الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 381

من دوام حرمة أمور خمسة، خالف في بعضها أهل السنة فقد صح (1) عندنا من طريق أهل البيت عليهم السلام: أن خمسة لم تكن حلالا في شيئ من الشرايع لخمسة: الردة لحفظ الدين، والقتل بغير حق لحفظ النفس، والمسكر لحفظ العقل، والزنا لحفظ النسب، والسرقة لحفظ المال. وأما استبعاده لصيرورة الخمر حراما في بعض الشرايع بعد ما كان حلالا في بعض آخر فلا يخفى ما فيه، من الاختلال، إذ على تقدير كون الحمر حلالا في بعض الشرايع السابقة إنما يلزم الانقلاب الذاتي عند الحكم بتحريمه لو قلنا بأن حسن الأفعال وقبحها لذاتها، وأما لو قلنا: إن قبحها لما هو أعم من الذات ومن الصفات الإضافية والجهات الاعتبارية فلا، كما لا يخفى، وقد ظهر مما قررناه أن ما رامه الناصب من المحاكمة بين أهل العدل والأشاعرة محاكمة فاجرة ناظرة إلى محاكمة

(هامش)

(1) ونقل السيد الجليل ابن الصائغ العاملي في كتاب الاثني عشرية (ص 223 ط قم) ما يقرب منه ويؤيده في عدم كون الخمر مباحا في الشرايع السابقة، ما رواه في فروع الكافي (ج 2 ص 189) بعدة طرق عن أبي جعفر وأبي عبد الله ع (منها) ما رواه بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله ع قال: ما بعث الله عز وجل نبيا قط إلا وفى علم الله عز وجل أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر ولم تزل الخمر حراما وإنما ينقلون من خصلة إلى خصلة، ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين قال: وقال أبو جعفر ع: ليس أحد أرفق من الله عز وجل، فمن وفقه (رفقه ظ) تبارك وتعالى أن نقلهم من خصلة إلى خصلة، ولو حمل عليهم جملة لهلكوا. وروي في المستدرك (ج 3 ص 136 ط طهران) عن زيد النرسي في أصله قال: حدثني أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام، قال ما زالت الخمر في علم الله وعند الله حراما، وأنه لا يبعث الله نبيا ولا يرسل رسولا إلا ويجعل في شريعته تحريم الخمر، وما حرم الله حراما وأحله من بعد إلا للمضطر، ولا أحل الله حلالا قط ثم حرمه. (*)

ص 382

الحكمين (1): أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص بين مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وبين الفئة الباغية الطاغية الخارجة عن الإسلام. قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الثالث في أن الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب

ذهبت الإمامية ومن تابعهم ووافقهم من المعتزلة إلى أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب، بل جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب ليس فيها ظلم ولا جور ولا عدوان ولا كذب ولا فاحشة، لأن الله تعال يغني عن القبيح وعالم بقبح القبائح، لأنه عالم بكل المعلومات وعالم بغناه عنه، وكل من كان كذلك فإنه يستحيل عليه صدور القبيح عنه، والضرورة قاضية بذلك، ومن فعل القبيح مع الأوصاف الثلاثة استحق الذم واللوم، وأيضا الله تعالى قادر، والقادر إنما يفعل بواسطة الداعي (2)، والداعي إما داعي الحاجة أو داعي الجهل، أو داعي الحكمة (3)، أما داعي الحاجة (4)، فقد يكون العالم بقبح القبيح محتاجا إليه فيصدر عنه دفعا لحاجته (5)، وأما داعي الجهل فبأن يكون القادر عليه جاهلا بقبحه فيصح صدوره عنه، وأما داعي الحكمة بأن يكون الفعل حسنا فيفعله لدعوة الداعي (6) إليه، والتقدير أن

(هامش)

(1) والأنسب أن يقال هكذا: محاكمة فاجرة مضاهية بمحاكمة الحكمين. (2) أي المقتضى، لأن الممكن لا يوجد إلا عند وود المقتضى وارتفاع الموانع، والقبيح بالنسبة إليه تعالى لا مقتضى له إلا وله مانع منه قده (3) أي داع هو حكمته تعالى وعلمه بمصالح الأمور. (4) أي حاجة القادر إلى شيئ. منه قده . (5) وجريان الحاجة على الله تعالى محال. (6) وهذا الداعي أيضا منفى فيه تعالى، ضرورة أنه لا حكمة في القبائح حتى يحصل داع إلى فعله. (*)

ص 383

الفعل قبيح فانتفت هذه الدعاوي، فيستحيل منه تعالى. وذهبت الأشاعرة كافية إلى أن الله تعالى قد فعل القبائح بأسرها من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان ورضي بها وأحبها إنتهى قال الناصب خفضه الله أقول: قد سبق أن الأمة أجمعت على أن الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب. فالأشاعرة من جهة أن لا قبيح منه ولا واجب عليه. وأما المعتزلة فمن جهة أن ما هو قبيح منه يتركه، وما يجب عليه يفعله، وهذا الخلاف فرع قاعدة التحسين والتقبيح، إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ووجوب الواجب عليه إلا العقل، فمن جعله حاكما بالحسن والقبح قال: بقبح بعض الأفعال منه ووجوب بعضها عليه، ونحن قد أبطلنا حكمه، وبينا أن الله تعالى هو الحاكم، فيحكم ما يريد (1) ويفعل ما يشاء (2) لا وجوب عليه ولا استقباح منه، هذا مذهب الأشاعرة، وما نسبه هذا الرجل المفتري إليهم أخذه من قولهم: إن الله خالق كل شيئ، فيلزم أن يكون خالقا للقبائح، ولم يعلموا أن خلق القبيح ليس فعله، إذ لا قبح بالنسبة إليه، بل بالنسبة إلى المحل المباشر للفعل كما ذكرناه غير مرة، وسنذكر تحقيقه في مسألة خلق الأعمال (3) إنتهى أقول قد أبطل الناصب أكثر ما ذكره نصرة للأشاعرة بقوله: وأما المعتزلة

(هامش)

(1) إشارة إلى قوله تعالى في سورة المائدة الآية 1. (2) إشارة إلى قوله تعالى في سورة آل عمران الآية 40. (3) حيث إن أكثر الأشاعرة ذهبوا إلى أن ذوات الأفعال صادرة منه تعالى واتصافها بالحسن والقبح وساير الوجوه المعتورة باعتبار محالها ومباشريها. (*)

ص 384

فمن جهة أن ما هو قبيح منه يتركه وما يجب عليه يفعله، فإن ذكره هذا في مقابلة قول الأشاعرة صريح في أن الأشاعرة قائلون: بأن الله تعالى لا يترك ما هو قبيح في الشاهد، بل يفعل الكل، فإن هذا القدر يكفينا في أصل المقصود ويبقى الكلام في أنهم يدعون أن ما هو قبيح في الشاهد وبالنسبة إليه ليس بقبيح بالنسبة إلى الله تعالى، وهو تحكم كما عرفت غير مرة. وأما قوله: ونحن قد أبطلنا حكم العقل، فقد عرفت بطلانه مع منافاته لما صرح به سابقا في محاكمته المردودة بحكومة العقل في الجملة. وأما قوله: (خلق القبيح ليس فعله: إذ لا قبيح بالنسبة إليه) فقد مر أنه مكابرة ظاهرة، وسيأتي الكلام فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى. قال المصنف رفع الله درجته فلزمهم من ذلك محالات، منها امتناع الجزم بصدق الأنبياء، لأن مسيلمة الكذاب (1) لا فعل له، بل القبيح الذي صدر عنه من الله تعالى عندهم، فجاز أن يكون جميع الأنبياء كذلك، وإنما يعلم صدقهم لو علمنا أنه تعالى لا يصدر عنه القبيح، فلا نعلم حينئذ نبوة محمد نبينا صلى الله عليه وسلم ولا نبوة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء البتة، فأي عاقل يرضى أن يقلد من لم يجزم بصدق نبي من الأنبياء البتة؟ وأنه لا فرق عنده بين نبوة محد صلى الله عليه وآله وبين نبوة مسيلمة الكذاب، فليحذر العاقل من اتباع أهل الأهواء والانقياد إلى طاعتهم ليبلغهم مرادهم ويربح (2) هو

(هامش)

(1) هو مسيلمة المتنبي الذي خرج في نجد وادعى النبوة وله أقاصيص مضحكة مع المرأة المدعية للنبوة مذكورة في كتب المجون والحكايات الظريفة الطريفة. (2) أي فليحذر العاقل أن يصير سببا لنيل أهل الأهواء بمرادهم، وهو يصير خاسرا بالخلود في النيران. ج 24 (*)

ص 385

الخسران بالخلود في النيران، ولا ينفعه عذره غدا في يوم الحساب إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: قد مر مرارا أن صدق الأنبياء مجزوم به جزما مأخوذا من المعجزة، وعدم جريان عادة الله تعالى على إجراء المعجزة على يد الكذابين، وأنه يجري مجرى المحال العادي، فنحن نجزم أن مسيلمة كذاب لعدم المعجزة، ونجزم أن الله تعالى لم يظهر المعجزة على يد الكذاب، ويفيدنا هذا الجزم العلم العادي، فالفرق بينه وبين الأنبياء ظاهر مستند إلى العلم العادي، لا إلى القبح العقلي الذي يدعيه. وما ذكره من الطامات والتنفير فهو الجرى على عادته في المزخرفات والترهات إنتهى . أقول: قد مر منا أيضا مرارا أن قاعدة جريان العادة مهدومة عن أسها (1)، ومع ذلك لا يجب جريانها، ولهذا يتعقبها الخارق من المعجزات وغيرها، فتجويز وقوع الخرق والتخلف فيها سيما مع ضم العلم بجواز صدور القبيح عن الله تعالى يمنع الجزم بصدق الأنبياء كما لا يخفى، وبالجملة أنهم لا ينكرون أنه يجوز على الله تعالى فعل ما هو قبيح في الشاهد، ولا يقبح بالنسبة إليه، فليجز أن يظهر المعجزة على يد الكاذب ولا يقبح بالنسبة إليه، وبعبارة أخرى إذا صح أن الله تعالى يفعل القبائح ولا يقبح منه، فلم لا يجوز أن ينصب الأدلة من المعجزات وغيرها على الباطل؟ ويكون الحق عكس ما تقتضيه الأدلة فلا تحصل الثقة بأن النبي الذي أظهر دلالة المعجزة صادق، وكذا لا تحصل الثقة بأن ما عليه المسلمون

(هامش)

(1) الاس من المثلثات: أصل الشيئ. (*)

ص 386

من الأدلة حق، ويقال لهم أليس قد ثبت أن مسيلمة الكذاب ادعي النبوة، وقال له أصحابه: صدقت في أنك نبي، أليس كلامهم هذا تصديقا له؟ فلا بد من بلى فيقال: إذا كان هذا التصديق من فعل الله تعالى وقد صدقة، فلم لا يقولون بصدقه؟ وما الفرق بينه وبين من يدعي النبوة فتنطق الأشجار والأحجار بصدقه، بأن يفعل الله فيه ذلك التصديق؟ فإن قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وآله قال: لا نبي بعدي (1)، قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون هذا من جملة الأكاذيب التي يفعلها الله في العباد ولا يقبح بالنسبة إليه، وحينئذ لم يكن محمد صلى الله عليه وآله أولى بالتصديق من مسيلمة، وقد صدقهما الله على حد واحد. قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم تكذيب الله تعالى في قوله: إن الله لا يحب الفساد (2)

(هامش)

(1) رواه ابن حجر في مجمع الزوائد (الجزء 8 ص 263 ط مصر) سعد أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة عام حجة الوداع: أيها الناس إنه لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم فذكر الحديث. في صحيح مسلم (الجزء 7 ص 120 ط مصر) بسنده المنتهي إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، ورواية أخرى عن سعد بن أبي وقاص، قال: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي وهذا الحديث الشريف مروي في كتب القوم بعدة أسانيد في صحاحهم وكتاب الخصائص للنسائي وكفاية الطالب ومنتهى السؤل وغيرها، وروي هذا المضمون بعبارات أخر. (2) البقرة. الآية 205. (*)

ص 387

ولا يرضى لعباده الكفر (1) وما الله يريد ظلما للعباد (2) وما ربك بظلام للعبيد (3) ولا يظلم ربك أحدا (4) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (5) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها (6) وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء (7) ومن يعتقد اعتقادا يلزم منه تكذيب القرآن العزيز فقد اعتقد ما يوجب الكفر وحصل الارتداد والخروج عن ملة الإسلام، فليتعوذ الجاهل والعاقل من هذه المقالة الردية المؤدية إلى أبلغ أنواع الضلالة، وليحذر من حضور الموت عنده وهو على هذه العقيدة، فلا تقبل توبته. وليخش من الموت قبل تفطنه بخطاء نفسه، فيطلب الرجعة، فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت فيقال له كلا (8) قال الناصب خفضه الله أقول: قد مر أن كل ما يقيمه من الدلائل هو إقامة الدليل في غير محل النزاع، فإن الأشاعرة مذهبهم المصرح به في سائر كتبهم: أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يرضى بالقبائح والإرادة غير الرضاء، وما ذكر من الآيات ليس حجة

(هامش)

(1) الزمر. الآية 7. (2) الغافر. الآية 21. (3) فصلت. الآية 46. (4) الكهف. الآية 49. (5) هود. الآية 117. (6) الاسراء. الآية 38. (7) الأعراف. الآية 28. (8) اقتباس من قوله. تعالى في سورة المؤمنون الآية 100 (*)

ص 388

عليهم، إنما هي حجة على من جوز الظلم على الله والرضاء بالكفر، وهذا الرجل أصم أطروش لا يسمع نداء المنادي وصور عند نفسه مذهبا وافترى أنه مذهب الأشاعرة، ويورد عليه الاعتراضات وليس أحد من المسلمين قائلا بأنه تعالى ظالم أو راض بالكفر تعالى عن ذلك، وما يزعم أنه يلزم هذا الأشاعرة فهو باطل، لأن الخلق غير الفعل، والعجب أنه لا يخاف أن يلقى الله تعالى بهذه العقيدة الباطلة التي هي إثبات الشركاء لله تعالى في الخلق، مثل المجوس (1)، وذلك

(هامش)

(1) قال الفيروزآبادي في القاموس: مجوس كصبور: رجل صغير الأذنين وضع دينا ودعى إليه معرب (ميج گوش) رجل مجوسي جمعه مجوس كيهودي ويهود، ومجسه تمجيسا: صيره مجوسيا فتمجس والنحلة: المجوسية إنتهى . أقول: في الحديث: كل مولود يولد على الفطرة أو فطرة الإسلام وأبواه يهودانه ويمجسانه. ثم اعلم أن الذي يظهر من كلام (نوفل) في كتابه المسمى بسوسنة سليمان (ص 7 ط بيروت) أن رجلا من هذه الطائفة يقال له: (زمردس) كان أخطاء إلى كورس ملك فارس الذي تولى المملكة سنة 560 قبل الميلاد، فقطع الملك المذكور أذنه قصاصا له، ثم بعد موت كورس تولى السلطنة زمردس المذكور ثمانية أشهر حين ما كان (احشويروش) ابن كورس يومئذ بعيدا في مصر، وهو الذى يدعى في الكتاب المقدس ارتحشتا (عزرا 704) وكان السبب في تولي زمردس المملكة أنه كان لكورس ابن آخر. يقال له زمردس أيضا. وقد قتل سرا، وكان زمردس هذا يشبهه في الصورة، فغش الشعب بأنه هو وملك باسمه على أنه هو، ثم لما ظهر للناس كذبه قتلوه وقتل معه كثير من قومه وسميت أصحابه بالمجوس معناه عندهم (فاقدوا الأذان) لكن أخيرا صارت هذه الكلمة علما لأهل هذه الملة إنتهى ما رمنا نقله . أقول: الذي يظهر من التتبع في كلمات المؤرخين: أن اسم المجوس حادث لهذه الطائفة اشتهرت به بعد هذا الرجل، وأنه كان يطلق عليهم قبله الزراتشتية، الفارسية، (*)

ص 389

المذهب أردى من مذهب المجوس بوجه، لأن المجوس لا يثبتون إلا شريكا

(هامش)

الآذرية، الخورية، اليزدانية، الاهرمانية، وغيرها، ولكل تسمية وجه، فالزراتشتية نسبة إلى زرتشت والفارسية إلى بلاد فارس، والآذرية إلى آذر بمعنى النار لتوجههم إليها، والخورية إلى خور أى الشمس، واليزدانية إلى يزدان أي النور لاعتقادهم به، والاهرمانية نسبة إلى اهرمان أي الظلمة لاعتقادهم بها. ثم إن المجوس تشعبت على شعب بعد ما كانوا على طريقة واحدة كالبابكية أتباع بابك ويقال لهم الحرمية كما في (فهرست ابن النديم ص 480 ط مصر)، والمزدكية أتباع مزدك القديم وهو الذي أمرهم بتناول اللذات والعكوف على الشهوات، وترك الاستبداد والاستقلال بعضهم على بعض، ولهم مشاركة في الحرم والأهل لا يمتنع الواحد منهم من حرمة الآخر ولا يمنعه، إلى غير ذلك مما نسبها إليهم ابن النديم في ص 479 من الفهرست. ثم ظهر مزدك الثاني ابن فيروز وقتله أنوشروان الملك وقتل أصحابه. ومن فرق المجوس الفريدونية أتباع فريدون الذي أحدث عبادات وأشاع طرقا، وتبعه خلق كثير. فوجه إليه أبو مسلم، شبيب بن داح وعبد الله بن سعيد فقتل، قال ابن النديم في الفهرست ص 483: وعلى مذهبه بخراسان جماعة إلى هذا الوقت. إزاحة وهم عد بعض المؤلفين المانوية أتباع ماني النقاش الرسام الشهير من المجوس والذي يظهر من ابن النديم خلافه وأنه أحدث طريقة خاصة وظن بعض المؤلفين تشعبها من النصارى، فراجع ص 456 من الفهرست. ثم اعلم أن ابن خلدون قسم المجوس إلى ثمان فرق: الكيومرثية، الرزوانية، الزرادشتية، الثنوية، المانوية، المزدكية، البيصانية، الفرقونية، وذكر الفروق بينها فراجع. وليعلم أن المجوس على تشعب فرقها اشتركت في الالتزام بمبدئين أحدهما النور وهو مبدء كل خير وحسن من الجواهر والأعراض والأفعال ويسمون ذلك النور اورمزد او يزدان . ثانيهما الظلمة وجعلوها مبدء كل شر وقبيح من الجواهر والأعراض والأفعال و(*)

ص 390

واحدا يسمونه أهرمن، وهؤلاء يثبتون شركاء لا تحصر ولا تحصى أنهم إذا قيل لهم:

(هامش)

يسمونها (أهرمن) أو (أهرمان)، وقالوا: إنهما متماثلان في الأزلية والقوة لكن بما أن بينهما معاندة ومنافرة كان الغالب (آورمرزد) متى كثرت الخيرات في العالم، و(أهرمن) متى كثرت الشرور. وقالوا لا بد أن يطلب الإنسان الخير لنفسه ولأحبابه من أورمزد والشر لأعدائه من أهرمن. قال نوفل أفندي في كتاب (سوسنة سليمان في أصول العقايد والأديان ص 5 ط بيروت) ما محصله: إنه لم يكن للمجوس هياكل سابقا، وكانوا يسجدون للشمس والنار على التلال أو بين الشجر تحت الجو، أما الشمس فلأنها على زعمهم مكن الله تعالى شأنه، وأما النار فلمشابهتها لها في الحرارة والنور، فأمرهم رجل من زعمائهم أن يبنوا الهياكل والمعابد لكيلا تصعب عليهم الصلاة والعبادة إنتهى . أقول: والمشهور إن المشرق جهة القبلة لهم، وعباداتهم وصلواتهم في أوقات طلوع الشمس وزوالها وغروبها. ومن مراسمهم وجود النار المقدسة التي يحفظونها دائما على مذابحهم مشتعلة وعند ما يسجدون للشمس في وقت شروقها ولا بد من وجود هذه النار أمامهم. ومن آدابهم أن الكهنة و(المؤبذان) لا يجوز لهما أن ينفخوا تلك النار بأفواههم. وما يستعملونه لها من الوقود لا بد وأن يكون حطبا نظيفا مقشورا وأن انطفأت وجب أن يجددوها من نار هيكل آخر لا من النار الاعتيادية. ولهم عيدان، وهما النيروز والمهرجان، الأول في الاعتدال الربيعي والثاني في الاعتدال الخريفي. قال في السوسنة ص 6: إن زرادشت قسم كتبه إلى ثلاثة أقسام: قسم منها في أخبار الأمم الماضية، وقسم في حوادث الزمن المستقبل، وقسم في النواميس والشرايع، وهي تحتوي على أمور كثيرة أخذها من كتب اليهود مثل العشور للكهنة، والحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة. ثم إن في أمر زرادشت وحاله اختلافا عظيما، قال عدة من كتبة الإفرنج وغيرهم: أن زرادشت المذكور كان تلميذ الدانيال النبي عليه السلام، وإنه كان يؤلف كتبه في مغارة (*)

ص 391

(هامش)

ويسميها كتب إبراهيم الخليل عليه السلام، ولكن عرفت عند غيره بكتب زند ، وقال ابن خلدون المغربي: إن بعض أهل الكتاب يقولون: إن زرادشت كان خادما لارمياء النبي عليه السلام وأما علماء المجوس فيقولون: إن زرادشت من نسل منوچهر وهو نبي بعث من الله إلى العباد، وقال بعضهم: أنه مرسل من قبل بعض أنبياء بني إسرائيل: ومن المؤرخين والكتاب من جعل وجوده موهوما صرفا. ومنهم من جعله إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وأيد دعواه بأمور منها تسمية كتبه بكتب إبراهيم عليه السلام، ومنها تسمية عم إبراهيم عليه السلام (بآذر) إلى غير ذلك من الوجوه الباردة التي هي أو هي من كل واه. والذي يظهر بعد التأمل الصادق والتتبع التام في كتب الملل والنحل وكلمات المؤرخين: إن زرادشت رجل من بلاد فارس وأنه ادعى النبوة، ولم يكن نبيا قطعا، وكان متنبيا كسائر المتنبيين، وما ذكره بعض فقهائنا من كون المجوس أهل كتاب وإن زرادشت نبيهم، ناش من السير في الليلة الظلماء بين الصخور والجنادل الصم، ويتلوه من عبر بأن للمجوس شبهة كتاب. وليعلم أن عدة كتب لدى المجوس يعظمونها في الغاية. منها وهو أشهرها كتاب آوستا ويعبر عنه وستا و تستا أيضا ينسبونه إلى زرادشت، رتبه على أبواب وفصول: أوله (فرامون شت) وذلك الفصل محتو على 6 جملات: منها خشنوتره اهورهه مزدا أي أحمد وأثنى اورمزد واسره بحمدي له. منها اشم وهى وهشتم استى اشتا استى فانه خير نعمة وسعادة إلى آخرها، ونقلناها عن كتاب اوستا الذى طبع ببلدة بمبئى باهتمام (المؤبد تيرانداز ابن المؤبد اردشير) الفارسي المقيم بالهند. ومن كتبهم التى وقفت عليه كتاب زند في تفسير اوستا. ومنها كتاب پازند ومنها كتاب جاماسب نامه وينسبونه إلى جاماست الحكيم المدفون قريبا من بلدة (*)

ص 392

(هامش)

(خفر) من بلاد شيراز. ومنها كتاب صد ويك نام في الأسماء التى تطلق عندهم عليه تعالى كايزد أي الحقيق بالعبادة و هروسپ داه أي عالم الأسرار و هروسپ خدا أي خالق الكل. و هروسپ توان أي القادر على الكل، و ختهنه أي الذي مال الكل إليه وهكذا، ومن كتبهم التي وقفت عليها: كتاب پيك مزديسنان تأليف دين شاه جى جى باها الايراني نزيل الهند. وكتاب مينوخرد وكتاب أندرز نامه تأليف بزرگمهر البيارى. وكتاب تعليمات زرتشت رأيت ترجمته بقلم رشيد شهمردان المجوسي. وكتاب دساتير زردشت وهو كتاب حاو لا كثر مراسمهم ومعتقداتهم. وكتاب دساتير المؤبد هوش خليفة المؤبد كيخسرو اسفنديار. وكتاب درويش فاني واسمه مانكچى ليمچى هوشنك هاتريا. وكتاب ملا فيروز بن ملا كاوس في البحث عن سنة الكبيسة عند المجوس إلى غير ذلك من كتبهم التي طالعتها ووقفت عليها. ولهم مراسم وأعياد، وتحكى عن دفن أمواتهم قصص وشئن لامجال لذكرها (إزالة وهم) إن صاحب كتاب دبستان المذاهب ذكر المجوس في أول كتابه وأطرى في الثناء عليهم وذكر محامدهم فلا يغرنك كلامه فإني ظنين في حق الرجل وأراه ممن أظهر الإسلام وادخل نفسه في زمرتهم لمقاصد سوء، ومن العجب من بعض أعلام المحققين المتأخرين من تلاميذ شيخنا العلامة الأنصاري قده حيث اعتمد واستند على هذا الكتاب، ونقل عنه في مبحث حجية الظواهر بعض الكلمات الراجعة إلى التحريف. تنبيه لا يخفى عليك أن المجوس تعبر عن نبيها زرتشت والمؤرخون وأرباب كتب الملل والنحل يعبرون زردشت أو (زرادشت) والمراد بالكل واحد. فلا تظنن التغاير، وقد عرفت أن المسمى بها رجل تنبئ في زمن كيقباد أو قبله أو بعده على اختلاف الكلمات هذا ، واعتذر من القراء الكرام حيث أطنبنا الكلام في هذا المضمار، وما ذلك لأن بنائي في هذا الكتاب أن يكون مغنيا عن المراجعة إلى أنواع الكتب في كل موضوع، وكل ذلك من باب الخدمة لأهل العلم وذوي الفطن بخلوص النية وصفاء الطوية عصمنا الله من الهفوة والزلل وبه الاعتصام. (*)

ص 393

لا إله إلا الله يستكبرون (1). أقول: نعم الأشاعرة يقولون: إنه تعالى لا يفعل القبيح، لكن بمعنى أن ما هو قبيح في الشاهد ليس قبيحا بالنسبة إليه تعالى، وليس في هذا نفي صدور القبيح عنه تعالى بحسب الحقيقة، بل بمجرد اللفظ والعبارة، فلا يكون الكلام فيه خارجا عن محل النزاع. وأما الفرق بين الإرادة والرضا فقد مر أنه غير مرضي. وأما ما ذكره من أن الآيات إنما هي حجة على من جوز الظلم على الله، وأشار به إلى أن الأشاعرة لا يجوزون ذلك عليه، ففيه أن عدم تجويزهم للظلم عليه إنما هو بمعنى أن ما نراه ظلما في الشاهد ليس بظلم إذا صدر عنه تعالى، بل يقولون: هو ليس بظلم في نفسه قبل النهي، وإنما صار كذلك بالشرع وبعد وروده، فكل ما صدر عنه أو أمر به ليس بظلم، وهذا سفسطة ظاهرة كما مر مرارا. وأما ما ذكره في دفع لزوم ما ألزمه المصنف على الأشاعرة بأن الخلق غير الفعل فهو دعوى كاذبة ذكرها شارح العقائد (2) في دفع تمسك المعتزلة: بأنه لو كان تعالى خالقا لأفعال العباد لكان هو القائم والقاعد والآكل والشارب والزاني والسارق إلى غير ذلك، حيث دفعه بأن ذلك جهل عظيم، لأن المتصف بالشيئ من قام به ذلك الشيئ لا من أوجده، أولا يرون أن الله تعالى هو الخالق للسواد والبياض وسائر الصفات في الأجسام ولا يتصف بذلك إنتهى . وفيه أن حكمه بالجهل جهالة عظيمة، لأن القيام قد يكون بمعنى الحصول والصدور من الشيئ كما في اسم الفاعل من الضارب والآكل ونحوهما،

(هامش)

(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة الصافات. الآية 35. (2) المراد به المحقق التفتازاني شارح عقائد النسفي وقد مرت ترجمتهما. (*)

ص 394

وقد يكون بمعنى الوقوع على الشيئ وعروضه له، فبالمعنى الأول يتصف الفاعل بصدور الفعل عنه لأنه الفاعل حقيقة سواء كان صانعا أو مصنوعا، لأن الضارب مثلا من صدر عنه الضرب، فإذا صدر الضرب عن الله تعالى يلزم صحة إطلاق الضارب عليه واتصافه بالضاربية. وأما ما زعمه: من أن ذلك يستلزم كون خالق السواد أسود مع أنه لا يقال له ذلك، فخلط واشتباه (1) وقع له من اشتراك لفظ الفاعل بين الفاعل الكلامي الذي نحن فيه أعني الموجد وبين الفاعل النحوي أعني المسند إليه، ووضع أحدهما مكان الآخر، لأن الأسود (2) في قولنا: أسود زيد مفعول كلامي لا فاعل كلامي بمعنى خالق السواد، والذي يقتضي مقايسته مع الضارب والآكل اتصافه فيما نحن فيه بكونه أسود هو الفاعل النحوي الذي هو مفعول كلامي كزيد في المثال المذكور دون الفاعل الكلامي (3)، فلا يلزم من كون فاعل الضرب ضاربا ومتصفا به كون فاعل السواد أسود ومتصفا به كما زعمه، بل فاعل السواد هو المسود، فإذا كان السواد صادرا من الله تعالى واقعا على زيد فالله تعالى مسود زيد لا أسود، غاية ما في الباب أن عدم إطلاقه عليه تعالى لعدم الإذن الشرعي، لا لأنه ليس بمسود حقيقة كما يظهر من كلامه.

(هامش)

(1) حاصل اشتباهه أن الفاعل في قولنا: أسود زيد هو زيد، فلو كان اتصافه بكونه أسود لأجل الفاعلية لوجب اتصاف الله تعالى أيضا بكونه أسود على تقدير القول: بكونه فاعلا خالقا للسواد: ووجه الدفع ظاهر مما ذكرناه منه قده . (2) المراد بالأسود هو زيد، أطلق عليه هذا اللفظ باعتبار استناد السواد إليه وقيامه به. (3) كذاته سبحانه أو كالشمس إذا أثر في لونه أو بعض الناس إذا ضد بدن زيد بلون أسود منه قده . (*)

ص 395

لا يقال: إن الزاني مثلا هو المصدر (1) المتصف بالمصدر والله تعالى مصدر وغير متصف به، لأنا نقول عدم صحة اتصافه تعالى بالزنا إنما هو لدلالة العقل والشرع على استحالته عليه، والكلام في إثباته بحسب اقتضاء اللغة وهو لازم بحسبه كما لا يخفى، وأيضا يلزم على هذا أن لا يوجد زان أصلا، أما عدم كون الزاني هو الله تعالى فلما ذكرت أنه مصدر غير متصف به، وأما أنه ليس هو العبد فلأنه ليس بمصدر بمعنى الخلق عندكم، وكونه مصدرا بمعنى الكسب لم يثبت بعد ودون إثباته خرط القتاد. وأما قوله: المجوس لا يثبتون إلا شريكا واحدا وهؤلاء يثبتون شركاء لا تحصى، ففيه: أن الأشاعرة لو ارتقوا إلى السماء لما أمكن لهم الخلاص عما مر: من لزوم مشاركتهم للنصارى في إثبات الشركاء القدماء ولا يمكنهم معارضة ذلك بإلزامنا بشيئ من الشركاء، وذلك لظهور أنه إنما يلزمنا مشاركة المجوس فيما ذكره لو قلنا: إن الشيطان نفسه أو سائر العباد أنفسهم ليسوا مخلوقين لله تعالى وقلنا: إنهم متصرفون مع الباري سبحانه تصرف مقاهرة ومغالبة ونحن لا نقول بشيئ من ذلك، بل عندنا أن إبليس كسائر شياطين الإنس والجن لا يتمكن من الصالحين من الأنبياء وغيرهم مع ضعفهم، فكيف بجبار السماوات والأرضين؟! وقد قال تعالى: إن كيد الشيطان كان ضعيفا (2)، وقال: خلق الإنسان ضعيفا (3)، لكن لما كان التكليف ينافيه الجبر خلى الباري تعالى بين الإنسان وشيطانه ليميز (4) الخبيث كالناصب وأضرابه من الطيب، وقد نطق بذلك القرآن

(هامش)

(1) اسم فاعل من الاصدار على زنة مكرم وقوله بالمصدر عقيب ذلك مصدر ميمي على زنة مقتل. (2) النساء. الآية 76. (3) النساء. الآية 28. (4) متخذ من قوله تعالى في سورة الأنفال الآية 37 ليميز الله الخبيث من الطيب. (*)

ص 396

في قوله تعالى: لاحتنكن ذريته إلا قليلا (1)، وقوله: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين (2)، وقوله: ولقد أضل منكم جبلا كثيرا (3) وأمثال ذلك، وكذا الكلام في تخلية سائر العباد بينهم وبين أفعالهم، وبالجملة إنما يلزم مشاركة غيره تعالى معه في الفاعلية أو عجزه ومغلوبيته عنهم كما قد يتوهم لو لم يقدر الله سبحانه على سلب القدرة والاختيار عنهم بقدرته ومشيته القاهرة، أما لو قلنا: بأنه تعالى قادر على ذلك، وأنه لم تكن كراهته تعالى لإيجاد العباد تلك الأفعال على سبيل الجبر بل كان بسبب نهيه إياهم من إيقاعها على سبيل الاختيار فلا يلزم المشاركة ولا المغلوبية، وقد قال تعالى: ولو شاء الله لهديكم أجمعين (4)، ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها (5)، أي على سبيل الجبر والقهر، ولكن ذلك ينافي التكليف المنوط بالاختيار، والملخص أن المشاركة أو العجز والمغلوبية إنما يلزم إذا تخلف مراده تعالى عن المشية القطعية التي يسميها أهل العدل مشية قسر وإلجاء (6)، وهم لا يقولون بالتخلف عنها. وأما المشية التفويضية فلا عجز في التخلف عنها، مثل أن تقول لعبدك: أريد منك كذا ولا أجبرك، وإرادة طاعة العاصي من قبيل الثاني عندهم فلا إشكال، وأيضا المجوس قالوا بأصلين: أحدهما فاعل الخير وهو، يزدان، المعبر عنه

(هامش)

(1) الاسراء. الآية 62. (2) ص. الآية 82. (3) يس. الآية 62. (4) الأنعام. الآية 149. (5) السجدة. الآية 13. (6) اصطلح المتكلمون من أصحابنا على تسمية هذا النوع من الإرادة بمشية القسر والحزم والبت والالجاء وتبعوا في ذلك التعابير الواردة في أخبار ساداتنا الأئمة الميامين، وقد أورد بعضها ثقة الإسلام الكليني في أصول الكافي فليراجع. (*)

ص 397

تارة بالنور، وآخر فاعل الشر وهو، أهرمن (1)، المعبر عنه تارة بالظلمة، وأهل العدل لا يقولون إلا بأصل واحد هو الله سبحانه، وقدرة العبد ليست أصلا بل فرعا لقدرة الله تعالى، مع أن قدرة العبد ليست فاعلة للشرور فقط بل لكل من الخير والشر الصادر عنه، فلا مناسبة بين القولين عند التحقيق، وإنما يظهر حقيقة المناسبة بين قول المجوس وقول المجبرة، وذلك من وجوه، منها أن المجوس قائلون بأصلين: أحدهما فاعل الخير والآخر فاعل الشر كما مر، وليس للعباد عندهم فعل أصلا كما عند الأشاعرة، فهم أحق بمشابهة المجوس، ومنها أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية (2) معلومة البطلان وكذلك المجبرة الناصبة، ومنها أن مذهب المجوس أن الله تعالى يفعل فعلا ثم يتبرء منه كما خلق إبليس ثم تبرأ منه وتنفر عنه، وكذلك المجبرة قالوا: إنه تعالى يفعل القبايح ثم يتبرء منها، ومنها أن المجوس يقولون (3): إن نكاح الأخوات والأمهات بقضاء الله وقدره وإرادته ووافقهم

(هامش)

(1) قال المتأله السبزواري في منظومته: والشر اعدام فكم قد ضل من يقول باليزدان ثم الاهرمن. وقد مر تفصيل مقالة المجوس وما يتعلق بهم وسرد أسماء بعض كتبهم الدينية. (2) وقد مر تفصيل ذلك في التعاليق السابقة ونقلنا هناك عن كتبهم الدينية وعن غيرها ما يزيح العلة فراجع (3) نص على ذلك نوفل أفندي في كتابه (سوسنة سليمان ص 6 ط بيروت) وقال ما لفظه ومنها إجازته أي زعيم المجوس للانسان أن يتزوج ببنته وأخته أو أمه، وإن الذي يتزوج بأمه تكون أولاده أقدس من غيرهم، ولكن لما أخذ اسكندر المكدوني سلطة فارس أبطل هذه العادة الوحشية إنتهى . وقال ابن النديم في الفهرست (ص 479 ط مصر) ما لفظه: ولهم مشاركة في الأهل والحرم، لا يمتنع الواحد منهم من حرمة الآخر ولا يمنعه إنتهى . (*)

ص 398

المجبرة حيث قالوا: (1) إن نكاح المجوس لأخواتهم وأمهاتهم بقضاء الله وقدره وإرادته، ومنها أن المجوس قالوا: إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس، والمجبرة قالوا: إن القدرة موجبة للفعل غير متقدمة (2) عليه،

(هامش)

(1) إسناد المقالة إليهم باعتبار أنها لازم مبناهم من إسناد أفعال العباد طرا إلى القضاء والقدر ومن التزم بالملزوم لا محيص له من الالتزام بلوازمه. (2) قال الشريف الجرجاني في الجزء الثاني من شرح المواقف للإيجي (ص 99 ط الاستانة) مازجا بكلام المتن، قال الشيخ وأصحابه: القدرة الحادثة أي قدرة العبد مع الفعل أي أنها توجد حال حدوث الفعل وتتعلق به في هذه الحالة ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلقها به، إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل بل يمتنع وجوده فيه، وإلا أي وإن لم يمتنع وجوده قبله بل أمكن فلنفرض وجوده فيه فهي أي فالحالة التي فرضناها إنها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك بل هي حال الفعل وهذا خلف محال لأن كون المتقدم على الفعل مقارنا له يستلزم اجتماع النقيضين أعني كونه متقدما وغير متقدم فقد لزم من وجود الفعل قبله محال فلا يكون ممكنا إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ، ولا شك أن وجود القدرة بعد الفعل مما لا يتصور، فتعين أن تكون موجودة معه وهو المطلوب (الخ). ثم أورد عليه بما حاصله أن المراد من حصول الفعل قبل الفعل وجود الفعل في زمان فرض خلو ذلك الزمان عن عدم الفعل ويفرض وقوع الفعل فيه بدله وإنه غير محال في نفسه ولا يستلزم محالا أيضا، فيجوز تعلق القدرة به قبل حدوثه على هذا الوجه إلى آخر ما قال. ثم تعرض لمقالة المعتزلة من الالتزام بكون القدرة قبل الفعل مع بقائها حال وجود الفعل كما عليه أكثرهم أو انتفائها حاله كما عليه بعضهم، كما أنهم جوزوا انتفاء الفعل حال وجود القدرة، وصرح بمقالة الأشاعرة وعدم تقدم القدرة وكونها موجبة أكثرهم كشارح العقائد النسفية وشارح المقاصد والقوشجي في شرحه والمولى الفناري في عقايده والفاضل الچلبي في تعليقته على شرح المواقف وغيرهم في غير هذه الكتب. ثم إن في مسألة القدرة الحادثة مباحث عديدة كتعريفها وطرق إثباتها وككونها مؤثرة (*)

ص 399

فالانسان القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس، ومنها أن المجوس يعلقون هذه الأحكام من مدح وذم وأمر ونهي بما لا يعقل وهو طبع النور والظلمة، والناصبة علقوا ذلك بما لا يعقل وهو الكسب (1) هذا جزاؤهم بما كسبوا ونصبوا،

(هامش)

أو غير مؤثرة وإنها في الإنسان عبارة عن سلامة البنية عن الآفات وليست بصفة زائدة عليها كما حكى هذه المقالة عن بشر بن المعتمر، أو زائدة. ومن مباحثها أن الممنوع من الفعل هل هو قادر على الفعل حال كونه ممنوعا أوليس بقادر؟ وإن العجز هل هو عرض موجود مضاد للقدرة أو لا؟ وإن المقدور هل هو تابع للعلم أو للإرادة؟ وإن النوم وأخواته هل هو ضد للقدرة؟ فلا يكون فعل النائم مقدورا أو غير مقدور، وإن القدرة مغايرة للمزاج إلى غير ذلك من الأمور، ولعلنا نتعرض لها في محالها المناسبة لها إن شاء الله تعالى. واعتذر من القراء الكرام حيث أطلنا الكلام وما ذلك إلا لمزيد الخبرة لأرباب البصيرة والنظر عصمنا الله من الزلل، آمين آمين. (1) قال في شرح المواقف (ج 2 ص 95 ط آستانة) القدرة الحادثة على رأينا معاشر الأشاعرة لا تؤثر في فعل أصلا وليست مبدءا لأثر قطعا وإن كان لها عندنا تعلق بالفعل يسمى ذلك التعلق (كسبا) إلى آخر ما قال. وقال بعضهم إن أصحابنا أسندوا أفعال العباد بأسرها إليه تعالى وذهبوا إلى وقوعها بقدرته تعال وحده، وقالوا: إنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنه يوجد في العبد قدرة فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد الخ . والكسب ليس له معنى محصل فتراهم مضطر بين في تفسيره، فالذي يظهر من شرح المواقف وكلام المولى علي القوشجي: أن المراد به مجرد المقارنة الواقعة بين القدرة الحادثة للعبد وبين فعله بدون تأثير تلك القدرة فيه، بل كلاهما مخلوقان لله تعالى وليت شعري فما الجدوى في اختراع الكسب إذا لم تكن للقدرة الحادثة للعبد دخل في فعله ولا تأثير لها فيه، بل الفعل مخلوق لله تعالى، إذ لا تدفع بالالتزام بهذا المخترع شناعة الجبر والجور وعدم الفرق بين أفعال العبد الاختيارية وبين أفعاله (*)

ص 400

(هامش)

الاضطرارية القسرية، إذ مجرد مقارنة القدرة الحادثة بفعل العبد بدون التأثير هل هو إلا بلا طائل ونقش على الماء وضرب اللبنة في البحر. ونقل في شرح المقاصد عن إمامهم الرازي أنه قال: الكسب صفة تحصل بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله تعالى فاصل الفعل بقدرة الله وخصوصية الوصف بقدرة العبد وهي المسماة بالكسب إلى آخر ما قال. ونقل في (سواء السبيل ص 228 ط هند) عن الغزالي صاحب الاحياء ما لفظه: إن الافعال مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالاكتساب إنتهى إلى غير ذلك من كلمات أعيانهم ومشاهيرهم المصرحة باختراع الكسب وابتداعه وأنت أيها القارئ الكريم أحطت خبرا بمقالاتهم في باب الكسب فراجع إلى الانصاف فإنه نعم الحكم في الباب. فهل ترى فائدة في هذا التمحل المستغنى عنه الذي يعد لغوا في نظر العقل السليم الفطري الذي يعبر عنه بالرسول الباطني وهو الذي فطر الله الخلق عليه وبه يثابون وبه يعاقبون. وأنشدك برب الراقصات، وداحي المدحوات، هل تدفع بالالتزام بالكسب شناعة الجبر والظلم؟! تعالى ربنا وتقدس عن ذلك علوا كبيرا. ثم إن أبا بكر القاضي الباقلاني عبر عن الكسب بتعبير آخر فراجع كتابه الذي سماه بالانصاف، وكان جديرا بالتسمية بالمكابرة والاعتساف. وقال سيدنا الشريف المرتضى علم الهدى الموسوي في كتابه (العيون والمحاسن) في الفصل الثلاثين ما لفظه: سمعت الشيخ أبا عبد الله (أي المفيد) أدام الله عزه يقول ثلاثة أشياء قد اجتهد المتكلمون في تحصيل معناها عن معتقدها بكل حيلة فلم يظفروا منهم إلا بعبارات تناقض المعنى منها على مفهوم الكلام. اتحاد النصرانية وكسب النجارية وأحوال البهشمية قال الشيخ أدام الله عزه ومن ارتاب بما ذكرنا في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى واحد منها معقول الفرق بينها في التناقض والفساد ليعلم أن ما حكمنا به هو الصواب وهيهات إلى آخر ما أفاد. وخلاصة الكلام أن القوم لم يأتوا في الالتزام بالكسب بما له محصل تدفع به شناعة الجبر (*)

ص 401

والحمد لله رب العالمين. قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم عدم الوثوق بوعده ووعيده، لأنه لو جاز منه فعل القبيح لجاز منه الكذب، وحينئذ ينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، ولا يبقى للعبد جزم بصدقه، بل ولا ظن به، لأنه لما وقع منه أنواع الكذب والشرور في العالم كيف يحكم العقل بصدقه في الوعد والوعيد؟! وتنتفي حينئذ فائدة التكليف وهو (خ ل هي) الحذر من العقاب والطمع في الثواب، ومن يجوز لنفسه أن يقلد من يعتقد جواز الكذب على الله تعالى وأنه لا جزم بالبعث والنشور ولا بالحساب والثواب ولا بالعقاب؟ وهل هذا إلا خروج عن الملة الإسلامية؟! فليحذر الجاهل من تقليد هؤلاء ولا يعتذر بأني ما عرفت مذهبهم، فهذا هو عين مذهبهم وصريح مقالتهم نعوذ بالله منها ومن أمثالها. ومنها أنه يلزم نسبة المطيع إلى السفه والحمق، ونسبة العاصي إلى الحكمة والكياسة والعمل بمقتضى العقل بل كلما ازداد المطيع في طاعته وزهده ورفضه الأمور الدنيوية والاقبال على الله تعالى بالكلية والانقياد إلى امتثال أوامره واجتناب مناهيه نسب إلى زيادة الجهل والحمق والسفه، وكلما ازداد العاصي في عصيانه ولج في غيه وطغيانه وأسرف في ارتكاب الملاهي المحرمة واستعمال

(هامش)

ومحاذيره ويصان عن اللغو، هذه كتبهم بمرئى ومسمع منك فراجعها. وقد سئلت عن العلامة السيد إبراهيم الراوي البغدادي من علمائهم الأعيان وعن غيره سؤال منقب باحث فلم أفز بجواب يروي الغليل ويبري العليل: عصمنا الله وحرسنا من هواجس الأوهام وزلات الأحلام والأقلام، آمين آمين. وستأتي منا في المباحث الآتية فوائد حول هذه المسألة فانتظر والصبر مفتاح الفرج. (*)

ص 402

الملاذ المزجور عنها بالشرع نسب إلى العقل والأخذ بالحزم، لأن الأفعال القبيحة إذا كانت مستندة إليه جاز أن يعاقب المطيع لطاعته ولا تفيده طاعته إلا الخسران والتعب حيث جاز أن يعاقبه على امتثال أمره، ويحصل في الآخرة بالعذاب الأليم السرمد (1) والعقاب المؤبد، وجاز أن يثيب العاصي فيحصل بالربح في الدارين ويتخلص من المشقة في المنزلين، ومنها أنه تعالى كلف المحال لأن الآثار كلها مستندة إليه تعالى، ولا تأثير لقدرة العبد ألبتة فجميع الأفعال غير مقدورة للعبد وقد كلف ببعضها فيكون قد كلف ما لا يطاق، وجوزوا بهذه الاعتبار وباعتبار وقوع القبيح منه تعالى أن يكلف الله تعالى العبد أن يخلق مثله تعالى ومثل نفسه، وأن يعيد الموتى في الدنيا كآدم ونوح وغيرهما، وأن يبلع جبل أبي قبيس دفعة، ويشرب ماء دجلة في جرعة، وأنه متى لم يفعل ذلك عذبه بأنواع العذاب، فلينظر العاقل في نفسه هل يجوز له أن ينسب ربه تبارك وتعالى وتقدس إلى مثل هذه التكاليف الممتنعة؟ وهل ينسب ظالم منا إلى مثل هذا الظلم؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومنها أنه يلزم منه عدم العلم بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام، لأن دليل النبوة هو أن الله فعل المعجزة عقيب الدعوى لأجل التصديق (2)، وكل من صدقة الله تعالى هو صادق، فإذا صدر القبيح منه لم يتم الدليل، أما الصغرى فجاز أن يخلق المعجزة للاغواء والاضلال، وأما الكبرى فلجواز أن يصدق المبطل في دعواه. ومنها أن القبائح لو صدرت عنه لوجب الاستعاذة منه لأنه حينئذ أضر على البشر من إبليس لعنه الله، وكان واجبا على قولهم أن يقول المتعوذ: أعوذ بالشيطان الرجيم من الله تعالى، وهل يرضى عاقل لنفسه المصير

(هامش)

(1) قد مر المراد بالسرمد. (2) والمراد من التصديق إسناد الصدق إليه فإن هيئة التفعيل قد يراد منه النسبة كالتفسيق والتكفير. (*)

ص 403

إلى مقالة تؤدي إلى التعوذ من أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وتخليص إبليس من اللعن والبعد والطرد؟ نعوذ بالله من اعتقاد المبطلين والدخول في زمرة الضالين ولنقتصر في هذا المختصر على هذا القدر إنتهى . قال الناصب خفضه الله أقول: قد عرفت فيما سبق مذهب الأشاعرة في عدم صدور القبيح من الله تعالى، وأن إجماع المليين منعقد على أنه تعالى لا يفعل القبيح، فكل ما أقامه من الدلائل قد ذكرنا أنه إقامة الدليل في غير محل النزاع، فإن المدعى شيئ واحد وهم يسندونه بالقبح العقلي (إلى القبح العقلي ظ)، والأشاعرة يسندونه إلى أنه لا قبيح منه ولا واجب عليه. ثم إن المعتزلة لو أرادوا من نسبة فعل القبيح إليه تعالى أنه يخلق القبائح من أفعال العباد على رأي الأشاعرة فهذا شيئ يلزمهم، لأن القبائح من الأشياء كما تكون في الأعراض كالأفعال تكون في الجواهر والذوات، فالخنزير قبيح والعقرب والحية والحشرات قبائح وهم متفقون أن الله تعالى يخلقهم، فكل ما يلزم الأشاعرة يلزمهم في خلق القبايح الجوهرية. وإن أرادوا أنه يفعل القبائح فإن هذا شيئ لم يلزم من كلامهم ولا هو معتقدهم كما صرحنا به مرارا. إنتهى . أقول: قد بينا آنفا أن قول الأشاعرة: بعدم صدور القبيح من الأسماء التي لا مسمى لها والخيالات التي ليس لها حقيقة، فهم ليسوا داخلين في إجماع المليين في الحقيقة، وأما ما ذكره من أنهم لو أرادوا من نسبة فعل القبيح إليه تعالى أنه يخلق القبائح من أفعال العباد على رأي الأشاعرة فهذا شيئ يلزمهم الخ . ففيه اشتباه ظاهر وحاشا أن يلزم أهل العدل مثل ذلك، لأن مرادهم بالشرور

ص 404

والقبائح التي لا يفعلها الله تعالى ما يكون مفاسده في نظام الوجود أكثر من مصالحه عند العقل، وما هو محل النزاع من القبائح والمفاسد الصادرة من العباد كالزنا واللواطة والسرقة ونحوها مما لا يجد العقل السليم فيها فائدة ونفعا أصلا في حفظ النظام، ولو كانت فيها مصلحة فهي أقل من مفاسدها، بخلاف ما قد يستقبحه العقل في بادي النظر من أفعاله تعالى، فإنه إذا تأمل فيها العاقل ربما يطلع على ما فيها من حكم ومصالح لا تحصى، فيعود الاستقباح في نظره استحسانا كما في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام من خرق السفينة وقتل الغلام، وكما في تعذيب الإنسان ولده أو عبده للتأديب والزجر عن المنكرات، وإليه أشار تعالى بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون (1)، وبه يتبين حسن خلق الحشرات والسباع الموذيات وإبليس وذريته وتبعته (خ ل تبقيته ظ) وإماتة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأما ما ذكره بعض متصوفة أهل السنة موافقا لبعض المتفلسفة: من أن الشهوة مثلا من حيث إنها ظل المحبة الذاتية السارية في الوجود محمودة عدمها وهو العنة مذمومة من حيث إنها ليست سبب بقاء النوع، ومن حيث إنها موجبة للذة التي هي نوع من التجليات الجمالية أيضا محمودة، وعند وقوعها على غير موجب الشرع مذمومة، لكونها سببا لانقطاع النسل وموجبا للفتن العائدة إلى العدم، وهكذا جميع صور المرام، فالكل منه وإليه من حيث الكمال إنتهى . فلا يخفى ما فيه من ترويج سوق الزنا ومخالفته لبديهة العقل ولما عليه الشرع وذووه (2). واعلم أيدك الله أن جناية المجبرة على الإسلام كثيرة، وبليتها على الأمة عظيمة بحملهم المعاصي على الله تعالى، وقولهم:

(هامش)

(1) البقرة. الآية 22. (2) قد وردت إضافة جمع ذي مع كونه من أسماء الستة إلى الضمير في النظم والنثر ومنه قول الشاعر: إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه. (*)

ص 405

إنه لا يكون إلا ما أراده الله وأنه لا قدرة للكافر على الخلاص من كفره، ولا سبيل للفاسق إلى ترك فسقه، وأن الله تعالى قضى بالمعاصي على قوم وخلقهم لها وفعلها فيهم ليعاقبهم عليها، وقضى بالطاعات على قوم وخلقهم لها وفعلها فيهم ليثيبهم عليها، وهذا الاعتقاد القبيح يسقط عن المكلف الحرص على الطاعة والاجتهاد في الانزجار عن المعصية، لأنه يرى أن اجتهاده لا ينفع، وحرصه لا يغني، بل لا اجتهاد له في الحقيقة، ولا حرص، لأنه مفعول فيه غير فاعل، وموجد فيه غير موجد، ومخلوق لشيئ لا محيد (1) له عنه، ومسوق إلى أمر لا انفصال له منه، فأي خوف مع هذا يقع؟ وأي وعيد معه ينفع؟ نعوذ بالله مما يقولون ونتبرء مما يعتقدون، ونعم ما أنشد بعض أهل العدل إشارة إلى ما اعتقده هؤلاء خذلهم الله تعالى، شعر: سألت المخنث عن فعله * علام (2) تخنثت يا ماذق (3) فقال: ابتلاني بداء (4) العضال * وأسلمني (5) القدر السابق ولمت الزناة على فعلهم * فقالوا بهذا قضى الخالق وقلت: لآكل مال اليتيم: * أكلت وأنت امرؤ فاسق فقال: ولجلج (6) في قوله * أكلت وأطعمني الرازق وكل يحيل على ربه * وما فيهم واحد صادق

(هامش)

(1) حاد حيدا وحيدانا ومحيدا: مال عن الطريق وعدل، وفى بعض النسخ المخطوطة لا محيص له عنه . (2) علام: في الأصل على ما. وشاع حذف ألف ماء الاستفهامية إذا دخلتها حروف الجارة (3) مذق الود: شابه بكدر ولم يخلصه. (4) داء عضال بضم العين: أي داء معي غالب. (5) أسلم: إذا لدغته الحية. (6) لجلج، تردد في الكلام. (*)

ص 406

ولنختم هذا المقام بمحاكمة يحكم بحسنها العاقل المتصف بالانصاف، وهو أن نقول: إن أراد الأشاعرة بقولهم: إنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، أنه علة قريبة لجميع الموجودات بأن يكون مؤثرا فيها لا بواسطة شيئ آخر، فهو بعيد عن الصواب، وخروج عن الملة الإسلامية، وإسناد للقبائح والشرور إليه تعالى، وكل ذلك مستلزم للمحال، ونقول للمعتزلة: إن أرادوا بكون العبد موجدا لفعله، أنه علة تامة لوجود أثره وانقطاع تأثير الله البتة سواء كان بواسطة أو بلا واسطة فهذا أيضا بعيد عن الصواب، لأن فعل العبد بالضرورة متوقف على قدرته وآلاته، وبالضرورة ليستا منه، فلا يكون هو علة تامة في وجود أثره، ثم نقول: علة العلة هل هي علة بالحقيقة أم لا؟ فإن كان علة العلة علة حقيقة كان الجميع مستندا إلى الله تعالى، لكن الأمر ليس كذلك، بل علة العلة علة على سبيل المجاز لوجوب استناد الأثر إلى المباشر القريب، ولما كان العبد مباشرا قريبا لفعله أسندت أفعاله الواقعة بحسب قصده إليه لأنه السبب في جودها، مثال ذلك: أن النحل موجد للعسل، ولا يقال: إن النحل موجد للحلاوة في الذائقة بل الموجد لها هو العسل، لأنه العلة القريبة فيها، والنحل أوجد الحلاوة بواسطة العسل، فهو علة للعلة لا علة حقيقة، وعلى هذا تحمل الآيات الواردة (1) في القرآن العزيز التي بعضها تدل على استناد الأفعال إليه تعالى، وبعضها على

(هامش)

(1) الآيات التي يمكن للمتوهم استشمام رائحة الجبر منها مجتمعة في ست أنواع: النوع الأول وهو العمدة في الباب الآيات المتضمنة لنسبة الاضلال إلى الله تعالى، وهي. اثنتان وثلثون آية: (1) في سورة المدثر الآية 31 (2) فاطر 8 (3) النحل 93 (4) إبراهيم 4 (5) الرعد 27 (6) الشورى 44 (7) الشورى 46 (8) غافر 33 (9) الزمر 36 (10) الكهف 17 (11) الاسراء 97 (12) الرعد 33 (13) الأعراف 186 (14) الأعراف 178 (15) النساء 143 (16) النساء 88 (*)

ص 407

(هامش)

(17) محمد صلى الله عليه وآله 4 (18) غافر 34 (19) غافر 74 (20) النحل 37 (21) إبراهيم 27 (22) التوبة 115 (23) البقرة 26 (24) الأعراف 155 (25) الجاثية 23 (26) محمد 1 (27) محمد 8 (28) الروم 29 (29) النساء 88 (30) الأنعام 125 (31) الأنعام 39 (32) الزمر 23 وهي على أقسام (منها) الآيات المتضمنة لنسبة الاضلال إليه تعالى من غير بيان لمن يتعلق به كقوله تعالى ومن يضلل الله فما له من هاد غافر 33 (ومنها) الآيات المتضمنة لنسبة الاضلال إليه تعالى لمن يشاء من غير تعيين لمن يشاء ا ضلاله كقوله تعالى فيضل الله من يشاء إبراهيم عليه السلام 4. (ومنها) ما دل على إضلاله تعالى لمن كفر واختار الكفر فيضل الله له كقوله تعالى كذلك يضل الله الكافرين (ومنها) ما دل على حصر الاضلال في حق الفاسقين وإنه تعالى لا يضل إلا من فسق وبعد من طاعة الله كقوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين (ومنها) ما دل على أنه تعالى يضل المرتابين والمسرفين وغيرهم من الذين اختاروا أنحاء العصيان. ودلالة هذه الآيات مقصورة على إضلاله تعالى لمن اختار الكفر أو الظلم أو الفسوق، وليس فيها دلالة بوجه من الوجوه على أنه تعالى يضل أحدا قبل اختياره بنفسه الكفر والظلم والفسوق، وستأتي الآيات الدالة على تنزيهه تعالى عن الظلم وإن ما أصابهم من السوء كان بسوء اختيارهم كقوله تعالى: وما ظلمناهم بل كانوا أنفسهم يظلمون النحل 118 وقوله تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة النحل 118 وقوله تعالى ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون آل عمران 25 . النوع الثاني الآيات المتضمنة لإسناد الهداية التكوينية إلى الله تعالى وهي ثمان وسبعون آية. (1) البقرة 143 (2) البقرة 213 (3) الأنعام 90 (4) الأعراف 30 (5) الرعد 31 (6) النحل 36 (7) طه 122 (8) الأعلى 3 (9) الضحى 7 (10) الأنعام 149 (11) النحل 9 (12) الأعراف 43 (13) الزمر 57 (*)

ص 408

(هامش)

(14) النحل 121 (15) الزمر 18 (16) آل عمران 8 (17) الأنعام 84 (18) الأنعام 88 (19) مريم 58 (20) الأعراف 155 (21) القصص 56 (22) الشورى 52 (23) العنكبوت 69 (24) الأعراف 178 (25) الاسراء 97 (26) الكهف 17 (27) الزمر 37 (28) التغابن 11 (29) الأنعام 77 (30) البقرة 26 (31) البقرة 142 (32) البقرة 258 (33) البقرة 264 (34) البقرة 272 (35) آل عمران 86 (36) المائدة 16 (37) المائدة 51 (38) المائدة 67 (39) المائدة 108 (40) الأنعام 88 (41) الأنعام 144 (42) التوبة 19 (43) التوبة 24 (44) التوبة 37 (45) التوبة 80 ( 46) التوبة 109 (47) يونس 25 (48) يوسف 52 (49) الرعد 27 (50) إبراهيم 4 (50) النحل 37 (52) النحل 93 (53) النحل 107 (54) الحج 16 (55) النور 35 (56) النور 46 (57) القصص 50 (58) القصص 56 (59) فاطر 8 (60) الزمر 3 (61) الزمر 23 (62) غافر 28 (63) الشورى 13 (64) الأحقاف 10 (65) الصف 5 (66) الصف 7 (67) الجمعة 5 (68) المنافقون 6 (69) المدثر 31 (70) الفتح 2 (71) الكهف 24 (72) الأنعام 126 (73) النساء 137 (74) النساء 168 (75) النحل 104 (76) الحج 54 (77) الأنعام 35 (78) السجدة 13. وهذه الآيات تدل على أن الهداية من الله تعالى إلا أن هناك آيات أخر تدل على أن لاختيار العبد مدخلا في هدايته كقوله تعالى في سورة الكهف. الآية 29 فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وفي سورة الروم. الآية 44 ومن كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون. فكون الهداية من الله تعالى بمعنى أن الله تعالى قد أعطى عبده قوة الادارك، وجعله محفوفا ومحاطا بآيات الهداية وبراهين المعرفة، ومنع عنه تسويلات شياطين الإنس والجن، كل ذلك مع أنه تعالى خلى بين العبد وبين إرادته حيث لم يرد خلافه وإلا كان العبد ساقطا في حضيض الكفر والعصيان، فهو تعالى شأنه أحق بحسنات العبد من نفسه. وأما ضلالة العبد فهي ناشئة من سوء اختياره وإلا فمع تواتر تسويلات إبليس وغيره فهو غير مسلوب الاختيار وقد أعطاه الله تعالى قدرة الايمان والكفر وقوة (*)

ص 409

(هامش)

المعرفة والتمييز، وجعل آيات الهداية وبراهين التوحيد بمعرض نظره ومرئى بصره، فليس ضلال العبد من ناحية الله وإن كان له تعالى قوة قاهرة على عباده ولو شاء لهدى الناس جميعا وقهر عليهم بالهداية طوعا أو كرها، إلا أنه تعالى حيث سهل على عبده طريق الهداية وأعطاه أسبابها وجعله مختارا في الاهتداء وعدمه كان لله المنة عليه وإن اختار الضلال وترك الاهتداء، مثله أن من أعطى فقيرا درهما ليشتري به الخبز فاشترى به سما فأكله وقتل به لم يكن لمعطي الدرهم لوم في ذلك بل له المنة على الفقير حيث أعطاه الدرهم. النوع الثالث الآيات المتضمنة لإسناد ما هو بمعنى الاضلال إليه تعالى شأنه وهي نحو من تسع عشر آية. (1) الحج 44 (2) الرعد 32 (3) الحج 48 (4) الأعراف 183 (5) القلم 45 (6) يونس 33 (7) النساء 55 (8) التوبة 93 (9) النحل 108 (10) محمد صلى الله عليه وسلم 16 (11) الأعراف 100 (12) يونس 74 (13) الأعراف 101 (14) الروم 59 (15) غافر 35 (16) التوبة 87 (17) المنافقون 3 (18) البقرة 7 (19) الكهف 28 وقد مر المراد من هذه الآيات في ذيل آيات النوع الأول. النوع الرابع من توهم من الآيات دلالتها على إسناد فعل العبد إليه تعالى وهي آيتان (الأولى) قوله تعالى في سورة الصافات. الآية 96. أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون. بناء على كون ما مصدرية، وتبطله قرينة سابقها وتدل على كونها موصولة فإن ظاهر السياق أن المراد من ما تعملون هو ما تنحتون يعني الأصنام والخشب (الثانية) قوله تعالى في سورة الأنفال. الآية 17: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. وهذه أيضا لا تدل على مطلوبهم فإنها صريحة في إسناد الرمي إلى نفس العبد لقوله تعالى: إذ رميت، وإن كانت متضمنة لسلب الاستناد عنه أيضا بقوله تعالى: وما رميت، فهي تدل على مذهب الأمر بين الأمرين دون مذهب الجبر. النوع الخامس ما دل على نفي القوة والقدرة عن غير الله جلت عظمته كقوله. تعالى شأنه في سورة الكهف. الآية 39: لا قوة إلا بالله. ولا تنافي بين هذا المعنى وبين اختيار العبد وقدرته على فعله، فإنه إذا لو حظ في قبال القدرة الربوبية يكون (*)

ص 410

(هامش)

عاجزا محضا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وإذا لو حظ في طول قدرته تعالى وإن الله قد أعطاه القدرة والقوة وإن قدرته من آثار قدرته تعالى يرتفع التنافي بين ثبوت القدرة للعباد ومفاد قوله تعالى لا قوة إلا بالله. وقد دل على ثبوت القدرة للعباد من كلامه تعالى آيات كقوله عز من قائل في سورة الكهف. الآية 29: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وفي سورة الروم. الآية 44: ومن كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون. وفي سورة النحل. الآية 4: ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي لغني كريم. النوع السادس ما دل على أن النفغ والضرر بيد الله كقوله تعالى في سورة الأعراف الآية 188: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله. والمراد منه بملاحظة نحو وقوله تعالى في سورة الكهف. الآية 29: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وفي سورة البقرة. الآية 231: ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه. مع ملاحظة نحو قوله تعالى في سورة الأنعام. الآية 112: لو شاء ربك ما فعلوه والآية 137. ولو شاء الله ما فعلوه، إن العبد قد أعطاه الله قدرة الفعل يؤمن إن شاء ويكفر إن شاء إلا أن الله تعالى لو أراد المنع عنه لم يقدر العبد على فعل ما أراده وينسلب عنه القدرة، وسيجيئ إن هذا أحد وجوه الأمر بين الأمرين. والآيات التي يستفاد منها أقداره تعالى للعبد ويمكن للمتوهم استشمام رائحة التفويض منه مجتمعة في سبعة أنواع. النوع الأول ما تضمنت إسناد الإسائة والاحسان إلى نفس العبد كقوله تعالى في سورة الاسراء. الآية 15. وفي سورة يونس. الآية 108. وفي سورة الزمر. الآية 41: من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. وقوله تعالى في سورة سباء. الآية 50: قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي. والآيات على هذا النمط كثيرة جدا. النوع الثاني الآيات المشتملة على تنزيه الساحة الربوبية عن الظلم كقوله تعالى (1) في سورة النساء. الآية 40: إن الله لا يظلم مثقال ذرة. وهي أربعون آية (2) هود 101 (3) النحل 118 (4) الزخرف 76 (5) آل عمران 117 (*)

ص 411

(هامش)

(6) النحل 33 (7) البقرة 279 (8) يونس 44 (9) الكهف 49 (10) التوبة 70 (11) العنكبوت 40 (12) الروم 9 (13) آل عمران 117 (14) الأنبياء 47 (15) يس 54 (16) النساء 77 (17) الأنفال 60 (18) البقرة 281 (19) آل عمران 25 (20) آل عمران 161 (21) النساء 49 (22) النساء 124 (23) الأنعام 160 (24) يونس 47 (25) يونس 54 (26) النحل 111 (27) الاسراء 71 (28) مريم 60 (29) المؤمنون 62 (30) الزمر 69 (31) الجاثية 22 (32) الأحقاف 19 (33) غافر 17 (34) آل عمران 108 (35) غافر 31 (36) آل عمران 182 (37) الأنفال 51 (38) الحج 10 (39) فصلت 46 (40) ق 29. النوع الثالث الآيات الدالة على أن الله تعالى يختبر عباده في أفعالهم هل يختارون الايمان والطاعة أو الكفر والمعصية كقوله تعالى (1) في سورة الملك. الآية 2: خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهي نحو من سبع وستين آية (2) الأنفال 17 (3) آل عمران 186 (4) النمل 40 (5) المائدة 94 (6) النحل 92 (7) هود 7 (8) الأنعام 165 (9) المائدة 48 (10) محمد صلى الله عليه وسلم 4 (11) الكهف 7 (12) البقرة 155 (13) الأنبياء 35 (14) محمد صلى الله عليه وسلم 31 (15) القلم 17 (16) الأعراف 168 (17) آل عمران 166 (18) آل عمران 142 (19) آل عمران 140 (20) سبأ 21 (21) البقرة 143 (22) الفجر 15 (23) البقرة 124 (24) الحجرات 3 (25) المائدة 94 (26) آل عمران 167 (27) آل عمران 154 (28) آل عمران 152 (29) الأحزاب 11 (30) البقرة 49 (31) الأعراف 7 (32) إبراهيم 16 (33) الصافات 106 (34) الدخان 33 (35) البقرة 249 (36) المؤمنون 30 (37) الأنعام 53 (38) طه 58 (39) العنكبوت 3 (40) ص 34 (41) الدخان 17 (42) طه 40 (43) ص 24 (44) الحديد 14 (45) طه 131 (46) الجن 17 (47) طه 90 (48) النمل 47 (49) النحل 110 (50) التوبة 126 (*)

ص 412

(هامش)

(51) العنكبوت 2 (52) البقرة 102 (53) الأنفال 28 (54) يونس 58 (55) الاسراء 60 (56) الأنبياء 35 (57) الأنبياء 111 (58) الحج 53 (59) الفرقان 20 (60) الصافات 63 (61) الزمر 49 (62) القمر 27 (63) الممتحنة 5 (64) التغابن 15 (65) المدثر 31 (66) الأعراف 155 (67) الفجر 16. النوع الرابع الآيات المتضمنة لترجي الايمان والهداية والحذر والتضرع والتقوى وأمثالها من العباد، الظاهر بعد سلخه عن معنى الجهل والترديد في أن الله تعالى يحب تلك الأمور من عباده كقوله تعالى في سورة الأنعام. الآية 154: لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون. وفي سورة السجدة: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون وفي سورة التوبة. الآية 126: ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. وفي سورة الأنعام. الآية 42: وأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. وفي سورة البقرة، الآية 187: كذلك يبين الله آياته لعلهم يتقون. وهذه الآيات بجميعها سبع وتسعون آية. النوع الخامس: الآيات الدالة على أن الثواب والعقاب جزاء ما كسبه العبد وهي كثيرة جدا كقوله تعالى في سورة البقرة. الآية 281 وسورة آل عمران. الآية 161: ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. وفي سورة الجاثية. الآية 22: ولتجزى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. وفي سورة المدثر. الآية 38: كل نفس بما كسبت رهينة. وفي سورة النساء. الآية 111: ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه. وفي سورة الكهف. الآية 106: ذلك جزائهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا. وفي سورة التحريم. الآية 9: وللذين كفروا عذاب جهنم وبئس المصير. وفي سورة آل عمران. الآية 198: لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار. وفي سورة البينة. الآية 8: جزائهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار. وهذه الآيات كثيرة جدا حازت الكثرة بين آيات الكريم. النوع السادس آيات المذمة والتوبيخ للكفار والفساق، فإنه لا يصح إلا مع كونهم مختارين في أفعالهم كقوله تعالى في سورة البقرة. الآية 28: كيف تكفرون بالله و(*)

ص 413

(هامش)

كنتم أمواتا فأحياكم. وفي سورة آل عمران. الآية 101: وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسول الله. وفي سورة المزمل. الآية 17: فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا. وفي سورة آل عمران. الآية 98: لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون. وفي سورة العنكبوت. الآية 167: أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون. وفي سورة المؤمنون. الآية 105: ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون. النوع السابع الآيات المصرحة باستناد الكفر والايمان والطاعة والعصيان إلى العباد كقوله تعالى في سورة إبراهيم. الآية 8: وقال موسى إن تكفروا ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد. وفي سورة آل عمران. الآية 9: ومن يكفر بالله فإن الله سريع الحساب. وفي سورة ص. الآية 28: أم نجعل الذين آمنوا كالمفسدين. وفي سورة النور. الآية 52: ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون. وفي سورة المائدة. الآية 78: ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. وقد نقلنا هذه الآيات لبيان المثال، وإلا فالآيات التي تدل على استناد الأفعال إلى العباد أكثر من أن تحصى، فلا تغفل. في الأمر بين الأمرين إعلم أن المستفاد من مجموع الطائفتين المتقدمتين من الآيات الكريمة على تعدد أنواعهما، إن ما يصدر من العبد له جهتان فمن إحدى الجهتين يستند إلى العبد لكونه صادرا عنه باختياره وإرادته، وهو واضح بحسب الآيات المتقدمة، والقرآن مشحونة من إسناد الأفعال إلى الناس. ومن الجهة الأخرى له ارتباط بالساحة الربوبية سبحانه وتعالى، وقد عرفت الآيات الكثيرة الدالة على نسبة الهداية والاضلال إليه تعالى. وأما كيفية الارتباط فهي على ما يستفاد من الآيات على أحد من الوجوه الأربع: الأول إن وجود العبد وما يصدر به عند الفعل من الجوارح والجوانح من ناحية الخلاق المتعال جلت عظمته، وقد أعطاه الله قدرة فعل الخيرات والشرور ليوصل نفسه إلى أعلى درجات العليين التي لا يصل إليها إلا بالاختيار. فإذا صدر من العبد فعل فالعلة لتكون الفعل هو العبد والله تعالى علة لتكون نفس العبد ولا لاته وقدرة اختياره للفعل والترك (*)

ص 414

(هامش)

فهو علة بعيدة لتكون الفعل. الثاني إن قدرة الباري جلت عظمته محيطة بأفعال العباد، فإن شاء منعهم عما يختارون من الأفعال وأوقعهم في غيرها، قال الله تعالى: لو شاء لهديكم أجمعين، فهو جلت عظمته حيث خلق هذه النشأة لأجل الامتحان، فقال عز من قائل: خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، فلم يمنعهم عما يختارون من الكفر والايمان وجعلها في حبالة مشيتهم فقال تعالى في سورة الكهف الآية 29: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ملخص هذا الوجه ارتباط أفعال العباد إليه تعالى من حيث عدم المانع وعدم معارضتهم بنقيض ما يريدون الثالث إن الشهوات النفسانية ومشتهياتها من الأمور أعني غرائز الشهوة ومتعلقاتها في الخارج التي توقع العبد في الضلالة والزلل عن طريق الهدى كلها من قبل الله تعالى وقد أعطاه القدرة في إيجاد أي عمل يريده من الحسنات أو السيئات لأجل الفتنة والامتحان ليبلوه في هذه النشأة. فحيث إن تلك الغرائز التي مثلها مثل بعض أجزاء العلة لإتمامها من ناحيته تعالى صدق بنحو من الصدق أن الاضلال من الله تعالى -، وإن كان وقوع العبد في الضلالة باختياره وإرادته ويشهد لصدق الاضلال مع عدم إرادة وقوع الغير في الضلالة قوله تعالى حكاية عن إبراهيم في سورة إبراهيم. الآية 36: رب إنهن أضللن كثيرا من عبادك، مع أن وقوعهم في الضلال كان بإرادة أنفسهم لا محالة وإلا فالأصنام ليست إلا خشبا مسندة فاقدة للادراك لا يمكن وقوع العباد في الضلال بإرادة الأصنام. ومحصل هذا الوجه كون شرائط فعل العبد التي هي جزء من العلة التامة من ناحية الله تعالى. الرابع تصرفه تعالى في قلوب العباد وتزيينه لهم سوء عملهم عقوبة لما صدر عنهم من الكفر والفسوق كما بينه تعالى بقوله (1) في سورة يونس. الآية 12: زين للمسرفين ما كانوا يعملون (2) وفي سورة التوبة. الآية 37: فيحلوا ما حرم الله فزين لهم أعمالهم (3) وفي سورة غافر. الآية 37: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء. وتزيينه حسن عملهم لما صدر عنهم من الطاعة والايمان كما (4) في قوله تعالى سورة الحجرات. الآية 7 ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم. ويدل على هذا المعنى عدة من الآيات (5) الأنعام 138 (6) الأنعام 108 (7) النمل 4 (8) البقرة 212 (9) آل عمران 14 (10) الأنعام 122 (11) الرعد 33 (12) فاطر 8 (13) محمد 14 (14) الفتح 12. (*)

ص 415

استناد الأفعال إلينا وتنطبق على المذهب الحق أعني قولنا: إنه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين (1)، كما روي عن الإمام الهمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام واختاره الشارح القديم للتجريد فقال: والحق في هذه المسألة أن لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين، وذلك لأن لقدرة العبد تأثيرا في أفعال نفسه لكن قدرته على الفعل لا تكون مقدورة له بل يخلقها الله تعالى فيه، ولقدرة الله تعالى أيضا مدخل في صدور الفعل عنه فلا يكون جبرا صرفا ولا تفويضا صرفا بل أمر بين الأمرين.

(هامش)

(1) روي في الكافي بسنده عن محمد بن يحيى عمن حدثه عن أبي عبد الله قال لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، قال: قلت: وما أمر بين أمرين؟ قال مثل ذلك رجل رأيته على معصيته، فنهيته فلم ينته، فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية. وروي فيه بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا، قلت: ففوض إليهم الأمر؟ قال: لا، قال: قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك. وروي فيه بسنده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: إن الله ارحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون قال: فسئلا عليهما السلام: هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء والأرض. وروي فيه بسنده عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن الجبر والقدر فقال: لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم. أقول ومرادهما عليهما السلام من القدر المقابل للجبر الذي حكم بكون المنزلة بينهما (*)

ص 416

أوسع ما بين السماء والأرض ليس القدر المصطلح الذي ذهب إليه الجبرية، بل القدر بمعنى القدرة أي قدرة العبد وكمال سلطته بحيث كانت أزمة الأمور طرا بيده، وهذا هو المعنى الذي يساوق التفويض، ولا تستبعدن أيها القارئ الكريم حمل القدر على هذا المعنى فإنك إذا راجعت كتب اللغة رأيت إطلاق القدر على القدرة شايعا. ويشهد لهذا المعنى ما رواه هيهنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن الجبر والقدر فقال: لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم. وروي بسنده إلى يونس عن عدة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال له رجل: جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها فقال له: جلت فداك ففوض الله إلى العباد؟ قال: فقال: لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي، فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال: فقال: نعم أوسع ما بين السماء والأرض، وما رواه بسنده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام إن بعض أصحابنا يقول بالجبر، وبعضهم يقول بالاستطاعة قال: فقال لي: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال علي بن الحسين: قال الله عز وجل: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء وبقوتي أديت إلى فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك أني أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أني لا أسئل عما أفعل وهم يسألون، قد نظمت لك كل شيئ تريد. وروي في أمالي شيخنا حجة الإسلام الصدوق بسنده عن صباح بن عبد الحميد وغير واحد قالوا: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام إنا لا نقول جبرا ولا تفويضا. وروي فيه بسنده عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال، ذكر عنده الجبر والتفويض قال: ألا أعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم فيه أحد إلا كسرتموه قلت: إن رأيت ذلك فقال: إن الله عز وجل لم يطع بإكراه ولم (ج 26) (*)

ص 417

(هامش)

يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن اهتم العباد بطاعة لم يكن الله عنها صادا ولا مانعا، وإن ائتمروا بمعصية فشاء إن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه. قال (ع): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه. وروي في كتاب التوحيد بسنده عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله (ع) قال: إن الله عز وجل خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه وأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيئ فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به وما نهاهم عنه من شيئ فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ولا يكونوا آخذين ولا تاركين إلا بإذن الله. وروي فيه بسنده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) قال: قلت له: يا بن رسول الله إن الناس ينسبون إلى القول بالتشبيه والجبر لما روي في ذلك عن آبائك الأئمة، فقال: يا بن الخالد أخبرني أن الأخبار التي رويت عن آبائي الأئمة في التشبيه أكثر أم الأخبار التي رويت عن النبي (ص). فقلت: بل ما روي عن النبي (ص) في ذلك أكثر، قال: فليقولوا إن رسول الله (ص) كان يقول بالتشبيه والجبر، إذا فقلت له: إنهم يقولون إن رسول الله لم يقل من ذلك شيئا وإنما روي عليه، قال: فليقولوا في آبائي: إنهم لم يقولوا من ذلك شيئا وإنما روي عليهم. ثم قال (ع): من قال بالتشبيه فهو كافر مشرك ونحن منه منه برآء في الدنيا والآخرة يا بن خالد إنما وضع للاخبار عنا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغروا عظمة الله، فمن أحبهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبنا، ومن والاهم عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن جفاهم فقد برنا، ومن برهم فقد جفانا، ومن أكرمهم فقد أهاننا، ومن أهانهم فقد أكرمنا، ومن قبلهم فقد ردنا، ومن ردهم فقد قبلنا، ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا، ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا، ومن صدقهم فقد كذبنا، ومن كذبهم فقد صدقنا، ومن أعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد أعطانا. يا بن خالد من كان شيعتنا فلا يتخذ منهم وليا ولا نصيرا. وروي في الكافي بسنده عن علي بن الحكم وعبد الله بن يزيد جميعا عن رجل من أهل البصرة، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الاستطاعة، فقال: أبو عبد الله (ع) أتستطيع (*)

ص 418

(هامش)

أن تعمل ما لم يكون، قال: لا، قال: فتستطيع أن تنتهي عما قد كون، قال: لا، قال: فقال له أبو عبد الله (ع) فمتى أنت مستطيع، قال: لا أدري، قال: فقال له أبو عبد الله (ع): إن الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة ثم لم يفوض إليهم فهم مستطيعون للفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل وإذا لم يفعلوه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه لأن الله تعالى أعز من أن يضاده في ملكه أحد، قال البصري: فالناس مجبورون؟ قال: لو كانوا مجبورين لكانوا معذورين، قال: ففوض إليهم؟ قال: لا، قال: فما هم قال: علم منهم فعلا فجعل فيهم آلة الفعل فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين قال البصري أشهد إنه الحق وإنكم أهل بيت النبوة والرسالة. وروي بسنده عن صالح النيلي قال: سألت أبا عبد الله (ع) هل للعباد من الاستطاعة شيئ قال: فقال لي: إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم قال: قلت: وما هي؟ قال الآلة مثل الزنا إذا زنى كان مستطيعا للزنا حين زنى ولو أنه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعا لتركه إذا ترك قال: ثم قال: ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا قلت: فعلى ماذا يعذبه قال: بالحجة البالغة والآلة التي ركبها فيهم، إن الله لم يجبر أحدا على معصيته ولا أراد إرادة حتم الكفر من أحد ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر، وهم في إرادة الله، وفي علمه أن لا يصيروا في شيئ من الجبر قلت: أراد منهم أن يكفروا؟ قال: ليس هكذا أقول ولكني أقول: علم أنهم سيكفرون فأراد الكفر لعلمه فيهم وليست إرادة حتم إنما هي إرادة اختيار. وروي فيه بسنده عن يونس بن عبد الرحمان قال: قال أبو الحسن الرضا (ع) يا يونس لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول إبليس، فإن أهل الجنة قالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وقال أهل النار: ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. وقال إبليس رب بما أغويتني. فقلت: والله ما أقول بقولهم ولكني أقول: لا يكون إلا بما شاء الله وأراد وقدر وقضى، يا يونس تعلم ما المشية؟ قلت: لا، قال: هي الذكر الأول، فتعلم ما الإرادة؟ قلت: لا، قال: هي العزيمة على ما يشاء، فتعلم ما القدر؟ قلت: لا، (*)

ص 419

(هامش)

قال: هو الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، قال: ثم قال: والقضاء هو الابرام وإقامة العين. قال: فاستأذنته أن أقبل رأسه وقلت له: فتحت لي شيئا كنت عنه في غفلة. وروي في كتاب التوحيد بسنده عن عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله (ع) فيما كتب إليه مما اختلف فيه الناس وأجاب عنه فمنه، وسألت رحمك الله عن الاستطاعة للفعل فإن الله عز وجل خلق العبد وجعل له الآلة والصحة وهي القوة التي يكون العبد بها متحركا مستطيعا للفعل ولا متحرك إلا وهو يريد الفعل وهي صفة مضافة إلى الشهوة التي خلق الله عز وجل مركبة في الإنسان فإذا تحركت الشهوة في الإنسان اشتهى الشيئ وأراده فمن ثم قيل للانسان مريد، فإذا أراد الفعل وفعل كان مع الاستطاعة والحركة فمن ثم قيل للعبد مستطيع متحرك، فإذا كان الإنسان ساكنا غير مريد للفعل وكان معه الآلة وهي القوة والصحة اللتان بهما تكون حركات الإنسان وفعله كان سكونه لعلة سكون الشهوة فقيل ساكن فوصف بالسكون فإذا اشتهى الإنسان وتحركت شهوته التي ركبت فيه اشتهى الفعل وتحرك بالقوة المركبة فيه واستعمل الآلة التي بها يفعل الفعل فيكون الفعل منه عندما تحرك واكتسبه فقيل فاعل ومتحرك ومكتسب ومستطيع أو لا ترى؟ أن جميع ذلك في صفات يوصف بها الإنسان. وروي في الاحتجاج: ومما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد في رسالته إلى أهل الأهواز، حين سألوه عن الجبر والتفويض بعد كلام طويل ثم قال (ع): ومرادنا وقصدنا الكلام في الجبر والتفويض وشرحهما وبيانهما، وإنما قدمنا ليكون اتفاق الكتاب والخبر دليلا لما أردنا وقوة لما نحن مبينوه من ذلك إن شاء الله تعالى فقال: الجبر والتفويض بقول الصادق (ع) عندنا، سئل عن ذلك فقال: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، قيل فماذا؟ يا بن رسول الله، قال: صحة العمل وتخلية السرب والمهملة في الوقت والزاد قبل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على فعله، فهذه خمسة أشياء، فإذا نقص للعبد منها خلة كان العمل عنه مطرحا، وأنا أضرب لكل باب من هذه الأبواب الثلاث وهي الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين مثلا يقرب المعنى للطالب ويسهل له البحث من شرحه ويشهد به القرآن محكم آياته وتحقق تصديقه عند ذوي الألباب والله العصمة والتوفيق. ثم قال (ع): فأما الجبر فهو قول من زعم (*)

ص 420

(هامش)

إن الله عز وجل جبر للعباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه ورد عليه قوله: ولا يظلم ربك أحدا، وقوله جل ذكره: بما قدمت يداك وإن الله ليس بظلام للعبيد مع آي كثيرة في مثل هذا. فمن زعم أنه يجبر على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله عز وجل وظلمه في عقوبته له، ومن ظلم الله فقد كذب كتابه، ومن كذب كتابه لزمه الكفر بإجماع الأمة، المثل المضروب في ذلك مثل رجل ملك عبدا، مملوكا لا يملك نفسه ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ويعلم مولاه ذلك منه، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن ما يأتيه به وعلم المالك على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور، فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة أن يعاقبه فلما صار العبد إلى السوق وحاول أخذ حاجته التي بعثه المولى للاتيان بها وجد عليها مانعا يمنعه فيها إلا بالثمن ولا يملك العبد ثمنها، فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجة، فاغتاظ مولاه لذلك وعاقبه على ذلك فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته، وإن لم يعاقبه كذب نفسه، أليس يجب أن لا يعاقبه، والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا. ثم قال بعد كلام طويل: فأما التفويض الذي أبطله الصادق وخطأ من دان به فهو قول القائل: إن الله عز وجل فوض العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم، وفي هذا كلام دقيق لم يذهب إلى غمره ودقته إلا الأئمة المهديون (ع) من عترة آل الرسول (ص) فإنهم لو فوض الله إليهم على جهة الاهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا به الثواب ولم يكن لهم فيما اجترموا العقاب إذا كان الاهمال واقعا، ونتصرف هذا المقالة على المعنيين أما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة، كره ذلك أم أحب، فقد لزمه الوهن، أو يكون جل وتقدس من عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته ففوض أمره ونهيه إليهم وآجراهما على محبتهم أو عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته، فجعل الاختيار إليهم في الكفر والايمان، ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ونهيه وادعى مالك العبد أنه قاهر قادر عزيز حكيم فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أمره (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب