ص 261
جاهل بمعنى السفسطة، ثم ما قال: أن لا حكم عند العقل أجلى من أن اللون الذي شاهدته
في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها، فنقول: حكم العقل هيهنا مستند
إلى حكم الحس ويمكن ورود الغلط للحس، لأنه كان يحسب المثل عين الأول كما ذكرنا في
مثال الماء الدافق من الأنبوب، وكثير من الأحكام يكون عند العقل جليا بواسطة غلط
الحس، فمن خالف ذلك الحكم كيف يقال إنه مكابر للضرورة، ثم ذكر خمس محالات ترد على
مذهبهم، الأول أن الإنسان وغيره يعدم في كل آن ثم يوجد في آن بعده، لأن الإنسان ليس
إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد، بل لا بد في انسانيته من اللون والشكل، وكل هذه
أعراض، ومعلوم أن كل أحد يجد من نفسه أنها باقية لا تتبدل في كل آن، ومخالفة هذا
سفسطة والجواب أن الأشخاص في الوجود الخارجي يتمايزون بهوياتها لا بمشخصاتها كما
يتبادر إليه الوهم فالهوية الخارجية التي بها الإنسان إنسان باقية في جميع الأزمنة
وإن توارد عليه الأمثال من الأعراض، فهذه المشخصات ليست داخلة في ذاته وهويته
العينية حتى يلزم من تبدلها تبدل الإنسان، فذات الإنسان وهويته المشخصة له باقية في
جميع الأحوال، وتتوارد عليها الأعراض، وأي سفسطة في هذا، والطامات والخرافات التي
يريد أن تميل بها خواطر السفهة إلى مذهبه غير ملتفت إليها، الثاني أنه يلزم تكذيب
الحس، وقد عرفت جوابه، الثالث أنه لو لم يبق العرض إلا آنا واحدا لم يلزم تأبيد
نوعه، فكان السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر إلى آخر الدليل، والجواب أن
السواد إذا فاض على الجسم أعد الجسم لأن يفيض عليه سواد مثله، والمفيض للسواد هو
الفاعل المختار، لكن جرى عادته بإفاضة المثل بوجود الاستعداد وإن جاز التخلف، ولزوم
النوع يدل على وجوب إفاضته المثل، وهذا ينافي قاعدة القوم في إسناد الأشياء إلى
اختيار الفاعل القادر، الرابع لو جوز العقل عدم كل عرض في الآن الثاني من وجوده مع
ص 262
استمراره في الحس لجوز ذلك في الجسم، إذا لحكم ببقاء الجسم إنما هو مستند إلى
استمراره في الحس، والجواب أن الأصل بقاء كل موجود مستمرا، فالحكم ببقاء الجسم لأنه
على الأصل، وتخلف حكم الأصل في الأعراض لدليل خارجي، فعدم الحكم ببقاء الأعراض لم
يكن منافيا للحكم ببقاء الأجسام، وأما ما قال: إن الشك في ذلك عين السفسطة فقد مر
جوابه، والخامس أن الحكم بامتناع انقلاب الشيئ من الامكان الذاتي إلى الامتناع
الذاتي ضروري إلى آخر الدليل، والجواب أن الأعراض كانت ممكنة لذاتها في الآن الأول،
وكذلك في الآن الثاني، قوله: وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء، قلنا
إمكان الوجود غير إمكان البقاء، وليس على هذا التقدير شيئ من الانقلاب الذي ذكره،
وهذا استدلال في غاية الضعف كما هو ديدنه (1) في الاستدلالات المزخرفة. ثم ما ذكر
من الدليلين الذين احتج بهما الأشاعرة فأول الدليلين قد ذكرنا وما أورد عليه من منع
امتناع قيام العرض بالعرض ومنع كون البقاء زائدا وثبوتهما مذهب للشيخ الأشعري وقد
استدل عليهما في محله فليراجع، وثاني الدليلين مدخول بما ذكره وبغيره من الأشياء،
وقد ذكره علماء السنة والأشاعرة منهم صاحب المواقف وغيره، فاعتراضاته على ذلك
الدليل الثاني منقولة من كتب أصحابنا إنتهى. أقول: فيه نظر أما أولا فلأن ما
ذكره في وجه ذهاب الأشاعرة إلى عدم بقاء الأعراض لا يسمن ولا يغني من جوع، إذا لا
تقتضي صحة تلك المقدمة التي اضطروا إلى استعمالها لدفع ذلك الاشكال لجواز أن تكون
فاسدة في نفسها كمقدمة الطفرة التي التزمها النظام لدفع الاشكال المشهور الوارد
عليه في تحقيق حقيقة الجسم مع ظهور بطلانها، وأيضا لم تم إنما يقتضي القول بعدم
بقاء الأعراض
(هامش)
(1) الديدن: بفتح الدال المهملة بمعنى الطريقة. (*)
ص 263
التي يحتاج إليها بقاء الجوهر لا عدم بقاء الكل كما ذهبوا (1) إليه، وأما ثانيا
فلأن ما ذكره من جملة وجوه أدلة الأشاعرة مدخول، بأن قيام العرض بالعرض ليس بمحال،
والعنديات (2) سيما عنديات الأشاعرة لا تقوم حجة على الخصم. وأما ثالثا: فلأن ما
ذكره من أن دليلهم كما ذكره هذا الرجل الخ مدخول. بأن الرجل نعم الرجل هو
المصنف قدس سره لم يذكر دليلا على ما ادعاه من بقاء الأعراض لظهور أنه بديهي لا
يحتاج إلى دليل، وإنما ذكر لوازم فاسدة لدعوى الأشاعرة يحصل منها التنبيه على ذلك
المدعى البديهي أيضا، والحاصل على ما أشار إليه المصنف في اللازم الرابع وشارح
المواقف في ذيل هذا المقام، أنه كما أن الحكم ببقاء الأجسام ضروري يحكم به العقل
(3) بمعونة الحس، كذلك الحكم ببقاء الأعراض كالألوان ضروري يحكم به العقل بمعونته
أيضا، وما ذكر في صورة الاستدلال على ذلك تنبيه على حكم ضروري فالمناقشة فيها
بأمثال توارد الأمثال لا يجدي طائلا، وأيضا قد صرح المصنف في مفتتح إيراده، بأن
التنبيه على ذلك ليس مجرد حكم الحس والمشاهدة، ومع ذلك قد توهمه الناصب من كلامه
كيف؟ وقد ضم قدس سره إلى ذلك دعوى الضرورة العقلية حيث قال: هذا مكابرة للحس وتكذيب
للضرورة بخلافه، فإنه لا حكم أجلى عند العقل من أن اللون الخ وفيه إشارة إلى ما
ذكره صاحب المواقف (4) في تأويل ما نسب إلى أفلاطون من
(هامش)
(1) وكون كل عرض مما يحتاج إليه بقاء الجسم غير مسلم تأمل. منه قدس سره. (2)
العنديات جمع مجعول لكلمة عندي، يطلق في الكتب العلمية على آراء الشخص التي لا تقوم
عليها حجة ولا يوافقها أحد. (3) دعوى الضرورة هيهنا اتفاقية من الفريقين، ولا فرق
بينها وبين دعوى الضرورة في بقاء العرض كما لا يخفى. منه قده. (4) فيه إشارة إلى أن
الناصب توارد في هذه المناقشة مع غيره فإنها مذكورة في المواقف. منه قده. (*)
ص 264
قدحه في الحسيات، وهو أن جزم العقل بالحسيات ليس بمجرد الحس، بل لا بد مع الاحساس
من أمور تنضم إليه، فتلجئ تلك الأمور العقل إلى الجزم بما يجوز به من الحسيات ولا
يعلم ما تلك الأمور المنضمة إلى الاحساس الموجبة جزم ، ومتى حصلت لنا وكيف حصلت؟
فلا تكون الحسيات بمجرد تعلق الاحساس بها يقينية، وهذا حق لا شبهة فيه، وقد صرح سيد
المحققين (1) قدس سره في شرحه: بأن الحسيات والبديهيات هما العمدة في العلوم، وهما
يقومان حجة على الغير، أما البديهيات فعلى الاطلاق، وأما الحسيات فإذا ثبت الاشتراك
في أسبابها، أي فيما تقتضيها من تجربة أو تواتر أو حدس أو مشاهدة إنتهى ، ولا
ريب في أن مسألة بقاء الأعراض مما شارك فيها جميع العقلاء من الحكماء والإمامية
والمعتزلة ومن تابعهم سوى الأشاعرة الذين هم بمعزل عن الشعور والعقل. وأما ما ذكره
من التمثيل لغلط الحس في ماء الفوارة، فالغلط فيه ظاهر، لظهور سبب الغلط فيه، وعدم
اشتراك جماعة من العقلاء في إثباته، بخلاف ما نحن فيه من الجسم وأعراضه، فإن السبب
الذي ذكروه في غلط الحس عند توارد الأمثال كما في ماء الفوارة، هو أن الحس وإن تعلق
بكل واحد منها من حيث خصوصه، لكن الخيال لم يستثبت ما به يمتاز كل منها عن غيره،
فيخيل الرائي أن هناك أمرا واحدا مستمرا، ثم العقل الخالص عن مزاحمة الوهم والخيال
يجد في ماء الفوارة اتصال المدد (2) ويحكم على غلط الحس بأدنى توجه والتفات، وليس
فيما ذهب إليه النظام والأشاعرة من تقضي الأجسام والأعراض وتجددها وصول مدد واتصاله
حتى يتأتى للعقل تجويز الحكم بغلط الحس في الحكم بالبقاء، وكان النظام والأشاعرة
وقعوا في ذلك مما قرره الصوفية
(هامش)
(1) هو المحقق الشريف الجرجاني في شرحه على المواقف. (2) المدد: بضم الميم جمع مدة،
أو بفتح الميم كحجر. (*)
ص 265
من الخلق (1) الجديد من غير أن يتأملوا في حقيقة ما أرادوه من ذلك، فإنهم أرادوا
بذلك أن الماء كما يدوم ويبقى بالعين وامدادها، كذلك الأشياء الظاهرة كلها تبقى
بإفاضة الله تعالى، ولو انقطع مدد الفيض عنها لحظة لارتفعت رأسا، وليس في ذلك حكم
بتقضي المخلوقات وتجددها آنا فآنا كما ذهبوا إليه فتأمل. وأما رابعا فلأن ما أجاب
به عن أول المحالات الخمسة التي ألزمها المصنف قدس سره فيتوجه عليه: أن شارح
المقاصد قال موافقا لغيره: إن الماهية إن اعتبرت مع التحقق سميت ذاتا (2) وحقيقة،
فلا يقال: ذات العنقاء وحقيقتها بل ماهيتها
(هامش)
(1) وعبر عنه بعضهم بالأخذ والدفع وغيرها من التعابير فراجع. (2) الذات كما أفاد
أبو البقا في ص 172 طبع طهران من كتابه هو ما يصلح أن يعلم ويخبر عنه، منقول عن
مؤنث ذو بمعنى الصاحب، لأن المعنى القائم بنفسه بالنسبة إلى ما يقوم به يستحق
الصاحبية والمالكية، ولمكان النقل جعلوا تاء التأنيث عوضا عن اللام المحذوفة،
فأجروها مجرى الأسماء، فقالوا ذات قديم وذات محدث، وقيل التاء فيه كالتاء في الوقت
والموت فلا معنى لتوهم التأنيث إلى آخر ما أفاد وأجاد. ثم اعلم أن للذات إطلاقات:
منها إطلاقه على الشيئ والنفس. ومنها إطلاقه على الرضا ومنه قولهم فلان فعل الجميل
الكذائي في ذات الله ومرضاته. ومنها إطلاقه على مفهوم الشيئ. ومنها إطلاقه على
المستقل بالمفهومية، ويقابله الصفة، بمعنى الغير المستقل بالمفهومية ومنها إطلاقه
على الشيئ المستقل ويقابله التابع. ومنها إطلاقه على الحقيقة أي الماهية باعتبار
تحققها كما أفاد الجرجاني في الحدود والقاضي الشهيد في الكتاب إلى غير ذلك من
الاطلاقات والاستعمالات. ثم إنك إذا أحطت خبرا ودققت النظر فيما تلي عليك لرأيت
إمكان ارجاع هذه الاطلاقات (*)
ص 266
أي ما يتعقل منها وإذا اعتبرت لامع التحقق سميت هوية وقد يراد بالهوية التشخص، وقد
يراد به الوجود الخارجي إنتهى فإن أراد الناصب بالهوية في قوله: الأشخاص في
الوجود الخارجي يتمايزون بهوياتها لا بمشخصاتها إلخ المهية المعتبرة لا مع
التحقق ففساده ظاهر وإن أراد به الوجود فكذلك، لأن الوجود مشترك بين الموجودات
باتفاق الأشاعرة فكيف يوجب تمايزها؟! وإن أراد بها معنى آخر فلينبه أولياءه حتى
ننظر في صحته وفساده، وأيضا إذا عزل الناصب المشخصات عن كونها مفيدة للتشخص وليس
يظهر لها مدخلية في أمر سوى ذلك فقد حكم أنها في عدم ارتباطها بمحالها من الأشخاص
بمنزلة الحجر الموضوع بجنب الإنسان وهو أسخف سفسطة أورثها إياه أسلافه من الأشاعرة.
وأما خامسا فلأن ما أجاب به عن ثاني المحالات اللازمة مدفوع بما تقدم، وأما سادسا
فلأن ما أجاب به عن ثالث المحالات اللازمة مدخول بأن حكمه بأن مفيض الاستعداد هو
السواد الفائض على الجسم، دون الفاعل المختار، ينافي قاعدة الأشعري من نفي مدخلية
شيئ سوى قدرته تعالى في حدوث شيئ من الأشياء، بل صرح صاحب المواقف في بحث قدم
إرادته تعالى: بأن هذا مذهب الحكماء حيث قال: وقالت المعتزلة:
(هامش)
بعضها إلى بعض بالاعتبار فتأمل. ثم اعلم أيضا أن في صحة إطلاق لفظ الذات عليه تعالى
اختلافا فمنهم من منعه ذاهبا إلى أن أسمائه توقيفية مذكورة في دعاء ليلة الفطر
والجوشن وتوحيد الصدوق ولم يذكر الذات بينها. ومنهم من قال إن معناه قد أطلق عليه
تعالى فإن من معانيه النفس والشيئ وهما يطلقان عليه تعالى فيقال الله شيئ لا
كالأشياء كما في النهج. والمختار صحة إطلاقه، والتوقيف لم يقم عليه دليل متقن سليم
السند واضح الدلالة كما هو ظاهر لمن كان من أهل الدقة. (*)
ص 267
إنها حادثة قائمة بذاتها لا بذاته تعالى، فكأنه مأخوذ من قول الحكماء: إنه عند وجود
المستعد للفيض يحصل الفيض إنتهى فظهر أن الناصب لضيق الخناق عليه اضطر في إصلاح
كلام الأشعري إلى ضم ما ذهب إليه الفلاسفة مع تشنيعه على أهل العدل في موافقتهم
اتفاقا في بعض المقال مع الفلاسفة، وأيضا قد مر الكلام على قاعدة جريان العادة،
وبينا ما فيه من القصور والعيب وأنه فيما نحن فيه من مظان الريب من قبيل الرجم
بالغيب وأما ما ذكره من أن لزوم النوع يدل على وجوب إفاضة المثل إلخ ، فإن قصد
به الايراد على المصنف قدس سره، فيتوجه أنه لم يقل: بوجوب إفاضة المثل، وإنما
القائل به الناصب وأصحابه، وإن قصد به الايراد على أصحابه فهم لم يقولوا: بلزوم
النوع ووجوب دوامه على أنه يمكن حمل كلام المصنف على تقدير وجوب (وجود خ ل) إفاضة
المثل فيه على الوجوب العادي إلزاما فافهم، وأما سابعا فلأن ما أجاب به عن رابع
المحالات مدفوع، بأن الأصل والاستصحاب من المسائل التي اختلف الأصوليون في كونها
صالحة للتمسك بها في العلوم الظنية أو لا، فكيف يجعل حجة فيما يطلب فيه اليقين كما
فيما نحن فيه؟ وأما ثامنا فلأن ما أجاب به عن خامس المحالات بأن إمكان الوجود غير
إمكان البقاء الخ فمردود، بأن مراد المصنف من قوله الأعراض كانت ممكنة لذاتها
في الآن الأول فيكون كذلك في الآن الثاني الخ إن الأعراض كانت ممكنة البقاء
لذاتها في الآن الأول أي كانت متصفة بهذا الامكان فيه، فيجب أن يكون ممكن البقاء في
الآن الثاني ولم يرد أنها ممكن الوجود في الزمان الأول، فيجب أن يكون ممكن الوجود
في الزمان الثاني حتى يندفع بأن إمكان الوجود في الزمان الثاني باق بحاله، وإنما
ارتفع إمكان البقاء فيه فيجوز أن يكون العرض ممكن الوجود في الآن الثاني، ولا يكون
ممكن البقاء وأما تاسعا فلأن ما ذكره من أن ثبوت ما منعه المصنف من امتناع قيام
العرض بالعرض، ومنع كون
ص 268
البقاء زائدا مذهب الأشعري وقد استدل عليهما في محله مجاب بقولنا: نعم قد استدلت
الأشاعرة عليهما لكن بما يليق بلحيتهم ولحية شيخهم وشارب الناصب الذي رزق مشرب شيخه
في الكودنة والضلالة، ومحل ذكر ذلك الاستدلالات كتاب المواقف الذي فيه ما هو آخر
كلام القوم، وأودع فيه جميع ما أمكنهم في الذب عن خرافات شيخهم، فليطالع ثمة وأما
عاشرا فلأن قوله: ثاني الدليلين مدخول بما ذكره وبغيره من الأشياء الخ فيه
اعتراف لصحة كلام المصنف والحمد لله، وليعلم أن هذا الدليل الثاني هو العمدة عند
أصحاب الأشعري كما صرح به صاحب المواقف، ومع هذا ظهر أنه أسخف الأدلة التي في
العالم بحيث اعترف الناصب مع غاية تعصبه بأنه مدخول، وأما ما ذكره من أن تلك
الاعتراضات مما ذكره علماء السنة والأشاعرة، منهم صاحب المواقف فإن أراد بذكرهم لها
مجرد تحريرها في كتبهم بعد وصولها إليهم من علماء الإمامية، ومنهم المصنف قدس سره،
فهو مسلم ولا يجديه نفعا، وإن أراد أن تلك الاعتراضات من نتائج أفكار علماء أهل
السنة والأشاعرة، فهو كذب واضح، لأنه لم يذكر في شيئ من كتبهم إلا في كتاب المواقف
ونحوه مما ألف قريبا من زمان تأليفه، والكل متأخر عن زمان المصنف بسنين كثيرة كما
لا يخفى. قال المصنف رفع الله درجته
المبحث العاشر في أن القدم والحدوث اعتباريان 
ذهب بعض الأشاعرة إلى أن القدم وصف ثبوتي قائم بذات الله تعالى، وذهبت الكرامية (1)
إلى أن الحدوث وصف ثبوتي قائم بذات الحادث وكلا القولين باطلان، لأن القدم لو كان
موجودا مغايرا للذات لكان إما قديما أو حادثا، فإن كان قديما لكان له قدم آخر
وتسلسل، وإن كان حادثا كان موصوفا بنقيضه وهو محال، وكان الله تعالى
(هامش)
(1) قد مر شرح الكرامية وأنهم أتباع ابن كرام من أهل السنة. (*)
ص 269
محلا للحوادث وهو محال وكان الله قبل حدوثه ليس بقديم والكل معلوم البطلان وأما
الحدوث فإن كان قديما لزم قدم الحادث الذي هو شرطه وكان الشيئ موصوفا بنقيضه وإن
كان حادثا تسلسل، والحق أن القدم والحدوث من الصفات الاعتبارية إنتهى. قال
الناصب خفضه الله أقول: ليس كون القدم وصفا ثبوتيا مذهب الشيخ الأشعري وما اطلعت
على قوله فيه وأما قوله لو كان القدم وصفا ثبوتيا فإما أن يكون قديما فيكون له قدم
آخر ويتسلسل، فالجواب عنه: أنا لا نسلم لزوم التسلسل إذ قد يكون قدم القدم بنفسه
(1) وأيضا جاز أن يكون قدم القدم أمرا اعتباريا فإن وجود فرد من أفراد الطبيعة لا
يستلزم وجود جميعها إنتهى. أقول: يتوجه عليه أولا أن المصنف لم يقل: إن الشيخ
الأشعري ذهب إلى ذلك بل قال: ذهب بعض الأشاعرة إلى ذلك ولا يلزم أن يكون قول أصحابه
قولا له، فإن زيادة الوجود قول لأصحابه الأشاعرة، وليس قولا له (2) لأنه قائل
بعينية الوجود في جميع الموجودات كما هو المشهور المقرر لدى الجمهور. وثانيا أن ما
ذكره في الجواب أولا مدخول بما حقق في الشرح الجديد للتجريد وحاشيته القديمة: من أن
الصفة القائمة بشيئ لا يجوز أن يتصف بصفة هي عينها، نعم لو كانت قائمة بالذات جاز
اتصافه بصفة هي عينها، كالواجب تعالى فإنه عين الوجود القائم
(هامش)
(1) فعليه فينقطع التسلسل، وكم له في الأشياء نظير، كما يقال أن دسومة كل شيئ
بالدهن ودسومة الدهن بنفسه، وملوحة كل شيئ بالملح وملوحته بنفسه وقس عليه فعلل
وتفعلل (2) وفي المباحث العلمية كثيرا ما تختلف أنظار التابعين مع متبوعهم، ومن
راجع الكتاب في العلوم بأسرها صدق ما قلنا.
(هامش)
(1) قد مر المراد من الدليل الالزامي. (2) إذ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز
سواء، وأفراد النوع الواحد متماثلة بعضها مع بعض فإن التماثل ليس إلا الاشتراك في
الحقيقة النوعية والامتياز بالمشخصات. (3) المراد به المولى الجليل جلال الدين محمد
الدواني. منه قده وقد تقدمت منا ترجم حاله فليراجع. (*)
ص 271
الآثار، فإنه كما لا يمكن اتصاف الجسم الموجود بالبياض المعدوم اتصافا يترتب عليه
تفريق البصر، كذلك لا يمكن اتصاف القدم الموجود الثابت بالقدم المعدوم بحيث يترتب
عليه ثبوت القدم، وأيضا القائل بثبوت القدم وقيامه بذاته تعالى يلزم القول: بثبوت
قدم القدم أيضا لأن السبب الذي حمله على القول بذلك في القدم وهو أنه لو لم يكن
ثابتا قائما بالموصوف لما كان اتصافه تعالى بالقدم حقيقة، موجود في قدم القدم إذ لو
لم يكن ثابتا لم يكن اتصاف القدم به اتصافا حقيقيا. (1) ثم لا يخفى أن الناصب لم
يتعرض للجواب عما نسب إلى الكرامية لانقراضهم وإن كانوا من أهل السنة والجماعة. قال
المصنف رفع الله درجته
المبحث الحادي عشر في العدل (2) 
وفيه مطالب،
الأول في نقل
الخلاف 
(هامش)
(1) بل اعتباريا وهو خلف. (2) إعلم أن مسائل علم الكلام تذكر في بابين: أحدهما ما
يبحث فيه عن ذات الواجب وصفاته والثاني البحث عن أفعاله، فلما فرغ المصنف عن بحث
الذات والصفات شرع في البحث عن الأفعال وعنون الباب بالعدل لأن الأصل وضعه لمسألة
هي أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب ولما توقفت هذه المسألة على أشياء
كمعرفة الحسن والقبح العقليين والأفعال المنسوبة إلى المكلفين وما يحذو حذوهما،
قدموا البحث عن تلك المسألة التي ستأتي في المطلب الثالث وسموا المجموع بمبحث العدل
تسمية الشيئ بأشرف أجزائه وتسمية الشيئ بأصله لأنه المقصود الأصلي عند الباحث،
ولهذا تريهم يعنونون بحث الذات والصفات بباب التوحيد لأن أصل بحثهم فيه عن إثبات
الوحدة المطلقة له تعالى. منه قده . أقول اختلفوا في أن العدل من صفات الكمال أو
الجلال، وإنها صفة ثبوتية أو سلبية بمعنى نفي ضدها، وأيا ما كانت فيفردها المتكلمون
بالبحث، لكثرة مباحثها وأصولها، (*)
ص 272
في مسائل هذا الباب، اعلم أن هذا أصل عظيم تبتنى عليه القواعد الإسلامية بل الأحكام
الدينية مطلقا وبدونه لا يتم شيئ من الأديان ولا يمكن أن يعلم صدق نبي من الأنبياء
على الاطلاق إلا به على ما نقرره فيما بعد إن شاء الله تعالى، وبئس ما اختاره
الإنسان لنفسه مذهبا خرج به عن جميع الأديان ولم يمكنه أن يتعبد الله تعالى بشرع من
الشرائع السابقة واللاحقة ولا يجزم به على نجاة نبي مرسل أو ملك مقرب أو مطيع في
جميع أفعاله من أولياء الله وخلصائه ولا على عذاب أحد من الكفار والمشركين وأنواع
الفساق والعاصين، فلينظر العاقل المقلد هل يجوز لو أن يلقى الله تعالى بمثل هذه
العقائد الفاسدة والآراء الباطلة المستندة إلى اتباع الشهوة والانقياد للمطامع
إنتهى. قال الناصب خفضه الله أقول: عقد هذا المبحث لإثبات العدل الذي ينتسبون
إليه هم والمعتزلة
(هامش)
وبالجملة فالمراد بها، ما أشار إليها مولينا أمير المؤمنين عليه السلام، بقوله،
التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه، وكذا ورد في التعبير عنها بقولهم عليهم
السلام: إنه تعالى غير ظالم لعباده، لا يجوز في قضائه، ولا يحيف في حكمه وابتلائه،
يثيب المطيعين وله أن يعاقب العاصين، ولا يكلف الخلق ما لا يطيقون، ولا يعاقبهم
زيادة على ما يستحقون ولا يقابلوا مستحق الأجر والثواب بأليم العذاب والعقاب، إلى
غير ذلك من كلماتهم الواردة في كتب أصحابنا، كالكافي وتوحيد الصدوق والبحار
والأمالي فليراجع. ثم إن في مسألة العدل مباحثا قد طوينا عنها كشحا اكتفاء بما
أوردها علماء الكلام في كتبهم كالمواقف وشروحه والمقاصد وشروح التجريد وكتاب حق
اليقين للعلامة مولينا السيد عبد الله آل شبر الحسيني وكتب مولينا العلامة المجلسي
قده وكتب مولينا المفيد وكسب مولينا العلامة الحلي وغيرها. (*)
ص 273
وحاصله أنهم يقولون: باختيار العبد في الأفعال وإنه خالق أفعاله، وإلا لم يكن تعذيب
العبد عدلا عند عدم الاختيار، ويقولون: بوجوب جزاء العاصي (1)، وبالحسن والقبح
العقليين وغيرهما مما يذكره في هذا الفصل، ويدعي أن الخروج عن هذا يوجب عدم متابعة
نبي من الأنبياء، وهذا دعوى باطلة فاسدة، ونحن إن شاء الله تعالى نذكر في هذا
المبحث كل مقالة من قولي الإمامية والأشاعرة على حده، ونذكر حقيقة تلك المسألة
قائمين بالانصاف إن شاء الله. أقول: سيرى الناظر إن شاء الله تعالى قيام البرهان
على دعاوى الإمامية ومذاهبهم من السمع والعقل، ويدل علي أن أهل العدل والتوحيد هم
القائلون: بما ذكره المصنف قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة
وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، إن الدين عند الله الإسلام
(2) الآية، قال صاحب الكشاف: إن قوله تعالى: لا إله إلا هو توحيد وقوله: قائما
بالقسط تعديل، فإذا أردفه قوله: إن الدين عند الله الإسلام فقد آذن أن الإسلام هو
العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيئ من الدين، وفيه
إشارة إلى أن من ذهب إلى تشبيه أو إلى ما يؤدي إليه كإجازة الرؤية أو ذهب إلى الجبر
الذي هو محض الجور لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، وهذا بين جلي كما ترى
انتهى، وللفاضل التفتازاني في حاشيته على الكشاف هيهنا كلمات قد ألفنا لدفعها رسالة
منفردة سميناها بأنس الوحيد في تفسير آية العدل والتوحيد (3).
(هامش)
(1) لا يخفى أن العدلية لا يقولون بوجوب الجزاء في حق العاصي، بل يرون استحقاقه
للعقوبة والاستحقاق لا يستلزم الفعلية فلا مساق للتعبير بالوجوب. (2) آل عمران.
الآية 18. (3) وقد شرحها نجل الشارح القاضي السيد علاء الدين شرحا شافيا طبع في
الهند. (*)
ص 274
قال المصنف رفع الله درجته قال الإمامية وتابعوهم (خ ل متابعوهم) من المعتزلة: إن
الحسن والقبح عقليان مستندان إلى صفات قائمة بالافعال أو وجوه واعتبارات تقع عليها،
وقالت الأشاعرة: إن العقل لا يحكم بحسن الشيئ ألبتة ولا بقبحه، بل كل ما يقع في
الوجود من أنواع الشرور كالظلم والعدوان والقتل والشرك والالحاد وسب الله تعالى وسب
ملائكته وأنبيائه وأوصيائه وأوليائه فإنه حسن. قال الناصب خفضه الله أقول: الحسن
والقبح يقال لمعان ثلاثة: (الأول) صفة الكمال والنقص يقال: العلم حسن والجهل قبيح
ولا نزاع في أن هذا أمر ثابت للصفات في أنفسها، وأن مدركه العقل ولا تعلق له
بالشرع. (الثاني) ملائمة الغرض ومنافرته، وقد يعبر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة
والمفسدة فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، القبيح و ما فيه مفسدة، وذلك أيضا عقلي أي
يدركه العقل كالمعنى الأول. (الثالث) تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلا وآجلا والذم
والعقاب كذلك، فما تعلق به المدح في العاجل والثواب في الأجل يسمى حسنا، وما تعلق
به الذم في العاجل والعقاب في الأجل قبيحا، وهذا المعنى الثالث هو محل النزاع، فهو
عند الأشاعرة شرعي، وذلك لأن أفعال العباد كلها ليس شيئ منها في نفسه بحيث يقتضي
مدح فاعله وثوابه، ولا ذم فاعله وعقابه، وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها
ونهيه عنها، وعند المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية عقلي، وإدراك الحسن والقبح موقوف
على حكم الشرع، والشرع كاشف عنهما فيما لا يستقل العقل بإدراكه وفيما يستقل فالعقل
حاكم، هذا مذهب الفريقين، فيا معشر العقلاء بأي مذهب يلزم أن يكون الظلم والعدوان
والقتل والشرك وسب الله ورسوله و
ص 275
ما ذكره من الترهات والطامات حسنا؟ هل الشرع حسن هذه الأشياء وحكم بحسنها؟ وعلى
تقدير أن يكون الشرع حاكما بالحسن، هل يقول الأشاعرة: إن الشرع حكم بحسن هذه
الأشياء حتى يلزم ما يقول؟، فعلم أن الرجل كودن طاماتي متعصب فتعصب لنفسه لا لله
ورسوله، والعجب أنه كان لا يتأمل العقلاء ربما ينظرون في هذا الكتاب، فيفتضح عندهم
ما أجهله من رجل متعصب نعوذ بالله من شر الشيطان وشركه (1)!. أقول: قد اجتمعت (خ ل
أجمعت) الأمة على أنه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يترك الواجب لكن الأشاعرة من جهة
أنه لا قبيح منه ولا واجب عليه، ولذلك أسندوا خلق جميع الأفعال إليه تعالى، سواء
كانت حسنة أو قبيحة، والإمامية والمعتزلة من جهة أنه يترك القبيح ويفعل الواجب،
وهذا الخلاف مبني على أن الحسن والقبح عقليان أو شرعيان (2) هذا ملخص المذهبين، وقد
ظهر منه أن الأشاعرة حيث حكموا بأن لا قبيح منه تعالى وبالنسبة إليه، فقد جوزوا أن
يصدر عنه تعالى ما يستقبحه العقل، واتضح أن إنكار الناصب لا يسوى باقة (3) من
البقل، وإنما ذلك الانكار والتأويل تمويه وتدليس لدفع شناعة الناس، وإلا فمعتقدهم
نفي العدل كما صرح به شيخهم وشاعرهم نظامي الگنجوي (4) حيث قال:
(هامش)
(1) الشرك بفتحتين. حبائل الصيد. ومنه قول الشاعر في وصف الدنيا شرك الردى وقرارة
الاكدار. (2) مذهب الإمامية التعميم فيندفع الاشكال الوارد على من ذهب إلى أحد
الأمرين منه قده . (3) الباقة: ما ضم من الزهور وغيرها من الخضراوات. (4) هو
نظام الدين أبو محمد القمي الگنجوى الشاعر الشهير الملقب بملك الشعراء والمعروف
بالنظامي، صاحب المنظومات الكثيرة كمخزن الأسرار وكتاب ليلى ومجنون وكتاب هفت پيكر
وكتاب خسرو شيرين وكتاب خرد نامه وغيرها، توفي سنة 576 أو (*)
ص 276
(نظم) اگر عدلست در دريا ودر كوه * چرا تو در نشاطى من در اندوه اگر در تيغ دوران
رخنه هست * چرا برده ترا ناخن مرا دست اگر بى مهر شد پستان گردون * چرا بخشد ترا
شير ومرا خون وسيجئ تحقيق مسألة الحسن والقبح في موضعه اللائق به إن شاء الله تعالى
قال المصنف رفع الله درجته وقالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة: إن جميع أفعال
الله تعالى حكمة وصواب ليس فيها ظلم ولا جور ولا كذب ولا عيب (خ ل عبث) ولا فاحشة،
والفواحش والقبائح والكذب والجهل من أفعال العباد، والله منزه عنها وبرئ منها،
وقالت الأشاعرة: ليس جميع أفعاله تعالى حكمة وصوابا، لأن الفواحش والقبائح كلها
صادرة عنه تعالى، لأنه لا مؤثر غيره إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب
الأشاعرة أن الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب
(هامش)
582 أو 590 أو 591 أو 596 أو 598 أو 599 أو 602 أو 606 أو 607 أو 611. ومن شعره:
ملك الملوك فضلم بفضيلت معانى * زمى وزمان گرفته بمثال آسمانى ولد الزنا است حاسد
منم آنكه أختر من * ولد الزناكش آمد چو ستاره يمانى حركات أختر انرا منم أصل واو
طفيلى * طبقات آسمانرا منم آب واو أوانى من ريحانة الادب جلد 4 ص 217 (*)
ص 277
وذلك من جهة أنه لا قبيح منه (1) ولا واجب عليه، فلا يتصور منه فعل قبيح ولا ترك
واجب، وجميع أفعاله تعالى حكمة وصواب، والفواحش والقبائح صادرة من مباشرة العبد
للأفعال، ولا يلزم من قولنا: لا مؤثر في الوجود إلا الله أن تكون الفواحش والقبائح
صادرة عنه، بل هي صادرة من العبد ومن مباشرته وكسبه، والله تعالى خالق للأفعال ولا
قبيح بالنسبة إليه، بل قبح الفعل من مباشرة العبد كما سيجئ في مبحث خلق الأعمال،
فما نسبه إليهم هو افتراء محض ناش من تعصب وغرض فاسد إنتهى . أقول: لما قال
الناصب: بأنه إنما حكموا بأن الله تعالى لا يفعل القبيح لأجل أنه لا قبيح منه تعالى
ولا واجب عليه، فقد اعترف بأنه يصدر منه تعالى ما يستقبحه العقل كما مر ويكفي في
الدليل على أنهم قائلون بصدور الفحشاء حقيقة ما حكاه الشارح الجديد للتجريد من أنه
دخل القاضي عبد الجبار (2) دار الصاحب ابن عباد (3) فرأى الأستاذ أبا إسحاق
الاسفرايني الأشعري فقال: سبحان
(هامش)
(1) ومن التوالي الفاسدة المترتبة على قول الناصب كون النزاع لفظيا إذ تنفي العدلية
صدور القبيح منه تعالى والأشاعرة تقول ما يصدر منه ليس بقبيح، وأنت خبير بأن النزاع
معنوي وقام الحرب بين أهل العدل ومخالفيهم ما يقرب من الصدر الأول إلى زماننا على
ساق واحد وقد ألفت وصنفت في هذا المضمار من الطرفين رسائل وكتب، ومن راجع أدلة
الطرفين جزم بكون النزاع معنويا، فعليه يكون ما وجهه الناصب توجيها بما لا يرضى
صاحبه. (2) هو المحقق القاضي الشيخ عبد الجبار الهمداني الأسدآبادي قدوة أهل
الاعتزال، توفي سنة 415 وله تآليف في الأصول والفروع ومناظرات مع العلماء، وكان
شديد الجانب في الاعتزال. (3) هو العلامة المحقق الأديب الرئيس الوزير إسماعيل
الملقب بالصاحب وكافي الكفاة بن عباد الطالقاني الأصل، توفي سنة 386، له تآليف
شريفة، منها بحر المحيط في (*)
ص 278
من تنزه عن الفحشاء تعريضا للأستاذ بأنهم ينسبون الفحشاء إلى الله تعالى، فقال
الأستاذ: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء فافهم (خ ل فافحم)، وأما ما ذكره من
أن الفواحش والقبائح من مباشرة العبد للأفعال الخ فهو كلام مبني على القول
بالكسب (1) وسيبطله المصنف قدس سره ونحن نشيد أركانه إن شاء الله تعالى، وكفاك فيه
إجمالا ما اشتهر من أنه لا معنى لحال البهشمي (2) وكسب الأشعري. قال المصنف رفع
الله درجته وقالت الإمامية: نحن نرضى بقضاء الله تعالى كله حلوه ومره لأنه لا يقضي
إلا بالحق، وقالت الأشاعرة: لا نرضى بقضاء الله كله لأنه قضى بالكفر والفواحش
والمعاصي والظلم وجميع أنواع الفساد. (*)
(هامش)
اللغة، وكان شديد الوداد لآل الرسول، وله قصائد في هذا الباب، منها قوله في قصيدة:
لو شق عن قلبي يرى وسطه * سطران قد خطا بلا كاتب العدل والتوحيد في جانب * وحب أهل
البيت في جانب (1) الكسب اصطلاح للأشاعرة وسيجيئ شرحه، وملخصه أن اتصاف الفعل
بالحسن باعتبار استناده إلى الله، وبالقبح باعتبار مباشرة العبد إياه وكونه آلة
لصدوره. (2) البهشمي نسبة جعلية إلى أبي هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي زعيم
الفرقة البهشمية، المتوفى سنة 321 وهو الذي ذهب إلى ثبوت حالة للباري تعالى بها
يتصف الوجود والقدرة والإرادة والعلم، والتزم بأنها ليست موجودة ولا معدومة، وببالي
أني سمعت ذات يوم في مجلس السيد إبراهيم الراوي البغدادي أنه نقل عن كتب البهشمية
أنهم شبهوا تلك الحالة في الواجب بالقابلية والاستعداد لقبول الوجود وسائر الطوارئ
في الماهيات الامكانية. إنتهى. (*)
ص 279
قال الناصب خفضه الله أقول: تقول الأشاعرة نحن نرضى بقضاء الله تعالى كله، والكفر
والفواحش والمعاصي والظلم وجميع أنواع الفساد ليست هي القضاء بل هي المقضيات والفرق
بين القضاء والمقضي ظاهر، وذلك لأنه ليس يلزم من وجوب الرضا بالشيئ باعتبار صدوره
عن فاعله وجوب الرضا به باعتبار وقوعه صفة لشيئ آخر، إذ لو صح ذلك لوجب الرضاء بموت
الأنبياء وهو باطل إجماعا، والإنكار المتوجه نحو الكفر إنما هو بالنظر إلى المحلية
لا إلى الفاعلية، وللكفر نسبة إلى الله سبحانه باعتبار فاعليته له وإيجاده إياه،
ونسبة أخرى إلى العبد باعتبار محليته له واتصافه به، وإنكاره باعتبار النسبة
الثانية دون الأولى، ثم إنهم قائلون: بأن التمكين على الشرور من الله تعالى،
والتمكين بالقبيح قبيح فيلزمهم ما يلزمون به الأصحاب إنتهى . أقول: حاصل كلام
الأشاعرة وما ذكره الناصب من الفرق بين القضا والمقضي (1) أن هيهنا أمرين: قضاء وهو
فعل قائم بذات الله تعالى، ومقضي وهو
(هامش)
وأيضا الفرق بين القضاء والمقضي إنما يصح على قول من جعل الفعل غير المفعول، وأما
من لم يفرق بينهما فكيف يصح هذا على أصله؟ قال ابن قيم في شرح منازل السائرين: إن
القاضي أبا بكر الباقلاني الأشعري أورد على نفسه هذا السؤال فقال: (فإن قيل)
فالقضاء عندكم هو المقضي أو غيره (قلنا) هو على ضربين فالقضاء بمعنى الخلق هو
المقضي لأن الخلق هو المخلوق، والقضاء الذي هو الالزام والاعلام والكتابة غير
المقضي لأن الأمر غير المأمور والخبر غير المخبر عنه، وهذا الجواب لا يخلصه لأن
الكلام ليس في الالزام والاعلام والكتابة وإنما الكلام في نفس الفعل المقدر المعلم
به المكتوب هل مقدره وكاتبه سبحانه راض به أم لا؟ وهل العبد مأمور بالرضا به أم لا
وهذا حرف لمسألة (إنتهى) منه قده . (*)
ص 280
المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة فنرضى به كله، والمقضي قسمان منه
ما يرضى به ومنه ما لا يرضى به وفيه نظر، أما أولا فلأنا لو سلمنا أن القضاء غير
المقتضي، لكن الرضا بأحدهما يستلزم الرضاء بالآخر، وأما ثانيا فلأن ما قيل من أن
الرضا إنما يجب بالقضاء لا بالمقضي، والكفر مقضي ليس بمرضي، ضرورة أن القائل: رضيت
بقضاء الله تعالى لا يريد أنه رضي بصفة من صفات الله تعالى، بل يريد أنه راض بمقتضى
تلك الصفة، وهو المقضي ولا ينفعهم الإعتذار بوجوب الرضاء (1) به من حيث ذاته وكونه
فعله تعالى، وعدم الرضاء به من حيث المحلية والكسب لبطلان الكسب على ما سيجئ إن شاء
الله تعالى، ونقول هيهنا: إن كان كون الكفر كسبا بقضائه تعالى وقدره وجب الرضاء به
من حيث هو كسب وهو خلاف قولكم، وإن لم يكن بقضاء وقدر بطل استناد الكائنات بأجمعها
إلى القضاء والقدر مع أن الحديث النبوي وهو قوله صلى الله عليه وآله: الخير فيما
يقضي الله (2) يدل على أن الرضاء بالمقضي من حيث ذاته واجب. وأما ما ورد من أنه
تعالى خالق الخير والشر فأريد بالشر ما لا يلايم الطبع، وإن كان مشتملا على مصلحة،
لا ما كان قبيحا خاليا عن المصالح، فإن الشر يطلق على معنيين: أحدهما غير الملائم
للطبع كخلق الحيوانات المؤذية،
(هامش)
(1) وقد يجاب (المجيب هو أبو الحسن) بأنه قد تقرر في مظانه إن اللفظ المشهور لا
يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي سيما في خطاب الله تعالى والرسول ص وما تفهمه
الأذهان من قضاء الله تعالى هو إرادته تعالى ظهور الحوادث على نهج خاص والرضاء
بالإرادة لا ينفك عن الرضاء بالمراد، بل يكاد يكون عينه فلو كان الكفر بقضاء الله
تعالى وجب الرضاء به فتأمل منه قده . (2) وفي الجامع الصغير (الجزء الثاني ص 113
ط مصر) رواية تقرب منه معنى وهي: عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاءا إلا
كان خيرا له. (*)
ص 281
والثاني ما يكون مستلزما للفساد كالسرقة واللواطة والردة وأمثالها، والمنفي عن الله
تعالى الشر بالمعنى الثاني دون الأول، وأما ثالثا فلأن ما ذكره من دعوى الاجماع على
بطلان الرضاء بموت الأنبياء عليهم السلام أسخف من دعواه الاجماع على إمامة أبي بكر،
نعم موت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير ملائم لطباع أممهم من حيث حرمانهم عن
سعادة إرشادهم وشرف صحبتهم، لا أنهم لا يرضون بذلك ويعترضون به على الله تعالى كيف؟
والعاقل يعلم أن الأصلح بحال الأنبياء عليهم السلام خلاصهم من مضيق الدنيا ووصولهم
إلى لقاء ربهم، وأيضا يمكن أن تكون حكمته تعالى مقتضية لبعث نبي آخر، ويكون الأصلح
بحال النبي الثاني عدم بقاء الأول إلى غير ذلك من المصالح التي لا يهتدي إليها
العقل (1)، وأما رابعا فلأن ما ذكره من أن التمكين من القبيح قبيح (2)، مردود بأن
القبيح هو التمكين عن خصوص القبيح، لكنه تعالى لم يمكن المكلفين عنه فقط، بل مكنهم
عن كل من الحسن والقبيح فأفاض عليهم الوجود وأعطاهم القدرة والإرادة وخلق لهم آلات
وفعل الألطاف وأرسل الرسل ونصب الحجج وأنزل الشرايع و
(هامش)
(1) أي عقولنا الناقصة. (2) بل نقول: هذه شبهة ركيكة كقول من يقول: التكليف قبيح
لأنه لولا كلفه لما كفر، وخلق العالم قبيح لأنه لولا خلق العالم لما كفر، وكذا لولا
أقدره لما كفر، ولولا مكنه من المشتهى لما كفر، ونحو ذلك من الخرافات، وتحقيق الأمر
في ذلك أن توقف الشيئ على الشيئ ينقسم إلى قسمين، فما كان المتوقف عليه مؤثرا في
المتوقف كان موجبا له كتوقف المعلول على العلة والمسبب على السبب، وما كان غير مؤثر
فيه كتوقف الزوج على الفرد والصورة على لمادة ونحوها لم يكن موجبا له ولا مرجحا،
وتوقف الكفر وساير القبائح على الأقدار التمكين والتكليف من قبيل القسم الثاني فلا
يكون شيئ منها مؤثرا في الكفر والايمان الطاعة والعصيان بل كل منها على اختيار
العبد وجودا وعدما منه قده . (*)
ص 282
أقام البراهين لكل مكلف فكانوا كلهم على الشرائط الموصلة لهم إلى الثواب، فمن قبل
منهم ما عرض له وجعله وصلة إلى الثواب سعد من قبل نفسه، ومن أبى فقد شقى من قبل
نفسه، وذلك يجري مجرى من أولم وليمة وبسط بساطا وفتح الدهليز وأذن للناس في الدخول
إذنا عاما وأرسل رسله إلى كلهم، فمن وصل منهم إلى مائدته استنفع ومن لم يصل حرم ذلك
من قبل نفسه لا من قبل صاحب الوليمة والحمد لله على نعمائه. قال المصنف رفع الله
درجته قالت الإمامية والمعتزلة: لا يجوز أن يعاقب الله الناس على فعله ولا يلومهم
على صنعه ولا تزر وازرة وزر أخرى (1)، وقالت الأشاعرة: لا يعاقب الله الناس إلا على
ما لم يفعلوه ولا يلومهم إلا على ما لم يصنعوه، وإنما يعاقبهم على فعله فيهم يفعل
فيهم سبه وشتمه ثم يلومهم عليه ويعاقبهم لأجله ويخلق فيهم الاعراض، ثم يقول فما لهم
عن التذكرة معرضين (2)، ويمنعهم من الفعل ويقول ما منع الناس أن يؤمنوا (3) إنتهى
. قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أن الله تعالى خالق كل شيئ كما نص
عليه في كتابه (4)، ولا خالق سواه ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب
والمعاصي،
(هامش)
(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة الاسراء. الآية 15. (2) المدثر. الآية 49. (3)
الكهف. الآية 55. (4) الرعد. الآية 16. (*)
ص 283
ويلوم العباد بالكسب الذميم، وهو يخلق الأشياء والله يخلق الاعراض، ولكن العبد
مباشر للاعراض فهو معرض، والمعرض من يباشر الفعل لا من يخلق وكذا المنع إنتهى .
أقول: النص الدال على أنه تعالى خالق كل شيئ مخصوص بالعقل الحاكم، بأنه تعالى لم
يخلق ذاته المقدسة وبمعارضة النصوص النقلية، كقوله تعالى تبارك الله أحسن الخالقين
(1)، والأدلة العقلية الدالة على أن العبد فاعل لفعل نفسه كما سيجئ، فيكون المراد
أنه تعالى خالق لجميع الأفعال المنسوبة إليه، إن قيل: إنه تعالى إنما قال: إنه خالق
كل شيئ تمدحا واستحقاقا للعبادة، فلا يصح الحمل على أنه خالق لبعض الأشياء كأفعال
نفسه لأن كل حيوان عند الإمامية والمعتزلة كذلك، قلنا: يجوز أن يكون التمدح بفعل
نفسه لكونه أتقن وأجل وأكبر ذاتا ونفعا فلا حاجة في إفادة التمدح إلى العموم، وأما
حديث الكسب فسيجئ الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال المصنف رفع الله
درجته قالت الإمامية: إن الله تعالى لم يفعل شيئا عبثا، بل إنما يفعل لغرض ومصلحة،
وإنما يمرض لمصالح العباد ويعوض المولم بالثواب بحيث ينتفي العبث والظلم، وقالت
الأشاعرة: لا يجوز أن يفعل الله تعالى شيئا لغرض من الأغراض ولا لمصلحة، ويؤلم
العبد بغير مصلحة ولا غرض، بل يجوز أن يخلق خلقا في النار مخلدين فيها أبدا من غير
أن يكون قد عصوا أو لا.
(هامش)
(1) المؤمنون. الآية 14. (*)
ص 284
قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أن أفعال الله تعالى ليست معللة
بالأغراض، وقالوا: لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيئ من الأغراض كما سيجئ بعد هذا،
ووافقهم في ذلك جماهير الحكماء والإلهيين، وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (1)، إن
أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع والحاكم ولا تأثير للعصيان في أفعاله بل هو
المؤثر المطلق إنتهى . أقول: لا يخفى أن أهل السنة يشنعون دائما على الإمامية
والمعتزلة بموافقتهم للفلاسفة في بعض المسائل وإن وقعت تلك الموافقة على سبيل
الاتفاق وهيهنا افتخر الناصب بموافقة الحكماء للأشاعرة. ومن المضحكات أنه أورد بدل
الفلاسفة لفظ الحكماء تبعيدا للأذهان عما كانوا يشنعون به غيرهم من موافقة
الفلاسفة، ثم جعل الأشاعرة المتأخرين عن الفلاسفة بألوف سنين متبوعا لهم من أن ما
نسبه إليهم من موافقتهم للأشاعرة في نفي تعليل أفعال الله تعالى عن الأغراض افتراء
عليهم، وإنما ذلك شيئ فهمه بعض القاصرين عن ظواهر كلامهم، وقد صرحوا بخلافه في
مواضع، منها ما ذكره بعض المتألهين (2) من المتأخرين حيث قال في خطبة بعض مصنفاته:
والصلوة على الغاية والمقصود محمد منبع الوجود، ثم قال في شرحه: ولقائل أن يقول
إنكم منعتم الأغراض بالنسبة إلى أفعال الجواد المطلق وقلتم: إن إفاضته للوجود
ولوازمه جود مطلقا فلا يستلزم لشيئ من الأغراض، وإلا لما تحقق معنى الجود كما
قررتموه، فكيف أثبتم الغاية وجعلتموها هيهنا العلة
(هامش)
(1) اقتباس من قوله تعالى، في سورة الحج. الآية 18 وقوله تعالى في سورة المائدة
الآية 1 وغيرهما من الآيات. (2) الظاهر هو المولى أفضل الدين. (*)
ص 285
في الفيض وذلك ينافي ما قررتموه؟ ثم أجاب بأنا لا نمنع الغرض مطلقا وإنما منعنا
الغرض المستلزم للاستكمال أو لإظهار الكمال، ولم نمنع الغاية اللازمة في أفعال
الكامل لأن فعل الكامل يجب أن يكون كاملا في حد ذاته، لاستحالة أن يصدر عن الكامل
ما ليس بكمال، بل أفعاله كلها كمالات مستلزمة لحكم وأغراض وغايات تعجز العقول عن
تفصيلها، وإذا تحقق ذلك لم يلزم التناقض بين ما قررناه آنفا وبين ما أثبتناه هيهنا
من أن الغاية من الإفاضة المذكورة، والمقصود الحقيقي منها هو النشأة المحمدية من
حيث إن اتساق الوجود على ترتيبه مؤديا إلى الختم بالوجود الكامل الظاهر فيه خصائص
تلك الوجودات، فصح أن يقال: إنها كلها موجودة مقصودة بالعرض، لأنها كالشروط
والأسباب المعدة لهذه النشأة الخاتمة، فلا جرم صح أن يقال: إنها الغاية والمقصود،
وهذا دقيق لا يفهمه إلا أهل اللباب، لا من قنع بالقشور، انتهى كلامه. وأما قول
الناصب وإن أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع الخ ، ففيه أنه يقتضي نفي
الحكمة والمصلحة عن أفعاله تعالى أيضا (1) ويعلم منه أن ما يذكره المتأخرون من
الأشاعرة في بعض المراتب من أنا ننفي الغرض والغاية دون الحكمة والمصلحة، كلام لا
أصل له عندهم، وإنما ذكروه عند ضيق الخناق والاستحياء عن الافتضاح عند العقلاء
إنتهى .
(هامش)
(1) قال المصنف في نهاية الوصول: إن النصوص دالة على أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح
العباد ثم إن الإمامية والمعتزلة صرحوا بذلك وكشفوا الغطاء حتى قالوا: إنه تعالى
يقبح منه فعل القبيح والعبث بل يجب أن يكون فعله مشتملا على مصلحة وغرض، وأما
الفقهاء فقد صرحوا بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا المعنى ولأجل هذه الحكمة ثم
يكفرون من قال بالغرض مع أن معنى الكلام الغرض لا غير ويقولون: إنه وإن كان لا تجب
عليه رعاية المصالح إلا أنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة لعباده تفضلا منه
وإحسانا إنتهى منه قدس سره . (*)
ص 286
قال المصنف رفع الله درجته وقالت الإمامية: لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر
المعجزات على يد الكذابين، ولا يصدق المبطلين، ولا يرسل السفهاء والفساق والعصاة،
وقالت الأشاعرة: يحسن كل ذلك. قال الناصب خفضه الله أقول: لا حسن ولا قبيح بالعقل
عند الأشاعرة، بل جرت عادة الله تعالى بعدم إظهار المعجزة على يد الكذابين، لا
لقبحه في العقل، وهو يرسل، والرسل هم الصادقون، ولو شاء الله تعالى أن يبعث من يريد
من خلقه فهو الحاكم في خلقه، ولا يجب عليه شيئ، ولا شيئ منه قبيح، يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد إنتهى. أقول: أما أن الأشاعرة لا حسن ولا قبيح عندهم بالعقل
فدليل على أنهم معزولون عن العقل بل عن السمع أيضا، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى،
وأما قاعدة جريان العادة فقد سبق الكلام في بطلانها بما لا مزيد عليه، فالبناء عليه
كالبناء على الهواء والرقم على الماء. ثم لا يخفى أن قول الناصب: ولو شاء تعالى أن
يبعث من يريد من خلقه فهو الحاكم الخ صريح في جواز بعث النبي الكاذب، فإن قوله،
من يريد من خلقه عام شامل للصادق والكاذب، ولم يصرح به استحياءا وهو دليل على
تعنتهم فافهم. قال المصنف رفعه الله وقالت الإمامية: إن الله سبحانه وتعالى لم يكلف
أحدا فوق طاقته، وقالت الأشاعرة: لم يكلف الله أحدا إلا فوق طاقته (1)، وما لا
يتمكن من تركه وفعله، ولامهم (2)
(هامش)
(1) وذلك لسلب الاختيار عنه على مذهب الأشاعرة. (2) لامهم: فعل ماض من اللوم. (*)
ص 287
على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله، وجوزوا أن يكلف الله تعالى مقطوع اليد
الكتابة، ومن لا مال له الزكاة، ومن لا يقدر على المشي للزمانة، (1) الطيران إلى
السماء، وأن يخلق العاطل الزمن المفلوج الأجسام، وأن يجعل القديم محدثا، والمحدث
قديما وجوزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود
أبيض دفعة واحدة، ويأمرهم بالكتابة الحسنة، ولا يخلق لهم الأيدي والآلات، وأن
يكتبوا في الهوا بغير دوات ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرءه كل أحد، وقالت
الإمامية: ربنا أعدل وأحكم من ذلك. قال الناصب خفضه الله أقول: تكليف ما لا يطاق
جائز عند الأشاعرة، لأنه لا يجب على الله شيئ ولا يقبح منه فعل، إذ يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد، ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا والحال أنهم لا بد أن يقولوا به، فإن
الله تعالى أخبر بعدم إيمان أبي لهب وكلفه الايمان، فهذا تكليف ما لا يطاق، لأن
إيمانه محال وفوق طاقته، لأنه إن آمن لزم الكذب في خبر الله تعالى وهو محال اتفاقا،
وهذا شيئ يلزم المعتزلة القول بتكليف ما لا يطاق، ثم إن ما لا يطاق على مراتب
أوسطها ما لا يتعلق به القدرة الحادثة عادة سواء امتنع تعلقها به لا لنفس مفهومه
لخلق الأجسام، أم لا، بأن يكون من جنس ما يتعلق به كحمل الجبل والطيران إلى السماء،
والأمثلة التي ذكرها الرجل الطاماتي، فهذا يجوزه الأشاعرة وإن لم يقع بالاستقراء،
ولقوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (2)، وقد عرفناك معنى هذا التجويز فيما
سبق إنتهى أقول: قد مر أن الوجوب الذي ذهب إليه الإمامية والمعتزلة إنما
(هامش)
(1) الزمانة بفتح الزاء المعجمة: العاهة، عدم بعض الأعضاء، تعطيل القوى، ولعل
الكلمة معربة أو دخيلة. (2) البقرة. الآية 286. (*)
ص 288
هو بمعنى إيجاب الله تعالى على نفسه شيئا بمقتضى حكمته، كما دل عليه قوله تعالى
وكتب على نفسه الرحمة (1)، وغير ذلك، لا بمعنى إيجاب غيره تعالى شيئا عليه كما
توهمه الأشاعرة، والايجاب بذلك المعنى مما يجب القول به لقيام الدليل عليه كما عرفت
وأما قوله إذ يفعل ما يشاء، فإن أراد به الإشارة إلى قوله تعالى: يفعل الله ما يشاء
يتوجه عليه أنه لا يستلزم أن يشاء القبيح أيضا، وهو ظاهر فلا يدل على صدور القبيح
منه تعالى، وإن ذكره كلاما من عند نفسه من غير الإشارة إلى الآية فلا التفات إليه
أصلا وأما قوله: والحال أنهم لا بد أن يقولوا به، فإن الله تعالى أخبر بعدم إيمان
أبي لهب الخ فمردود بأن لنا ألف مندوحة عن ذلك، فإن شبهة إخبار الله تعالى بعدم
إيمان أبي لهب شبهة سخيفة عتيقة رميمة، قد أجاب عنها المصنف قدس سره في كتابي تهذيب
الأصول ونهاية الوصول بالمنع من الأخبار بعدم إيمان أبي لهب، والوعد [ظ الوعيد]
بأنه سيصلى نارا لا يدل على الاخبار بعدم تصديقه للنبي صلى الله عليه وآله، لا مكان
تعذيب المسلم كالفاسق، ولو سلم فلنا أن نقول إنه سيصلى النار على تقدير عدم إيمانه،
وكذا قوله تعالى في قصة نوح: إنه لن يؤمن لك من قومك إلا من قد آمن (2) أي بتقدير
عدم هداية الله تعالى لهم إلى ذلك، سلمنا لكن نمنع أنهم كلفوا بتصديق النبي صلى
الله عليه وآله فيما أخبر به من عدم تصديقهم بنبوته لجواز وروده حال غفلتهم أو
نومهم أو بعد التكليف، ولو سلم أن تصديق الله تعالى في كل ما أخبره به من الايمان
لم يلزم منه أمره بتصديق هذا الخبر عينا، لأن الايمان إنما يجب بما علم مجيئه به لا
بما جاء به مطلقا، سواء علمه المكلف أو لم يعلمه، ولا نسلم أن هذا الخبر مما علم
أبو لهب مجيئه به حتى يلزم تصديقه به، وتلخيصه
(هامش)
(1) الأنعام. الآية 12. (2) هود. الآية 36. (ج 18) (*)
ص 289
أن الايمان التصديق الاجمالي بأن كل ما جاء به فهو حق وليس في هذا التصديق الاجمالي
من أبي لهب استحالة، وأما التصديق التفصيلي فهو مشروط بعلمه بوجود هذا الخبر عينا
ولا نسلم علم أبي لهب به حتى يلزم المحال، ولنختم هذا الفصل ببعض المناظرات الجارية
في هذا الباب، قال عدلي لصقر المجبر (1) أكان فرعون يقدر على الايمان؟ قال: لا، قيل
أفعلم موسى أنه لا يقدر؟ قال: نعم، قيل فلم بعثه الله إليه؟! قال سخر به. واجتمع
النظام (2) والنجار للمناظرة فقال له النجار: لم تدفع أن يكلف الله عباده ما لا
يطيقون، فسكت النظام، فقيل له لم سكت؟ قال: كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول
بتكليف ما لا يطاق فإذا التزمه ولم يستحي فما ألزمه، وقال مجبر لعيدان (2) وكان
ظريفا: ما دليلك على أن الاستطاعة قبل الفعل؟ قال: الهرة والفأرة، قال أتهزء بي
قال: ما قلت إلا الحق. لولا أن
(هامش)
(1) هو الصقر بن حبيب البصري المتكلم المتوغل في مسألة الجبر، صاحب المناظرات في
هذا الباب، روى عن أبي رجاء العطاردي، نقل ابن حجر عن ابن حبان في حقه ما لفظه: أنه
شيخ من أهل البصرة سلولي. (2) هو أبو إسحق إبراهيم بن سيار بن هاني البصري ابن أخت
أبي الهذيل العلاف شيخ المعتزلة في وقته، عنه أخذ الجاحظ، وكلماته في الكتب مشهورة
ككون الملاك في الصدق والكذب المطابقة مع الاعتقاد وعدمها، وخلود المرتكب للكبائر
في النار، واشتهر بالنظام لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، توفي سنة 221، وله
كتب وتصانيف معروفة، وإليه تنسب النظامية من المعتزلة، والنظام كشداد كما عرفت،
والمترجم غير النظام بكسر النون النيسابوري صاحب التفسير المشهور وشرح الشافية. (3)
هو رجل مشهور بالظرافة والدعابة والمجون، وله أقاصيص وحكايات مذكورة في كتب
الظرفاء. (*)
ص 290
الفارة (1) تعلم أن السنور (2) يقدر على أخذها لما هربت منها، وسأل عدلي مجبرا عن
قوله تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا (3) قال: هذا لا معنى لا، لأنه المانع لهم قال
فما معنى قوله ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم (4)، قال: قد فعل ذلك لهم
وعذبهم من غير ذنب، ولا معنى لهذه الآيات، قال: هذا رد للكتاب، وقال: أيش (5) أصنع
إذا كان هذا هو المذهب، وسيجئ تفصيل الكلام في هذه المسألة في المطلب الثامن
المعقود للبحث بالذات عنها فانتظر. قال المصنف رفع الله درجته وقالت الإمامية: ما
أضل الله تعالى أحدا من عباده عن الدين، ولم يرسل رسولا إلا بالحكمة والموعظة
الحسنة، وقالت الأشاعرة: قد أضل الله كثيرا من عباده عن الدين، ولبس عليهم وأغواهم،
وأنه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلا بسبه ومدح إبليس، فيكون من سب (6)
الله ومدح (7) الشيطان واعتقد
(هامش)
(1) الفأر. على وزن فضل: دويبة في البيوت، تصطادها الهرة، جمعه فئران وفأرة،
والواحدة فأرة للمذكر والمؤنث. (2) السنور. بكسر السين وفتح النون المشددة وسكون
الواو: الهرة، جمعه سنانير وسنار. (3) البقرة. الآية 114. (4) النساء. الآية 147.
(5) أيش مخفف أي شيئ، ومنه قول بعض حيث سأل عن صديقه. استنصح ثقة أيش تصحيفه، قال
أتيت بتصحيفه فراجع المحسنات اللفظية من البديع. (6) كبعض البراهمة. (7 ) كاليزيدية
أتباع الشيخ عدي بن مسافر الأموي. (*)
ص 291
التثليث (1) وإلالحاد (2) وأنواع الشرك مستحقا للثواب والتعظيم، ويكون من مدح الله
طول عمره وعبده بمقتضى أوامره وذم إبليس دائما في العقاب المخلد واللعن المؤبد،
وجوزوا أن يكون فيمن سلف من الأنبياء من لم يبلغنا خبره، ومن لم يكن شريعته إلا
هذا. قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب الأشاعرة أن الله تعالى خالق كل شيئ، ولا
يجري في ملكه إلا ما يشاء ولا يجوزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس، بل يقولون: هو
الهادي وهو المضل كما نص عليه في كتابه المجيد يضل من يشاء ويهدي من يشاء (3) وهو
تعالى يرسل الرسل ويأمرهم بإرشاد الخلائق، وما ذكره الرجل الطاماتي من جواز إرسال
الرسل بغير هذه الهداية فقد علمت معنى هذا التجويز، وأن المراد من هذا التجويز نفي
وجوب شيئ عليه، وهذه الطامات المميلة لقلوب العوام لا ينفع ذلك الرجل، وكل ما بثه
من الطامات افتراء، بل هم أهل السنة والجماعة والهداية إنتهى . أقول: لا يذهب
عليك أن قوله: إن الله تعالى خالق كل شيئ إشارة إلى مضمون الآية الموهمة لما قصده
الناصب من العموم، وقد مر أن عمومها مخصوص بقوله تعالى: تبارك الله أحسن الخالقين،
وبغيره من أدلة العقل والنقل، وأما قوله لا يجري في ملكه إلا ما يشاء فهو ليس بقرآن
ولا حديث كما توهمه بعضهم، وإنما هو كلام ذكره أبو إسحاق (4) الاسفرائني الأشعري
عند مخاطبة القاضي
(هامش)
(1) كالنصارى القائلين بالأقانيم. (2) كاللادينية. (3) النحل. الآية 93. (4) قد مرت
ترجمته وأن كلامه مما اشتهر وتلبس بالحديث. (*)
ص 292
عبد الجبار المعتزلي، ثم اشتهر والتبس بالحديث فلا يعبأ به، وأما قوله ولا يجوزون
وجود الآلهة في الخلق كالمجوس، ففيه أن أهل العدل والتوحيد لم يقولوا: بقدم الخلق،
ولا بعدم كونهم مخلوقين لله تعالى حتى يلزمهم القول: بتعدد الآلهة كالمجوس، وإنما
يلزم مشابهة المجوس والنصارى لأهل السنة القائلين: بقدم الصفات الزائدة وعدم خلق
الله تعالى إياها: فليفهم الناصب ذلك وليعلم أن من كان (1) بيته من الزجاجة لا يرجم
الناس بالحجر، ومن كان (2) ثوبه من الكاغذ يحترز عن المطر، وأما ما استدل به على
أنه تعالى هو الهادي والمضل من قوله تعالى: يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فهو مدفوع
بما فصله الأصحاب في تحقيق معنى الهداية والضلالة، وحاصله أن الهدى يستعمل في اللغة
بمعنى الدلالة والارشاد، نحو: إن علينا للهدى (3) وبمعنى التوفيق نحو والذين اهتدوا
زادهم هدى (4) وبمعنى الثواب نحو سيهديهم ويصلح بالهم (5) في قصة المقتولين، ونحو
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم جنات تجري من تحتهم الأنهار
(6) وبمعنى الفوز والنجاة، نحو لو هدانا الله لهديناكم (7) أي لو أنجانا لأنجيناكم
لأنكم أتباع لنا، فلو نجانا لنجوتم ونحو
(هامش)
(1) إشارة إلى مثل معروف يضرب به في حق من يرمي الأقوياء بمفتريات والحال أنه ضعيف
في الغاية. (2) وهذا أيضا مثل يضرب به في ذلك المورد، ولفظ كاغذ دخيل. (3) الليل.
الآية 12. (4) محمد ص . الآية 17. (5) محمد ص . الآية 5. (6) يونس. الآية 9.
(7) إبراهيم. الآية 21. (*)
ص 293
والله لا يهدي القوم الكافرين (1) أي لا ينجيهم، وبمعنى الحكم والتسمية، نحو فما
لكم في المنافقين من فئتين إلى قوله: أتريدون أن تهدوا من أضل الله (2) المعنى ما
لكم مختلفين فيه، فبعضكم يسميهم مهتدين وبعضكم يسميهم بخلاف ذلك، أتريدون أن تسموا
مهتديا من سماه الله ضالا؟ وحكم بذلك عليه ومنه قول الشاعر: ما زال يهدي قومه
ويضلنا * جهلا وينسبنا إلى الكفار وأما الضلال ففيه لفظتان: ضل وأضل، أما لفظة ضل
فقد يكون لازمة نحو ضل الشيئ أي ضاع وهلك، ومنه قوله تعالى: قالوا ضلوا عنا (3) أي
ضاعوا، وقوله تعالى ضل من تدعون إلا إياه (4) أي ضاع وبطل، وقد تكون متعدية نحو ضل
فلان الطريق والدار وضل عنهما إذا جهل مكانهما، ومنه قوله تعالى فقد ضل سواء السبيل
(5)، وأما لفظة أضل فيأتي على وجوه: أحدها أن يكون بمعنى ضل المتعدية وتكون الهمزة
للفرق بين ما يفارق مكانه وما لا يفارقه، قال أبو زيد (6) يقال: ضل الطريق ولا يقال
أضلها لما كانت لا تفارق مكانها، ويقال أضل بعيره ولا
(هامش)
(1) البقرة. الآية 264. (2) النساء: الآية 88. (3) غافر. الآية 74. (4) الاسراء.
الآية 67. (5) المائدة. الآية 12. (6) هو أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد
الخزرجي البصري الحبر الخبير في علمي النحو واللغة، قال السيوطي: أخذ عنه الأصمعي
وغيره، توفي سنة 215، له كتب، منها كتاب في المياه، وآخر في المطر وآخر في الوحوش
وآخر في المصادر وآخر في غريب الأسماء. (*)
ص 294
يقال ضل عن بعيره لما كان البعير يفارق مكانه، اللهم إلا أن لا يكون البعير يفارق
مكانه بأن يكون مربوطا أو محبوسا، فيكون كالطريق يقال فيه: ضل عن طريقه ولا يقال
أضله، وثانيها أن يكون من ضل اللازمة التي بمعنى ضاع وبطل، فترد الهمزة للتعدية إلى
واحد، فيقال أضله أي أضاعه وأبطله، ومنه قوله تعالى: أضل أعمالهم (1) أي أبطلها،
وثالثها بمعنى الحكم والتسمية، يقال: أضل فلان فلانا أي حكم عليه بذلك وسماه به
كقوله: ما زال يهدي قومه ويضلنا الخ وكقول الكميت (2) في مدح أهل البيت عليهم
السلام وطائفة قد أكفروني بحبكم * وطائفة قالوا مسئ ومذنب
(هامش)
(1) محمد ص . الآية 8 و1. (2) هو كميت بن زيد أبو المستهل الكوفي الأسدي الشاعر
البليغ الشهير من أصحاب الصادقين عليهما السلام قال ابن شهرآشوب في معالم العلماء
(ص 139 طبع طهران) ما لفظه وروي أنه أي الباقر عليه السلام رفع يده وقال اللهم اغفر
للكميت اللهم اغفر للكميت انتهى. توفي في حياة الصادق عليه السلام، وفي رجال الكشي
ما لفظه عن حمدويه عن محمد بن عيسى عن حسان بن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبي جعفر
عليه السلام أنه قال للكميت لا تزال مؤيدا بروح القدس ما دمت تقول فينا، وفي
المناقب أن الكميت لما أنشد الباقر (من لقلب متيم مستهام) إلى آخر القصيدة فتوجه
عليه السلام وقال اللهم ارحم الكميت واغفر له، ثلاث مرات إلى غير ذلك من الأخبار
الواردة في جلالته وعظم شأنه وخطره لدى آل الرسول صلى الله عليه وآله وأما أدبه فلا
تسئل عنه قال أبو عبيدة لو لم يكن لبني أسد منقبة إلا الكميت لكفاهم قال النابلسي
في حقه: إنه كان شاعر زمانه، مقدما عالما بلغات العرب، خبيرا بأيامها فصيحا من
شعراء مضر لسنا خطيبا فقيها حافظ القرآن حسن الخط نسابة جدلا راميا فارسا شجاعا
سخيا دينا عالما بالمثالب والمفاخر، ولد سنة 60 من الهجرة حدث محمد بن أنس السلاحي
الأسدي قال: سئل معاذ الهراء من أشعر الناس قال: من الجاهليين أم من الاسلاميين؟
قالوا: بل من الجاهليين، قال: (*)
ص 295
ومنه قوله تعالى: أتريدون أن تهدوا من أضل الله (1). ورابعها بمعنى الوجدان
والمصادفة يقال: أضللت فلانا أي وجدته ضالا كما يقال: أخببته (2) وأنجلته (3) أي
وجدته كذلك، وعليه حمل قوله تعالى: وأضله الله على (4) علم أي وجده، وقد حمل أيضا
على معنى الحكم والتسمية، وعلى معنى العذاب. وخامسها أن يفعل ما عنده (5) يضل
ويضيفه إلى نفسه مجازا لأجل ذلك كقوله تعالى: يضل به كثيرا (6) أي يضل عنده كثير
(7) وإن جاز أن تحمل هذه الآية على معنى
(هامش)
امرؤ القيس وزهير وعبيد بن الأبرص، قالوا: فمن الاسلاميين قال الفرزدق وجرير
والراعي والأخطل، فقيل له: يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت؟! قال ذاك
أشعر الأولين والآخرين إنتهى توفي الكميت سنة 126 في سلطنة مروان بن محمد، ومن
شعره السائر في الأقطار القصائد الهاشميات التي اشتهرت اشتهار الشمس وعليها شروح من
نوابغ أهل الأدب، والبيت الذي نقله القاضي الشهيد قده من قصيدته التي أولها:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب * ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب! (1) النساء. الآية
88. (2) أخببته: وجدته ذا خبب وخدعة. (3) أنجلته: وجدته ذا عيب. (4) الجاثية. الآية
23. (5) أي عند فعله تعالى يضل العبد. (6) البقرة: الآية 26. (7) والحاصل أن الكفار
يكذبون بالقرآن وينكرون ويقولون: ليس هو من عند الله تعالى فيضلون بسببه وإذا حصل
الضلال بسببه أضيف إليه وقوله: ويهدي كثيرا يعني الذين آمنوا به وصدقوه وقال في
موضعه: فلما حصلت الهداية بسببه أضيف إليه فمعنى الاضلال على هذا هو تشديد الامتحان
الذي يكون عنده الضلال وذلك بأن ضرب لهم الأمثال لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن
فأضل عندها سميت إضلالا وإذا سهلت فاهتدى (*)
ص 296
يحكم فيه بضلالة كثير، وعلى ما ذهب إليه الناصبة يجوز أن يجعل الله هذا القرآن
إضلالا لخلقه وأن الحق في خلاف ما جاء به تعالى عما يقول الكافرون علوا كبيرا.
وسادسها أن يكون من ضل المتعدية وترد الهمزة للتعدية إلى مفعول ثان وتصير متعدية
إلى اثنين نحو أضله الطريق، ومنه قوله تعالى: أضلونا السبيل (1) وقوله تعالى: ليضل
عن سبيله (2) بالضم وإن كان ليضلنا عن آلهتنا (3) ونحو ذلك، وهذا هو الاضلال بمعنى
الاغواء (4) وهو محل الخلاف بيننا وبين الناصب وأصحابه، وليس في القرآن ولا في
السنة شيئ يضاف إلى الله تعالى بهذا المعنى، فلا يكون لهم في ذلك شبهة قط كما عرفت.
واعلم أن قول الناصبة: إن الله تعالى هو المغوي عن الدين، المضل عن الرشد، المانع
عن سواء السبيل وإن كان
(هامش)
عندها سميت هداية فالمعنى أن الله تعالى يمتحن هذه الأمثال عباده فيضل بها قوم كثير
من تفسير الطبري. منه قده . (1) الأحزاب. الآية 67. (2) الزمر. الآية 8. (3)
الفرقان. الآية 42. (4) لأنه هو المعنى الأصلي في اللغة كما اعترف به فخر الدين
الرازي في تفسيره لكنه أنكر كون النزاع في هذا المعنى لتنبهه على قبحه فقال: إن
الأمة مجمعة على أن الاضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى لأنه ما دعى إلى
الكفر وما رغب فيه بل نهى عنه فافتقروا إلى التأويل فحملوا أهل الجبر على أنه تعالى
خالق الضلال والكفر فيهم وسدهم عن الايمان وحال بينه وبينهم. إنتهى وفيه أن
المعنى الأصلي هو الدعوة، والاغواء بمنزلة المعد أو العلة البعيدة ونحوهما، وخلق
الضلال بمنزلة العلة القريبة بل العلة التامة، فالفرار عن الأول إلى الثاني فرار من
المطر إلى الميزاب كما لا يخفى على أولي الألباب. منه قده . (*)
ص 297
ضلالة هو فاعله باطل مضمحل، ولا دليل لهم عليه، وأما نحن فدليلنا اللغة والمعنى (1)
والعقل والسمع، أما اللغة فلم يرد لفظ أضل بمعنى خلق الضلال، ولا لفظة هدى بمعنى
خلق الاهتداء، مع أن من حمل غيره على سلوك طريق جبرا لا يقال هداه إليها، وكذلك من
صرف غيره من طريق جبرا لا يقال: أضله عنها، (2) وأما المعنى فهو أنه لا خلاف بيننا
وبين الناصبة أن التكليف لا يصح إلا مع البيان، والاضلال والاغواء هو التلبيس، فلا
يصح أن تجامع التكليف، وأيضا فلو كان الله أضلهم عن الهدى لما أمكن الاحتجاج عليهم
بالكتب والرسل. ولكان لا معنى للترغيب والترهيب والوعد والوعيد والتوبيخ في نحو
قوله تعالى: فما لهم عن التذكرة معرضين (3) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى
(4) ونحو ذلك، وأيضا فالاضلال والاغواء الوارد على سبيل التلبيس إنما يصدر ممن يعجز
عن المنع، والقهر كالشيطان وهو ظاهر، وأما العقل فهو ما ثبت من أن الله تعالى عدل
حكيم لا يكلف العباد ما لا يطيقون، ولا يؤاخذهم بما لا يذنبون، إذ ذلك يؤدي إلى
إبطال الكتب والرسل والتكليف، ويرفع فائدة الأمر والنهي ونحو ذلك، وأيضا فكيف ينهى
عن الاضلال والاغواء ويفعله، والطارف (5) من العقلاء ينزه نفسه عن أن يفعل ما نهى
عنه، ولهذا قال شعيب عليه السلام: وما أريد أن أخالفكم
(هامش)
(1) وقد اعترف فخر الدين الرازي بهذا في أوائل تفسيره لسورة البقرة منه قده (2)
بل يقال منعه وصرفه وأنما يقال إنه أضل إذا لبس عليه وأورد من الشبهة ما يلبس عليه
الطريق فلا يهتدي له. منه قدس سره. (*) (3) المدثر. الآية 49 (4) الاسراء. الآية 94
(5) الطارف: المال المستحدث ويقال لكل مستحدث جديد أنه طارف ومنه طارف العقل. (*)
ص 298
إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح (1) وقال تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم (2) وفي الأخبار (3) أنه نزل بقوم موسى عليه السلام بلاء فسأل ربه عن سبب
ذلك، فقال: فيكم رجل نمام، فقال موسى: أخبرنا به يا رب لنقتله، فقال تعالى: كيف
أعيب خصلة ثم أفعلها؟ وقال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت
عظيم وبالجملة فلو نسبت إلى بعض المخالفين مثل ذلك فقلت: كل فساد أو ضلال منك، وأنت
أغويت على عبيدي وأضللتهم عن الرشد، لو اثبك مواثبة مضطر إلى أنك نسبت إليه صفات
النقص، فكيف يضاف إلى أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين؟! وأما السمع فلنا فيه طريقان:
أحدهما في أنه تعالى هدى جميع الخلق وأرشدهم، والثاني في أنه لم يضل أحدا بالمعنى
المختلف فيه، أما الطريق الأول فقال تعالى، إن علينا للهدى (4) فبين أن عليه أن
يهدي الناس وقال تعالى: هدى للناس وبينات (5) وقال: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا
العمى على الهدى (6) وقال: فأما يأتينكم مني هدى (7) وقال: قد جاءكم بصائر من
(هامش)
(1) هود. الآية 88 معناه ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد
بها دونكم. من تفسير الطبري. (2) البقرة. الآية 44. (3) رواه في الوسائل (ج 2 ص 241
باب تحريم النميمة حديث 13 ط الأمير بهادر) (4) الليل. الآية 12. (5) البقرة. الآية
185. (6) فصلت. الآية 17. (7) البقرة. الآية 38. (*)
ص 299
ربكم (1) وقال: وعلى الله قصد السبيل (2) وقال: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع (3)
وقال: أو يقول لو أن الله هداني (4) وقال: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى،
وأمثال هذه كثيرة، وأما الطريق الثاني فدليله أنه تعالى أضاف الاضلال بالمعنى
المختلف فيه إلى غيره فقال: وأضل فرعون قومه (5)، إن الذين يضلون عن سبيل الله (6)
ولأضلنهم ولأمنينهم (7) ليضل عن سبيل الله (8) قد ضلوا وأضلوا كثيرا (9) فأضلونا
السبيلا (10) فأزلهما الشيطان عنها (11) واتبعوا ما تتلو الشياطين (12) وزين لهم
الشيطان (13) لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم (14) ربنا هؤلاء أضلونا (15) ربنا
أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس (16) وما كان الله
(هامش)
(1) الأنعام. الآية 104. (2) النحل. الآية 9. (3) يونس. الآية 35. (4) الزمر. الآية
57. (5) طه. الآية 79. (6) ص. الآية 26. (7) النساء. الآية 119. (8) لقمان. الآية 6
الحج. الآية 9. (9) المائدة. الآية 77. (10) الأحزاب. الآية 67. (11) البقرة. الآية
36. (12) البقرة. الآية 102. (13) النمل. الآية 24. (14) الأعراف. الآية 27. (15)
الأعراف. الآية 38. (16) فصلت. الآية 29. (*)
ص 300
ليضل قوما بعد إذ هداهم (1) وأمثال ذلك كثير وأما أحالته لما أراد به من معنى تجويز
إرسال الرسل بغير هذه الهداية على ما ذكره سابقا، فقد سبق مرارا منا أنه كلام مظلم
(2) لا هداية فيه فتذكر، ولا تتبع الهوى فيضل عن سبيله (3). قال المصنف رفع الله
درجته قالت الإمامية: قد أراد الله تعالى الطاعات وأحبها ورضيها واختارها ولم
يكرهها ولم يسخطها وأنه كره المعاصي والفواحش ولم يحبها ولا رضيها ولا اختارها،
وقالت الأشاعرة: قد أراد الله من الكافر أن يسبه ويعصيه واختار ذلك وكره أن يمدحه،
وقال بعضهم: أحب وجود الفساد ورضي بوجود الكفر. قال الناصب خفضه الله أقول: مذهب
الأشاعرة كما سبق أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات فهو يريد الطاعات ويرضى بها
للعبد، ويريد المعاصي بمعنى التقدير لأن الله تعالى مريد للكائنات، فلا بد أن يكون
كل شيئ بتقديره وإرادته، ولكن لا يرضى بالمعاصي، والإرادة غير الرضا، وهذا الرجل
يحسب أن الإرادة هي عين الرضا وهذا باطل. وأما قوله: كره أن يمدحه فهذا عين
الافتراء وكذا قوله: أحب الفساد ورضي بوجود الكفر، ولا عجب هذا من الشيعة فإن
الافتراء والكذب طبيعتهم وبه خلقت غريزتهم إنتهى .
(هامش)
(1) التوبة. الآية 115. (2) أي غير متضح المراد، وتوصيف الكلام بالظلمة من باب
الاستعارة والتشبيه ولطفه غير خفي على أهل الفن. (3) اقتباس من قوله تعالى في سورة
س. الآية 26. (*)