الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 176

والمصافحة والمعانقة في الدنيا والآخرة الخ ولا ريب أن أصحاب الحديث إنما يطلق عندهم على سلف أهل السنة، ويعلم من كلام صاحب الملل في موضع آخر: أن الحنابلة مشاركون معهم في بعض التشبيهات فإنكار الناصب بارد، وأما ما ذكره من أن مذهب أحمد بن حنبل ليس كذلك، ففيه أنه كذلك، بشهادة إمامهم فخر الدين الرازي حيث قال في رسالته المعمولة لتفضيل مذهب الشافعي: إن أحمد بن حنبل كان في نهاية الانكار للمتكلمين في التنزيه ولما كان في غاية المحبة للشافعي ادعت المشبهة أنه كان على مذهبهم إنتهى ولو سلم براءة أحمد عن التشبيه، فنقول: إن المصنف لم يقل: إن أحمد بن حنبل قال بالتشبيه وإنما نسب ذلك إلى الحنابلة، وكون الحنابلة قائلين بشيئ لا يستلزم كون إمامهم قائلا به حتى يلزم من عدم كون أحمد قائلا بالتشبيه أن تكون نسبة التشبيه إلى أصحابه كلا أو بعضا افتراء كما زعمه الناصب، ألا ترى أن الشيخ الأشعري قائل بأن وجود كل شيئ عين ذاته؟ مع أن الأشاعرة بأجمعهم مخالفون له في هذا كما صرح به الشارح الجديد للتجريد في أوائل كتابه، وكذا أصحاب أبي حنيفة قد خالفوه في كثير من المسائل الفروعية (1) حتى أن الفتوى قد تقرر بينهم على ما خالفوه فيه (2) ثم لا يخفى أن الناصب لم يذكر الطريق الثاني لأهل السنة، ولعله تفطن بأن فيه ما لا يمكنه التفصي عنه وهذا في قوة الاعتراف بما ذكره المصنف، فيكون ما ذكره الناصب

(هامش)

(1) وإذا شئت الاطلاع على ذلك فراجع كتب الحنفية كفقه القدوري والمبسوط للسرخسي، وفتاوى قاضي خان، والفتاوى العالمكيريه، والفتاوى التاتارخانيه، فمن سبر فيها عرف أنهم خالفوا إمامهم في مسائل كثيرة. (2) ومن ذلك اتفاقهم على عدم استحباب غمض إحدى العينين في السجود وعدم لحوق الولد بالزوج لو لم تكن الزوجة مدخولة مع أن فتوى إمامهم على خلاف ذلك في الموضعين (ج 11)

ص 177

تطويلا بلا طائل، وإطلاق إنما يليق بكلام مثله الذي لا يؤدي إلى طائل (1) ولا يرجع إلى حاصل كما لا يخفى. قال المصنف رفع الله درجته:

المبحث الرابع في أنه تعالى ليس في جهة

العقلاء كافة على ذلك خلافا للكرامية حيث قالوا: إنه تعالى في جهة الفوق، ولم يعلموا أن الضرورة قضت بأن كل ما هو في جهة: فأما أن يكون لابثا فيها أو متحركا عنها، فهو إذن لا ينفك عن الحوادث، وكل ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث على ما تقدم إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول: هذا القول من الكرامية: لأنهم من جملة من يقول: إنه جسم ولكن قالوا: غرضنا من الجسم أنه موجود، لا أنه متصف بصفات الأجسام فعلى هذا لا نزاع معهم إلا في التسمية، ومأخذها التوقيف، ولا توقيف هيهنا، وكونه تعالى في جهة الفوق على وجه الجسمية باطل بلا خلاف، لكن جرت العادة في الدعاء بالتوجه إلى جهة الفوق، وذلك لأن البركات الإلهية إنما تنزل من السماء إلى الأرض وقد جاء في الحديث: إن امرأة بكماء (2) أتي بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من إلهك؟، فأشارت إلى السماء، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانها، وذلك لجريان العادة بالتوجه إلى السماء عند ذكر إلا له، وهذا يمكن أن يكون مبنيا على إرادة العلو والتفوق فيعبرون عن العلو العقلي بالعلو الحسي، فإن أراد الكرامية هذا المعنى فهو صحيح، وإن أرادوا ما يلزم الأجسام

(هامش)

(1) الطائل. الفائدة. (2) رواه في المواقف (ج 2 ص 339 ط مصر). (*)

ص 178

من الكون في الجهة (1) والحيز (2) فهو باطل إنتهى أقول كان الناصب يريد بقوله: هذا القول من الكرامية أنهم ليسوا من أهل السنة وهو مكذوب بما صرح به الشهرستاني في كتاب الملل والنحل رغما للناصب، ثم ما ذكره من أن الكرامية من جملة من يقول: إنه تعالى جسم لا يقتضي توجه اعتراض المصنف إليهم، بل يقتضي أن يكون هناك جماعة أخرى قائلون: بأنه تعالى حقيقة الجسم، وقد صرح بوجودهم، وأنهم مقاتل بن سليمان وغيره صاحب المواقف فليكن اعتراض المصنف متوجها إليهم، وبهذا يظهر أن قول الناصب: وكونه تعالى في جهة الفوق على وجه الجسمية باطل بلا خلاف خلف باطل، وأما ما ذكره من الترديد فمردود بأن الكرامية أرادوا ما يلزم الجسمية رغما لأنفهم وأنف من (3) يتصدى لإصلاح كلامهم، قال صاحب الملل والنحل: نص أبو عبد الله محمد بن كرام على أن لمعبوده على العرش استقرارا، وعلى أنه بجهة فوق ذاتا، وأطلق عليه اسم الجوهر، وقال في كتابه المسمى بعذاب القبر: إنه أحدي الذات أحدي الجواهر، وإنه مماس للعرش من الصفحة العليا، ويجوز عليه الانتقال والتحول والنزول، ومنهم من قال: إنه على بعض أجزاء العرش، وقال بعضهم: امتلأ العرش به إلى غير ذلك من الخرافات التي نسج الناصب على

(هامش)

(1) الجهة مثلثة الجيم جمعها الجهات مثلثة أيضا. الجانب والناحية. (2) الحيز والحيز. المكان. (3) كالفضل بن روزبهان الناصب ومن يحذو حذوه، ويقفو أثره، من المتأخرين كالشيخ محمد زاهد الكوثري، والشيخ محمد بهجت البيطار الدمشقي، والسيد محمود شكري الآلوسي، والقصيمي، وجمال الدين القاسمي الدمشقي وغيرهم من أعلام القوم. (*)

ص 179

أسلوبها في هذا الكتاب ثم مما يجب أن ينبه عليه أنه خان في نقل الحديث المذكور، فإن الحديث على ما ذكر في المواقف قد وقع السؤال فيه بأين الله، لا بمن إلهك لايق: إنه نقل للحديث بالمعنى وهو جايز، لأنا نقول: اتحاد المعنى ممنوع لأن أين. سؤال عن المكان، ومن سؤال عن المهية، ولأن الإله شامل للمعبود بالحق والباطل، والله اسم خاص بذاته تعالى لم يطلق على غيره لا في الجاهلية ولا في الإسلام كما صرحوا به تأمل. قال المصنف رفعه الله:

المبحث الخامس في أنه تعالى لا يتحد بغيره

الضرورة قاضية ببطلان الاتحاد، فإنه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئا واحدا، وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور، فحكموا بأنه تعالى يتحد بأبدان العارفين حتى تمادى بعضهم وقال إنه تعالى نفس الوجود وكل موجود هو الله تعالى: وهذا عين الكفر والالحاد والحمد لله الذي فضلنا باتباع أهل البيت دون اتباع أهل الأهواء الباطلة (1) إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة: أنه تعالى لا يتحد بغيره لامتناع اتحاد الاثنين وأما ما نسبه إلى الصوفية من القول بالاتحاد، فإن أراد بهم محققي الصوفية كأبي يزيد البسطامي (2) وسهل بن عبد الله التستري (3) وأبي القاسم الجنيدي

(هامش)

(1) فما أنسب بهذا المقام أن يقال يا أهل بيت رسول الله (ص) بكم علمنا الله معالم ديننا وأصلح ما فسد من أمر دنيانا من اتبعكم فالجنة مأواه ومن خالفكم فالنار مثواه هدى من اعتصم بكم وضل من فارقكم. (2) هو أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي العارف الشهير توفي سنة 180 وكونه من أصحاب الصادق مما يكذبه التاريخ. (3) هو سهل بن عبد الله بن يونس التستري أبو محمد العارف المعروف المتوفى (*)

ص 180

البغدادي (1) والشيخ السهروردي، فهذا نسبة باطلة وافتراء محض، وحاشاهم عن ذلك، بل صرحوا كلهم في عقائدهم ببطلان الاتحاد، فإنه مناف للعقل والشرع، بل هم أهل محض التوحيد، وحقيقة الإسلام ناشئة من أقوالهم ظاهرة على أعمالهم وعقائدهم، وهم أهل التوحيد والتمجيد، وفي الحقيقة هم الفرقة الناجية، ولهم في مصطلحاتهم عبارات تقصر عنه أفهام غيرهم، وفي اصطلاحاتهم البقاء والفناء، والمراد من الفناء محو العبد صفاته، وهويته التعينية بكثرة الرياضات والاصطلام من الوارد الحق، و البقاء هو تجلي الربوبية على العبد بعد السلوك والمقامات فيبقى العبد بربه، وهذه أحوال لا يطلع عليها إلا أربابها، ومن سمع شيئا من مقالاتهم ولم يفهم إرادتهم من تلك الكلمات حمل كلامهم على الاتحاد والحلول، عصمنا الله عن الوقيعة في أوليائه، فقد ورد في الحديث الصحيح القدسي من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (2) وأما ما نقل عنهم إنهم يقولون:

(هامش)

سنة 273 وقيل 283 له كتاب تفسير القرآن على مشرب الصوفية التأويلية وإليه تنتهي طريقة عدة من العرفاء. (1) هو جنيد بن محمد البغدادي الخزاز النهاوندي الأصل المتوفى سنة 298 وقيل سنة 297 وإليه تنتهي عدة من سلاسل الصوفية بين العامة. (2) في كنز العمال (الجزء 1 ط حيدرآباد ص 204) عن أبي أمامة: أن الله تعالى يقول: من أهان لي وليا فقد بارزني بالعداوة الحديث. وأيضا عن أنس، قال الله تعالى: من أخاف لي وليا فقد بارزني بالمحاربة الحديث. وفي ص 205 عن عايشة: قال الله تعالى: من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي الحديث. وفي ص 206 عن أنس، يقول الله تعالى: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة. وفي ص 207 عن ابن عباس يقول الله تبارك وتعالى من عادى لي وليا فقد ناصبني بالمحاربة. الحديث. (*)

ص 181

إنه تعالى نفس الوجود، فهذه مسألة دقيقة لا تصل حوم فهمها أذهان مثل هذا الرجل وجملتها أنهم يقولون: لا موجود إلا الله ويريدون به أن الوجود الحقيقي لله تعالى، لأنه من ذاته لا من غيره، فهو الموجود في الحقيقة، وكل ما كان موجودا غيره فوجوده من الله تعالى وهو في حد ذاته لا موجود ولا معدوم، لأنه ممكن وكل ممكن فإن نسبة الوجود والعدم إليه على السواء، فوجوده من الله تعالى، فهو موجود بوجود ظلي هو من ظلال الوجود الحقيقي، فالموجود حقيقة هو الله تعالى، وهذا عين التوحيد وكمال التفريد فمن نسبهم مع فهمه هذه العقيدة إلى الكفر، فهو الكافر، لأنه كفر مسلما بجهة إسلامه إنتهى . أقول: قد ردد الناصب المردود بقوله: فإن أراد محققي الصوفية كأبي يزيد البسطامي الخ ولم يذكر عديله، وهو أن يراد غير محققي الصوفية، وظاهر أن تشنيع المصنف مخصوص بهم، وهم الذين يعتقدهم المصنف من صوفية الجمهور، دون أبي يزيد والجنيد وأشباههم، فإنهم من الشيعة الخالصة كما حققنا ذلك في كتاب مجالس المؤمنين، قال سيد المتألهين حيدر بن علي العبيدلي الآملي (1) قدس سره في كتابه المسمى بجامع الأسرار ومنبع الأنوار: من شاهد الحق في مظاهره، وشاهد نفسه معها بأنه من جملتها حكم باتحاده بالحق مع بقاء الاثنينية والغيرية، وصار اتحاديا ملعونا نجسا، وهو مذهب للنصارى وبعض الصوفية لعنهم الله، لكن الصوفية الحقة ما يقولون بالاتحاد: وإن قالوا ما قالوا كذلك، فإنهم يقولون: نحن إذا نفينا وجود الغير مطلقا لسنا إلا قائلين بوجود واحد، فكيف

(هامش)

(1) هو السيد حيدر بن علي الآملي العبيد لي الفقيه المحدث العارف الشيعي المحقق المتوفى في حدود (سنة 800) له كتب منها كتاب الكشكول فيما جرى على آل الرسول (ص) حسن جدا، وكتاب جامع الأسرار وغيرهما والعبيدلي نسبة إلى عبيد الله الأعرج ابن الحسين الأصغر ابن الإمام سيد الساجدين ع . (*)

ص 182

نقول بالاتحاد والحلول وأنهما مبنيان على الاثنينية والكثرة وغير ذلك إنتهى وبالجملة هيهنا جماعة من المتصوفة القائلين بالاتحاد والحلول كما ذكره المصنف قدس سره، وقد وقع التصريح بذلك أيضا في المواقف وشرحه، حيث قال: المخالف في هذين الأصلين يعني عدم الاتحاد وعدم الحلول طوائف ثلاث، الأولى النصارى وضبط مذهبهم إلى أن قال، الثالثة بعض المتصوفة وكلامهم مخبط بين الحلول والاتحاد، والضبط ما ذكرناه في قول النصارى، والكل باطل، ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره ويقول: لا حلول ولا اتحاد، إذ كل ذلك يشعر بالغيرية ونحن لا نقول بها: بل نقول ليس في الدار غيره ديار: وهذا العذر أشد قبحا وبطلانا من ذلك الجرم، إذ يلزم تلك المخالطة التي لا يجترء على القول بها عاقل ولا مميز له أدنى تمييز إنتهى وقد ظهر بهذا أيضا أنه ليس منشأ ما ذكره المصنف عدم اطلاعه على مصطلحات الصوفية الحقة، كيف وقد حقق في مصنفاته موافقا لغيره من المتألهين أن الوجود حقيقة الله تعالى ووجودات الممكنات إنما هي انتسابها إليه، فيقولون: قولنا زيد موجود بمنزلة قولنا ماء مشمس، وأما ما قيل: إن الكلي الطبيعي موجود عند الصوفية وغيرهم من محققي الحكماء والمتكلمين، والوجود المطلق الكلي عين الواجب عندهم، والممكنات المشاهدة تعينات له فلا استبعاد في القول بوحدة الوجود، فمستبعد من وجهين في نظر العقل: أحدهما حصول الموجودات الكثيرة بسبب عروض التعينات والاعتبارات لحقيقة واحدة موجودة، وثانيهما انتفاء الحقائق المختلفة الموجودة في نفس الأمر، ووجود الكلي الطبيعي لو سلم إنما يفيد في دفع الاستبعاد الأول دون الثاني تأمل وأما ما ذكره الناصب في تحقيق وحدة الوجود: من أن نسبة الوجود والعدم إلى الممكن على السواء، فهو مما يقوله (1) الظاهريون من المتكلمين أيضا، ولا يلزم من ذلك ما فرعه الناصب

(هامش)

(1) قائله الفاضل الخرآبادي في حاشية الدرة الفاخرة. (*)

ص 183

عليه من أن لا يكون للممكن وجود حقيقي، وإلا لزم أن يكون كل أمر استفاد شيئا من غيره غير متصف حقيقة بذلك الشيئ، فيلزم أن لا تكون النارية الحاصلة في الأجزاء الدخانية الشهابية الصاعدة إلى كرة النار نارا حقيقة، لاستواء تلك الأجزاء إلى وجود النارية وعدمها فتدبر. قال المصنف رفع الله درجته:

المبحث السادس في أنه تعالى لا يحل في غيره،

من المعلوم القطعي أن الحال مفتقر إلى المحل، والضرورة قضت بأن كل مفتقر إلى الغير ممكن، فلو كان الله تعالى حالا في غيره لزم إمكانه فلا يكون واجبا (هذا خلف) وخالفت الصوفية من الجمهور في ذلك، وجوزوا عليه الحلول في أبدان العارفين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فانظر إلى هؤلاء المشايخ الذين يتبركون بمشاهدهم (بمشاهدتهم خ ل) كيف اعتقادهم في ربهم وتجويزهم عليه، تارة الحلول وأخرى الاتحاد، وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء (1) وقد عاب الله تعالى على الجاهلية الكفار في ذلك، فقال الله تعالى عز

(هامش)

(1) وشيوع هذه المناكير محسوس لمن شاهد حلقات الصوفية القادرية والرفاعية والبدوية والمولوية والشاذلية والجلالية، وإن شئت الاطلاع على ذلك من قريب فراجع كتاب بديع الزمان الخراساني في ترجمة المولوي صاحب المثنوي فترى فيه الصور الفوترغرافية المتخذة من مجالس الصوفية في قونية وغيرها ورأيت عدة نوادي لهم تنشد فيها هذه الأبيات وقائلها الشيخ أبو الحسن علي الشاذلي قطب السلسلة الشاذلية المتوفى ستة 828 وهي هذه. من ذاق طعم شراب القوم يدريه * ومن دراه غدا بالروح يشريه ولو تعرض أرواحا وجاد بها * في كل طرفة عين لا يساويه وذو الصبابة لو يسقي على عدد الأنفا * س والكون كاسأ ليس يرويه، إلى آخرها وعندي أن مصيبة الصوفية على الإسلام من أعظم المصائب تهدمت بها أركانه وانثلمت (*)

ص 184

(هامش)

بنيانه، وظهر لي بعد الفحص الأكيد والتجول في مضامير كلماتهم والوقوف على ما في خبايا مطالبهم والعثور على مخبياتهم بعد الاجتماع برؤساء فرقهم إن الداء سرى إلى الدين من رهبة النصارى فتلقاه جمع من العامة كالحسن البصري والشبلي ومعروف وطاوس والزهري وجنيد ونحوهم ثم سرى منهم إلى الشيعة حتى رقى شأنهم وعلت راياتهم بحيث ما أبقوا حجرا على حجر من أساس الدين، أولوا نصوص الكتاب والسنة وخالفوا الأحكام الفطرية العقلية، والتزموا بوحدة الوجود بل الموجود، وأخذ الوجهة في العبادة والمداومة على الأوراد المشحونة بالكفر والأباطيل التي لفقتها رؤسائهم! والتزامهم بما يسمونه بالذكر الخفي القلبي شارعا من يمين القلب خاتما بيساره معبرا عنه بالسفر من الحق إلى الخلق تارة، والتنزل من القوس الصعودي إلى النزولي أخرى وبالعكس معبرا عنه بالسفر من الخلق إلى الحق والعروج من القوس النزولي إلى الصعودي أخرى فيا لله من هذه الطامات، فأسروا ترهاتهم إلى الفقه أيضا في مبحث النية وغيره ورأيت بعض مرشديهم يتلو أشعار المغربي العارف من ديوانه ويبكي ويعتني به كالاعتناء بآيات الكتاب الكريم فتعسا لقوم تركوا القرآن الشريف وأدعية الصحيفة الكاملة زبور آل محمد ص وكلمات موالينا وساداتنا الأئمة عليهم السلام، واشتغلوا بأمثال ما أو مأنا إليها، ورأيت بعض من كان يدعي الفضل منهم يجعل بضاعة ترويج مسلكه أمثال ما يعزي إليهم عليهم السلام (لنا مع الله حالات فيها هو نحن ونحن هو) وما درى المسكين في العلم والتتبع والتثبت والضبط أن كتاب مصباح الشريعة وما يشبهه من الكتب المودعة فيها أمثال هذه المناكير مما لفقتها أيادي المتصوفة في الأعصار السالفة وأبقتها لنا تراثا. وخلاصة الكلام أنه آل أمر الصوفية إلى حد صرفوا المحصلين عن العلم بقولهم: إن العلم حجاب وأن بنظرة من القطب الكامل يصير الشقي سعيدا بل وليا وبنفحة في وجه المسترشد والمريد أو تفلة في فمه تطيعه الأفاعي والعقارب الضارية وتنحل تحت أمره قوانين الطبيعة ونواميس نشأة الكون والفساد، وأن الولاية مقام لا ينافيها ارتكاب الكبائر بل الكفر والزندقة معللين بأنه لا محرم ولا واجب بعد الوصول والشهود، ثم إن شيوع التصوف وبناء الخانقاهات كان في القرن الرابع حيث إن بعض المرشدين (*)

ص 185

من قائل: وما كان صلوتهم عند البيت إلا مكاءا وتصدية (1) وأي تغفل أبلغ من تغفل

(هامش)

من أهل ذلك القرن لما رأوا تفنن المتكلمين في العقائد، فاقتبسوا من فلسفة فيثاغورس وتابعيه في الإلهيات قواعد وانتزعوا من لاهوتيات أهل الكتاب والوثنيين جملا وألبسوها لباسا إسلاميا فجعلوها علما مخصوصا ميزوه باسم علم التصوف أو الحقيقة أو الباطن أو الفقر أو الفناء أو الكشف والشهود وألفوا وصنفوا في ذلك كتبا ورسائل، وكان الأمر كذلك إلى أن حل القرن الخامس وما يليه من القرون فقام بعض الدهاة في التصوف فرأوا مجالا ورحبا وسيعا لأن يحوزوا بين الجهال مقاما شامخا كمقام النبوة بل الألوهية باسم الولاية والغوثية والقطبية بدعوى التصرف في الملكوت بالقوة القدسية فكيف بالناسوت، فوسعوا فلسفة التصوف بمقالات مبنية على مزخرف التأويلات والكشف الخيالي والأحلام والأوهام، فألفوا الكتب المتظافرة الكثيرة ككتاب التعرف، والدلالة، والفصوص، وشروحه، والنفحات، والرشحات، والمكاشفات، والإنسان الكامل، والعوارف، والمعارف، والتأويلات ونحوها من الزبر والأسفار المحشوة بحكايات مكذوبة، وقضايا لا مفهوم لها البتة، حتى ولا في مخيلة قائليها كما أن قارئيها أو سامعيها لا يتصورون لها معنى مطلقا وإن كان بعضهم يتظاهر بحالة الفهم ويقول بأن للقوم اصطلاحات، لا تدرك إلا بالذوق الذي لا يعرفه إلا من شرب من شرابهم وسكر من دنهم وراحهم فلما راج متاعهم وذاع ذكرهم وراق سوقهم تشعبوا فرقا وشعوبا وأغفلوا العوام والسفلة بالحديث الموضوع المفترى (الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق) وجعل كل فرقة منهم لتمييزها عن غيرها علائم ومميزات بعد اشتراك الجميع في فتل الشوارب وأخذ الوجهة والتجمع في حلقات الأذكار عاملهم الله وجزاهم بما فعلوا في الإسلام. وأعتذر من إخواني الناظرين عن إطالة الكلام حيث إنها نفثة مصدور وتنفس صعداء وشقشقة هدرت غصص وآلام وأحزان بدرت، عصمنا الله وإياكم من تسويلات نسجة العرفان وحيكة الفلسفة والتصوف وجعلنا وإياكم ممن أناخ المطية بأبواب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعرف سواهم آمين آمين. (1) الأنفال. الآية 35. (*)

ص 186

من يتبرك بمن يتعبد الله بما عاب به الكفار، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (1)، ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسين صلوات الله عليه، وقد صلوا المغرب سوى شخص واحد منهم كان جالسا لم يصل، ثم صلوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص، فقال: وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل، أيجوز أن يجعل بينه وبين الله تعالى حجابا؟ فقلت لا، فقال: الصلاة حاجب بين العبد والرب، فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء وعقائدهم في الله تعالى كما تقدم، وعبادتهم ما سبق واعتذارهم في ترك الصلاة بما مر، ومع ذلك فإنهم عندهم الأبدال فهؤلاء هم أجهل الجهلاء [خ ل الجهال] إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول مذهب الأشاعرة أنه تعالى لا يجوز أن يحل في غيره، وذلك لأن الحلول هو الحصول على سبيل التبعية، وأنه ينفي الوجوب الذاتي، وأيضا لو استغنى عن المحل بذاته لم يحل فيه، وإلا احتاج إليه لذاته، ولزم حينئذ قدم المحل فيلزم محالان معا. (2) وأما ما ذكر: أن الجمهور من الصوفية جوزوا عليه الحلول فقد ذكرنا في الفصل السابق أنه إن أراد بهذه الصوفية مشايخنا المحققين فإن اعتقاداتهم مشهورة، ومن أراد الاطلاع على حقائق عقائدهم فليطالع الكتب التي وضعوها لبيان الاعتقادات، كالعقائد المنسوبة إلى سهل بن عبد الله التستري (3)، وكاعتقادات

(هامش)

(1) الحج. الآية 46. (2) وهما قدم المحل الحادث وحدوث الحال القديم. (3) هو أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس التستري، من أكابر الصوفية ورؤساء بعض سلاسلهم توفي سنة 273 وقيل 283 في بلدة بصرة، وله كلمات وأوراد لدى القوم (*)

ص 187

الشيخ أبي عبد الله محمد بن الحفيف المشهور بالشيخ الكبير (1)، وكاعتقادات الشيخ حارث بن الأسد المحاسبي (2) وكالتعرف للكلاباذي (3)، والرسالة للقشيري (4)

(هامش)

تحكى في نواديهم وتذكر في كتبهم ولسهل تآليف وتصانيف منها كتاب تفسير القرآن على مذاق الصوفية والعرفاء. (1) هو أبو الحسين أو أبو عبد الله محمد بن حفيف بن اسفكشاد الشيرازي العارف الشهير الذي يذكر اسمه في سلاسل الصوفية قال السبكي في الطبقات من الجزء الثاني ص 151 إنه حدث عن حماد بن مدرك والنعمان بن أحمد الواسطي ومحمد بن جعفر التمار وصحب رويما والجزري وطاهر المقدسي وغيرهم إلى آخر ما قال توفي بشيراز في الليلة الثالثة من رمضان سنة 371 ومن كلماته التقوى مجانبة ما يبعدك من الله والتوكل الاكتفاء بضمانه، وإسقاط التهمة عن قضائه إلى غير ذلك. (2) هو الحارث بن أسد أبو عبد الله المحاسبي البغدادي الصوفي الشهير المبغض للشيعة روى عنه الجنيد وغيره، مات سنة 243 كما في خلاصة الخزرجي ص 57 وللمحاسبي تصانيف كثيرة في التصوف والرد على المعتزلة. (3) هو أبو نصر أحمد بن محمد بن الحسين البخاري الكلاباذي المحدث الحافظ الصوفي المتوفى سنة 307 له تآليف كثيرة في الرجال والحديث والتصوف فمن آثاره رجال البخاري ورجال مسلم وكتاب التعرف في علم التصوف، ونقل الذهبي بسنده المنتهي إلى الكلاباذي بسنده إلى الأوزاعي ففيه الشام أنه قال: لبس الصوف في السفر سنة وفي الحضر بدعة فراجع التذكرة للذهبي ص 216 من الجزء الثالث، وروى الكلاباذي عن جماعة منهم علي بن المحتاج وسمع عن الكلاباذي وروى محمد بن جعفر المستغفري ثم الكلاباذي نسبة إلى (كلاباذ) محلة من بخارى. (4) هو الشيخ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري النيشابوري المتوفى سنة 465 من أكابر الصوفية وأعاظمهم الدائر السائر اسمه في ألسنة القوم وكتبهم، وكان شديد التعصب في الأشعرية وله ردود ومقالات في الرد على المعتزلة، ومن كتبه (*)

ص 188

وكالعقائد للشيخ ضياء الدين أبي النجيب السهروردي (1) وكعوارف المعارف للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي، (2) لتظهر عليه عقائدهم المطابقة للكتاب والسنة، وما بالغوا فيه من نفي الحلول والاتحاد، وأما ما ذكره

(هامش)

الرسالة القشيرية المعروفة في التصوف، وكتاب تفسير القرآن، وكتاب الدلالة والإشارة في التصوف، ومن تدبر في آثاره رأى فيها الحالة الروحية لابن الفارض، وله شعر كلها على مذاق القوم فمنه قوله: ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة * فإني من ليلى لها غير ذائق وأكثر شيئ نلته من وصالها * أماني لم تصدق كخطفة بارق وروى عنه الخطيب البغدادي صاحب التاريخ وهو عن أبي علي الدقاق أبي حليلته ثم القشيري نسبة إلى جده قشير كزبير ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بطن من هوازن يعرفون بال قشير نص على ذلك علماء النسب. (1) هو الشيخ أبو النجيب ضياء الدين عبد القادر بن عبد الله السهروردي الصديقي العارف الصوفي المشهور المتوفى سنة 563 وإليه تنتهي السلسلة السهروردية من الصوفية له تآليف وآثار منها كتاب آداب المريدين وقبره ببلدة بغداد. (2) هو الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن محمد القرشي السهروردي البغدادي المتوفى سنة 623 ببغداد وقبره بمقبرة الوردية من مقابر بغداد وكان من كبار الصوفية ورؤساء سلاسلهم أخذ التصوف عن عمه نجيب الدين وعن غيره وله شعر رائق فمنه ما انشده ارتجالا: لا تسقني وحدي فما عودتني * إني أشح بها على جلاسي أنت الكريم ولا يليق تكرما * أن يعبر الندماء دور الكاس وتآليفه كثيرة وأكثرها في التصوف منها عوارف المعارف ومنها أعلام الهدى وعقيدة أهل التقى وغيرهما وله عقب إلى الآن منهم الفضلاء والتجار والعرفاء وقد لقيت بعض الأفاضل من أولاده ببغداد وآخر في بلاد العجم إنتهى . (*)

ص 189

من أن عبادتهم الرقص والتصفيق، فوالله إنه أراد أن يفضح، فافتضح، فإذا لم يكن المشايخ الصوفية من أهل العبادات مع جهدهم في العبادة وتعمير الأوقات بوظائف الطاعات وترك اللذات والأعراض عن المشتهيات، فمن هو قادر على أن يعد نفسه من أهل الطاعات بالنسبة إليهم؟ نعم هذا الرجل الطاماتي الذي يصنف الكتاب، ويرد على أهل الحق، ويبالغ في إنكار العلماء والأولياء طلبا لرضى السلطان محمد خدا بنده ليعطيه إدرارا ويفيض عليه مدرارا، فله أن لا يستحسن عبادة المشايخ المعرضين عن الدنيا الزاهدين عن الشهوات القاطعين بادية الرياضات، كما نقل: أن أبا يزيد البسطامي رضي الله عنه ترك شرب الماء سنة تأديبا لنفسه حيث دعته إلى شيئ من اللذات، شاهت وجوه المنكرين، وكلت ألسنتهم وعميت أبصارهم، وأما ما ذكر أن الله تعالى عاب على أهل الجاهلية بالتصدية فما أجهله بالتفسير، وأسباب نزول القرآن وقد ذكر أن طائفة من جهلة قريش كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكاء والتصدية عند البيت ليوسوسوا عليه صلواته، فأنزل الله هذه الآية، وقد أحل الله ورسوله اللهو في مواضع كثيرة، منه الختان والعرس والأملاك وأيام العيد والسماع الذي يعتاده الصوفية مشروط بشرائط كلها من الشرع (1)، ولهم فيها آداب وأحوال لا يعرفها الجاهل فيقع فيهم، ثم ما نقل من قول واحد من القلندرية الفسقة الذين يزورون مشهد مولانا الحسين أيام الموسم والزيارة، جعله مستندا للرد على كبائر المشايخ المحققين المشهورين، فيا للعجب انسل إلى

(هامش)

(1) تبا ثم تبا لهذا الرجل هل المزامير والدفوف والدواري ذوات الحلق ورقص المردان الحسان الوجوه وضرب السكاكين ومضغ الزجاج وفتل الشوارب وحلق اللحي وشرب البنج والأفيون ونحوها من المناكير المنطبقة على كل منها عناوين عديدة من المحرمات التي ردع عنها الشرع الشريف موافقة له؟! أف لقوم كان عالمهم مثل هذا الرجل الناصبي الصوفي المعاند. (*)

ص 190

الناس من كل حدب من حال هذا الرجل الطاماتي إنه لم ينظر إلى كتاب عوارف المعارف، والرسالة القشيرية ليعرف اهتمام القوم بمحافظة الصلوات ودقائق الآداب الذي لا يشق أحد من الفقهاء من أهل جميع المذاهب غبارهم في رعاية دقائق الآداب والخشوع والاهتمام بحفظها ومحافظتها ليعتقد في كمالاتهم، ويجعل قول قلندر فاسق فسيق (1) سندا في جرحهم وإنكارهم، وهذا غاية التعصب والخروج عن قواعد الإسلام نعوذ بالله من عقائده الفاسدة الكاسدة إنتهى أقول: قد بينا قيبل ذلك أن هيهنا جماعة من المتصوفة القائلين بالحلول، وكلام المصنف فيهم، ويدل عليه من أشعارهم أيضا قولهم شعر أنا من أهوى ومن أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنا (2)*

(هامش)*

(1) فسيق بكسر الفاء كشرير مبالغة من الفسق. (2) ونظيره ما أنشده السيد غلام علي العارف الأديب الهندي البلجرامي المتخلص (ازاد) صاحب كتاب سبحة المرجان في هذا الشأن. قال صوفية من الفقراء * عمدة الصاعدين في الخضراء * إنما الخلق مظهر الباري هو في كل جزئه ساري * أنا ألفيت فيه تمثيلا * للصراط الدقيق تسهيلا أبصروا واحدا من الآحاد * إنه خارج من الأعداد * وهو في كلهن موجود وهو في كلهن مشهود * فكذا الله خالق الأشياء * حاضر في السماء والغبراء وهو رب على الامكان * ليس من جنس هذه الأكوان * الخ وقول الآخر رق الزجاج ورقت الخمر * فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمر وإن شئت الاطلاع بما هنا لك فراجع ديوان الشيخ ابن الفارض سيما قصيدته التائية الشهيرة والقصيدة اليائية التي شرحها الشيخ عبد الغني النابلسي وكتابات قطب الدين ورسائل الشيخ العطار وغيرها.

ص 191

وهكذا الكلام في إنكاره لكون عبادتهم الرقص والتصفيق فإن الكلام في متأخري المتصوفة من النقشبندية (1) وأمثالهم لا في قدماء الصوفية الحقة، (2) ومن يحذو حذوهم فإن حالهم وأقوالهم خال عن الغناء والتصفيق ونحوهما، ولو ذكر بعض المتأخرين منهم ما يدل على عدم إباحة شيئ من ذلك فكذب، أو محمول على التقية من أرباب الحديث والمتصوفة من أهل السنة الذين يبالغون في حل الغناء ونحوه، وأما ما ذكره من أنه إذا لم يكن مشايخ الصوفية من أهل العبادات مع جهدهم في العبادات وتعمير الأوقات بوظائف الطاعات وترك اللذات الخ ففيه أن الطاعة الخالصة، والعبادة المقبولة لا تعرف بمجرد الجهد في العبادات وإقامة الطاعات وترك اللذات، فإن كثيرا من الناس قد يترك الدنيا للدنيا، فيترك اللذات والشهوات لحب الرياسة والشيخوخة، وخدعة الناس بالتلبيس والوسواس، كما أشار إليه العارف عامر البصري (3) في قصيدته التائية بقوله شعر ومنهم أخو الطامات حليف (خ ل جلف) تصوف * ينمس (4) تلبيسا بصمت وخلوة

(هامش)

(1) النقشبندية سلسلة من سلاسل الصوفية، رئيسهم العارف خواجة محمد النقشبند بهاء الدين البخاري المتوفى سنة 791 وقيل 790 وله كتاب دليل العاشقين، كثر مريدوه وتابعوه، وهم إلى الآن كذلك، وكان من مشاهيرهم في هذه الأواخر العارف الشهير الشيخ داود النقشبندي، وكان منهم الشيخ عبد السلام السنندجي الأصل النقشبندي من مشايخنا في رواية صحاحهم. (2) يا ليت شعري كيف يجتمع التصوف مع الحق أهل يجتمع القول بوحدة الوجود والوجهة والبدع في العبادات والأوراد مع الحق، وأرجو من الناظر المنصف أن يقضي بالحق ويسلك مهيع العدل ويأخذ بشرع الانصاف. (3) لعل المراد به عامر بن عبد الله البصري الماجن الأديب النحوي الشاعر. (4) أي يلبس. (*)

ص 192

يقول لقد نلنا بكشف سرائرا * بحالاتنا لا قال فيها بلفظة أراذل خداعون زرقا (1) بخرقة * وسجادة مرقوعة وبسبحة وقال ركن الدين الصائن (2) بالفارسية: اگرچه طاعت اين شيخكان سالوست * كه جوش ولوله درجان انس وجان انداخت ولى بكعبه كه گر جبرئيل طاعتشان * بمنجنيق تواند بر آسمان انداخت وقال العارف الشيرازي (3): نقد صوفي نه همه صافي وبيغش باشد * اى بسا خرقه كه شايسته آتش باشد خوش بود گر محك تجربه آيد بميان * تا سيه روى شود آنكه در او غش باشد وبالجملة لا ينبغي الاغترار بمجرد رؤية أحد أنه يكثر من الطاعات، ويترك اللذات بل ينبغي العلم بكونه غير مرائي (4)، وأنه ممن جعل هواه تبعا لأمر الله، وقواه مبذولة في رضاه، كما أشار إليه مولانا علي بن الحسين في جملة ما روى (5) عنه مولانا الرضا عليه السلام قال قال علي بن الحسين: إذا رأيتم الرجل قد حسن

(هامش)

(1) الزرق جمع الأزرق: شديد العداوة. (2) هو ركن الدين الهروي الشاعر المتوفى بشيراز سنة 765. (3) هو الخواجة الحافظ شمس الدين محمد الشيرازي الشاعر الشيعي الشهير الذي يعد من مفاخر بلاد العجم لاتصاف شعره بكل ما يعد من محسنات الشعر من الجزالة والسلاسة والرقة وعلو كعب المضامين وشموخ المعاني، توفي سنة 791 وقيل سنة 792 وقيل سنة 794 وديوان شعره مشهور، وللأفاضل شروح عليه، منها شرح المتأله السبزواري صاحب المنظومة. (4) ولنعم ما قال المولوي في المثنوي: اى بسا ابليس آدم روى هست * پس بهر دستى نبايد داد دست (5) رواه في البحار (ج 16 ص 50 باب العشرة ط أمين الضرب وفي السفينة ج 2 ص 26) (ج 12) (*)

ص 193

شميته [خ ل سمته] وهديته [خ ل هديه] (1) وتماوت (2) في منطقه وتخاضع في حركاته فرويدا لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخا (3) لها، فهو لا يزال يحيل [خ ل يختل] الناس بظاهره، فإن تمكن من حرام اقتحمه وإذا وحدتموه يعف عن المال الحرام فرويدا لا يغرنكم، فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها (خ ل بها) محرما، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا ما يعقده (خ ل عقده) عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع، ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله، فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبته للرياسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلبا للرياسة حتى إذا قيل له: إتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد (4)، فهو يخبط عشواء، يقوده (5) أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما أحرم الله ويحرم ما أحل الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رياسته التي قد بغى من أجلها، فأولئك

(هامش)

(1) الهدية بكسر الهاء وفتحها: السيرة والطريقة. (2) التماوت: التظاهر بالموت. (3) الفخ: آلة يصاد بها، والجمع: فخوخ. (4) البقرة. الآية 206. (5) من القود. (*)

ص 194

الذين (1) غضب الله عليهم ولعنهم وأعدلهم عذابا مهينا، ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله وقواه مبذولة في رضاء الله يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام (خ ل النعم في دار) نعم دار لا تبيد ولا تنفد، وأن كثيرا ما يلحقه من سرائها من تبع (خ ل أن اتبع) هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول، فذلك (خ ل فذلكم) الرجل نعم الرحل فبه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا، وإلى ربكم به فتوسلوا، فإنه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة إنتهى ، وأما ما ذكره: من أن المصنف جهل بالتفسير، وأسباب النزول وقد ذكر: أن طائفة من جهلة قريش كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ فهو يدل على تجاهله أو جهله وعدم تتبعه لسائر ما ذكر في شأن نزول هذه الآية، بل على جهله بمعنى ما نقله هو من شأن النزول، أما الأول فلأن ما قدمه المفسرون ورجحوه عند ذكر شأن نزول هذه الآية هو ما روي (2) عن ابن عمر أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم يشبكون (3) بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون فالمكاء (4) والتصدية (5) على هذا نوع عبادة لمه، ولهذا وضعوها (خ ل وضعتا) موضع الصلاة بناء على معتقدهم، وأما ما نقله الناصب في شأن النزول فهو مما قاله مجاهد (6) ومقاتل وهو مرجوح: يحتاج في

(هامش)

(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة النساء. الآية 93. (2) رواه الطبري في تفسيره (ج 9 ص 148 ط مصر) ويؤيده ما رواه أيضا عن ابن عباس ص 147. (3) شبك وشبك الشيئ: أنشب بعضه في بعض، تقول شبكت أصابعي وشبكت بين أصابعي. (4) مكا مكاء: صفر بفيه. (5) صدى بيديه تصدية: صفق. (6) هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر بإسكان الباء الموحدة المفسر المقرئ المكي أخذ (*)

ص 195

تصحيحه في اعتقادهم أيضا إلى التكلف في معنى الصلوة المذكورة في صدر الآية بأن يقال: جعل الله تعالى المكاء والتصدية صلوة لهم، كقولك زرت الأمير فجعل جفائي صلتي، أي أقام الجفاء مقام الصلة، وهو مجاز مستبعد جدا، ومع ذلك لا ينافي ما ذكره المصنف موافقا لما روي عن ابن عمر لجواز أن يكون صلوتهم الواقعة بهذه الصفة مشوشة للنبي صلى الله عليه وسلم أيضا، ولا استبعاد في أن يكون صلوتهم كذلك، كما لا استبعاد في أن يكون صومهم كصوم مشركي الهند، حيث يشربون اللبن والماء، ويأكلون الفواكه ونحوها في أيام صومهم، ولا يعتقدونها مخلا فيه، وأما ما ذكره من أن الله تعالى قد أحل اللهو في مواضع كثيرة الخ فهو كذب وافتراء على الله تعالى ورسوله كما يدل عليه حكمته تعالى، بل القرآن والسنة الصحيحة مملؤة من النص على خلافه، (1) والأحاديث التي فهموا منها إباحة اللهو

(هامش)

التفسير عن ابن عباس وهو عن مولينا أمير المؤمنين، روي عن ابن عباس وقرء عليه القرآن، وعن أم سلمة وجابر، وعنه عكرمة وعطاء وقتادة وحكم بن عيينة مات بمكة سنة 102 وقيل سنة 103 وكانت ولادته في سنة 21 فهو من التابعين وكلماته في التفسير مشهورة مذكورة في كتب الفريقين. (1) من الآيات كقوله تعالى (في سورة لقمان الآية 6): ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، وقوله تعالى (في سورة الأعراف الآية 51) الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا ومن أحاديث العامة مثل ما رواه في كنز العمال (ج 4 ص 22 حديث 201 حيدرآباد) عن ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل بيع المغنيات ولا شرائهن ولا تجارة فيهن وثمنهن حرام إنما نزلت هذه الآية في ذلك (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) والذي بعثني بالحق ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا بعث الله تعالى عند ذلك شيطانين يرتقيان على عاتقيه ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما على صدره حتى يكون هو الذي يسكت وغيرها (*)

ص 196

ونحوه (1) إنما هي موضوعات علماء زمان بني أمية لعنهم الله تعالى قد وضعوها (2) على وفق هواهم كما وضعوا غير ذلك على وفق مقاصدهم الآخر، وسيذكر المصنف شطرا من تلك

(هامش)

ومن أحاديث الخاصة روايات كثيرة منها ما رواه في الوسائل (ج 2 ص 565) بالسند المتصل إلى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال سمعته يقول: الغناء مما أوعد الله عليه النار وتلا هذه الآية ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله. (1) كشرب النبيذ والفقاع ونحوهما من الطامات. (2) كما هو واضح لمن سبر وتتبع وجاس تلك خلال تلك الديار، فانظر أيها المنصف ما نقلوه من وضع أبي هريرة بزيادة كلمة (لا ريش) أو لا (جناح) في حديث لا سبق إلا في النصل والحافر بإشارة من بعض المتقمصين للخلافة الذي كان مشغوفا بلعب الحمام وقال ابن أبي الحديد روى أبو يوسف قال قال أبو حنيفة الصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا ثم عد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك قال وروى عن علي (ع) قال أكذب الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله أبو هريرة الدوسي وكذا ما نسب إلى سمرة بن جندب الضار المضر من الوضع والافتراء على النبي الأكرم قال السيد عبد الرزاق الرضوي الهندي الشهير بالأمير على في كتابه المسمى بالتذنيب لتعقيب التقريب ص 15 طبع لكهنو ما لفظه، وممن عرف بالوضع سعد بن طريف وضع في معلم الصبيان، والمأمون بن أحمد الهروي، وضع في ذم الشافعي ومدح أبي حنيفة، ومحمد بن عكاشة الكرماني، وضع في بطلان الصلاة برفع الأيدي، ومن الزنادقة محمد بن شجاع الثلجي وضع حديثا في إجراء الفرس وبيان بن سمعان النهدي وأبو بشير أحمد بن محمد المروزي الفقيه إلى غير ذلك من الوضاعين ومن أجل هذه الرزية، شمر الذيل علماء السنة بتأليف كتب في الموضوعات، كاللؤلؤ المرصوع للقاوقجي، والموضوعات لجلال الدين السيوطي وتمييز الطيب من الخبيث لابن الديبع الشيباني ومزيل الخفاء عن أخبار المصطفى، وكشف الخفاء ومزيل الالباس للمحدث العجلوني المتوفى سنة 1162 ومعرفة الجيد، وكشف الستر إلى غير ذلك من الكتب التي في هذا الشأن، وما سردناه قليل من كثير، و(*)

ص 197

الأحاديث في مسألة النبوة ويرد عليها، ومن جملة تلك الأحاديث ما فيه تصريح

(هامش)

نزر من وفير هذا في الموضوعات. وأما التدليس في المتون أو الأسانيد بين رواتهم فوصل إلى حد، ألف جمع من علمائهم كتبا ورسائل فيه فمنهم ابن حجر العسقلاني، ألف كتاب طبقات المدلسين، وممن نص فيه على أنه كان مدلسا في الغاية أبو الزبير المكي، وبقية بن المخلد، ويحيى بن أبي كثير، وسهل بن سعد، والحسن بن أبي الحسن البصري التابعي، ونقل عن النسائي أنه وصفه بالتدليس، ومن المدلسين خارجة بن مصعب الحرساني، نقل ابن حجر عن ابن معين، إنه كان يدلس عن الكذابين. ومنهم الهيثم بن عدي الطائي قال ابن حجر، اتهمه البخاري، وتركه النسائي وغيره وقال أحمد، كان صاحب أخبار وتدليس. ومنهم مالك بن سليمان الهروي، قاضي هراة، قال ابن حجر ضعفه النسائي ووصفه ابن حبان بالتدليس إنتهى . إلى غير ذلك وإن شئت الإحاطة والوقوف على تلك الأمور فراجع كتب القوم في الرجال، كالتهذيب، وتهذيب التهذيب، والتقريب، والتعقيب، وتذنيب التعقيب والمغني للشيخ الفتني الهندي، والخلاصة، ولسان الميزان، والتجريد، والاكمال لابن ماكولا، وكتاب ابن حبان، كتاب ابن معين، والتاريخ الكبير للبخاري، والاستيعاب، وأسد الغابة، والإصابة، والكنى للدولابي، وكذا راجع ما ألفوه في علم الدراية ومقدمات علم الحديث، ككتاب معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري، وكتاب الكفاية للخطيب البغدادي، والنخبة لابن حجر العسقلاني، والألفية للعراقي، وشروحها الكثيرة، وكتاب ما يلزم المحدث، وكتاب الرعاية في الدراية، وكتاب الدراية للمولى كمال الدين الفارسي، وكتاب الدراية للكمشخانوي صاحب راموز الأحاديث، وكتاب الهداية في الدراية للدهلوي وغيرها مما ألف في هذا الموضوع، ويغنيك العيان عن البيان. (*)

ص 198

بأن النبي صلى الله عليه وآله سمى باطلا عين الغناء الذي كان يسمعه وآثر (1) سماعه، وبأنه علل إعراض عمر عن سماعه بأنه رجل لا يؤثر سماع الباطل، ويرشدك إلى أن الفتوى بحل الغنا ونحوه من اللهو مخصوص بأهل السنة، وأنه معمول متصوفيهم صدور إنكار ذلك عن المعتزلة أيضا موافقا للإمامية حيث قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: يحبهم ويحبونه: (2) وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم (3) للشرع وأسوءهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا واحدا، وهم الفرقة المفتعلة (خ ل المتفعلة) من التصوف (الصوف)، وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله، وفي مراقصهم عطلها الله بأبيات الغزل المقولة في المرد إن الذين يسمونهم شهداء وصعقاتهم التي أين عنها (4) صعقة موسى عند دك الطور؟ فتعالى الله عنه علوا كبيرا إنتهى فتأمل وأما ما ذكره من أن المصنف نقل قول واحد من القلندرية الخ ففيه أن المصنف قدس سره أعرف بحال من نقل منهم إباحة ترك الصلاة وأنهم من أهل السنة سواء سماهم الناصب قلندرية أو صوفية أو متصوفة، وقد سمعت أن هؤلاء يسمون أنفسهم بالواصلية، ومرادهم من ذلك أنهم وصلوا إلى الله تعالى وعرفوه حق المعرفة، فسقط عنهم التكليف، وقد صرح بذلك ابن قيم الحنبلي (5)

(هامش)

(1) آثر: اختار. (2) المائدة: الآية 54. (3) المقت: شدة البغض، يقال، مقت ومقت وماقت. الرجل إذا أبغضه أشد البغض. (4) أي شتان ما بينهما. (5) هو الشيخ محمد بن أبي بكر الحنبلي المشهور بابن قيم الجوزية، توفي سنة 751 تلميذ ابن تيمية، والمروج لمسلكه الذي بقي تراثا للوهابية في عصرنا، وابن تيمية وتلميذه هذا ممن كفره علماء الإسلام في عصره لظهور مقالات منكرة منه، كالقول (*)

ص 199

في شرح منازل السايرين، فقال: ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب (1) ومهالك لا تنجيه منها إلا بصيرة العلم، منها أنه إذا اقتحم (2) عقبة الفناء ظن أن صاحبها قد سقط عنه الأمر والنهي، ويقول قائلهم، من شهد الحقيقة سقط عنه

(هامش)

بالتجسم وإنكار شفاعة الأنبياء والمقربين في الساحة الألوهية ونحوهما من المناكير ومن أراد الوقوف على ذلك فليرجع إلى رسالة أستاذنا آية الله السيد أبي محمد الحسن صدر الدين الموسوي الكاظميني فإنه قده ألفها في إثبات تكفير الأعلام ابن تيمية ومن قال بمقالته ولابن تيم تأليفات كثيرة ككتاب زاد المعاد ونحوه وأكثرها محشو بالتعصب والسباب وتوهين علماء الشرع وحملة العلم وتكفير كافة أهل القبلة ونسبة الشرك إليهم، فيا للعجب من أسرة كفرت المسلمين في القول بالشفاعة مع أنه العمل بنصوص الكتاب والسيرة المستمرة والسنة القاطعة والحكم العقلي والحال أنها قائلة بالتجسم ورؤية الله وغيرهما مما يهدم أساس الدين تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولله در الأعلام من الشيعة والسنة حيث شمروا الذيل في الرد عليهم وردع شبهاتهم، ومن أحسن ما صنف وألف في هذا الشأن: كتاب شفاء السقام، للشيخ تقي الدين السبكي الشافعي المصري من علماء السنة، وكتاب الرد على الوهابية، للعلامة المرحوم آية الله السيد محسن الأمين، وكتاب الآيات البينات، لآية الله منطيق الشيعة الإمامية وطائرها الصيت أستاذنا الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي، وكتاب الرد على الوهابية لآية الله السيد مهدي الموسوي القزويني وغيرهم فإنهم أتعبوا نفوسهم الشريفة وسهروا الليالي في قلع هذه الشبهات وقمعها وأتموا الحجة على مثل القصيمي وابن بليهد وأضرابهما ممن قصروا النظر في آيات التوحيد ولم يتأملوا في أدلة الشفاعة وخطر تكفير المسلم وإسناد الشرك إليه ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. (1) عطب عطبا واعتطب الشيئ: هلك، والمعطب موضع العطب والهلاك، جمعه معاطب. (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة البلد. الآية 11. (*)

ص 200

الأمر ويحتجون بقوله تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (1)، ويفسرون اليقين بشهود الحكم الكوني وهي الحقيقة عندهم، وهذا زندقة ونفاق (2) وكذب منهم على أنفسهم ونبيهم وإلههم إنتهى ولعل الناصب توهم من قول المصنف: إنهم يزورون مشهد الحسين عليه السلام أنهم شيعة ليسوا بسنة (3)، ولم يعلم أن زيارتهم هذه كانت للهو وهو مشاهدة الناس المجتمعين في أيام الموسم، وكيف يزور الحسين عليه السلام معتقدا لاستحبابها من قرر على نفسه إسقاط الواجبات عنه فضلا عن المستحبات؟ فتأمل ثم أقول: إن الذي يقلع مادة إنكار الناصب لزندقة المتصوفة من أصحابه أن من أكابر أصحابه الذين يقتدون بهم في الشريعة والطريقة اليافعي (4) اليمني الشافعي، وقد أقر بما نسبه المصنف إليهم في هذا الكتاب و

(هامش)

(1) الحجر. الآية 99. (2) نفق نفاقا بكسر النون. في دينه ستر كفره بقلبه وأظهر إيمانه بلسانه ونفق نفاقا بفتح النون. الشيئ نفد وفنا وقل. (3) ومما يؤيد كونهم من السنة تفريقهم بين العشائين، مع أن عمل الشيعة سيما العوام منهم على الجمع بينهما لقيام الأدلة القاطعة على ذلك. (4) هو الشيخ عبد الله بن أسعد بن علي بن سليم عفيف الدين الشافعي اليماني اليافعي العارف المؤرخ المحدث الشهير توفي سنة 755 وقيل سنة 760 وقيل سنة 767 وقيل سنة 768 وقيل سنة 771 بمكة وله تآليف منها تاريخه المعروف المسمى بمرآة الجنان، وكتاب روض الرياحين في حكايات الصالحين، وخلاصة المفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني، ونشر المحاسن الغالية في فضل مشايخ الصوفية، والدر النظيم في خواص القرآن العظيم، وغيرها، وتنتهي سلسلة تصوفه إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني الحنبلي الصوفي الشهير المدفون ببغداد بعدة وسائط، وأخذ الشاه نعمة الله العارف الذي إليه تنتهي أكثر طرق الصوفية في بلاد ايران كالجنابذية، والشمسية، والطاوسية، (*)

ص 201

جماعة في غيره، حيث رد في كتابه الموسوم بروض (1) الصالحين على ما أنكره الغزالي في الإحياء من بلوغ العبد بينه وبين الله تعالى إلى حالة أسقطت عنه الصلاة وأحلت له شرب الخمر ولبس (2) الحرير وترك الصلاة ونحوها، وحكم بأنه يجب قتله وإن كان في خلوده في النار نظر (3) إنتهى. فقال في ذلك الكتاب ولو أن الله أذن لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا، وعلم العبد ذلك الإذن يقينا فلبسه لم يكن متهتكا للشرع، ثم قال: فإن قيل من أين يحصل له علم اليقين؟ قلت: من حيث حصل للخضر عليه السلام حين قتل الغلام وهو ولي لا نبي (4) على القول الصحيح عند أهل العلم، كما أن الصحيح عند الجمهور أنه الآن حي، وبهذا قطع الأولياء ورجحه الفقهاء والأصوليون وأكثر المحدثين إنتهى وفساده مما لا يخفى، فإن هذا كما قيل نسخ لبعض أحكام الشريعة المطهرة وإقدام على ما لم يقدم عليه غيره، ومتابعة للزنادقة الخالصة، فإنهم قالوا: إن هذه الأحكام الشرعية إنما يحكم بها على

(هامش)

والصفائية، وغيرها. ثم اليافعي نسب إلى يافع قبيلة باليمن وزعم بعض المعاصرين أن يافع اسم مكان باليمن وهو اشتباه. (1) لا يخفى إن اليافعي سمى كتابه بروض الرياحين في حكايات الصالحين، لا رياض الصالحين فلا حظ والخطب سهل. (2) لبس الثوب لبسا بضم اللام استتر به، لبس الأمر لبسا بفتح اللام خلطه وجعله مشتبها بغيره. (3) إشارة إلى النزاع بين السنة في أن مرتكب الكباير هل يخلد في النار أم لا. (4) ما حكم بصحته محل نظر، بل المستفاد من الأدلة النقلية الصحيحة، نبوته، ومن المفسرين من يرى أنه نبي وموسى صاحبه وزميله ليس بنبي، بل كان رجلا آخر غير موسى بن عمران صاحب التورية. (*)

ص 202

الأغبياء (1) أما أهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم، وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون إنتهى وهذه زندقة وكفر صريح يقتل قائله، لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله أجرى سنته وأنفذ حكمته (خ ل حكمه) بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته المظهرون أحكامه، وبالجملة فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري من دين نبينا صلى الله عليه وآله بأنه لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه إلا من جهة الرسل من صريح العقل والوحي، فمن قال: إن هناك طريق آخر يعرف به نهيه وأمره غير الرسل فهو كافر ثم إن هذا قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وآله الذي جعله خاتم أنبيائه ورسله فلا نبي بعده ولا رسول، وبيان ذلك أن من قال: إنه يأخذ عن قلبه وإنما وقع فيه حكم الله فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وآله بقوله: إن روح القدس نفث في روعي (2)، والملخص أنا لا ننكر أن الملك والشيطان لهما تصرفات في القلب، وأن الله يلهم العبد بدليل وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه (3)، وليست بنبية بل ربما يوحي إلى النحل ونحوه، كما دل عليه قوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل (4) الآية ونحوه وإنما ننكر وحي الأحكام بالأمر والنهي سيما بعد ختم النبوة والله أعلم.

(هامش)

(1) الأغبياء. جمع الغبي وهو البليد وقليل الفطنة. (2) بلغ روعه: أي سويداء قلبه وقد يطلق الروع مجازا على الروح. (3) القصص: الآية 7. (4) النحل: الآية 68. (*)

ص 203

قال المصنف رفع الله درجته

المبحث السابع في أنه تعالى متكلم (1):

وفيه مطالب

المطلب الأول في حقيقة الكلام

الكلام عند العقلاء عبارة عن المؤلف من الحروف المسموعة، وأثبت الأشاعرة كلاما آخر نفسانيا مغايرا لهذه الحروف والأصوات ولتصور هذه الحروف والأصوات، ولإرادة إيجاد هذه الحروف والأصوات، وهذه الحروف والأصوات دالة عليه، وهذا غير معقول فإن كل عاقل إنما يفهم من الكلام ما قلنا: فأما ما ذهبوا إليه فإنه غير معقول لهم ولغيرهم ألبتة، فكيف يجوز إثباته لله تعالى وهل هذا إلا جهل عظيم؟ لأن الضرورة قاضية بسبق التصور على التصديق، وإذ قد تمهدت هذه المقدمة فنقول: لا شك في أنه تعالى متكلم على معنى أنه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة قائمة بالأجسام الجمادية، كما كلم الله تعالى موسى من الشجرة فأوجد فيها الحروف والأصوات، والأشاعرة خالفوا عقولهم، وعقول كافة البشر، فأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم، وإثبات مثل هذا الشيئ والمكابرة عليه، مع أنه غير متصور ألبتة، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه، معلوم البطلان ومع ذلك فإنه صادر عنا أوفينا عندهم ولا نعقله نحن ولا من ادعى ثبوته إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أنه تعالى متكلم، والدليل عليه إجماع الأنبياء

(هامش)

(1) أطبقت الكتب السماوية وكلمة أرباب الملل على أنه تعالى متكلم، والاختلاف في حقيقة كلامه وكيفيته من الحدوث والقدم وعينيته للذات وعدمها وأنه من مقولة الألفاظ أو المعاني القائمة بذاته، وسيأتي ما هو الحق الحقيق بالقبول. (*)

ص 204

عليهم السلام عليه، فإنه تواتر أنهم كانوا يثبتون له الكلام ويقولون: إنه تعالى أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا، وكل ذلك من أقسام الكلام فثبت المدعى، ثم إن الكلام عندهم لفظ مشترك، تارة يطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ويقولون: هو الكلام حقيقة وهو قديم قائم بذاته تعالى، ولا بد من إثبات هذا الكلام، فإن العرف لا يفهمون من الكلام إلا المؤلف من الحروف والأصوات، فنقول أولا: ليراجع الشخص إلى نفسه إنه إذا أراد التكلم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنه يزور (1) ويرتب معاني (2) فيعزم على التكلم بها؟ كما أن من أراد الدخول على السلطان أو العالم فإنه يرتب في نفسه معاني وأشياء يقول في نفسه: سأتكلم بهذا، فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتة، فهذا هو الكلام النفساني، ثم نقول على طريقة الدليل: إن الألفاظ التي نتكلم بها لها مدلولات قائمة بالنفس، فنقول: هذه المدلولات هي الكلام النفساني، فإن قال: الخصم تلك المدلولات هي عبارة عن العلم بتلك المعاني

(هامش)

(1) زور الشيئ أي حسنه وقومه. (2) أقول عبر بعضهم عن ذلك بالألفاظ المتخيلة كما صرح بذلك مرارا علامة القوم السيد إبراهيم الراوي البغدادي في حلقة درسه بجامع السيد سلطان علي ببغداد والعاقل المنصف لو تدبر لرأى أن هذه الأمور التي عبر عنها الناصب بالمعاني المزورة وغيره بالألفاظ المتخيلة ليست إلا صور حاصلة في الذهن مترتبة حسب أغراض المتكلمين واللافظين، وعليه فهل هي إلا تصورات وتصديقات، وهل هما إلا من مقولة العلم؟ فحينئذ فما معنى قولهم إن الكلام النفسي ليس من مقولة العلم بقسميه ولا الإرادة ولا الكراهة ولا مقدماتهما ولا الاذعان بالوقوع واللاوقوع ولا غيرها، فيا معاشر العقلاء من أرباب الملل والنحل أقسمكم بما تبجلونه وتعظمونه، أعرضوا مقالة هؤلاء الذين عقلوا عقولهم بإنكار الحسن والقبح على ألبابكم فانظروا بماذا تحكم لنا أو لهم. (*)

ص 205

قلنا: هي غير العلم لأن من جملة الكلام الخبر، وقد يخبر الرجل عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه، فالخبر عن الشيئ غير العلم به، فإن قال هو الإرادة، قلنا هو غير الإرادة لأن من جملة الكلام الأمر، وقد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده، أهو يطيعه أو لا فإن مقصوده مجرد الاختبار دون الاتيان بالمأمور به، كالمعتذور من ضرب عبده بعصيانه فإنه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه، واعترض عليه بأن الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته، إذ لا طلب فيهما أصلا كما لا إرادة قطعا، وأقول: لا نسلم عدم الطلب فيهما لأن لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب وهو الطلب، ثم إن في الصورتين لا بد من تحقق الطلب من الأمر، لأن اعتذاره واختباره موقوفان على أمرين: الطلب منه مع عدم الفعل من المأمور وكلاهما لا بد من أن يكونا محققين ليحصل الاعتذار والاختبار قال صاحب المواقف هيهنا: ولو قالت المعتزلة: إنه أي المعنى النفسي الذي يغاير العبارات (خ ل اعتبارات) في الخبر والأمر هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلم بما أخبر به أو يصير سبب لاعتقاده إرادته أي إرادة المتكلم لما أمر به لم يكن بعيدا، لأن إرادة فعل كذلك موجودة في الخبر والأمر، ومغايرة لما يدل عليها من الأمور المتغيرة والمختلفة، وليس يتجه عليه أن الرجل قد يخبر بما لا يعلم، أو يأمر بما لا يريد، وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدل عليه بالعبارات مغاير للارادة كما تدعيه الأشاعرة هذا كلام صاحب المواقف، وأقول: من أخبر بما لا يعلمه، قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيئ أصلا، بل يصدر عنه الاخبار وهو يدل على مدلول، هو الكلام النفسي من غير إرادة في ذلك الاخبار لشيئ من الأشياء، وأما في الأمر وإن كان هذه الإرادة موجودة، ولكن ظاهر أنه ليس عين الطلب الذي هو مدلول الأمر، بل شيئ يلزم ذلك الطلب، فأذن تلك الإرادة مغايرة للمعنى النفسي الذي هو الطلب في هذا

ص 206

الأمر وهو المطلوب، ولما ثبت أن هيهنا صفة هي غير الإرادة والعلم فنقول: هو الكلام النفساني، فأذن هو متصور عند العقل ظاهر لمن راجع وجدانه غاية الظهور فمن ادعى بطلانه وعدم كونه متصورا فهو مبطل. وأما من ذهب إلى أن كلام الله تعالى هو أصوات وحروف يخلقها الله تعالى في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي صلى الله عليه وآله وهو حادث، فيتجه عليه أن كل عاقل يعلم أن المتكلم من قامت به صفة المتكلم وخالق الكلام لا يقال: إنه متكلم، كما أن خالق الذوق لا يقال: إنه ذائق وهذا ظاهر البطلان عند من يعرف اللغة والصرف فضلا عن أهل التحقيق نعم، الأصوات والحروف دالة على كلام الله تعالى ويطلق عليها الكلام أيضا، ولكن الكلام في الحقيقة هو ذلك المعنى النفسي كما أثبتناه إنتهى أقول: فيه نظر أما أولا فلأن إثبات الاشتراك لا يجديهم نفعا، لأن الكلام يجب أن يكون مركبا، سواء كان لفظيا أو نفسيا، أما اللفظي فظاهر وأما النفسي فلأن اللفظي لما كان موضوعا بإزاء المعنى المطابق لما في النفس فلو لم يكن النفسي مركبا لم يكن المعنوي مطابقا له، وأيضا الترتيب داخل في مفهوم الكلام، ولا يوجد الكلام بدونه، كما اعترف به الفاضل التفتازاني في شرح العقائد حيث قال: وهذا أي ما ذكره صاحب المواقف من أن الكلام النفسي غير مرتب الأجزاء جيد لمن يتعقل لفظا قائما بالنفس غير مؤلف من الحروف المنطوقة أو المخيلة المشروطة وجود بعضها بعدم البعض، ولا من الأشكال المرتبة (خ ل المترتبة) الدالة عليه، ونحن لا نتعقل من قيام الكلام بنفس اللافظ إلا كون صور الحروف مخزونة مرتسمة في خياله، بحيث إذا التفت إليها كان كلاما مؤلفا من ألفاظ مخيلة أو نقوشا مرتبة، وإذا تلفظ كان كلاما مسموعا إنتهى وعلى هذا فما يزوره المتكلم في نفسه عند إرادة التكلم، يجوز أن يكون عبارة عن الألفاظ

ص 207

المخيلة المرتبة في النفس، فلا يجديهم ما تشبثوا به من قول (1) عمر: زورت في نفسي كلاما بمعنى قدرته وفرضته، كما يقال: زورت دارا وبناءا، فما لا يدل هذا على كون حقيقة الدار والبناء في النفس، كذلك لا يدل ذلك على كون حقيقة الكلام في النفس، وكذا كون الكلام في الفؤاد (2) يكون إشارة إلى تصوره، وأما ثانيا فلأن ما ذكره من أنه قد يخبر الرجل عما لا يعلمه، بل يعلم خلافه فالخبر عن الشيئ غير العلم به، ففيه ما ذكره الشارح الجديد للتجريد حيث قال ولقائل أن يقول: إن المعنى النفسي الذي يدعون أنه قائم بنفس المتكلم ومغاير للعلم في صورة الاخبار عما لا يعلمه، هو إدراك مدلول الخبر، أعني حصوله في الذهن مطلقا يقينيا كان أو مشكوكا، فلا يكون مغايرا للعلم، والحاصل أن هذا إنما يدل على مغايرته للعلم اليقيني (3)، لا للعلم المطلق، إذ كل عاقل تصدى للاخبار، تحصل في ذهنه صورة ما أخبرته بالضرورة، وأيضا ما ذكره (خ ل هذا) قياس الغائب على الشاهد فلا يفيد وأما ثالثا فلأن ما ذكره في بيان مغايرة المعنى

(هامش)

(1) قال جار الله الزمخشري في الفائق ج 1 ص 553 طبع مصر، يقال رحم الله امرءا زور نفسه على نفسه، أي اتهمها عليها، يقال: أنا أزورك على نفسك، وحقيقته: نسبتها إلى الزور كفسقه وجهله انتهى وذكر معاني أخر للتزوير من الجمع، والعرض، والتسوية، وزوال العوج، والتعفية إلى غير ذلك، وأنت ترى أن بعض المذكورات، تناسب ما نحن فيه وقد تقدم في معنى التزوير ما هو أنسب فراجع. (2) إشارة إلى الشعر المشهور الذي تمسك به بعض الأشاعرة في إثبات الكلام النفسي (شعر) إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا (3) وكأنه اختلط الأمر على الناصب ولم يتوجه إلى أن المراد من العلم ماذا، هل هو المصطلح المنطقي أو الأصولي أو اللغوي فكم فرق بينها كما لا يخفى. (*)

ص 208

النفسي للارادة مردود بالاعتراض الذي نقله وأما ما ذكره في دفع ذلك الاعتراض بقوله: أقول لا نسلم عدم الطلب فيهما، لأن لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب الخ مدخول، بأن الاعتذار والاختبار إنما يتوقفان على أن يصدر من الآمر ما يدل بظاهره في مجاري الاستعمال على الطلب، لا على تحقق الطلب في نفس الأمر، إذ لا وقوف لغير الله تعالى بما في الصدور، فيحصل الاعتذار والاختبار من غير قصد الطلب كما لا يخفى وأما رابعا فلأن ما ذكره في جواب ما نقله ثانيا عن صاحب المواقف في تقوية المعتزلة من قوله: أقول من أخبر بما لا يعلمه قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيئ أصلا الخ ففيه: أن هذا غير واقع، ولو سلم فيجاب بمثل ما أجبنا عنه عما قيل: من أنه قد يخبر الرجل عما لا يعلمه فاعلم وأما ما ذكره من أن في الأمر وإن كان هذا الإرادة موجودة، ولكن ظاهر أنه ليس عين الطلب الذي هو مدلول الأمر، بل شيئ يلزم ذلك الطلب، فإذن تلك الإرادة مغايرة للمعنى النفسي الذي هو الطلب في هذا الأمر وهو المطلوب، ففيه: أنا لا نسلم أن الطلب غير الإرادة (1)، فإن الطلب

(هامش)

(1) مسألة اتحاد الطلب والإرادة مما اختلفت فيه كلمة الفحول من الفريقين، ومنشأ النزاع فيها ما صدر من الأشاعرة من الالتزام بالكلام النفسي في المأة الثالثة، ثم سرى ذلك إلى الأصول فصارت المسألة محل بحث في كلا العلمين، فاختلفوا في المسألة على أقوال فمنهم من جعل النزاع لغويا في تعيين ما هو الموضوع له لكليهما بعد تسلم كونهما مترادفين؟ وإنه هل هو الشوق المؤكد أو من مقدماته؟ أو بالعكس. ومنهم من جعل النزاع عقليا وإنه هل هناك اتحاد بين الطلب والإرادة حقيقة أم لا؟ فهم بين قائل باتحادهما مفهوما ومصداقا مع الاختلاف في المنصرف إليه عند العرف ولازمه كون اللفظين مترادفين وبين قائل بتغايرهما مفهوما واتحادهما مصداقا وبين قائل بتغايرهما مفهوما ومصداقا، ذهب إليه أكثر الأشاعرة وعدة من أصحابنا المتأخرين. ثم إن القائلين بتغايرهم كذلك اختلفوا على قولين، فمنهم من جعل الإرادة والطلب (*)

ص 209

عين الإرادة (1) عند المعتزلة، ولو سلم فنقول: إن الكلام النفسي عند الأشاعرة

(هامش)

كليهما من مقولة الكيف النفساني، وجعل الإرادة في مرتبة متقدمة على الطلب، ومنهم من جعل الإرادة من مقولة الكيف النفساني والطلب من مقولة الفعل النفساني وادعى وضوحه بشهادة الوجدان وذكر إن الإرادة صفة قائمة بالنفس موجبة لحركة نفسانية هي فعل النفس وهذه غير الحركة الخارجية القائمة بالأعضاء فتكون الحركة الخارجية في مرتبة ثالثة متأخرة عن مرتبة تحقق الحركة النفسانية وهي متأخرة عن مرتبة تحقق الإرادة، وكان يعبر بعض المحققين من المتأخرين عن حركة النفس بالحملة النفسانية وكان يلتزم بأن هناك أمورا بنحو السلسلة الطولية هكذا (1) مقدمات الشوق المؤكد (2) نفس الشوق المؤكد (3) تحريك الشوق للنفس (4) حركة النفس بعد التحريك (5) حركة الأعضاء نحو الفعل أو مقدماته. وأنت خبير بأن ما حققه ودققه حقيق بالقبول ولا يشك ذو مسكة في تغاير التحريك أو الحركة مع الشوق القائم بالنفس، لكنه مع التزامه بالتعدد خالف الأشاعرة في مسلكهم حيث إن الطلب عنده من مقولة الفعل النفساني أو الفعل الخارجي، والأشعري مع كونه قائلا بالتعدد ينكر كونه من تلك المقولات بل جعله أمرا نفسانيا مغايرا لجميع ذلك، فيكون أحسن الأجوبة عن مقالة الأشعري ما أفاده المتقدمون من أصحابنا رضوان الله عليهم من الإحالة إلى الوجدان وأنا إذا راجعنا إلى وجداننا لا نجد أمرا مغايرا لما ذكر، والبرهان عند شهادة الوجدان مما يستغنى عنه. (1) وفيه إشارة إلى ضعف دعوى العينية إذ نحن نجد تفرقة ضرورية بين مدلول قولنا: افعل، وبين قولنا: أريد الفعل وهو ظاهر، أو إلى ضعف نسبة هذه الدعوى إلى المعتزلة كما يدل عليه كلام الفاضل عبد الحي البدخشي الحنفي في شرح منهاج الأصول عند قول مصنفه: والطلب غير الإرادة خلافا للمعتزلة الخ فيه بحث أما أولا: فلأن المفهوم من كلامه حيث قال: إن النزاع في الطلب مطلقا أعم من أن يكون بالنسبة إلى الله تعالى أو العبد وهو فاسد، إذ الطلب بأقسامه كطلب الفعل والكف والاقبال وغيرها من الكلام (*)

ص 210

قديم، فلو كان عبارة عن الطلب كما ذكره الناصب يلزم قدم من يطلب منه الفعل أيضا وإلا يلزم السفه، إذا الطلب بدون وجود من يطلب منه سفه بالضرورة، وسيجئ تفصيل الكلام فيه عن قريب إن شاء الله تعالى وأما خامسا: فلأن ما ذكره من أن كل عاقل يعلم أن المتكلم من قام به صفة التكلم وخالق الكلام لا يقال له إنه متكلم الخ قد هرب فيه الناصب عما قاله أصحابه قاطبة: من أن المتكلم من قام به الكلام لما أورد عليهم الإمامية، من أنه يلزم من إن لا يصح إطلاق المتكلم على البشر، إذ الكلام قائم بالصوت الذي هو عرض لا بالبشر، وحينئذ يتوجه عليه: إن المبدء الذي هو المتكلم المهروب إليه بمعنى إيجاد الكلام قائم بذاته تعالى حقيقة، فلا يحتاج إلى المعنى النفسي

(هامش)

النفسي، والمعتزلة أنكروا ثبوته لله تعالى لا أنهم جعلوها عين الإرادة، فإن أريد أنهم سموا الإرادة طلبا فهو مما لم ينقل عنهم، كيف؟ وعند البصري منهم أن إرادته تعالى العلم بالمصلحة، وعند النجار أنها معنى سلبي وهو أنه ليس بساه ولا مكره ولا مغلوب فيما فعل، وعند النظام والكعبي أن إرادة فعل نفسه علمه بوقوعه، وإرادة فعل غيره الأمر به، والأمر عندهم الكلام اللفظي، ولا خفاء في أنه لا يحسن اطلاق الطلب على شيئ من هذه المعاني إلا الأمر اللفظي مجازا، ويؤكد ذلك ما في شرحه المختصر: من أن الطلب لما كن نوعا من الكلام النفسي الذي أنكروه ولم يمكنهم أن يحدوا الأمر به، وتارة حدوه باعتبار اللفظ فقيل هو قول القائل لمن دونه: افعل، وتارة باقتران صفة الإرادة، فقيل هو صيغة افعل بإرادة وجود اللفظ ودلالته على المعنى والامتثال، وتارة جعلوه نفس صفة الإرادة فقيل: الأمر إرادة الفعل، وهذا صريح في أنهم لم يجعلوا الإرادة طلبا ولا بالعكس، اللهم إلا أن يقال: إنهم جعلوا الأمر اللفظي الذي يطلق عليه الطلب مجازا غير إرادة المأمور به، أو يقال: إن بعضهم أثبت له إرادة حادثة لا في محل، فيجوز أن يكونوا سموه طلبا إنتهى منه قده. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب