الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 1

إحقاق الحق وإزهاق الباطل

تأليف

العلامة في العلوم العقلية والنقلية متكلم الشيعة نابغة الفضل والأدب القاضي

السيد نور الله الحسيني المرعشي التستري الشهيد في بلاد الهند

سنة 1019

الجزء الثاني

مع تعليقات نفيسة هامة

بقلم : فضيلة الأستاذ الفقيه الجامع العلامة البارع

آية الله السيد شهاب الدين النجفي دام ظله

ص 2

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المصنف رفع الله درجته

المطلب العاشر في أنا فاعلون (1)

اتفقت الإمامية والمعتزلة على أنا فاعلون ، وادعوا الضرورة في ذلك ، فإن كل عاقل لا يشك في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية ، وأن هذا الحكم مركوز في عقل كل عاقل ، بل قلوب

(هامش)

(1) اختلفت كلمة المتكلمين في خلق الأعمال وأن أفعالنا الإرادية هل هي صادرة عنا باختيارنا وقدرتنا أو عن قدرته تعالى أو عن كلتيهما بالتشريك المتساوي أو المتفاوت أو الوجوه والمحتملات الأخر ؟ وذهب إلى كل منها قوم : فعزى إلى جهم بن صفوان إنه كان يقول : لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى شأنه ، وأما العبد فليس له فعل أصلا وإحداثا ولا كسبا . وذهبت النجارية والأشاعرة إلى أن تلك الأفعال صادرة عنه تعالى وليس لإحداثها علة سواء ، نعم جعلوا للعبد الكسب ، وهذا هو الفارق بين مقالتهم ومقالة الجهم . ثم الأشاعرة اختلفوا بحيث اضطربوا في معنى الكسب ، فذهب الشيخ أبو الحسن = (*)

ص 3

(هامش)

= الأشعري قدوتهم الذي اشتهروا به : إلى أن معناه أن الله تعالى قد أجرى المادة بأن العبد متى اختار الطاعة أو المعصية فعلها الله تعالى فيه ، وفعل فيه القدرة عليها ، والعبد له الاختيار ، وليس لتلك القدرة في ذلك أثر ، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى . وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب التمهيد : إن معناه كون ذات الفعل من الله تعالى وكونه معنونا بعنوان الطاعة أو العصية أو غيرهما من العناوين من العبد ، وذلك مناط التكليف وعليه يدور استحقاق الثواب والعقاب ، وذلك كلطمة اليتيم فإنها تقع تأديبا وتقع ظلما ، فذات اللطمة منه تعالى وكونه تأديبا أو ظلما من العبد . وقال بعضهم : إن الاعتقاد بالكسب في أفعال العباد لازم ، ولكن حقيقته غير معلومة لنا إلى غير ذلك من التفاسير التي ترى في كلمات الأشاعرة ، وهي في غاية الاضطراب والتشتت ، واكتفى بعضهم في تقريبه وتفسيره بإيراد الأمثلة وزاد غيا على غي . ثم إن من القائلين بالتشريك بين القدرتين في صدور الأفعال الشيخ أبو إسحاق الاسفرائيني ، فيحكى عنه أنه ذهب إلى أن الفعل واقع بمقدرته تعالى وقدرة العبد معا . والحق الحقيق بالقبول الذي تساعده الأدلة العقلية الحجج السمعية ما ذهب إليه أصحابنا من الأمر بين الأمرين كما سبق شرحه (ج 1 من ص 406 إلى 422) وسيأتي في محله إن شاء الله تعالى . قال الشريف الآية الباهرة السيد محمد الباقر الطباطبائي الحائري في منظومته (مصباح الظلام ص 20) : ومن يضم قدرة الله إلى * * قدرته أنقص ما قد كملا والكفر والفجور في العبيد * * وما استحقوه من الوعيد من العذاب باقتحام النار * * ونحوه آية الاختيار وهل ترى يخلق فيمن قد أثم * * ما حصل الإثم به وينتقم وليس يجديك حديث الكسب * * إن كان موجودا بخلق الرب وأي مانع من التعدي * * * عنه إذا نسبته للعبد = (*)

ص 4

الأطفال والمجانين ، فإن الطفل لو ضربه غيره بآجرة (1) تؤلمه ، فإنه يذم الرامي دون تلك الآجرة ، ولولا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذم الرامي دون الآجرة ، بل هو حاصل في البهائم ، قال أبو الهذيل (2) حمار بشر أعقل من بشر ، لأن حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول كبير ، فضربته لم يطاوع على العبور ، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه ، لأنه فرق بين ما يقدر عليه وبين ما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرق بينهما ، فحماره أعقل منه ، وخالف الأشاعرة في ذلك ، وذهبوا إلى أن لا مؤثر إلا الله ، فلزمهم ذلك محاولات (انتهى) . وقال العلامة السيد باقر الجائسي الهندي في منظومته : للعبد في أفعاله اختيار * * وبالضرورة انتفى الاجبار وإنما الوجوب للدواهي * * لا يوجب الجبر للامتناع مع أنه لو تم في المقام * * لا وجب الايجاب في العلام فما الجواب فهو الجواب * * وقد عرفت ما هو الصواب وسيأتي في كلمات مولينا العلامة وسيدنا القاضي الشهيد وما عليها ما يزيح العلل إن شاء الله تعالى . (2) آجرة بتشديد الراء المهملة جمها آجر . (3) هو أبو الهذيل محمد بن عبد الله بن مكحول البصري المشتهر بالعلاف من زعماء المعتزلة ومن شيد أركان الاعتزال ، له تصانيف منها كتاب الملاس وكتاب في مناظراته مع علي الميثمي ، اضر واطرش في أخريات عمره ، توفي ببلدة سر من رأى سنة 226 وقيل 227 وقيل 235 وهو غير أبي الهذيل زفر بن هذيل النخعي العنبري المتوفى سنة 158 فراجع الريحانة ج 5 ص 194 . (*)

ص 5

قال الناصب خفضه الله أقول : مذهب الأشاعرة أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنه يوجد في العبد قدرة واختيارا فإذا لم يكن هناك مانع ، أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد ، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري (1) ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد ، فالعبد فاعل وكاسب ، والله خالق ومبدع ، هذا حقيقة مذهبهم ، ولا يذهب على المتعلم أنهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد ، حتى يكون الخلاف في أنه فاعل أولا ، كما صدر الفصل بقوله : إنا فاعلون ، واعترض الاعتراضات عليه ، فنحن أيضا نقول : إنا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذي اتصفنا به ، هل هو مخلوق لنا أو خلق الله فينا وأوجد لقدرتنا واختيارنا ؟ وهذا شيء لا يستبعده العقل ، فإن الأسود هو الموصوف بالسواد ، والسواد مخلوق لله تعالى ، فلم لا يجوز أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله ؟ ! ودليل الأشاعرة أن فعل العبد ممكن في نفسه ، وكل ممكن مقدور لله ، لشمول قدرته كما ثبت في محله (2) ، ولا شيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد لما هو ثابت في محله ، وهذا دليل لو تأمله المتأمل يعلم أن المدعى حق صريح ، ولا شك أن الممكن إذا صادفته القدرة القديمة المستقلة توجده ، ولا مجال للقدرة الحادثة ، والمعتزلة اضطرتهم الشبهة إلى اختيار مذهب ردئ ،

(هامش)

(1) قد سبق ترجمته في تعاليق ص 118 من الجزء الأول وفي غيرها أيضا . (2) قد سبق في مبحث القدرة (ج 1 ص 163) . (*)

ص 6

وهو إثبات تعدد الخالقين غير الله في الوجود ، وهذا خطاء عظيم ، واستجراء كبير ، لو تأملوا قباحته لارتدعوا منه كل الارتداع كما سنبين لك إن شاء الله في أحدثناء هذه المباحثات ، ثم إن مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال ، بلا إيجاب بل باختيار ، ولهم في اختيار هذا المذهب طرق ، منها ما اختاره أبو الحسين (1) من مشايخهم وذكره هذا الرجل وهو ادعاء الضرورة في إيجاد العبد لفعله ، ويزعم أن العلم بذلك ضروري لا حاجة إلى الاستدلال وبيان ذلك أن كل عاقل يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، وأن الأول مستند إلى دواعيه واختياره ، وأنه لولا تلك الدواعي والاختيار ، لم يصدر عنه شيء منه بخلاف حركة المرتعش ، إذ لا مدخل فيه لإرادته ودواعيه ، وجعل أبو الحسين ومن تابعه من الإمامية إنكار هذا سفسطة مصادمة للضرورة كما اشتمل عليه أكثر دلائل هذا الرجل في هذا المبحث ، والجواب : أن الفرق بين الأفعال الاختيارية غير الاختيارية ضروري لكنه عائد إلى وجود القدرة ، منضمة إلى الاختيار في الأولى ، وعدمها في الثانية لا إلى تأثيرها في الاختيارية ، وعدم تأثرها في غيرها ، والحاصل أنا نرى الفعل الاختياري مع القدرة والفعل الاضطراري بلا قدرة ، والفرق بينهما يعلم بالضرورة ، ولكن وجود القدرة مع الفعل لا يستلزم (2) تأثيرها فيه ، وهذا محل النزاع

(هامش)

(1) هو أبو الحسين محمد بن علي البصري الولادة البغدادي المسكن والمدفن ، توفي سنة 436 ببغداد وكان من زعماء الاعتزال ، له تآليف وتصانيف منها كتاب المعتمد في أصول الفقه وقد استفاد منه الرازي في كتابه المحصول ومنها كتاب غرر الأدلة وغيرهما من الآثار فراجع الريحانة (ج 5 ص 41) . (2) إذ لا يلزم من دوران الشيء كالفعل الاختياري مع غيره كالقدرة والاختيار وجودا وعدما كون المدار علة للدائر ، ولا من العلية أن يسلم ثبوتها الاستقلالي بها لجواز = (*)

ص 7

فتلك التفرقة التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعا . ثم أن دعوى الضرورة في إثبات هذا المدعي باطل صريح ، لأن علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ، ومعترفين له بالدليل ، فالموافق والمخالف له اتفقوا على نفي الضرورة عن هذا الامتناع فيه ، لا التفرقة بالحس بين الفعلين فإنه لا مدخل له في إثبات المدعي ، لأنه مسلم بين الطرفين فكيف يسمع نسبة كل العقلاء إلى إنكار الضرورة فيه ، وأيضا أن كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشئ ، لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة وأنه مع الإرادة الجازمة منها الجامعة (1) يحصل المراد وبدونها لا يحصل (2) ويلزم منها (3) أنه لا إرادة منه ، ولا حصول الفعل عقيبها منه ، وهذا ظاهر للمنصف التأمل فكيف يدعي الضرورة في خلافه ؟ فعلم أن كل ما ادعاه هذا الرجل من الضرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه (انتهى) . أقول إثبات القدرة بدون التأثير من سخيف القول كما مر ، وسيجئ عن قريب إن شاء الله تعالى ، والتمسك بجريان العادة قد أسبقنا في بيان فساده ما لا يحتاج إلى الإعادة ، وأما الكسب (4) فقد اكتسب من السخف والفساد ما اكتسبا وزيادة ، وأما ما ذكره بقوله : فنحن أيضا نقول : إنا فاعلون الخ فهو كاذب فيه ، كيف ؟ وهم صرحوا

(هامش)

= أن يكون المدار جزءا أخيرا من العلة المستقلة . (1) للشرائط وارتفاع الموانع . (2) بل يحصل له تلك الإرادة سواء أرادها أو لم يردها . (3) أي من المقدمات التي علمتها بالوجدان . (4) فراجع ص 399 من الجزء الأول حتى يتبين لك اضطراب القوم في معناه إن هذا المخترع لا يسمن ولا يغني بل يلقي صاحبه في الحوالك . (*)

ص 8

بأن الفعل من الله تعالى والكسب من العبد لو سلم إطلاقهم الفاعل على العباد ، فإنما يتجوزون به عن معنى الكسب والمحلية ، ولا يريدون به معناه الحقيقي الذي قصده المصنف هاهنا ، وهو الإيجاد والاصدار الذي يتعارفه أهل اللسان ، وأما ما ذكره من الأفعال التي يظهر صدورها عن العباد لا يستبعد العقل أن تكون صادرة في الحقيقة عن الله تعالى مقارنة لقدرتنا ، فيتوجه عليه ، أنه يتضمن إنكار البديهي الظاهر المشاهد لكل أحد صدورها عن العباد ، وارتكاب نسبتها إلى الله تعالى على طريقة الرجم بالغيب ، والرمي في الظلام ، فكيف لا يكون مستبعدا ؟ وأي دليل قطعي أو اقناعي ظني قام على خلاف المشاهد الظاهر حتى يكون رافعا لاستبعاد العقل ؟ وبهذا يظهر فساد تمثيله بالأسود فإن السواد قائم عليه بمعنى وقوعه عليه ، فلا وجه لقياسه إلى الأفعال القائمة بالعباد بمعنى صدورها عنهم كالأكل والشرب كما مر بيانه ، ولهذا ترى أهل العدل يحكمون بأن السواد والبياض ونحوهما من الأعراض فعل الله تعالى ، والآكل والشرب والزنا والسرقة ونحوهما من فعل العبد ، وأما ما ذكره من دليل الأشاعرة فهو مع كونه مشهورا معتمدا عليه عندهم ولهذا أيضا خصه الناصب بالذكر هاهنا مردود من وجوه ، أما أولا ، فلأن شمول قدرته بقدرة الله تعالى ، وأفعال العباد بقدرتهم ، وأما ثانيا فلأنه منقوض (1) باتخاذ الولد ونحوه ، فإنه ممكن في نفسه مع استحالته على الله تعالى اتفاقا ، وما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا عن ذلك . وأما ثالثا ، فلأنه إن أريد بشمول قدرته لجميع الممكنات تعلقها به بالذات ، فهو ممنوع وغير لازم مما استدلوا به على ذلك المطلوب ، بل يجوز أن يكون تعلقها إلى بعض بالذات وإلى بعض آخر بالواسطة ،

(هامش)

(1) وهذا من خواص التعليق ، لم أجده في كتاب ولا سمعته عن أحد . منه (قده) .

ص 9

وكلام الأصفهاني (1) في شرحه للطوالع يدل على ذلك حيث قال : والحق أن انتباه كل الممكنات الموجودة إليه دليل على أنه قادر على الكل ، وإن أريد تعلقها به على وجه الأعم ، فهذا لا ينافي كون أفعال العباد مقدورة له بالذات ، وأما رابعا فلأنه إن أريد بشمولها للجميع (2) تعلقها به بالفعل فهذا غير لازم مما ذكروه في بيانه ، لجواز أن لا يكون الامكان علة لتعلقها به بالفعل ، بل لا مكان التعلق وفعليته يستند إلى ما ينضم إلى الامكان ، وإن أريد به تعلقها بالمكان ، فذلك لا يستلزم الفعلية في جميع الممكنات ، حتى يلزم اجتماع قدرتين مؤثرتين بالفعل في مقدور واحد ، والحاصل أن الامكان كما حققه المحقق الطوسي (3) طيب الله مشهده ، علة

(هامش)

(1) الطوالع للقاضي البيضاوي وشرحه الشهير للشيخ شمس الدين محمود بن عبد الرحمان الأصفهاني المتوفى سنة 749 . (2) لا يقال : إن نسبة الفعل إلى الله تعالى مقدورا له أولى من نسبته إلى العبد لكونه مقدورا له ، لأنا نقول : إن هذه الأولوية ليست إلا بمعنى كونه أقدر وأكبر ، وأعظم مقدورا ، وليس في ذلك ما يوجب الأولوية والترجيح بالنظر إلى مقدور واحد ، وبالجملة بالنظر إلى ما انحصر من مقدورات العبد الضعيفة كما وكيفا . (3) هو فيلسوف الإسلام وعلامة الحكماء شيخنا أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الجهرودي الأصل المشتهر بالمحقق الطوسي ، نابغة الأعصار ، ويتيمة الدهر ، من يليق أن تفتخر به العلوم وأهلها ، ولد سنة 595 ، أخذ العلوم عن جماعة ، منهم ولده العلامة ، والشيخ سالم بن بدران ، والسيد فضل الله الراوندي ، وفريد الدين الداماد ، وقطب الدين المصري ، وغيرهم من فطاحل الفريقين ، وله كتب رائقة ورسائل فائقة تقرب من مأة وخمسين ، منها أساس الاقتباس في المنطق ، ومنها شرح الإشارات ، ومنها الفرائض النصيرية ، ومنها البارع في التقويم وأحكام النجوم ، ومنها جامع الحصى في التخت والتراب والكرة الأسطرلاب ، ومنها جام گيتي نما ، ومنها تحرير المجسطي ، ومنها تلخيص المحصل أو نقد المحصل ، ومنها تهافت الفلاسفة ، ومنها آغاز وانجام ، ومنها أوصاف الأشراف ، ومنها مساحة = (*)

ص 10

(هامش)

= الأشكال ، ومنها المعطيات ومنها أخلاق ناصري ، ومنها تحرير أصول الهندسة لإقليدس ، ومنها تحرير الاكر (كذا) لما لا ناووس ، ومنها التقويم العلاتي ، ومنها كليات الطب ، ومنها إثبات الواجب ومنها إثبات أن الفرقة الناجية هم الإمامية ، ومنها خلق الأعمال ، ومنها تجريد الكلام في المنطق والكلام ، ومنها الجبر والتفويض إلى غير ذلك من الآثار الممتعة ، وكان شاعرا مفلقا أدبيا أريبا ومن شعره في مدح مولينا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام قوله : لو أن عبدا أتى بالصالحات غدا * * يود كل نبي مرسل وولي وصام ما صام صوام بلا ملل * * وقام ما قام قوام بلا كسل وعاش في الدهر آلافا مؤلفة * * عار من الذنب معصوم بلا زلل فليس في الحشر يوم البعث ينفعه * * إلا بحب أمير المؤمنين علي ومن شعره بالفارسية قوله : نظام بي نظام از كافرم خواند * * چراغ كذب را نبود فروغى مسلمان خوانش زيرا كه نبود * * مكافات دروغى جز دروغى توفي سنة 673 وقيل 675 ، والأشهر 672 ببغداد ، ونقل بوصية منه إلى مشهد الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام ، ودفن في قبر قد كان الناصر العباسي ادخره لنفسه بسنين ، ولم يوفق بالدفن فيه فهيأه الله لهذا المولى الجليل ، وما أجدر أن يقال ، دهقان بباغ بهر كفن پنبه كاشته * * مسكين پدرززادن فرزند شادمان ورثاه الشعراء بقصائد عربية وفارسية ومما قيل في تاريخ وفاته . نصير ملت ودين پادشاه كشور فضل * * يگانه كه چو او مادر زمانه نزاد بسال ششصد وهفتاد ودو به ذى حجه * * بروز هيجدهم درگذشت در بغداد أخذ عنه جماعة أشهرهم وأنبلهم مولينا آية الله العلامة الحلي ، والشيخ محمد البحراني ، والسيد أبو محمد الوراميني ، وغيرهم . يروي المترجم عن جماعة منهم والده العلامة المولى محمد بن الحسن الطوسي ومنهم الشيخ سالم بن بدران المصري ، وغيرهما . = (*)

ص 11

مصححة لتعلق القدرة لا موجبة له ، ولا يلزم من تحقق العلة المصححة لشيء تحققه العبد لو كان موجدا لفعل نفسه ، لجاز أن يوجد الجسم لأن المصحح لتعلق الإيجاد بفعل نفسه هو الامكان ، وهو متحقق في الجسم وبالتالي باطل (انتهى) . وأما ما ذكره من أن أهل العدل اختاروا مذهبا رديا هو إثبات تعدد الخالقين فهو كلام مبهم إذا كشف غطاؤه ، وظهر جودة ما اختاروه ، وذلك لأن الردي إثبات تعدد الخالق القديم الذي لا يكون مخلوقا لله ابتداء ، أو بواسطة كما يلزم الأشاعرة من القول بزيادة الصفات القديمة ، وأما إثبات الخالق الحادث الذي يكون ذاته وحياته وقدرته وتمكينه وسائر صفاته وكمالاته مخلقة لله تعالى كما هو شأن العبد على رأي أهل العدل ، فلا رداءة فيه ، بل فيه جودة تنزيه الله تعالى عن كونه فاعلا للقبائح والفواحش المنسوبة إلى العبد كما مر مرارا ، وأما ما ذكره من الجواب فهو مما ذكره صاحب المواقف (1) وقد ظن الناصب المرتاب أنه عين الصواب ، بل كأنه وجد تمرة الغراب (2) ، وفيه نظر ، أما أولا فلأن محصل كلام أبي الحسين والمصنف ومن وافقهم في هذا المقام دعوى البداهة في مقدمات ثلاث ، إحديها علية دون السقوط منها ودون حركته الارتعاشية ، والثالثة أنه لم تؤثر قدرته في هذا الصعود لم يصعد ، لا أنهم جعلوا الأولى منها نظرية ، والثانيتين دليلا عليها حتى

(هامش)

= ويروي عنه مولينا العلامة وغيره ، فراجع الريحانة (ج 1 ص 416 إلى 425) (1) قد مرت ترجمته (ج 1 ص 47) . (2) يطلق هذه الكلمة على تمر شجرة يقال لها البلوط وعلى عود يجعل رأس المثقبة التي تستعملها النجارون ، ويضرب المثل في حق من أتى بشيء خسيس ردي زعما أنه أتى بشيء نفيس . (*)

ص 12

يتوجه أنه دوران غير مقيد للعلية ، ثم لو جعل الدوران تنبيها على المقدمة الأولى لكان له وجه ، ويضعف منع لزوم العلية ، وأما ما ذكره من أن علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين مثبتين له بالدليل الخ مدخول بأن ما ذكره السلف من أهل العدل بصورة الدليل إنما هو تنبيهات على المدعى الضروري ، قد حملها من خالفهم من الأشاعرة على الاستدلال ليمكنهم إيراد المنع والنقض والمعارضة (1) عليها ، فلا يلزم ما توهمه الناصب من نسبة العقلاء إلى إنكار الضرورة

(هامش)

(1) هذه مصطلحات في علم آداب البحث والمناظرة ، والفرق بينها يظهر مما أفاده الجرجاني في كتاب (الحدود 148 ط مصر) قال ما لفظه : المعارضة لغة هي المقابلة على سبيل الممانعة ، واصطلاحا هي إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم . ودليل المعارض إن كان عين دليل المعلل يسمى (قلبا) ، وإلا فإن كانت صورته كصورته يسمى (معارضة بالمثل) وإلا (فمعارضة بالغير) ، وتقديرها إذا استدل على المطلوب بدليل فالخصم إن منع مقدمة من مقدماته أو كل واحدة منها على التعيين فذلك يسمى (منعا مجردا) (ومناقضة) (ونقضا تفصيليا) ، ولا يحتاج في ذلك إلى شاهد ، فإن ذكر شيئا يتقوى به يسمى (سندا للمنع) ، وإن منع مقدمة غير معينة بأن يقول ليس دليلك بجميع مقدماته صحيحا ، ومعناه إن فيها خللا فذلك يسمى (نقضا إجماليا) ولا بد هاهنا من شاهد على الاختلال ، وإن لم يمنع شيئا من المقدمات لا معينة ولا غير معينة بأن أورد دليلا على نقض مدعاه فذلك يسمى (معارضة) (انتهى) . قال الشيخ زين الدين المرصفي في منظومته : إن قلت قولا ذا تمام خبرى * إذا نقلت فيه عن معتبر فيطلب التصحيح للنقل إذا * لم تلتزم فيما نقلته لذا أو ادعيت يطلب الدليل * إن كان غير واضح ذا القيل ثم ثلاث للدليل عارضة *(منع) ونقل مجمل معارضة = (*)

ص 13

بل اللازم نسبة المعزولين عن العقل والشعور ، وهم الأشاعرة الذين هذا شأنهم في أكثر المسائل كما لا يخفى ، وأما الثانية فلأن وجود القدرة من غير تأثيرها إنما يورث الفرق على تقدير تحققه في نفس الأمر ، لكنه غير متحقق بشهادة الوجدان (1) بتأثيرها ، ثم لو كان الفارق وجود قدرة غير مؤثرة ، لزم عدم الفرق فإن الساقط من المنارة له قدرة إسقاط نفسه أيضا ولا شك أنه إذا سقط لم تؤثر قدرته في هذه الحركة نعم إنهم قالوا : بتعلق تلك القدرة والإرادة بالصعود دون السقوط ، لكن إذا لم يكن

(هامش)

= فأول جزء الدليل مورده * فإن يكن مدللا لا يورده والثاني إبطال الدليل كله * يشاهد ينبئ عن قبوله وثالث إقامة الدليل * على خلاف قول ذي التعليل إلى آخر ما أفاد ، وأنت لو تأملت فيما نقلناه عن أرباب العلم لظهر لك في غاية الظهور الفروق بين المنع والنقض والمعارضة المذكورة في الكتاب ومما يؤسف عليه إن هذا العلم وعدة فنون أخر تقد تركت في زوايا الخمول ، مع أن السلف كانوا شديدي الاهتمام بها فكم لهم فيها كتب قيمة ورسائل نفيسة ، مطبوعة ومخطوطة ، كرسالة آداب البحث للفاضل السمرقندي وشروحها العديدة ، ومنظومة المرصفي وشروحها ، وكتاب آداب البحث للسيد حسين الطباطبائي ، وكتاب آداب المناظرة للقاضي عضد الإيجي ، وكتاب آداب البحث للسيد فخر الدين السماكي وغيرها من الزبر الممتعة ، وأرجو من فضله وكرمه العميم أن يوفقنا باقتناء الفضايل آمين آمين . (1) قال بعض الأفاضل في تعاليقه على هوامش تفسير البيضاوي ما محصله : إن الفرق بين الوجدان بكسر الواد والوجدان بضمها : إن الأول يطلق على القوة المدركة والثاني على ادراكها هذا ، ولكن المتداول بين أهل الفضل إطلاق كل منهما على كل من المعنيين فلا تغفل . (*)

ص 14

لها نحو تأثير في الفعل غير أنها مقارنة لمحله ، فتعلقها إنما يقيد في صحة إطلاق اللفظ دون التغاير في نفس الفعل ، وكونه أثرا للقدرة مع أن البديهي هو الثاني ، وبالجملة من أنصف من نفسه علم الفرق بين الحركتين ، بأن القدرة مؤثرة في الأولى دون الأخرى ، وإثبات القدرة بدون التأثير لا يكون له معنى محصل ، بل غير معقول أصلا كإثبات الباصرة للأعمى بدون الأبصار ، وإثبات السامعة للأصم بدون الاستماع ، وكما أن إنكار قدرة العبد مكابرة كذلك إنكار تأثيرها في بعض أفعاله (1) مكابرة ، والاعتراف بأن الأول مكابرة (2) دون الثاني مكابرة

(هامش)

(1) قال بعض فضلاء السادة من الشافعية : البصير لا يصير بصيرا إلى أن قال : لا أثر لقدرة العبد في فعله ، فإن فيه قطع طلبات الشرايع ، فمن زعم أن لا أثر لقدرته الحادثة في المقدور كما لا أثر للعلم في المعلوم ، فوجه مطالبة الله تعالى العبد في أفعاله كوجه مطالبته أن يثبت في نفسه ألوانا أو يجعل للمحالات أكوانا ، وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل المحال ، وفيه إبطال للشرايع ورد ما جاء به النبيون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهذا الزاعم الذي يدعي أن لا أثر لقدرته أصلا إذا طولب بوجه طلب الله فعل العبد تحريما وفرضا أخذ بالجواب طولا وعرضا ، بأن الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون جدير بأن يقال له هذه كلمة حق أريد بها الباطل ، نعم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد لكن يتقدس عن الخلف وتكليف المحال ، فإنه الحكم العدل تعالى شأنه عن الظلم أوجب على نفسه الأقدس الرحمة على عباده عدلا لا لأن إتيان الظلم منه كما قيل محال ، منه (قده) . (2) الفرق بين المكابرة والتحكم بعد اشتراكهما في كون كليهما دعوى بلا دليل : أن المكابرة هي الدعوى بلا بينة مقرونة بإكبار النفس وتحقير الخصم بخلاف التحكم فإنه أعم منها .

ص 15

في مكابرة ، لأن بديهة العقول حاكمة بأن بعض الأفعال تصدر منا بتأثير قدرتنا فيها ، فإنكار كون العبد موجدا لأفعاله الاختيارية سفسطة مصادمة للضرورة ، ويوضحه أن تعلق القدرة بالفعل لا على وجه التأثير ، كما اخترعوه وسموه بالكسب أمر خفي لا يهتدي إليه العقل ، فإنه إذا لم يكن للقدرة تأثير ، لا يظهر وجه تعلقها به ، فإن قيل : تعلقها به هو أن تكون موجودة عنده قلنا : من أين يعلم وجودها عنده ، فإن قيل : علم وجودها عنده ، من الفرق بين حركة المرتعش وحركة المختار بالبديهة ، قلنا : الفارق هو الإرادة لأن حركة المرتعش حصلت من غير إرادة وحركة المختار حصلت بها ، وللإرادة غير القدرة لأنها صفة مخصصة لأحد المقدورين بالوقوع ، فإن قيل : إذا كانت الإرادة مخصصة لأحد المقدورين بالوقوع فلا بد لوجودها من وجود القدرة ، قلنا : لم لا يجوز أن يكون مخصصة لأحد مقدوري الله تعالى بالوقوع ؟ فإن عادة الله جرت بأنها إذا تعلقت بأحد طرفي الممكن ، حصل ذلك الطرف ، وبالجملة القدرة الحادثة أي قدرة العبد عند الأشاعرة صفة يوجد الفعل معها ، فإن عادة الله جرت بأنها إذا تعلقت بأحد طرفي الممكن ، حصل ذلك الطرف ، وبالجملة القدرة الحادثة أي قدرة العبد عند الأشاعرة صفة يوجد الفعل معها ، وبعبارة أخرى كيفية وجودية قائمة بالفاعل موجودة عند الفعل ، فإذا لم يكن لها تأثير يكون في معرض الخفاء ، حتى يبرهن على ثبوته ، ولعمري أن القول : يكسب العبد وأن قدرته غير مؤثرة ، وأنما المؤثر قدرة الله سبحانه ثم القول بثواب العبد ، أو عقابه من باب أن يقال : إن أحدا قادرا على الزنا مثلا إذا كان معه قادر آخر ، تكون قدرته أشد من قدرته ، وليس له أن يمنعه من الزنا إذا لم يرتكب الزنا وارتكب مصاحبة الزنا ، صار هذا الشخص الغير المرتكب له العاجز عن أن يمنع فاعله مستحقا للرجم ، دون المرتكم له وهو كما ترى ، والحاصل أن القول : بالقدرة غير المؤثرة مما لا طائل تحته ، لأن القدرة صفة مؤثرة على وفق الإرادة ، فلو لم تكن قدرة العبد مؤثرة تكون تسميتها قدرة مجرد اصطلاح ، ويؤيده الفرق

ص 16

بين القدرة والعلم بتأثير القدرة وعدم تأثير العلم ، وأما ما ذكره العلامة الدواني (1) في شرحه للعقائد العضدية ، من أن القدرة لا تستلزم التأثير بل ما هو أعم منه ومن الكسب ، وأن الفرق بينهما وبين العلم بأن القدرة تستلزم هذا ، ولا يستلزمه العلم فمردود بأن هذا إنما يتم لو كان لكسب العبد معنى محصل معقول ، وإنما قالوا به عن فرط التعنت والمحجوجية كما مر ، وسيجئ إن شاء الله تعالى ، نعم يتوجه على العدلية أن الضروري هو الفرق بتأثير القدرة في الاختيارية دون غيرها ، وأما استقلال تأثير قدرة العبد فيها بالاختيار كما هو مطلوبهم ، فليس بضروري ، بل هو ممنوع لا بد له من دليل ، لجواز أن يكون المؤثر مجموع القدرتين كما هو مذهب أبي إسحاق الاسفرايني (2) ، أو يكون المؤثر قدرة العبد فقط على سبيل الايجاب كما هو مذهب الفلاسفة ، ويندفع بأن المقصود هاهنا بيان مدخلية قدرة العبد في الجملة في بعض أفعاله ، ردا لمذهب الأشاعرة ، لا بيان خصوص المذهب الحق كما لا يخفى على المتأمل ، على أن مذهب الفلاسفة قد ثبت بطلانه بالدليل العقلي ، وبإجماع المسلمين ، وما ذهب إليه الاسفرايني ، مع أنه قول بلا رفيق ، ولا دليل عليه ، مردود أيضا بأنه إن أراد جواز أن يكون متعلق القدرتين شيئا واحدا هو نفس الفعل ، ويكون كل منهما مؤثرا مستقلا فحينئذ يلزم اجتماع المؤثرين على أثر واحد ، وإن أراد جواز أن يكون مجموعهما من حيث المجموع ، مؤثرا واحدا مستقلا في التأثير دون كل واحد منهما بإنفراده فيلزم حينئذ عدم استقلال قدرته تعالى ، بل احتياجه إلى معاون ومشارك تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وأما ما ذكره بقوله : وأيضا أن كل سليم العقل الخ فهو أيضا كلام صاحب المواقف ، وقد دل على عدم سلامة عقله ، لأنا لو سلمنا

(هامش)

(1) قد مرت ترجمته (ج 12 ص 40) (2) قد مرت ترجمته (ج 1 ص 101) (*)

ص 17

أن موجد إرادة العبد لو كان نفسه فتوقف تلك الإرادة منه على إرادته لها ، فلما لم تتوقف هي عليها كما يعلم بالوجدان ، فلا تكون هي صادرة عنه بل تكون مخلوقة لله تعالى إلا أنا لا نعلم أن حصول الفعل عقيبها ليس منه ، وكون الفعل يحصل عقيب تلك الإرادة الجازمة الجامعة للشرائط ، وارتفاع الموانع لا يدل على ذلك ، إذ لا مانع من أن تكون الإرادة مخلوقة لله تعالى ، والفعل الذي لا ينفك عنها على الشرط المذكور مخلوقا للعبد (1) ، ولو قيل : إن مع تلك الإرادة المخلوقة لله تعالى عند تحقق الشرط المذكور يتحقق الفعل ، ولو لم يكن إيجاد من العبد فهو ممنوع (2) لجواز أن العبد يكون إيجاد العبد أيضا لازما لها غير منفك عنها أصلا لا بالفعل ، ولا بالامكان ، فلو فرض هذا المحال وهو انفكاك إيجاد العبد من تلك الإرادة ، لجاز وقوع محال آخر هو انفكاك الفعل أيضا عنها ، إذ المحال جاز أن يستلزم المحال ، وخصوصا إذا كان بينهما علاقة ظاهرة كما فيما نحن فيه ، وأما أن الفعل لا يحصل بدون تلك الإرادة فلا يدل على المطلوب أيضا إلا إذا ثبت أن فعل العبد إذا توقف حصوله على إرادة مخلوقة لله تعالى لا يمكن أن يكون مخلوقا للعبد ، وهذا مع أنه ممنوع ليس مذكورا

(هامش)

(1) وتوضيح هذا ما سيجيئ من أنه إذا حصل لنا العلم ينفع فعل يتعلق به الإرادة بلا اختيارنا ، لكن تعلق الإرادة به غير كاف في تحققه ما لم تصر جازمة ، بل لا بد من انتفاء كف النفس عنه حتى تصير الإرادة جازمة موجبة للفعل ، وهذا الكف أمر اختياري يستند وجوده على تقدير تحققه إلى وجود الداعي إليه هي الإرادة الجازمة آخر ما ذكرنا هناك وبالجملة ترك الكف الذي هو اختياري من جملة شرائط حصول الفعل . منه (قده) (2) والحاصل أن إرادة العبد بإيجاد الله تعالى فيه أو ناشئة عن ذات العبد لازمة له ، وهو لا ينافي كونه مختارا إذ المختار ما يكون فعله مللا بإرادته لا أن تكون إرادته أيضا باختياره . منه (قده) .

ص 18

في المقدمات ، ولا لازما منها . قال المصنف رفع الله درجته منها مكابرة الضرورة فإن العاقل يفرق بالضرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنة ويسرة ، والبطش باليد اختيارا وبين الحركة الاضطرارية كالوقوع من شاهق ، وحركة الحيوان ، وحركة المرتعش ، وحركة النبض ، ويفرق بين حركات الحيوان الاختيارية وحركات الجماد ، ومن شك في ذلك فهو سوفسطائي (1) ، إذ لا شيء أظهر عند العاقل من ذلك ولا أجلى منه (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : قد عرفت جواب هذا فيما مر ، وقد ذكر هذا الرجل هذا الكلام ، ثم كرره كما هو عادته في التكرارات القبيحة الطويلة الخيالية عن الجدوى ، والجواب ما سبق (انتهى) . أقول لا تكرار فيما ذكره المصنف ، قال ذكره لدعوى الضرورة سابقا إنما عند تقرير مذهب العدلية ، وذكره لها هاهنا إنما هو في البيان ما يلزم من مذهب الأشاعرة والفرق بين المقدمين ظاهر ، وأما ما ذكره الناصب هناك من كلام صاحب المواقف مما زعمه صالحا للجواب عن هذا فقد دمرنا عليه ثمة وأبطلناه . قال المصنف رفع الله درجته ومنها إنكار الضروري من حسن مدح المحسن ، وقبح ذمه ، وحسن

(هامش)

قد مر بهم البيان فرقهم (ج 1 ص 78) . (*)

ص 19

ذم المسئ ، وقبح مدحه ، فإن كل عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائما . ولا يفعل شيئا من المعاصي ويبالغ في الاحسان إلى الناس ، ويبذل الخير لكل أحد ، ويعين الملهوف ويساعد الضعيف ، وأنه يقبح ذمه ، ولو شرع أحد في ذمه باعتبار إحسانه عده العقلاء سفيها ، ولامه كل أحد ، ويحكمون حكما ضروريا بقبح مدح من يبالغ في الظلم والجور والتعدي والغصب ونهب الأموال وقتل الأنفس ، ويمتنع من فعل الخير وإن قل ، وأن من مدحه على هذه الأفعال عد سفيها ولامه كل عاقل ويعلم ضرورة قبح المدح والذم على كونه طويلا أو قصيرا ، أو كون السماء فوقه ، والأرض تحته ، وإنما يحسن هذا المدح والذم أن لو كانا صادرين من العبد فإنه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجه المدح والذم إليه ، والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذم فلم يحكموا بحسن مدح الله تعالى على إنعامه ولا الحدثناء عليه ولا الشكر له ، ولا يقبح ذم إبليس وسائر الكفار والظلمة المبالغين في الظلم ، بل جعلوهما متساويين في استحقاق المدح والذم ، فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله ويتبع ما يقوده عقله إليه ويرفض تقاليد من يخطئ في ذلك ، ويعتقد ضد الصواب ، فإنه لا يقبل منه غدا يوم الحساب وليحذر من إدخال نفسه في زمر الذين قال الله تعالى عنهم : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (1) (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : حاصل ما ذكره في هذا الفصل : أن المدح والذم يتوجهان إلى الأمور الاختيارية ، ويحسن مدح المحسن ويقبح ذمه ، ويقبح مدح المسئ ويحسن ذمه ولولا أن تكون الأفعال باختيار الفاعل وقدرته لما كان فرق بين الأعمال الحسنة

(هامش)

(1) مؤمن . الآية 50 .

ص 20

والسيئة ولا يستحق صاحب الأعمال الحسنة المدح ولا صاحب الأعمال القبيحة الذم فعلم أن الأفعال اختيارية وألا يلزم التساوي المذكور وهو باطل ، والجواب أن ترتب المدح والذم على الأفعال باعتبار وجود القدرة والاختيار في الفاعل ، وكسبه ومباشرته للفعل ، وأما أنه لتأثير قدرته في الفعل فذلك غير ثابت وهو المتنازع فيه . ولا يتوقف ترتب المدح والذم على التأثير ، بل يكفي وجود المباشرة والكسب في حصول الترتب المذكور ، ثم ما ذكر أن المدح والذم لم يترتب على ما لم يكن بالاختيار فباطل مخالف للعرف واللغة ، فإن المدح يعم الأفعال الاختيارية وغيره بخلاف الحمد ، واختلف في الحمد أيضا ، وأما قوله : الأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح ، إن أراد أنهم لم يقولوا بالحسن العقلي للمدح والذم المذكورين فذلك كذلك ، لأنهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي أصلا (1) وأن أراد نفي الحكم بحسن مدح الله وحدثنائه مطلقا ، فهذا من مفترياته ، فإنهم يحكمون بحسن مدح الله تعالى لأن الشرع أمر به لا لأن العقل حكم به كما مر مرارا (انتهى) . أقول الجواب الذي ذكره مردود ، بأن وجود القدرة والاختيار في الفاعل الذي هو العبد وكسبه ومباشرته للفعل ، إما أن يكون له مدخل في وجود الفعل ألا ، فعلى الثاني يلزم الجبر ، ضرورة أنه إذا لم يكن لتعلق قدرة العبد مدخل في الفعل أصلا لا يورث الفرق ، ولا تفاوت بين وجوده وعدمه وعلى الأول إن لم يكن هذا التعلق مستلزما لوجود الفعل ، يتم الملازمات ، فإن تعذيب العبد مثلا بفعل لا يكون منه قبيح بالضرورة ، وهذا الفعل لم يجب من قدرة العبد على هذا الفرض

(هامش)

(1) قد انطقه الله بالحق حيث قال : لأنهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي أصلا منه (قده)

ص 21

فلم يوجد منه ، إذ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وإن كان مستلزما فهو مذهب أهل العدل ، فإن مرادهم باستقلال قدرة العبد في التأثير استلزامها لفعله ، فإن العلة المستقلة تطلق على العلة المستلزمة أيضا ، وهذا القدر يكفيهم فيما إذ دعوه ، ولا يطابق مذهب الأشاعرة حيث قالوا : بمحض مقارنة الفعل لقدرة العبد من عير تأثيرها فيه ، وأما ما نسبه إلى المصنف ، من أنه قال : إن المدح والذم لا يترتب على ما لم يكن بالاختيار فليس كذلك ، وإنما قال المصنف : إن الأفعال الصادرة بغير الاختيار لا يترتب عليها مدح فاعلها وذمه ، لا أنه لا يترتب مدح أو ذم على نفس ذلك الأفعال ، وكلام المصنف صريح فيما ذكرنا ، حيث قال : فإنه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجه المدح والذم إليه أي إلى العبد ، لا إلى الفعل الصادر بغير اختيار كما توهمه الناصب ، وما تعارف بين أهل العرف واللغة إنما هو تعلق المدح أو الذم بنفس تلك الأفعال كحسن الوجه وقبحه لا بمحلهما وهو العبد فيقال : رجل حسن الوجه ، أو قبيحة من باب وصف الشيء بحال متعلقة (1) ولا يقال : رجل حسن أو رجل قبيح على الإطلاق ، وبالجملة هذا إنما يصحح مطلق المدح ولا يصحح المدح والذم الاستحساني والاعتراضي فتدبر ، وأما ما ذكره من الترديد فقبيح جدا ، لظهور أن كلام المصنف في بيان أن الأشاعرة لا يحكمون بعقولهم بحسن هذا المدح فهم معزولون عن العقل ، وهذا يكفي في غرضه من تقبيح قولهم ، والتزام الناصب لذلك لا يدفع التقبيح ، وإنما يشهد على قبح التزامه وقلة حيائه كما لا يخفى ، على أن في الشق الأول منه اعترافا ينفي الحسن العقلي أصلا ، وهو مناف لما ذكره الناصب سابقا موافقا لما اختاره متأخروا أصحابه من إثبات الحسن العقلي في الجملة ، وبالنظر إلى بعض المعاني الذي استثنوه عن محل النزاع تفصيا عن الإشكال كما أشرنا إليه سابقا فتذكر .

(هامش)

(1) أي باعتبار المحلية . (*)

ص 22

قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، لأنا غير قادرين على ممانعة القديم ، فإذا كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى ، لم نقدر على الطاعة ، لأن الله تعالى إن خلق فينا فعل الطاعة ، كان واجب الحصول ، وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول ، ولو لم يكن العبد متمكنا من الفعل والترك كانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات ، وكما أن البديهة حاكمة بأنه لا يجوز أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمه وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد ، لأنه تعالى يريد منا فعل العصية ويخلقها فينا ، فكيف نقدر على ممانعته ؟ ولأنه إذا طلب منا أن نفعل فعلا ولا يمكن صدوره عنا ، بل إنما يفعله هو ، كان عابثا في الطلب مكلفا لما لا يطاق ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : هذه الشبهة اضطرت المعتزلة إلى اختيار هذا المذهب ، وإلا لم يجرء (1) أحد من المسلمين على إثبات تعدد الخالقين في الوجود ، والجواب أن تكليف فعل الطاعات واجتناب المعاصي باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية ، ولأن العبد لما كان قدرته واختياره مقارنا للفعل صار كاسبا للفعل ، وهو متمكن للفعل والترك باعتبار قدرته واختياره الموجب للكسب والمباشرة ، وهذا يكفي في صحة التكليف ولا يحتاج إلى إثبات خالقيته للفعل وهو محل النزاع ، وأما الثواب أو العقاب المترتبان على الأفعال الاختيارية فكسائر العاديات المترتبة على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقلي واتجاه سؤال ، وكما لا يصح عندنا أن يقال : لم

(هامش)

(1) بضم العين : أقدم وهجم .

ص 23

خلق الله الاحراق عقيب مسيس النار ، ولم لا يحصل ابتداءا ، فكذا هاهنا لا يصح أن يقال : لم أثاب عقيب أفعال مخصوصة وعاقب عقيب أفعال أخرى ، ولم لا يفعلها ابتداءا ولم يعكس فيهما ، وأما التكليف والتأديب والبعثة والدعوة ، فإنها قد تكون دواعي العبد إلى الفعل واختياره فيخلق الله الفعل عقيبها عادة ، وباعتبار ذلك يصير الفعل طاعة ومعصية ويصير علامة للثواب والعقاب ثم ما ذكره أنه يلزم إذا كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى أنا لم نقدر على الطاعة ، لأنه إن خلق الطاعة كان واجب الحصول ، وإلا كان ممتنع الحصول ، فنقول : هذا يلزمكم في العلم لزوما غير نفك عنكم ، لأن ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وما علم الله وجوده فهو واجب الصدور عن العبد ، ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنه يبطل الاختيار إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فبطل حينئذ التكليف لابتنائه على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم ، فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء (انتهى) . أقول تسميته لذلك الدليل القطعي شبهة اشتباه نشأ عن القول بمعنى المحلية ، كما صرح به ، وقد مر بيان فساد القول بالكسب مجملا ، وسيجئ إن شاء الله تعالى مفصلا ، ويتوجه على ما ذكره في الجواب من أن التكليف باعتبار المحلية الخ من الرد وجوه ، الأول أن حاصل جوابه أنا لا نقول : إن العبد بإيجاد الفعل حتى يتوجه لزوم تكليف ما لا يطاق بل نقول : إنه مكلف بالكسب والمحلية وهو مما يطاق ، وفيه أن الكسب إن لم يكن بإيجاد العبد إياه فالتكليف تكليف بما لا يطاق ، وإن كان بإيجاده إياه ثبت أن العبد فاعل موجد وهو المطلوب ، وأيضا لا اختيار للعبد في المحلية على رأي الأشاعرة كما مر ، فلا يظهر وجه استحقاق

ص 24

المدح والذم باعتبارها ، فنقول في تقرير دليل المصنف : أولم يكن العبد فاعلا لبعض الأفعال ، بل كان فاعل هو الله تعالى لم يكن الحسن والقبيح شرعيين كما زعمه الأشاعرة ، إذ لو كانا شرعيين لم يتحقق قبيح ، إذ لا فاعل إلا الله ولا قبيح منه كما قرروا . والكسب المنسوب إلى العبد فعل الله أيضا ، والذم باعتبار المحلية غير معقول كما مر الثاني أن ما ذكره بقوله : وأما الثواب والعقاب المترتبان على الأفعال الخ مبني على نفي الأسباب الحقيقية وقد مر ما فيه فتذكر ، على أن الكلام هاهنا في ترتب استحقاق الثواب والعقاب لا في أنفسهما فافهم ذلك ، الثان أن ما ذكره من مثال الاحراق عقيب مسيس النار لا يطابق الممثل أصلا ، إذ مع قطع النظر عن المغايرة بوجوه شتى يكابر فيها الأشاعرة لا ريب أن في المثال المذكور لم يقع أمر ونهي ووعد ووعيد في فعل الاحراق ، فلهذا لا يصح السؤال عنه ، وأيضا إنما لا يسئل عن فعل النار ، لأنه جماد لا حياة له ولا إرادة ، لا لأنه ليس بسبب للإحراق حقيقة كما توهموه ، وبالجملة لو كان ترتب الثواب والعقاب على الأفعال كترتب الاحراق على مسيس النار من دون أن يكون له سببية حقيقية كما زعموه ، لم يكن للبعثة وما يتعلق بها من الترغيب والترهيب والحث على تحصيل الكمالات وإزالة الرذائل ونحو ذلك فائدة ، إذ لا تظهر فائدة ذلك إلا إذا كان لقدرة العبد وإرادته تأثير في أفعاله ويتولى مباشرتهما بالاستقلال ، الرابع أن قوله : وكما لا يصح عندنا أن يقال الخ مع أنه لا ارتباط له بكلام المصنف قدس سره مردود بما سبق من أن التصرف إن كان بطريق حسن ، فهو حسن ، وإلا فهو قبيح ، فإنا إذا وعدنا عبيدنا بالاعتاق والإنعام بفعل ما يورث مشقة عظيمة عليهم ، وبالسياسة لتركه ففعله بعضهم على ما أردناه وتركه بعضهم مشتغلا بما يلتذ به مما كنا ما نعين منه ، ثم أعتقنا العاصي وأنعمنا عليه وعاقبنا المطيع المتحمل للمشقة انقيادا لأمرنا يحكم العقلاء بظلمنا البتة ، بخلاف ما لو أعتقنا بعض عبيدنا ابتداء ، وأمرنا بعضا آخر بخدمة شاقة لا يتجاوز طاقته ، فإنه لا يعد ظلما واللازم على الأشاعرة نظير الأول دون الثاني ،

ص 25

وظاهر أنه لو لم يجب استقلال العبد في فعله ، لزم رفع فائدة ويصح السؤال لكونه ظلما على التحقيق ، الخامس أن ما ذكره من أن التكليف والتأديب والبعثة والدعوة قد تكون دواعي العبد إلى الفعل الخ مدخول بأن الإنسان مجبول على الفعل سواء بعث إليه النبي أو لا ، فلا حاجة لهم في أصل الفعل إلى بعثة النبي الداعي لهم إلى ذلك كما لا يخفى ، ثم ما ذكره الناصب من الالزام غير لازم لما سيجئ من أن علمه تعالى تابع للمعلوم ، لا علة له ، على أنه لو تم لزم أن تكون أفعاله تعالى أيضا اضطرارية لجريانه فيه بعينه ، فما لم يلزمنا في مسألة علم الله تعالى ، لزمكم في مسألة خلقه تعال للأعمال المعللة بعلمه على ما زعمتموه فتدبر . قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم أن يكون الله تعالى أظلم الظالمين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا لأنه إذا خلق فينا المعصية ، ولم يكن لنا فيها أثر البتة ، ثم عذبنا عليها وعاقبنا على صدورها منه تعالى فينا ، كان ذلك نهاية الجور والعدوان ، نعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى وصف الله تعالى بالظلم والعدوان ، فأي عادل سوى الله تعالى وأي منصف سواه وأي راحم للعبد غيره ، وأي مجمع الكرم والرحمة والإنصاف ؟ مع أنه يعذبنا على فعل صدر عنه ، ومعصية لم تصدر عنا (1) ، بل منه (قده) . قال الناصب خفضه الله أقول : نعوذ بالله من نسبة الظلم والعدوان إلى الله المنان ، وخلق المعصية في العاصي

(هامش)

(1) وقد يجاب عن هذا بأن عذاب العبد ومعاقبته إنما هو للكسب لا للإيجاد فلا يلزم الظلم ، وفيه أنه إن لم يكن للعبد هنا تأثير ، فالظلم لازم ، وإن كان له تأثير في شيء سواء سمي كسبا أو غيره ، فيكون العبد موجدا وهو المطلوب . منه (قده) . (*)

ص 26

لم يستوجب الظلم ، والظلم تصرف في حق الغير ، والله تعالى لا يظلم الناس في كل تصرف يفعل فيهم ، وقد روي أن عمرو بن العاص سأل أبا موسى الأشعري ورضي الله عنه ، فقال : يخلق في المعصية ثم يعذبني بها فقال : أبو موسى لأنه لم يظلمك ، وتوضيح هذا المبحث أن النظام الكلي في خلق العالم يقتضي أن يكون فيه عاص ومطيع كالبيت الذي ببنيه حكيم مهندس ، فإنه يقتضي أن يكون فيه بيت الراحة ، ومحل الصلاة وأن لم يكن البيت مشتملا على المستراح كان ناقصا ، كذلك إن لم يكن في الوجود عاص لم يكمل النظام الكلي ، ولم يملأ النار من العصاة ، وكما أنه لا يستحسن أن يعترض على المهندس إنك لم علمت المستراح ولم لم تجعل البيت كأنه محل العبادة ومجلس الأنس ؟ كذلك لم يحسن أن يقال : لخالق النظام الكلي : لم خلقت العصاة ؟ ولم لم تجعل العباد كلهم مطيعين ؟ لأن النظام الكلي كان يقتضي وجود الفريقين ، فالتصرف الذي يفعل صاحب البيت في جعل بعضه مسجدا ، وبعضه مستراحا هل يقال : هو ظلم ! ؟ فكذلك تصرف الحق سبحانه في الوجود بأي وجه يتفق لا يقال : إنه ظلم ولكن المعتزلي الأعمى يحسب أن الخلق منحصر فيه ، وهو مالك لنفسه والله ملك عليه لا يعلم أنه مالك مطلق ، ألا ترى ؟ أن الرجل أن الرجل الذي يعمل عملا ويستأجر على العمل رجالا ويستعمل معهم بعض عبيده الأرقاء ، فإذا تم العمل أعطى الأجراء أجرتهم ، ولم يعط العبيد شيئا هل يقال : إنه ظلم العبد ؟ لا شك أنه لا يقول عاقل : إنه ظلم العبد ، وذلك لأنه تصرف في حقه بما شاء ، ثم إن هذا الرجل لو حمل العبد فوق طاقته ، أو قطع عنه القوت واللباس يقال : إنه ظالم ، وذلك لأنه تجاوز من ذلك الحد ، فقد ظلم ، وذلك لأنه ليس بالمالك المطلق ، ولو كان هو المالك المطلق ، وكان له التصرف حيثما شاء وكيفما أراد لكان كل تصرفاته عدلا لا جورا وظلما ، كذلك الحق سبحانه هو المالك المطلق ، وله التصرف كيفما

ص 27

شاء وحيثما أراد ، فلا يتصور منه ظلم بأي وجه تصرف ، خذ هذا التحقيق ولا تعد عن هذا (انتهى) . أقول تحقيق المسألة على وجه يظهر به تمويه استعاذة الناصب أنه لا خلاف بين العلماء في أنه تعالى عادل متفضل محسن ، وإنما الخلاف في معناه قالت الأشاعرة إن معنى كونه تعالى عادلا أنه متصرف في ملكه لا في ملك غيره كما مر ، وقالت العدلية من الإمامية والمعتزلة معناه أنه يختار الحسن ويخل القبيح ، لكن من المعلوم أن التصرف في الملك يمكن أن يكون على الوجوه الحسنة ، وأن يكون على الوجوه القبيحة ولا ريب في أن التصرف في الملك على الوجوه القبيحة ظلم وجور ليس بعدل فالقائلون بأن لا مؤثر إلا الله مع الاعتراف بحدوث الظلم والجور في العالم جاحدون لكونه تعالى عادلا في المعنى ، لأن فاعل الظلم والجور لا يكون عادلا ، وأما القائلون بأن العبيد محدثون لتصرفاتهم ، فهم ينسبون الظلم إلى أنفسهم وينزهون الله تعالى عما يقولون ويفترون يعني النواصب القدرية ، وجوابهم عما ذكره أهل العدل بأنا لا نسلم أن خالق الظلم والجور ليس بعادل ، فإن خلق جميع الأشياء ليس بقبيح بالنسبة إليه ، وإنما تصير الأشياء قبيح بالنسبة إلى الخلائق ، وباعتبار قيامها بهم ، مكابرة تسد باب المناظرة ثم إن الناصب لم يجعل عمرو بن العاص هاهنا شريكا مع أبي موسى (1) في الدعاء برضاء الله تعالى ، لأنه وافق مذهب أهل

(هامش)

(1) هو أبو موسى عبد الله بن قيس بن سليمان بن حضار الأشعري قال الخزرجي في خلاصة التهذيب (ض 178 ط مصر) ما لفظه : هاجر إلى الحبشة وعمل على زبيد وعدن وولي الكوفة لعمر والبصرة وفتح على يديه تستر ، له ثلاثمأة وستون حديثا ، اتفقا على خمسين ، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة وعشرين ، وعنه ابن المصيب وأبو وائل وأبو عثمان النهدي وخلق ، وقال الهيثم : توفي سنة 42 ، انتهى وقيل توفي 53 ، والرجل غير رشيد ، وكفى في حمقه مع قضيته مع عمرو بن العاص . (*)

ص 28

الاعتزال ، وغفل عن كونه من أعداء أمير المؤمنين (ع) ، وإلا لوجه إليه السلام ووالتحية أيضا ، وأما ما ذكره من التمثيل بالبيت المشتمل على كيت وكيت فإنما تمثل به العلامة الدواني في بعض رسائله لبيان القول بالأصلح بنظام الكل على ما ذهب إليه الحكماء والإمامية دون غيرهم من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية (1) ولا مطابقة فيه لمذهب الأشاعرة كما توهمه الناصب فإن ما اشتمل عليه ذلك البيت من المستراح يظهر عند العقل السليم مدخليته في نظام مجموع البيت ، إذ لولاه لتلوث جميع البيت وفزع أهله من الروائح المستقذرة ، بخلاف ما اشتمل عليه العالم من الأفعال المتنازع فيها كالزناء واللواطة والسرقة والكذب والنميمة ونحوها ، فإنها كما مر لا يظهر نفعها في نظام العالم ، بل يكون مخلا فيها ، وأيضا الكلام في دعواهم حسن مطلق التصرف من الله تعالى ، والتصرف الذي ، مثل به تصرف خاص يستحسنه العقل ، بخلاف بعض التصرفات التي تنسبه الأشاعرة الله تعالى ويمنعه أهل العدل ، ثم ما ذكره من التنوير (2) المظلم ، لا مطابقة له ، مع المتنازع فيه ، لأن عدم إعطاء السيد للعبيد أجرة في الصورة المذكورة ، إنما لا يستقبحه العقل لأنهم عياله وعليهم نفقته من المأكول والملبوس ، فلا يجب عليه عقلا ولا شرعا أن يعطيهم سوى ذلك مما أعطى الأجراء الأحرار ، وإن أراد بقوله لم يعطهم شيئا إنه لم يعطهم شيئا أصلا لا أجرة ولا قوتا ليسد رمقهم كان ظلما وهو ظاهر ، وأما ما ذكره بقوله : ثم إن هذا الرجل لو حمل العبد فوق طاقته ، أو قطع عنه القوت واللباس يقال إنه ظالم الخ فهو حجة على الناصب من حيث لا يشعر ، لدلالته على أن مطلق التصرف لا يكون عدلا كما ادعاه أهل العدل ، وأما تعليل كون ذلك ظلما بأنه ليس بمالك على الإطلاق فعليل ، وإنما العلة في كونه ظلما أنه

(هامش)

(1) قد تقدم بيان طائفة الماتريدية ووجه تسميتهم بذلك (ج 1 ص 144) . (2) المراد من التنوير قوله : ألا ترى . (*)

ص 29

تصرف يستقبحه العقل سواء صدر عن المالك على الإطلاق أو عن غيره كما لا يخفى وعلى ما حققناه ينبغي لأصحاب الناصب تعديه سريعا عما سماه بالتحقيق ، وإن كان باسم ضده حقيق ، والله ولي التوفيق . قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم منه تجويز انتفاء ما علم بالضرورة ثبوته ، بيانه إنا نعلم بالضرورة أن أفعالنا إنما تقع بحسب قصودنا ودواعينا ، وتنتفي بحسب انتفاء الدواعي وثبوت الصوارف ، فأنا نعلم بالضرورة أنا متى أردنا الفعل ، وخلص الداعي إلى إيجاده وانتفى الصارف فإنه يقع ، ومتى كرهنا لم يقع ، فإن الإنسان متى اشتد به الجوع ، وكان تناول الطعام ممكنا ، فإنه يصدر منه تناول الطعام ، ومتى اعتقد أن في الطعام سما انصرف عنه ، وكذا نعلم من حال غيره ذلك ، فإنا نعلم بالضرورة أن شخصا لو اشتد به العطش ولا مانع من شرب الماء فإنه يشربه بالضرورة ، ومتى علم مضرة دخول النار لم يدخلها ، ولو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه وانتفى الداعي إليه ، ويمتنع صدوره عنا وإن أردناه وخلص الداعي إلى إيجاده على تقدير أن لا يفعله الله تعالى ، وذلك معلوم البطلان ، فكيف يرتضي العاقل لنفسه مذهبا يقوده إلى بطلان ما علم بالضرورة ثبوته ؟ (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : قد سبق في تحرير المذهب أن الأفعال تقع بقدرة الله تعالى عقيب إرادة العبد على سبيل العادة فإذا حصلت الدواعي وانتفت الصوارف يقع فعل العبد وإن جاز عدم الوقوع عقلا كما في سائر العاديات التي يجوز عدم وقوعها ويستحيل عادة فكذا كل ما ذكره من تناول الطعام وشرب الماء ، فإنه يجوز أن لا يقع عقيب

ص 30

إرادة الطعام ولكن العادة جرت بوقوعها ، أما قوله : ولو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه ، فهذا أمر صحيح فإنا كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها ، وهذا الجواز مما لا ريب فيه ، وليس في إنكار هذا الجواز نفي ما علم بالضرورة (انتهى) . أقول ما ذكره من جواز عدم الوقوع عقلا هو عين الدعوى المخالفة التي يتكلم المصنف عليها ، فإن العقل الصحيح لا يجوز عدم وقوع شرب الماء عند العطش مع حصول الدواعي وانتفاء الصوارف ، فكيف تصير إعادتها جوابا ودفعا لما ذكره المصنف ؟ ! وأما ما ذكره بقوله : فإنا كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها الخ فإن أراد أنا كثيرا ما نفعل الأشياء التي نكرهها قبل الفعل فوقوع هذا غير مسلم ومخالف للضرورة وإن أراد أنا كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها بعد الفعل لظهور قبحه وكراهته على العقل بعد ذلك فمسلم ، لكن المصنف إنما ادعى الضرورة في نفي وقوع الفعل مع كراهة العقل له قبل الفعل ، وأما قوله : وليس في إنكار هذا الجواز نفى ما علم بالضرورة فغلط ظاهر ، لأن المصنف قدس سره قد ادعى أن جواز وقوع الفعل مع كراهته مناف للضرورة فهو قدس سره منكر لذلك الجواز ، لكونه منافيا للضرورة ، فإيراد الناصب عليه بأنه ليس في إنكار هذا الجواز نفى ما علم بالضرورة كما ترى ليس فيه طائل ، ولا يرجع إلى حاصل . قال المصنف رفع لله درجته ومنها أنه يلزم تجويز ما قضت الضرورة بنفيه ، وذلك لأن أفعالنا إنما تقع على الوجه الذي نريده ونقصده ، ولا يقع منا على الوجه الذي نكرهه ، فإنا نعلم بالضرورة

ص 31

إنا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة ، وإذا أردنا الحركة يسرة لم تقع الحركة يمنة ، والحكم بذلك ضروري ، فلو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن تقع الحركة يمنة ونحن نريد الحركة يسرة وبالعكس ، وذلك ضروري البطلان ، (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : جواب هذا ما سبق في الفصل السابق أن هذه الأفعال تقع عقيب إرادة العبد عادة من الله تعالى وأن الله تعالى يخلق هذه الحركات عقيب إرادة العبد وهو يخلق الإرادة ، والضرورة إنما تقضي على وقوع هذه الأفعال عقيب القصد والإرادة لا أنها تقضي بأن هذه الإرادة مؤثرة خالقة للفعل ، والعجب أن هؤلاء لا يفرقون بين هذين المعنيين ، ثم من العجب كل العجب أنهم لا يرجعون إلى أنفسهم ولا يتأملون أن هذه الإرادة من يخلقها ؟ أهم يخلقونها أم الله تعالى يخلقها ؟ فالذي خلق الإرادة وإن لم يرد العبد تلك الإرادة وهو مضطر في صيرورته محلا لتلك الإرادة خالق الفعل ، فإذا بلغ أمر الخلق إلى الفعل رقدوا كالحمار في الوحل ونسبوا إلى أنفسهم خلق الأفعال وفيه خطر الشرك (انتهى) . أقول ما ذكره من العجب ليس من جهله بعجب ويدفع تعجبه ما ذكرنا سابقا من أن القول بالقدرة والإرادة الغير المؤثرتين سفسطة باطلة ، وكذا ما أتى به من كل العجب فإن أصل الإرادة وإن كانت مخلوقة لله تعالى ، لكن صرفها إلى فعل من فعل العبد ، والحاصل أن المخلوق لله تعالى أصل الإرادة وهو الكيفية النفسانية التي من شأنها ترجيح الفعل أو الترك لكن فعلية الترجيح وتعلق القدرة والإرادة بالفعل أي جعلهما متعلقا به من العبد ، لا من الله تعالى ، ونمنع ما ذكره العلامة الدواني في رسالته

ص 32

من أن تعلق الإرادة منبعث من مجرد تصور العلائم واعتقاد الملائمة التي لا يتخلف تحقق الفعل عن تحققها ، وجميع ذلك بقدرة الله تعالى ، وإرادته لم (فلم ظ) لا يجوز أن يكون منبعثا من ذلك ! ؟ مع أنه أمر اعتيادي كان منشأه العبد ، وهلم جرا والتسلسل في الأمور الاعتبارية مما لا يبالي بارتكابه ، وكأنه لهذا قال شارح المقاصد : الحق أن مبنى المبادي القريبة لأفعال العباد على قدرتهم واختيارهم ، ومبنى العبادي البعيدة على إلجائهم واضطرارهم ، فلا يلزم من صيرورة العبد محلا لأصل تلك الإرادة أن يكون مضطرا في التعيين والترجيح كما توهمه الناصب الحمار ، وزعم أنه قد أخرج بذلك نفسه عن الوحل ، وسيأتي لهذا زيادة تحقيق وتوضيح في موضعه اللائق به إن شاء الله تعالى . قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم مخالفة الكتاب العزيز ونصوصه ، والآيات المتظاهرة فيه الدالة على استناد الأفعال إلينا ، وقد بينت في كتاب الايضاح مخالفة أهل السنة لنص الكتاب العزيز والسنة بالوجوه التي خالفوا فيها آيات الكتاب العزيز حتى أنه لا تمضي آية من الآيات إلا وقد خالفوا فيها من عدة أوجه ، فبعضها يزيد على بضع (1) بعضها يزيد على العشرين ، ولا ينقص شيء منها عن أربعة ، ولنقتصر في هذا المختصر على وجوه قليلة دالة على أنهم خالفوا صريح القرآن ذكرها أفضل متأخريهم وأكبر علمائهم فخر الدين الرازي (2) ، وهي عشرة الأول الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد ، فويل للذين كفروا (3) فويل للذين يكتبون الكتاب

(هامش)

(1) البضع بفتح الراء وكسرها : ما بين الثلاث إلى التسع . (2) قد مرت ترجمته (ج 1 ص 110) . (3) مريم . الآية 37 . (*)

ص 33

بأيديهم (1) ، إن يتبعون إلا الظن (2) ، ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (3) ، بل سولت لكم أنفسكم أمرا (4) ، فطوعت له نفسه قتل أخيه (5) ، ومن يعمل سوءا يجز به (6) ، كل امرئ بما كسب رهين (7) ، ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي (8) (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : أعلم أن النص ما لا يحتمل خلاف المقصود ، فكلما كان كذلك من كتاب الله وخالفه المكلف عالما به يكون كافرا نعوذ بالله من هذا ، وكل ما يحتمل الوجوه ولا يكون بحيث لا يحتمل خلاف المقصود ، فالمخالفة له لا تكون كفرا ، بل هو محل للاجتهاد والترجيح لما هو الأنسب والأقرب إلى مدلول الكتاب ، والعجب من هذا الرجل ! أنه جمع الآيات التي أوردها الإمام الرازي ليدفع عنها احتمال ما يخالف أهل السنة ثم أتى على الآيات كلها ووافق مذهب أهل السنة لها ودفع عنها ما احتمل تطبيقه على مذهب المعتزلة ، وهذا الرجل ذكر الآيات وجعلها نصوصا مؤيدة لمذهبه ولم يذكر ما ذكر الإمام في تأويل الآيات وتطبيقها على مذهب أهل السنة والجماعة ، وهذا يدل على غاية حمق الرجل وحيلته وتعصبه وعدم فهمه

(هامش)

(1) البقرة . الآية 17 . (2) الأنعام . الآية 148 . (3) الأنفال . الآية 53 . (4) يوسف . الآية 18 . (5) المائدة . الآية 30 . (6) النساء . الآية 123 . (7) هود . الآية 21 . (8) إبراهيم . الآية 22 .

ص 34

أما كان يستحي من ناظر في كتابه ، ومثله (1) في هذا العمل كمثل من جمع السهام في وقعة حرب وكانت تلك السهام قتلت طائفة من أهل عسكره فأخذ السهام من بطون أصحابه ، ومن صدورهم وأفخاذهم ، ثم يفتخر أن لنا سهاما قاتلة للرجال ولم يعلم أن هذه السهام قتلت أحبابه وأعوانه ، نعوذ بالله من الجهل والتعصب ، ثم جعل هذه الآيات دليلا على مذهبهم الباطل من باب إقامة الدليل في غير محل النزاع فإنا لا ننكر أن للفعل نسبة وإضافة إلى الفاعل ونسبة وإضافة إلى الخالق كالسواد فإن له إضافة إلى الأسود لأنه محله وإلى الخالق الذي خلقه في الأسود حتى صار به أسود ، فقوله تعالى : فويل للذين كفروا فيه إضافة الكفر إلى العبد ، ولا شك أنه كذلك ، وليس لنا فيه نزاع أصلا والكلام في الخلق لا في الكسب والمباشرة وقوله تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ، لا شك أن الكتابة تصدر من يد الكاتب وهذا محسوس لا يحتاج إلى الاستدلال ، والكلام في الخلق والتأثير فنقول : الكتابة كسب العبد وخلق الحق ألم يقرء هذا الرجل آخر هذا الآية ؟ ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون صرح بالكسب وأن كتابتهم كسب لهم ، لا أنه خلق لهم ، وقس عليه باقي الآيات المذكورة (انتهى) أقول نعم هذا معنى النص لكن لا يلزم أن يكون حصول التنصيص على المقصود من مجرد مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن القراين الداخلة والخارجة من مقتضيات الحال والمقال ، كما يفهم من كلام الناصب موافقا بجماعة زعموا مثله وبنوا عليه الحكم بندور النص في الكتاب والسنة ، فإن هذا مردود عند المحققين منا ومنهم فقد

(هامش)

(1) المثل ما شبه مضر به مردود . (*)

ص 35

قال جلال الدين السيوطي الشافعي (1) في كتاب الاتقان (2) إنه بالغ إمام الحرمين (3) وغيره في الرد عليهم ، بأن الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على قطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال ، وهذا وإن عز حصوله يوضع الصيغ ردا إلى اللغة لكنه كثير مع القرائن الحالية والمقالية (انتهى) . وبالجملة كل ما يحتمل الوجوه بالنظر إلى مفهوم العبارة في بادي النظر ، ثم اندفع تلك الوجوه والاحتمالات بالنظر إلى القرائن الظاهرة داخل في النص ومخالفته إذا كان قرآنا أو حديثا يكون

(هامش)

(1) هو الشيخ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمان الشافعي السيوطي المصري مولدا ومسكنا الشافعي فروعا الأشعري أصولا ، كان أعجوبة في اقتناء الفضائل والعلوم ، مشهورا بكثرة التصنيف والتأليف ، حتى يقال : إنه صدرت من قلبه خمسمأة كتاب ورسالة ، منها كتاب طبقات الحفاظ ، وكتاب الاتقان ، وكتاب شرح ألفية ابن مالك في النحو ، وكتاب الإكليل في استنباط التنزيل ، وكتاب الجامع الصغير في حديث البشير النذير ، وكتاب تاريخ الخلفاء ، وكتاب الخصائص الكبرى وغيرها . أخذ العلوم عن جماعة منهم الشيخ أبو العباس الشمني صاحبة الحاشية على المغني في النحو ومنهم الشيخ علم الدين المناوي ، ومنهم الشيخ محي الدين الكافيجي ، ومنهم الشيخ علم الدين البلقيني وغيرهم . (2) هو كتاب الاتقان في علوم القرآن ، ولعمري أنه سفر نفيس قليل النظير في بابه ، وقد صرح بما ينقل عنه القاضي هنا في الجزء الثاني من الاتقان ص 6 طبع مصر . (3) هو الشيخ عبد الملك أبو المعالي الجويني الشافعي أستاذ الغزالي صاحب الإحياء ، له كتب ورسائل ، منها الارشاد في أصول الدين ، والأساليب في الخلاف الغيابي ، وغنية المسترشدين وغيرها ، ويروى من الحافظ أبي نعيم توفي سند 470 فراجع الريحانة ج 1 ص 102 .

ص 36

كفرا ، وأما ما ذكره من العجب ، فليس من جهله يعجب ! ويدفعه أنه لما ادعى المصنف نصوصية تلك الآيات على مطلوبه فعلى تقدير تسليم أن الرازي ذكر لها تأويلات كان تعرض المصنف لذكرها لغوا مستدركا وكفى في ضعف ارتكاب التأويل ما قيل : إن يوم التأويل ليل أليل ، سيما تأويل النصوص المعتضدة بدليل العقل ، وبالجملة تلك التأويلات صرف للآيات تصريف الأفعال في غير ما أنزلت فيه وإحالة لكلام الله ، وتحريف للكلم عن مواضعها وجعلها تابعة لهوى المذهب ، وإخراج للقرآن المبين عن أن يكون دليلا للمحققين وحجة على المبطلين وفتح لباب تأويلات الباطنية الملحدين ، وما ندري ، كيف يستجير من يعلم أن وعد الله حق مثل هذا في القرآن وفي دين الله المبين ! ؟ ، وأما ما ذكره من المثل ، ففيه من الخبط ما يليق أن يضرب به المثل ، وذلك لأن المصنف لما ادعى أن تلك الآيات كانت على مذهبه نصوصا ، فكانت على صدور الخصم نصولا ولها إليهم إصابة ووصولا ، فكيف يصدق أنه كان قبل ذلك لها في يد الخصم حصولا ، وأنهم جعلوا غيرهم بها مقتولا ، على أنا لو فرضنا أن الرازي أو غيره من أهل السنة كابروا على نصوص تلك الآيات واستدلوا بها على مذهبهم قبل استدلال أهل العدل بها ، فمثل المصنف في ذلك حينئذ مثل قوم من الأقوياء الرماة لخصمهم من بعيد قد قابلهم من الحمق الشديد جماعة كان قسيهم من الضعف في النزع (1) ، وسهامهم خالية معن الأثر واللذع (2) ، فقصرت سهامهم عن الوصول إلى الصدور والأصلاب ، ووقعت قدام هؤلاء الأقوياء على التراب فالتقط من الأقوياء من كان له من الرماية سهم وافر تلك السهام القاصرة ورماها على رماتها تلك الجماعة الحمقى الخاسرة ، حتى قتل بتلك السهام أحبارهم والبقية

(هامش)

(1) يقال : هذا في النزع أي قلع الحياة ، يقال : نزع في القوس أي مدها ، والمراد هنا المعنى الأول على وجه الاستعارة . (2) لذع الحب قلبه كمنع : آلمه .

ص 37

ولوا أدبارهم ثم يفتخر ذلك الملتقط بأنه قتل هؤلاء بسهامهم ونصولهم واستأصلهم بها عن أصولهم ، وأما ما ذكره من أنا لا ننكر أن للفعل نسبة وإضافة الخ ففيه أن الكلام ليس في مطلق النسبة وإلا فللفعل إلى الزمان والمكان أيضا نسبة مع أنهما ليسا فاعلين له اتفاقا ، بل الكلام في نسبة الفاعلية ولم يعهد في العرف ولغة القرآن تسمية المحل فاعلا وكاسبا ، بل الفاعل هو الخالق ، والفرق بين الخلق ولكسب اصطلاح من الأشاعرة لا يفيد في مقابلة الخصم على أن الكسب الذي ينسبونه إلى العبد بمعنى صرف العبد القدرة ، أو بمعنى المباشرة والمقارنة والمحلية ونحوها ، فخالق الصرف ونحوه ، إما الله تعالى فلا شيء للعبد ، وإما العبد فيلزم أن يكون خالق بعض أفعاله ، ولا ينفع دعوى كونه اعتباريا في إخراجه عن كونه مخلوقا للعبد ، لأن مسألة خلقه تعالى الأعمال تعم الأفعال الاعتبارية كما يدل عليه جعلهم الكفر من المخلوقات ، بما ذكرنا يندفع جميع ما ذكره الناصب في تأويل الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العباد ، لأن معنى كفروا في العرف واللغة الذين فعلوا الكفر لا من صار محلا للكفر ، وأما الكسب بمعنى المباشرة وصرف القدرة فراجع إلى الفعل كما أشرنا إليه ، فينا في ما ادعوه من أنه لا فاعل في الوجود إلا الله ، وإن جوزوا صدور هذين الفعلين من العبد فليجوزوا صدور الأفعال المتنازع فيها منه أيضا من غير احتياج إلى تحمل اختراع الكسب المحال (1) وأما ما ذكره : من أنه لا شك أنه تصدر الكتابة من يد الكاتب ، وهذا محسوس لا يحتاج إلى الاستدلال ، والكلام في الخلق والتأثير الخ ففيه ما مر من بطلان الفرق بين الخلق والفعل ، وبطلان القول بالقدرة الغير المؤثرة ، والحاصل أن هذه الآية صريحة فيما ادعاه المصنف قدس سره غير قابلة للتأويل لأن مفادها إثبات الفعل لأحد ، ونفيه عن غيره ففيه إضافة الفعل إلى فاعله على أبلغ الوجوه ، وتوضيحه : أنه تعالى عبر فيها

(هامش)

(1) قد سبق إن لفظة المحال من اللغات المثلثة .

ص 38

بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر أعمالهن بها ، ولأن العادة قد جرت بإضافة الأفعال التي يلابسها الإنسان إلى اليد وإن اكتسبها بجارحة أخرى ، فجرى خطاب الله تعالى على عادتهم ، ولأن ذكر اليد يحقق ويؤيد إضافة الفعل إلى فاعله ، كما ورد في المثل (1) يداك أوكتا وفوك نفخ يعني يداك لا يدا غيرك ، وفوك لا فو سواك يعني أنت فعلت بآلتك ، لاستحالة أن يفعل أحد بجارحتك وأما قوله صرح الله بالكسب في الآية المذكورة فمدخول بما أشرنا إليه سابقا : من أن لفظ الكسب في الآية بمعنى آخر غير ما اخترعه الأشاعرة ، لكنهم للقرار عن الجبر اضطروا إلى صرفه عن ظاهره ، وصرفه كصرف (2) الأفعال تارة إلى صرف القدرة نحو الفعل ، وتارة إلى المقارنة والمباشرة ، وتارة إلى المحلية وتارة إلى اتصاف الفعل بالطاعة أو المعصية ، وشيء من هذه المعاني لم يعهد في اللغة ، ولا فهم من الكتاب والسنة كما لا يخفى على من تأمل وأنصف . قال المصنف رفع الله درجته الثاني ما ورد في القرآن من مدح المؤمن على إيمانه ، وذم الكافر على كفره ،

(هامش)

(1) قال في الأساس : أوكت السقاء شده بالوكاء ، وهو الرباط ، وفي المثل يداك أوكتا وفوك نفخ : قال في مجمع الأمثال : وقال المفضل : أصله إن رجلا كان في جزيرة من جزائر البحر فأراد أن يعبر على زق قد نفخ فيه فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط البحر فخرجت منه الريح فغرق ، فلما غشيه الموت استغاث برجل فقال له : يداك أوكتا اه يضرب لمن يجنى على نفسه الحين . (2) هذه الوجوه التي تأولها زعماء الأشاعرة وصرفوا ظواهر الآيات الشريفة إليها وبالمراجعة إلى الروضة البهية وشروح المواقف وأربعين الرازي . (*)

ص 39

ووعده بالثواب على الطاعة ، وتوعده بالعقاب على المعصية كقوله تعالى اليوم تجزي كل نفس بما كسبت (1) . اليوم تجزون ما كنتم تعملون (2) ، وإبراهيم الذي وفى (3) ، أن لا تزر وازرة وزر أخرى (4) ، لتجزي كل نفس بما تسعى (5) ، هل جزاء الاحسان إلا الاحسان (6) ، هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ، (7) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، (8) ومن أعرض عن ذكري (9) أولئك الرين اشتروا الحيوة الدنيا ، (10) والذين كفروا بعد إيمانهم ، (11) انتهى قال الناصب خفضه الله أقول : مدح المؤمن وذم الكافر بكونهما محلا للكفر والإيمان ، كما يمدح الرجل لحسنه وجماله وتمدح اللؤلؤة بصفاتها ، والوعد والوعيد لكونهما محلا للأعمال الحسنة والسيئة كما يؤثر ويختار المسك ويحرق الحطب والحشيش ، والآيات المذكورة إنما تدل على المدح للمؤمن والذم للكافر ، وبيان ترتب الجزاء وليس النزاع

(هامش)

(1) غافر . الآية 17 . (2) الطور . الآية 16 . (3) النجم . الآية 37 (4) النجم . الآية 38 . (5) طه . الآية 15 . (6) الرحمان . الآية 60 . (7) النمل . الآية 9 . (8) الأنعام . الآية 160 . (9) طه . الآية 124 . (10) البقرة . الآية 86 . (11) آل عمران . الآية 90 .

ص 40

في هذا لأن هذا مسلم ، والكلام في أن الأعمال المجزية هل هي مخلوقة لله تعالى أو للعبد ؟ وأما المباشرة للعمل والكسب الذي يترتب عليه الوعد والوعيد والجزاء فلا كلام في أنها من العبد ، ولهذا يترتب عليها الجزاء ، فعل أن في الآيات ليس دليل لمذهبه (انتهى) . أقول قد مر أن القول بسببية المحل والاتصاف الحاصل بدون الاختيار ضروري البطلان وينبه عليه بأن أفعال العباد مما يصح المدح والذم عليه اتفاقا ، والغرائز الحاصلة في محلها ليست كذلك ، لما وقع فيها الاختلاف ، وبالجملة أنا نعم ضرورة قبح المدح والذم على كون الشخص طويلا أو قصيرا ، أو كون السماء فوقه والأرض تحته ، وإنما يحسن هذا المدح أو الذم لو كان للعبد فعل يصدر عنه ، وأما تمثيله لذلك يمدح الرجل بحسنه وجماله وبمدح اللؤلؤة بصفاتها فمردود ، بأن المدح وإن عم الاختياري وغيره ، لكن مدح المؤمن على إيمانه مثلا إنما يقع من حيث اختياره في ذلك وإذ لا اختيار له فيه فينتفي المدح من تلك الحيثية ، وهذا وهو مراد المصنف وحينئذ الاستشهاد بمدح نحو اللؤلؤة يكون خارجا عن المبحث كما لا يخفى . قال المصنف رفع الله درجته الثالث الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عن أن يكون مثل أفعال المخلوقين من التفاوت والاختلاف والظلم ، قال الله تعالى : ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت (1) الذي أحسن كل شيء خلقه (2) والكفر والظلم ليس بحسن

(هامش)

(1) الملك . الآية 3 . (2) السجدة . الآية 7 . (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب