الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 341

الحسن والقبح بضرورة العقل، كعلمنا بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، فإن كل عاقل لا يشك في ذلك، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب، وأن الأشياء المساوية لشيئ واحد متساوية، ومنها ما هو معلوم بالاكتساب أنه حسن أو قبيح كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع، ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه فيكشف الشرع عنه كالعبادات (1). وقالت الأشاعرة: إن الحسن والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيئ ولا قبح، بل القاضي بذلك هو الشرع، فما حسنه فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح وهو باطل بوجوه إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقل و: قد سبق أن الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة: الأول صفة الكمال والنقص يقال: العلم حسن والجهل قبيح، ولا نزاع في أن هذا أمر ثابت للصفات في أنفسها، وأن مدركه العقل ولا تعلق له بالشرع. الثاني ملائمة الغرض ومنافرته وقد يعبر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة، وذلك أيضا عقلي أي يدركه العقل كالمعنى الأول. الثالث تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلا وآجلا، والذم والعقاب كذلك، فما تعلق به المدح في العاجل والثواب في الأجل يسمى حسنا، وما تعلق به الذم في العاجل والعقاب في الأجل والثواب في الأجل يسمى حسنا، وما تعلق به الذم في العاجل والعقاب في الأجل يسمى قبيحا، وهذا المعنى الثالث محل النزاع، فهو عند الأشاعرة شرعي، وذلك لأن أفعال العباد كلها ليس شيئ منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه، ولا ذم فاعله وعقابه، وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها، وعند المعتزلة

(هامش)

(1) وفي بعض النسخ المخطوطة بعد قوله كالعبادات هذه الجملة (مثل صوم آخر رمضان وأول شوال فإن الأول حسن والثاني قبيح). (*)

ص 342

ومن تبعهم من الإمامية عقلي كما ذكر هذا الرجل، هذا هو المذهب، وكثيرا ما يشتبه على الناس أحد المعاني الثلاثة بالآخر، ويحصل منه الغلط فتحفظ عليه، وإنما كررنا ذكر هذا المبحث وأعدنا في هذا الموضع ليتحفظ عليه إنتهى . أقول: استثناء بعض المعاني الثلاثة عن محل النزاع من تصرفات متأخري الأشاعرة فرارا منهم عن صريح الافحام، وقد أنطق الله تعالى الناصب بذلك فيما سيجئ من المطلب العاشر حيث قال: إن الأشاعرة لم يقولوا بالحسن العقلي أصلا، وناهيك في ذلك أن كلام ابن الحاجب في مختصره خال عن ذلك، وإنما ذكره العضد الإيجي في شرحه له وفي كتاب المواقف (1)، وناقض نفسه أيضا فيه كما سنبينه، وتوضيح ذلك أن هيهنا أمرين بل أصلين، أحدهما هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه أو قبحه بحيث ينشأ الحسن والقبح منه فيكون منشأ لهما أم لا؟ والثاني أن الثواب المترتب على حسن الفعل والعقاب المترتب على قبحه ثابت بل واقع بالعقل أم لا يقع إلا بالشرع؟ فذهب الإمامية وسائر أهل العدل إلى إثبات الأمرين وتلازمهما، والأشاعرة إلى نفيهما رأسا، وجعلوا الأفعال كلها سواء في نفس الأمر وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح، ولا يتميز القبيح بصفة اقتضت قبحه أن يكون (2)

(هامش)

(1) وكثيرا ما يفعل ذلك صاحب المواقف حيلة للتخلص عن الشناعة، وقد فعل مثل ذلك في المواقف في مسألة تكليف ما لا يطاق حيث جعل محل النزاع الممتنع بالغير دون الممتنع لذاته، والتزم بذلك أن يكون أكثر أدلة أصحابه في هذا المقام نصبا للدليل على غير محل النزاع مع أن كلام العلامة الشيرازي في شرح المختصر، بل كلام نفسه في ذلك المقام مناقض لما ذكروه في مقام التحرير كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. منه قده . (2) بحذف الجار قبل أن، أي بأن يكون، فالجملة تفسيرية: (*)

ص 343

هو هذا القبيح، وكذا الحسن فليس الفعل عندهم منشأ حسن ولا قبح ولا مصلحة ولا مفسدة ولا نقص ولا كمال، ولا فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمان في نفس الأمر، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين النكاح والسفاح، إلا أن الشارع أوجب هذا وحرم هذا، فمعنى حسنه كونه مأمورا به من الشارع، لا أنه منشأ مصلحة، ومعنى قبح كونه منهيا عنه منه، لا أنه منشأ مفسدة، وهذا المذهب بعد تصوره وتصور لوازمه يجزم العقل ببطلانه، وقد دل القرآن على فساده في غير موضع، وتشهد به الفطرة السليمة وصريح العقل، فإن الله فطر عباده على استحسان الصدق والعدل والعفة والاحسان ومقابلة النعم بالشكر، وفطرهم على استقباح أضدادها، ونسبة هذا إلى فطرتهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النتن إلى مشامهم، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم، وكذلك ما يدركونه بسائر مشاعرهم الظاهرة والباطنة، فيفرقون بين طيبه وخبيثه ونافعه وضاره. وقد أجاب بعض (1) المتأخرين من نفاة التحسين والتقبيح: بأن هذا متفق عليه، وهو راجع إلى النقص والكمال أو الملائمة والمنافرة بحسب اقتضاء الطباع وقبولها للشيئ وانتفاعها به، ونفرتها من ضده، وإنما النزاع في كون الفعل متعلقا للمدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا، وهذا هو الذي نفيناه وقلنا: إنه لا يعلم إلا بالشرع. وقال خصومنا: إنه معلوم بالعقل، والعقل مقتض له، وأنت خبير بما قررته لك من كلامهم بأن هذا الجواب مع كونه فرارا واضحا لا ارتباط له بدفع الأصل الأول أصلا، لما مر من أن المتنازع فيه في هذا الأصل، هو أنه ما حسنه الشارع وأمر به كان سابقا حسنا، ثم أمر به أم لا،

(هامش)

(1) ولعل المراد به المولى جلال الدين الدواني أو الميرزا جان الباغنوي الشيرازي قود مرت ترجمتهما. (*)

ص 344

ونحن نقول: نعم وهم يقولون لا، بل لما أمر به الشارع صار حسنا، وإثبات حسن الفعل وقبحه بمعنى النقص والكمال وموافقة الطبع ومنافرته بل بأي معنى كان مناف لذلك كما لا يخفى. وقد اعترف بذلك صاحب المواقف فيما نقله عنه الناصب سابقا في مبحث صدق كلامه تعالى من قوله: واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه، فإن النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها، وإنما تختلف العبارة إنتهى . وقد أوضحناه هنا لك ودفعنا ما أورده الناصب عليه فتذكر. والحاصل أن الكمال والنقص يجريان في الأفعال، وأن تسليم الحسن والقبح بهذا المعنى في الأفعال مستلزم للقول: بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه، كما أشار إليه صاحب المواقف وغيره، لأن بديهة العقل حاكمة بأنه لا يجوز من الحكيم الكامل النهي عن الصدق وجعله متعلقا للعقاب، والأمر بالكذب وجعله متعلقا للثواب، فإنكار هذا يكون مناقضا للاعتراف بذلك، وينقدح منه بطلان ما قالوا: من أنه أمر به فصار حسنا أو نهى عنه فصار قبيحا، ويمكن أن ينبه على ذلك بأن من رأى من أحد بعض الأفعال الحسنة عند العقل وجد من نفسه إقداما بالاحسان إلى فاعله إما بالمدح وإما بغيره، بل يجعل الاحسان إليه حقا ثابتا في ذمته، وإذا وجد ذلك من نفسه حكم يقينا بأن الجواد المطلق أحق بأن يجعل الاحسان إليه، ولا سيما بعد أمره بالافعال المذكورة حقا ثابتا في ذمته، فيحسن إليه في الأجل إما باللذات العقلية والبدنية معا، وإما باللذات العقلية البحتة (1) وإما باللذات البدنية الصرفة، وإما بإعادته إلى شكل أفضل من الأول. وينقدح من ذلك أن الشرع الصريح والعقل الصحيح في إدراك ما يستقل العقل بإدراكه متوافقان متطابقان، فإن العقل الصحيح الخالي عن شوائب الوهم حجة من حجج

(هامش)

(1) البحت من الشيئ خالصه. (*)

ص 345

الله (1)، وسراج منير إلهي، والحجة الإلهية غير داحضة (2)، والسراج الإلهي لا يصير موجبا للضلالة التي هي ظلمة. وما اشتهر من المخالفات بين قواعد الشرع ومقاصد العقل فيما بين الناس، فأما لأن الوهم تصرف في قواعد العقل وأسقطه عن درجة الفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها (3)، وإما بواسطة أن حكم الشرع ليس معلوما ومنقحا عند من ظن المخالفة، ويحسب أن العقل مخالف ما ورد به الشرع، والحال أنه ليس بعارف بحكم الشرع والعقل فيما يظن المخالفة فيه. وقد مثل الغزالي (4) هذا: بأن بيتا تكون فيه الأمتعة والأثاث موضوعا كل واحد في مكانه كالسراج والثياب والكوز وما يكون في البيت، فيدخل رجل أعمى في ذلك البيت ولا يرى مكان كل شيئ من الأثاث فيتعثر به ويسقط على وجهه، ويقول: لأي شيئ وضع هذا في غير مكانه؟ والحال أن كل شيئ موضوع في مكانها، ولكن هو أعمى ولا يرى الأمكنة فيحسب أن الأمتعة غير موضوعة في مكانها حتى تعثر بها، ويقرب منه ما قال الشاعر نظم: عاشق از بيطاقتى هر دم بجائى سر نهد عشق خوابش برده پندارد كه بالينش بداست

(هامش)

(1) كما في الكافي في باب العقل حيث روى بسنده عن هشام بن الحكم، قال: لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، يا هشام، إن الله على الناس حجتين، حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء، وأما الباطنة فالعقول. (2) دحضت الحجة، بطلت. ودحض الحجة: أبطلها. فالفعل مما يعدى ولا يعدى، وكم له من نظير؟ ويشهد ما ذكرنا عقد القدماء من أهل العربية في كتبهم بابا معنونا يعدى ولا يعدى. (3) اقتباس من قوله تعالى في سورة الروم. الآية 30. (4) قد مرت ترجمته فليراجع. (*)

ص 346

وهكذا الذي يحسب أن الشرع غير موافق للعقل، لأنه لا يعلم ما عليه الشرع استقر، وما عند أرباب العقل تقرر، فحسب التناقض والتنازع، وأما بواسطة التعصب ومجادلة أرباب العقل مع أصحاب النقل، فإن بهذا يظهر الخلاف ويحصل التنافي المانع عن الائتلاف، وبعد طول التأمل والانصاف يظهر حقيقة الموافقة ويرتفع الاختلاف هذا. وإلى ما قررناه من تحقق اللزوم بين المعنيين قد أشار صاحب التوضيح من الماتريدية (1) في مقام المنع حيث قال: إن الأشعري يسلم الحسن والقبح عقلا بمعنى الكمال والنقصان، ولا شك أن كل كمال محمود وكل نقصان مذموم، وأن أصحاب الكمالات محمودون بكمالهم، وأصحاب النقائص مذمومون بنقائصهم، فإنكار الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمدا ويذم الموصوف بهما في غاية التناقض إنتهى كلامه . وإذا جعل إشارة إلى ما قررناه يندفع عنه ما أورده عليه الفاضل التفتازاني (2) في التلويح، حيث قال بعد ذكر بعض المناقشات على صاحب التوضيح: وأعجب من ذلك توضيحه سند المنع بصفات الله تعالى، وأنه يحمد عليها، وبكمالات الإنسان

(هامش)

(1) وإن شئت فراجع إلى كتاب الروضة البهية لأبي عذبة من علماء الماتريدية في ما بعد القرن العاشر. وقد أسلفنا سابقا جهات الفرق بين فرقتي الماتريدية والأشاعرة وأوردنا هناك المسائل التي اختلفت فيها أنظار تينك الفرقتين في الأصول والفروع بما لا مزيد عليه فراجع، ومراده من صاحب التوضيح المولى عبيد الله الملقب بصدر الشريعة ابن مسعود بن تاج الشريعة محمود المحبوبي الحنفي المتوفى سنة 747 العلامة المحقق في العلوم العقلية. وكتاب التوضيح في أصول الفقه وهو شرح على كتاب التنقيح من تآليف نفسه. ثم إنه عقد كسائر المؤلفين القدماء في أصول الفقه بابا في الحسن والقبح العقليين. (2) قد مرت ترجمته فليراجع. (*)

ص 347

ونقائصه حيث يحمد عليها ويذم، وادعاؤه التناقص في كلام الأشعري حيث جعل كل كمال حسنا وكل نقصان قبيحا مع أنه قرر في أول الفصل: أن النزاع في الحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح والذم في الدنيا والثواب والعقاب في الآخرة إنتهى كلامه . ووجه الدفع أن التناقض لازم من كلام الأشعري كما قررناه، ولم يدع صاحب التوضيح أن ذلك مستفاد من صريح كلام الأشعري أو ظاهره، وذلك ظاهر جدا. وأما المعنى الآخر الذي استثنوه أيضا عن محل النزاع وهو ملائمة الغرض ومنافرته اللتان قد يعبر عنهما بالمصلحة والمفسدة كما في المواقف فهو من باب تحسين الطبع وتقبيحه دون العقل، كما أشار إليه المصنف قدس سره في النهاية حيث قال: واعلم أن الأشاعرة يلزمهم نفي القبح بالكلية، لأن الواقع (1) مستند إلى قدرته تعالى، وكل ما يفعله الله تعالى عندهم فهو حسن، فتكون أنواع الكفر والظلم وجميع القبائح الصادرة عن البشر غير قبيحة، واعتذارهم بأن القبح المعلوم بالضرورة إنما هو القبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته ضعيف، فإن الظالم العاقل يميل طبعه إلى الظلم، ومع ذلك فإنه يجد صريح عقله حاكما بقبحه (2)، وأيضا من خاطب الجماد فأمره ونهاه لا ينفر طبعه عنه وهو قبيح قطعا، ومن أنشأ قصيدة حسنة في شتم الأنبياء والملائكة عليهم السلام وقرأها بصوت طيب حسن، فإنه يميل الطبع إليه وينفر العقل منه، فعلمنا المغايرة بين نفرتي العقل والطبع إنتهى . وأيضا لو كان الحسن والقبح عين النفرة والميل الطبيعيين لوجب اختلاف العقلاء في ذلك، لأنا نجدهم يختلفون فيما تميل إليه طباعهم وتنفر عنه، ولم نجدهم يختلفون في حسن الصدق وأمثاله

(هامش)

(1) الألف واللام موصولة، أي الفعل الذي وقع. (2) نعم قد لا يلتفت إلى قبحه لكثرة غيظه وكونه في مقام التشفي أو أعمال مشتهياته وذلك لا ينافي حكمه بالقبح المرتكز في فطرته. (*)

ص 348

وقبح الكذب ونظائره، وأيضا لو كان ذلك كذلك لسقط ذم العقلاء عمن فعل قبيحا إذا اعتذر بموافقته لغرضه. وبالجملة ما اشتهر من تفصيل معنى الحسن والقبح على الوجوه الثلاثة واستثناء بعضها عن محل النزاع مما استحدثه متأخر والأشاعرة وجعلوه مهربا يلجأون إليه حين يضطرهم حجة أهل الحق إليه، فيقولون: إن مثل حسن الاحسان وقبح الظلم متحقق بأحد المعاني المذكورة، لا بالمعنى المتنازع فيه، ولم يتفطنوا بما ذكرناه من الاستلزام، أو أغمضوا عنه ترويجا للمرام على القاصرين من الأنام هذا. ويدل على هذا الأصل من الأدلة التي لم يتعرض لها المصنف في هذا المقام، قوله تعالى: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط، إلى قوله: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (1)، فأخبر سبحانه أن فعلهم فاحشة قبل نهيه عنه وأمره باجتنابه، والفاحشة هيهنا طوافهم بالبيت عراة الرجال والنساء إلا بعض قريش (2)، ثم قال الله تعالى: إن الله لا يأمر بالفحشاء أي لا يأمر بما هو فاحشة في العقل والفطرة، ولو كان إنما علم كونه فاحشة بالنهي، وأنه لا معنى لكونه فاحشة إلا تعلق النهي به، لصار معنى الكلام: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه، وهذا مما يصان عن التكلم به آحاد العقلاء فضلا عن كلام العزيز الحكيم، وأي فائدة في قوله: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه، كما يقتضي تفسيره به عند الأشاعرة، فعلم

(هامش)

(1) الأعراف من آية 28 إلى آية 34. (2) وهم بنو عبد مناف كما ذكره بعض المؤرخين، وقال بعض أهل السير: إن بني مخزوم كانوا كبني عبد مناف في الاجتناب عن الشنايع المذكورة. (*)

ص 349

أن المراد أنه لا يأمر بما تستفحشه العقول كما يقتضيه رأي الإمامية ومن تابعهم، ثم قال تعالى: قل أمر ربي بالقسط، والقسط عند الأشاعرة يلزم أن يكون هو المأمور به لا ما هو قسط في نفسه، فحقيقة الكلام قل أمر ربي بما أمر به، ثم قال: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق (1)، دل على أنه طيب قبل التحريم، وأن وصف الطيب فيه مانع من تحريمه، فتحريمه مناف للحكمة، ثم قال: إنما حرم ربي الفواحش (2) ولو كان كونها فواحش إنما هو لتعلق التحريم بها، وليست فواحش قبل ذلك، لكان حاصل الكلام قل: إنما حرم ربي ما حرم، وكذلك تحريم البغي والإثم، فكون ذلك فاحشة وإثما وبغيا بمنزلة كون الشرك شركا، فهو مشرك في نفسه قبل النهي وبعده، فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والإثم إنما صارت كذلك بعد النهي، فهو بمنزلة قائل يقول: الشرك إنما صار شركا بعد النهي، وليس شركا قبل ذلك، ومعلوم أن هذا مكابرة (3) صريحة للعقل والفطرة، فالظلم ظلم في نفسه قبل النهي وبعده، والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده، وكذلك الفاحشة والشرك، لا أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك، نعم الشارع كساها بنهيه عنها قبحا إلى قبحها، فكان قبحها من ذاتها (4)، وازدادت قبحا عند

(هامش)

(1) الأعراف. الآية 32. (2) الأعراف. الآية 32. (3) اصطلح أهل المناظرة في علم آداب البحث عن التعبير بالدعوى المجردة عن الدليل بالمكابرة إن اقترنت بتعنت واستكبار، والتحكم إن لم تقترن بذلك. (4) المراد بالذات ما أسلفناه سابقا في بيان ملاكات الأحكام لا الذات التي يراد بها نفس الفعل والحركات والسكنات الخالية عن كل عنوان ووصف المعراة عن كل اعتبار. (*)

ص 350

العقل بنهي الرب تعالى عنها وذمه لها وإخباره ببغضها وبغض فاعلها، كما أن العدل والصدق والتوحيد ومقابلة نعم المنعم بالثناء والشكر حسن في نفسه، وازداد حسنا إلى حسنه بأمر الرب به وثنائه على فاعله وإخباره بإرادة ذلك ومحبة فاعله، بل من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وآله أنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث (1)، فلو كان كونه معروفا ومنكرا وطيبا وخبيثا إنما هو لتعلق الأمر والنهي والحل والتحريم به، لكان بمنزلة أن يقال: يأمرهم بما يأمرهم به وينهاهم عما ينهاهم عنه، ويحل لهم ما يحله، ويحرم عليهم ما يحرمه، وأي فائدة في هذا؟ وأي علم يبقى فيه لنبوته؟ وكلام الله تعالى يصان عن ذلك وأن يظن به مثله، وإنما المدح والثناء والعلم الدال على نبوته أن ما يأمر به تشهد العقول الصحيحة بحسنه وكونه معروفا، وما ينهى عنه تشهد بقبحه وكونه منكرا، وما يحله تشهد بكونه طيبا، وما يحرم تشهد بكونه خبيثا، وهذه دعوة الرسل، وهي بخلاف دعوة المبطلين والكاذبين والسحرة، فإنهم يدعون إلى ما يوافق أهواءهم وأغراضهم من كل قبيح ومنكر وبغي وظلم. ولهذا قيل لبعض الأعراب وقد أسلم، لما عرف دعوته صلى الله عليه وآله: عن أي شيئ أسلمت وما رأيت منه مما دلك على أنه رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال: ما أمر بشيئ فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيئ فقال العقل: ليته أمر به، ولا أحل شيئا فقال العقل ليته حرمه، ولا حرم شيئا فقال العقل: ليته أباحه، فانظر إلى هذا الأعرابي (2) وصحة عقله وفطرته وقوة إيمانه واستدلاله على صحة دعوة النبي صلى الله عليه وآله بمطابقة أمره لكل ما هو حسن في العقل ومطابقة نهيه لما هو قبيح في العقل، وكذلك مطابقة تحليله

(هامش)

(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة الأعراف. الآية 157 (2) الأعرابي: من سكن البادية كان من العرب أو غيره، وقد مر الفرق سابقا بين الأعرابي والعرب فليراجع. (*)

ص 351

وتحريمه، ولو كانت جهة الحسن والقبح والطيب والخبث مجرد تعلق الأمر والنهي والإباحة والتحريم لم يحسن منه هذا الجواب، ولكان بمنزلة أن يقول: وجدته يأمر وينهى ويبيح ويحرم، وأي دليل في هذا، وكذلك قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي (1) وهؤلاء يزعمون أن الظلم في حق عباده هو المحرم المنهى عنه، لا أن في نفس الأمر ظلما نهى عنه، وكذلك الظلم الذي نزه الله تعالى نفسه عنه هو الممتنع المستحيل عندهم، لا أن هناك أمرا ممكنا مقدورا لو فعله لكان ظلما، فليس عندهم ظلم منهى عنه ولا منزه عنه (2) إنما هو المحرم في حقهم (3) والمستحيل في حقه تعالى، فالظلم المنزه عنه عندهم منحصر في المحالات العقلية كالجمع بين النقيضين، وجعل الجسم الواحد في مكانين في آن واحد ونحو ذلك، والقرآن صريح في إبطال هذا المذهب أيضا. قال تعالى: قال قرينه: ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبد القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (4)، أي لا أؤاخذ عبدا بغير ذنب ولا أمنعه من أجر ما عمله من صالح، ولهذا قال قبله: وقد قدمت إليكم بالوعيد المتضمن لإقامة الحجة وبلوغ الأمر والنهي، فإذا آخذتكم بعد التقدم فلست بظالم، بخلاف ما يؤاخذ العبد قبل التقدم إليه بأمره ونهيه، فذلك الظلم الذي تنزه عنه سبحانه، وقال تعالى: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (5)،

(هامش)

(1) النحل. الآية 90. (2) والظاهر سقوط لفظة بل قبل كلمة إنما هو المحرم. (3) أي حق العباد. (4) ق. الآية 28. (5) طه. الآية 112. (*)

ص 352

يعني لا يحمل عليه من سيئات ما لم يعمله ولا ينقص من حسنات ما عمل، ولو كان الظلم هو المستحيل الذي لا يمكن وجوده لم يكن لعدم الخوف منه معنى ولا للأمن من وقوعه فائدة، وقال تعالى: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (1)، أي لا يحمل المسئ عقاب ما لم يعمله ولا يمنع المحسن من ثواب عمله. وقال تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (2)، فدل على أنه لو أهلكهم مع اصلاحهم لكان ظلما، وعندهم يجوز ذلك وليس بظلم لو فعله، ويؤولون الآية على أنه سبحانه أخبر أنه لا يهلكهم مع اصلاحهم، وعلم أنه لا يفعل ذلك وخلاف خبره ومعلومه مستحيل، وذلك حقيقة الظلم، ومعلوم أن الآية لم يقصد بها هذا قطعا، ولا أريد بها ولا يحتمله بوجه، إذ يؤل معناها إلى أنه ما كان ليهلك القرى بسبب اجتماع النقيضين وهم مصلحون، وكلامه تعالى: يتنزه عن هذا ويتعالى عنه، وكذلك عند هؤلاء أيضا العبث والسدى (3) والباطل كلها هي المستحيلات الممتنعة التي لا تدخل تحت المقدور، والله تعالى قد نزه نفسه عنها، إذ نسبه إليها أعداؤه المكذبين (4) لوعده ووعيده المنكرين لأمره ونهيه، فأخبر أن ذلك يستلزم كون الخلق عبثا وباطلا، وحكمته وعزته تأبى (تنافي خ ل) ذلك قال تعالى: أفحسبتم أنما

(هامش)

(1) فصلت. الآية 46. (2) هود. الآية 117. (3) السدى بضم السين المهملة. المهمل والباطل وفيه إشارة إلى قوله تعالى في سورة القيامة. الآية 36. (4) وحق العبارة هكذا: (إذ نسبها إليه تعالى أعداء. المكذبون لوعده ووعيده المنكرون لأمره ونهيه). (*)

ص 353

خلقناكم عبثا (1)، أي بغير شيئ لا تؤمرون ولا تنهون ولا تثابون ولا تعاقبون، والعبث قبيح، فدل على أن قبح هذا مستقر في الفطر (2) والعقول، ولذلك أنكر عليهم إنكار منبه لهم على الرجوع إلى عقولهم، وأنهم لو فكروا وأبصروا لعلموا أنه لا يليق به ولا يحسن منه أن يخلق خلقه عبثا، لا لأمر ولا لنهي ولا لثواب ولا لعقاب، وهذا يدل على أن حسن الأمر والنهي والجزاء مستقر في العقول والفطر، وأن من جوز على الله الاضلال به فقد نسبه إلى ما لا يليق به وتأباه أسماؤه الحسنى (3) وصفاته العليا، وكذلك قوله تعالى: أيحسب الإنسان أن يترك سدى (4) أي لا يؤمر ولا ينهى أو لا يثاب ولا يعاقب وهما متلازمان، فأنكر على من يحسب ذلك، فدل على أنه قبيح لا يليق به، ولهذا استدل على أنه لا يترك سدى بقوله: ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى (5) إلى آخر السورة، ولو كان قبحه إنما علم بالسمع لكان يستدل عليه: بأنه خلاف السمع وخلاف ما أعلمناه وأخبرنا به، ولم يكن إنكار تركه قبيحا في نفسه، بل لكونه خلاف ما أخبر به، ومعلوم أن هذا ليس وجه الكلام، وكذلك قوله تعالى: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا (6) والباطل الذي ظنوه ليس هو الجمع بين النقيضين، بل الذي ظنوه أنه لا شرع ولا جزاء ولا أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب، فأخبر أن خلقها لغير ذلك هو الباطل

(هامش)

(1) المؤمنون. الآية 115. (2) الفطر كعنب جمع الفطرة. (3) اقتباس من قوله تعالى في سورة الاسراء. الآية 110. (4) القيامة. الآية 36. (5) القيامة. الآية 37. (6) ص. الآية 27. (*)

ص 354

الذي تنزه عنه، وذلك هو الحق الذي خلقت به وهو التوحيد وحقه وجزاؤه وجزاء من جحده وأشرك به، وقال تعالى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أم نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (1) فأنكر سبحانه هذا الحسبان إنكار منبه للعقل على حكمه وأنه حكم سيئ، فالحاكم به مسيئ ظالم، ولو كان إنما قبح [ولو كان الحسبان خ ل] لكونه خلاف ما أخبر به، لم يكن الانكار لما اشتمل عليه من القبح اللازم من التسوية بين المحسن والمسيئ المستقر قبحه في عقول العالمين كلهم، ولا كان هناك حكم سيئ في نفسه ينكر على من حكم به، وكذلك قوله تعالى: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (2) وهذا استفهام وإنكار، فدل على أن هذا قبيح في نفسه منكر تنكره العقول والفطر، أفتظنون أن ذلك يليق بنا أو يحسن منا فعله، فأنكره سبحانه إنكار منبه للعقل والفطرة على قبحه، وأنه لا يليق بالله نسبته إليه، وكذلك إنكاره سبحانه قبح الشرك به في الإلهية وعبادة غيره معه بما ضربه لهم من الأمثال، وأقام على بطلانه من الأدلة العقلية، ولو كان إنما قبح بالشرع لم يكن لتلك الأدلة والأمثال معنى، وعند نفاة التحسين والتقبيح يجوز في العقل أن يأمر بالاشراك به وعبادة غيره، وإنما علم قبحه بمجرد النهي عنه، فيا عجبا أي فائدة تبقى في تلك الأمثال والحجج والبراهين الدالة على قبحه في صريح العقول؟! وأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم! وأي شيئ يصح في العقل إذا لم يكن فيه علم بقبح الشرك الذاتي، وأن العلم بقبحه بديهي، فذلك معلوم بضرورة العقل، وبأن الرسل نبهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم

(هامش)

(1) الجاثية. الآية 21. (2) ص. الآية 28. (*)

ص 355

من قبحه، وإن لم يتنبه ليست لهم عقول (1) ولا ألباب ولا أفئدة، بل نفى الله تعالى عنهم السمع والبصر، والمراد سمع القلب وبصره (2)، فأخبر أنهم صم بكم عمي وشبههم بالأنعام التي لا عقول لها يميز بها بين الحسن والقبح و

(هامش)

(1) وحق العبارة هكذا: إن من لم يتنبه ليس له عقل ولا لب ولا فؤاد. (2) كما في قوله تعالى في سورة الأعراف. الآية 179. لا يخفى إن سمع القلب له إطلاقان، فتارة يطلق ويراد به أذن الفؤاد، وهي التي عدها الفقهاء من محرمات الذبيحة، وأخرى يطلق ويراد به إدراك القلب ما وصلت إليه من العلوم والمطالب، كما أن للقلب إطلاقات منها اللحم الصنوبري الشكل المودع في الحيوان ومنها المعنى المعروف لدى الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء وغيرهم الذي عرفوه بقولهم: هي اللطيفة الربانية، التي لها تعلق بالقلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر. قال الجرجاني في كتاب الحدود ص 119 في بيان المعنى الثاني للقلب ما لفظه: تلك لطيفة هي حقيقة الإنسان، ويسميها الحكيم النفس الناطقة والروح باطنه والنفس الحيوانية مركبه، وهي المدرك والعالم من الإنسان والمخاطب والمطالب والمعاتب إنتهى . وقد يطلق القلب كما في علم آداب البحث على ما نص عليه الفاضل السمرقندي على جعل المعلول علة والعلة معلولا. وقد يطلق كما في الفقه وأصوله حسب تنصيص الجرجاني في الحدود ص 119 على عدم الحكم لعدم الدليل ويراد به ثبوت الحكم بدون العلة. وقد يطلق على معاني في علمي الصرف والاشتقاق كما في كتاب سمط اللئال في القلب والأبدال. وقد يطلق على أحد أقسام الحصر في علم المعاني. وقد يطلق على بعض المحسنات في البديع. إلى غير ذلك من الاطلاقات والمراد به هيهنا المعنى الثاني أعني اللطيفة الربانية فلا تغفل. (*)

ص 356

الحق والباطل، وكذلك اعترفوا في النار بأنهم لم يكونوا من أهل السمع والعقل، وأنهم لو رجعوا إلى أسماعهم وعقولهم، لعلموا حسن ما جاءت به الرسل وقبح مخالفتهم، قال تعالى: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (1)، وكم يقول لهم في كتابه أفلا يعقلون، لعلكم تعقلون، فينبههم على ما في عقولهم من الحسن والقبح ويحتج عليهم بها، ويخبر أنه أعطاهموها لينتفعوا بها ويميزوا بها بين الحسن والقبيح، وكم في القرآن من مثل عقلي وحسي ينبه به العقول على حسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه؟! فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال للعقول معنى، ولكان إثبات ذلك بمجرد الأمر والنهي دون ضرب الأمثال، وتبيين جهة القبح المشهور بالحس والعقل، والقرآن مملو بهذا لمن تدبره، كقوله: ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون (2)، يحتج سبحانه عليهم بما في عقولهم، من قبح كون مملوك أحدهم شريكا له، فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكا له ولا يرضى بذلك، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي؟ وهذا يبين أن قبح عبادة غيره تعالى مستقر في العقول، والسمع نبه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك وكذلك قوله تعالى: ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون (3) ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (4)،

(هامش)

(1) الملك. الآية 10. (2) الروم. الآية 28. (3) متشاكسون: متضادون. (4) الزمر. الآية 29. (*)

ص 357

احتج سبحانه على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك تملكه أرباب متعاسرون سيئوا الملك، وحال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له، فهل يصح في العقول استواء حال العبدين؟ وكذلك حال المشرك والموحد الذي قد سلمت عبوديته للواحد الحق، لا يستويان. وكذلك قوله تعالى: ممثلا لقبح الرياء المبطل للعمل والمن والأذى المبطل للصدقات بصفوان (1) وهو الحجر الأملس عليه تراب غبار قد لصق به فأصابه مطر شديد، فأزال ما عليه من التراب وتركه صلدا أملس لا شيئ عليه، وهذا المثل في غاية المطابقة لمن فهمه، فالصفوان وهو الحجر كقلب المرائي والمنان والمؤذي والتراب الذي لصق به ما تعلق به من أثر عمله وصدقته، والوابل المطر الذي به حياة الأرض فإذا صادف أرضا قابلة نبت فيها الكلأ، فإذا صادف الصخور والحجارة الصم لم ينبت فيها شيئ (2) فجاء هذا الوابل إلى التراب الذي على الحجر فصادفه رقيقا فأزاله فأفضى إلى حجر غير قابل للنبات، وهذا يدل على أن قبح المن والأذى والرياء مستقر في العقول، فلذلك نبهها على شبه ومثاله. وعكس ذلك قوله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل حبة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (3) فإن كانت هذه الحبة التي بموضع عال حيث لا تحجب عنها الشمس والرياح وقد أصابها مطر شديد. فأخرجت ثمرها ضعفي ما يخرج غيرها إن كانت مستحسنة في العقل والحس فكذلك نفقة من أنفق

(هامش)

(1) في سورة البقرة. الآية 214. (2) ويناسبه قوله تعالى في سورة الأعراف. الآية 58. باران كه در لطافت طبعش خلاف نيست * در باغ سبزه رويد ودر شوره زار خس (3) البقرة. الآية 265. (*)

ص 358

ماله لوجه الله لا للجزاء من الخلق ولا شكورهم (1) بثبات من نفسه وقوة على الانفاق، لا تخرج النفقة وقلبه يرجف على خروجها، ويرتعد ويضعف قلبه، ويجوز عند الانفاق بخلاف نفقة من لم يكن صاحب التثبت والقوة، ولما كان الناس في الانفاق على هذين القسمين، كان مثل نفقة صاحب الاخلاص والتثبيت كمثل الوابل، ومثل نفقة الآخر كمثل الطل، وهو المطر الضعيف، فهذا بحسب كثرة الانفاق وقلته وكمال الاخلاص وقوة اليقين فيه وضعفه، أفلا تراه سبحانه نبه العقول على ما فيها من استحسان هذا واستقباح فعل الأول؟ وكذلك قوله تعالى: أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها اعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (2) فنبه سبحانه العقول على قبح ما فيها من الأعمال السيئة التي تحبط ثواب الحسنات وشبهها بحال شيخ كبير له ذرية ضعفاء بحيث يخشى عليهم الضيعة وعلى نفسه وله بستان هو مادة عيشه وعيش ذريته، فيه النخيل والأعناب ومن كل الثمرات إذا أصابته نار شديدة فأحرقته، فنبه العقول على أن قبح المعاصي التي تحرق الطاعات بعدها كقبح هذه الحال، ولهذا فسره ابن عباس (3) برجل عمل بطاعة الله زمانا فبعث

(هامش)

(1) إشارة إلى آية 9 في سورة الدهر النازلة في حق أهل بيت الرسول صلوات الله عليهم أجمعين، الحاكية عن لسان حالهم. (2) البقرة. الآية 266. (3) هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، من أعيان الإسلام أخذ علوم القرآن وتفسيره عن مولينا أمير المؤمنين سلام الله عليه، يعبر عنه حبر الأمة، وقدوة المفسرين وترجمان القرآن أمه لبابة بنت الحارث بن حزن أخت ميمونة أم المؤمنين زوجة النبي صلى الله عليه وآله. ولد بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين دعى له النبي صلى الله عليه وآله بالفقه والتأويل، (*)

ص 359

الله إليه الشيطان فعمل بمعاصي الله حتى احترقت أعماله، ذكره البخاري في صحيحه (1) أفلا تراه نبه العقول على قبح المعصية بعد الطاعة وضرب لقبحها هذا المثل؟ ونفاة التعليل والأسباب والحكم بحسن الأفعال وقبحها يقولون: ما ثم إلا محض المشية لا أن بعض الأعمال يبطل بعضا وليس فيها ما هو قبيح بعينه حتى يشبه بقبيح آخر، وليس فيها ما هو منشأ لمفسدة أو مصلحة يكون سببا لهما ولا لها علل غائية هي مفضية إليها، وإنما هي متعلق المشية، والإرادة والأمر والنهي فقط، والفقهاء لا يمكنهم البناء على هذه الطريقة كما مر، وأجمعوا عند التكلم (2) بلسان الفقه على بطلانها إذ يتكلمون في العلل والمناسبات الداعية بشرع الحكم (3)

(هامش)

وكان عمر يقربه ويشاوره، وكذا غيره من الصحابة قال الخطيب في تاريخ بغداد روى عن عطاء أنه قال ما رأيت مجلسا قط كان أكرم من مجلس ابن عباس أكثر علما وأعظم جفنة وإن أصحاب القرآن عنده يسألونه، وأصحاب النحو عنه يسألونه، وأصحاب الشعر عنده يسألونه، وأصحاب الفقه عنده يسألونه كلهم يصدرهم في واد واسع. توفي بالطائف سنة 68 وصلى عليه محمد بن الحنفية وكلماته في كتب التفسير منقولة مذكورة مشهورة وقد جمعها الفيروزآبادي صاحب القاموس في كتاب سماه تنوير المقباس في تفسير ابن عباس. يروي عن النبي صلى الله عليه وآله وعن أمير المؤمنين والحسنين وغيرهم عليهم السلام وعنه يروي جمع منهم أبو الشعثاء، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وابن المسيب، وعطاء بن يسار، وغيرهم. (1) في الجزء السادس (ص 32 ط أميرية). (2) فيه إشارة إلى أنهم عند التكلم في علم الكلام ينسون ذلك ويناظرون في ذلك عنادا مع أهل التوحيد والعدل. منه قده . (3) الشرع: الطريقة، والحكم جمع الحكمة، والمراد أنهم يتكلمون على طبق مقتضيات الحكم والعلل والمصالح العقلية مع أنه مخالف لمبناهم. هذا إذا كانت العبارة (بشرع (*)

ص 360

ويفرقون بين المصالح الخالصة والراجحة والمرجوحة والمفاسد التي هي كذلك، ويقدمون أرجح المصلحتين على مرجوحتهما ويدفعون أقوى المفسدتين باحتمال أدناهما، ولا يتم لهم ذلك إلا باستخراج الحكم والعلل ومعرفة المصالح والمفاسد الناشئة من الأفعال ومعرفة رتبها، وكذلك الأطباء لا يصلح لهم (لا يصح خ ل) علم الطب وعمله إلا بمعرفة قوى الأدوية والأغذية والأمزجة وطبائعها، ونسبة بعضها إلى بعض ومقدار ثأثير بعضها في بعض، وانفعال بعضها عن بعض، والموازنة بين قوة الدواء وقوة المرض ودفع الضد بضده، وحفظ ما يريدون حفظه بمثله ومناسبه، فصناعة الطب (1) وعلمه مبنية على معرفة الأسباب والعلل والقوى والطبائع

(هامش)

الحكم بالباء) وإن كانت (لشرع الحكم باللام) فالجار متعلق بالداعية ومضاف لفظة الشرع (الحكم) بضم الحاء المهملة لا الحكم بكسرها فلا تغفل. (1) ومن ثم ترى القوم يشيرون في كتبهم الطبية إلى ذلك حيث قالوا ولما كان المركب في هذا العالم مورد الأضداد وكل شيئ يقوي ما هو من جنسه، ويضعف ما هو بخلافه، فيتغير المركب عما كان عليه بورود الوارد وينقلب عما كان عليه ولم يتأت عنه ما خلق لأجله بل صدر عنه ما هو بخلاف ما أريد منه وهذا هو المرض، وذلك الوارد هو سبب المرض وعلته، والصادر عنه على خلاف ما أريد منه هو العرض، مثلا خلق العين للنظر وقوامها بما هي عليه مما وضعها الله عليه، فإذا وقع فيها قذى ونكأها، فتلك النكأة هي المرض وذلك القذى هو السبب، فتعرض لها حمرة أو دمعة أو غير ذلك فتلك عرض لها، وأثر لتلك النكأة. فإذا ربما يكون عرض سبب مرض آخر، كالدمعة تصير سبب القرحة منه أو على مقام آخر، أو مرض عرض مرض آخر، أو مرض سبب مرض آخر إلى ما شاء الله فبالأعراض يستدل على الأمراض، وبالأمراض يتوصل إلى معرفة الأسباب كالرمد يكون عرض النزلة منه فالمرض أثر للسبب، والعرض أثر للمرض، فالواجب أولا لمن يروم المعالجات، قطع أسباب المرض الأولية ثم إن كانت الطبيعة قوية تدفع (*)

ص 361

(هامش)

بنفسها المرض ولا يحتاج إلى علاج، فإذا قطعت المرض يندفع العرض، لأنه أثره انتهى. أقول: ولا ينبغي التبادر إلى العلاج ح، ومن ثم ورد النهي في أخبار عديدة عن المسارعة إلى التداوي. منها ما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام (اجتنب الدواء ما احتمل بدنك الداء) وعن الإمام موسى الكاظم عليه السلام (ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم، فإنه بمنزلة البناء قليله يجر إلى كثيره). وعن مولينا أمير المؤمنين عليه السلام (امش بدائك ما مشى بك) إلى غير ذلك، وإن كان المرض والطبع متكافئين، أو المرض كان غالبا فإنه ح وقت الحاجة إلى المعالجة والطبيب ولا يجوز التأخير والمسامحة في ذلك، وعلى هاتين الصورتين يحمل ما ورد في الروايات كقول الباقر عليه السلام بعد ما سئل هل نعالج (نعم إن الله جعل في الدواء بركة وشفاء وخيرا كثيرا، وما على الرجل أن يتداوى فلا بأس به. وما روي عن الصادق عليه السلام قال كان المسيح عليه السلام يقول (إن تارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة). وما رواه شيخنا الحر العاملي قده في كتاب الفصول المهمة عن المكارم من قوله عليه السلام (تجنب الدواء ما احتمل بدنك فإذا لم تحتمل الداء فالدواء) إلى غير ذلك من الروايات. ثم اعلم أنه لما كان التداوي أمرا اضطراريا، يلزم إن كان كأكل الميتة فيستعمل بقدر الضرورة فما أمكن الاكتفاء بالغذاء الدوائي يكتفى به، وإلا فالدواء الغذائي، وإلا فالدواء المفرد، وإلا فقليل الأجزاء، وإلا فكثير الأجزاء وما أمكن الاكتفاء بضعيف القوى لا يصار إلى قويها وما أمكن الاكتفاء بالملين لا يصار إلى المسهل، لا يستعمل المسهل من غير منضج إلا عند عدم الفرصة، أو كثرة الامتلاء، ولا يعدل عن المجرب إلى غير المجرب، ولا عن المحلل والملطف إلى المسهل. فظهر مما تلى عليك إن علم الطب علم يبحث فيه عن أسباب المرض، وروافع آثارها ودوافع تأثيرها وقد أشار مولينا القاضي الشهيد قده في هذه الجمل إلى المطالب المبحوثة عنها في الطب بأحسن إشارة وألطف بيان شكر الله مساعيه الجميلة، وحشره (*)

ص 362

(الطباع خ ل) والخواص، فلو نفوا ذلك وأبطلوه وأحالوا على محض المشية وصرف الإرادة المجردة عن الأسباب والعلل وجعلوا حقيقة النار مساوية لحقيقة الماء، وحقيقة الدواء مساوية لحقيقة الغذاء ليس في أحدهما خاصية ولا قوة يتميز بها عن الآخر، لفسد علم الطب وبطلت حكم الله تعالى، بل العالم مربوط (1) بالأسباب والقوى والعلل الفاعلة والغائية، وعلى هذا قام الوجود بتقدير العزيز العليم (2) والكل مربوط بقضائه وقدره ومشيته وإقداره وتمكينه. واعتذر بعض الأشاعرة عن نفيهم لذلك بأن القول بقطع النظر عن تأثير الأسباب في مسبباتها وجعل ذلك تأثير الله تعالى زهد وإخلاص، بأن لا يجعل مع الله تعالى في العالم خالق آخر، ولا يخفى أن هذا اعتذار فاسد واعتقاد ردي، وإنما الاخلاص والفوز والفلاح في الصدق والحق لا في الكذب والافتراء بما يعلم أنه ليس كذلك مع تضمنه لكثير من الفاسد كالجبر والظلم وخلو بعثة الأنبياء عن الفائدة ومخالفته للعقل، بما ورد في الكتب المنزلة وأخبار الأنبياء، من ذكر الأسباب وإسناد المسببات إليها، ومع ما في القول بخلق الأسباب وتفويض المسببات إليها من الدلالة على قدرة الفاعل لذلك، وإتقانه لأفعاله وبيان إحكامها وعجيب صنعها، فإنه يكون في كل واحد منها دلالة

(هامش)

مع أجداده الطاهرين وأسكنه في مستقر الشهداء المقربين آمين آمين. (1) فإن قيل: هذا ينافي ما ورد من أقوال المتكلمين: إن جميع الأشياء كلها واقعة بقدرة الله تعالى ولا مؤثر في الوجود إلا الله، قلنا: إن هذا مما لم يقل به إلا القائلون بالجبر، ولو سلم فلا ينافي طريقتنا، لأن قولهم: إن الأشياء واقعة بقدرة الله تعالى، وإنه لا مؤثر إلا الله لا يقتضي نفي الأسباب لظهور أنه لو لم يكن الله تعالى موجودا لم يكون لشيئ من الممكنات وجود أصلا، فيصح أنه لا مؤثر في الوجود ابتداء إلا الله تعالى. منه قده . (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة يس. الآية 38. (*)

ص 363

على قدرتين وحكمتين، خلقها وخلق تأثيرها وحصول الاحكام في خلقها وفي ترتب هذه المسببات عليها، وكونها سببا لها، وجعل تلك الأسباب مؤثرة في مسبباتها، وحصول تلك المسببات متقنة محكمة عنها، وهذا طريق مستقيم يوصل إلى حقيقة توحيده تعالى، وظهور قدرته، ووفور (فوز خ ل) حكمته، يوجب للعبد إذا تبصر فيه الصعود من الأسباب إلى مسببها، والتعلق به دونها، وأنها لا يضر ولا ينفع إلا بإذنه، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارا ودوائها داء أو دائها دواء، فالالتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد، وإنكارها أن تكون أسبابا بالكلية قدح في الشرع والحكمة، والاعراض عنها مع العلم بكونها أسبابا نقصان في العقل، وتنزيلها منازلها ومدافعة بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض وشهود الجمع في تفرقها والقيام بها هو محض العبودية والمعرفة وإثبات التوحيد والشرع والقدرة والحكمة (القدر والحكم خ ل) والله أعلم. قال المصنف رفع الله درجته وهو باطل لوجوه الأول أنهم أنكروا أما علم كل عاقل من حسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار سواء كان هناك شرع أو لا، ومنكر الحكم الضروري سوفسطائي. قال الناصب خفضه الله أقول: جوابه أن حسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، إن أريد بهما صفة الكمال والنقص أو المصلحة والمفسدة، فلا شك إنهما عقليان كما سبق، وإن أريد بهما تعلق المدح والثواب أو الذم والعقاب، فلا نسلم أنه ضروري، بل هو متوقف على إعلام الشرع، وكيف يدرك تعلق الثواب وهو من الله تعالى إلا بالشرع والاعلام من الشارع إنتهى .

ص 364

أقول: قد توارد بعض الفضلاء المعاصرين في حاشيته على شرح أصول ابن الحاجب بهذا الجواب ظنا منه أنه وجد تمرة الغراب (1) حيث قال: إن الحكم بأنا نعلم بالضرورة أو بالنظر أن الصدق النافع والكذب الضار يترتب عليهما الثواب أو العقاب في العقبى بعيد، لأن العقل لا يستقل في أمر الآخرة إنتهى ، وقد دفعناه (2) قبل ذلك في تعليقاتنا على ذلك الشرح: بأن الاستبعاد إنما يتوجه لو أريد الثواب والعقاب بخصوصياتهما المعلومة من عرف الشرع، ككون الثواب عطية يستحقها العبد من الله تعالى دائما في دار الآخرة، وأما إذا أريد به العطاء (3)

(هامش)

(1) هذا مثل معروف عند العرب يضرب به في حق من أتى بشيئ خسيس زاعما أنه أغلى وأثمن ما يوجد. (2) هذا الدفع اختيار للشق الثاني من جواب الناصب، وإنما لم يتعرض للدفع باختيار الشق الأول أيضا اعتمادا على ظهور ذلك بما ذكرناه قريبا من إثبات الاستلزام بين معاني الحسن والقبح. (3) ويؤيد أن أصل معنى الثواب ما ذكرناه، ما ذكره المصنف رفع الله درجته في شرح الياقوت (اسمه أنوار الملكوت) من أن الثواب عبارة عن النفع المقارن للتعظيم والاجلال وأيضا يؤيده تعبير الحكماء المثبتين للمعاد الروحاني عن جزاء الأعمال بالثواب والعقاب أيضا، كما صرح به المحقق الطوسي ره في قواعد العقائد حيث قال: المسألة الرابعة في الثواب والعقاب وهما أما بدنيان كاللذات الجسمانية، وأما نفسيان كالتعظيم والاجلال، وكالخزي والهوان وتفصيلهما لا يعلم إلا بالشرع. وقال في موضع آخر: وأما القائلون بالثواب والعقاب النفسانيين قالوا: النفوس باقية أبدا، فإن كانت مدركة لذاتها اللذات الباقية معتقدة بما يجب عليها أن تعتقدها متخلقة بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة منقطعة العلاقة عن الأشياء الفانية وكان جميع ذلك ملكة راسخة فيها، كانت من أهل الثواب الدائم، وإن كانت عديمة الادراك للذات الباقية معتقدة لما لا يكون مطابقا (*)

ص 365

الذي يستحقه العبد من الله تعالى فلا، إذ بديهة العقل حاكمة بأن العبد المطيع الفاعل لما يوجب المدح يستحق العطاء من المولى الجواد الحكيم كما أشرنا إليه سابقا، وبعبارة أخرى نقول: إن العقل حاكم قطعا بأن من فعل ما يوافق أمر مولاه الجواد الحكيم يجزيه خيرا ومن خالفه يجزيه شرا، فإن أراد هذا الفاضل أن العقل لا يحكم بهذا المجمل فهو مكابرة ظاهرة، وأن أراد أنه لا يحكم على ذلك مع خصوصيات كون الثواب بالتخليد في الجنة ونيل الحور والقصور وكون العقاب بالنار والحيات ونحو ذلك في الآجل، قلنا: إنا لا ندعي حكم العقل بهذه الخصوصيات، غاية الأمر أنه قد يقع التقييد بذلك في بعض العبارات (1) لكونها من لوازم ذلك المجمل اتفاقا من الفريقين، وإن علم ذلك من الشرع فقط ونظير أوردناه هيهنا ما وقع عن العلامة الدواني في بحث الوجود من حاشيته القديمة عند الكلام على قول شارح الجديد للتجريد. وما قيل: من أن صحة الحكم مطابقته لما في العقل الفعال، فإن صور جميع الكائنات وأحكام الموجودات والمعدومات بأسرها مرتسمة فيه باطل قطعا، لأن كل واحد من العقلاء يعرف أن قولنا: اجتماع النقيضين محال صدق وحق، مع أنه لم يتصور العقل الفعال أصلا، فضلا عن اعتقاد ثبوته وارتسام صور الكائنات فيه، مع أنه ينكر ثبوته على ما هو

(هامش)

لنفس الأمر مائلة إلى اللذات البدنية منغمسة في الأمور الدنيوية الفانية متخلقة بالأخلاق الفاسدة وكان ذلك ملكة راسخة فيها، كانت من أهل العقاب الدائم لفقدان ما ينبغي لها ووجود ما لا ينبغي معها دائما، وبين المرتبتين مراتب لا نهاية لها بعضها أميل إلى السعادة وبعضها أميل إلى الشقاوة وإن كانت الخيرات والشرور غير متمكنة منها تمكن الملكات بل كانت الخ. منه قده . (1) إشارة إلى أن بعض التعريفات الذي حكموا بكونه محل النزاع خال عن اعتبار خصوصيات أخر كقولهم: الحسن ما لا حرج في فعله والقبيح ما فيه حرج. منه قده (*)

ص 366

رأي المتكلمين صور الكائنات فيه إنتهى حيث أورد عليه أولا نقضا إجماليا فقال: هذا الكلام من قبيل أن يقال: كون المشار إليه بأنا (2) جوهرا مجردا باطل، لأن كل واحد من العقلاء يشير إليه بأنا مع أنه لم يتصور الجوهر المجرد أصلا، بل مع أنه ينكر ثبوته على ما هو رأي المتكلمين أو يقال: كون الزمان مقدارا لحركة الفلك باطل، لأن كل أحد يقسم الزمان إلى أجزائه مع عدم تصوره مقدار حركة الفلك إلى غير ذلك من النظائر بالتي لا يخفى شيئ منها على من خاض في تيار (1) بحار الحكمة، ثم ذكر حله وتفصيله فقال: للمستدل أن يمنع عدم تصور كل واحد من العقلاء العقل أصلا، ويقول: بل تصور العقل (يتصور خ ل) بهذا الوجه، وهو أنه الواقع ونفس الأمر ومطابق الصوادق وإن لم يتصور بخصوصية كونه عقلا ومحلا لارتسام صور الكائنات، ثم يدل البرهان على أن المتصور بهذا الوجه هو العقل المتصف بتلك الصفات، كما في إثبات النفس والزمان وغيرهما من المطالب الحكمية التي لا يخفى على من ذاق الحكمة إنتهى ومن العجب أن هذا الفاضل المعاصر مع طول ملازمته ومدارسته لذلك الشرح والحاشية قد غفل عن جريان نظير ذلك النقض والحل فيما نحن فيه، وأعجب من ذلك أن هذا الفاضل أنكر هيهنا استقلال العقل في أمر الآخرة مطلقا، وسلم استقلاله في بعض أحوال

(هامش)

(2) أقول: حارت الألباب في تعيين المراد بلفظة (أنا) إذ ما من معنى إلا وتصح إضافته إلى تلك الكلمة، فحملها المشهور على الجوهر المجرد. وبعضهم على الروح، وآخر على النفس، وآخر على العقل، وآخر على البدن، وآخر على مجموع الروح والبدن، وآخر على الروح والبدن اللطيف المثالي إلى غير ذلك من المحتملات. وغاية ما جعلوه تحقيقا في المقام هو أن يراد في كل إضافة من لفظة (أنا) كل ما هو غير المضاف. (1) التيار: موج البحر الهائج. (*)

ص 367

المعاد في أوائل حاشيته على الشرح الجديد للتجريد. قال المصنف رفع الله درجته الثاني لو خير العاقل الذي لم يسمع الشرائع ولا علم شيئا من الأحكام، بل نشأ في بادية خاليا من العقائد كلها، بين أن يصدق ويعطي دينارا وبين أن يكذب ويعطي دينارا ولا ضرر عليه فيهما، فإنه يختار الصدق على الكذب، ولولا حكم العقل بقبح الكذب وحسن الصدق لما فرق (ميز خ ل) بينهما ولا اختار الصدق دائما. قال الناصب خفضه الله أقول: قد سبق جواب هذا، وأن مثل هذا الرجل لو فرضنا أنه يختار الصدق بحكم عقله، فإنه يختاره لكونه صفة كمال أو موجب مصلحة، وهذا لا نزاع فيه أنهما عقليان لا أنه يختاره لكونه موجبا للثواب والعقاب، كيف وهو لا يعرف الثواب ولا العقاب؟ إنتهى . أقول: قد سبق دفعه أيضا حيث بينا سابقا استلزام تلك المعاني لما هو محل النزاع، وقررنا قبيل ذلك بلا فصل: أن خصوصيات الثواب والعقاب غير معتبرة، وأيضا قد ظهر لك مما فصلناه سابقا من تحقيق الأصلين، وأن النزاع واقع فيهما، أن قول الناصب: إنه لا نزاع في أن حسن الصدق وقبح الكذب ونحوهما عقليان لا يصح على إطلاقه، لأن أحد الأصلين المتنازع فيه هو أن ما حسنه الشارح وأمر به هل كان سابقا حسنا بوجه وجهة ثم أمر به أم لا؟ ونحن نقول: نعم، لأنا نعلم بالبديهة أن الصدق كان حسنا ثم أمر به ثم صار حسنا، فلا يجوز عندنا النهي عن الصدق بالضرورة، فبطل ما ذهب إليه الأشاعرة من أنه أمر به ثم صار حسنا، وكذا الكلام في الظلم العدل ونحوهما، فكيف يقال هيهنا: إن

ص 368

الصدق والكذب كانا قبل الأمر والنهي مشتملين على الجهة المحسنة أو المقبحة، بمعنى صفة الكمال والنقص، دون الجهة المحسنة والمقبحة التي يترتب عليهما الثواب والعقاب، فتأمل فأنه كاشف عن مغالطة القوم وفرارهم عن الاعتراف بالحق كما مر. قال المصنف رفع الله درجته الثالث لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما من ينكر الشرع، والتالي باطل، فإن البراهمة (1) بأسرهم ينكرون الشرائع والأديان كلها، ويحكمون بالحسن والقبح مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك قال الناصب خفضه الله أقول: جوابه أن البراهمة المنكرين للشرائع يحكمون بالحسن والقبح للأشياء

(هامش)

(1) البراهمة والبرهمانية نسبة إلى برهمان أو برهام اسم رجل مؤسس لهذه الطريقة كما في الملل للشهرستاني أو بمعنى الكينونة كما في كتاب الفيدا، وبالجملة من أصول هذه الطائفة نفي النبوات واستحالتها في العقول والامتناع من أكل اللحوم طيلة العمر أو مدة معينة حسب اختلاف فرقهم ويظهر من البيروني وكتاب الفيدا أن البراهمة في العصر الأول كانوا أربعة شعب (الأولى) البراهمان وهم الكهنة (الثانية) كشاتريا وهم الجند، أو كشتر (الثالثة) الفيسيا وهم العمال وأصحاب المهن وكان يعبر عنهم بيش (الرابعة) السودرا وهم الرقيق وكان يعبر عنهم شودر ، وبالجملة لهذه الطائفة مقالات سخيفة ورياضات شاقة بدنية وروحية، وقال الشهرستانى: ان البراهمة تفرقوا أصنافا، فمنهم أصحاب البدده أو البده ومنهم أصحاب الفكرة ومنهم أصحاب الساسخ إنتهى ، أقول: ولعل مراده من البده البوذه وهو قدوة البوذيين واسمه الأصلى جوتاما أو شاكيمن، وأكثر البوذيين في الهند وبلاد برما ومنهم بالعين وجزائر فيليپين وبعض بلاد افريقيا إنتهى . (*)

ص 369

لصفة الكمال والنقص، والمصلحة والمفسدة، لا لتعلق الثواب والعقاب كما مر وكيف يحكمون بالثواب والعقاب وهم لا يعرفونهما؟ إنتهى . أقول جواب هذا أيضا مثل ما مر في الفصلين السابقين، والحاصل أن حكم البراهمة بمجرد حسن الأشياء وقبحها عقلا يثبت أحد جزئي المدعى، وهو أن في الفعل قبل ورود الأمر والنهي جهة محسنة وصفة موجبة للحسن أو جهة مقبحة، وأما الجزء الآخر وهو ترتب الثواب والعقاب، فهم يعرفونه كما يعرفه أرباب الشرائع، لأن البراهمة وإن أنكروا النبوات والشرائع، فلم ينكروا الإلهيات حتى يلزم أن لا يعرفوا الثواب والعقاب على الأعمال، غاية الأمر أنهم قالوا: إن معرفة ذلك لا تتوقف على تعليم الأنبياء عليهم السلام، بل العقل مستقل به كما نقله عنهم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل عند نقل شبههم على نفي النبوات، حيث قال: إنهم قالوا: قد دل العقل بأن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يتعبد الخلق إلا بما تدل عليه عقولهم، وقد دلت الدلائل العقلية أن للعالم صانعا عالما قادرا حكيما، وأن له على عباده نعما توجب الشكر، فننظر في آيات خلقه بعقولنا، ونشكر بآلائه علينا، وإذ عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه، وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه، فما بالنا نتبع بشرا مثلنا، (1) فإنه إن كان يأمرنا بما ذكرناه من المعرفة والشكر فقد استغنينا عنه بعقولنا، وإن كان يأمرنا بما يخالف ذلك كان قوله دليلا على كذبه إنتهى ، فظهر أن قول الناصب: وهم لا يعرفونه إنما نشأ من جهله وعدم معرفته بما ينبغي معرفته لمدعي الفضل والعرفان والله المستعان. قال المصنف رفع الله درجته الرابع الضرورة قاضية بقبح العبث، كمن يستأجر أجيرا ليرمي من ماء الفرات

(هامش)

(1) وحكاه الله تعالى عن المشركين في آيات عديدة من القرآن كقوله تعالى: ما هذا إلا بشر مثلكم يريدان يتفضل عليكم، المؤمنون. الآية 24. (*)

ص 370

في دجلة (1) ويبيع متاعا أعطي في بلده عشرة دراهم في بلد آخر يحمله إليه بمشقة عظيمة، ويعلم أن سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضا (2)، وقبح تكليف ما لا يطاق كتكليف الزمن الطيران إلى السماء وتعذيبه دائما على ترك هذا الفعل، وقبح من يذم العالم الزاهد على علمه وزهده وحسن مدحه، وقبح مدح الجاهل الفاسق على جهله وفسقه وحسن ذمه عليهما، ومن كابر في ذلك فقد أنكر أجلى الضروريات، لأن هذا الحكم حاصل للأطفال، والضروريات قد لا تحصل لهم إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول جوابه أن قبح العبث لكونه مشتملا على المفسدة لا لكونه موجبا لتعلق الذم بالعقاب وهذا ظاهر، وقبح مذمة العاقل وحسن مدحة الزاهد للاشتمال على صفة الكمال والنقص، فكل ما يذكر هذا الرجل من الدلائل هو إقامة الدليل على غير محل النزاع، فإن الأشاعرة معترفون بأن كل ما ذكره من الحسن والقبح عقليان (3)، والنزاع (4) في غير هذين المعنيين (إنتهى) أقول: قد مر مرارا ما يقوم دفعا لهذا الجواب فتذكر.

(هامش)

(1) أي من غير غرض عقلائي. (2) حيث لم يترتب عليه غرض عقلائي. (3) قال المصنف في نهاية الوصول: هذا المذهب أي الحكم بكون الحسن والقبح عقليين صار إليه جميع الإمامية والكرامية والخوارج والبراهمة والثنوية وغيرهم سوى الأشاعرة حتى أن الفلاسفة حكموا بحسن كثير من الأشياء وقبح بعضها بالعقل إنتهى منه قده . (4) وأنت خبير بأن ما يذكره الناصب من باب توجيه ما لا يرضى صاحبه والخروج عن محل النزاع، إذ المتنازع فيه من الصدر الأول بين علماء الإسلام هو الحسن والقبح العقليان دون الثواب والعقاب، والتزام الرجل بهذا المعنى من باب تشبث الغريق بالحشيش. (*)

ص 371

قال المصنف رفع الله درجته الخامس لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله شيئ، ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على الكذابين، وتجويز ذلك يسد باب معرفة النبوة، فإن أي نبي أظهر المعجزة عقيب ادعاء النبوة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوة إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: جوابه أنه لم يقبح من الله شيئ قوله: لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على يد الكذابين، قلنا: عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه قبيحا عقلا، بل لعدم جريان عادة الله تعالى الجاري مجرى المحال العادي بذلك الاظهار، قوله: تجويز هذا يسد باب معرفة النبوة، قلنا: لا يلزم هذا لأن العلم العادي حاكم باستحالة هذا الاظهار، فلا ينسد ذلك الباب إنتهى أقول قد مر بيان قباحة الحكم بعدم قبح صدور القبائح المعلومة قبحها بالعقل من الله تعالى، وسبق أيضا أن قاعدة جريان العادة مع بطلانها بما مر لا يفيد المعرفة، لأن ذلك الجريان غير واجب على أصل الأشاعرة إذ لا يجب عليه تعالى شيئ عندهم فيجوز تخلف العادة، فلا يحصل الجزم بصدق النبي قال المصنف رفع الله درجته السادس لو كان الحسن والقبح شرعيين لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء وتعظيم الأصنام، وبالمواظبة على الزناء والسرقة، والنهي عن العبادة والصدق، لأنها غير قبيحة في أنفسها، فإذا أمر الله تعالى بها صارت حسنة، إذ لا فرق بينها وبين الأمر بالطاعة، فإن شكر المنعم ورد الوديعة والصدق ليست

ص 372

حسنة في أنفسها، ولو نهى الله تعالى عنها كانت قبيحة، لكن لما اتفق أنه تعالى أمر بهذه مجانا لغير غرض ولا حكمة صارت حسنة بذلك، واتفق أنه نهى عن تلك فصارت قبيحة، وقبل الأمر والنهي لا فرق بينهما، ومن أداه عقله إلى تقليد من يعتقد ذلك فهو أجهل الجهال وأحمق الحمقاء إذا علم أن معتقد رئيسه ذلك، وإن لم يعلم ووقف عليه ثم استمر على تقليده فكذلك، فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم لئلا يضل غيرهم ولا تستوعب البلية جميع الناس أو أكثرهم (إنتهى) قال الناصب خفضه الله أقول: جوابه أنه لا يلزم من كون الحسن والقبح شرعيين بمعنى أن الشرع حاكم بالحسن والقبح أن يحسن من الله الأمر بالكفر والمعاصي، لأن المراد بهذا الحسن إن كان استحسان هذه الأشياء فعدم هذه الملازمة ظاهر، لأن من الأشياء ما يكون مخالفا للمصلحة لا يستحسنه الحكيم، وقد ذكرنا أن المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها، وإن كان المراد بهذا الحسن عدم الامتناع عليه فقد ذكرنا أنه لا يمتنع عليه شيئ عقلا، لكن جرت عادة الله تعالى على الأمر بما اشتمل على مصلحة من الأفعال، والنهي عن ما اشتمل على مفسدة من الأفعال، فالعلم العادي حاكم بأن الله تعالى لم يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء قط، ولم ينه عن شكر المنعم ورد الوديعة، فحصل الفرق (1) بين هذا الأمر والنهي بجريان عادة الله الذي يجري مجرى المحال العادي، فلا يلزم شيئ مما ذكره هذا الرجل وقد زعم أن فلق (2) الشعر في تدقيق هذا السؤال الظاهر دفعه عند أهل الحق

(هامش)

(1) والظاهر أنه أريد من هذه العبارة: أن الفرق بين الأمر بالكفر والنهي عن شكر المنعم وبين غيرهما من الأوامر والنواهي بعدم جريان عادة الله على هذا الأمر والنهي بخلاف غيرهما من الأوامر والنواهي فيصير هذا الأمر والنهي بمنزلة المحالات العادية وجارية مجراها. (2) أي شق ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام الآية 95. (*)

ص 373

حتى رتب عليه التشنيع والتفظيع، فيا له من رجل ما أجهله! إنتهى . أقول ما ذكره في منع الملازمة من أن من الأشياء ما يكون مخالفا للمصلحة لا يستحسنه الحكيم الخ فرار شنيع مخالف لما مر: من أن الأشاعرة جعلوا الأفعال كلها سواء في نفس الأمر، وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح، ولا يتميز القبيح بصفة اقتضت قبحه أن يكون هو هذا القبيح وكذا الحسن، فليس الفعل عندهم منشأ حسن وقبح ولا مصلحة ولا مفسدة ولا نقص ولا كمال، ولا فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمان في نفس الأمر، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين النكاح والسفاح، إلا أن الشارع أوجب هذا وحرم هذا. وقد صرح بذلك أيضا صاحب المواقف حيث قال: القبيح عندنا ما نهي عنه شرعا والحسن بخلافه، ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وليس ذلك أي حسن الأشياء وقبحها عائدا إلى أمر حقيقي حاصل في الفعل قبل الشرع يكشف عنه الشرع كما تزعمه المعتزلة، بل الشرع هو المثبت له والمبين، فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع، ولو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا الخ ، ثم قال عند بيان المعنى المتنازع فيه: وعند المعتزلة عقلي فإنهم قالوا: للفعل في نفسه مع قطع النظر عن الشرع جهة محسنة مقتضية لاستحقاق فاعله مدحا وثوابا، أو مقبحة مقتضية لاستحقاق فاعله ذما وعقابا. ثم إنها أي تلك الجهة المحسنة أو المقبحة قد تدرك بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، وقد تدرك بالنظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلا، وقد لا تدرك (1)

(هامش)

(1) قال المصنف قده في نهاية الوصول: إن الجهة المحسنة أو المقبحة التي لا يدركها العقل (*)

ص 374

بالعقل لا بالضرورة ولا بالنظر، لكن إذا ورد الشرع به علم أن ثمة جهة محسنة كما في صوم آخر يوم من رمضان حيث أوجبه الشارع، أو جهة مقبحة كصوم أول يوم من شوال حيث حرمه الشارع، فإدراك الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بأمره ونهيه، وأما كشفه عنهما في القسمين الأولين فهو مؤيد بحكم العقل بهما إما بضرورته أو بنظره. ثم إنهم اختلفوا. فذهب الأوائل منهم إلى أن حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا لصفة فيها تقتضيهما، وذهب بعض من بعدهم من المتقدمين إلى إثبات صفة حقيقية توجب ذلك مطلقا أي في الحسن والقبيح جميعا، فقالوا: ليس حسن الفعل وقبحه لذاته كما ذهب إليه من تقدمنا من أصحابنا، بل لما فيه من صفة موجبة لأحدهما. وذهب أبو الحسين من متأخريهم إلى إثبات صفة في القبيح دون الحسن، إذ لا حاجة إلى صفة محسنة له، بل يكفيه لحسنه انتفاء الصفة المقبحة وذهب الجبائي إلى نفي الوصف الحقيقي فيهما مطلقا، فقال: ليس حسن الأفعال وقبحها لصفات حقيقية فيها، بل لوجوه اعتبارية (1) وأوصاف إضافية تختلف بسحب الاعتبار كما في لطمة اليتيم تأديبا وظلما إنتهى كلامه . والحاصل أن اعتراف الأشاعرة باشتمال الفعل على ما يجده العقل قبل الشرع من صفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة الصالحتين لمنشأية الأمر والنهي كما وقع عن صاحب المواقف، وقلده فيه الناصب هيهنا ينافي حكمهم بأن

(هامش)

هي ما اشتمل عليه الفعل من اللطف المانع من الفحشاء والداعي إلى الطاعة لكن العقل لا يستقل بمعرفته انتهى. منه قده (1) وإليه ذهب أكثر أصحابنا الإمامية، سيما المتأخرين منهم حيث صرحوا بكون الحسن والقبح دائرين مدار الوجوه والاعتبارات. وقد مر بيان ذلك في التعاليق السالفة مفصلا فليراجع. (*)

ص 375

الأفعال سواء في نفس الأمر، وبعدم اشتمالها على ما يصلح أن يكون منشئا للحسن أو القبح، لا بحسب الذات ولا بحسب شيئ من الصفات الحقيقية أو الاعتبارية التي قال بها الإمامية والمعتزلة، وبعدم الفرق بين سجود الرحمان وسجود الشيطان ونحو ذلك قبل ورود الشرع، وبجواز عكس القضية في الحسن والقبح وقلب الأمر والنهي، فإن تكرار هذه الكلمات في كلام الفريقين على وجه الاطلاق إثباتا ونفيا يأبى عن إرادة التخصيص بوجه من الوجوه فتوجه، هذا. وأما حديث جريان العادة فقد جرى عليه ما جرى وإن كان الناصب قد زعم أنه خرق العادة، وفلق البحر في إجرائه هيهنا، فتذكر قال المصنف رفع الله درجته السابع لو كان الحسن والقبح شرعيين لزم توقف وجوب الواجبات على مجيئ الشرع، ولو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء، لأن النبي إذا ادعى الرسالة وأظهر المعجزة كان للمدعو أن يقول: إنما يجب على النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنك صادق، وأنا لا أنظر حتى أعرف صدقك، ولا أعرف صدقك إلا بالنظر، وقبله لا يجب على امتثال الأمر فينقطع النبي ولا يبقى له جواب إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: جواب هذا قد مر في بحث النظر، وحاصله أنه لا يلزم الافحام، لأن المدعو ليس له أن يقول: إنما يجب على النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنك صادق، بل النظر واجب عليه بحسب نفس الأمر، ووجوب النظر لا يتوقف على معرفته له، للزوم الدور كما سبق، فلا يلزم الافحام إنتهى .

ص 376

أقول: قد سبق منا دفعه هناك (1) أيضا بأن ثبوت الوجوب في نفس الأمر لا يدفع الافحام، وإنما يندفع بإثبات الوجوب على المكلفين، إذ لا نزاع لأحد في أن تحقق الوجوب في نفس الأمر لا يتوقف على العلم بالوجوب، وإنما النزاع في أن وجوب الامتثال بقوله: حين أمر المكلف بالنظر في المعجزة إنما يثبت إذا ثبتت حجية قوله، وهي لا تثبت عقلا على ذلك التقدير فيكون بالسمع، فمتى لم يثبت السمع لا يثبت ذلك الوجوب، والسمع إنما يثبت بالنظر، فله إن لا ينظر ولا يأثم، لأنه لم يترك ما هو الواجب عليه بعلمه، كما إذا وجب علينا حكم في نفس الأمر مكتوب في اللوح المحفوظ، ولم يظهر عندنا وجوبه علينا فلم نأت به لم نأثم، فيلزم الافحام بخلاف ما إذا ثبت الوجوب العقلي، فإنه إذا قال: انظر ليظهر لك صدق مقالتي ليس له تركه، لوجوبه عقلا لثبوت الحس العقلي الحاكم بحسن التكليف، ومن المكلف به ما لا يستقل العقل للاهتداء إلى إدراكه، فيجب الرجوع في مثله إلى المؤيد من عند الله تعالى. قال المصنف رفع الله درجته الثامن لو كان الحسن والقبح شرعيين لم تجب المعرفة (2)، لتوقف معرفة الايجاب على معرفة الموجب، المتوقفة على معرفة الايجاب فيدور. قال الناصب خفضه الله أقول: جواب هذا أيضا قد مر فيما سبق، وأن توقف وجوب المعرفة على

(هامش)

(1) وقد قلنا هناك أيضا: إنه إن أراد بنفس الأمر مقتضى الضرورة والبرهان ونحوه، فما فسروها به فهو راجع إلى الحسن والقبح العقليين، وإن أراد به ما في العقل الفعال ونحوه من المعاني فلا يطلع عليه كل أحد إلا ما شاء الله ولا يبعد أن الناصب أراد بنفس الأمر معنى استهزء به على أصحابه. منه قده . (2) أي معرفة الله تعالى. (*)

ص 377

الايجاب ممنوع إنتهى . أقول: قد سبق منا ما أسقط منعه المردود الهالك، الذي قطع فيه من وادي الهذيان مسالك، فليطالع أوليائه هنالك. قال المصنف رفع الله درجته التاسع الضرورة قاضية بالفرق بين من أحسن إلينا دائما، ومن أساء إلينا دائما، وحسن مدح الأول وذم الثاني، وقبح ذم الأول ومدح الثاني، ومن تشكك في ذلك فقد كابر بمقتضى عقله إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: هذا الحسن وهذا القبح مما لا نزاع فيه بأنهما عقليان، لأنهما يرجعان إلى الملائمة والمنافرة أو الكمال والنقص، على أنه قد يقال: جائز أن يكون هناك عرف عام هو مبدء لذلك الجزم المشترك، وبالجملة هو من إقامة الدليل في غير محل النزاع، والله تعالى أعلم. هذه جملة ما أورده من الدلائل على رأيه العاطل، وقد وفقنا الله تعالى لأجوبتها كما ترتضيه إن شاء الله تعالى أولوا الآراء الصائبة، ولنا في هذا المبحث تحقيق نريد أن نذكره في هذا المقام فنقول: اتفقت كلمة الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة، على أن من أفعال العباد ما يشتمل على المصالح والمفاسد، وما يشتمل على الصفات الكمالية والنقصانية، وهذا مما لا نزاع فيه، وبقي النزاع في أن الأفعال التي تقتضي الثواب أو العقاب هل في ذواتها جهة محسنة صارت تلك الجهة سببا للمدح والثواب، أو جهة مقبحة صارت سببا للذم والعقاب أو لا؟ فمن نفى وجود هاتين الجهتين في الفعل ماذا يريد من هذا النفي؟ إن أراد عدم هاتين الجهتين في ذوات الأفعال، فيرد عليه: أنك سلمت وجود الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة في الأفعال، وهذا عين التسليم

ص 378

بأن للأفعال في ذواتها جهة الحسن والقبح لأن المصلحة والكمال حسن، والمفسدة والنقص قبيح، وإن أراد نفي كون هاتين الجهتين مقتضيتين للمدح والثواب بلا حكم الشرع بأحدهما لأن تعيين الثواب والعقاب للشارع، والمصالح والمفاسد التي تدركها العقول لا تقتضي تعيين الثوب والعقاب بحسب العقل، لأن العقل عاجز عن إدراك أقسام المصالح والمفاسد في الأفعال، ومزج بعضها ببعض حتى يعرف الترجيح، ويحكم بأن هذا الفعل حسن لاشتماله على المصلحة، أو قبيح لاشتماله على المفسدة، فهذا الحكم خارج عن طوق العقل، فتعين تعينه للشرع، فهذا كلام صالح صحيح لا ينبغي أن يرده المعتزلي، مثلا شرب الخمر كان مباحا في بعض الشرائع، فلو كان شربه حسنا في ذاته بالحسن العقلي كيف صار حراما في بعض الشرائع الأخر؟ هل انقلب حسنه الذاتي قبحا؟ وهذا مما لا يجوز، فبقي أنه كان مشتملا على مصلحة ومفسدة كل واحد منهما بوجه، والعقل كان عاجزا عن إدراك المصالح والمفاسد بالوجوه المختلفة، فالشرع صار حاكما بترجيح جهة المصلحة في زمان وترجيح جهة المفسدة في زمان آخر، فصار حلالا في بعض الأزمنة وحراما في البعض الآخر، فعلى الأشعري أن يوافق المعتزلي، لاشتمال ذوات الأفعال على جهة المصالح والمفاسد، وهذا يدركه العقل، ولا يحتاج في إدراكه إلى الشرع، وهذا في الحقيقة هو الجهة المحسنة والمقبحة في ذوات الأفعال، وعلى المعتزلي أن يوافق الأشعري في أن هاتين الجهتين في الفعل لا تقتضيان حكم الثواب والعقاب والمدح والذم باستقلال العقل بعجزه (لعجزه خ ل) عن مزج جهات المصالح والمفاسد في الأفعال، وقد سلم المعتزلي هذا فيما لا يستقل العقل به، فليسلم في جميع الأفعال، فإن العقل في الواقع لا يستقل في شيئ من الأشياء بإدراك تعلق الثواب والعقاب، فأذن كان النزاع بين الفريقين مرتفعا، تحفظ بهذا التحقيق، وبالله التوفيق.

ص 379

أقول: أما ما ذكره من أن هذا الحسن والقبح خارجان عن محل النزاع فقد بينا مرارا أنه اختيار للفرار على القرار، واغتنام لتولي الادبار (1)، وأما ما ذكره من العلاوة فهو مما ذكره العضد الإيجي (2) في شرح المختصر موافقا لبعض أقرانه وقد رد عليه المولى الفاضل بدر الدين محمد البهمني التشتري الحنفي (3) في شرحه على المختصر أيضا بأن كون العرف والعادة

(هامش)

(1) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الاسراء: الآية 46 (2) قد مرت ترجمته على سبيل الاختصار فليراجع. (3) لا يخفى أن النسخ مختلفة جدا ففي بعضها، بدر الدين محمد التميمي التستري، وفي بعضها بدر الدين محمد الشمني الششتري، وفي بعضها بدر الدين محمد البهمني الششتري وفي بعضها بدر الدين محمد الشمني التميمي، ولا يخفى إنه في رجال القرن التاسع وعلمائه يوجد المسمى بكل واحد من العناوين المذكورة. فإن كان مراد القاضي الشهيد المحتمل الأول فهو (الشيخ بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد الششتري المولد، التميمي النسب، المدني المسكن المقري) الذي سمع الحديث من زينب ابنة اليافعي، أخذ عنه جماعة كالسيد المحيوي، قاضي الحنابلة بالحرمين، والشهاب بن خبطة وغيرهما توفي سنة 885 وكان خاتمة شيوخ القراء بالمدينة الشريفة. وإن كان مراده ره المحتمل الثاني فهو الشيخ بدر الدين محمد بن محمد بن الحسن الشمني الأصل المتوفى سنة 721 وكان من أهل الحديث والكلام وإن كان مراده المحتمل الثالث (فهو الشيخ بدر الدين محمد بن محمد المتوفى بعد سنة 880 بقليل) وكان من أجلة علماء القوم في الكلام. وإن كان مراده المحتمل الرابع فهو الشيخ بدر الدين محمد الشمني التميمي الدار المتوفى في أوائل المائة التاسعة. وعندي أصح الوجوه (الثالث) والبهمني نسبة إلى (بهمن شير) في (*)

ص 380

مدركا (1) للحكم مدفوع، إذ المدرك للحكم إما الشرع أو العقل بالاجماع إنتهى ووافقه أيضا سيد المحققين قده في حاشيته على شرح العضدي حيث قال في هذا المقام من حاشيته المتعلقة بما قالوا أي المعتزلة: ثالثا وإذا بطل كونه شرعيا ثبت كونه عقليا، إذ لا مخرج عنهما إجماعا إنتهى . وأما ما ذكره الناصب في ذيل هذا المقام مما سماه تحقيقا وإن كان باسم ضده حقيقا، فيتوجه عليه أولا أن ما تضمنه كلامه من تقسم الأفعال إلى ما يشتمل على المصالح والمفاسد والنقص والكمال، وإلى ما يقتضي الثواب والعقاب تقسيم سقيم، لأن القسم الأول أيضا مما يقتضي الثواب أو العقاب عند الإمامية والمعتزلة، فإن ما اشتمل عليه الفعل من المصلحة أو المفسدة أو النقص أو الكمال صالح لكونه سببا مقتضيا للثواب أو العقاب أيضا كما لا يخفى. وثانيا أن ما ذكره في الشق الثاني من ترديده، اعتراف بالجزء الثاني من المدعى الذي وقع فيه النزاع، والحمد لله على الوفاق وترك الخلاف والشقاق. وأما ما ذكره في الشق الثاني وحكم بأنه كلام صالح صحيح لا ينبغي أن يرده المعتزلي مردود بما ذكرناه في الفصول السابقة، من الاستلزام وغيره من النقض والابرام وثالثا أن ما ذكره من أن شرب الخمر كان مباحا في بعض الشرايع فهو كذب على الشرايع، وليس غرضنا من ذلك المناقشة في المثال، بل التنبيه على ما هو الحق

(هامش)

خوزستان والرجل كان من أعلام القوم وأجلائهم له كتب في الفقه والحديث. ثم اعلم أن أكثر هذه الأسماء أوردها العلامة المؤرخ الشيخ شمس الدين السخاوي في الضوء اللامع في (ج 9) وغيره من الأجزاء فراجع وإنما أطنبنا الكلام تحقيقا وتثبتا وفقنا الله تعالى لذلك. (1) إفراد خبر الكون باعتبار أن عطف العادة على العرف تفسيري. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب