والده داود، ومنهم أبو إسحق إبراهيم بن جابر
صاحب كتاب الاختلاف، ومنهم ابن المفلس وهو أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن
المفلس، وإليه انتهت رياسة الظاهرية في عصره، توفي لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة
324، ومنهم المنصوري وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن صالح صاحب كتاب المصباح، ومنهم
الرقي وهو أبو سعيد صاحب كتاب شرح الموضح، ومنهم التهرياني وهو الحسن بن عبيد أبو
سعيد صاحب كتاب إبطال القياس. ومنهم ابن الخلال ويكنى أبا الطيب صاحب كتابي إبطال
القياس ونعت الحكمة وغيرهما، ومنهم الرباعي وهو إبراهيم بن أحمد بن الحسن ويكنى أبا
إسحق خرج من بغداد وسكن بلاد مصر وبها مات، وله كتب: منها كتاب الاعتبار في إبطال
القياس، ومنهم: حيدرة ويكنى أبا الحسن من أصدقاء ابن النديم. ومنهم القاضي الحزري
وهو أبو الحسن عبد العزيز بن أحمد الإصبهاني الحزري، قال ابن النديم بعد الثناء
عليه: إنه ولاه عضد الدولة قضاء الربع الأسفل من الجانب الشرقي
ص 168
الحديث (1) ولهذا كله يصرح باسم الأشاعرة عند ذكر ما يخصهم وكلامه
(هامش)
من مدينة السلام بغداد إلى وقتنا هذا وهو سنة 377، وله من الكتب كتاب مسائل
الخلاف إنتهى ما أردنا نقله من كلام ابن النديم، أقول: ويعبر عن الظاهرية والحنابلة
بأصحاب الحديث أيضا. ومن أجلة الظاهرية أبو علي محمد بن حزم الأندلسي صاحب كتابي
المحلى والمدخل وغيرهما، وهو ممن أيد هذا المذهب وشيد أركانه وعمر بنيانه وكان يرى
باب الاجتهاد مفتوحا، وقد مال بعض علماء العامة في عصرنا إلى مذهب الظاهرية وذلك
بعد ما وقف على شنايع الأقيسة والرأي والاستحسان وإن دين الله لا يصاب بالعقول
تامها فكيف بالناقصة، وكان هذا البعض حنفيا ثم انتقل إلى الظاهرية، وللظاهرية كتب
فمن أحسنها المحلى لابن حزم، ثم الفرق بين الظاهرية والحنابلة بعد اتفاقهما بترك
غير الكتاب والسنة أن الحنابلة تتصرف وتأول الظواهر فيهما بالقرائن دون الظاهرية
إلا في الظواهر التي قامت الأدلة القطعية على خلافها، هذا في الفروع وأما في الأصول
فأكثرهم ذهبوا إلى مقالة الأشعريين. (1) أصحاب الحديث يطلق تارة على جماعة قصروا
النظر على الأحاديث ونبذوا حكم العقل والاجماع وجعلوا نصوص الكتاب وظواهره من
المتشابهات، ويقال لهم الاخبارية أيضا، وهم عدة كثيرة في أصحابنا كالأمين
الاسترآبادي والشيخ خلف وغيره من علماء البحرين، وفي العامة كمحمد بن أبي ذئب
المتوفى سنة 159، وزائدة بن قدامة الثقفي وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم ويقال لهم
الحشوية أيضا وتحكى من أصحاب الحديث من أهل السنة غرائب: منها جواز تجسمه ورؤيته
أخذا بظواهر كلمات نسبت معانيها إليه تعالى كاليد والعين والسمع والاستواء والمجيئ
والناظرية والمنظورية وغيرها مما تنزهت ساحة قدسه منها وتعالى عنها علوا كبيرا،
وأما أصحاب الحديث من أصحابنا لم يتفوهوا بأمثال هذه المقالات، وتارة يطلق أصحاب
الحديث على من كان همه وتخصصه في الحديث بحيث توغل في جمعه وضبطه وتنقيح أسانيده،
ولهم مراتب في الشدة والضعف،
ص 169
في الفصل الآتي المتصل بما نحن فيه نص في إرادته لما ذكرناه حيث قال: وذهب أبو هاشم
من الجمهور وأتباعه الخ فإن أبا هاشم من المعتزلة دون الأشاعرة كما اعترف به
الناصب هناك أيضا مع أن المصنف عده من الجمهور، فظهر أن ما ذكره الناصب من أن
المصنف لا يطلق الجمهور في هذا الكتاب إلا على الأشاعرة كذب وافتراء جريا على
عادته، ولعله زعم أن في التعبير عن طائفة بالجمهور تعظيما لهم كما يفهم من افتخاره
بكثرة أصحابه وكونهم السواد الأعظم، فتمنى أن يكون ذلك مخصوصا بهم دون أن يشاركهم
غيرهم من المعتزلة، وباقي طوائف أهل السنة وأنت خبير بأنه لا خير في كثير (1) مع أن
أتباع الحنفية والماتريدية من أهل السنة أكثر من أتباع الأشاعرة، على أن جزم الناصب
هيهنا بأن المراد بالجمهور الأشاعرة ينافي ما ذكره في بحث الإمامة عند إيراد المصنف
الآية السابقة من الآيات الواردة في شأن أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال: لا
نعرف هذا الجمهور، وأما ما ذكره: من أن القول: بعدم قدرة الله تعالى على أن يخلق
فينا علما ضروريا مذهب جماعة مجهولين، ولم أعرف من نقله سوى هذا الرجل الخ فيدل
على قلة معرفته بمذاهب العلماء فإن هذا مما نقله الحضرة النصيرية (2) قدس سره في
قواعد العقائد، وأوضحه تلميذه السيد الفاضل ركن الدين الجرجاني (3) في
(هامش)
فمنهم من بلغ مرتبة يقال له الحاكم، ومنهم من لم يبلغها وهناك درجات متفاوتة
كالحفظة على زنة همزة ولمزة والحافظ والمسند والرحلة والمحدث إلى غير ذلك من
المصطلحات بين علماء الحديث والدرية. (1) هذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى لا خير
في كثير من نجواهم النساء الآية 114. (2) أي المحقق الطوسي. (3) هو العلامة المحقق
السيد ركن الدين محمد بن علي بن محمد الجرجاني من معاصري مولينا العلامة الحلي له
كتب نفيسة كشرح قواعد العقائد لأستاذه الطوسي وشرح النافع للمحقق الحلي وغيرهما.
(*)
ص 170
شرحه له، ويشعر به كلام أبي هاشم أيضا في مسألة وضع الألفاظ حيث استدل على كون
اللغات اصطلاحية بأنها لو كانت توقيفية لكان إما بالعلم الضروري، بأنه تعالى وضع
تلك الألفاظ لمعانيها أولا، والأول إما أن يكون ذلك العلم خلقه في عاقل أو غيره؟
والأول باطل، وإلا لزم أن يكون العلم به تعالى ضروريا، إذ العلم بأنه وضع اللفظ
للمعنى مسبوق بالعلم بالموصوف، لكن التالي باطل، وإلا لبطل التكليف، لكن قد ثبت
وجوب التكليف على كل عاقل، والثاني باطل لامتناع أن يخلق في غير العاقل علما ضروريا
بالألفاظ ومناسباتها وتراكيبها العجيبة، وأما الثاني وهو أن لا يكون قد خلق العلم
الضروري بذلك فهو باطل أيضا، وإلا لافتقر السامع في كون ما سمعه موضوعا بإزاء معناه
إلى طريق، ونقل الكلام إليه فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى الاصطلاح، كذا في النهاية
للمصنف قدس سره وقد أشار إليه ابن الحاجب (1) في بحث اللغات من مختصره وفصله الفاضل
الأبهري (2) في حاشيته بما يقرب من تقرير النهاية، وغاية الأمر أنه يلزم منه عدم
قدرته على خلق العلم الضروري في تلك المسألة ونحوها مما يتوقف تصور طرفي الحكم فيها
على العلم به تعالى لا عدم القدرة على الخلق العلم الضروري مطلقا ثم لا يخفى أن
الجواب عن (خ ل على) كل من المذاهب الأربعة التي ذكرها المصنف هيهنا شيئ واحد، وهو
أن الغلط لهؤلاء إنما نشأ من توهم أن القدرة تستلزم الوقوع، وهو وهم فاسد، فإنه ليس
كل ما تعلقت القدرة به وجب وقوعه،
(هامش)
(1) هو الشيخ عثمان بن عمر جمال الدين المالكي المشتهر بابن الحاجب المتوفى سنة 646
له تآليف وتصانيف شهيرة في النحو والصرف والأصول واللغة كالكافية والشافية والمختصر
وشرح المفصل وغيرها. (2) هو الشيخ مفضل أو الفضل بن عمر أثير الدين الأبهري المسكن
السمرقندي الأصل المتوفى سنة 663 على احتمال وله كتب كرسالة ايساغوجي في الكليات
الخمس وغيرها. (*)
ص 171
فإنا بالضرورة قادرون على كثير من القبائح، ولا يقع منا ونحن الضعفاء، فكيف بالقادر
الحكيم؟ بل قدرته تعالى ثمة متعلقة بكل ما هو ممكن من حيث ذاته وإن امتنع وقوعه من
حيث الحكمة، فهو تعالى قادر على هذه الأشياء لإمكانها الذاتي وامتناعها الغيري لا
يخرجها عن كونها مقدورة، لأن الامتناع الغيري لا ينافي الامكان الذاتي وامتناعها
ليس ذاتيا، فصح تعلق القدرة بها، وهيهنا أجوبة مخصوصة بكل من المذاهب لأربعة مذكورة
في كتب أصحابنا وفي كتب الجمهور فليطالع ثمة. قال المصنف رفع الله درجته :
المبحث
الثاني في أنه تعالى مخالف لغيره بذاته، 
العقل والسمع تطابقا على عدم ما يشبهه
تعالى، فيكون مخالفا لجميع الأشياء بنفس حقيقته، وذهب أبو هاشم من الجمهور وأتباعه
إلى أنه يخالف ما عداه بصفة الإلهية وأن ذاته مساوية لغيره من الذوات، وقد كابر
الضرورة هيهنا الحاكمة بأن الأشياء المتساوية يلزمها لازم واحد لا يجوز اختلافها
فيه، فلو كانت ذاته تعالى متساوية لغيرها من الذوات لمساوتها في اللوازم، فيكون
القدم أو الحدوث أو التجرد أو المقارنة إلى غير ذلك من اللوازم مشتركا بينها وبين
الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ثم إنهم ذهبوا مذهبا غريبا عجيبا: وهو أن هذه
الصفة الموجبة للمخالفة غير معلومة، ولا مجهولة ولا موجودة ولا معدومة، وهذا الكلام
غير معقول في غاية السفسطة إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الشيخ أبي
الحسن الأشعري أن ذاته تعالى مخالف لسائر الذوات، والمخالفة بينه وبيننا لذاته
المخصوص، لا لأمر زائد عليه، وهكذا ذهب إلى أن المخالفة بين كل موجودين من
الموجودات إنما هو بالذات، وليس بين الحقائق اشتراك إلا في الأسماء والأحكام دون
الأجزاء المقومة، وقال قدماء
ص 172
المتكلمين: ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات في الذاتية والحقيقة وإنما يمتاز عن
سائر الذوات بأحوال أمور أربعة، الوجوب والحياة والعلم التام والقدرة التامة، وأما
عند أبي هاشم، فإنه يمتاز عما عداها من الذوات بحالة خامسة هي الموجبة لهذه الأربعة
تسمى بالإلهية، وهذا مذهب أبي هاشم وهو من المعتزلة إنتهى. أقول لم يفعل الناصب
في هذا الفصل شيئا سوى إظهار أن أبا هاشم من المعتزلة، فنقول: نعم هو من المعتزلة،
ومن الجمهور المخالفين للإمامية في مسألة الإمامة التي هي عمدة ما وقع فيه النزاع
والاختلاف بين الأمة، وما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة
في كل زمان كما ذكره الشهرستاني في الملل والنحل، فهم وأهل السنة في ذلك سواء،
والافتراق في بعض المسائل الذي لا يوجب الكفر، والاسلام لا يدفع المساواة حقيقة
فتأمل (1) على أنه يجوز أن يكون مراد المصنف من قوله أتباعه، أي أتباع أبي هاشم في
هذه المسألة سائر المثبتين للحال، ومنهم القاضي أبو بكر الباقلاني (2) وأبو المعالي
الجويني (3) من الأشاعرة فإن ظاهر كلام شارح المواقف حيث أشار إلى القول بالمخالفة
بقوله: وإليه ذهب نفاة الأحوال الخ يدل على أن سائر المثبتين قائلون بالمماثلة،
فقد شارك بعض الأشاعرة مع المعتزلة في هذه المسألة أيضا تدبر. قال المصنف رفع الله
درجته :
المبحث الثالث في أنه تعالى ليس بجسم، 
أطبق العقلاء على ذلك إلا أهل
(هامش)
(1) تدقيقي. (2) هو المحقق الشيخ أبو بكر محمد بن طيب القاضي الباقلاني الأشعري من
مشاهير علماء الجمهور توفي سنة 403 ببغداد وقبره بها. (3) هو إمام الحرمين الجويني
الذي مرت ترجمت منا سابقا. (*)
ص 173
الظاهر كداود (1) والحنابلة كلهم فإنهم قالوا إن الله تعالى جسم يجلس على العرش
ويفضل عنه من كل جانب ستة أشبار بشبره، وأنه ينزل في كل ليلة جمعة على حمار وينادي
إلى الصباح هل من تائب هل من مستغفر (2)؟ وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها، والسبب
في ذلك قلة تميزهم وعدم تفطنهم بالمناقضات التي تلزمهم وإنكار الضروريات التي تبطل
مقالتهم، فإن الضرورة قاضية بأن كل جسم لا ينفك عن الحركة والسكون، وقد ثبت في علم
الكلام إنهما حادثان، والضرورة قاضية بأن من لا ينفك عن المحدث فإنه يكون محدثا
فيلزم حدوث الله تعالى، والضرورة قاضية بأن كل محدث مفتقر إلى محدث، فيكون واجب
الوجود مفتقرا إلى مؤثر، ويكون ممكنا فلا يكون واجبا وقد فرض واجبا (هذا خلف) وقد
تمادى [خ ل تمارى] أكثرهم فقال: إنه تعالى يجوز عليه المصافحة، وأن المخلصين في
الدنيا يعانقونه (3) في الدنيا، وقال داود: إعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما
وراء ذلك، وقال: إن معبوده جسم ذو لحم ودم وجوارح وأعضاء (4) وإنه بكى على طوفان
نوح حتى رمدت عيناه وعادته
(هامش)
(1) هو داود بن علي الإصبهاني إمام الظاهرية ومثله في المصير إلى جواز تجسمه تعالى
ورؤيته داود الجواربي الذي أثبت الأعضاء والحركة والسكون له تعالى، وكان يقول:
سلوني عن شرح سائر أعضائه تعالى ما عدى شرح فرجه ولحيته، هكذا في رسالة اعتقادات
المسلمين للفخر الدين الرازي وغيرها. (2) وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام أن الله
تعالى يبعث ملكا ينادي ليلة الجمعة: هل من تائب وهل من مستغفر؟ من دون أن ينجسم
تعالى شأنه. (3) إن لم يكن من قبيل هذا الأشخاص لبقي دين محمد (ص) على الطريق
النازل من عند الله. (4) قال صاحب المواقف أنهم قالوا: إنه تعالى مركب من لحم ودم
وقال الغزالي ولقد بعد عن التوفيق من صنف كتابا في جمع الأخبار المشتملة على
المتشابهات فقال باب (*)
ص 174
الملائكة لما اشتكت عيناه، فلينصف العاقل المقلد من نفسه هل يجوز له تقليد مثل
هؤلاء؟ وهل للعقل مجال في تصديقهم في هذه المقالات الردية والاعتقادات الفاسدة؟ وهل
تثق النفس بإصابة هؤلاء في شيئ ألبتة؟! إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: ما
ذره من مذهب المشبهة والمجسمة وهم على الباطل، وليسوا من الأشاعرة وأهل السنة
والجماعة، وأما ما نسبه إلى الحنابلة فهو افتراء عليهم، (1) فإن مذهب الإمام أحمد
بن حنبل في المتشابهات ترك التأويل، وتوكيل العلم إلى الله تعالى، ولأهل السنة
والجماعة هيهنا طريقان: أحدهما ترك التأويل وهو ما اختاره أحمد بن حنبل، وتوكيل
العلم إلى الله تعالى كما قال الله تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من
عند ربنا (2)، فهؤلاء يتركون آيات التشبيه على ظواهرها مع نفي الكيفية والنقص عن
ذاته وصفاته تعالى، لا أنهم يقولون بالجسمية المشاركة للأجسام كما ذهب إليه
المشبهة، فلم لا يجوز تقليد هؤلاء وأي فساد يلزم من هذا الطريق؟ مع أن نص القرآن
يوافقهم في توكيل العلم إلى الله تعالى، وما ذكره من الطامات والترهات فليس من مذهب
أهل الحق، والرجل معتاد بالطامات إنتهى.
(هامش)
في إثبات الرأس وباب في إثبات اليد وباب في إثبات العين إلى غير ذلك إنتهى ولا
ريب أن هذا المصنف من أهل السنة لا من المعتزلة ولا الإمامية منه. (1) كيف يتجرء
الرجل في الدفاع عن الحنابلة بالكذب أو لا ينظر إلى كتب ابن تيمية وكتب الشيخ عبد
القادر الجيلاني الحنبلي الصوفي الشهير. (2) آل عمران. الآية 7. (*)
ص 175
أقول: قد نسب في المواقف القول بالجسمية إلى مقاتل (1) بن سليمان والكرامية وغيرهم،
وسيعترف الناصب بهذا فيما سيجئ من مسألة عدم كونه تعالى في جهة، ولا ريب في أن
الكرامية ومقاتل من أهل السنة وقد صرح الشهرستاني في كتاب الملل والنحل: أن مضر
(2)، وكهمس (3)، وأحمد الهجيمي (4) وغيرهم من أهل السنة قالوا: معبودهم صورة ذات
أعضاء وأبعاض الخ ثم قال: وأما مشبهة الحشوية (5) من أصحاب الحديث فحكى الأشعري
عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر وكهمس وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا على ربهم
الملامسة
(هامش)
(1) هو مقاتل بن سليمان بن زيد الرازي الخراساني البلخي القارئ المفسر الراوي
العامي كان من أصحاب الباقرين عليهما السلام وله تفسير كبير ينقل عنه في كتب
التفسير ونواسخ القرآن وغيرهما توفي سنة 150 والشافعي كان يقول الناس في التفسير
مرتزقة مقاتل. (2) هو مضر بن محمد بن عبيد صاحب الغرائب والعجائب في مروياته ضعفه
الدارقطني وغيره وله مقالات منكرة وكذا سميه مضر بن نوح السلمي. (3) هو كهمس بن
منهال أبو عثمان السدوسي البصري اللؤلؤي الراوي عن ابن عروبة (4) هو أحمد بن عطاء
الهجيمي البصري القدري المشهور. (5) اختلف في الحشوية فقيل بإسكان الشين لأن منهم
المجسمة والمجسمة محشوة، والمشهور أنه بفتحها نسبة إلى الحشاء لأنهم كانوا يجلسون
أمام الحسن البصري في حلقته فوجد في كلامهم رويا فقال: رووا هؤلاء حشاء الحلقه
أي جانبها والجانب يسمى حشاءا ومنه الأحشاء لجوانب البطن كذا في شرح منهاج الأصول
للأسنوي المصري منه قده . أقول: كلمة رويا اسمية وقعت مفعولة لقوله وجد.
والمراد أن الحسن رآى قوما في حلقته يستندون في كل شيئ من العقليات والسمعيات
برواية رويت ولو لم تكن واجدة لشرائط الصحة. (*)