ص 301
أقول: قد مر مرارا أن الإرادة (1) بمعنى التقدير لم يجئ في الاستعمال ولم يصطلح
عليه سواه أحد من أصحابه ولا غيرهم ممن يعتد به مع عدم جدواه، وأما ما ذكره من أن
الإرادة غير الرضا الخ فقد قلد فيه صاحب المواقف حيث قال: الرضا ترك الاعتراض،
والله يريد الكفر للكافر ويعترض عليه ويؤاخذه به، ويؤيده أن العبد لا يريد الآلام
والأمراض وليس مأمورا بإرادتها، وهو مأمور بترك الاعتراض عليها، فالرضا أعني ترك
الاعتراض يغاير الإرادة إنتهى وليس بمرضى، أما أولا فلأنا لا نسلم أن الرضا (2)
بمعنى ترك الاعتراض، بل هو إرادة صادقة لما قضى الله تعالى به لا يشوبه في ذلك تردد
ولا مزاحمة مراد آخر، كما يشعر به كلام ابن قيم الحنبلي (3) في شرح منازل السائرين
وغيره في غيره،
(هامش)
(1) قال الفاضل المدقق النحرير نصير الدين الحلي ره في شرحه للطوالع: إعلم أن
الإرادة عند الأشعري موافقة للعلم على معنى أن كل ما علم الله تعالى وقوعه فهو مراد
الوقوع وكل ما علم الله تعالى عدمه فهو مراد العدم، وعند المعتزلة الإرادة موافقة
الأمر أي كل مأمور به مراد وكل منهى عنه مكروه. (2) قال شارح الفصول النصيرية هو
الوقوف عند إرادة الحق بأن لا يريد غيره وهو على درجات ثلث. الخ. (3) هو شمس الدين
محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي الحنبلي المشهور بابن قيم الجوزية من مشاهير علماء
القوم وتلميذ ابن تيمية الخصيص به والتابع له في مقالاته المنكرة كالتجسم وجواز
الرؤية وإنكار شفاعة الأنبياء والرسل والمقربين وإسناد الشرك إلى أهل القبلة لذلك
وتحريم زيارة القبور والتفصيل في ما لا نص فيه والتفصيل في الشبهات التحريمية من
غير وجه فيهما إلى غير ذلك من المناكير التي لأجلها كفر علماء الإسلام من الخاصة
والعامة شيخه ابن تيمية كما أثبت ذلك أستاذنا آية الله أبو محمد السيد حسن صدر
الدين الكاظميني في رسالة مفردة، توفي ابن القيم في سنة 751 وله (*)
ص 302
(هامش)
تآليف مشحونة أكثرها بالتعصب لشيخه، منها أخبار النساء وكتاب زاد المعاد في هدى خير
العباد وحادي الأرواح وإغاثة اللهفان إلى غير ذلك ومن تأمل في كتبه وكتب شيخه رأى
أنهما ألم يتأملا حق التأمل في آيات الكتاب العزيز والأخبار النبوية بل قصروا النظر
في عدة آيات عامة أو مطلقة أو متشابهة، وغفلوا أو تغافلوا ترويجا لمتاعهم الكاسد عن
المخصصات والمقيدات، وما أدروا الفرق بين المقامات وما يسوغ للمسلم وما لا يسوغ
ولله در الأعلام من المسلمين حيث أنهوا التحقيق في الرد عليهما في كتبهم كالسبكي في
شفاء السقام وغيره من القوم، وسيدنا الآية الأمين في كتاب الرد على ابن عبد الوهاب
وسيدنا الآية المهدي القزويني في الرد على منهاج السنة وغيرهما في غيرهما شكر الله
مساعيهم الجميلة وهنأهم بالكاس الأوفى، ثم خمدت نار ابن تيمية التي أو قدها في بلاد
الإسلام سيما أفى مصر والشام سنين إلى أن قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي إليه
تنتسب الوهابية في عصرنا ومقدمها غائلة عبد العزيز بن سعود المالكة لبلاد الحجاز
فجدد المصيبة وحث تابعيه آل السعود وبعض قبائل نجد سكنة بلاد مسيلمة المتنبي الشهير
ورغبهم إلى الفتك بأهل الحرمين الشريفين ثم مشاهد العراق ففعلوا ما فعلوا من قتل
النفوس حتى الصبيان الرضع والشيوخ الركع والشبان الخشع والبهائم الرتع وكسروا صندوق
قبر النبي الأكرم وأخذوا القناديل التي كانت عليه وكذا فعلوا في بلدة كربلاء
المشرفة في حرم مولينا الحسين ريحانة الرسول وبلغ عدد القتلى في تلك البلدة الشريفة
ستين ألف على ما ذكره بعض المؤرخين، ورأيت مكتوبا من العلامة الاسترآبادي الحائري
إلى العلامة السيد محمد سلطان العلماء الهندي مرجع الشيعة في لكهنو يذكر فيه أفاعيل
هؤلاء الأشقياء الكفرة بإجماع المسلمين في كربلا ومن نظر في ذلك الكتاب كاد قلبه أن
يذوب وكبده أن يحترق من فجائع الطغام ولله در الخديوي ملك بلاد مصر حيث استأصلهم
وأبادهم، ولكن الأسف كل الأسف أن السياسة الأجنبية التي أحاطت بنا من كل جانب
وتداخلت في كل شئوننا أيدت الوهابية وأعطاها السلطة على المشاعر المكرمة والكعبة
المعظمة التي تهوي إليها الأفئدة من كل فج عميق ولكل مسلم في العالم حق هناك،
فهدموا قبور أئمة المسلمين وأمهات المؤمنين والصحابة والأنصار والمهاجرين والعلماء
(*)
ص 303
وأما ثانيا فلأن تفسير الرضا بترك الاعتراض اصطلاح منهم لا معنى لغويا له، ومن
البين أن القرآن لا يترك باصطلاح حادث منهم، فإن الرضا على ما تقتضيه لغة القرآن
مستلزم للإرادة أو إرادة مخصوصة، على أن إرادة الكفر من شخص والاعتراض عليه قبيح
بحسب العقل، فلا يصح إسناده إليه تعالى، وأيضا ذلك التفسير غير مانع، إذ يدخل فيه
ترك الاعتراض الناشي من الخوف، فإن ذلك لا يسمى رضاءا، ولو سلم فلا يدل هذا التفسير
على مغايرته للإرادة، غاية الأمر أن يكون نوعا من الإرادة كما أن العزم يكون نوعا
منها، فإن الإرادة قد تكون مع سبق تردد وقد تكون بدون سبقه. وأما ثالثا فلأنا لا
نسلم أنه تعالى يريد الكفر من الكافر ولهذا يعترض عليه، لا لأنه يريده ولا يرضاه
(1) كما زعمه، وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن الرضاء مأمور به ولم يجئ الأمر به،
وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم، نعم جاء الأمر بالصبر وهو غير الرضا، نقل ابن
القيم عن القاضي أبي يعلى (2)
(هامش)
والتابعين، وأفتى بذلك قاضيهم ابن بليهد ومن يحذو حذوه من المنهمكين المتفانين في
الملق لملكهم جلبا لحطام الدنيا الدنية، ومن الأسف أنهم لا يعطون الحرية في التبليغ
والارشاد حتى يتبين لهم أنهم خبطوا عشواء وأبصروا بعين حولاء عوراء حيث أجازوا
التجسم والرؤية ومنعوا عن زيارة قبور المقربين والاستشفاع بهم ونسبة الشرك إلى من
فعل ذلك وما أنسب أن يقال: من أعطى العقل فما لم يعط ومن لم يعط العقل فما اعطى
آنرا كه عقل داده پس چه نداده * وآنرا كه عقل نداده پس چه بداده عصمنا الله تعالى
من هذه الهفوات والترهات. (1) لأنه لا يريد الكفر من الكافر يعترض عليه لا لأنه
الخ. منه قده . (2) في بعض النسخ القاضي أبو علي، وعليه قد مرت ترجمته، وفي
النسخ المصححة الأخر القاضي أبو يعلى، وعليه فهو القاضي أبو يعلى أحمد بن علي
التميمي المحدث الموصلي صاحب المسند المتوفى سنة 307 كما في تذكرة النوادر (ص 39)
وغيرها وكان حافظا مسندا بصيرا خبيرا. (*)
ص 304
والباقلاني ومن وافقهما أنهم قالوا: لم يقم دليل من الكتاب والسنة على جواز الرضا
بكل قضاء فضلا عن وجوبه واستحبابه، فأين أمر الله عباده أو رسوله أن يرضوا بكل ما
قضاه وقدره؟ وأما ما يروى من الأثر: من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ
ربا سوائي (1) فقد قال ابن القيم، إنه أثر إسرائيلي ليس يصح عن نبينا، وأيضا فقد
ذهب بعضهم إلى أنه من جملة الأحوال التي ليست بمكتسبة، وأنه موهبة محضة، فكيف يؤمن
به وليس مقدورا؟ ولو سلم بناءا على عدم ملائمته ظاهرا لمدح الله تعالى على أهله
والثناء عليهم، فنقول، عدم اتحاد الرضا والإرادة ينافي قول الأشعري وقدماء أصحابه
على ما نقله ابن القيم وابن همام (2) في المسايرة حيث قال: إن هؤلاء يقولون: إن كل
ما شاءه وقضاه فقد أحبه ورضيه، وبالجملة لا معنى لإرادة الله تعالى أمرا لا يرضاه
ولا يحبه وكيف لا (خ ل يشاء ويكرهه) يشاء ويكونه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه
وكراهته؟ كما هو حاصل كلام القوم،
(هامش)
(1) رواه في الجواهر السنية في الباب السابع فيما ورد في شأن موسى عليه السلام (ص
66 ط بمبي) وذكره ابن قيم في شأن يعقوب عليه السلام. ورواه في كنز العمال (ج 1 ص 93
ط حيدرآباد) وفي الاتحافات السنية (ص 3 ط حيدرآباد) إلا أنه زاد في الجواهر فقرة:
ولم يشكر نعمائي. (2) قال ابن همام وقال إمام الحرمين: إن من حقق لم يكع عن القول
بأن المعاصي لمحبته ونقله بعضهم عن الأشعري لتقاربها لغة، فإن من أراد شيئا أو شاء
فقد رضيه وأحبه انتهى. منه قده . أقول ابن همام هو الشيخ كمال الدين محمد بن عبد
الواحد الاسكندري الحنفي المتوفى سنة 861 له تصانيف منها كتاب التحرير في أصول
الفقه، والمسائرة في الكلام، وفتح القدير في الفقه الحنفي. (*)
ص 305
ولقد ظهر بما نقلناه: أن الفرق بين الإرادة والرضا مما تفرد به المتأخرون من منتحلي
(1) مذهب الأشاعرة كصاحب المواقف وأقرانه دون المتقدمين عليهم وكلام المصنف مع
المتقدمين فافهم. قال المصنف رفع الله درجته وقالت الإمامية: قد أراد النبي صلى
الله عليه وآله من الطاعات ما أراده الله تعالى، وكره من المعاصي ما كرهه الله
تعالى، وقالت الأشاعرة: بل أراد النبي صلى الله عليه وآله كثيرا مما كرهه الله
تعالى وكره كثيرا مما أراده الله تعالى إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: غرضه
من هذا الكلام كما سيأتي أن الله تعال يريد كفر الكافر، والنبي صلى الله عليه وآله
يريد إيمانه وطاعته، فوقعت المخالفة بين الإرادتين وإذا لم يكن أحد منهما مريدا
لشيئ يكون كارها له، هكذا زعم، وقد علمت أن معنى الإرادة من الله هيهنا هو التقدير
ومعنى الإرادة من النبي صلى الله عليه وسلم ميله إلى إيمانهم ورضاه به والرضاء
والميل غير الإرادة بمعنى التقدير، فالله يريد كفر الكافر بمعنى أنه يقدر له في
الأزل، هكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد كفره، بمعنى أنه لا يرضى به ولا
يستحسنه، فهذا جمع بين إرادة الله وعدم إرادة النبي صلى الله عليه وسلم ولا محذور
فيه، نعم لو رضى الله بشيئ ولم يرض رسوله بذلك الشيئ وسخطه كان ذلك محذورا وليس هذا
مذهبا لأحد إنتهى . أقول: قد مر مرارا أن إرادة التقدير من الإرادة مخالف لإجماع
القوم، وليس إلا من مخترعاته التي لم يجد محيصا عن الاشكال إلا بها، وبينا أنه مع
(هامش)
(1) تعريض بأن المتأخرين منهم انتحلوا إلى الأشعري وليسوا منهم. (*)
ص 306
ذلك لا يجديه نفعا فتذكر. قال المصنف رفع الله درجته وقالت الإمامية: قد أراد الله
تعالى من الطاعات ما أراده أنبياؤه، وكره من المعاصي ما كرهوه، وأراد ما كره
الشياطين من الطاعات، وكره ما أرادوه من الفواحش، وقالت الأشاعرة: بل قد أراد الله
ما أرادته الشياطين من الفواحش، وكره ما كرهوه من كثير من الطاعات، ولم ما أرادته
الأنبياء من كثير من الطاعات، بل كره ما أردته منها إنتهى قال الناصب خفضه الله
أقول: هذا يرجع إلى معنى الإرادة التي ذكرناها في الفصل السابق، وهذا الرجل لم يفرق
بي الإرادة والرضا وجل تشنيعاته ناش من عدم هذا الفرق، وأما قوله: كره الله ما كره
الشياطين من الطاعات فهذا افتراء على الأشاعرة إنتهى . أقول: قد مر أن معنى
الإرادة التي ذكره لا معنى له ولا جدوى له في دفع الاشكال والالزام، وأن الفرق بين
الإرادة والرضا ليس بمرضي، فتشنيع المصنف قدس سره على الأشاعرة (1) واقع في موقعه،
وأما ما ذكره: من أن القول: بأن الله تعالى يكره ما كره الشياطين افتراء على
الأشاعرة، فليس كما زعمه، لأنهم وإن لم يقولوا بذلك صريحا لكن يلزمهم القول به من
قوله: بعدم وجوب شيئ على الله تعالى لزوما لا سترة فيه، وأيضا قد سبق في الفصل
السابق من الناصب في تقرير كلام المصنف: أن الله تعالى يريد كفر الكافر على مذهب
الأشاعرة والنبي
(هامش)
(1) يعني أن الأشاعرة لا يثبتون الكراهة له تعالى بالنسبة إلى شيئ وإنما يثبتون
الكراهة لما لا يكون. منه قده . (*)
ص 307
يريد إيمانه وطاعته، فوقع المخالفة بين الإرادتين، وإذا لم يكن أحد منهما مريدا له
يكون كارها له إنتهى فنقول: إذا لزم من ذلك كراهة الله تعالى لما أراده النبي
من الايمان والطاعة، ومن البين أن الشيطان قد كره ذلك، فيلزم أن يكره الله تعالى ما
يكرهه الشيطان كما ذكره المصنف قدس سره. قال المصنف رفع الله درجته قالت الإمامية:
قد أمر الله عز وجل بما أراده ونهى عما كرهه، وقالت الأشاعرة: قد أمر الله بكثير
مما كره ونهى عما أراد. قال الناصب خفضه الله أقول: قد عرفت فيما سلف أن الله تعالى
لا يجب عليه شيئ ولا قبيح بالنسبة إليه، فله أن يأمر بما شاء وينهى عما يشاء، فأخذ
المخالفون من هذا أنه يلزم على هذا التقدير أن يأمر بما يكرهه وينهى عما يريده، وقد
عرفت جوابه: أن المراد بهذا عدم وجوب شيئ عليه، وهذا التجويز لنفي الوجوب، وإن لم
يقع شيئ من الأمور المذكورة في الوجود فالأمر بالمكروه والنهي عن المراد جائز، ولا
يكون واقعا، فهو محال عادة، وإن جاز عقلا بالنسبة إليه كما مر غير مرة. وسيجئ
تفاصيل هذه الأجوبة عند مقالاته فيما سيأتي إنتهى أقول: العادة لا تمنع الوقوع،
وقد ذكرنا سابقا أن جريانها ليس بواجب على الله تعالى عندهم، وإلا لزمهم الوقوع
فيما هربوا عنه كما لا يخفى. قال المصنف رفع الله درجته فهذه خلاصة أقاويل الفريقين
في عدل الله عز وجل قول الإمامية في التوحيد أيضا هي قولهم في العدل فإنهم يقولون:
إن الله تعالى واحد لا قديم سواه ولا إله غيره
ص 308
ولا يشبه الأشياء ولا يجوز عليه ما يصح عليها من التحرك والسكون، وأنه لم يزل ولا
يزال حيا قادرا عالما مدركا لا يحتاج إلى أشياء يعلم بها ويقدر ويحيى وأنه لما خلق
الخلق أمرهم ونهاهم ولم يكن آمرا ولا ناهيا قبل خلقه لهم، وقالت المشبهة (1) إنه
يشبه خلقه ووصفوه بالأعضاء والجوارح وأنه لم يزل آمرا وناهيا
(هامش)
(1) المشبهة. قال أبو منصور البغدادي المتوفى سنة 429 في كتاب الفرق بين الفرق ص
137 طبع مصر في الفصل الثامن: إن المشبهة صنفان صنف شبهوا ذات الباري بذات غيره،
وصنف آخر شبهوا صفاته بصفات غيره، وكل من هذين الصنفين مفترقون إلى أصناف شتى إلى
آخر ما قال، ويظهر من مجموع كلماته إن من المشبهة من زعم أن الخالق من النور على
صورة انسان في أعضائه وأنه يفنى كله إلا وجهه. ومنهم من زعم أنه تعالى ذو أعضاء وأن
أعضائه على صور حروف الهجاء وهم أتباع المغيرة ابن سعيد العجلي. ومنهم الحلمانية أو
الحكانية: أتباع أبي حلمان الدمشقي، وكان يسجد لكل صورة حسنة لزعم التشبيه. ومنهم
الجواربية أتباع داود الجواربي الذي أثبت جميع الأعضاء له تعالى إلا الفرج واللحية.
ومنهم مشبهة الكرامية حيث ذهبوا إلى أنه تعال يجسم له حد ونهاية، وأنه محل للحوادث
وأنه مماس لعرشه، فهؤلاء مشبهة لله بخلقه في ذاته لا في صفاته. فأما المشبهة لصفاته
بصفات المخلوقين فإنها أصناف. فمنهم من شبه إرادة الباري بإرادة خلقه، وهذا قول
معتزلة البصرة حيث زعموا أن الله مريد بإرادة حادثة من جنس إرادة البشر. ومنهم
الحدوثية فإنهم ذهبوا إلى حدوث تمام صفاته تعالى حتى صفات الذات، ومال إليه جمع من
المعتزلة انتهى ما رمنا نقله من مقالة البغدادي في هذا الباب ملخصا كلامه ناقلا
إياه بالمعنى. أقول: ومن المشبهة جماعة من الصوفية في هذه الأعصار من العامة
والخاصة حيث شبهوا بعض صفاته تعالى الفعلية بصفات المخلوق ولهم ترهات في هذا (*)
ص 309
ولا يزال قبل خلق خلقه ولا يستفيد بذلك شيئا ولا يفيد غيره ولا يزال آمرا وناهيا
بعد خراب العالم وبعد الحشر والنشر دائما بدوام ذاته وهذه المقالة في الأمر والنهي
ودوامهما مقالة الأشعرية أيضا، وقالت الأشاعرة أيضا: إنه تعالى قادر عالم حي إلى
غير ذلك من الصفات بذوات (1) قديمة ليست هي الله ولا غيره ولا بعضه ولولاها لم يكن
قادرا عالما حيا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا إنتهى . قال الناصب خفضه الله
أقول: أكثر ما في هذا الفصل قد مرجوا به فيما سبق من الفصول على أبلغ الوجوه، بحيث
لم يبق للمرتاب ريب وما لم يذكر جوابه من كلام هذا الفصل فيما
(هامش)
الشأن يقف عليها الناظر في كلماتهم، وسمعت عن عدة من رؤسائهم ما يقضى منه العجب
عصمنا الله من الهفوات والزلل في القول والعقيدة والعمل. ثم اعلم أن أصحاب الحديث
من العامة كالظاهرية وابن حنبل ومالك بن أنس ومقاتل بن سليمان الأزدي وغيرهم أخذوا
بظواهر ما ورد في الكتاب والسنة من دون تأويل زعما منهم أنه نهاية الحزم والأخذ
بالحائطة في أمر الدين حيث إن التأويل ممنوع شرعا مضافا إلى أنه مظنون والقول بالظن
في صفاته تعالى غير جائز لاحتمال أدائه إلى غير مراده جل شأن فيوجب الوقوع في
الزلل، والعجب كل العجب ممن سلك هذا المسلك بعد قيام الدليل القاطع العقلي الخلي من
الشوائب والأوهام على امتناع التشبيه في حقه تعالى لا في الذات ولا في الصفات، لا
روحانية ولا جسمانية أعاذنا الله من أشباه هذه المقالات التي أطال السنة اليهود
والنصارى على المسلمين حيث لاحظوا أمثال هذه الكلمات وزعموا أنها مما اتفق عليها
المسلمون، ولله در فقهائنا حيث عدوا المشبهة على الاطلاق من الفرق المحكومين بكفرهم
ونجاستهم والله العاصم الهادي. (1) التعبير بالذوات في غير محله والأنسب كلمة
المعاني بدل لفظة الذوات كما لا يخفى. (*)
ص 310
سبق هو ما قال في الأمر والنهي وأن الأشاعرة يقولون بدوامهما، فالجواب أنهم لما
قالوا بالكلام النفساني وأنه صفة لذات الله تعالى فيلزم أن تكون هذه الصفة أزلية
وأبدية، والكلام لما اشتمل على الأمر والنهي يكون الأمر والنهي في الكلام النفساني
أزلا وأبدا، ولكن لا يلزم أن يكون آمرا وناهيا بالفعل قبل وجود الخطاب والمخاطبين
حتى يلزم السفه كما سبق، بل الكلام بحيث لو تعلق بالخطاب عند التلفظ به يكون
المتكلم به آمرا وناهيا، وهذا فرع لإثبات الكلام النفساني فأي غرابة في هذا الكلام؟
إنتهى . أقول: قد سبق دفع أجوبه الناصب على وجه لا مزيد عليه، وبحيث لا يتطرق
الريب إليه، وأما ما ذكره هيهنا من الجواب وزعم أن كلام المصنف في قوله: وأنه تعال
لم يزل آمرا وناهيا مبني على ما ذكره الأشاعرة في الكلام النفساني فباطل، بل مبني
على ما ذكروه في أصول الفقه (1) من جواز الأمر بالمعدوم وعلى تقدير البناء على ما
ذكروه في الكلام فنقول: إن كلامهم صريح في أن الأمر والنهي (2) والآمر والناهي
موجود في الأزل بالفعل، لكن تعلق الأمر والنهي بالمأمور، والمنهي إنما هو عند
وجودهما وأهليتهما للتكليف، ولولا ادعاءهم ذلك لما احتاجوا إلى إثبات الكلام
النفساني، والحكم بثبوته في الأزل، وكونه مسموعا
(هامش)
(1) في باب العام والخاص في مسألة شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين والغائبين، وقد
حقق المتأخرون من أصحابنا بما لا مزيد عليه امتناع مشافهة المعدوم وخطابه، فكيف
بتكليفه؟ نعم التزموا بصحة الانشاء في حق المعدوم بداعي التحسر والتحزن والشوق
ونحوها، والانشاء خفيف المؤنة كما لا يخفى. (2) أي المتصف بوصف الأمر والنهي ووصف
كونه ناهيا وإلا فذات الله تعالى بدون هذا الوصف موجود في الأزل منه قده . (*)
ص 311
كما نقل عن الأشعري: (1) فإن اتصافه تعالى (2) بكونه آمرا وناهيا بالقوة حاصل على
تقدير عدم إثبات الكلام النفسي أيضا كما لا يخفى قال المصنف رفع الله درجته قالت
الإمامية: إن أنبياء الله تعالى وأئمته منزهون (3) عن المعاصي وعما لا يستحق،
وينفردون بتعظيم أهل البيت عليهم السلام الذين أمر الله تعالى بمودتهم وجعلها أجرا
للرسالة، فقال الله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة
(هامش)
(1) قال ابن همام الحنفي في كتاب المسائرة: هذا قول الأشعري أعني كون الكلام النفسي
مما يسمح، قاسه على رؤية ما ليس بلون، فكما عقل رؤية ما ليس بلون ولا جسم، فليعقل
سماع ما ليس بصوت، واستحال الماتريدي سماع ما ليس بصوت ثم قال: وبعد اتفاق أهل
السنة على أنه تعالى متكلم لم يزل متكلما. اختلفوا في أنه تعالى هل هو متكلم لم يزل
متكلما؟ فعن الأشعري، نعم. وعن بعض أهل السنة، ونقله بعض متكلمي الحنفية عن أكثرهم.
إنتهى منه قده . (2) أي كون الأمر والنهي والآمر والناهي بوصف كونه آمرا
وناهيا موجودا بالفعل في الأزل. (3) هذه مسألة قام فيها الحرب على ساقيه بين
الفريقين، أطبق أصحابنا وأكثر معتزلة وثلة من الأشاعرة على تنزه الأنبياء عن
المعاصي كبيرة كانت أم صغيرة قبل النبوة وبعدها، وكذا عن كل رذيلة ومنقصة تدل على
خسة النفس وتكون لصاحبها وصمة عار، ولله در أصحابنا شيعة أهل البيت عليهم السلام
حيث صنفوا في طهارة ذيول السفراء بين الخالق وخلقه وخلفائهم الهادين المبديين كتبا
نفيسة ككتاب تنزيه الأنبياء لسيدنا الشريف المرتضى، وكتاب التنزيه لشيخنا أبي عبد
الله المفيد قدهما وأقاموا في إثبات الحجج العقلية والدلائل النقلية، فمن تعامى
عن المراجعة إليها فلا يلومن إلا نفسه وما أوضح المحجة وأبين الحجة. (گرگدا كاهل
بود تقصير صاحب خانه چيست؟) (*)
ص 312
في القربى (1) وقالت أهل السنة كافة، إنه يجوز عليهم الصغائر، وجوزت الأشاعرة عليهم
الكبائر. قال الناصب خفضه الله أقول: أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمة
الأنبياء عن تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة وما
يبلغونه من الله، وأما سائر الذنوب فأجمعت الأمة على عصمتهم من الكفر، وجوز الشيعة
إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك، لأن إظهار الإسلام حينئذ إلقاء للنفس في التهلكة،
وذلك باطل قطعا، لأنه يقضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية وترك تبليغ الرسالة، إذ أولى
الأوقات بالتقية وقت الدعوة للضعف بسبب قلة الموافق وكثرة المخالفين، وأما غير
الكفر من الكبائر فمنعه الجمهور من الأشاعرة والمحققين، وأما الصغائر عمدا فجوزه
الجمهور إلا الصغائر الخسيسة، كسرقة حبة أو لقمة للزوم المخالفة لمنصب النبوة، هذا
مذهبهم، فنسبة تجويز الكبائر على الأنبياء إلى الأشاعرة افتراء محض، وأما ما ذكر من
تعظيم أنبياء الله تعالى وأهل بيت النبوة فهو شعار أهل السنة، والتعظيم ليس عداوة
الصحابة كما زعمه الشيعة والروافض، بل التعظيم أداء حقوق عظم قدرهم في المتابعة
وذكرهم بالتفخيم واعتقاد قربهم من الله ورسوله، وهذه خصلة اتصف بها أهل السنة
والجماعة إنتهى أقول: قد مر وسيجئ في مسألة النبوة أن أهل السنة إنما أوجبوا
عصمة الأنبياء عن الكبائر بعد البعثة، وأجمعوا على جواز صدورها عنهم قبل البعثة قال
ابن همام (2) الحنفي في المسايرة شرط النبوة الذكورة إلى قوله والعصمة
(هامش)
(1) الأنعام. الآية 90. (2) قد مرت ترجمته. (*)
ص 313
من الكفر، وأما من غيره مما سنذكره، فمن موجبات النبوة متأخر عنها ثم قال: وجوز
القاضي وقوع الكفر قبل البعثة عقلا قال: وأما الوقوع فالذي صح عند أهل الأخبار
والتواريخ أنه لم يبعث من أشرك بالله طرفة عين، ولا من كان فاسقا فاجرا ظلوما،
وإنما بعث من كان تقيا زكيا أمينا مشهورا لنسب، والمرجع في ذلك في قضيته السمع،
وموجب العقل التجويز والتوبة، ثم إظهار المعجزة يدل على صدقهم وطهارة سريرتهم فيجب
توقيرهم ويندفع النفور عنهم، وخالف بعض أهل الظواهر (1) إنتهى ، وقال صاحب
المواقف في مسألة عصمة النبي ما يقرب من كلام ابن همام، ثم قال في مبحث الإمامة عند
نفيه لعصمة الفاطمة المعصومة المظلومة عليها السلام، وأيضا عصمة الأنبياء، وقد تقدم
ما فيه. إنتهى فافهم ما فيه، وأما ما نسبه إلى الشيعة من تجويز إظهار الكفر على
الأنبياء تقية فهو افتراء عليهم، ولعل المعاندين من أهل السنة توهموا ذلك من استماع
إطلاق جواز التقية، فنسبوه إليهم ولو فرض صدور ذلك عمن لا يعبأ من فرق الشيعة
فالإمامية الذين هم المحقون المحققون خلفا عن سلف وعلومهم مقتبسة [خ ل عن] من مشكاة
النبوة والولاية، مبرؤن عن ذلك، وتصانيف علمائهم خالية عنه، وإنما الذي ذكروه في
ذلك أن التقية جائزة، وربما وجبت، وعرفوها بأنها إظهار موافقة أهل الخلاف فيما
يدينون به خوفا، وقد استثنوا منها أول زمان الدعوة، وكذا وطئ المنكوحة على خلاف
مذهب أهل الحق فلا يحل باطنا، وكذا التصرف في المال المضمون عنه لو اقتضت التقية
أخذه إلى غير ذلك، وكيف يجوزون إظهار الكفر على الأنبياء عليهم السلام تقية مع
قولهم بحجية العقل واعتناءهم بتتبع أدلته؟! فهم أولى بوجدان الدليل الذي ذكره
الناصب نقلا عن المواقف في امتناع إظهار الكفر على الأنبياء
(هامش)
(1) المراد به أبو علي محمد بن حزم الأندلسي كما أفيد. (*)
ص 314
عليهم السلام، وسيجئ لهذا المقام مزيد تأييد وتفصيل في مبحث عصمة النبي صلى الله
عليه وآله والإمام عليه السلام، بل الدليل المذكور مأخوذ من كتبهم ومصنفاتهم كما لا
يخفى على المتتبع، وأما قوله: والتعظيم ليس عداوة الصحابة فمردود: بأن الإمامية لا
يوجبون عداوة جميع الصحابة كما يشعر به إطلاق كلامه، بل الجماعة الذين غصبوا
الخلافة عن ذوي القربى من أهل بيت النبي صلوات الله عليهم، ولا ريب في أن حق
تعظيمهم ومحبتهم يتوقف على عداوة هؤلاء والبراءة عنهم، إذ لا يمكن الجمع بين ما
أمرنا الله تعالى به في محكم كتابه من مودة ذوي القربى وما ثبت من شكايتهم عليهم
السلام عنهم على ما سيذكره المصنف في مسألة الإمامة، وقد أشار إليه أيضا الشيخ
العارف الرباني محي الدين الأعرابي في فتوحاته المكية، وقد بلغنا أن رجلا قال لأمير
المؤمنين عليه السلام: أنا أحبك وأتولى عثمان، فقال له: أما الآن فأنت أعور، فإما
أن تعمى وإما أن تبصر، ولعمري ما ودك من توالي ضدك، ولا أحبك من صوب غاصبك، ولا
أكرمك مكرم من هضمك، ولا عظمك معظم من ظلمك، ولا أطاع الله فيك مفضل أعاديك، ولا
اهتدى إليك مضلل مواليك، النهار فاضح، والمنار واضح، ولنعم ما قيل. شعر: تود عدوي
ثم تزعم أنني * صديقك إن الرأي عنك لعازب قال المصنف رفع الله درجته فلينظر العاقل
من نفسه إلى المقالتين، ويلمح (1) المذهبين، وينصف في الترجيح، ويعتمد على الدليل
الواضح الصحيح، ويترك تقليد الآباء والمشايخ، الآخذين بالأهواء وغرتهم (2) الحياة
الدنيا، بل ينصح نفسه ولا يعول على غيره،
(هامش)
(1) لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر الحقيقة والاسم اللمحة. صراح. (2) اقتباس من قوله
تعالى في سورة الأنعام. الآية 70 (*)
ص 315
فلا يقبل عذره غدا في القيامة - إني قلدت شيخي الفلاني، أو وجدت آبائي وأجدادي على
هذه المقالة - فإنه لا ينفعه ذلك يوم القيامة يوم تتبرء المتبعون من أتباعهم ويفرون
من أشياعهم، وقد نص الله تعالى (1) على ذلك في كتابه، ولكن أين الآذان السامعة،
والقلوب الواعية، وهل يشك العاقل في الصحيح من المقالتين؟ وأن مقالة الإمامية هي
أحسن الأقاويل؟ وأنها أشبه بالدين؟ وأن القائلين بها هم الذين قال الله تعالى فيهم:
فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم
أولوا الألباب (2) فالإمامية هم الذين قبلوا هداية الله واهتدوا بها، وهم أولوا
الألباب، ولينصف العاقل من نفسه أنه لو جاء مشرك وطلب (3) شرح أصول دين المسلمين في
العدل والتوحيد رجاء أن يستحسنه ويدخل فيه معهم، هل كان الأولى أن يقال له حتى يرغب
في الإسلام ويتزين في قلبه: إنه من ديننا أن جميع أفعال الله حكمة وصواب، وإنا نرضى
بقضائه، وأنه منزه عن فعل القبائح والفواحش لا يقع منه، ولا يعاقب الناس على فعل
يفعله فيهم، ولا يقدورن على دفعه عنهم، ولا يتمكنون من امتثال أمره، بل خلق فيهم
الكفر والشرك ويعاقبهم عليهما، ويخلق فيهم اللون والطول والقصر ويعذبهم عليه، أو
يقال: ليس في أفعاله حكمة وصواب، وأنه أمر بالسفه والفاحشة، ولا نرضى بقضاء الله،
وأنه يعاقب الناس على ما فعله فيهم، وهل الأولى أن نقول: من ديننا: إن الله لا يكلف
الناس ما لا يقدرون عليه ولا يطيقون، أو نقول: إنه يكلف الناس ما لا يطيقون،
ويعاقبهم ويلومهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟ وهل الأولى أن نقول: إنه يكره
الفواحش ولا يريدها ولا يحبها ولا يراضها؟ أو نقول: إنه يحب
(هامش)
(1) كما في قوله تعالى: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا. في سورة البقرة.
الآية 166. (2) الزمر. الآية 18. (3) كما طلب السلطان المؤيد أولجايتو محمد خدابنده
الذي صنف المتن لأجله. (*)
ص 316
أن يشتم ويسب ويعصي بأنواع المعاصي، ويكره أن يمدح ويطاع، ويعذب الناس لم (لما)
كانوا كما أراد، ولا يكونون كما كره، وهل الأولى أن نقول: إنه تعالى لا يشبه
الأشياء ولا يجوز عليه ما يجوز عليها؟ أو نقول، إنه يشبهها، وهل الأولى أن نقول: إن
الله يعلم ويقدر ويحيي ويدرك لذاته أو نقول: إنه لا يدرك ولا يحيي ولا يقدر ولا
يعلم إلا بذوات (1) قديمة لولاها لم يكن قادرا ولا عالما ولا غير ذلك من الصفات؟
وهل الأولى أن نقول: إنه لما خلق الخلق أمرهم ونهاهم؟ أو نقول: إنه لم يزل في
القدوم ولا يزال بعد إفنائهم طول الأبد، يقول: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لا يخل
بذلك أصلا، وهل الأولى أن نقول: إنه تعالى تستحيل رؤيته والإحاطة بكنه ذاته؟ أو
نقول: يرى بالعين إما في جهة من الجهات له أعضاء وصورة، أو يرى (2) بالعين لا في
الجهة، وهل الأولى أن نقول: إن أنبيائه وأئمته منزهون عن كل قبيح وسخيف؟ أو نقول:
إنهم اقترفوا المعاصي المنفرة عنهم؟ وإنه يقع منهم ما يدل على الخسة والرذالة (3)
كسرقة درهم وكذب فاحش، ويداومون على ذلك مع أنهم محل وحيه وحفظة (4) شرعه، وأن
النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القولية والفعلية، فإذا عرفت أنه لا ينبغي أن يذكر
لهذا السائل عن دين الإسلام إلا مذهب الإمامية دون قول غيرهم، عرفت عظم موقعهم في
الإسلام، وتعلم أيضا زيادة بصيرتهم، لأنه ليس في التوحيد دليل ولا جواب عن شبهة إلا
ومن
(هامش)
(1) الأنسب تبديل كلمة الذوات بالمعاني. (2) إشارة إلى اختلاف ابن تيمية من
الحنابلة وبعض المشبهة. (3) فيه إشارة إلى اختلاف روايات أهل السنة في ذلك. (4)
الحفظة جمع حافظ. (*)
ص 317
أمير المؤمنين علي عليه السلام (1) وأولاده عليهم السلام أخذ، وكان جميع العلماء
يستندون إليه على ما يأتي، فكيف لا يجب تعظيم الإمامية والاعتراف بعلو منزلتهم،
فإذا سمعوا شبهة في توحيد الله تعالى أو في عبث بعض أفعاله انقطعوا بالفكر فيها عن
كل أشغالهم، فلا تسكن نفوسهم، ولا تطمئن قلوبهم، حتى يتحقق (خ ل يتحققوا) الجواب
عنها، ومخالفهم إذا سمع دلالة قاطعة على أن الله تعالى لا يفعل الفواحش والقبائح ظل
ليله ونهاره مغموما ومهموما طالبا لإقامة شبهة يجيب بها حذرا عن أن يصح عنده أن
الله تعالى لا يفعل القبيح، فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه وعظم سروره بما دلت
الشبهة عليه من أنه لا يفعل القبيح وأنواع الفواحش غير الله تعالى، فشتان ما بين
الفريقين وبعدا بين المذهبين، ولنشرع الآن في تفصيل المسائل وكشف الحق فيها بعون
الله تعالى ولطفه. قال الناصب خفضه الله أقول: حاصل ما ذكر في هذا الفصل تحكيم
الانصاف والرجوع إلى الوجدان والدليل في ترجيح مذهب الإمامية، وأن المصنف إذا ترك
التقليد ونظر إلى المذهبين نظر الانصاف، علم أن مذهب الإمامية مرجح ومثل هذا في حال
من أراد دخول الإسلام، وحاول أن يتبين عنده ترجيح مذهب من المذاهب، فلا شك أن
معتقدات الإمامية أبين وأظهر عند العقول، وأقرب من سائر المذاهب إلى التلقي
(هامش)
(1) وكفى في ذلك ما ذكره ابن الجوزي مع شدة عداوته وبغضه لآل الرسول حيث قال: إن
عليا له حق التعليم على كل المسلمين إلى يوم القيامة فإنه لولا خطبه ومنابره
وكلماته لكان توحيدهم في منتهى النقص وأسوء من عقائد سائر الملل، فمن عبر عنه كرم
الله وجهه بمعلم الإسلام لم يكن مخطئا هذا مضمون ما أفاده، والفضل ما شهدت به
الأعداء. (*)
ص 318
والقبول، ونحن إن شاء الله في هذا الفصل نحذو حذوه، ونجاوبه فصلا بفصل، وعقيدة
بعقيدة، على شرط تجنب التهمة والافتراء ومحافظة شريطة الصدق والانصاف، فنقول: لو
استجار مشرك في بلاد الإسلام، وأراد أن يسمع كلام الله رجاء أن يستحسنه ويميل قلبه
إلى الإسلام، فطلب من العلماء أصول دين المسلمين في العدل والتوحيد ليرغب بفهمه إلى
الملة البيضاء، فيا معشر العقلاء هل كان الأولى أن يقال له حتى يرغب ويتزين الإسلام
في قلبه: إن الإله الذي يدعوك إلى طاعته وعبوديته هو خالق كل الأشياء وهو الفاعل
المختار، ولا يجري في ملكه إلا ما يشاء وهو يحكم ما يريد، ولا شريك له في الخلق
والتصرف في الكائنات ولا تسقط ورقة ولا تتحرك نملة، إلا بحكمه وإرادته وقضائه
وقدرته دبر أمور الكائنات في أزل الآزال، وقدر ما يجري وما يصدر عنهم قبل خلقهم
وإيجادهم، ثم خلقهم وأمرهم ونهاهم، وأفعاله جملة حكمة وصواب ولا قبيح في فعله، ولا
يجب عليه شيئ، وكل ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب فهو تصرف في
ملكه، ولا يتصور منه ظلم، لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون (1) وهو منزه عن فعل
القبائح، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ونحن نرضى بقضائه، والقضاء غير المقضي، هل الأولى
هذا؟ أو يقال: الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق فأنت تخلق أفعالك، وكل
الناس يخلقون أفعالهم، وهو الموجب الذي لا تصرف له في الكائنات بالإرادة والاختيار،
بل هو كالنار إذا صادف الحطب يجب عليه الاحراق، والعبد إذا عمل حسنة وجب عليه
الثواب، فهذه الحسنة كالدين على رقبته يجب له أداء ثوابها، وإذا عمل سيئة يجب عليه
عقابها، وليس له أن يتفضل ويتجاوز بفضله عن ذلك الذنب بل الواجب واللازم عليه
عقابه، كالنار الواجب عليه الاحراق، وأنه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق، وعلم
(هامش)
(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة الأنبياء. الآية 23. (*)
ص 319
متقدم، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتفاق، وله الشركاء في الخلق هو يخلق والناس
يخلقون؟ وهل الأولى أن يقال له: من ديننا أنه تعالى حاكم قادر مختار، يكلف الناس
كيف ما شاء، لأنه يتصرف في ملكه، فإن أراد كلفهم حسب طاقتهم، وجاز له، ولا يمتنع
عليه أن يكلف فوق الطاقة، لكن بفضله وكرمه لم يكلف الناس فوق الطاقة، ولم يقع هذا؟
أو يقال: إنه يجب عليه أن يكلف الناس حسب طاقتهم، وليس له التصرف فيهم، ويمتنع عليه
التكليف حسبما أراد؟ وهل الأولى أن يقال له: إن كل ما جرى في العالم فهو تقديره
وإرادته، ولكن الخير والطاعة برضاه وحبه، والشر والمعصية بغير رضاه؟ أو نقول، إنه
مغلول اليد فيجب عليه أن يحب الخير وهو خالقه، ولا يخلق الشر، فللشر فواعل غيره،
وله شركاء في الملك والتصرف؟ وهل الأولى أن يقال له: إنه تعالى لا يشبه الأشياء،
ولكن له صفات تأخذ معرفتها أنت من صفات نفسك، غير أن صفات نفسك حادثة، وصفاته تعالى
قديمة؟ أو نقول: إنه لا صفات له ولا يجوز عليه أن يعرف صفاته من صفات الكمال؟ وهل
الأولى أن يقال له: إن الله تعالى عالم بعلم أزلي قادر بقدرة أزلية حي بحياة سرمدية
متكلم بكلام أزلي؟ أو يقال له: إن الصفات مسلوبة عنه، وليس له علم ولا قدرة، بل
ذاته تعلم الأشياء بلا علم، فيتحير ذلك المسكين أن العالم كيف يعلم بلا علم،
والقادر كيف يفعل بلا قدرة؟! وهل الأولى أن يقال له: إن الله تعالى كان في الأزل
متكلما بكلام نفسي هو صفة ذاته، وبعد ما خلق الخلق خاطب الرسل بذلك الكلام، وأمر
الناس ونهاهم؟ أو يقال له: إنه خلق الكلام وليس هو بمتكلم، فإن خالق الكلام لا يسمى
متكلما، وأنه أحدث الأمر والنهي بعد الخلق بلا تقدير وإرادة سابقة؟ وهل الأولى أن
نقول، إنه تعالى مرئي يوم القيامة لعباده ليزداد بذلك شغفه في عبادة ربه رجاء أن
ينظر إليه يوم القيامة، ولكن هذه الرؤية بلا كيفية كما سترى وتعلم؟ أو يقال له: هذا
الرب لا ينظر إليه في الدنيا ولا في
ص 320
الآخرة؟! وهل الأولى أن يقال: إن أنبياء الله تعالى عباد مكرمون معصومون من الكذب
والكبائر، ولكنهم بشر لا يؤمنون من إمكان وقوع الصغائر عنهم، فلا تيأس أنت من عفو
الله وكرمه، إن صدر عنك معصية، فإنهم أسوة الناس، ويمكن أن يقع منهم الذنب، فأنت لا
تقنط من الرحمة؟ أو يقال له: الأنبياء كالملائكة، ويستحيل عليهم الذنب، فإذا سمع
بشيئ من ذنوب الأنبياء كما جاء في القرآن: وعصى آدم ربه (1)، يتردد في نبوة آدم،
لأنه وقع منه المعصية، فلا يكون نبيا؟ وهل الأولى أن يقال له: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه، وأقاموا في خدمته وصحبته
طول أعمارهم، وقاسوا الشدة [خ ل الشدائد] والبلايا في إقامة الدين ودفع الكفرة،
وذكرهم الله تعالى في القرآن وأثنى عليهم بكل خير ورضي عنهم، ثم بعده أقاموا بوظائف
الخلافة، ونشروا الدين، وفتحوا البلاد، وأظهروا أحكام الشريعة، وأحكموا قواعد
الحدود حتى بقي منهم الدين، وانحفظت من سعيهم الشريعة إلى يوم الدين؟ أو يقال له:
إن هؤلاء الأصحاب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفوه ورجعوا إلى الكفر، ولم
يهد محمد صلى الله عليه وسلم إلا سبعة عشرا نفرا؟! فيا معشر العقلاء انظروا إلى
المذهبين، وتأملوا وامعنوا في عقائد الفريقين، مثل الفريقين كالأعمى والأصم والسميع
والبصير هل يستويان مثلا (2)؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون. وأما ما ذكر أنه ليس
في التوحيد دليل ولا جواب شبهة إلا ومن أمير المؤمنين علي عليه السلام، فإن هذا أمر
لا يختصون به دوننا، بل كل ما نأخذ من العقائد ونتلقى من الأدلة، فإنها مأخوذة من
تلك الحضرة (3) ومن غيره من أكابر الصحابة كالخلفاء الراشدين سواه، وككبار الصحابة
(هامش)
(1) طه. الآية 121. (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة هود. الآية 24. (3) والفضل ما
شهدت به الأعداء. (*)
ص 321
الذين شهد رسول الله بعلمهم واجتهادهم وأمانتهم، وهم يذكرون الأشياء من الأئمة
ويمزجون كل ما ينقلون عنهم بألف كذبة كالكهنة السامعة لأخبار الغيب، ونحن لا نرويه
ولا ننقله إلا بالأسانيد الصحيحة الصريحة المعتبرة المعتمدة، والحمد لله على ذلك
التوفيق إنتهى . أقول: في جميع ما أتى به الناصب الفضول في الفصول الاستفهامية
من تقرير مذهب أهل السنة وتقرير مذهب الإمامية تمويهات وإطلاقات وإجمالات، لو كشف
عنها وفصل، لحكم كل مؤمن ومشرك بأولوية مذهب الإمامية، أما ما ذكره من تقرير مذهب
الأشاعرة في الفصل الأول بقوله: هو خالق كل الأشياء، فلأن فيه إطلاقا ينصرف الذهن
منه من حيث لا يشعر إلى الفرد الكامل أعني ما يستحسنه العقل، فلو قيل لذلك المشرك
المتحير المستجير: إنه خالق لكل الأشياء حتى السرقة والزنا واللواطة والكذب ونحوها
من القبائح والفواحش، لانقبض طبعه من ذلك واستنكره عقله، ولو عدله (1) في جملة
أفعال الله تعالى الشرك الذي هو فيه، لتزين ذلك في قلبه وفترت رغبته في تحقيق دين
الإسلام، وأيضا فعندهم أن القرآن غير (2) مخلوق وهو شيئ، فإن قالوا: إن هذا مما خصه
الدليل، قلنا: وكذلك أفعال العباد خصها الدليل، وكذا الكلام في قوله: لا يجري في
ملكه إلا ما يشاء، فإنه لو ذكر له أنه يشاء تلك القبائح والفواحش لفزع (لفرغ خ ل)
وارتدع، وكذا القول في قوله: يحكم بما يريد، فإن إرادة القبائح والحكم بها قبيحة
أيضا عند المشرك إن لم يكن معزولا عن العقل كالناصب وأصحابه.
(هامش)
(1) كما تقتضيه قاعدة الأشاعرة أي كون الأمر والنهي من جملة أفعال الله تعالى. منه
قده (2) قد سبقت مسألة الاختلاف في مخلوقية القرآن بين أهل السنة وذكرنا هناك
الأقوال من أعلام الأشاعرة والمعتزلة والإمامية والزيدية فليراجع. (*)
ص 322
وأما قوله: لا شريك له في الخلق، ففيه إجمال مخل بديانة الناصب، لأن المشرك السامع
لقوله: لا شريك له في الخلق يفهم من الشرك حقيقتها، لا ما قصده الأشاعرة من أن حكم
أهل (1) العدل بكون العبد فاعلا لا فعاله يوجب إثبات الشريك له تعالى، فإنه لو اطلع
على هذا المقصود وعلم أنهم مع الحكم بكون العباد فاعلين لأفعالهم، يحكمون بأن
العباد أنفسهم مخلوقون له تعالى، وأن قدرتهم وتمكينهم على أفعالهم إنما هي من الله
تعالى، وتصرفهم ليس على وجه المقاهرة والمغالبة مع الباري تعالى، بل لأنه لما كان
التكليف ينافيه الجبر خلى بينهم وبين أفعالهم، لما عد ذلك شركا حقيقة، ولا مجازا،
فإجمال الناصب هيهنا وعدم بيانه لما أراده من الشرك الذي نسب القول به إلى أهل
العدل تضمنا غش وتلبيس كما لا يخفى. وأما قوله: ولا تسقط ورقة ولا تتحرك نملة إلا
بحكمه الخ فهو من فضول الكلام، لأن الإمامية إنما قالوا: بفاعلية العباد
المكلفين لأفعالهم، لا بفاعليتهم لسائر الجواهر والأعراض والحيوان والنبات والجماد
وحركاتها وسكناتها، فإن فاعليته تعالى في خلق الجواهر والأعراض المختصة به أمر
اتفاقي بين أهل الإسلام. وأما قوله: وأفعاله جملة حكمة وصواب، فهو من قبيل يقولون
بأفواههم ما ليس في قلوبهم (2)، فإن قدماء الأشاعرة لم يقولوا بذلك كما ذكرناه
سابقا، وإنما ذكره بعض المتأخرين (3) منهم لضيق الخناق (4) عليه عند
(هامش)
(1) وهم الإمامية والمعتزلة والزيدية وغيرها. (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة آل
عمران. الآية 167. (3) هو المولى الميرزا جان الباغنوي الشيرازي صاحب حاشية شرح
حكمة العين. (4) قد مر معنى هذه الكلمة. (*)
ص 323
مناظرة أهل العدل. وأما ما ذكره من أنه لا قبيح في فعله فهو كذب، لأن قولهم هذا
مبني على ما قالوه: من أن صدور القبائح الواقعة في العالم منه ليس بقبيح، ولو علم
المشرك المستجير أنهم نفوا القبيح بهذا المعنى لاستقبح رأيهم ولامهم في ذلك. وأما
قوله: ولا يجب عليه شيئ، فكان يجب عليه أن يذكر أن الوجوب المنفي بمعنى إيجاب غيره
شيئا عليه وأن ما ضمنه، من الإشارة إلى أن الإمامية يوجبون على الله تعالى شيئا هو
بمعنى إيجاب الله تعالى على نفسه شيئا بمقتضى حكمته بإيصال ما وعده من الثواب إلى
عباده، كما دل عليه قوله تعالى: كتب على نفسه الرحمة (1) فإنه لو سمع المشرك هذا
التفصيل فلا ريب أنه يرجح مذهب الإمامية، إذ على هذا يحصل له الوثوق على نيل ما
وعده ربه من الثواب لا على مذهب من ينفي الايجاب، ويقول: جاز أن يدخل المطيع في
النار والعاصي في جنات تجري من تحتها الأنهار (2). وأما ما ذكره من أن كل ما يفعل
في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب فهو تصرف في ملكه، فلا وجه لذكره في
متفردات أهل السنة، إذ لا خلاف للإمامية في ذلك (3)، ولعله لما لم يجد الناصب من
مذهب أصحابه شيئا معقولا يرغب به (فيه ظ) العاقل ويوجب استمالة المشرك المستجير
التجأ إلى ذكر ما شارك فيه سائر المذاهب: وأما قوله: ولا يتصور منه ظلم، ففيه أنه
كاذب في ذلك، فإن الأشاعرة
(هامش)
(1) الأنعام. الآية 12. (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة البقرة. الآية 25. (3) إذ
هي مما دلت عليه الأدلة العقلية والشواهد السمعية بحيث ألحقتها بالأمور البديهية.
(* )
ص 324
قائلون: بصدور القبائح عنه تعالى كما مر بيانه، وهذا عين الظلم، وإنما الحاكم بذلك
حقيقة أهل العدل دونهم. وأما قوله: لا يسئل عما يفعل، فهم يعنون به أن الله تعالى
مالك الملك، وله التصرف في ملكه بما يشاء فلا يسئل عنه فيما يفعل من الحسن والقبح،
وفيه أن كونه تعالى مالك الملك إنما يلزم منه أن يتصرف في ملكه ابتداء بما شاء بأن
يخلق العبد أصم أو أبكم أو أكمه أو يخلق من أصناف الجواهر والأعراض، من الحيوانات
والنباتات والمعادن ما شاء، وأما إذا خلق العبد وكلفه بفعل الحسن وترك القبيح،
ووعده بالثواب على الأول وبالعقاب على الثاني، فامتثل العبد وبادر إلى الطاعة، لا
يليق منه تعالى حينئذ التصرف فيه بخلاف ما وعده بأن يدخل هذا العبد في النار ويدخل
(1) من عصاه في الجنة، كما أنه لا يليق منا بعد غرس الأشجار في الأراضي المملوكة
لنا وحصول الثمار منها على الوجه الأتم أن نأخذ فاسا (2) أو منشارا، ونقطع تلك
الأشجار بلا عروض حكمة ومصلحة ظاهرة تترجح على إبقاء تلك الأشجار، فإن ذلك يعد ظلما
وسفها وحماقة كما لا يخفى، وكما إذا ملك انسان عبدا مسلما فقتله من غير أن يحدث
حدثا، فإن جميع العقلاء يعدونه ظالما سفيها سفاكا، وبهذا ظهر أن الظلم ليس بمنحصر
في التصرف في ملك الغير بغير إذنه هذا، وإنما معنى قوله تعالى: لا يسئل عما يفعل
على ما ذهب إليه أهل العدل، أنه لما ثبتت حكمته تعالى وعدله في محكمة (3) العقل
والنقل، فلا وجه لأن يسئل عن فعله إذا خفي وجهه، كما لا يسأل المريض الطبيب الحاذق
(هامش)
(1) وذلك لا ينافي عنوان التفضل منه تعالى على العاصي. (2) آلة معروفة لقطع الخشب
وغيره، وقد تترك الهمزة فيقال فاس، والكلمة من المؤنثات السماعية: جمعها أفؤس وفؤس.
(3) هو من باب إضافة المكان إلى المكين. (*)
ص 325
عن حقيقة الدواء الذي ناوله إياه، ولا عن كيفية مناسبته لمزاجه وتأثيره في دفع
مرضه. وأما قوله: ونحن نرضى بقضائه، فهو أمر مشترك بين الفريقين (1)، وأما حديث
مغايرة القضاء والمقضي، فقد سبق أنه ليس بمرضي فتذكر. وأما ما ذكره في هذا الفصل في
تقرير مذهب الإمامية من أن الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق، فقد سبق منا
بيان أن ذلك لا يستلزم وجود الشريك في الألوهية، لاستناد الكل إليه، وإليه يرجع
الأمر (2) كله. وأما قوله: وهو الموجوب الذي لا تصرف له في الكائنات بالاختيار،
ففيه أنه افتراء على الإمامية وسائر أهل العدل، لأنهم قائلون: بأن تصرفه تعالى في
أفعاله المخصوصة به من خلق السماوات والأرض والجواهر والأعراض بإرادته واختياره،
وأن أفعاله تعالى تنقسم إلى ثواب وعوض وتفضل، وحكمته تقتضي أن لا بخلف وعده ويأتي
بما وعد عبده من الثواب، وعدله يقتضي إعطاء العوض لا أنه تعالى مجبور على ذلك، ولا
أن غيره أوجب عليه شيئا من ذلك، والوجوب بالمعنى المذكور لا يقتضي الايجاب وسلب
الاختيار كما في صدور الاحراق من النار، ولا يلزم أيضا أن يكون وجوب الثواب عليه
كالدين، ولو سلم فنلتزم أن ما وعده الكريم لغيره يكون عليه كالدين، وكما أن المكلف
لا يكون في أداء الدين مجبورا موجبا، كذلك لا يكون الله سبحانه في إيصال ما وعده
إلى عبده مجبورا موجبا. وأما ما تضمن كلامه من نسبة الرغبة إلى الله تعالى فهو مما
تفوه به إمام الناصب
(هامش)
(1) وكفى في ذلك ما ورد في أخبار أهل البيت والأدعية المأثورة عنهم من الدعاء إلى
الله والسؤال عنه الرضا بقضائه وقدره. (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة هود. الآية
123. (*)
ص 326
أحمد بن حنبل وأتباعه من المجسمة، وأما الإمامية فحاشاهم (1) عن التفوه بذلك، وأما
قوله: ليس له أن يتفضل ويتجاوز بفضله عن الذنب، فافتراء على الإمامية، إذ عندهم أن
خلف الوعد قبيح دون خلف الوعيد، لأنه كرم ورحمة، ولهذا أثبتوا العفو والشفاعة، قال
المحقق الطوسي طيب الله مشهده في كتاب التجريد (2): والعفو واقع لأنه حقه تعالى،
فجاز إسقاطه ولا ضرر عليه في تركه فحسن إسقاطه، ولأنه إحسان، وللسمع والاجماع على
الشفاعة الخ . وأما قوله: ولم يجر عليه قضاء سابق وعلم متقدم الخ ، فهو
افتراء بلا امتراء أيضا، لأنهم إنما ينكرون القضاء بمعنى الخلق الشامل لخلق أفعال
العباد، وأما القضاء بمعنى الايجاب فصحيح عندهم في الأفعال الواجبة، وبمعنى الاعلام
والتبيين صحيح مطلقا، كما صرح به المحقق قدس سره في التجريد والمصنف طاب ثراه في
تصانيفه، ومثلوا للمعنى الأول من الأخيرين بنحو قوله تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا
إلا إياه (3) وقوله تعالى: نحن قدرنا بينكم الموت (4) وللمعنى الثاني منهما بنحو
قوله تعالى: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض (5) الآية وقوله
تعالى: إلا امرأته قدرناها من الغابرين (6) أي أعلمناه بذلك وكتبناه في اللوح
المحفوظ، فعلى الأول تكون الواجبات بقضاء الله
(هامش)
(1) إذ ترى الإمامية أولوا كل ما أسندت إليه تعالى من الرغبة والميل والحب وغيرها
صونا وتنزيها لساحته المقدسة عن مناسبات عالم الناسوت من الجسمانيات والنفسانيات.
(2) فراجع شرح التجريد للعلامة المصنف قده (ص 262 ط قم). (3) الاسراء. الآية
23. (4) الواقعة. الآية 60. (5) الاسراء. الآية 4. (6) النمل. الآية 57. (*)
ص 327
وقدره، وعلى الثاني يكون جميع الأفعال بالقضاء والقدر، وقد أشار إلى هذا مولانا
أمير المؤمنين علي عليه السلام في حديثه المشهور المذكور في التجريد (1) وغيره،
وسنذكره في موضعه اللائق به عن قريب إن شاء الله تعالى، وبالجملة أن القضاء والقدر
يستعملان في معان بعضها في حقه تعالى صحيح، وبعضها فاسد، وكل لفظة حالها هذه لا
يجوز إطلاقها لا بالنفي ولا بالاثبات، لإيهام الخطاء، فلا يجوز إطلاق القول بأن
أفعال العباد بقضاء الله وقدره لإيهامه معنى الخلق والأمر الذي قال به المجبرة، ولا
إطلاق القول: بأنها ليست من قضائه وقدره لإيهامه زوال العلم والكتابة والاخبار ونحو
ذلك مما هو صحيح في حقه تعالى، وكذا الكلام في كل لفظة هذا سبيلها من المشتركات لا
بد فيها من التقييد بما يزيل الايهام (الابهام خ ل) هذا، وروي عن الحسن البصري (2):
أن من المخالفين قوما يقصرون في أمر دينهم ويعملون فيه بزعمهم على القدر، ثم لا
يرضون في أمر دنياهم إلا بالجد والاجتهاد في الطلب والأخذ بالحزم، فإذا أمر أحدهم
بشيئ من أمر الآخرة قال: لا أستطيع، قد جفت الأقلام وقضي الأمر (3) ولو قلت له، لا
تتعب نفسك في طلب الدنيا وقها (4) مشاق الأسفار والحر والبرد والمخاطرة، فإنه
سيأتيك ما قدر لك، ولا تسق زرعك ولا تحرسه، ولا تعقل بعيرك، ولا تغلق باب دارك، ولا
تلتمس
(هامش)
(1) فراجع شرح التجريد للعلامة المصنف قده (ص 194 ط قم) (2) هو حسن بن يسار أو
حسن بن جعفر أبو سعيد البصري من مشاهير التابعين واحد الزهاد الثمانية توفي سنة 110
وكان واصل بن عطاء رئيس المعتزلة من تلاميذه، أمه خيرة محررة أم سلمة أم المؤمنين،
وبالجملة الرجل ممن تذكر أقواله في التفسير والكلام والحديث. (3) ويضاهيه بالفارسية
(قلم اينجا رسيد سر بشكست) (4) صيغة أمر من وقى يقي. (*)
ص 328
لغنمك راعيا، فإنه لا يأتيك في جميع ذلك إلا ما قدر لك، لأنكر ذلك عليك ولما رضي به
في أمر دنياه، وقد كان أمر الدين بالاحتياط أولى، ومن اللطائف ما حكي عن عدلي، أنه
قال: لمجبر إذا ناظرتم أهل العدل قلتم بالقدر وإذا دخل أحدكم منزله، ترك ذلك لأجل
فلس، قال وكيف؟ قال: إذا كسرت جاريته كوزا يساوي فلسا ضربها وشتمها ونسي مذهبه،
وصعد سلام (1) القاري المأذنة، فأشرف على بيته فرأى غلامه يفجر بجاريته فبادر
بضربهما، فقال الغلام: القضاء والقدر ساقانا، فقال: لعلك بالقضاء والقدر أحب إلى من
كل شيئ أنت حر لوجه الله تعالى، ورأى شيخ بإصبهان رجلا يفجر بأهله، فجعل يضرب
امرأته وهي تقول: القضاء والقدر،
(هامش)
(1) والظاهر أنه اشتباه، إذ القضية منقولة عن سلام القاضي كما سمعناها من مشايخنا
لا سلام القارئ المقري الذي كان من الثقات وأجلاء المسلمين وهو أبو المنذر سلام بن
سليمان الطويل المزني مولاهم البصري ثم الكوفي القارئ الشهير المتوفى سنة 171 ذكره
الشيخ شمس الدين الجزري المتوفى سنة 823 في كتاب غاية النهاية (ج 1 ص 39 ط مصر)
قال: إنه أخذ القراءة عن عاصم بن أبي النجود وأبي عمرو بن العلاء وعاصم الجحدري
وشهاب بن شريفة (شرنفة خ ل) والحسن بن أبي الحسن في قول وعن يونس بن عبيدة وابن
جريج وابن أبي مذيك وابن أبي مليكة وصدقة بن عبد الله ابن كثير وسفيان بن عيينة
ومسلم بن خالد. قرأ عليه يعقوب الحضرمي وهارون بن موسى الأخفش وإبراهيم بن حسن
العلاف وأيوب بن المتوكل ذكره ابن حبان في الثقات وقال: أبو حاتم: صدوق إلى أن قال
في آخر كلامه: ومن قال: إن له من العمر مأة وخمسة وثمانين سنة فقد أبعد أقول: وذكره
علماء التجويد في جملة الرواة عن عاصم وأثنوه بالورع وقوة الضبط والاتقان والسداد.
ثم إن سلاما بفتح السين وتخفيف اللام، ومن المغفلين في أمر التراجم من جعل اللام
مشددة، فلا تغفل. (*)
ص 329
فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا، فقالت: أوه تركت السنة وأخذت مذهب
ابن عباد الرافضي، فتنبه وألقى السوط وقبل ما بين عينيها واعتذر إليها، وقال أنت
سنية حقا، وجعل لها كرامة على ذلك. وأما قوله: وله الشركاء في الخلق فتكرار بارد قد
مر ما فيه، ثم ما ذكره في الفصل الثاني من تقرير عقائد الأشاعرة بقوله: إنه تعالى
حاكم قادر مختار، يكلف الناس ما شاء، لأنه يتصرف في ملكه فهو تكرار لما ذكره في
الفصل الأول مع أدنى تغيير في اللفظ، وإنما ارتكب ذلك لخلو كيس مذهبه عن النقد الذي
يروج على الناقد البصير. وأما قوله: ولا يمتنع عليه أن يكلف فوق الطاقة، فالظاهر
أنه لو سمعه المشرك المستجير لأصر في الانكار، وأخذ طريق الفرار، ولم يعتمد بعد ذلك
على ضمان الأشاعرة له بعدم الوقوع، فلا يسمن ولا يغني من جوع (1) وأما ما ذكره في
تقرير مذهب الإمامية، من أنهم قالوا: يجب عليه أن يكلف الناس حسب طاقتهم فمن البين
أنه أقوى في رغبة المكلفين من القول: بتكليفهم فوق طاقتهم كما عرفت، وأما ما ذكره
من أنهم يقولون: ليس له التصرف فيهم فكذب صريح، لأنهم يقولون: بأن خلقهم وإقدارهم
وتمكينهم وحياتهم ومماتهم وإبقاءهم وإفناءهم ونحو ذلك كله من الله تعالى فكيف تصح
نسبة نفي تصرفه تعالى في عباده إليهم؟ نعم إنهم ينفون تصرفه تعالى في القبائح
والفواحش الصادرة من العباد، وهذا تنزيه لائق بكماله سبحانه وتعالى، وقد أضاف الله
تعالى ورسوله والسلف مثل ذلك إلى إبليس وأعوانه (إغوائه خ ل) وقد روي عن أبي بكر
(2) أنه قال في مسألة
(هامش)
(1) قد مر أنه اقتباس من القرآن. (2) فراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (الجزء
4 ص 183 ط مصر) قال: ما محصله: إن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه وأحكام الشريعة فقد
قال في الكلالة: أقول فيها (*)
ص 330
هذا ما رآه أبو بكر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني، ومن الشيطان والله
ورسوله بريئان منه ومثله عن عمر (1) وابن مسعود (2) وهذا شيئ لا ينكره إلا مكابر
على الحق، وأما قوله يمتنع التكليف عليه حسبما أراد فليس يصح على إطلاقه لأنهم
يقولون: إن الله تعالى يكلف عباده فيما يليق به حسبما أراد ولا يكلفهم بما لا يليق
(هامش)
برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وأن يكن خطأ فمني. ورواه الطبري في تفسيره (ج 4 ص
177) عن الشعبي قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: إني قد رأيت في الكلالة رأيا فإن
كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له وأن يكن خطأ فمني والشيطان، والله منه برئ: إن
الكلالة ما خلا الولد والوالد، فلما استخلف عمر رضي الله عنه، قال: إني لاستحيي من
الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. ورواه البيهقي في سننه (ج 6 ص 223
ط حيدر آباد). (1) ويدل عليه ما نقلناه في الحاشية السابقة عن تفسير الطبري (ج 4 ص
177) وعن سنن البيهقي (ج 6 ص 223 ط حيدر آباد). (2) ويدل عليه ما رواه أحمد بن حنبل
في مسنده (ج 1 ص 447 ط) قال: حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر قال: الرجل
يتزوج ولا يفرض لها يعني ثم يموت. ثنا سعيد عن قتادة عن خلاس وأبي حسان الأعرج عن
عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه قال: اختلفوا إلى ابن مسعود في ذلك شهرا أو قريبا من
ذلك فقالوا: لا بد من أن تقول فيها قال: فإني أقضي لها مثل صدقة امرأة من نسائها
لاوكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة، فإن يك صوابا فمن الله عز وجل وأن يكن
خطأ فمني ومن الشيطان، والله عز وجل ورسوله بريئان، فقام رهط من اشجع فيهم الجراح
وأبو سنان، فقالوا: نشهد أن رسول الله قضى في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق
بمثل الذي قضيت، ففرع ابن مسعود بذلك فرحا شديدا حين وافق قوله قضاء رسول الله (ص).
ورواه البيهقي في السنن (ج 7 ص 246 ط حيدر آباد) مثله. (*)
ص 331
به من القبائح والفواحش، وهذا أيضا عين التنزيه والتقديس كما لا يخفى، وأما ما ذكره
في الفصل الثالث من تقرير عقائد أهل السنة بقوله: كل ما جرى في العالم تقديره
وإرادته الخ ففيه خلط ظاهر لأنهم إنما ينفون إرادة الله تعالى للقبائح كما مر
لا لسائر ما في العالم، ثم إنهم إنما ينفون التقدير بالمعنى الشامل لخلق أفعال
العباد، لا بمعنى خلق أفعاله تعالى المخصوصة به المتفرد في إيجادها ولا بمعنى
الايجاب والاعلام كما مر بيانه عن قريب. وأما ما ذكره من أن الخير والطاعة برضاه
وحبه، والشر والمعصية بغير رضاه فمتحد مع مقالة الإمامية، وإنما الفرق في أن
الإمامية ينفون إرادة الله تعالى للشرور والمعاصي، والأشاعرة لا ينفونه، ويفرقون
بين الإرادة والرضا كما مر مع بيان بطلانه. وأما ما ذكره من أن الإمامية يقولون:
إنه تعالى مغلول اليد فيجب عليه أن يحب الخير، ففيه أن مغلول اليد لا يحب الخير،
فكيف تقول الإمامية: إنه تعالى مغلول اليد؟ ثم يفرعون عليه وجوب حب الخير، وأما
قوله: ولا يخلق الشر الخ فتكرار لما مر منه عجزا واضطرارا. وأما ما ذكره في
الفصل الرابع من تقرير مذهب أهل السنة بقوله: وهل الأولى أن يقال: إنه تعالى لا
تشبهه الأشياء ولكن له صفات تأخذ معرفتها أنت من صفات نفسك الخ ففيه أن القول
بأنه تعالى لا تشبهه الأشياء مشترك بين أهل الإسلام. وأما ما ذكره من معرفته تعالى
بصفاته بالقياس إلى معرفة أنفسنا من صفاتها، ففيه أن معرفة الذات في الواجب تعالى
والممكن لا تحصل من نفس الصفات، بل من نتائجها وثمراتها، وقد قالت الإمامية وسائر
أهل التوحيد والعدل: بحصول تلك النتائج والثمرات من نفس الذات، فأمكن معرفة الذات
من غير القول بما يؤدي إلى الشرك من قيام الصفات القديمة ومغايرتها للذات، وبهذا
ظهر أن ما نسبه بعد
ص 332
ذلك إلى الإمامية بقوله: أو يقال: إنه لا صفات له الخ حق لا ريب فيه فلا تغفل.
وأما ما ذكره في الفصل الخامس من تقرير مذهب أهل السنة بقوله: هل الأولى أن يقال:
إن الله تعالى عالم بعلم أزلي قادر بقدرة أزلية الخ فالإمامية مشاركون معهم في
ذلك، غاية الأمر أنهم يحكمون بأن تلك الصفات الأزلية عين ذاته، بمعنى أن الذات نائب
عنها في صدور نتائجها وثمراتها منه، لا أنها مغايرة زائدة عليه قائمة به، كما قال
به أهل السنة، ليلزم ما مر من إثبات قدماء سوى الله تعالى كما لزم النصارى في
إثباتهم للأقانيم (1) الثلاثة، وأما الكلام النفسي فقد مر أنه غير معقول (2) فلا
يعقله المشرك المستجير أيضا ويتحير وينسب بناء دينهم إلى التعمية والألغاز، وحاشا
أن يتحير المؤمن والمشرك إن لم يشارك الأشاعرة في قلة الشعور فيما قاله الإمامية من
أنه تعالى عالم بلا علم زائد، وقادر بلا قدرة زائدة، ومريد بلا إرادة زائدة، بل
عالم بعلم هو عين الذات، قادر بقدرة هي عينه، مريد بإرادة كذلك، إلى غير ذلك، ولو
فرض توقفه في الجملة فنوضحه له بالضوء والمضئ حتى يصير واضحا له كضوء النهار: وأما
ما ذكره في الفصل السادس من تقرير مذهب أهل السنة بقوله: هل الأولى أن يقال: إنه
تعالى مرئي يوم القيامة لعباده الخ فهو تكرار لما ذكره المصنف سابقا إثباتا
ونفيا، فلا وجه لإعادته، ثم كيف يزداد
(هامش)
(1) قد مر تفصيل المراد بالأقانيم التي اتخذتها النصارى، فليراجع. (2) إذ غاية ما
تشبث به الناصب الأشعري في إثباته هي الألفاظ المتخيلة باصطلاحهم المزورة في النفس
وقد دريت سابقا أنها ليست بخارجة عن العلم بقسميه وعن الإرادة والكراهة وسائر
الكيفيات النفسانية، مع أن الأشاعرة قائلون بأن الكلام النفسي مغاير لهذه كلها
والجواب الشافي الإحالة إلى الوجدان، وهو نعم الحكم المنصف الذي وهبه الله لعباده
ليقضي بينهم بالعدل، وبئس حال من لم يلتفت إلى تلك الموهبة وعقل عقله بعقال الشبه
السوفسطائية والتزم ما ليس بمعقول ولا متصور. (*)
ص 333
شغف المشرك المستجير بقولهم: إنه تعالى يرى يوم القيامة بعد ما ذكروا له أنه يرى
بلا كيف (1) وكيف يعقل ذلك مع أن القائلين به لم يعقلوه إلى الآن (2) وإنما هو كلام
غير معقول المعنى تستروا به عن شنع الورى عليهم باستلزام مذهبهم للحكم بجسميته
تعالى كما مر نقلا عن صاحب الكشاف أيضا. ثم هل الكشف التام الذي قال به الإمامية
أدون من الرؤية بلا كيف؟ ومن العجائب تشنيع الناصب الشقي على أهل العدل بنفي الرؤية
مع اعتراف إمامه الرازي بالعجز عن إثباتها (3)، كما ذكره في كتاب الأربعين مكررا
والحمد لله. وأما ما ذكره في الفصل السابع من تقرير عقيدة أهل السنة بقوله: وهل
الأولى أن يقال: إن أنبياء الله تعالى مكرمون معصومون من الكذب والكبائر، فهو
(هامش)
(1) قد مر أنه استقر اصطلاحهم على التعبير عما زعموه من رؤيته تعالى بلا كيف
بالبلكفة وأنها مأخوذة من بلا كيف. (2) إذ كيف يعقل رؤية شيئ غير مكيف بكيف من
الطول والعرض والشكل واللون والجهة والصغر والكبر والقرب والبعد وغيرها من
الخصوصيات والكيفيات المحسوسة بالبصر وسائر الحواس، وهل الالتزام بالرؤية في هذه
الصورة إلا الالتزام بالمستحيل؟! عصمنا الله من الزلل. (3) حيث إنه لما رآى أن
الأدلة التي أقامها أصحابه على جواز الرؤية مما لا تسمن ولا تغني من جوع. بل من
كثرة ورود سهام الاعتراض عليها أصبحت كبيت الزنبور، التجأ بحمل الرؤية على الكشف أو
غيره من المحامل الباردة. فراجع إلى كلماته في كتاب الأربعين (من صفحة 198 إلى صفحة
218 ط حيدر آباد) تجد بها ما يزيح العلة من العليل ويروي الغليل ويصدق ما ذكره
الشارح الشهيد قده من عجزه، وهو إمامهم في السمعيات والعقليات فكيف بغيره ممن
ائتم به؟! (جائى كه عقاب پر بريزد - از پشه لاغرى چه خيزد). (*)
ص 334
مقالة أهل العدل، وقد ذكرها المصنف عند تقرير مذهب الإمامية سابقا، وأما أهل السنة
فهم لا ينزهون الأنبياء عن الكبائر مطلقا، بل بعد النبوة (1) فقط على خلاف في ذلك
بينهم، وأما قبل النبوة فقد مر أنهم جوزوا صدور سائر (2) الكبائر عليهم حتى الكفر،
وسيجئ ما يزيد ذلك بيانا في مسألة النبوة إن شاء الله تعالى. وأما ما ذكره بقوله
ولكنهم بشر لا يؤمنون وقوع الصغائر عنهم فلا تيأس أنت من عفو الله تعالى الخ ،
ففيه أن الله تعالى قد بشر المذنبين بعدم اليأس والقنوط من رحمته بقوله ولا تقنطوا
من رحمة الله (3) فأي حاجة في ذلك إلى إثبات الذنب للمعصومين عليهم السلام. وأما
قوله في تقرير مذهب الإمامية: من أنهم يقولون: إن الأنبياء كالملائكة يستحيل عليهم
الذنب، ففيه أن هذا كذب وافتراء، وذلك لأن العصمة عندهم مفسرة بملكة يخلقها الله في
المكلف لطفا منه بحيث لا يكون له داع إلى ترك طاعة وارتكاب معصية مع قدرته على ذلك،
كيف ولو كان الذنب ممتنعا عن المعصوم لما صح تكليفه بترك الذنب؟ واللازم باطل
اتفاقا، ويؤيده قوله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي (4)، وقوله تعالى: ولا
تجعل مع الله إلها آخر (5)
(هامش)
(1) بل ذهب عدة من أكابرهم إلى جواز صدور الذنب والمعصية من الأنبياء بعد التلبس
بالنبوة، وذهب بعضهم إلى جواز صدور الكفر منهم أيضا، وبعضهم إلى جواز صدور ما ينبئ
عن خسة النفس، وإن شئت أن تكون أبا بجدة هذا الشأن فعليك بالمراجعة إلى ما لفقه
الجاحظ في باب النبوة، وغيره في غيره. (2) السائر بمعنى الجميع مأخوذ من سور البلد.
(3) الزمر. الآية 53. (4) فصلت. الآية 6. (5) الاسراء الآية 23. (*)
ص 335
إلى غير ذلك مع النصوص، وأما ما ذكره من أنه إذا سمع المشرك المستجير بشيئ من ذنوب
الأنبياء كما جاء في القرآن وعصى آدم ربه فغوى (1) يتردد في نبوة آدم، لأنه وقعت
منه المعصية، فلا يكون نبيا ففيه أن هذا التردد لازم له، سواء قيل بعصمة الأنبياء
كقول الإمامية أو بعدمها كقول أهل السنة، فإنه إذا ارتكز في طبعه أن غير المعصوم لا
يصلح للنبوة فسمع الآية المذكورة يحكم بنفي نبوة آدم، سواء قال له أهل السنة إنه لا
يجب عصمة النبي، أو لم يقل له ذلك، لكن إذا رجع في تحقيق الآية إلى أحد من علماء
الإمامية وقيل له: إن المراد بعصيان آدم في تلك الآية صدور خلاف الأولي منه من
الزلات التي هي حسنات عند صدورها من غيرهم، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين (2)
اطمئن قلبه واندفع تردده،
(هامش)
(1) طه. الآية 121. (2) هذه الجملة مما اشتهرت وذاعت في الألسن والنوادي والزبر
والكتب بحيث زعمها ثلة من قليلي الاطلاع والاضطلاع في فنون علم الحديث خبرا مرويا
صحيح السند بل قطعي الصدور عن النبي الأكرم ومنهم من نسبه إلى أئمة أهل البيت عليهم
السلام وما درى المسكين الغير المتوجه إلى مسكنته في التتبع إنه من الموضوعات كما
نص على ذلك جماعة من أرباب التحقيق والتثبت منهم المحدث الشيخ إسماعيل العجلوني
النقاد في الفن في الجزء الأول من (كتاب المزيل ص 357 ط بيروت) وقال ما لفظه هو من
كلام أبي سعيد الخزاز كما رواه ابن عساكر في ترجمته وهو من كبار الصوفية مات سنة
مأتين وثمانين وعده بعضهم حديثا وليس كذلك (إنتهى) وقال النجم رواه ابن عساكر أيضا
عن أبي سعيد الخزاز من قوله، وحكى عن ذي النون إنتهى ومنهم الزركشي حيث عزاه في
كتابه اللقطة إلى الجنيد الصوفي إنتهى ومنهم السيوطي في الموضوعات ومنهم الديبع
الشيباني في كتاب تمييز الطيب من الخبيث ومن أصحابنا جماعة منهم العلامة المحقق
الداماد في تعاليقه على هوامش الكافي ومنهم العلامة السيد أحمد العاملي الصادقي
ومنهم العلامة (*)
ص 336
وأما ما ذكره في الفصل الثامن من تقرير مذهب أهل السنة بقوله: هل الأولى أن يقال
له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه
الخ ففيه إجمال وإبهام وحيلة يكشف عنها من حضر هناك من الإمامية، فيقول له، نعم
كان ممن صحبه جماعة على تلك الأوصاف الحسنة، لكن كان فيهم أيضا من كان ينافق في دين
الله تعالى وصحبة نبيه، ويظهر الاخلاص والطاعة له طمعا في جاهه ولم يعين الله تعالى
أحدا منهم في القرآن، ولا سماهم بأسمائهم، فلا يجوز الركون إلا إلى من ثبتت
استقامته بعد النبي صلى الله عليه وآله على متابعة الكتاب والسنة عدوم ارتداده على
أعقابه قهقري (1) كما وقع عن قوم موسى في حياته ويدل حديث الحوض المذكور في البخاري
(2) على وقوع ذلك من أصحاب نبينا بعد وفاته. وأما ما ذكره من أنهم أقاموا بعده
بوظائف الخلافة ونشروا الدين الخ فلعل
(هامش)
سلطان العلماء السيد حسين الحسيني المرعشي في تعاليقه على هوامش الكافي إلى غير ذلك
من مشاهير الفريقين وبعد هذا فمن العجب أن بعض الأصحاب صنف رسالة في شرح هذه
العبارة زعما بأنها رواية مروية صحيحة ورأيت من أكابر الخطباء والعلماء من يدقق
النظر في شرح المراد من هذه الجملة ولا غروفكم له من نظير في الألسنة والكتب ثم إن
بعض العرفاء قال الفرق بين المقربين وبين الأبرار إن المقربين الذين تركوا حظوظهم
وإراداتهم واستعملوا واشتغلوا بحقوق مولاهم عبودية وطلبا لرضاه، وإن الأبرار هم
الذين لم يتركوا حظوظهم وإراداتهم وأقاموا في الأعمال الصالحة ليجزوا على مجاهدتهم
برفع الدرجات، وأنت لو تأملت فيما ذكر لدريت سر عدم تعبير القاضي قده عن هذه
الجملة بالرواية. (1) الرجوع إلى الوراء. (2) قد مضى حديث الحوض ومحل نقله. (*)
ص 337
الإمامي الحاضر هناك يقول: إن الثلاثة الذين أقاموا بوظائف الخلافة من بين الصحابة
كانوا من المتهمين بالنفاق في زمان النبي صلى الله عليه وآله فغصبوا الخلافة بعده
عمن نص الله تعالى ورسوله عليه بذلك، ولهذا تبرأ عنهم الإمامية من أمة محمد صلى
الله عليه وآله، والحاصل أن هؤلاء وإن كانوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
ومنتسبين إلى الإسلام وإلى نصرته، لكنهم كانوا أعداءا له في الحقيقة وإنما كانوا
يظهرون شيئا من شعائر الإسلام، لما رأوا انتظام رئاستهم الباطلة في ذلك وكانوا
يخرجون عداوة الإسلام وأهله في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وورع وصلاح، وهو
غاية الجهل والافساد، والبعد عن الفوز والفلاح، فكم من ركن للاسلام قد هدموه، وكم
من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم له قد طمسوه (1)، وكم من لواء مرفوع
له قد وضعوه، كما أشار إليه مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام، في دعاء صنمي
قريش (2)، بقوله: اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما الذين خالفا أمرك
وأنكرا وحيك وجحدا انعامك وعصيا رسولك وقلبا دينك وحرفا كتابك وعطلا أحكامك وأبطلا
فرائضك وألحدا (3) في آياتك وعاديا
(هامش)
(1) الطموس: الدروس والامحاء. (2) أورده العلامة المجلسي في باب القنوت من كتاب
الصلاة من مجلدات البحار ونقل هناك فوائد عن كتاب رشح الولاء في شرح الدعاء للشيخ
الجليل أسعد بن عبد القاهر بن الأسعد الإصبهاني، ثم اعلم أن لأصحابنا شروحا على هذا
الدعاء (منها) الرشح المذكور (ومنها) كتاب ضياء الخافقين لبعض العلماء من تلاميذ
الفاضل القزويني صاحب لسان الخواص (ومنها) شرح مشحون بالفوائد للمولى عيسى بن علي
الأردبيلي وكان من علماء زمان الصفوية، وكلها مخطوطة. وبالجملة صدور هذا الدعاء مما
يطمئن به، لنقل الأعاظم إياها في كتبهم واعتمادهم عليها. (3) ألحد: مال وعدل ومارى.
(*)
ص 338
أوليائك وأحبا أعدائك وخربا بلادك وأفسدا عبادك، اللهم العنهما وأتباعهما
وأوليائهما وأشياعهما ومحبيهما، اللهم العنهما فقد خربا بيت النبوة وألحقا سمائه
بأرضه وعلوه بسفله وشاخصه بخافضه إلى آخر الدعاء الشريف المجرب في قضاء الحاجات.
هذا، والحق لا يدفع بمكابرة أهل الزيغ والتخليط، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم
شيئا، إن الله بما يعملون محيط (1). ولنعم ما قال بعض العارفين نظم: گر رود اينجا
بسى دعواى باطل باك نيست در قيامت قاضى روز جزا پيداست كيست وأما ما ذكره في تقرير
مذهب الإمامية بقوله: أو يقال له هؤلاء الأصحاب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
خالفوه وكفروا الخ ففيه إجمال وإخلال، لأن الإمامية لا يقولون: بمخالفة جميع
الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله بعد وفاته، بل بمخالفة الثلاثة أو الستة أو
التسعة (2) كما مر. نعم قد تابعهم أكثر المهاجرين والأنصار في هذه الطامة، لما (3)
أوقعوا في قلوبهم من الشبه التي ستسمعها في مسألة الإمامة، ثم تنبهوا ورجعوا فتابوا
وأظهروا الندامة، وتمسكوا بذيل صاحب الحق، وفازوا بالكرامة. وأما ما ذكره من أن
الأخذ عن أمير المؤمنين عليه السلام ليس مما
(هامش)
(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة آل عمران. الآية 120 (2) وهم أصحاب السقيفة،
والترديد باعتبار اختلاف أهل السير في تعداد أصحاب السقيفة (3) بل التهديد والانذار
والوعيد من أصحاب السقيفة ألزمهم على الاتباع وساقهم إلى الموافقة، كما تفصح عن ذلك
كلمات أرباب السير والتواريخ ومن ذكر تلك الفتن والمحن التي وقعت بعد وفات رسول
الله ص، ومن أراد الوقوف على ذلك فليرجع إليها. (*)
ص 339
يختص به الإمامية دوننا، فهو مما يقولونه بأفواههم والله يعلم ما في صدورهم (1) من
بغضه عليه السلام بإخفاء فضائله وكمالاته وإنكارهم من اتهم بمحبته وموالاته، والحمد
لله الذي رزقنا محبة نبينا المختار وأهل بيته الأطهار، وصان مرائي قلوبنا عن غبار
تودد الأغيار، ونسأله أن يحشرنا معهم في دار القرار، وأن يعفو بحبهم ما صدر عنا من
الآثام والآصار (2). قال المصنف رفع الله درجته
المطلب الثاني في إثبات الحسن (3) والقبح العقليين 
ذهب (ذهبت
(هامش)
(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة آل عمران. الآية 167 وقوله تعالى في سورة النمل
الآية 47 وغيرها من الآيات. (2) جمع الإصر بكسر الأول وسكون الثاني: الذنب. (3) إن
ما يكون في الفعل الذي يمكن صدوره من الفاعل المختار أمور مترتبة الأول الحركات
والسكنات وهي ذات المعنون، الثاني العنوان الأولي الطارئ عليه كضرب اليتيم، الثالث
العنوان الثانوي الطارئ عليه ثانيا، وهو قسمان: قسم مقومه القصد وهو الذي يعبر عنه
بالعنوان القصدي كالتأديب، وقسم لا يتوقف تحققه على القصد كالايلام، الرابع
العناوين العارضة عليها بعد تعلق الأمر والنهي كالمأمور به والمطلوب والمنهى عنه،
الخامس العناوين العارضة عليها في مقام الامتثال كالإطاعة والعصيان. إذا عرفت ذلك
فاعلم أن بعض المعتزلة التزم بالمصلحة والمفسدة الذاتيتين في الحركات والسكنات
معنونة بالعنوان الأولي، وذهب أصحابنا إلى وجودهما في الأفعال بعد تعنونها
بالعناوين الثانوية التي مر كونها قسمين، وذهب الأشاعرة إلى أنه لا مصلحة ولا مفسدة
قبل تعلق الأمر والنهي، وجعلوا الأمر والنهي مؤثرين في تحقق المصلحة والمفسدة خلافا
لأصحابنا حيث جعلوا الأمر والنهي كاشفين عن وجود المصلحة والمفسدة، واعلم أن بيننا
وبينهم خلافا في موضعين أحدهما وجود الملاكين قبل تعلق الأمر والنهي وثانيهما
كون الأمر والنهي كاشفين عندنا في غير المستقلات العقلية وأما فيها فهي (*)
ص 340
الإمامية خ ل) الإمامية ومن تابعهم من المعتزلة إلى أن من الأفعال ما هو معلوم
إرشادية محضة خلافا لهم، فإنهم يرونها مولوية محضة. (إزالة وهم) إن لأصحابنا في
المصلحة والمفسدة اللتين هما ملاكا الأحكام عبائر المختلفة، فمنهم من قال: إن
الملاك المصلحة والمفسدة الذاتيتان، ومنهم من قال: إن الملاك المصلحة والمفسدة
الحاصلتان بالوجوه والاعتبار، ومنهم من نفى صريحا كونهما ذاتيتين، وأنت خبير بأن
المراد واحد، فمن قال إنهما ذاتيتان عبر بذلك في قبال الأشاعرة أي ليستا بمتوقفتين
على الأمر والنهي، ومن نفى ذلك عبر بذلك في قبال بعض المعتزلة القائل بوجودهما قبل
طرو العناوين الثانوية، ومن عبر بكونهما بالوجوه والاعتبار رام بذلك أنهما ليستا
بكامنتين في ذات المعنون أي الحركات والسكنات من حيث هي. هذا كله في المصلحة
والمفسدة، وأما الحسن والقبح فمن قائل: إنهما ذاتيان، ويظهر من مطاوي كلامه أن
مراده المعنى المساوق للمصلحة والمفسدة الذاتيتين، ومن قائل: إنهما بالعرض، ومراده
حصولهما بعد تعلق الأمر والنهي كما يفصح عن ذلك كلام بعض الأشاعرة، ومن ثالث جعلهما
منوطين بعلم المكلف وعدمه بالمصلحة والمفسدة، ومن رابع جعلهما بالوجوه والاعتبار.
وأنت لو دققت النظر في هذا المحتملات التي ذكرت في ملاكات الأحكام ومسألة الحسن
والقبح لرأيت أن الحق في باب الملاك ما أسبقناه من توقفه على عروض العنوان الثانوي
كالتأديب في مثال ضرب اليتيم لا أنه موجود في ذات المعنون ولا فيه معنونا بالعنوان
الأولي ولا فيه بعد تعلق الأمر والنهي. والمحرى بالقبول في مسألة الحسن والقبح
أنهما ثابتان في الأفعال مدركان بالعقل السليم والذوق والمستقيم، وليس الأمر كما
يدعيه الأشعري من عزل العقل وعقاله عن إدراكهما فلاحظ وتأمل وإنما أطنبنا الكلام
لتتضح موارد الخلاف بين أصحابنا وبين مخالفيهم من الأشاعرة والمعتزلة في مسئلتي
الحسن والقبح وملاكات الأحكام لئلا يغتر الجامد بظواهر كلماتهم وليتبين لديه مواضع
الخلاف حتى يحكم فيها وجدانه، فإنه نعم الحكم المودع من قبله سبحانه في عباده،
وفقنا الله تعالى للوقوف على ما هو الحري بالقبول. (*)