الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 211

الأزلي، وأيضا نحن لا نشترط في صدق المتكلم أن يكون ذلك الشيئ موجدا للكلام، بل نقول: لا بد أن يكون بين الكلام وذلك الشيئ ملابسة كما في الحداد والصباغ والتمار وغيرها، وهي محققة هيهنا: إذ الكلام مخلوق (1) له تعالى،

(هامش)

(1) مسألة مخلوقية كلامه تعالى، وإن القرآن قديم، أو حادث، مما وقع النزاع فيها من سالف الزمان، بحيث قتل جمع من القائلين بقدمه، وكذا من القائلين بحدوثه، وكان المأمون العباسي، من أشد العاضدين للحدوث. والقادر والمتوكل العباسيان قتلوا جماعة من القائلين بالحدوث وأكثر الأشاعرة، كالشيخ أبي الحسن شيخهم في كتاب الإبانة والقاضي محمد بن الطيب الباقلاني وابن فورك والباهلي وإمام الحرمين ذهبوا إلى قدمه واستدلوا على ذلك بوجوه من السمع والعقل كلها مجاب عنها بإجوبة شافية، والمعتزلة وغيرهم ذهبوا إلى حدوثه، ولهم أدلة من النقل والعقل، والرازي في كتاب الأربعين ص 179 وص 180 جمع بين كلمات الفريقين، وجعل هذا النزاع الطويل الذيل قريبا من النزاع اللفظي، وقال إن كلامه تعالى، بمعنى الأصوات والحروف، لا كلام في كونها حادثة، وأما كلامه الذي هو مدلول تلك الدوال فهو قديم واحد بالذات، مختلف بالاعتبار، من حيث اتصافه بالأمرية والنهيية والخبرية وغيرها إلى آخر ما قال وأنت خبير بأن النزاع بين الأشاعرة، وبين مخالفيهم في ثبوت ذاك الأمر الواحد القديم بجعله مغايرا للإرادة والكراهة والعلم فالأشعري يدعي التغاير، وخصمائه ينكرون ذل، فعليه لا يكون النزاع لفظيا أو لغويا كما احتمله في طي كلماته. ثم إن من الأشاعرة من صرح، بكون الأصوات والحروف كمدا ليلها قديمة أيضا، كما أن الكرامية، ذهبوا إلى أنه خلق تلك الأصوات والحروف في ذاته القديم وجعلوا ذاته تعالى شأنه محلا لتلك الحوادث. وبالجملة لو تأملت في هذه الأقوال والكلمات التي هي بين إفراط وتفريط لرأيت بعين العيان أن النزاع ليس بلفظي كما توهمه وإن هناك أبحاثا، ومضامير فللنزاع في إثبات أمر قديم قائم بذاته واحد بالذات مدلول للكلام اللفظي، مضمار (*)

ص 212

وبالجملة لا يلزم أن يكون إطلاق الألفاظ على وتيرة (1) واحدة، فإن المضئ قد يطلق على ما كان نفس الضوء فلا يصدق عليه بمعنى ما قام به الضوء، وكذا التمار يطلق على من كان بائعا للتمر لا على قام به التمر، فلا يتجه علينا النقض بالذائق، كما ذكره الناصب الخالي عن ذوق التحقيق، ولا بالمتحرك كما أورده شارح العقائد، ولا ما أورده الشارح الجديد للتجريد: من أنا إذا سمعنا قائلا يقول: أنا قائم، نسميه المتكلم وإن لم نعلم أنه الموجد لهذا الكلام، بل وإن علمنا أن موجده هو الله تعالى (2) كما هو رأي الأشاعرة إنتهى وقد اعترف بهذا فخر الدين الرازي في المسألة الثالثة والأربعين من الباب الأول من القسم الأول من الكتاب الأول من فواتح تفسيره الكبير حيث قال: والتحقيق في هذا الباب أن الكلام عبارة عن فعل مخصوص، جعله الحي القادر لأجل أن يعرف غيره ما في ضميره من الاعتقادات والارادات، وعند هذا يظهر أن المراد من كون الإنسان متكلما *

(هامش)

وللنزاع في كون الدال عليه قديما أو حادثا مضمار وللنزاع في قيام ذاك الدال الحادث بذاته تعالى أو عدمه مضمار ثالث وفي كل من هذه المعارك كم من فئة هالكة مهلكة والصراط الواضح، والنجم اللامع اللائح، ما أخذته الأصحاب رضوان الله عليهم، عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، فإن علومهم مستفادة، من المشكاة النبوية والمصباح الذي استنير من النور الإلهي، والوحي الرباني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه ثبتنا الله تعالى على التمسك بأذيالهم، واتباع آثارهم، وحشرنا في زمرة من لم يعرف سواهم آمين آمين. (1) الوتيرة. الطريقة. (2) لا يخفى أن هذا مقلوب عليهم فإنا إذا سمعنا قائلا يقول: أنا قائم نسميه المتكلم، وإن لم نعلم أن الكلام قائم به، بل وإن علمنا أنه ليس قائما به بل بالهواء تأمل. منه قده . (*)

ص 213

بهذه الحروف مجرد كونه فاعلا لها لهذا الغرض المخصوص إنتهى على أن ما ذكره الناصب وشارح العقائد بحث لفظي لا يعتد به في المباحث العقلية، وإذا قام الدليل على امتناع كونه تعالى متكلما بالمعنى اللغوي المشهور، وهو أن المتكلم بمعنى من قام به الكلام ولم يتم الدليل على المعنى القائم بالذات، فلا بد من التشبث بالمعنى اللغوي الغير المشهور، وهذا كما قيل: في حمل الموجود عليه تعالى على قاعدة الحكماء ومن وافقهم من أن الوجود عين حقيقته غير قائم به، إذ على هذا لا يصح لغة أن يقال: إنه تعالى موجود، إذ معنى الموجود لغة من قام به الوجود، وهو يقتضي المغايرة، وذلك باطل عندهم تأمل والسر في أن أهل اللغة ربما يفسرون صيغة الفاعل بمن قام به الفعل، ما قاله بعض المحققين: من أن اللغة لم تبن (1) على النظر الدقيق، بل هم ينظرون إلى ظاهر الحال فيحكمون بقيام الكلام بالمتكلم ويقولون باتصاف المتكلم به حال التكلم: وكيف لا؟ ولو بنيت اللغة على النظر الدقيق لتعذر في أكثر أفعال الحال؟ فإنه يلزم أن يكون مجازا، مع أنهم اتفقوا على أن المضارع حقيقة في الحال، في مثل يمشي، ويتكلم، ويخبر، بل يتوسعون في معنى الحال، ويعممونه عن المشي بين المشرق والمغرب، ويريدون به الحال، وقس عليه الحال في اسم الفاعل إذا قالوا: إنه حقيقة في زيد ماش من المشرق إلى المغرب، والحاصل أن النظر الدقيق يقتضي عدم قيام المبدء وعدم بقائه في محل يقوم به، وظاهر النظر يميل إلى القيام والبقاء، والملخص أن معنى اسم الفاعل (2) مثلا هو الأمر المجمل الذي يعبر عنه في الفارسية بدانا و

(هامش)

(1) مضافا إلى أن شأن اللغوي بيان موارد الاستعمال لا الوضع وإن كان هذا لا يخلو عن مناقشة أوردناها في مباحث الألفاظ. (2) الظاهر أن كلمة كالعالم ساقطة من قلم الناسخ. (*)

ص 214

إذا أردنا تحليله (1) نعبر عنه بذات له العلم، مع أنا نعلم أن الذات غير مأخوذة في معنى العالم وكذا قيام معنى العلم، إما أن الذات غير مأخوذة فلأنا إذا قلنا زيد عالم نعلم يقينا أن زيدا بمنزلة الذات، وليس المراد بزيد ذات له العلم، بل المراد زيد له العلم، وكيف لا؟ وقد استدلوا على ذلك بأنه لو كان شيئ أو ذات مأخوذا في المشتق لكان الناطق مركبا من العرضي، كما قاله سيد المحققين (2): قدس سره في حاشية المطالع، فيلزم أن لا يصح التحديد به، وفوق هذا كلام: وهو أن إطلاق اسم المتكلم على الفاعل للكلام ثابت في لسان العرب، بل ولا يطلقون اسم المتكلم على القائم به الكلام أصل، لأن الفعل لا يوصف به المفعول، بل إنما يوصف به الفاعل كالضرب مثلا، فلا يقال: الضارب لمن وقع عليه الضرب، بل لمن فعل الضرب، فحينئذ لا يقال المتكلم من قام به الكلام بل من فعله، وإلا لكان الهواء متكلما لقيام الحروف والصوت به، وقالوا تكلم الجن: على لسان المصروع (3) لاعتقادهم أن الكلام المسموع من المصروع فاعله الجن، فأسندوه إلى الفاعل لا القائم به، والأشاعرة لما قالوا إن الكلام هو المعنى قالوا: معنى كونه متكلما هو قيام ذلك المعنى بذاته، ثم افتروا به على اللغة. فإن قلت الكلام على ما ذكرتموه يرجع إلى القدرة فلا يكون صفة مستقلة أخرى، قلت: لا محذور في إرجاعه إلى القدرة وعده صفة مستقلة أخرى، بناء على فائدة مخصوصة: هي أن

(هامش)

(1) وذلك لا ينافي بساطة المشتق وعدم أخذ الذات في مفهومه كما حققه المتأخرون من الأصوليين والمنطقيين فمعاني المشتقات مفاهيم مجملة في الادراك الأولى قابلة للتحليل بالتعمل والتأمل. (2) هو المحقق الشريف الجرجاني وقد مرت ترجمته. (3) الصرع. علة تمنع الأعضاء النفسانية عن أفعالها منعا غير تام، ويقال لمن غشي عليه مصروع. (*)

ص 215

أفعال العباد قولا وفعلا مخلوقة بقدرة العبد أو بقدرة الله، وكسب العبد والقرآن مخلوق له بلا واسطة قدرة العبد وكسبه، وتحقيقه: أن الله تعالى يعلم جميع المعلومات، فعلم القرآن في الأزل بأنه سيوجده بقدرته القديمة في جسم من الأجسام من غير كسب (1)، بخلاف كلام البشر فإنه عالم في الأزل بأنه سيوجده البشر بقدرته الحادثة أو بكسبه. ومما يكسر سورة (2) استبعاد الخصم: أن صفتي السمع والبصر راجعتان إلى العلم باتفاق الأشاعرة معنا، مع أنهما عدتا صفتين مستقلتين متابعة للشارع حيث أفردهما عن العلم في الذكر لغاية اهتمامه بإثباتهما، وباعتقاد المكلفين لاتصافه تعالى بهما. قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الثاني في أن كلامه تعالى متعدد،

المعقول من الكلام على ما تقدم أنه الحروف والأصوات المسموعة، وهذه الحروف المسموعة إنما تلتئم كلاما مفهوما إذا كان الانتظام على أحد الوجوه التي يحصل بها الأفهام، وذلك بأن يكون خبرا أو أمرا أو نهيا أو استفهاما أو تنبيها، وهو الشامل للتمني والترجي والتعجب والقسم والنداء، ولا وجود له إلا في هذه الجزئيات، والذين أثبتوا قدم الكلام إختلفوا: فذهب بعضهم إلى أن كلامه تعالى واحد مغاير لهذه المعاني، وذهب آخرون إلى تعدده، والذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في إثبات شيئ لا

(هامش)

(1) الكسب من مصطلحات الأشاعرة وقد مر شرحه وبيان المراد منه في تعاليقنا السابقة التي ذكرنا فيها الفروق بين الأشاعرة والماتريدية، وسيجئ في كلام القاضي الشهيد شرحه أيضا. (2) السورة بفتح السين المهملة وسكون الواو، يقال سورة الشيئ لحدته وسورة السلطان لسطوته وسورة المجد لأثره وارتفاعه وسورة البرد لشدته. (*)

ص 216

يتصورونه هم ولا خصومهم، ومن أثبت لله تعالى وصفا لا يعقله ولا يتصوره هو ولا غيره فكيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به ويناط بكلامه الأحكام؟ إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: الأشاعرة لما أثبتوا الكلام النفساني جعلوه كسائر الصفات مثل العلم والقدرة، فكما أن القدرة صفة واحدة تتعلق بمقدورات متعددة، كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنهي والخبر والاستفهام والنداء، وهذا بحسب التعلق، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلقه بشيئ على وجه مخصوص يكون خبرا، وباعتبار تعلقه بشيئ آخر أو على وجه آخر يكون أمرا، وكذا الحال في البواقي وأما من جعل الكلام عبارة عن الحروف والأصوات فلا شك أنه يكون متعددا عنده، فالنزاع بيننا وبين المعتزلة والإمامية في إثبات الكلام النفساني، فإن ثبت فهو قديم واحد كسائر الصفات، وإن انحصر الكلام في اللفظي فهو حادث متعدد، وقد أثبتنا الكلام النفسي فيما سبق، فطامات الرجل ليس إلا الترهات إنتهى. أقول: إن أراد بقوله: الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنهي الخ أن كلامه تعالى جنس لهذه الأمور، وهذه الأمور أنواع له، فيلزم من قدمه وحدوثها وجود الجنس بدون أحد الأنواع، وبطلانه ظاهر، وإن أراد أنه أمر معين يعرضه هذه الأمور كما يشعر به كلام الشارح الجديد للتجريد في تتميم جواب عبد الله بن سعيد (1) حتى لا يلزم كون تلك الأنواع أنواعا حقيقية، بل تكون

(هامش)

(1) هو عبد الله بن سعيد بن الحصين الكوفي، أبو سعيد الأشج الحافظ المتوفى سنة 257 وكان من كبار القوم فقها، وحديثا وكلاما، روى عن عبد السلام بن حرب وأبي (*)

ص 217

أنواعا بحسب العارض والاعتبار والأمور الخارجة، فمسلم أن هذا لا يستلزم محالا لأن غاية ما يلزم من ذلك وجود المعروض بدون العارض وهو ليس بمستحيل، لكنه خلاف ما هو المقرر عندهم، من أن هذه الأمور أنواع الكلام. وأيضا هذا غير معقول إذ لا يعقل كلام إلا على أحد الأساليب المعروفة عند العقلاء، وبالجملة نحن لا نعقل من كلامه تعالى سوى الأمر والنهي والخبر، فإذا اعترفتم بحدوثها ثبت حدوث الكلام فإن ادعيتم قدم شيئ آخر فبينوه ليتصور، ثم أقيموا الدلالة عليه وعلى اتصافه تعالى به وعلى قدمه، وأيضا لو جوز كون الكلام الواحد متكثرا وأنواعه مختلفة باعتبار التعلقات لزم جواز أن يكون جميع الصفات راجعة إلى صفة واحدة بل إلى الذات بأن يكون باعتبار تعلقه بالتخصيص إرادة، وباعتبار تعلقه بالايجاد قدرة إلى غير ذلك من الاعتبارات، وقال السيد معين الدين الصفوي الإيجي الشافعي في رسالته في الكلام: إن العرف العام والخاص من الشرع واللغة لا يفهم من الكلام إلا المركب من الحروف لا مجرد مفهوم اللفظ الذي هو في الحقيقة (خ ل في التحقيق) نوع من العلم، وليس من شأن النبوة دعوة الأمة إلى شيئ غير معلوم ظاهره كذب وإلحاد من غير إشارة في موضع وموقع على المراد من إطلاقه، مع أن العرف مطلقا يعرف تناقض الأخرس مع المتكلم، وعلى ما عرفه الأشعري يجتمع الخرس وهذا المتكلم (1)، والتكلم والسكوت، وأما ما في متن العقائد للنسفي (2) إن

(هامش)

خالد الأحمر والمحاربي وابن إدريس وهشيم ومن في طبقتهم فراجع الكتاب الخلاصة للخزرجي ص 169. (1) الظاهر أن العبارة كذا: يجتمع الخرس والتكلم في هذا المتكلم. (2) هو نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد السمرقندي الحنفي الأصولي المتكلم الشهير المتوفى ببغداد سنة 537 له تآليف كثيرة منها كتاب العقائد المعروف بالعقائد النسفية (*)

ص 218

الكلام صفة متنافية للسكوت والآفة، وقال شارحه (1) العلامة: هذا إنما يصدق على الكلام اللفظي دون النفسي، إذ السكوت والخرس إنما ينافي التلفظ، وأجاب بأن مراده السكوت والآفة الباطنيتان بأن لا يدبر في نفسه التكلم ولا يقدر على ذلك، فكما أن الكلام لفظي ونفسي، فكذا ضده أعني السكوت والخرس، فأنت على يقين أن هذا التوجيه تمحل (2) لا يغني عن الحق شيئا (3)، فأعرضنا عن التعرض بتفصيل الجواب.

(هامش)

وقد شرحه جمع كثير من علماء القوم ومنها كتاب طلبة الطلبة في المصطلحات الحنفية في الفقه، ومنها تاريخ سمرقند، والنسفي نسبة إلى نسف كجبل بلد بما وراء النهر. (1) المراد به قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي الكازروني الشافعي المشتهر بالعلامة المتوفى سنة 710 ببلدة تبريز ودفن بجنب قبر القاضي البيضاوي أو العلامة المحقق التفتازاني المولى مسعود بن عمر المتوفى سند 791 صاحب كتاب المطول والظاهر الثاني. (2) قال بعض الفضلاء في بحث المغالطة من كتاب المسمى بمسالك الأفهام في علم الكلام إن من أسباب الغلط أخذ ضد الشيئ ضدا للأزمة وهو باطل، لأن الحرارة يضاد البرودة ولا يضاد العرضية واللونية، وأبو الحسن الأشعري ارتكب هذا في إثبات كلام الحق فقال: وجدنا كل من ليس بمتكلم أخرس فحكم بأن الكلام والخرس متضادان، فحكم بأنه تعالى لو لم يكن متكلما لكان أخرس، لأنه في الشاهد كذلك، ثم أثبت للباري شيئا سماه كلام النفسي ولم يثبت له الكلام الذي أخذه ضدا للخرس (فإنه يثبت للخرس) لعدم اشتراطه بالحرف والصوت، فيجتمع مع الخرس، فلا يكون ضده فبطل قوله إن الكلام والخرس ضدان لأن الخرس لا يزول بكلام النفس. منه قده . (3) اقتباس من قوله تعالى في سورة يونس. الآية: 26. (*)

ص 219

قال المصنف رفع الله المطلب الثالث في حدوثه، العقل والسمع متطابقان على أن كلامه تعالى محدث ليس بأزلي، لأنه مركب من الحروف والأصوات، ويمتنع اجتماع حرفين في السماع دفعة واحدة فلا بد أن يكون أحدهما سابقا على الآخر، والمسبوق حادث بالضرورة، السابق على الحادث بزمان متناه حادث بالضرورة، وقد قال الله تعالى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث (1)، وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك، فجعلوا كلامه تعالى قديما لم يزل معه، وأنه تعالى في الأزل يخاطب العقلاء المعدومين، وإثبات ذلك في غاية السفه والنقص في حقه تعالى، فإن الواحد منا لو جلس في بيت وحده منفردا، وقال يا سالم قم، ويا غانم اضرب ويا سعيد كل ولا أحد عنده من هؤلاء، عده كل عاقل سفيها جاهلا عادما للتحصيل فكيف يجوز منهم نسبة هذا الفعل الدال على السفه والجهل والحمق إليه تعالى؟ وكيف يصح منه تعالى أن يقول في الأزل: يا أيها الناس اعبدوا (2) ربكم؟ ولا مخاطب هناك ولا ناس عنده، ويقول يا أيها الناس (3) اتقوا ربكم؟ ويقول يا أيها الذين (4) آمنوا أقيموا الصلوة، ولا تأكلوا (5) أموالكم، ولا تقتلوا (6) أولادكم، وأوفوا بالعقود (7)؟ وأيضا لو كان كلامه قديما لزم صدور القبيح منه

(هامش)

(1) الأنبياء الآية 21. (2) كما في سورة البقرة. الآية: 21. (3) كما في سورة الحج. الآية: 1 (4) كما في سورة البقرة. الآية 110 وغيرها من الآيات. (5) كما في سورة البقرة. الآية 188 (6) كما في سورة الأنعام. الآية 151 (7) كما في سورة المائدة. الآية 1. (*)

ص 220

تعالى، لأنه إن لم يفد بكلامه في الأزل شيئا كان سفيها، وهو قبيح عليه تعالى وإن أفاد فإما لنفسه أو لغيره، والأول باطل، لأن المخاطب إنما يفيد لنفسه لو كان يطرب في كلامه أو يكرره ليحفظه أو يتعبد به كما يتعبد الله تعالى بقراءة القرآن، وهذه في حقه محال لتنزهه عنها. والثاني باطل لأن إفادة الغير إنما تصح لو خاطب غيره ليفهم مراده أو يأمره بفعل، أو ينهاه عن فعل، ولما لم يكن في الأزل من يفيده بكلامه شيئا من هذه كان كلامه سفها وعبثا. وأيضا يلزم الكذب في إخباره تعالى، لأنه قال: إنا أرسلنا نوحا (1)، إنا أوحينا إلى إبراهيم (2) وأهلكنا القرون (3)، وضربنا لكم الأمثال (4)، مع أن هذه إخبارات عن الماضي، والإخبار عن وقوع ما لم يقع في الماضي كذب تعالى الله عنه. وأيضا قال تعالى إنما قولنا لشيئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (5)، وهو إخبار عن المستقبل فيكون حادثا إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول: قد سبق الإشارة إلى النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية في إثبات الكلام النفساني، فمن قال: بثبوته فلا شك أنه يقول: بقدمه، لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى، ومن قال بأنه مركب من الحروف والأصوات، فلا شك أنه يقول بحدوثه ونحن نوافقه فيه فكل ما أورده على الأشاعرة فهو إيراد على غير محل النزاع، لأنه يقول: إن الكلام مركب

(هامش)

(1) نوح. الآية 1. (2) النساء. الآية 163. (3) يونس. الآية 13. (4) إبراهيم. الآية 45. (5) النحل. الآية 40. (*)

ص 221

من الحروف، ثم يقول بحدوثه، هذا مما لا نزاع فيه، نعم لو قال بإثبات الكلام النفسي ثم يثبت حدوثه يكون محل النزاع. وأما ما استدل به على الحدوث من قوله تعالى: وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث، فهو يدل على حدوث اللفظ ولا نزاع فيه، وأما الاستدلال بأن الأمر والخبر في الأزل ولا مأمور ولا سامع فيه سفه كما ذكره في طاماته، فالجواب أن ذلك السفه الذي ادعيتموه إنما هو في اللفظ، وأما كلام النفس فلا سفه فيه، ومثاله على وفق ما ذكر، إن الواحد منا لو جلس في بيت وحده منفردا ورتب (1) في نفسه أنواع الأوامر لجماعة سيأتون عنده ولا يتلفظ به، فلا يكون سفها ولا حماقة، بل السفيه من نسبه إلى السفه، فالكلام النفسي هو المعنى القائم بذات الله تعالى في الأزل، ولا تلفظ بذلك الكلام، بل هو لجماعة سيحدثون، ويكون التلفظ به بعد حدوثهم وحدوث أفعالهم التي تقتضي الأمر والنهي والإخبار والاستفهام، فلا سفه ولا حماقة كما ادعاه، وبهذا الجواب أيضا يندفع ما ذكره من لزوم صدور القبيح من الله تعالى، لأن ذلك في التلفظ بالكلام النفسي، ونحن نسلم أن لا تلفظ في الأزل، بل هناك معان قائمة بذات الله تعالى قديمة. وأيضا يندفع ما ذكره من لزوم الكذب، لأن الصدق والكذب صفتان للكلام الذي يتلفظ به لا المعاني المزورة في النفس لمقولة بعد هذا لمن سيحدث. وأما الاستدلال على حدوث الكلام بقوله تعالى: إنما قولنا لشيئ إذا أردناه إن نقول له كن فيكون لأنه إخبار عن المستقبل فيكون حادثا فالجواب عنه أن لفظ كن حادث، ولا نزاع لنا فيه، إنما النزاع في المعنى الأزلي النفساني، ولا يلزم من كون مدلول لفظة كن في ذات الله تعالى حدوثه إنتهى.

(هامش)

(1) ولقائل أن يقول لهذا الناصب أهذا الترتيب وما اتصف به من المرتبات هل هي إلا صور حاصلة وهل هي إلا من مقولة العلم، عصمنا الله من اللداد والعناد. (*)

ص 222

أقول: غرض المصنف قدس سره أن الكلام الذي فهمه وقرره السلف والخلف من أهل السمع والعقل ليس إلا ما حكموا بحدوثه، فمن أين جاء هذا الكلام النفسي القديم؟، وحاصله أن إثبات الكلام النفساني مع كونه غير معقول مخالف للاجماع، ويؤيده ما نقل السيد معين الدين الإيجي الشافعي في بعض رسائله عن بعض العلماء إنه قال: ما تلفظ بالكلام النفسي أحد إلا في أثناء المائة الثالثة، (1) ولم يكن قبل ذلك في لسان أحد إنتهى ولا ريب أن هذا إيراد وارد على الأشاعرة، وأما الجواب الذي ذكره من أن السفه (2) إنما هو في اللفظ دون الكلام النفسي، فهو مأخوذ من قواعد العقائد للغزالي والمواقف للقاضي عضد، وحاصل ما قيل إنه ليس من شرط الأمر أن يكون المأمور موجودا، ولكن يجوز أن يقوم الطلب بذاته قبل وجود المأمور، فإذا وجد المأمور كان مأمورا بذلك الطلب بعينه من غير تجدد طلب واقتضاء آخر (3)، فكم من شخص ليس له ولد، ويقوم بذاته اقتضاء طلب العلم لولداه على تقدير وجوده، فله أن يقدر في نفسه أن يقول لولده: أطلب العلم،

(هامش)

(1) قيل إن أول من تفوه بذلك وأبدى هذه الكارثة أبو محمد عبد الله المتكلم البغدادي من أهل القرن الثالث وأراد بذلك حسب زعمه الجمع بين ظواهر الأدلة النقلية من إسناد الكلام إليه تعالى وصدوره منه وبين المحاذير في الكلام اللفظي وما درى المسكين إنه ابتلى بمحاذير أشد من التصرف في ظواهر الأدلة بعد قيام البراهين السديدة. (2) وأيضا لا يخفى على أحد إنه كما أن من العبث والسفه أن يتكلم أحد بالكلام اللفظي ولا يكون له فائدة، كذلك من العبث والسفه أن يلاحظ هذه الأمور أزلا وأبدا ولا تكون له فائدة سيما بعد تحقق الإخبار عنه أو تحقق الأمر والنهي وهو ظاهر منه. قده (3) نظير الواجبات المشروطة أو المعلقة التي حققها المتأخرون في كتب الأصول بما لا مزيد عليه. (*)

ص 223

وأورد عليه سيد المحققين في شرح المواقف (1): بأن ما يجده أحدنا في باطنه هو العزم على الطلب وتخيله، وهو ممكن وليس بسفه، أما نفس الطلب فلا شك في كونه سفها، بل قيل غير ممكن، لأن وجود الطلب بدون من يطلب منه محال، وأما ما ذكره في دفع لزوم الكذب عن مثل قوله تعالى: إنا أرسلنا نوحا (2) فمدخول بأن مقتضى الكلام النفساني في لك علمه تعالى وإخباره بأنه سيرسل نوحا، والمقول بعد ذلك هو أن أرسله، والخبر والعلم بأن الشيئ سيوجد يمتنع أن يكون العلم بأنه يوجد أو وجد، فلا يصح قوله: المزورة المقولة بعد هذا، لدلالته على أن أحدهما هو الآخر، على أنه يلزم من ذلك التغير في علمه تعالى، وبطلانه ظاهر، وبما قررناه يندفع باقي كلمات الناصب كما لا يخفى على المتأمل. قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الرابع في استلزام الأمر والنهي الإرادة والكراهة

(الكراهية خ ل) كل عاقل يريد من غيره شيئا على سبيل الجزم فإنه يأمره به، وإذا كره الفعل فإنه ينهى عنه، وإن الأمر والنهي دليلان على الإرادة والكراهة (الكراهية خ ل)، وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك، وقالوا: إن الله تعالى يأمر دائما بما لا يريده بل بما يكرهه وإنه ينهى عما لا يكرهه، بل عما يريده، وكل عاقل ينسب من يفعل هذا إلى السفه والجهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون، فكل كائن مراد له، وما ليس بكائن ليس بمراد له، ومذهب المعتزلة و

(هامش)

(1) المراد به المحقق الشريف الجرجاني. (2) نوح. الآية 1. (*)

ص 224

من تبعهم من الإمامية أنه تعالى مريد للمأمور به كاره للمعاصي والكفر، ودليل الأشاعرة أنه تعالى خالق الأشياء كلها، وخالق الشيئ بلا إكراه مريد له بالضرورة والصفة المرجحة لأحد المقدورين هو الإرادة ولا بد منها، فإذن ثبت أنه مريد لجميع الكائنات. وأما المعتزلة فإنهم لما ذهبوا إلى أن أفعال العباد مخلوقة لهم وأثبتوا في الوجود تعدد الخالق (1) يلزمهم نفي الإرادة العامة (2)، فالله تعالى عندهم يريد الطاعات ويكره المعاصي، فيأمر بالطاعات وينهى عن المعاصي لأنها ليست من خلقه. وعند الأشاعرة أنه تعالى يريد الطاعات، ويأمر بها وهذا ظاهر ويريد المعاصي وينهى عنها، والأمر غير الإرادة كما مر في الفصل السابق وليس المراد من الإرادة الرضا والاستحسان، فقوله: إن الأشاعرة يقولون: الله تعال يأمر بما لا يريده أراد به أن الله تعالى يأمر بإيمان الكافر ولا يريده، فالمحذور الذي ذكره من مخالفة العقلاء ناش من عدم تحقيق معنى الإرادة، فإن المراد بالإرادة هيهنا هو التقدير والترجيح في الخلق لا الرضا والاستحسان كما هو المتبادر، فذهب إلى اعتبار معنى الإرادة بحسب العرف، وإذا حققت معنى الإرادة علمت مراد الأشاعرة، وأنه لا نسبة للجهل والسفه إلى الله تعالى عن ذلك كما ذكره إنتهى أقول: كونه تعالى خالقا للأشياء كلها ممنوع، والاستناد بقوله تعالى لا إله إلا هو خالق كل شيئ (3) ضعيف، لأنه عام مخصوص بما عدا ذاته تعالى وأفعال عباده، وقد بينا في الفصول السابقة أنه تعالى ليس بخالق لأفعال

(هامش)

(1) أي بالنسبة إلى الأفعال، فاللام عوض عن المضاف إليه أي خالق الفعل أو عهدي بقرينة المقام. (2) أي العامة للطاعات والمعاصي. (3) الأنعام. الآية 102. (*)

ص 225

العباد، وإنما القدرة والتمكن (خ ل التمكين) لهم من الله تعالى، وبينا أن الأمر لا ينفك عن الإرادة وتكلمنا (1) على المثال الذي أورده بقوله: إن الرجل قد يأمر بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا؟، وأما تفسيره (2) للإرادة بالتقدير فهو من مخترعاته التي ألجأه ضيق الخناق (3) إلى التزامها إذ لو لم يكن ذلك معناه بحسب العرف كما اعترف به وظاهر أنه ليس ذلك معنى لغويا أيضا ولو مجازا مشهورا، كما يظهر من تتبع كتب اللغة، فقد خرج الكلام عن اسلوب أرباب التحصيل، ولا يبعد أنه أخذ ذلك مما نسبه أصحابه إلى النعمانية أصحاب محمد بن

(هامش)

(1) عند البحث عن صفة الكلام. منه قده . (2) وقد وجدت بعد الفراغ من هذا التأليف في تفسير فخر الدين الرازي عند تفسير قوله تعالى: بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ما يحتمل أن يكون منشئا لتوهم الناصب في ذلك حيث قال: إن قيل ما معنى القضاء؟ قلنا: فيه وجوه أحدها كذا وثانيها كذا وثالثها القدر وهو يقال مع القضاء فيقال: قضاء الله وقدره، والقضاء ما في العلم، والقدر ما في الإرادة بقوله تعالى: كل شيئ خلقناه بقدر، أي بقدرة مع الإرادة، لا على ما يقولون: إنه موجب ردا على المشركين ثم قال تعالى: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر، أي إلا كلمة واحدة وهو قوله: كن، هذا هو الظاهر المشهور، فعلى هذا فالله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، فهناك شيئان: الإرادة والقول، فالإرادة قدر، والقول قضاء إنتهى ولا يخفى أن كلام الرازي هيهنا محمول على المسامحة وإلا لم ينتظم أول كلامه مع آخره، لأنه قال أولا: إن القضاء ما في العلم والقدر ما في الإرادة فافهم. منه قدس سره. (3) الخناق بكسر الخاء المعجمة: ما يخنق به العنق كالحبل ونحوه، وشاع استعمال لفظة ضيق الخناق في مقام الإشارة إلى تعسر الشيئ وصعوبته بحيث ألجأ الشخص إلى التشبث بكل حشيش. (*)

ص 226

نعمان (1) أبي جعفر الأحول الشيعي الذي لقبه الشيعة بمؤمن الطاق، وأهل السنة بشيطان الطاق، وقد ذكرنا شرح فضائله وبرائته عما نسب إليه من الأقوال الفاسدة مع وجه تلقبه بما ذكر في كتابنا الموسوم بمجالس المؤمنين، والحاصل أن محمد بن عبد الكريم الشهرستاني الشافعي الأشعري قد قال في كتاب العلل والنحل عند ذكر النعمان المذكور: إنه وافق هشام بن الحكم (2) في أن الله تعالى لا يعلم شيئا حتى يكون، والتقدير عنده إرادة فعله تعالى الخ ، فقد دخل الناصب في هذه المسألة في فرقة شاذة مجهولة من الشيعة قد أنكرهم الإمامية أيضا الخ ولعمري إنه لو اطلع أهل ما وراء النهر الذين ألف هذا الكتاب تأليفا لقلوبهم لرموه بالرفض والسخافة، ولراموا قتله مع إحراقه، ثم مع هذه المفسدة العظيمة يوجب

(هامش)

(1) هو أبو جعفر محمد بن النعمان البجلي الكوفي الأحول من أصحاب مولانا الصادق عليه السلام، كان متكلما حاذقا حاضر الجواب أديبا شاعرا، وكان الصادق عليه السلام يحبه كثيرا، وله كتب، منها كتاب افعل ولا تفعل، كتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول، كتاب الرد على أبي حنيفة، كتاب الاحتجاج في إمامة علي عليه السلام، وكان له حانوت تحت طاق المحامل بالكوفة، ومن ثم اشتهر بمؤمن الطاق، وبشاه الطاق، والمخالفون من العامة يلقبونه بشيطان الطاق لكثرة محاجته معهم وغلبته عليهم. (2) هو أبو محمد هشام بن الحكم الكندي ثم البغدادي، النظار المتكلم الجدلي البحاثة، ولد بالكوفة، ثم انتقل إلى بغداد في آخر عمره سنة 199 وقيل: إنه توفي في تلك السنة، روى عن أبي عبد الله، وأبي الحسن عليهما السلام، والمترجم من أجلة أصحابهما وممن فتق الكلام في الإمامة وهذب، وما يترائى في عدة من الروايات من ذمه، لا اعتداد به لضعف سندها واشتمالها على عدة من المخالفين المبغضين، حيث وضعوها لنفير قلوب عوام الشيعة وضعفائهم عن المترجم، ولو سلمت صحة أسانيدها لكانت محمولة على ضرب من التقية حقنا لدمه كما ورد نظير ذلك في حق زرارة بن أعين. (*)

ص 227

القول بذلك جعل النزاع المستمر بين الطائفتين قريبا من سبعمأة سنة لفظيا، ضرورة أن أهل (1) العدل حينئذ لا ينازعون في أن الشرور والقبائح الموجودة من الكفر والفسق وأمثالهما مرادة لله تعالى، بمعنى أنها مقدرة بالتقدير المفسر عندهم بالاعلام والتبيين ونحوهما، وكفاك في تصديق ما ذكرنا في أفعاله تعالى دون أفعال العباد من اختراعه وافترائه بذلك التفسير على أصحابه: أن كتاب المواقف مع بسطه وتلخيص مقالات المتقدمين فيه خال في هذا المبحث وفي مبحث إرادة الله تعالى لجميع الكائنات عن تفسير الإرادة بهذا المعنى، وإنما فسر الإرادة بالصفة المخصصة، ويدل عليه استدلاله في بحث إرادة الله تعالى للكائنات بقوله: لنا أما أنه مريد للكائنات بأسرها، فلأنه خالق للأشياء كلها، وخالق الشيئ بلا إكراه مريد له ضرورة، وأيضا فالصفة المرجحة لأحد المقدورين هو الإرادة كما مر، ولا بد منها الخ لم ذكر أدلة المعتزلة على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي، ولم يجب في شيء منها بأن الإرادة هيهنا بمعنى التقدير، ولعل الناصب اشتبه عليه الأمر من كلام مصنف العقائد النسفية وشارحه، حيث قال المصنف: وهي أي أفعال العباد كلها بإرادة ومشتبه وقضيته وتقديره، ثم قال الشارح: بعد تفسيره التقدير بتحديد كل مخلوق بحده الخ : والمقصود تعميم إرادة الله تعالى وقدرته لما مر من أن الكل بعلق الله تعالى، وهو يستدعي القدرة والإرادة إنتهى ، وغرضه من ذلك أن مقصود المصنف صاحب العقائد من قوله سابقا: وهي أي أفعال العباد كلها بإرادته ومشيته الخ تعميم إرادته وقدرته بالنسبة إلى جميع الكائنات والناصب لهم منه أن المراد أن مقصود (2) الشارح نفسه أو مقصود المصنف

(هامش)

(1) أريد بهم القائلون بعدالته تعالى من فرق المسلمين كالإمامية والمعتزلة والزيدية وخبرهم سوى الأشاعرة النافين لها كما سبق ويأتي. (2) الظاهر أن حق العبارة هكذا: والناصب فهم منه إن مقصود الشارح نفسه أو

ص 228

تعميم معنى إرادة الله تعالى وقدرته عن معنى القضاء والقدر المعطوفين على الإرادة في كلام المصنف، وهذا دليل على جهله وعجزه عن حل العبارات، وبالجملة تفسيره للإرادة بالتقدير (1) خلاف المقدر المقرر بين القوم، ومع هذا لا يسمن ولا يغني من جوع (2) كما عرفت. وإذا أتقنت (خ ل تيقنت) ذلك علمت أن ما ذكره المصنف وأراد لا محيص لهم عنه بما ذكره الناصب والحمد لله. قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الخامس في أن كلامه تعالى صدق،

اعلم أن الحكم بكون الله تعالى صادقا لا يجوز عليه الكذب إنما يتم على قواعد العدلية الذين أحالوا صدور القبيح عنه من حيث الحكمة، ولا يتمشى على مذهب الأشاعرة لوجهين: الأول أنهم أسندوا جميع القبائح بأسرها إليه تعالى، وقالوا: لا مؤثر (3) في الوجود من القبائح بأسرها غيرها إلا الله، ومن يفعل أنواع الشر والظلم والجور والعدوان وأنواع المعاصي والقبائح المنسوبة إلى البشر كيف يمتنع أن يكذب في كلامه، و

(هامش)

مقصود المصنف تعميم الخ (1) ومن رجع إلى رسالة الحدود لابن سينا، وكتاب الحدود للجرجاني، ولسان الخواص للفاضل القزويني، وكليات أبي البقاء، وكتب المتكلمين في مسألة الإرادة، تيقن أن الحق الحقيق بالقبول ما ذكره القاضي الشهيد قده . نعم ذكر بعضهم فروقا بين المشية والإرادة ولعلنا نتعرض لها في محل مناسب لذلك بحوله تعالى وقوته. (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة الغاشية. الآية 7. (3) وببالي أن أول من تفوه بهذه الجملة هو الشيخ أبو الحسن الأشعري قدوة الأشاعرة وتبعه المتأخرون منهم والصوفية من العامة، ثم سرت الكلمة من أفواههم إلى صوفية الشيعة حتى الآن وما دروا أنها كلمة مسمومة صدرت من قلب مريض يسند أفعال العباد الإرادية بأسرها إليه تعالى، وهذا لا يلائم مبنى الإمامية وما ورثوها من الأئمة الطاهرين. (*)

ص 229

كيف يقدر الباحث على إثبات وجوب كون كلامه تعالى صدقا؟، الثاني أن الكلام النفساني عندهم مغاير للحروف والأصوات، ولا طريق لهم إلى إثبات كونه تعالى صادقا في الحروف والأصوات إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أنه تعالى يمتنع عليه الكذب، ووافقهم المعتزلة في ذلك، أما دليل الأشاعرة فلأنه نقص، والنقص على الله محال، وأما عند المعتزلة فلأن الكذب قبيح، وهو سبحانه لا يفعل القبيح (1)، وقال صاحب المواقف إعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه فإن النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها، وإنما تختلف العبارة، أقول: الفرق أن النقص هيهنا يراد به النقص في الصفات، فإنه على تقدير جواز الكذب عليه يتصف ذاته بصفة النقص وهم لم يقولوا هيهنا بالنقص في الأفعال، حتى لا يكون فرقا بينه وبين القبح العقلي كما ذكره صاحب المواقف، فحاصل استدلال الأشاعرة: أنه تعالى لو كان كاذبا لكان ناقصا في صفته، كما أنهم يقولون: لو كان عاجزا أو جاهلا لكان ناقصا في صفته، ولم يعتبروا ما يلزم ذلك النقص من القبح الذي يقول به المعتزلة فتأمل، والفرق دقيق، ثم ما ذكره: من أن عدم الكذب عليه لا يتمشى على قواعد الأشاعرة، فهذا كلام باطل عار عن التأمل، فإن القول بأن لا مؤثر في الوجود

(هامش)

(1) لما كان لقائل أن يقول: إن خلق الكاذب أيضا نقص في فعله فيعود المحذور بعينه أشار إلى دفعه بقوله: إعلم الخ، فأصحابنا المنكرون للقبح العقلي كيف يتمسكون في دفع الكذب عن الكلام اللفظي بلزوم النقص في أفعاله تعالى. أي لا يمكن لنا أن نتمسك بذلك على امتناع الكذب في كلام اللفظي أو تنزهه تعالى عن مثل هذا النقص ليس بوجب عندنا إذ ليس هذا نقصا. (*)

ص 230

إلا الله لا يستلزم إسناد القبائح إليه، لأن فعل القبائح من مباشرة العبد فهو غير مستند إلى الخالق ثم من خلق القبائح فلا بد أن يكذب، ولا يجوز أن يكون صادقا، هذا غاية الجهل والعناد والخروج عن قاعدة البحث بحيث لو نسب هذا الكلام إلى العوام استنكفوا منه، وأما ثاني الاستدلالين على عدم التمشي فهو أيضا باطل صريح، فإن من قال امتنع الكذب عليه للزوم النقص فهذا الكذب يتعلق بالدال على المعنى النفساني وهو أيضا نقص، فكيف لا يتمشى؟ إنتهى أقول: ما أخذ في دليل الأشاعرة من أن النقص على الله تعالى محال إنما استدل عليه بالاجماع كما صرحوا به، ولا برهان عليه من العقل، حتى قال فخر الدين الرازي: إن القول بالنقص والكمال خطابي (1)، وبالجملة الدليل المستند إلى الاجماع لا يفيد اليقين إلا إذا كان الاجماع مقطوعا به، وهو فيما نحن فيه ممنوع، على أن الاجماع المقطوع به لا يلزم أن يفيد المتن على رأيهم، وأيضا الاجماع إنما يكون حجة عندهم لاستناده إلى النص، ودلالة النص موقوفة على صدق كلام الله تعالى، وإثبات صدق كلامه بما يستند إلى النص يستلزم الدور وما قال صاحب المواقف: من أن صدق النبي صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على صدق كلامه تعالى، بل على تصديق المعجزة، وهو تصديق فعلي منه تعالى لا قولي على ما بين في محله، منظور فيه، لأن المعجزة إنما تدل على صدق النبي صلى الله عليه وآله في دعوى النبوة وكونه رسول الله صلى الله عليه وآله، وأما صدقه في سائر الأحكام، فالظاهر من كلامه أنه لاستدعاء الرسالة أن يكون أحكامه من عند الله، فيتوقف على صدق كلامه تعالى هذا. وأما ما نقله الناصب من كلام صاحب المواقف، ثم أورد عليه بقوله:

(هامش)

(1) القول الخطابي هو المؤلف من المظنونات ونحوها. (*)

ص 231

أقول: الفرق الخ يدل على غاية جهله وخبطه (1) وخلطه (2) وعدم تحصيله لمقصود صاحب المواقف من ذلك الكلام، فإن صاحب المواقف بعد ما ذكر من الأشاعرة دليلهم المشتمل على محذور النقص، ذكر دليلا ثانيا لهم وهو قوله: وأيضا يلزم على تقدير أن يقع الكذب في كلامه تعالى أن يكون نحن أكمل منه في بعض الأوقات، أعني وقت صدقنا في كلامنا، ثم اعترض على هذا الدليل الثاني بقوله واعلم الخ وحاصله على ما أشار إليه الشارح قدس سره الشريف، والشارح الجديد للتجريد (3)، أن هذا الدليل إنما يدل على صدق الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى، وإلا لزم نقصان صفته تعالى مع كمال صفتنا، ولا يدل على صدقه في الكلام اللفظي الذي يخلقه في جسم دالا على معنى مقصود منه، لأنه على ذلك التقدير يلزم النقص في فعله، ولا فرق بين النقص في الفعل، وبين القبح العقلي فيه، وهم لا يقولون به، مع أن الأهم بيان صدقه في الكلام اللفظي ثم الناصب لم يذكر الدليل الثاني لأنه لم يفهم تعلق الكلام المنقول به، بل ولم يفهم محصله ومعناه، ومع هذا اعترض عليه بما تراه واهيا ساقطا لا ارتباط له بكلام صاحب المواقف أصلا، ولا في دفع كلام المصنف، وأما ما ذكره: من القول بأن لا مؤثر في الوجود إلا الله لا يستلزم إسناد القبائح إليه تعالى واه أيضا لأن خلق الكلام اللفظي الكاذب قبيح عند العقلاء، وهم يجوزون (4) ذلك، ولا

(هامش)

(1) الخبط: التصرف في الأمور على غير بصيرة. (2) الخلط: والخلط في الشيئ إفساده بمزج ما يفسده. (3) من المصرحين به شارح المواقف والشارح الجديد للتجريد. منه قدس سره. (4) وقد صرح بعض الأشاعرة بجوازه، بناء على أصلهم الغير الأصيل من نفي الحسن والقبح العقليين. (*)

ص 232

يدفعه دليلهم كما اعترف به صاحب المواقف، وبالجملة كما أشار إليه الشارح قدس سره الشريف لا يمكنهم التمسك في دفع الكذب عن الكلام اللفظي بلزوم النقص في أفعاله، إذ تنزهه عن مثل هذا النقص ليس بواجب عندهم، إذ هو ليس نقصا عندهم فلا يمكنهم إثبات وجوب كون كلامه تعالى صدقا كما ذكره المصنف، وقد ظهر بما قررنا صحة ثاني استدلالي المصنف قدس سره أيضا فلا تغفل. قال المصنف رفع الله درجته

المبحث الثامن في أنه تعالى لا يشاركه شيئ في القدم

العقل والسمع متطابقان على أنه تعالى مخصوص بالقدم، وأنه ليس في الأزل سواه، لأن كل ما عداه سبحانه وتعالى ممكن، وكل ممكن حادث، وقال تعالى: هو الأول والآخر (1)، وأثبت الأشاعرة معه معاني قديمة ثمانية هي علل (2) في الصفات، كالقدرة والعلم والحياة إلى غير ذلك، ولزمهم من ذلك محالات: منها إثبات قديم غير الله تعالى قال فخر الدين الرازي: النصارى كفروا بأنهم (لأنهم خ ل) أثبتوا ثلاثة قدماء (3)، وأصحابنا قد أثبتوا تسعة، ومنها أنه يلزمهم افتقار الله تعالى في كونه عالما إلى إثبات معنى هو العلم، ولولاه لم يكن عالما، وافتقاره في كونه قادرا إلى القدرة، ولولاها لم يكن قادرا، وكذلك باقي الصفات، والله تعالى منزه عن الحاجة والافتقار، لأن

(هامش)

(1) الحديد. الآية 3. (2) مراده من المعاني مبادر المشتقات المطلقة عليه تعالى كالقدرة والعلم، ومراده من الصفات نفس مفاهيم المشتقات، كمفهوم القادر والعالم والحي وبعض الأشاعرة عبر عن تلك الصفات بالقديمة وقال إنها المتأخرة رتبة من الذات وهل هذا إلا التهافت. (3) وهي الأقانيم الثلاثة، ويأتي ذكرها في شرح كلمة أقنوم. (*)

ص 233

كل مفتقر إلى الغير فهو ممكن. ومنها أنه يلزم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى وهو محال، بيان الملازمة: أن العلم بالشيئ مغاير للعلم بما عداه، فإن من شرط العلم المطابقة، ومحال أن يطابق الشيئ الواحد أمورا متغايرة متخالفة في الذات (1) والحقيقة، لكن المعلومات غير متناهية، فيكون له علوم غير متناهية، لا مرة واحدة بل مرارا غير متناهية باعتبار كل علم يفرض في كل مرتبة من المراتب الغير المتناهية، لأن العلم بالعلم بالشيئ مغاير للعلم بذلك الشيئ، ثم العلم بالعلم بالشيئ مغاير للعلم بالعلم بالعلم بذلك الشيئ وهكذا إلى ما لا يتناهى، (خ ل ما لا نهاية له) وفي كل واحدة من هذه المراتب مراتب غير متناهية وهذا عين السفسطة، لعدم تعقله بالمرة. ومنها أنه لو كان الله تعالى موصوفا بهذه الصفات، وكانت قائمة بذاته كانت حقيقة الإلهية مركبة وكل مركب محتاج إلى جزئه، وجزؤه (2) غيره فيكون الله تعالى محتاجا إلى غيره، فيكون ممكنا، وإلى هذا أشار مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال: أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه، فقد جزاه، ومن جزاه فقد جهله (3) ومنها أنهم ارتكبوا هيهنا

(هامش)

(1) العطف تفسيري، وفي الاصطلاح فرق بينهما بفروق سنتعرض لها في التعاليق الآتية (2) غيره أي باعتباره لا بشرط، كما أنه عينه باعتباره بشرط شيئ. (3) نهج البلاغة. الخطبة الأولى، حارت أفكار أهل النظر في شرح قوله عليه السلام، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، وببالي إني رأيت عدة رسائل ومقالات في شرحه، وكل أظهر العجز عن فهم معناه والنيل بمغزاه، وإنه لم يصب ما رامه الإمام، وكيف يدرك شأو من كان كلامه تالي كلام الله الذي أعجز مصاقع البلغا وفرسان الفصاحة عن (*)

ص 234

ما هو معلوم البطلان، وهو أنهم قالوا: إن هذه المعاني لا هي نفس الذات ولا مغايرة لها، وهذا غير معقول، لأن الشيئ إذا نسب إلى آخر فأما أن يكون هو هو أو غيره ولا يعقل سلبهما معا إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أنه تعالى له صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته، فهو عالم بعلم وقادر بقدرة، مريد إرادة وعلى هذا القياس، والدليل عليه أننا نفهم الصفات الإلهية من صفات الشاهد وكون علة (1) الشيئ عالما في الشاهد هي العلم فكذا في الغائب، وحد العالم هيهنا من قام به العلم، فكذا حده هناك، وشرط صدق المشتق على واحد ما ثبوت أصله، فكذا شرط فيمن غاب عنا، وكذا القياس في باقي الصفات، ثم أخذ هذا من عرف اللغة وإطلاقات العرف فإن العالم لا شك أنه من يقوم به العلم، ولو قلنا بنفي الصفات لكذبنا نصوص الكتاب والسنة، فإن الله تعالى في كتابه ثبت الصفات لنفسه، كقوله تعالى: ولا يحيطون بشيئ من علمه إلا بما أشاء (2) فإذا ثبت في النصوص إثبات الصفات له فلا بد لنا من الاثبات من غير تأويل، فإن الاضطرار إلى التأويل إنما يكون بعد العجز عن الاجراء على حسب الواقع، وذلك لدلالة الدلائل العقلية على امتناع إجرائه على حسب ظاهره، وهيهنا، ليس كذلك فوجب الاجراء على الظاهر من غير تأويل، وعندي أن هذا هو العمدة في إثبات الصفات الزائدة، فإن الاستدلالات العقلية على إثباتها مدخولة، والله أعلم. ثم ما استدل به هذا الرجل

(هامش)

الاتيان بسورة من مثله. (1) الظاهر أن العبارة كذا وعلة كون الشيئ عالما . (2) البقرة. الآية 255. (*)

ص 235

على نفي الصفات الزائدة من الوجوه فكلها مجاب: الأول استدلاله بأن كل ما عداه ممكن وكل ممكن حادث، فنقول: سلمنا أن كل ما عداه ممكن ولكن نقول في المقدمة الثانية: إن كل ممكن ما عدا صفاته فهو حادث، لأن صفاته لا هو ولا غيره، كما سنبين بعد هذا الثاني الاستدلال بلزوم إثبات قديم غير الله تعالى وإثبات القدماء كفر وبه كفرت النصارى، الجواب: أن الكفر إثبات ذوات قديمة لا إثبات ذات وصفات قدماء هي ليست غير الذات مباينة كلية، مثلا علم زيد ليس غير زيد بالكلية، فلو كان علم زيد قديما فرضا مثل زيد فأي نقص يعرض من هذا لزيد إذا كان متصفا بالقدم، لأن علمه ليس غيره بالكلية، بل هو من صفات كماله الثالث الاستدلال بلزوم افتقار الله في كونه عالما إلى إثبات معنى هو العلم ولولاه لم يكن عالما، وكذا في باقي الصفات، والجواب إن أردتم باستكماله بالغير ثبوت صفة الكمال الزائدة على ذاته لذاته فهو جائز عندنا، وليس فيه نقص وهو المتنازع فيه، وإن أردتم به غيره فصوروه أولا حتى تفهموه (1) ثم بينوا لزومه لما ادعينا، والحاصل: أن المحال هو استفادته صفة كمال من غيره لا اتصافه لذاته بصفة كمال هي غيره، واللازم من مذهبنا هو الثاني لا الأول الرابع الاستدلال بلزوم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى، وذلك لأن العلم بالشيئ مغاير للعلم بما عداه إلى ما ذكره إلى آخر الدليل (2)، والجواب أن العلم صفة واحدة قائمة بذاته تعالى ويتعدد بحسب التعلق بالمعلومات الغير المتناهية، فله بحسب كل معلوم تعلق، فكما يتصور أن تكون المعلومات غير متناهية كذلك يجوز أن تكون تعلقات العلم الذي هو صفة واحدة غير متناهية بحسب المعلومات، وليس يلزم منه محال فلا يلزم التسلسل المحال، لفقدان شرط الترتب والوجود، الخامس الاستدلال بأنه لو كان موصوفا بهذه الصفات لزم كون الحقيقة

(هامش)

(1) الظاهر أن قوله: تفهموه نفهمه. من الفضل. (2) الظاهر: إلى آخر ما ذكره من الدليل. من الفضل. (*)

ص 236

الإلهية مركبة، ويلزم منه الاحتياج، والجواب أن المراد بالحقيقة الإلهية إن كان الذات فلا يلزم من إثبات الصفات الزائدة تركب في الذات، وإن كان المراد أن هناك ذاتا وصفات متعددة قائمة بتلك الذات فليس إلا ملاحظة الموصوف مع الصفات، ثم إن احتياج الواجب إلى ما أهو غيره يوجب الامكان كما قدمنا وأما ما استدل به من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، فالمراد من نفي الصفات يمكن أن يكون صفات (1) تكون هي غير الذات بالكلية، وليس هيهنا كذلك السادس الاستدلال بلزوم ارتكاب ما هو معلوم البطلان هيهنا، وهو أن هذه المعاني لا هي عين الذات ولا غيرها وهذا غير معقول، والجواب أن المراد بعدم كون الصفات عين الذات أنها مغايرة للذات في الوجود، وكونها غير مغايرة لها أنها صفات للذات، فليست بينهما مغايرة كلية بحيث يصح إطلاق كونها مغايرة للذات بالكلية، كما يقال: إن علم زيد ليس عين زيد، لأنه صفة له، وليس غيره بالكلية، لأنه قائم به، وهذه الواسطة على هذا المعنى صحيح، لأن سلب العينية باعتبار وسلب الغيرية باعتبار آخر، فكلا السلبين يمكن تحققهما معا إنتهى أقول: فيه نظر أما أولا فلأن مبنى الدليل الذي ذكره على قياس الغائب على الشاهد، وهو قياس باطل مردود عند الأشاعرة أيضا وقد استضعفه صاحب المواقف في مقدمات كتابه (2) وأنكروا استعمالها على الشيعة والمعتزلة في مواضع

(هامش)

(1) وحق العبارة هكذا: يمكن أن يكون نفي صفات. (2) قال في المقصد الخامس من الرصد السادس: الطريق الثاني من ذينك الطريقين الضعيفين قياس الغائب على الشاهد، ولا بد فيه من إثبات علة مشتركة بين المقيس عليه وهو أي هذا الاثبات بطريق اليقين مشكل جدا، لجواز كون خصوصية الأصل الذي هو المقيس عليه شرطا لوجود الحكم فيه أو كون خصوصية الفرع الذي هو المقيس مانعا لوجوده فيه، وعلى التقديرين لا تثبت بينهما علة مشتركة انتهى منه قده (*)

ص 237

متعددة (1) فكيف جاز للناصب استعماله هيهنا؟ وهذا دليل على عجزه، بل عجز أصحابه عن الاستدلال بالدلائل اليقينية، وأما ثانيا: فلأنا قد ذكرنا أن الاعتبار مما لا يعتد به في المطالب العقلية، ولا يلزم من التأويل فيما نحن فيه بمعونة الدليل العقلي تكذيب النصوص كما زعمه، وإلا لما جاز تأويل المتشابهات بوجه من الوجوه كاليد والقدم ونحوها بعد قيام الدليل العقلي على استحالة الجسمية على الله تعالى، على أنا قد بينا أن ليس يعتبر في معنى المشتق في اللغة قيام مبدئه، غايته أنه في أكثر المواد يستلزم ذلك، ألا ترى؟! أنه صح بحسب اللغة أن الضوء مضئ ولا يقوم به ضوء، وأنه يفسر المشتقات في اللغة الفارسية ما لا يقتضي قيام المبدأ، فيقال: العالم معناه دانا والقادر معناه توانا والبصير معناه بينا وغير ذلك من تفسيراتها، وأما ما ذكر من أنه ليس هيهنا دليل عقلي: يدل على امتناع إجراء النصوص المتضمنة لإثبات الصفات على ظاهرها، ففيه: أن النصوص لا تدل (2) على ثبوت تلك الصفات ووجودها في أنفسها، وإنما تدل على كونه تعالى عالما قادرا إلى غير ذلك، وثبوت الصفة للموصوف لا يتوقف على وجودها في أنفسها، فلا يثبت مطلوبهم، ولو سلم أن ظاهرها ما فهموه منها نقول: إن الدلائل العقلية على إرادة خلاف ظاهرها كثيرة مذكورة في التجريد وغيرها، وأخف ما

(هامش)

(1) منها ما ذكره شارح العقايد النسفية في جواب استدلال المجسمة إن كل موجودين فرضا يكون أحدهما متصلا بالآخر مما سأله أو منفصلا عنه مباينا في الجهة والله تعالى ليس حالا ولا محلا للعالم، فيكون مبائنا في الجهة فيتحيز، فيكون جسما أو جزء جسم متصورا متناهيا حيث قال الشارح، والجواب أن ذلك وهم محض، وحكم على غير المحسوس بأحكام المحسوس منه قده . (2) إشارة إلى أن النصوص واقعة على حسب الاستعمال اللغوي، والاستعمال اللغوي لا يستلزم اعتبار القيام في كل مشتق كما مر منه قده . (*)

ص 238

رأينا ذكره هيهنا أنه تعالى واجب لذاته فيكون غنيا عن الغير في كمال ذاته وعلى تقدير كون الصفات الحقيقية زائدة على الذات يكون محتاجا في التكميل إلى الصفة المغايرة له، وكل ما هو مغاير له فهو ممكن، لاستحالة تعدد الواجب، فيلزم أن لا يكون مستكملا في حد ذاته، بل محتاجا إلى الممكن فيه، مع أنه غني عن العالمين (1) وتوضيح المرام أن العالم ما يعبر عنه بالفارسية بدانا وكذا القادر ما يعبر عنه بتوانا وقس عليه باقي الصفات، وتفسيره العالم بما قام به العلم والقادر بما قام به القدرة إنما هو مقتضى اللغة ومسامحتهم فيه كما مر، ولما دل الدليل على عدم قيام الوجود والعلم والقدرة وكذا سائر الصفات به، وأنه موجود عالم قادر، علم أن قيام المبدأ به غير لازم، وبعد هذا نقول: إن صفة الشيئ على قسمين: أحدهما ما يقوم به في نفس الأمر كالعلم بالنسبة إلى زيد، وثانيهما عرضي لا يقوم به كالعالم والقادر بالنسبة إليه، فإنهما أعين زيد في الخارج، لصحة حملهما عليه مواطاة (2) وزائدان على مهيته (3)، والصفة بالمعنى الأول زائد على الله تعالى في الخارج، والثاني عينه فيه، والمراد أن صفاته تعالى من القسم الثاني لا الأول الزائد على الذات في الخارج، وقيام المبدء غير لازم، فصح كون الصفات عين الذات، كذا حققه صدر المدققين (4) في بعض مصنفاته العلية (العقلية خ ل)، وأما ما أجاب به الناصب عن أول استدلالات المصنف فمن تخصيص المقدمة الكلية العقلية القائلة: بأن كل ممكن حادث بما عدا صفاته، فهن تخصيص بارد لا دليل عليه، ومخالف لما

(هامش)

(1) اقتباس من قوله تعالى في آل عمران. الآية 97. (2) إشارة إلى الحمل المتواطي، وسنتعرض لشرحه إن شاء الله في محل مناسب. (3) أي على صورته الحاصلة في العقل لا على ذاته وهويته الخارجية، وهذه الزيادة في الذهن لا في الخارج فافهم منه قده ز (4) المراد به السيد صدر الدين الحسيني الشيرازي الدشتكي، وقد مرت ترجمته. (*)

ص 239

يجده كل عاقل: من أن الواجب بالذات لا يكون إلا ذاتا، وما استدل به عليه من قوله: لأن صفاته لا هو ولا غيره مجرد اصطلاح منهم لا يدفع التعدد والتغاير في الواقع فلا يفيد، وتحقيق ذلك على ما حققه سيد المحققين (1) في شرح المواقف: أنهم لما أثبتوا صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته تعالى، لزمهم كون القدم صفة لغير الله تعالى، ولزمهم أيضا أن تكون تلك الصفات مستندة إلى الذات، إما بالاختيار فيلزم التسلسل في القدرة والعلم والحياة والإرادة، ويلزمهم أيضا كون الصفات حادثة، وإما بالايجاب فيلزمهم كونه تعالى موجبا بالذات ولو في بعض الأشياء، فتستروا عن شناعة هذا بالاصطلاح المذكور كما تستروا عن شناعة القول بالجسمية بالتكلفات. وأما ما أجاب به عن الاستدلال الثاني من أن الكفر إثبات ذوات قديمة الخ ففيه أن النصارى أيضا لم يثبتوا ذواتا ثلاثة وإنما هذا شيئ افتراه عليهم أصحاب الناصب عند إرادة التفصى عن مشاكلتهم مستدلين عليه بأنهم قالوا: بانتقال أقنوم (2) العلم إلى المسيح والمستقل بالانتقال لا يكون إلا ذاتا وهو مدفوع،

(هامش)

(1) المراد به المحقق الشريف الجرجاني. (2) الاقنوم، بضم الهمزة وسكون القاف وضم النون، كلمة رومية على الأصح، معناه الأصل، جمعها الأقانيم، النصارى أثبتوا الله تعالى أقانيم ثلاثة، وقالوا إنه تعالى واحد بالجوهرية، يعنون به القائم بالنفس لا التحيز والحجمية ثلاثة بالأقنومية، ويعنون بالأقانيم الصفات، كالوجود والحياة والعلم، والأب والابن وروح القدس، وقال بعض علمائهم، إن العلم قد تدرع وتجسد بجسد المسيح، دون سائر الأقانيم، ولهم في كيفية الاتحاد والتجسد كلمات مختلفة، ومذاهب متشتتة، فمن بعض علماء الكهنوت، إنه أشرق على الجسد إشراق النور على الجسم المشف، وعن بعض أهل اللاهوت، أنه ظهر به ظهور الروحاني بالجسماني، وعن بعضهم إنه، انطبع فيه انطباع النقش في الشمعة، ومنهم من عبر بقوله، ما زجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن بالماء، ومنهم من عبر بأنه (*)

ص 240

بأنه لا يفيد ما هو المدعى من إثبات كون الأقانيم الثلاثة ذواتا، وإنما يفيد كون أقنوم واحد ذاتا، على أنا نقول يجوز أن يكون قولهم بانتقال أقنوم العلم بواسطة تجويزهم الانتقال على الصفات (1) أو أرادوا بالانتقال حصول مثله لا حقيقة الانتقال، وبقاء الواجب بلا علم فلا يلزم عليهم القول بكونه ذاتا، ومن البين أن مجرد القول بانتقال الصفة لا يستلزم الكفر، وإن كان ذلك جهلا، وبالجملة لا يجب أن يكون المعتقد للانتقال معتقدا للذاتية لجواز أن يكون منكرا للزوم بينهما.

(هامش)

اللاهوت قد تدرع بالناسوت، وقالوا إن القتل والصلب، لم يرد على الجزء اللاهوتي من المسيح، بل ورد على الجزء الناسوتي، إلى غير ذلك من الأقوال والتعابير التي تحكي عن ترددهم وتحيرهم فمن ثم قيل إن النصارى كالحيارى، وزنا ومعنا، ومن رام الوقوف على ترهاتهم، فليرجع إلى كتبهم الصادرة من أقلام أعلامهم، ككتاب تحفة الاريب، وكتاب الرحمة وكتاب الحيوة، وكتاب حيوة المسيح، وكتاب اللاهوت، وكتاب سيدنا المسيح وغيرها وكذا يرجع إلى الكتب المؤلفة في الرد عليهم ككتاب تحفة الاريب، وكتاب الهدى وغيره من كتب شيخنا الأستاذ آية الله الشيخ محمد الجواد البلاغي جزاه الله عن الإسلام خيار، وكتاب الفارق لباجه چى البغدادي، وكتاب الدين والاسلام، وكتاب إظهار الحق، وكتاب التوضيح لشيخنا الأستاذ آية الله الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي، إلى غير ذلك من ألوف الكتب والرسائل التي ألفها علماء الإسلام وأوضحوا المحجة بحيث لم يبق مورد لعذر، فما من نصراني إلا وقد تمت الحجة عليه سيما علمائهم، والله الهادي إلى سواء السبيل. (1) كما ذهب إليه طائفة من القدماء متمسكين بأن رائحة التفاح تنتقل إلى ما يجاوره والحرارة تنتقل من النار إلى ما يماسها كما يشهد به الواقع، وأجيب عنه في شروح التجريد والمواقف وغيرهما بما لا يسع ذكره في المقام منه وقد أشار المحقق قده إلى الجواب في التجريد بقوله: والموضوع من جملة المشخصات وبينه الشارحون بما لا مزيد عليه. (*)

ص 241

وأما ما ذكره: من المثال فإنما يصلح لتلاعب الأطفال، فإنه في مرتبة أن يقال أي نقص يعرض الله تعالى من كون عرشه قديما؟ لأنه محل استوائه ومن مجالي (1) عظمته بل الحنابلة يحكمون بجلوسه عليه، تعالى عنه علوا كبيرا وأما ما أجاب به عن الثالث بقوله إن أردتم باستكماله بالغير الخ ففيه أن العقل السليم حاكم بأن الواجب لذاته لا يفتقر في ذاته وفيما يتوقف عليه ذاته إلى غيره، وأن المفتقر إلى غيره كذلك ممكن. وأما ما ذكره من أن المحال هو استفادته تعالى صفة كمال من غيره لا اتصافه لذاته بصفة كمال هو غيره فمردود بأنه لا كمال لله تعالى في اتصافه بصفة كمال هو غيره لأن غيرية الصفة تستلزم افتقار الذات المستلزم للامكان كما مر، وإنما يكون ذلك كما لا في الشاهد الممكن الناقص، فهذا أيضا راجع إلى قياس الغائب على الشاهد، وقد عرفت ما فيه، ثم لا يخفى أن أخذ الاستكمال بدل الافتقار إنما وقع في تقرير صاحب المواقف لهذا الدليل، والناصب لقصور فهمه وعجزه عن التقرير والتحرير لم يقدر على تغيير التقرير وتبديل الاستكمال بالافتقار ليصير جوابه مقابلا لكلام المصنف؟ فذكر في جواب المصنف عين ما أجاب به صاحب المواقف هناك مشتملا على لفظ الاستكمال، مع أن بين الاستكمال (2) والافتقار

(هامش)

(1) المجالي: جمع مجلاء محل الجلوة. (2) إذ الافتقار الاحتياج ضد الاستغناء، والاستكمال الاستتمام، وهما متغايران مفهوما متلازمان وجودا والفرق دقيق. وقال القاضي الشهيد المرعشي في الهامش ما لفظه: قال عين القضاة ذواتنا ناقصة، وإنما تكملها الصفات فأما ذات الله تعالى سبحانه فهي كاملة لا تحتاج في شيئ إلى شيئ، إذ كل ما يحتاج في شيئ إلى شيئ فهو ناقص، والنقصان لا يليق بالواجب تعالى، فذاته تعالى كافية للكل في الكل فهي بالنسبة إلى المعلومات علم وبالنسبة إلى المقدورات قدرة وبالنسبة إلى المرادات إرادة ولا اثنينية فيها بوجه من الوجوه إنتهى وبعض عبارات غيره من الصوفية موافقة له وبعضها مخالف. منه قده (*)

ص 242

فرق لا يخفى وأما ما أجاب به عن الاستدلال الرابع من أن العلم صفة واحدة قائمة بذاته تعالى، ويتعدد بحسب التعلق بالمعلومات الخ فمدخول، بأن المصنف قدس سره لم يجعل المحذور في هذا الدليل لزوم العلم بالمعلومات الغير المتناهية المراد بها الحوادث الكونية، كما زعمه حتى يتأتى دفعه بأنه لا يلزم التسلسل المحال، بناء على أن عدم تناهي معلومات الله تعالى إنما هو بمعنى أن تعلق علمه تعالى بتلك المعلومات لا ينتهي إلى أمر معلوم لا يمكن تجاوزه عنه، لا بمعنى أن تلك العلوم المتعلقة بها حاصلة متحققة بالفعل كيف؟ ولو كان مراد المصنف ذلك لو رد عليه مثل ما أورده على الأشاعرة، لظهور أنه على تقدير أن يكون علمه تعالى عين الذات يلزم من علمه بالمعلومات الغير المتناهية التفافات غير متناهية ويكون الجواب الجواب، بل مراده قدس سره من المعلومات الغير المتناهية العلوم المعلومة بما يغايرها من العلوم اللازمة على تقدير القول بزيادة الصفات كما سنبينه عن قريب إن شاء الله تعالى (1)، ومراده بالمرار الغير المتناهية المرار الحاصلة من لزوم العلوم

(هامش)

أقول: عين القضاة هو الشيخ محمد بن عبد الله بن محمد بن علي الميانجي الهمداني المتوفى سنة 523 صاحب التآليف، وله تآليف وتصانيف في التصوف والكلام والفلسفة منها كتاب سوانح العشاق الفه لشيخه أحمد الغزالي وكتاب شكوى الغريب عن الأوطان إلى علماء البلدان وكتاب تازيانه سلوك في التصوف وكتاب زبدة الحقايق. ومن شعره في الغزل: تا با دل من عشق برآميخته شد * صد فتنه وآشوب برانگيخته شد از خنجر آبدار آتشبارت * تا چشم زدم خون دلم ريخته شد (1) كلمة إن شاء الله تعليقية إن كان الأمر المقترن به غير متيقن الوقوع ويكتب حرف إن حينئذ منفصلة عن المشية (إن شاء الله) وتيمنية إن كان الأمر المقترن به متيقن الوقوع وتكتب حرف إن حينئذ متصلة بالمشية (إنشاء الله) ونص على هذا الفرق جمع منهم المحقق القمي صاحب القوانين قده في تعاليقه على وافية الأصول للفاضل التوني. (*)

ص 243

الغير المتناهية في مرتبة إثبات كل من المعاني القديمة، فإن تأثيره تعالى في العلم الزائد عليه في الخارج يتوقف على علم آخر كما يتوقف على قدرة وإرادة وغيرهما من المعاني الزائدة، وكذا تأثيره في القدرة والإرادة المتوقف عليهما التأثير في العلم يتوقف على قدرة وإرادة أخرى وهكذا، فيلزم في هذه المرتبة علوم غير متناهية وقدر (1) غير متناهية وإرادات غير متناهية، وكذا في مرتبة تأثيره تعالى ابتداء في القدرة الزائدة عليه تلزم السلاسل الغير المتناهية، لتوقف تأثير القدرة على العلم والإرادة الزائدتين وهكذا الكلام في تأثيره تعالى ابتداء في الإرادة الزائدة وهذا هو الذي أراده بقوله: وفي كل واحدة من هذه المراتب مراتب غير متناهية، ويقرب منه ما ذكره قدس سره في (كتاب نهج المسترشدين) بقوله: ولأن صدور العلم عنه يستدعي كونه علما وذلك إنما يكون بعد كونه عالما فيكون الشيئ مشروطا بنفسه أو يتسلسل، لأن العلم الذي هو شرط صدور هذا العلم إما أن يكون نفسه، أو غيره، فعلى الأول يلزم الأول، وعلى الثاني يلزم الثاني، وقد ذكر في النهج دليلا آخر أخذ فيه لزوم حدوث الصفات حيث قال: لنا أنه لا قديم سواه لأن كل موجود سواه فهو مستند إليه كما حقق في إثبات وجوده تعالى، وقد بينا أنه تعالى مختار، وفعل المختار محدث، وملخصها ما ذكره سيد المحققين (2) قدس سره: في شرح المواقف من أن تأثيره تعالى في صفة القدرة مثلا إن كان بقدرة واختيار لزم محذوران، التسلسل في صفاته وحدوثها، وإن كان بإيجاب لزم كونه موجبا بالذات، فلا يكون الايجاب نقصانا فجاز أن يتصف به بالقياس إلى بعض مصنوعاته، ودعوى أن إيجاب الصفات كمال وإيجاب غيرها نقصان مشكلة إنتهى وإنما طوى المصنف في تلك الأدلة احتمال الايجاب لامتناعه عند المليين، وبعد

(هامش)

(1) القدر جمع القدرة على خلاف القياس. (2) المراد به المحقق الشريف الجرجاني. (*)

ص 244

التزام الخصم له، وإنما لم يذكر لزوم الحدوث مع لزوم التسلسل، إذ قد ناقش بعضهم في كون الاختيار مستلزما للحدوث، ولا مناقشة في كونه مستلزما للتسلسل في بعض الصفات (1) فافهم، هذا ويتوجه أيضا على الناصب فيما ذكره من تعدد العلم بحسب التعلق بالمفهومات أن تلك التعلقات إن كانت قديمة يلزم قدم المعلومات وإن كانت حادثة يلزم عدم علمه تعالى بالمعلومات قبل تلك التعلقات الحادثة، قال (العلامة الدواني (2) في شرحه على العقائد العضدية) أما ما ذكره الظاهريون (3) من المتكلمين من أن العلم قديم، والتعلق حادث لا يسمن ولا يغنى من جوع، إذا العلم ما لم يتعلق بالشيئ لا يصير ذلك الشيئ لا يصير ذلك الشيئ معلوما فهو يفضي إلى نفي كونه تعالى عالما بالحوادث في الأزل تعالى عن ذلك علوا كبيرا إنتهى وأما ما ذكره آخرا من أنه لا يلزم التسلسل المحال لفقدان شرط الترتب الخ فدليل على جهله بشرائط استحالة التسلسل عند المتكلمين، فإن وجود ما لا يتناهى في الخارج محال عندهم مطلقا سواء كان هناك ترتب أولا كما صرحوا به وعرفه من له أدنى تحصيل وأما ما أجاب به عن الدليل الخامس فنختار الشق الثاني منه، قوله: فليس هناك إلا ملاحظة الموصوف مع الصفات قلنا: إن أراد به أنه ليس هناك موصوف وصفة قائمة به في نفس الأمر، وإنما التعدد بحسب ملاحظة مفهوم العالم والقادر وغيرهما فهو عين مذهب القائل بالعينية كما لا يخفى، وإن أراد به أنه تتحقق هناك ملاحظة الموصوف مع الصفة القائمة به فهو كلام لغو لا أثر له في دفع الاستدلال وأما ما ذكره من أن احتياج الواجب إلى ما هو غيره يوجب الامكان فالظاهر

(هامش)

(1) أي القدرة والعلم والحياة والإرادة كما مر. (2) قد مرت ترجمة أحواله سابقا فليراجع. (3) المراد بهم من يأخذ بظواهر الأدلة النقلية في باب صفاته تعالى، لا الظاهريون التابعون لداود بن علي الأصفهاني الذي مرت ترجمته فلا تغفل. (*)

ص 245

أن له تتمة حذفها، هي أن صفاته تعالى ليست غيرها كما هي ليست عينها ولعله إنما حذفها هربا عن التصريح بالفاسد، لما مر من أن عدم المغايرة بين الذات والصفات إنما هو بحسب اصطلاحهم، ولا يفيد عدم المغايرة في نفس الأمر، فلا يفيد أصلا، وأما ما ذكره في تأويل كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام من احتمال إرادة صفات تكون هي غير الذات بالكلية فلا تخفى ركاكته، ولقد أشبه قولهم الصفات ليس غير الذات بالكلية قول الرجل الخراساني الذي ضل حماره في قافلة وكان ذكرا، فأخذ حمارا أنثى كان لأحد من رفقائه عوضا عنه، فلما تكلموا معه في ذلك وقالوا له إنك كنت تقول: إن حماري كان ذكرا وهذه أنثى قال: إن حماري أيضا لم يكن ذكرا بالكلية، فليضحك قليلا وليبك كثيرا (1) وأما ما أجاب به عن الدليل السادس من أن المراد بعدم كون الصفات عين الذات أنها مغايرة للذات في الوجود الخ فقد مر مرارا أن هذه الإرادة والاصطلاح منهم لا يدفع التغاير في الواقع، وهو مما يأباه العقل في باب التوحيد، على أن الواسطة بين الشيئ وغيره مما يجدها كل عاقل، وتخصيص الغير بما خصصوه به لتصوير الواسطة تعسف لا يخفى. وأما ما ذكره بقوله كما يقال: إن علم زيد ليس عين زيد لأنه صفة له وليس غيره بالكلية الخ فهو مثال من جملة مصنوعاته، ولم نسمه إلى الآن من يقول: إن علم زيد ليس غيره بالكلية، وإنما سمعنا نظيره عن الخراساني كما مر. قال المصنف رفع الله درجته

المبحث التاسع في البقاء،

وفيه مطلبان،

المطلب الأول أنه ليس زائدا على الذات

وذهبت الأشاعرة إلى أن الباقي إنما يبقى ببقاء زائد على ذاته، وهو عرض قائم

(هامش)

(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة التوبة: الآية 82. (*)

ص 246

بالباقي، وأن الله تعالى باق ببقاء قائم بذاته، ولزمهم من ذلك المحال الذي تجزم الضرورة ببطلانه من وجوه: الأول أن البقاء إن عني به الاستمرار لزم اتصاف العدم بالصفة الثبوتية وهو محال بالضرورة، بيان الملازمة: أن الاستمرار كما يتحقق في جانب الوجود فكذا يتحقق في جانب العدم، لا مكان تقسيم لمستمر إليهما ، ومورد التقسيم مشترك، ولأن معنى الاستمرار كون الأمر في أحد الزمانين كما كان في الزمان الآخر، وإن عني به صفة زائدة على الاستمرار، فإن احتاج كل منهما إلى صاحبه دار، وإن لم يحتج أحدهما إلى الآخر أمكن تحقق كل منهما بدون صاحبه، فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس، وهو باطل بالضرورة، وإن احتاج أحدهما إلى صاحبه انفك الآخر عنه وهو ضروري البطلان، الثاني أن وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور، لأن البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر، فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر الذي فرض باقيا كان كل من البقاء ووجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه وهو عين الدور المحال، وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره لزم قيام الصفة بغير الموصوف وهو غير معقول، أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر فجاز أن تقوم بذاته لا في محل، ويقتضي وجود الجوهر في الزمان الثاني، وهو خطأ، لأنه يقتضي قيام البقاء بذاته فيكون جوهرا مجردا والبقاء لا يعقل إلا عرضا قائما بغيره، وأيضا يلزم أن يكون هو بالذاتية أولى من الذات، وتكون الذات بالوصفية أولى منه، لأنه مجرد مستغن عن الذات، والذات محتاجة إليه، والمحتاج أولى بالوصفية من المستغني، والمستغني أولى بالذاتية من المحتاج، ولأنه يقتضي بقاء جميع الأشياء لعدم اختصاصه بذات دون أخرى حينئذ، الثالث أن وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأول، ولما كان وجوده في الزمان الأول غنيا عن هذا البقاء كان وجوده في الزمان الثاني كذلك، لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا لذاته إلى شيئ

ص 247

وبعض أفرادها مستغنيا عنه إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول: إتفق المتكلمون على أنه تعالى باق، لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتية زائدة أو لا، فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه وجمهور معتزلة بغداد إلى أنه صفة ثبوتية زائدة على الوجود، إذ الوجود متحقق دونه كما في أول الحدوث، بل يتجدد بعده صفة هي البقاء، ونفي كون البقاء صفة موجودة زائدة كثير من الأشاعرة كالقاضي أبي بكر (1) وإمام الحرمين (2) والإمام الرازي (3) وجمهور معتزلة البصرة، وقالوا البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني لا أمر زائد عليه، ونحن ندفع ما أورده هذا الرجل على مذهب الشيخ الأشعري، فنقول

(هامش)

(1) المراد به القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلاني صاحب التصانيف في علم الكلام، سكن بغداد، سمع أبا بكر القطيعي وأبا محمد بن ماسي، وخرج له أبو الفتح بن أبي الفوارس، روى عنه أبو ذر الهروي، والحسين بن حاتم، وخلق، له كتب أشهرها، كتاب الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، توفي يوم السبت في ذي القعدة لسبع يقين منه سنة 403 ودفن بداره ثم نقل إلى مقبرة باب حرب من مقابر بغداد، وما نقله القاضي الشهيد عنه مذكور في كتاب الانصاف، فليراجع، ومن طالعه رأى أن الرجل غير مالك لنفسه في التحامل والتعصب على المعتزلة، والإمامية، والوقيعة في حقهم، مع أن المسائل العلمية مضامير الأفكار والآراء، لا الشتم والسباب، وزاد الشيخ محمد زاهد الكوثري في تعاليقه عليه في الطنبور نغمات عصمنا الله من الزلل في القول والعمل. (2) قد مرت ترجمته. (3) قد مرت ترجمته. (*)

ص 248

أورد عليه ثلاث إيرادات، الأول: أن البقاء إن عني به الاستمرار لزم اتصاف العدم بالصفة الثبوتية إلى آخر الدليل، والجواب: أن البقاء عني به استمرار الوجود لا الاستمرار المطلق حتى يلزم اتصاف العدم بالصفة الثبوتية فاندفع ما قال. الثاني أن وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور، ثم ذكر أن الأشاعرة أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر، ورتب عليه أنه حينئذ جاز أن يقوم بذاته لا في محل، وهذا الجواب افتراء عليهم، بل أجابوا بمنع احتياج الذات إليه، وما قيل إن وجوده في الزمن الثاني معلل به ممنوع، غاية ما في الباب أن وجوده فيه لا يكون إلا مع البقاء وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علة لوجوده فيه، إذ يجوز أن يكون تحققهما معا على سبيل الاتفاق، فاندفع كل ما ذكر من المحذور. الثالث: أن وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأول ولما كان وجوده في الزمان الأول غنيا كان في الثاني كذلك، والجواب: أن جميع أفراد الوجود محتاج إلى البقاء في الزمان الثاني غني عنه في الزمان الأول فلا تختلف أفراد الطبيعة (1) في الاحتياج والغنى الذاتيين وهو حسب أن الوجود في

(هامش)

(1) وعلم أن المقصود من هذا الجواب أنه يلزم من تساوي أفراد الطبيعة في الاستغناء والاحتياج إليه أن لا يكون الوجود في الزمان الثاني محتاجا إلى البقاء، وإنما لزم ذلك منه أن لو كان الوجود في الزمان الثاني فردا مغايرا للوجود في الزمان الأول اذح لما استغنى الوجود في الزمان الأول عنه فيجب استغناء الوجود في الزمان الثاني أيضا عنه، إلا أنه لا مغايرة بينهما بل هو عينه كما نص عليه هذا الرجل في أول تقرير هذا الاعتراض فح جاز أن يكون كل فرد من أفراد الوجود مستغنيا عن البقاء في الزمان الأول محتاجا إليه في الزمان الثاني ولا يلزم التفاوت في افراد طبيعة واحدة استغناءا واحتياجا (من الفضل بن روزبهان). (*)

ص 249

الزمان الأول فرد، وفي الزمان الثاني فرد آخر، وهذا غاية جهله وعدم تدربه (1) في شيئ من المعقولات إنتهى. أقول: المصنف قدس سره غير ذاهل عن أن البقاء في الباقي الموجود يراد به استمرار الوجود، لكن غرضه في هذا الدليل إثبات عدم القيام في البقاء والاستمرار المطلق ليلزم منه عدم القيام في البقاء الخاص الحاصل للموجود الباقي، وقد أشار إلى ما ذكرناه بقوله: الاستمرار كما يتحقق في جانب الوجود، كذلك يتحقق في جانب العدم، وحاصل الدليل أن البقاء والاستمرار المطلق مفهوم واحد يستوي إطلاقه على الموجود والمعدوم، فلو اقتضى القيام بالباقي، لزم أن يكون قائما بالباقي المعدوم أيضا لما ذكرنا، فيلزم اتصاف المعدوم بأمر ثبوتي، وإذا كان هذا محالا تعين عدم اقتضائه للقيام بشيئ وبه تتم الحجة على الأشعري، ولا يفيد اختيار الشق الثالث كما زعمه الناصب. وأما ما ذكره من أن الجواب الذي نقله المصنف عن الأشاعرة في رد الدليل الثاني افتراء عليهم، بل أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر الخ فدليل على قصور باعه وقصر نظره على ظواهر الألفاظ من غير تمكنه عن تحصيل حقيقة المعنى، فكلما وجد مخالفة ما بين العبارتين ولو بالتفصيل والاجمال والاطناب والايجاز حكم بمغايرة المعنى، والحاصل أن الجواب الذي ذكره الناصب مصدرا بقوله بل أجابوا بمنع احتياج الذات إليه الخ وهو المذكور في المواقف متحد في المعنى مع ما ذكره المصنف (قدس سره) فإن حاصل ما ذكره صاحب المواقف في مقام السند من هذا الجواب بقوله: إذ يجوز أن يكون تحققهما معا على سبيل الاتفاق راجع إلى ما ذكره المصنف من الجواب يجوز أن يقوم البقاء بذاته لا في محل الخ لظهور أن الحكم بتحقق الذات

(هامش)

(1) التدرب: التعود والحذاقة الحاصلة من الممارسة.

ص 250

والبقاء معا على سبيل الاتفاق بلا علاقة بينهما حكم بجواز أن يقوم البقاء بذاته لا في محل، فيلزم ما ذكره المصنف من المحذور لزوما لا مدفع له كما لا يخفى، ومما ينبغي أن ينبه عليه أن البقاء قد فسره بعضهم باستمرار الوجود في الزمن الثاني كما مر، وفسره آخرون بأنه صفة تعلل بها الوجود في الزمان الثاني، والظاهر أن الدليل الثاني الذي ذكره المصنف وهو المذكور في المواقف أيضا إلزامي (1) لمن فسر البقاء بالتفسير الثاني مع القول بزيادته، فما فعله صاحب المواقف في جوابه من منع كون الوجود في الزمن الثاني معللا بالبقاء كما ترى وأما ما ذكره في الجواب عن الدليل الثالث فهو واه سخيف جدا، ولهذا اضطرب بعد ذلك، وكتب في الحاشية ما هو أسخف منه. أما ما ذكره في أصل جرحه فلأن كلام المصنف صريح في أنه جعل المحذور لزوم اختلاف حكم فرد واحد من الوجود في الزمانين بحسب الغنا والافتقار، حيث قال: وجود الجوهر في الزمان الثاني عين وجوده في الزمان الأول فكيف يتأتي للناصب أن يقول: إن المصنف حسب أن الوجود في الزمان الأول فرد وفي الزمان الثاني فرد آخر وهل هذا الاشتباه إلا دليل جهله وعدم تمكنه من فهم معاني العبارات الصريحة في مدلولاتها فضلا عن التفطن بدقائق العلوم ومعقولاتها. وأما ما ذكره في الحاشية من أن المقصد من هذا الجواب أنه لا يلزم من تساوي أفراد الطبيعة في الاستغناء والاحتياج إليه أن لا يكون الوجود في الزمان الثاني محتاجا إلى البقاء وإنما لزم ذلك منه لو كان الوجود في الزمان الثاني فردا مغايرا للوجود في الزمان الأول، إذ حينئذ لما استغنى الوجود في الزمان الأول عنه، فيجب استغناء الوجود في الزمان الثاني

(هامش)

(1) الدليل الالزامي عند علماء آداب البحث والمناظرة كما في كتاب الحدود للجرجاني (ص 71 ط مصر) ما سلم عند الخصم، سواء كان مستدلا عند الخصم أو لا، فهو يقابل الدليل الاقناعي، والدليل الخطابي، فلا تغفل. (*)

ص 251

أيضا عنه، إلا أنه لا مغايرة بينهما، بل هو عينه كما نص عليه هذا الرجل في أول تقرير هذا الاعتراض، فحينئذ جاز أن يكون كل فرد من أفراد الوجود مستغنيا عن البقاء في الزمان الأول محتاجا إليه في الزمان الثاني، ولا يلزم التفاوت في أفراد طبيعة واحدة استغناءا واحتياجا إنتهى فأقول: مبناه على أن المصنف أراد أنه يلزم اختلاف أفراد طبيعة الوجود، (وقد علمت) بما نبهناك عليه من دلالة صريح كلام المصنف على إرادة لزوم اختلاف فرد واحد من طبيعة واحدة في زمانين (أن ما فهمه الناصب) في هذه الحاشية أيضا غير منفهم عن كلام المصنف أصلا، وإنما الناصب الشقي الجاهل قد التزم الرد على هذا الكتاب تعصبا من غير استعداد واستمداد، فمقاصده عنه تفوت، وينسج عليه أمورا واهية كنسج العنكبوت، ويأتي بمثل هذا الجواب الواهي الشنيع، وأنى يدرك الضالع (1) شأو (2) الضليع (3). قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الثاني في أن الله تعالى باق لذاته،

الحق ذلك لأنه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا، فلا يكون واجبا للتنافي الضروري بين الواجب والممكن. وخالفت الأشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنه تعالى باق بالبقاء وهو خطأ لما تقدم، ولأن البقاء إن قام بذاته تعالى لزم تكثره واحتاج البقاء إلى ذاته تعالى، مع أن ذاته محتاجة إلى البقاء فيدور، وإن قام بغيره كان وصف الشيئ حالا في غيره ولأن غيره محدث، فإن قام البقاء بذاته كان مجردا. وأيضا بقاؤه تعالى

(هامش)

(1) الضالع: المعوج الخلقة. (2) الشأو: الأمد والغاية. (3) الضليع: المستوي الخلقة وهذه الجملة مثل يضرب به في بيان قصور الناقص عن اللحوق بالتام الكامل فيما همه وأراد وأين التراب ورب الأرباب. (*)

ص 252

باق لامتناع تطرق العدم إلى صفاته تعالى، ولأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث فيكون له بقاء آخر ويتسلسل. وأيضا صفاته تعالى باقية فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: قد عرفت فيما سبق أكثر أجوبة ما ذكره في هذا الفصل، قوله: لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا، قلنا: الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الامكان، ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكنا. قوله ولأن البقاء إن قام بذاته لزم تكثره، قلنا: لا يلزم التكثر، لأن الصفات الزائدة ليست غيره مغايرة كلية كما سبق، قوله: احتاج البقاء إلى ذاته وذاته محتاجة إلى البقاء فيلزم الدور، قلنا: مندفع بعدم احتياج الذات إلى البقاء بل هما متحققان معا كما سبق، فهو قائم بذاته من غير احتياج الذات إليه بل هما متحققان (تحققا خ ل) معا. قوله: بقاؤه باق، قلنا: مسلم، فالبقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء كاتصاف الوجود بالوجود، قواه: ولأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث قلنا: ممنوع، لأنا قائلون بقدمه. قوله: يكون له بقاء آخر ويتسلسل، قلنا: مندفع بما سبق من أن بقاء البقاء نفس البقاء. قوله: صفاته تعالى باقية فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى، قلنا: قد سبق أن الصفات ليست مغايرة للذات بالكلية فيمكن أن يكون البقاء صفة للذات، وتبقى الصفات ببقاء الذات فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى. أقول: قد أوضحنا لك وهن تلك الأجوبة وما فيها من الاشتباه والخلط (1) والخبط، وأما ما أجاب به هيهنا أولا من أن الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الامكان ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكنا ففيه أنه

(هامش)

(1) قد مر الفرق بين الخلط والخبط فليراجع. (*)

ص 253

مكابرة على المقدمة الكلية العقلية الضرورية فلا يستحق إلا الاعراض على أن ظاهر ما ذكره من أن الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الامكان يقتضي أن الواجب لو احتاج إلى شيء من السماويات والأرضيات أيضا لا يكون ذلك موجبا لإمكانه لأن الكل ناش من ذاته (وفساده أظهر من أن يخفى) وأما ما أجاب به هيهنا ثانيا بقوله: قلنا لا يلزم التكثر لأن الصفات الزائدة ليست غيره مغايرة كلية كما سبق فمردود بما سبق من كونه في السخافة نظير قول من ضل منه الحمار وأما الناصب المهذار (1) فمثله كمثل الحمار الذي يحمل الأسفار (2) وأما ما أجاب به ثالثا من جواز كون البقاء قائما بذاته تعالى من غير احتياج الذات إليه فهو كلام فاسد كإثبات وجودات متعددة وتشخصات متعددة وعلوم متعددة من غير حاجة له إليها وبالجملة ليس في ذلك سوى إثبات فضل نزه العقلا من الحكماء الأجرام الفلكية عنها لشرفها فكيف لا ينزه الله سبحانه عنه وأما ما أجاب به رابعا من أن البقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء الخ ففيه أن المتنازع فيه بيننا وبينكم هو أنه هل يجوز أن يكون تعالى باقيا بالبقاء الذي هو عين ذاته أم لا فإذا جاز أن يكون البقاء باقيا بالبقاء الذي هو عين ذاته جاز أن يكون بقاؤه تعالى أيضا كذلك فانهدم بنيان ما استدل به شيخكم الأشعري (3) من أن الواجب باق، فلا بد أن يقوم به معنى هو البقاء كما ذكر في المواقف وشرح التجريد وأيضا الأشاعرة إنما ذهبوا إلى زيادة الصفات وأنكروا عينيتها لزعمهم (4) أن القول:

(هامش)

(1) المهذار: الرجل المبالغ في الهذر واللغو. (2) مقتبس من قوله تعالى في سورة الجمعة. الآية 5. (3) والقول بأن البقاء لا يحتاج في البقاء إلى بقاء زائد دون ذاته تعالى تحكم ودون إثباته خرطه القتاد (منه قده). (4) وإنما نسب هذا إلى الزعم لأن مرادهم من قولهم إنه عالم لا علم له، أنه عالم لا علم له (*)

ص 254

بالعينية راجع إلى النفي المحض، وأن يكون مؤدى ذلك أنه تعالى عالم علم له، وقادر لا قدرة له، إلى غير ذلك كما صرح به شارح العقائد، وهذا المحذور الذي حملهم إلى القول بزيادة الصفات آت في البقاء، وبقائه أيضا، فكيف نسوا إنكارهم للعينية واعترفوا به هيهنا؟ قائلين: بأن البقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء، وبالجملة كلام المصنف هيهنا إلزامي لهم، فإن رجعوا عن ذلك ووافقوا، فنعم الوفاق والحمد لله رب العالمين. وأما ما أجاب به خامسا عما نقله من قول المصنف: ولأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث فيكون له بقاء آخر فيتسلسل، ففيه أن المنقول كلام يلوح عليه آثار السقم، لأن تفريع لزوم التسلسل على كونه محلا للحوادث مما لا وجه له، ويعضده أيضا كلام المصنف في كتاب نهج المسترشدين حيث قال: ولأن البقاء لو كان زائدا على الذات لزم التسلسل إنتهى فالظاهر أن الناصب زاد في كلام المصنف أو نقص كما وقع منه مثل هذا غير مرة، فوجب الرجوع إلى أصل مصحح من نسخة المصنف هيهنا لتتضح حقيقة الحال. وأما ما أجاب به سادسا عن لزوم التسلسل بما أسبقه فمدفوع: بما أسبقناه من لزوم انهدام دليلهم. وأما ما أجاب به سابعا من أن الصفات ليست مغايرة للذات بالكلية، فيمكن أن يكون البقاء صفة للذات ويبقى ببقاء الذات الخ ففيه أن من جملة الصفات الباقية لله تعالى البقاء، فإن أريد ببقاء البقاء بقاء الذات عينه الذي بقي به الذات يلزم ما ذكرنا سابقا من انهدام دليلهم على زيادة البقاء على الذات، وإن أراد به غير ذلك البقاء يلزم بقاء الذات ببقائين وهو مما لم يقل به أحد، فتعين أن يكون بقاء البقاء ببقاء قائم بذاته فيلزم ما ذكره المصنف من قيام المعنى بالمعنى، وأيضا هذا البحث إلزامي (1)*(ش هام)* صفة موجودة فيكون بمنزلة قولنا أعمى لأعمى له صفة موجودة في الخارج وليس بمحال منه قده . (1) قد مر المراد من الدليل الالزامي فراجع. (*)

ص 255

على الأشاعرة حيث استدلوا على عدم بقاء الأعراض بوجوه ثلاثة مذكورة في المواقف، منها أنها لو بقيت لكانت متصفة ببقاء قائم بها والبقاء عرض فيلزم قيام العرض بالعرض وإلا فالبقاء عند المصنف وسائر المحققين ليس بعرض بل هو أمر اعتباري يجوز أن يتصف به العرض كالجوهر، وأيضا ليس قيام العرض بالعرض بمستحيل عنده كما صرح به في نهج المسترشدين حيث قال: ولا يستحيل قيام عرض بعرض كالسرعة القائمة بالحركة، ولا بد من الانتهاء إلى محل جوهري وهذا صريح فيما ذكرنا من إرادة الالزام والله تعالى أعلم بحقائق المرام. قال المصنف رفع الله درجته

خاتمة

تشتمل على حكمين،

الأول: البقاء يصح على الأجسام بأسرها

وهذا حكم ضروري لا يقبل التشكيك، وخالف فيه النظام من الجمهور فذهب إلى امتناع بقاء (1) الأجسام بأسرها بل كل آن يوجد فيه جسم ما، يعدم ذلك الجسم في الآن الذي بعده، ولا يمكن أن يبقى جسم ما من الأجسام، (2) فلكيها وعنصريها بسيطها ومركبها، ناطقها وغيرها، آنين ولا شك في بطلان هذا القول لقضاء الضرورة بأن الجسم الذي شاهدته حال فتح العين هو الذي شاهدته قبل تغميضها والمنكر لذلك سوفسطائي (3)، بل السوفسطائي لا يشك في أن بدنه الذي كان بالأمس هو بدنه الذي كان الآن، وأنه لم يتبدل بدنه من أول لحظة إلى آخرها

(هامش)

(1) ومن المفرطين في هذا المعنى بعض من أدركناه في الغري الشريف حتى أنه صنف كتابا في هذا الشأن وسماه بكتاب الخلع واللبس وأتى فيه على زعمه ما يدل على ذلك ومات على هذه العقيدة السخيفة سامحه الله. (2) هذا مبنى على كون الفلكيات أجساما، وهذه مسألة متنازعة فيها ذات عرض عريض وذيل طويل. (3) قد مر المراد بالسوفسطائية فراجع. (*)

ص 256

وهؤلاء جزموا بالتبدل إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول: الجسم عند النظام (1) مركب من مجموع أعراض مجتمعة، والعرض لا يبقى زمانين لما سنذكر بعد هذا، فالجسم أيضا يكون كذلك عنده، والحق أن ضرورة موجودية البقاء وعدم جواز قيام العرض بالعرض دعتا (خ ل دعت) إلى الحكم بأن الأعراض لا تبقى زمانين وليست هذه الضرورة حاصلة في الأجسام لجواز قيام البقاء بالجسم، وأما ما ذهب إليه النظام: أن الجسم مجموع الأعراض المجتمعة فباطل، فمذهبه في عدم صحة البقاء على الأجسام يكون باطلا كما ذكره إنتهى . أقول: غرض الناصب من ذكر حقه (2) الباطل إظهار أن فساد قول النظام ليس لأجل فساد قوله: بعدم بقاء الأعراض الذي هو مبنى حكمه على عدم بقاء الأجسام، بل هو لأجل فساد حكمه بأن الأجسام مركبة من الأعراض لأن ما شارك فيه الأشعري معه من القول: بعدم بقاء الأعراض مبني على مقدمتين ضروريتين هما موجودية البقاء وعدم جواز قيام العرض بالعرض، هذا محصل مرامه ويتوجه عليه أن دعوى الضرورة في كل من المقدمتين باطلة إذ التحقيق أن البقاء أمر اعتباري كما مر، واعترف به صاحب المواقف أيضا، وقد مر أيضا جواز قيام العرض بالعرض كالسرعة والبطوء بالحركة، والدليل المذكور في المواقف وغيره لإثبات عدم بقاء الأعراض مدخول، كما سيجئ ما يوضحه، فيكون النظام والأشاعرة شريكين في شطر من الفساد، غاية الأمر أن يكون مذهب النظام أكثر فسادا،

(هامش)

(1) قد مرت ترجمته. (2) أي الذي زعمه حقا وكان باطلا واقعا. (ج 16) (*)

ص 257

وأما ما ذكره الناصب في حاشية كلامه في هذا المقام: من أن دعوى الضرورة في عدم تبدل البدن مع تحلله وورود البدل في محل المنع الخ فمدخول بأن المراد بالبدن الأجزاء الأصلية التي تقوم بها التشخصات البدنية وهي باقية من أول العمر إلى آخره كما صرحوا به في بحث المعاد، فلا يقدح في الحكم بعدم تبدل البدل تحلل فواضله التي هي الرطوبة الغريزية بواسطة الحار الغريزي (خ ل الحرارة الغريزية) كما ذكر في علم الطب تأمل. قال المصنف رفع الله درجته

الحكم الثاني في صحة بقاء الأعراض،

ذهبت الأشاعرة إلى أن الأعراض غير باقية بل كل لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وحركة وسكون وحصول في مكان وحياة وطعم وعلم وقدرة وتركب وغير ذلك من الأعراض، فإنه لا يجوز أن يوجد آنين متصلين، بل يجب عدمه في الآن الثاني من آن وجوده، وهذا مكابرة للحس وتكذيب للضرورة الحاكمة بخلافه، فإنه لا حكم أجلى عند العقل من أن اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها، وأنه لم يعدم ولم يتغير، وأي حكم أجلى عند العقل من هذا وأظهر منه، ثم إنه يلزم منه محالات، الأول أن يكون الإنسان وغيره يعدم في كل آن ثم يوجد في آن بعده لأن الإنسان ليس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد التي فيه عندهم، بل لا بد في تحقق كونه إنسانا من أعراض قائمة بتلك الجواهر من لون وشكل ومقدار وغيرها من مشخصاته، ومعلوم بالضرورة أن كل عاقل يجد نفسه باقية لا تتغير في كل آن، ومن خالف ذلك كان سوفسطائيا وهل إنكار السوفسطائي للقضايا الحسية عند بعض الاعتبارات أبلغ من إنكار كل أحد بقاء ذاته وبقاء جميع المشاهدات آنين من الزمان، فلينظر المقلد المنصف في هذه المقالة التي ذهب إليها إمامة الذي قلده ويعرض على عقله حكمه بها وهل

ص 258

يقصر حكمه ببقائه وبقاء المشاهدات عن أجلى الضروريات، ويعلم أن إمامه الذي قلده إن قصر ذهنه عن إدراك فساد هذه المقالة فقد قلد من لا يستحق التقليد وأنه قد التجأ إلى ركن غير شديد (1) وإن لم يقصر ذهنه عن ذلك فقد غشه وأخفى عنه مذهبه وقال عليه السلام، من غشنا فليس منا (2)، الثاني أنه يلزم تكذيب الحس الدال على الوحدة وعدم التغير كما تقدم، الثالث إنه لو لم يبق العرض إلا آنا واحدا لم يدم (خ ل لم يلزم تأبيد نوعه) نوعه فكان السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر، بل جاز أن يحل عقيبه بياض أو حمرة أو غير ذلك وأن لا يحصل شيئ من الألوان إذ لا وجه لوجوب ذلك الحصول، لكن دوامه يدل على وجوب بقائه، الرابع لو جوز العقل عدم كل عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحس لجوز ذلك في الجسم، إذ الحكم ببقاء الجسم إنما هو مستند إلى استمراره في الحس وهذا الدليل لا يتمشي لانتقاضه بالأعراض عندهم فيكون باطلا، فلا يمكن الحكم ببقاء شيئ من الأجسام آنين، لكن الشك في ذلك هو عين السفسطة، الخامس أن الحكم بامتناع انقلاب الشيئ من الامكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ضروري

(هامش)

(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة هود. الآية 80. (2) رواه الصدوق قده في المجالس بسنده عن علي بن موسى الرضا ع عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث: ليس منا من غش مسلما. في صحيح مسلم (الجزء 1 ط مصر ص 69) بسنده المنتهي إلى أبي هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا، وكذا رواية أخرى بعد هذه الرواية. وفي كنز العمال (الجزء 4 ط حيدر آباد دكن ص 33) عن أبي حمراء من غشنا فليس منا وكذا رواية أخرى عن أبي هريرة ليس منا من غش وأيضا من غش فليس منا وعن علي ع ليس منا من غش مسلما أو ضره أو ماكره، وعن أبي هريرة من غشني فليس مني. (*)

ص 259

وإلا لم يبق وثوق بشيئ من القضايا البديهية، وجاز أن ينقلب العالم من إمكان الوجود إلى وجوب الوجود فيستغني عن المؤثر فينسد باب إثبات الصانع تعالى، بل ويجوز انتقال (خ ل انقلاب) واجب الوجود إلى الامتناع وهو ضروري البطلان، وإذا تقرر ذلك فنقول: الأعراض إن كانت ممكنة لذاتها في الآن الأول فتكون كذلك في الآن الثاني، وإلا لزم الانتقال من الامكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء، وقد احتجوا بوجهين، الأول: البقاء عرض فلا يقوم بالعرض، الثاني: أن العرض لو بقي لما عدم لأن عدمه لا يستند إلى ذاته وإلا لكان ممتنعا، ولا إلى الفاعل لأن أثر الفاعل الايجاد، ولا إلى طريان الضد، لأن طريان الضد على المحل مشروط بعدم الضد الأول عنه، فلو علل ذلك العدم به دار، ولا إلى انتفاء شرطه لأن شرطه الجوهر لا غير، وهو باق، والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض، والجواب عن الأول المنع من كون البقاء عرضا زائدا على الذات، سلمنا لكن نمنع امتناع قيام العرض بمثله، فإن السرعة والبطوء عرضان قائمان بالحركة وهي عرض، وعن الثاني أنه لم لا يعدم لذاته في الزمان الثلاث كما يعدم عندكم لذاته في الزمان الثاني، سلمنا لكن جاز أن يكون مشروطا بأعراض لا تبقى، فإذا انقطع وجودها عدم، سلمنا لكن مستند إلى الفاعل، ونمنع انحصار أثره في الايجاد، فإن العدم ممكن لا بد له من سبب، سلمنا لكن يعدم بحصول المانع ونمنع اشتراط طريان الثاني بعدم الضد الأول بل الأمر بالعكس، وبالجملة فالاستدلال على نقيض الضروري باطل كما في شبه السوفسطائية فإنها لا تسمع، لما كانت الاستدلالات في مقابلة الضروريات (خ ل الضرورات) إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول: ذهب الأشعري ومن تبعه من الأشاعرة إلى أن العرض لا يبقى

ص 260

زمانين، فالأعراض جملتها غير باقية عندهم بل هي على التقضي والتجدد ينقضي واحد منها ويتجدد آخر مثله، وتخصيص كل من الآحاد المتقضية المتجددة بوقته الذي وجد فيه إنما هو للقادر المختار فإنه يخصص بمجرد إرادته كل واحد منها بوقته الذي خلقه فيه وإن كان يمكن له خلقه قبل ذلك الوقت وبعده، وإنما ذهبوا إلى ذلك لأنهم قالوا: بأن السبب المحوج إلى المؤثر هو الحدوث، فلزمهم استغناء العالم حال بقائه عن الصانع بحيث لو جاز عليه العدم، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، لما ضر عدمه في وجوده، فدفعوا ذلك بأن شرط بقاء الجوهر هو العرض، ولما كان هو متجددا محتاجا إلى المؤثر دائما كان الجوهر أيضا حال بقائه محتاجا إلى ذلك المؤثر بواسطة احتياج شرطه إليه، فلا استغناء أصلا، واستدلوا على هذا المدعى بوجوه منها: أنها لو بقيت لكانت باقية متصفة ببقاء قائم بها، والبقاء عرض فيلزم قيام العرض بالعرض وهو محال عندهم هذا هو المدعى والدليل. وذهبت الفلاسفة ومن تابعهم من المعتزلة والإمامية إلى بقاء الأعراض، ودليلهم كما ذكر هذا الرجل أن القول بخلافه مكابرة للحس وتكذيب للضرورة، والجواب أن لا دلالة للمشاهدة على أن المشاهد أمر واحد مستمر لجواز أن يكون أمثالا متواردة بلا فصل، كالماء الدافق من الأنبوب (1) يرى أمرا واحدا مستمرا بحسب المشاهدة وهو في الحقيقة أمثال تتوارد على الاتصال فمن قال: إنه أمثال متواردة كان ينبغي على ما يزعمه هذا الرجل أن يكون سوفسطائيا منكرا للمحسوسات، وكذا جالس السفينة إذا حكم بأن الشط ليس بمتحرك كان ينبغي أن يحكم بأنه سوفسطائي لأنه يحكم بخلاف الحس، وقد صورنا قبل هذا مذهب السوفسطائية، ويا ليت هذا الرجل كان لم يعرف لفظ السوفسطائي، فإنه يطلقه في مواضع لا ينبغي أن يطلق فيها وهو

(هامش)

(1) الأنبوب: ما بين العقدتين من القصب، أو الرمح، ويستعار لكل أجوف مستدير كالقصب ومنه أنبوب الكوز قصبته انتهى. ثم لو مثل الناصب بالشعلة الجوالة لكان أنسب. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب