شرح إحقاق الحق (ج2) |
ص 41
وقوله : وما خلقنا السماوات والأرض إلا بالحق ، (1) والكفر ليس بحق وقوله : إن الله
لا يظلم مثقال ذرة (2) ، وما ربك بظلام للعبيد (3) وما ظلمناهم (4) ، ولا ظلم اليوم
، (5) ، ولا يظلمون فتيلا (6) (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : مذهب جميع
المليين أن أفعال الله تعالى منزهة عن أن يكون مثل أفعال المخلوقين مشتملة على
التفاوت والاختلاف والظلم ، وأفعال الله تعالى منزهة عن هذه الأشياء ، فالآيات
الدالة على هذا المعنى دليل جميع المليين ولا يلزم الأشاعرة شيء منها ، لأنهم لا
يقولون ، إن أفعال العباد أفعال الله تعالى حتى يلزم المحذور ، بل إنهم يقولون :
أفعال العبادة مخلوقة لله مكسوبة للعبد ، وهذا التفاوت والاختلاف والظلم بواسطة
الكسب والمباشرة ، فالتفاوت والاختلاف واقع في أفعال العباد كما في سائر الأشياء
كالإنسان وغيره من المخلوقات ، فإن الاختلاف والتفاوت واقعان فيها لا محالة ، فهذا
التفاوت والاختلاف في تلك الأشياء بماذا ينسب وبأي شيء ينسب فلينسب إليه اختلاف
العباد (7) وأما الاستدلال بقوله : أحسن كل شيء خلقه على أن الكفر ليس خلقه فباطل ،
لأن الكفر مخلوق لا خلق ،
(1) الحجر . الآية 85 . (2) النساء . الآية 40 . (3) فصلت . الآية 46 . (4) هود .
الآية 101 . (5) غافر . الآية 17 . (6) الإسراء . الآية . 71 . (7) فيه اعتراف بأن
الله تعالى يخلق القبيح من الكفر وغيره ، وكفى ذلك في كفره وكفر أصحابه من الأشاعرة
الفاجرة . منه (قده) . (*)
ولو كان كل مخلوق حسنا أوجب أن لا يكون في الوجود قبيح ، وهو باطل لكثرة المؤذيات
والقبائح المتحققة بخلق الله تعالى على ما سيجئ ، وأما الاستدلال بقوله وما خلقنا
السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق على أن الكفر ليس مخلوقا لله تعالى لأنه ليس
بحق فباطل ، لأن معنى الآية : أنا ما خلقنا السماوات والأرض إلا متلبسين بالحق
والصدق والجد ، لا بالهزل والعبث كما قال : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما
لاعبين وما خلقناهما إلا بالحق (1) ولو كان المعنى وما خلقنا السماوات والأرض وما
بينهما ، إلا بكون كل مخلوق حقا لأفاد أن الكفر حق ، وأنى يفهم هذا المعنى من هذا
الكلام ، نعم ربما فهم ذلك الأعرابي الجاف (2) والحلي الراطن ذلك المعنى من كلام
الله (انتهى) . أقول قد مر بيان أن نفي الأشاعرة الظلم عن الله تعالى إنما هو بحسب
اللفظ دون المعنى والحقيقة ، وأن الكسب باطل بما مر مرارا وسيجئ في موضعه ، وأما
قوله : فالتفاوت والاختلاف واقع في أفعال العباد كما في سائر الأشياء كالإنسان
وغيره من المخلوقات ، ففيه نظر من وجهين ، الأول : أنه يشعر بأن في خلق الإنسان
ونحوه من مخلوقات الله تفاوتا واختلافا أيضا ، وهذا مع مخالفته لنص الآية مناف أيضا
لما قاله سابقا : من أن أفعال الله تعالى منزهة عن التفاوت والاختلاف ، والثاني :
أنه فهم من في الاختلاف الواقع في الآية نفي الاختلاف بحسب الأنواع والأشخاص
الدخان . الآية 39 . (2) قف على بذائة لسان الرجل وقلة أدبه وسلوكه في سبيل
العلميات مسلك المكارين والجمالين والحجامين ، فبالله عليك أهكذا سيرة العلماء
وطريقة العقلاء عصمنا الله تعالى من العصبية الباردة الجاهلية . (*)
ونحوها ، ولهذا وقع في محله ورطة مخالفة القرآن ومناقضة نفسه ، وليس كذلك بل المراد
من التفاوت والاختلاف المنفي في الآية عدم التناسب والنظام بحيث يقول الناظر الفهم
: لو كان كذا لكان أحسن ، كذا في تفسير النيسابوري : ومن البين أن أكثر أفعال
الإنسان بهذه الحيثية ، وأما ما ذكره : من أن الكفر مخلوق لا خلق فغير قادح في
استدلال المصنف بالآية لأنها كما قصد المصنف إنما دل على حسن الخلوق لا الخلق لأنه
الحسن المفهوم من قوله تعالى : أحسن كل شيء خلقه ، إنما يتعلق بكل شيء خلقه ،
بالخلق المفهوم من خلق الماضي في قوله : خلقه ، ولا ريب في أن الشيء الذي خلقه الله
هو مخلوقه لا خلقه ، قوله : ولو كان كل مخلوق حسنا الخ قلنا : بطلان اللازم ممنوع
قوله : لكثرة المؤذيات والقبائح والمتحققة قلنا : هذا مع كونه منافيا لإنكاره سابقا
كون القبائح صادرة من الله تعالى مردود بأنه إن أراد من المؤذيات والقبائح ما عدا
الأفعال الصادرة عن العباد كخلق الحيات والعقارب والسباع ونحوها فقد بينا سابقا
أنها ليست بقبيحة عند التأمل في خواصها ، وكن نفها أكثر من ضررها ، وإن أراد به ما
يشمل أفعال العباد كالسرقة واللواطة والزنا فلا نسلم أنها صادرة عن الله تعالى ، بل
هو أول المسألة ، وأما ما ذكره من أن معنى الآية إنا ما خلقنا السماوات والأرض إلا
متلبسين بالحق والصدق الخ فيه أنه على تقدير تسليم أن يكون الحق والصدق والجد ،
معان متقاربة كما يدل عليه ظاهر كلامه ، لا معنى للآية إلا أن تكون تلك الأشياء حقا
لا أن الحق أمر آخر مباين لها متلبس بها مصاحب لها كالحجر الموضوع بجنب الإنسان ،
وبهذا علم أن قوله : وأنى يفهم هذا المعنى من هذا الكلام دليل على اعوجاج فطرته
المر المرواني ، وقصور فهمه عن إدراك واضحات المعاني ، فإنه لا يفهم أن ما ذكره من
تفسير الآية هل هو مضمون كلام المصنف أو يدفعه ويمنعه
ص 44
ولا يدري أين يذهب رأسه ؟ وبأي شيء يشتعل أو ينطفي نبراسه ؟ (1) والحمد لله على
خلاصنا من عظيم ما ابتلوا به من المجاهرة بالباطل ، ومعارضتهم الحق بأغث (2) ما
يكون من الكلام قال المصنف رفع الله درجته الرابع : الآيات الدالة على ذم العباد
على الكفر كقوله تعالى : كيف تكفرون بالله (3) والإنكار والتوبيخ مع العجز عنه محال
، ومن مذهبهم أن الله تعالى خلق الكفر في الكافر وأراده منه ، وهو لا يقدر على غيره
فكيف يوبخه عليه ! ؟ وقال الله تعالى : وما يمنع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم الهدى
(4) وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومن المعلوم أن رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه
الخروج عنه ثم يقول : ما منعك من التصرف في حوائجي قبح منه ذلك ، وكذا قوله تعالى :
وماذا عليهم لو آمنوا (5) ما منعك أن تسجد (6) وقوله : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (7)
، فما لهم عن التذكرة معرضين (8) فما لهم لا يؤمنون (9) عفا الله
(1) النبراس بكسر النون وسكون الموحدة المصباح والجمع النبارس والنباريس ، وقد يطلق
على السنان ، وعلى الآبار المتقاربة والمراد هنا المعنى الأول . (2) من غث وأغث
الحديث : فسد . (3) البقرة . الآية 28 . (4) الكهف . الآية 51 . (5) النساء . الآية
51 . (6) ص . الآية 75 . (7) طه . الآية 92 . (8) المدثر . الآية 49 . (9) الانشقاق
. الآية 21 . (*)
عنك لم أذنت لهم (1) ثم تحرم ما أحل الله لك (2) وكيف يجوز أن يقول لم تفعل ؟ مع
أنه ما فعله وقوله : لم تلبسون الحق بالباطل (3) ، لم تصدون عن سبيل الله (4) ؟ قال
الصاحب ابن عباد (5) : كيف يأمر بالإيمان ولم يرده ؟ وينهى
(1) التوبة . الآية 43 . (2) التحريم . الآية 1 . (3) آل عمران . الآية 71 . (4) آل
عمران . الآية 99 . (5) هو الوزير الأديب الفاضل الجليل أبو القاسم إسماعيل بن عباد
بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الديلمي المعروف بكافي الكفاة والصاحب والعلامة
الوزير كان نابغة في العلوم لا سيما الأدب والكلام استوزره مؤيد الدولة وأخوه فخر
الدولة من الملوك الديالمة البويهيين وكان من بيت الوزارة والفضل ، قال أبو سعيد
الرستمي في حقه . شعر ورث الوزارة كابرا عن كابر * * موصولة الإسناد بالإسناد يروي
عن العباس عباد وزا * * رته وإسماعيل عن عباد وكان ره كثير البر والفضل على العلماء
والسادات ، الألسن والأقلام قاصرة عن ذكر مكارمه ومحامده ، وكفي في نبله وعلو كعبه
ما أورده المخالفون من فضائله في كتبهم وكان شديد الولاء في حق الذرية العلوية ،
وله في مديحهم قصائد وأبيات رائقة ويحكى أنه كان سبطه السيد الگلستاني جالسا ذات
يوم في حجره وهو طفل فقال الصاحب ارتجالا . الحمد لله حمدا دائما أبدا * إذ صار سبط
رسول الله لي ولدا وله تصانيف وتآليف ، منها : الإبانة عن مذهب أهل العدل بحجج من
القرآن والعقل في الإمامة ، وإثبات حقية مذهب الشيعة ، وكتاب ديوان الرسائل وكتاب
عنوان المعارف وكتاب جوهرة الجمهرة في تلخيص جمهرة ابن دريد وكتاب المحيط في اللغة
وكتاب التذكرة وكتاب الأمثال ورسالة الفرق بين الضاد والظاء وكتاب الكشف عن مساوئ
شعر = (*)
عن الكفر وقد أراده ؟ ويعاقب على الباطل وقدره ، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أنى
تصرفون (1) . ويخلق فيهم الكفر ثم يقول : كيف تكفرون ؟ ، ويخلق فيهم لبس الحق
بالباطل ثم يقول : لم تلبسون الحق بالباطل ، وصدهم عن سواء السبيل ثم يقول : لم
تصدون عن سبيل الله ، وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال وماذا عليه لو آمنوا
= المتنبي ونهج السبيل والقضاء والقدر وغيرها من الكتب والرسائل النفيسة . ولد سنة
324 وقيل 326 توفي سنة 385 وقيل 387 ببلدة ري ونقل نعشه إلى أصفهان ودفن بمقبرته
المعروفة إلى الآن في باب (طوقچى) . قال أبو الحسن الهمداني في رثائه يبكي الأنام
سليل عباد العلا * والدين والقرآن والاسلام ما ت المعالي والعلوم بموته * فعل
المعالي والعلام سلام فراجع إلى الريحانة ج 6 ص 69 إلى 75 ثم المطلب الذي ينقله
مولينا المصنف العلامة موجود في رسالة الجبر والتفويض للصاحب وسمع أن كلية دانشگاه
طبعها أو يصدد طبعها . ثم ليعلم أن كافي الكفاة الوزير الصاحب أخذ علم النحو من
جماعة منهم أبو سعيد السيرافي ، وابن فارس اللغوي ، وأبو بكر بن كامل وأبو بكر بن
مقسم وغيرهم بحيث صار من أعلام النحاة . وأخذ اللغة عن ابن فارس وغيره من أعيان هذا
العلم . وأخذ الكلام عن أبي محمد الرازي كما في بعض المجاميع المخطوطة . وأخذ
التفسير والحديث عن جماعة من محدثي بغداد وغيرهم من علماء سائر الأمصار . ومن أكثر
الأخذ والرواية عنه علي بن الحسين السعدآبادي والروياني وغيرهما . (1) يونس . الآية
32 . (*)
بالله (1) ، وذهب بهم عن الرشد ثم قال : فأين تذهبون (2) وأضلهم عن الدين حتى
أعرضوا ثم قال فما لهم عن التذكرة معرضين (3) (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول
: قد سبق أن ذم العباد على الكفر لكونهم محل الكفر ، والكاسبين المباشرين له
والإنكار والتوبيخ في قوله تعالى : كيف تكفرون بالله لكسبهم الكفر ، وهم غير عاجزين
عن الكسب لوجود القدرة على الكسب وإن كانوا عاجزين عن دفع الكفر عنهم بحسب الإيجاد
والخلق ، والأول كاف في ترتب التوبيخ على فعلهم ، وأما ما ذكره من أن مذهبهم أن
الله تعالى خلق الكفر في الكافر وأراد منه وهو لا يقدر على غيره فكيف يوبخه عليه
فقد ذكرنا جوابه فيما سبق أن التوبيخ باعتبار الكسب والمحلية لا باعتبار التأثير
والخالقية ، وقد ذكرنا فيما سبق : أن هذا يلزمهم في العلم بعينه وكذا حكم باقي ما
ذكر من الآيات المشتملة على توبيخ الله تعالى عباده بالشرك والمعاصي فإن كل هذه
التوبيخات متوجهة إلى العباد باعتبار المحلية والكسب ، لا باعتبار الخلق ، وأما ما
ذكره من كلمات الصاحب ابن عباد فهو كان رجلا وزيرا متشدقا (4) في الانشاء معتزليا
ذكر الكلمات وسردها على وتيرة أرباب الترسلات والمراسلات ، وليس فيه دليل ، وما
أحسن ما قيل في أمثال كلامه شعر : كلامك يا هذا كبندق فارغ خلي عن المعنى ولكن
يقرقر (انتهى)
(1) النساء . الآية 39 . (2) التكوير . الآية 26 . (3) المدثر . الآية 49 . (4) من
تشدق : توسع في الكلام من غير احتياط .
أقول قد سبق أن القول بالمحلية والكسب لا محل له عند العقل ، ولا يكسب لهم خيرا ولا
يصلح وجها لتوجه الإنكار والتوبيخ من الله تعالى إلى العباد ، ولا يكفي في ترتبهما
على فعلهم ، وقد سبق أن مظنة لزوم مثل ذلك علينا في العلم من قبيل إن بعض الظن أثم
(1) ، وكذا الكلام في باقي ما ذكره من الآيات وأما ما ذكره في دفع كلمات صاحب ابن
عباد رحمه الله : من أنه كان رجلا وزيرا متشدقا معتزليا ، فلا يخفى ما فيه إذ لا
يقدح شيء من الوزارة وبلوغ الفصاحة والبلاغة والاعتزال في فضل الرجل وحسن مقاله ،
انظر إلى ما قال ، ولا تنظر إلى من (2) قال ، لكن الناصب جعل ذلك وسيلة للهرب عن
جوابه ، ولم يمنعه عنه ما كان له بنفسه من إعجابه ، ثم ما ذكر : إنه كان من أهل
الاعتزال إنما نشأ عن جهله بأحوال الرجال وإنما كان الصاحب رحمه الله شيعيا إماميا
بالغا إلى نصابه (3) نشأ في حجر التشيع ، وارضع من لبابه (4) على رغم أنف الناصب
وأصحابه كما حققه أرباب التاريخ في بابه ، وأما ما ذكر من الشعر المشعر بأنه زعم
كلام الصاحب
(1) الحجرات . الآية 12 . (2) الكلمة من درر الكلمات نسبت إلى مولينا أمير المؤمنين
عليه الصلاة والسلام . (3) ولا يخفى لطف التعبير عن كونه شيعيا اثني عشريا ببلوغ
النصاب . (4) إشارة إلى كون الصاحب كافي الكفاة عريفا في التشيع أصيلا في ولاء آل
الرسول صلى الله عليه وآله بحسب الآباء والأمهات ، كما أشرنا إليه عند التعرض لنبذ
من ترجمته المنيعة . ثم أن مولينا القاضي الشهيد قال في هامش الكتاب في هذا الموضع
ما لفظه : هذه إشارة إلى كون اثني عشريا فإنه لب التشيع ، وباقي طوائف الشيعة قشر
باطل (انتهى) .
خاليا من المعنى فلينصف أولياء الناصب أن الخالي عن المعاني هو الكسب الذي اضطربوا
في تحصيل معناه كما بيناه ، أو الكلام المنقول عن الصاحب الذي جل أن يوصف لفظه إلا
بالدر المنظوم ، وكؤوس معانيه إلا بالرحيق المختوم ، لكن الجاهل المعاند الذي ختم
الله على قلبه فلا يتقي من الله تعالى ولا يستحي من الناس ولا يبالي بما أطلق به
لسانه لا يعجز عن الاتيان بمثل هذا الشعر الذي كلام شيخه الأشعري الخالي عن الشعور
أولى به ، ولا غرو أن الحق ينكره الجهول سيما الفضول (1) الذي هو على شفا (2) جرف
مهول كما قيل شعر : الحق ينكره الجهول لأنه * عدم التصور فيه والتصديقا وهو العدول
لكل ما هو جاهل * فإذا تصوره يعود صديقا قال المصنف رفع الله درجته الخامس الآيات
التي ذكره الله تعالى فيها تخبير العباد في أفعالهم ، وتعليقها بمشيتهم قال : فمن
شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر (3) اعملوا ما شئتم (4) ، فسيرى الله علمكم ورسوله (5)
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (6) فمن شاء ذكره (7) ، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا
(8) ، فمن شاء اتخذ إلى ربه
(1) لا يخفى ما في التعبير بالفضول من الايماء إلى اسم الناصب وهو الفضل بن روز
بهان (2) متخذ من قوله تعالى في سورة التوبة الآية 109 . (3) الكهف . الآية 29 .
(4) فصلت . الآية 40 . (5) التوبة . الآية 105 . (6) المدثر . الآية 37 . (7)
المدثر . الآية 55 وعبس الآية 12 . (8) المزمل . الآية 19 .
مآبا (1) ، وقد أنكر الله تعالى على من نفى المشية عن نفسه وأضافها إلى الله تعالى
بقوله : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا (2) وقالوا لو شاء الرحمان ما
عبدناهم (3) (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : هذا الآيات تدل على أن للعبد
مشيءة وهذا شيء لا ريب فيه ، ولا خلاف لنا فيه ، بل النزاع في أن هذه المشيءة التي
للعبد هل هي مؤثرة في الفعل موجدة إياه أو هي موجبة للمباشرة والكسب ؟ فإقامة
الدليل على وجود المشيءة في العبد غير نافعة له ، وأما قوله : قد أنكر الله تعالى
على من نفى المشيءة عن نفسه ، وأضافها إلى الله تعالى بقوله : سيقول الذين أشركوا
لو شاء الله ما أشركنا ، فنقول : هذا الانكار بواسطة إحالة الذنب على مشيءة الله
تعالى عنادا أو تعنتا (4) فأنكر الله عليهم عنادهم ، وجعل المشيءة الإلهية للذنب ،
وهذا باطل ، ألا ترى إلى قوله : ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا كيف
نسب عدم الاشراك إلى المشيءة : ولولا أن الانكار في الآية الأولى لجعل المشيءة علة
للذنب ، وفي الثانية لتعميم حكم المشيءة الموجبة للخلق ، لم يكن فرق بين الأولى
والثانية والحال أن
(1) النبأ . الآية 39 . (2) الأنعام . الآية 148 . (3) الزخرف الآية 20 . (4) الفرق
بين العناد والتعنت بعد اشتراكهما في كونهما دالين على اللجاج ، أن العناد يقال
فيما كل صاحبه عالما بكون ما يذهب إليه مخالفا للحق بخلاف التعنت فإنه أعم ، أو
الفرق أن العناد حيثما كان صاحبه لجوجا ولدودا ، والتعنت حيثما يظهر اللداد أو غير
ذلك .
الأولى واردة للانكار على ذلك وهو منقول عنهم ، والثانية من الله تعالى من غير
إنكار فليتأمل المتأمل ليظهر عليه الحق (انتهى) أقول قد مر بيان أن إثبات القدرة
والمشيءة بدون التأثير لا محصل له ، وأن القول بالكسب لا أثر له في دفع الجبر ،
وأما ما ذكره من أن هذا الانكار بواسطة إحالة الذنب على مشيءة الله تعالى الخ ففيه
أن صريح الآية اعتقادهم أن مشيءة الله تعالى علة لشركهم وكون الشرك ذنبا أو غيره
غير مفهوم من لفظ الشرك ، وإنما فهم من خارج ، والقول بعلية مشيءة الله تعالى وعلمه
للشرك وجميع أفعال العباد مما شارك فيه الأشاعرة مع المشركين ، وقد نفاها الله
تعالى ، كما قرره المصنف فالعدول عن جعل مشيءة الله تعالى في الآية علة لنفس الشرك
وجعله علة لوصف كونه ذنبا صرف للآية عن طاهرها والبناء على الكسب بالمعنى الذي ذكره
القاضي أبو بكر الباقلاني وفخر الدين الرازي (1) حيث قالا : إن حقيقة الكسب صفة
تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإن الصلاة والقتل مثلا كلتاهما
حركة وتتمايزان بكون إحديهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به
الامتياز ، فأصل الحركة لقدرة الله تعالى وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وأورد عليه
أن امتياز المطلق عن مقيداته إنما هو في العقل دون الخارج ، وهو لا يصحح كون كل من
هذين التمايزين مقدورا بقدرة أخرى ، وأما ما ذكره من أنه لولا التأويل الذي ذكره في
الآية الأولى ، لما فرق بينها وبين الآية الثانية فدفعه هين والفرق بين ، لأن
المراد بالمشيءة في الآية المشيءة المطلقة يعني أن الله تعالى لو شاء عدم الشرك منا
لما أشركنا ، لكنه لم يشأ ذلك ، وحاصل الانكار أنكم كاذبون في أن الله تعالى لم يشأ
(1) قد سبق ترجمتهما في (ج 1 ص 247 و110)
عدم شرككم ، لأنه تعالى شاء ذلك بالمشيءة التكليفية الاختيارية التفويضية ، بأن
تختاروا عدم الشرك بإرادتكم ومشيءتكم فارتكبتم بسوء اختياركم الشرك وتركتم التوحيد
، والمراد بالمشيءة في الآية التي ذكرها الناصب المشيءة الإجبارية الاضطرارية ،
وحاصل هذه الآية أن الله تعالى لو أراد عدم شركهم بالمشيءة الإجبارية لما أمكنهم
الشرك ، لكن لم يشأ ذلك على هذا الوجه لمنافاته غرض التكليف كما مر ، ولا منافاة
بين معنى الآيتين على هذا ، ولا تكلف في التأويل كما ترى ، ونظير هذه الآية قوله
تعالى : ولو شاء الله ليهديكم أجمعين (1) وقوله : ولو شاء لجعلهم أمة واحدة (2) .
قال المصنف رفع الله درجته السادس الآيات التي فيه أمر العبد بالافعال (الاقبال خ
ل) والمسارعة إليها قبل فواتها كقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم (3) ،
أجيبوا داعي الله وآمنوا به (4) ، استجيبوا لله وللرسول (5) ، يا أيها الذين آمنوا
اركعوا واسجدوا (6) واعبدوا ربكم (7) فآمنوا به خيرا لكم (8) واتبعوا أحسن ما أنزل
إليكم (9)
(1) الأنعام . الآية 149 . (2) الشورى . 8 (3) الأنعام . الآية 133 . (4) الأحقاف .
الآية 31 . (5) الأنفال . الآية 24 . (6) الحج : الآية 77 . (7) البقرة . الآية 21
. (8) النساء . الآية 170 . (9) الزمر . الآية 55 . (*)
وأنيبوا إلى ربكم (1) ، فكيف يصح الأمر بالطاعة والمسارعة إليها مع كون المأمور
ممنوعا عاجزا عن الاتيان به ، وكما يستحيل أن يقال للمقعد الزمن قم ، ولمن يرمى من
شاهق جبل أحفظ نفسك فكذا هاهنا (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : أمر العباد
بالمسارعة في الخيرات من باب التكليف ، وقد سبق فائدة التكليف وأنه ربما يصير داعيا
إلى إقبال العبد إلى الله تعالى وخلق الثواب والعقاب عقيب التكليف والبعثة ، وعمل
العباد كخلق الاحراق عقيب النار أنه لا يحسن أن يقال : لم خلق الله تعالى الاحراق
عقيب النار ؟ كذلك لا يحسن أن يقال : لم خلق الثواب والعقاب عقيب الطاعة والمعصية ،
فإنه تعالى مالك على الإطلاق ، ويحكم ما يريد ، وأما قوله : كيف يصح الأمر بالطاعة
والمأمور به (2) عاجز : فالجواب ما سبق أنه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة ، والكلام
في الخلق والتأثير لا في الكسب والمباشرة (انتهى) . أقول قد سبق أن العبد بطبعه لا
يخلو عن الفعل والترك ، فلا حاجة له في ذلك إلى التكليف فبقي أن يكون التكليف للحث
على الخيرات والزجر عن المعاصي كما ذكره المصنف قدس سره ، وقد سبق أن نفي السببية
الحقيقية سفسطة لا يلتفت إليها ، وأن المالك على الإطلاق إنما يحسن منه التصرف على
وجه الحسن ، فإذا تصرف لا على وجه يستحسنه العقل السليم يذم ويحكم عليه بالسفه ،
وأما ما ذكره في الجواب
(1) الزمر . الآية 54 . (2) أي الشخصين المأمور بالطاعة والامتثال واللام الداخلة
على الوصف موصولة فلا تغفل . (*)
من أنه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة ، فقد مر وسيجئ دفعه بإبطال الكسب بأي معنى
كان إن شاء الله تعالى . قال المصنف رفع الله درجته السابع الآيات التي حث الله
تعالى فيها على الاستعانة به كقوله تعالى : إياك نعبد وإياك نستعين (1) ، فاستعذ
بالله من الشيطان الرجيم (2) ، استعينوا بالله (3) ، فإذا كان الله تعالى خلق الكفر
والمعاصي كيف يستعان به (يستفاد منه خ ل) وأيضا يلزم بطلان الألطاف والدواعي ، لأنه
تعالى إذا كان هو الخالق لأفعال العباد فأي نفع يحصل للعبد من اللطف الذي يفعله
الله ! ؟ لكن الألطاف حاصلة كقوله تعالى : أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو
مرتين (4) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة (5) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في
الأرض (6) فيما رحمة من الله لنت لهم (7) ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (8)
(انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : خلق الكفر والمعاصي لا يوجب أن لا يستعان من
الخالق ، ولا يستعاذ به ،
(1) الحمد . الآية 5 . (2) النحل . الآية 98 . (3) الأعراف . الآية 128 . (4)
التوبة . الآية 126 . (6) الشورى . الآية 33 . (7) آل عمران . الآية 159 . (8)
العنكبوت . الآية 45 . (*)
فإن الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق ما يوجب الاستعانة والاستعاذة ، ولو كان
الأمر كما ذكروا لانسد باب الدعاء والطلب من الله تعالى ، لأنه خالق الأشياء وهذا
من الترهات التي لا يتفوه بها عاقل فضلا عن فاضل (انتهى) . أقول يتوجه عليه أن
الخلق بدون كسب العبد لما لم يوجب عندهم ثوابا ولا عقابا ، فلا حاجة إلى الاستعاذة
، والقول بأن الاستعاذة عن الخلق يجوز أن تكون لئلا تؤدي الخلق إلى الكسب مردود ،
بأن هذه التأدية إن كانت بالجبر فيلزم أن يكون الكسب أيضا بالجبر المحض ، وإن كان
باختيار العبد فلا وجه للاستعاذة فيه عن الله تعالى فتدبر . قال المصنف رفع الله
درجته الثامن الآيات الدالة على اعتراف الأنبياء بذنوبهم ، وإضافتها إلى أنفسهم
كقوله تعالى حكاية عن آدم (ع) : ربنا ظلمنا أنفسنا ، (1) وعن يونس (ع) : سبحانك إني
كنت من الظالمين (2) وعن موسى (ع) رب أني ظلمت نفسي (3) ، وقال يعقوب (ع) لأولاده :
بل سولت لكم أنفسكم أمرا (4) وقال يوسف (ع) : من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين
إخوتي ، (5) وقال نوح (ع) : رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم (6) ، فهذه
الآيات تدل على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين
(1) الأعراف . الآية 23 . (2) الأنبياء . الآية 87 . (3) القصص . الآية 16 . (4)
يوسف . الآية 18 . (5) يوسف . الآية 100 . (6) هود . الآية 47 . (*)
لأفعالهم (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقو : اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لا
يدل على اعتقادهم بكونهم خالقين والمدعى هو هذا وفيه التنازع ، فإن كل انسان يعلم
أنه فاعل للفعل ، ولكن الكلام في الخلق والإيجاد فليس فيها دليل لمدعاه (انتهى) .
أقول يدفعه أن الأصل في الإطلاق الحقيقة (1) والضرورة قاضية بذلك أيضا ، وقد مر
مرار ما في احتمال الكسب من الهذر والفساد ، فما بقي لهم إلا العناد . قال المصنف
رفع الله درجته التاسع الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة ، بأن كفرهم
ومعاصيهم كانت منهم كقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم (2) إلى
قوله : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (3) ، وقوله : ما سلككم
في سفر قالوا لم نك من المصلين (4) ، كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها (5) إلى قوله
: فكذبنا وقوله : ينالهم نصيب من الكتاب فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (6) (انتهى)
.
(1) أي تكون أفعالنا صادرة عنا لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة . (2) سبأ . الآية 31
. (3) سبأ . الآية 32 . (4) المدثر . الآية 43 . (5) الملك . الآية 8 . (6) الأعراف
. الآية 39 . (*)
قال الناصب خفضه الله أقول : اعتراف الكفار يوم القيامة لظهور ما ينكره المعتزلة ،
وهو أن الكسب من العبد والخلق من الله ، ألا ترى إلى قوله تعالى لهم يوم القيامة :
فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ، إي كان هذا الجزاء لكسبكم الأعمال السيئة ، وكل
هذا يدل على أن للعبد كسبا يؤاخذ به يوم القيامة ، ويجزي به ، ولا يدل على ما هو
محل النزاع وهو كونه خالقا لفعله وموجدا إياه فليس فيها دلالة على المقصود (انتهى)
. أقول يتوجه عليه أن ما حكم به بديهة العقول السليمة والبرهان العقلي لا يظهر
خلافه في الآخرة ، لما عرفت من إحكام قاعدة الحسن والقبح العقليين ، وما ذكره من
الآية لا تدل على إرادة ما اخترعوه من الكسب الذي لا محصل له ، لظهور أن الكسب في
الآية ليس بالمعنى الذي اخترعوه فلا يصح الاستدلال بها على مذهبهم فهو في ذلك مطالب
بالبيان ودونه خرط القتاد . قال المصنف رفع الله درجته العاشر الآيات التي ذكر الله
فيها ما يحصل منهم من التحسر في الآخرة على الكفر وطلب الرحمة ، قال الله تعالى :
وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا ، (1) قال : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا (2) ولو ترى
إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ، (3) ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا ،
(4) أو يقول :
(1) الفاطر . الآية 37 . (2) المؤمنون . الآية 99 . (3) السجدة . الآية 12 . السجدة
. الآية 12 . (*)
حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين (1) (انتهى) . قال الناصب خفضه الله
أقول : التحسر وطلب الرحمة لاكتساب الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة التي من
جملتها اعتقاد الشركاء لله تعالى كما هو مذهب المجوس ومن تابعهم من المليين
كالمعتزلة وتابعيهم ، وليس في هذه الآيات دليل على دعواهم (انتهى) . أقول قد مر أن
الكسب والاكتساب بالمعنى الذي اخترعوه بمعزل عن لغة القرآن وأما ما نسبه إلى أهل
العدل من اعتقاد شركاء لله تعالى فهو أولى بالأشعرية المثبتين للصفات الزائدة
القديمة كما سبق بيانه ، بل القول بالكسب وكونه مؤثرا في وصف الطاعة والمعصية
يستلزم ما هو أشد من الشرك الذي توهموه من قول أهل العدل باستناد أفعال العباد
إليهم كما مر بيانه ، بل يلزمهم فيه مشاركة المجوس بل النصارى حذو النعل بالنعل
والقذة بالقذة (2) كما سبق . قال المصنف رفع الله درجته فهذه الآيات وأمثالها من
نصوص الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، (3) ولا من خلفه تنزيل من
حكيم حميد ، فما عذر فضلائهم ؟ وهل يمكنهم الجواب عن
(1) الزمر . الآية 58 . (2) قال في النهاية : أي يقدر كل واحدة منهما على قدر
صاحبتها وتقطع يضرب مثلا للشيءين يستويان ولا يتفاوتان وقد تكرر ذكرها في الحديث ،
أقول : قد سبق نقل بعض ما ذكر فيه هذا المثل من الحديث (ج 1 ص 9) . (3) فصلت .
الآية 42 . (*)
هذا السؤال كيف تركتم هذه النصوص ونبذتموها وراءكم ظهريا ؟ (1) إلا بأنا طلبنا
الحياة الدنيا وآثرناها على الآخرة ، وما عذر عوامهم في الانقياد إلى فتوى علمائهم
واتباعهم في عقائدهم ؟ وهل يمكنهم الجواب عن هذا السؤال كيف تركتم هذه الآيات وقد
جاءكم بها النذير ، وعمرناكم فما يتذكر فيه من تذكر ؟ (2) ؟ إلا بأنا قلدنا آبائنا
وعلمائنا من غير فحص ولا بحث ولا نظر مع كثرة الخلاف وبلوغ الحجة إلينا ، فهل يقبل
عذر هذين القبيلين ؟ وهل يسمع كلام الفريقين ؟ (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول
: قد عرفت فيما معنى أن النص ما لا يحتمل خلاف المقصود ، وقد علمت في كل الفصول من
استدلالاته بالآيات أنها دالة على خلاف مقصوده ، فهي نصوص مخالفة لمدعاه ، والعجب
أنه يفتخر ويباهي باتيانها ؟ ثم يقول : ما عذر علمائهم وعوامهم ؟ فنقول : أما عذر
علمائهم فإنهم يقولون يوم القيامة : إلهنا كما نعلم أن لا خالق في الوجود سواك ،
وأنت خلقت كل شيء ، ونحن كسبنا المعصية أو الطاعة ، فإن تعذبنا فنحن عبادك ، وإن
تغفر لنا فبفضلك وكرمك ، ولك التصرف فينا كيف شئت ، وأما عذر عوامهم فإنهم يقولون :
إلهنا إن نبيك محمدا (ص) أمرنا بأن نكون ملازمين للسواد الأعظم ، فقال (ص) : عليكم
بالسواد الأعظم (3) ، ورأينا في أمته (ص) السواد الأعظم كان أهل السنة والجماعة ،
فدخلنا فيهم واعتقدنا مثل اعتقادهم ، ورأينا أن المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة
كاليهود يخفون مذهبهم ويسمونه التقية ، ويهربون من كل شاهق إلى شاهق ، ولو نسب
إليهم أنهم معتزليون ، أو شيعة ، يستنكفون عن
(1) إشارة إلى قوله تعالى في سورة آل عمران . الآية 187 . (2) إشارة إلى قوله تعالى
في سورة فاطر الآية 37 . (3) رواه في كنز العمال (ج 1 ص 160) وتقدم ذكره في الجزء
الأول من الكتاب . (*)
هذه النسبة ، فعلمنا أن الحق مع السواد الأعظم فتبعناهم (انتهى) . أقول قد بينا
فيما سبق ، لأن النص ليس ما توهمه من ظاهر تعريفه المذكور ، بل هو ما لا يحتمل خلاف
المقصود لو بمعونة القرائن الواضحة ، وأما ما ذكره : من أن الآيات كانت دالة على
خلاف مقصود المصنف فبناه في ذلك كما مر على أن لفظ الفعل المذكور في بعض تلك الآيات
بمعنى الكسب الذي اخترعه الأشعري ، وكذا ما ذكره فيها بلفظ الكسب ، وأنت تعلم لفظ
الفعل والكسب لم يجئ في اللغة بالمعنى الذي اخترعه من المحلية والمقارنة ونحوهما ،
ولا يدل عليه بإحدى الدلالات الثلاث ، فاحتمال إرادته الكسب بذلك المعنى كما هو
خلاف مقصود المصنف مخالف لمقصود الله تعالى أيضا ، فلا يقدح في استدلال المصنف بها
على مقصوده ، ولا يدفع كونها نصا في معناها الحقيقي ، وأما ما ذكره الناصب في تقرير
عذر علماء نحلته ، فهو مما لا يبيض وجوههم ، إذ يكذبهم الله تعالى في ذلك ويقول لهم
: كيف يصح دعواكم أنه لا خالق في الوجود سواك وأنت خلقت كل شيء ؟ مع أنكم أثبتم
صفات سبعة زائدة قديمة ، وأنكرتم كونها مخلوقة لي وأنكم نسبتموني إلى الظلم والسفه
حيث نفيتم عن أنفسكم الفعل وأثبتم الكسب بالمعنى الذي لا يوجب استحقاق العقاب
والثواب ، وأما التضرع إلى الله يأنك إن تعذبنا فنحن عبادك وإن تغفر لنا فبفضلك ،
فمشترك بين قاطبة أهل الإسلام لا اختصاص له بالأشاعرة ، وأما التصرف كيف شاء ، فإن
أراد به أنواعا وأصنافا من الثواب أو العقاب التي يستحقها المكلف في استحسان منزه
عن القبيح فيرد بذلك يرى على (رد على خ ل) وجوه ضراعتهم ، وأما ما ذكره في عذر
العوام ، فهو غير مسموع ، إذ يقول الله تعالى لهم في رد ذلك : من أين علمتم أن معنى
السواد الأعظم ذلك ؟
ص 61
مع أن سواد الكفر أعظم من سواد جميع الإسلام ، ولم ما تتبعتم وما علمتم أن خوف
الشيعة والمعتزلة وتقيتهم إنما كان منكم ومن كثرة سوادكم سود الله وجوهكم ولم ما
تذكرتم أن أهل الحق كانوا في زمان كل نبي قليلون ؟ وأهل الباطل كثيرون وإنما المعنى
(1) بالسواد الأعظم ما تركه النبي (ص) في أمته من الثقلين كتاب الله تعالى
(1) وأيضا السواد الأعظم هو ما يدرك فيه كل ما يحتاج إليه والإنسان الكامل كذلك
وعليه الصوفية كما أشار إليه الشيخ العارف الشبستري في قوله شعرا : سواد الوجه في
الدارين درويش * سواد أعظم آمد بى كم وبيش (سوادش أعظم آمد ني كم وبيش خ ل) وقال
الشيخ العارف الكامل اللاهيجي (قده) مراد فناء في الله است وآنچه فرموده اند كه
الفقر سواد الوجه في الدراين عبار از آنستكه سالك في الجمله فانى فس الله شود
بحيثيتى كه اورادر ظاهر وباطن دنيا وآخرت وجود نماند وبعدم اصلى وذاتى راجع گردد
واينست فقر حقيقى واز اين جهت فرموده اند اذاتم الفقر فهو الله زيرا كه اين مقام
اطلاق ذات حقست واين سواد الوجه اعظم است زيرا كه سواد اعظم آنست كه هر چه خواهند
در او يابند وهرجه در تماميت در مراتب موجودات مفصل است در اين مرتبه مجمل است
كالشجرة في النواه ومجموع عوالم تفصيل اين مرتبه اند وهيج شيءي بيرون از اين مرتبه
نيست در اين مقام هستى مطلق در نيستى نموده ميشود اين مرتبه غير از انسان كامل هيچ
جيز ديگر را ميسر نيست واز اين جهت است كه انسان كامل اكمل از جميع موجودات است
وسبب ايجاد عالم شده است (انتهى) . هكذا في هوامش بعض النسخ المخطوطة نقلا عن بعض
العرفاء . (1 مكرر) روى المتقي في كنز العمال ج 1 ص 185 عنه صلى الله عليه وآله أنه
قال ، اتبعوا السواد الأعظم ، يد الله على الجماعة ، وفي نهج البلاغة عن أمير
المؤمنين عليه السلام أنه قال : عليكم بالسواد الأعظم ، وفي كنز العمال (ج 1 ص 160)
حديث 910 عن النبي (ص) أنه قال : عليكم بالسواد الأعظم لا يخفى ما في تعبير القاضي
الشهيد بالسواد الأعظم من اللطف والمتانة . (*)
وعترته ، ووصفه في الحديث المشهور بأن أحدهما أعظم من الآخر وإنما عبر عنهما
بالسواد لأنهما قرتا أعين المؤمنين ، ونور أبصار المستبصرين ، ولهذا قيل : النور في
السواد ، ويؤيد ما ذكرنا ما رواه الطيبي (1) في شرح المشكاة عن سفيان الثوري (2) في
تفسير الجماعة حيث قال : لو أن فقيها على رأس جبل لكان هو الجماعة ، ويعضده قول بعض
الحكماء : جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد ، وأن يطلع عليه (يطمع فيه) إلا
واحد ، وقال الشاعر :
(1) هو الشيخ شرف الدين الحسن أو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي العلامة المحدث
المفسر الفقيه المتكلم الأديب ، توفي سنة 733 ، له تصانيف وتآليف ، منها كتاب
التبيان في المعاني والبيان ، وكتاب الخلاصة في الدراية وكتاب شرح الكشاف وكتاب شرح
المشكاة ، وكتاب شرح المصابيح للبغوي فراجع الريحانة ج 3 ص 38 . (2) هو سفيان بن
سعيد بن مسروق الكوفي ، العارف المشهور الذي إليه تنتهي عدة سلاسل من الصوفية ،
توفي سنة 161 وقيل سنة 162 بالبصرة ، وكانت ولادته سنة 95 وقيل سنة 96 وقيل سنة 97
، نسبت إليه رسائل وكتب وكلمات في كتب المتصوفة ، منها كتاب الجامع الصغير ، وكتاب
الجامع الكبير وكتاب الفرائض ، فراجع الريحانة ج 1 ص 240 . ثم إني رأيت كرسي بعض
المتصوفة وقد أنهى سلسلته إلى سفيان الثوري هذا والمترجم غير ممدوح عند أصحابنا
المحققين فلا اعتداد بما في بعض التصانيف من تجليله إذ صاحبه غير متثبت وغير نقاب ،
أو ساقه إلى ذلك مذاقه العرفاني وحب الشيء يعمي ويصم (*)
خليلي (1) قطاع الفيافي (2) إلى الحمى * كثير وأما الواصلون قليل قال المصنف رفع
الله درجته ومنها مخالفة العلم الضروري الحاصل لكل أحد يطلب من غيره أن يفعل فعلا ،
فإنه يعلم بالضرورة أن ذلك يصدر عنه ، ولهذا يتلطف في استدعاء الفعل منه بكل لطيفة
ويعظه ويزجره عن تركه ويحتال عليه بكل حيلة ويعده ويتوعده على تركه ، وينهاه عن فعل
ما يكرهه ، ويعنفه على فعله ، ويتعجب من فعله ذلك ويستطرقه ويتعجب العقلاء من فعله
، وهذا كله دليل على أنه فعله ، ويعلم بالضرورة الفرق الضروري بين أمر بالقيام وبين
أمره بإيجاد السماء والكواكب ، ولولا أن العلم الضروري حاصل بكوننا موجدين لأفعالنا
لما صح ذلك (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : الطلب من الغير للفعل ونهيه عن
الفعل للحكم الضروري بأنه فاعل للفعل ، وهذا لا ينكره إلا من ينكر الضروريات ، وقد
مر مرارا أن هذا ليس محلا
(1) جرت عادة الأدباء الأقدمين على تجريد الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفات
التي سيق الكلام ثم يخاطبه كقول الأعشى ودع هريرة أن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعا
أيها الرجل وقد يجرد شخصين مثليه في الخصوصيات وجعل أحدهما جالسا من يمينه والآخر
في يساره ثم مخاطبتهما فالباب باب التجريد وهو من القواعد المذكورة في البيان تارة
وفي البديع أخرى ومن أطيب المحاضرات جلوس الشخص بين الحبيبين اللذين هما كنفسه في
الخلال والخصال فهذا الخطاب في البيت قد اشتمل على لطافة التجريد وحلاوة المجالسة
بين الخلين الخليلين وإن شئت الوقوف على كيفية التجريد وأقسامه ومحاسنه وشروطه
فعليك بشروح التلخيص للتفتازاني والسبكي والسيالكوتي وغيرهم (2) الفيفاء بالمد
والفيفي بالقصر والفيفاة بالتاء المكان المستوي . (*)
للنزاع ، فإن صدور الفعل عن أحدنا محسوس ولهذا نطلب منه ونتلطف ، ونزجر ونعد ونوعد
، وكل هذه الأمور واقعة وليس النزاع إلا في أن هذا الفعل هل هو مخلوق لنا أو نحن
نباشره ؟ فالنزاع راجع إلى الفرق بين المباشرة والخلق وأنهما متحدان ، أو متغايران
، وهذا ليس بضروري ، ومن ادعى ضرورية هذا فهو مكابر لمقتضى العقل ، فمخالفة الضرورة
فيما ذكر ليس في محل النزاع ، فليس له فيه دليل (انتهى) . أقول لما اعترف الناصب ،
بأن صدور الفعل عن أحدنا محسوس ، فاحتمال صدوره عن غيره يكون سفسطة وإنكار
للمحسوسات في البديهيات ، ومكابرة على صريح العقل والتجاوز عن ظاهر النقل فتأمل (1)
. قال المصنف رفع الله درجته ومنها مخالفة إجماع الأنبياء والرسل فإنه لا خلاف في
أن الأنبياء أجمعوا على أن الله تعالى أمر عباده ببعض الأفعال ، كالصلاة والصوم ،
نهى عن بعضها كالظلم والجور ، ولا يصح ذلك إذا لم يكن العبد موجدا ، إذ كيف يصح أن
يقال : ايت بفعل الإيمان والصلاة ولا تأت بالكفر والزنا مع أن الفاعل لهذه الأفعال
والتارك لها هو غيره ، فإن الأمر بالفعل يتضمن الإخبار عن كون المأمور قادرا عليه
حتى أنه لو لم يكن المأمور قادرا على المأمور به لمرض أو سبب آخر ، ثم أمر غيره فإن
العقلاء يتعجبون منه وينسبونه إلى الحمق والجهل والجنون ، ويقولون : إنك تعلم أنه
لا يقدر على ذلك ثم تأمره به ، ولو صح هذا لصح أن يبعث الله رسولا إلى الجمادات مع
الكتاب فيبلغ إليها ما ذكرناه ، ثم إنه تعالى يخلق الحياة في تلك الجمادات ،
يعاقبها لأجل
(1) لعله إشارة إلى أن الناصب قصد من الصدور المحلية كما صرح بذلك مرارا . (*)
أنهم لم يمتثلوا أمر الله ورسوله وذلك معلوم البطلان ببديهة العقل (انتهى) . قال
الناصب خفضه الله أقول : أمر الأنبياء عباد الله تعالى بالأشياء ونهيهم عن الأشياء
لا يتوقف على كون العبد موجدا للفعل ، نعم يتوقف على كون العبد فاعلا مستقلا في
الكسب والمباشرة ومختارا ، وهذا مذهب الأشاعرة ، وما ذكره لا يلزم من يقول بهذا ،
بلى يلزم أهل مذهب الجبر وقد علمت أن الأشاعرة يثبتون اختيار العبد في كسب الفعل ،
ويمنعون كون قدرته مؤثرة في الفعل مبدعة موجدة إياه ، وشتان بين الأمرين ، فكل ما
ذكره لا يلزم الأشاعرة ، وليس في مذهبهم مخالفة لا جماع الأنبياء (انتهى) . أقول قد
علمت وستعلم أنه لا محصل للكسب الذي يرام به الأشعري مهربا عن الجبر . فيتوجه عليه
ما يتوجه على الجبرية سواء بسواء ، ولا يحصل له من كسبه سوى تطويل المسافة بلا طائل
، وقد مر أن القول بالقدر ة الغير المؤثرة هذر ، فكل ما ذكره المصنف يلزم الأشاعرة
لزوما لا سترة عليه قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم منه سد باب الاستدلال
على كونه تعالى صادقا ، والاستدلال على العلم بإثبات الصانع ، والاستدلال على صحة
النبوة ، والاستدلال على صحة الشريعة ، ويفضي إلى القول بخرق إجماع الأمة ، لأنه لا
يمكن إثبات الصانع إلا بأن يقال : العالم حادث فيكون محتاجا إلى المحدث قياسا على
أفعالنا المحتاجة إلينا ، فمن صنع الحكم الأصل في القياس وهو كون العبد موجدا لا
يمكنه استعمال هذه الطريقة فسد عليه باب إثبات الصانع وأيضا إذا كان الله تعالى
خالقا للجميع من القبائح وغيرها لم يمتنع منه إظهار المعجز
ص 66
على يد الكاذب ، ومتى لم يقطع بامتناع ذلك انسد علينا باب إثبات الفرق بين النبي
والمتنبي ، وأيضا إذا جاز أن يخلق الله تعالى القبائح جاز أن يكذب في إخباره ، فلا
يوثق بوعده ووعيده وأخباره عن أحكام الآخرة والأحوال الماضية والقرون الخالية ،
وأيضا لزم من خلقه القبائح أن يدعو إليها ، وأن يبعث عليها ويحث ويرغب فيها ، ولو
جاز ذلك أن يكون ما رغب الله تعالى فيه من القبائح ، فتزول الثقة بالشرائع ويقبح
التشاغل بها ، وأيضا لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر والضلال ويزينه له
ويصده عن الحق ويستدرجه (1) بذلك إلى عقابه ، للزم في دين الإسلام جواز أن يكون هو
الكفر والضلال ، مع أنه تعالى زينه في قلوبنا ، وأن يكون بعض الملل المتخالفة
للاسلام هو الحق ، ولكن الله تعالى صدنا عنهم ، وزين خلافه في أعيينا ، فإذا جوزوا
ذلك لزمهم تجويز كون ما هم عليه هو من الضلالة والكفر ، وكن ما خصمهم عليه هو الحق
، وإذا لم يمكنهم القطع بأن ما هم عليه هو الحق ، وما خصومهم عليه هو الباطل لم
يكونوا مستحقين للجواب (انتهى) .
(1) يقال : استدرجه ، أي أمهله وافتتن ، روي في البحار عن مشكاة الأنوار بسنده إلى
سنان بن طريف ، قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : خشيت أن أكون مستدرجا قال : ولم ؟
قلت : لأني دعوت الله تعالى أن يرزقني دارا فرزقني ودعوت الله أن يرزقني ألف درهم
فرزقني ، ودعوته أن يرزقني خادما فرزقني خادما ، قال : فأي شيء تقول ، قال : أقول :
الحمد لله ، قال : فما أعطيت أفضل مما أعطيت ، الخبر ، وقال مولانا أمير المؤمنين
في نهج البلاغة يا بن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره ،
وقال : أيها الناس ليراكم الله من النعمة وجلين ، كما يراكم من النقمة فرقين ، إنه
من وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا ، ومن ضيق عليه في ذات
يده فلم ير ذلك اختبارا فقد ضيع مأمولا ، انتهى . فراجع كتب الأحاديث في مسئلتي
الاستدارج والتمحيص ، ولتقفن هناك على فوائد جمة .
قال الناصب خفضه الله أقول : في هذا استدل بأشياء عجيبة ينبغي أن يتخذه الظرفاء
ضحكة لهم ، منها أنه استدل بلزوم انسداد باب إثبات الصانع وكونه صادقا والاستدلال
بصحة النبوة على كون العبد موحد أفعاله ، وذكر في وجه الملازمة شيئا غريبا عجيبا
وهو أنا نستدل على حدوث العالم بكونه محتاجا إلى المحدث قياسا على أفعالنا المحتاجة
إلينا ، فمن منع حكم الأصل في القياس وهو كون العبد موجدا لا يمكنه استعمال هذه
الطريقة وإثبات هذه الملازمة من المضاحك ، أما أولا فلأنه حصر حادثات العالم في
أفعال الإنسان ، ولو لم يخلق الله الإنسان وأفعاله أصلا كان يمكن الاستدلال بحركات
الحيوان وسائر الأشياء الحادثة بوجوب وجود المحدث ، وكأن هذا الرجل (1) لم يمارس قي
شيئا من المعقولات ، والحق أنه ليس أهلا لأن يباحث لدنائة رتبته في العلم ، ولكن
ابتليت بهذا مرة فصبرت ، وأما ثانيا فلأنه استدل بلزوم عدم كونه صادق على كون العبد
موجد فعله ولم يذكر هذا في الملازمة ، لا النسبة
(1) ترى الرجل لا يملك نفسه من السباب والوقيعة في حق علم من أعلام الإسلام الذي
أذعن الفريقان بجلالة قدره وعلو كعبه في العلوم العقلية والسمعية حتى نفس الناصب
فراجع الجزء الأول من هذا الكتاب فكأنه أعمى أو يتعامى ونس ما قدمه فما أجدر في حقه
أن يقال : شعر أترى القاضي أعمى أم تراه يتعامى * أكل الحق كأنه هي أموال اليتامى
ولعمري أن هذا الرجل قليل النظير بين المصنفين والمؤلفين في بذائة اللسان وسوء
الأدب فقد خرج من زمرة أهل الفضل بصنيعه هذا ، عامله الله بما يعامل به من لم يسلم
المسلمون من يده ولسانه . (*)
بينه وبين هذه الملازمة بعيدة جدا ، وأما ثالثا فلأنه استدل بلزوم انسداد باب إثبات
صحة النبوة وصحة الشريعة على كون العبد موجد فعله ، وأين يفهم هذا من الملازمة ، ثم
أدعى الافضاء إلى خرق الإجماع ، وكل هذه الاستدلالات خرافات وهذيانات لا يتفوه به
إلا أمثاله في العلم والمعرفة ، ثم استدل على بطلان كونه خالقا للقبائح بلزوم عدم
امتناع إظهار المعجز على يد الكاذب ، وقد استدل قبل هذا بهذا مرارا وأجبناه في
محاله ، وجواب هذا ، وما ذكر بعده من ترتب الأمور المنكرة على خلق القبائح مثل
ارتفاع الثقة من الشريعة والوعد والوعيد وغيرها ، أنا نجزم بالعلم العادي وبما جرى
من عادة الله تعالى أنه لم يظهر المعجزة على يد الكاذب على الله تعالى شيء على
قاعدتنا ، فكل ما ذكره من لزوم جواز تزين الكفر في القلوب عوض الإسلام ، وأن ما
عليه الأشاعرة من اعتقاد الحقية ، يمكن أن يكون كفر وباطلا ، فلا يستحقون الجواب ،
فجوابه أن جميع هذه لا يقع عادة كسائر العاديات ، ونحن نجزم بعدم وقوعه وإن جاز
عقلا ، حيث لم يجب عليه تعالى شيء ، ولا قبيح بالنسبة إليه (انتهى) . أقول يناسب ما
أظهره (ذكره خ ل) الناصب من الضحك على المصنف قدس سره قوله تعالى : إن الذين أجرموا
كانوا من الذين آمنوا يضحكون (1) ، وسنريه الآن سر قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا
من الكفار يضحكون (2) وأما ما ذكره : من أن المصنف حصر حادثان العلم في أفعال
الإنسان ، فمطالب بأنه من أين فهم هذا
(1) المطففين . الآية 29 . (2) المطففين . الآية 34 . (*)
الحصر في قول المصنف ، أفعالنا ، مع أن استعماله القياس للغائب على الشاهد قرينة
ظاهرة على أنه أراد بقوله أفعالنا الشاهدة مطلقا ، سواء كان انسانا أو حيوانا عجما
، وعلى تقدير أن يكون المراد أفعال الإنسان ، لأن الكلام في المكلفين فلا يقتضي
الحصر أيضا ، لأنه لو دل على ذلك لدل بمفهوم اللقب والضعيف ، مع أن المفهوم مطلقا
إنما يعتبر إذا لم يكن وجه التخصيص بالذكر ظاهرا ، وقد أشرنا إلى أن تخصيص الإنسان
بالذكر يجوز أن يكون لأجل أنهم هم المكلفون بالأمر والنهي والوعد والوعيد ، وهم
المستدلون بحال الممكن على حال الواجب ، ومن الأثر على المؤثر ، دون الثور والحمار
وغيرهما من الحيوانات العجم ، وبهذا يظهر فساد قوله : ولو لم يخلق الإنسان أفعاله
أصلا كان يمكن الاستدلال بحركات الحيوان وسائر الأشياء الحادثة الخ وذلك لما أشرنا
إليه من أن الكلام في الاستدلال الواقع من المكلفين في دار التكليف ، لا استدلال
الله تعالى من الحوادث على احتياجهم إلى ذاته ، بل هذا لغو من الكلام ، ولا استدلال
الملائكة بها على الاحتياج إلى الله تعالى فإذا لم يكن في الدنيا انسان أصلا كما
فرضه الناصب الهالك ، فمن ذا الذي يستدل بهذا على ذلك ، وبالجملة هذا ليل على
انسلاخ الناصب عن الفطرة الإنسانية وتمرغه (1) في المراتع الحيوانية ، فليضحك قليلا
وليبك كثيرا (2) ، وأما ما ذكره ثانيا من أن المصنف استدل بلزوم عدم كونه تعالى
صادقا على كون العبد موجد فعله ، ولم يذكر الملازمة الخ ففيه أن المصنف ذكر بيان
الملازمة لذلك بعيد هذا بقوله : وأيضا إذا جاز أن يخلق الله تعالى القبائح جاز أن
يكذب في إخباره الخ وإذا لم يفهم الناصب الجاهل ذلك بمجرد أن النشر وقع على ترتيب
اللف فلا
(1) تمرغ : تقلب في التراب وقد يقال على مطلق على التقلب . (2) اقتباس من قوله
تعالى في سورة التوبة . الآية . 82 . (*)
لوم على المصنف قدس سره كما قيل : علي نحت القوافي من معادنها * * وما علي أ إذا لم
تفهم البقر وأما ما ذكره ثالث من أنه استدل بلزوم انسداد باب إثبات صحة النبوة وصحة
الشريعة على كون العبد موجد فعله وأين يفهم هذه الخ مردود بأن هذا أيضا يدل على
كثرة جهل وقلة فهمه إذ كل من يترقى أدنى درجة من العوام ، يفهم بقرينة محل النزاع
أن المراد هو أن العبد موجد لفعله دون الله تعالى ، ولتصريح المصنف به أيضا في
عنوان الدعوى ، وفي أحدثناء بيان كثير من اللوازم المذكورة سابقا ، وإنما أجمل
هاهنا روما للاختصار اعتمادا على السياق ، ثم من البين أن امتناع الاستدلال على
المطالب الشرعية المذكورة الذي ألزمه المصنف على الأشاعرة مخالف للاجماع بلا شبهة ،
وقد بينا لزومه عن مذهبهم فلم يبق للناصب إلا العناد والجمود على ما لا يليق إلا
بالحمار والجماد ، وأما ما ذكره في جواب باقي كلمات المصنف وبنى فيه على علم العادي
وعلى أنه لا يجب على الله تعالى شيء ولا قبيح بالنسبة إليه ، فقد مر فيها مرارا ما
يغنيك عن الإعادة ، والله ولي الإفادة . قال المصنف رفعه الله ومنها تجويز أن يكون
الله تعالى ظالما عابثا لاعبا ، لأنه لو كان الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد
ومنها القبائح كالظلم والعبث لجاز أن يخلقها لا غير حتى تكون أفعاله كلها ظلما
وعبثا ، فيكون الله تعالى ظالما عابثا لاعبا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . قال
الناصب خفضه الله أقول : نعوذ بالله من التفوه بهذه الترهات ، وأنى يلزم هذا من هذه
العقيدة
ص 71
والظلم والعبث من أفعال العباد ، ولا قبيح بالنسبة إليه وخالق الشيء غير فاعله ،
وهذا الرجل لا يفرق بين خالق الصفة والمتصف بتلك الصفد ، وكل محذوراته ناش من عدم
هذا الفرق ، ألا يرى أن الله تعالى خالق السواد ، فهل يجوز أن يقال هو الأسود ؟
كذلك لو كان خالق الظلم والعبث ، هل يجوز أن يقال : إنه ظالم وعابث نعوذ بالله من
التعصب المؤدي إلى الهلاك البحت ثم أن هذا الرجل يحصر القبيح في أفعال الإنسان ،
ويدعي أن لا قبيح ولا شر في الوجود إلا أفعال الإنسان ، وذلك باطل ، فإن القبائح
غير أفعال الإنسان في الوجود كثيرة كالخنزير والحشرات المؤذية ، وهل يصح له أن يقول
: إن هذه الأشياء غير مخلوقة لله ؟ فإذا قال بأنها مخلوقة لله ، فهل يمنع قباحتها
وشرها ؟ وذلك مخالف للضرورة والحس ، فإذا يلزم ما ألزم الأشاعرة من القول بخلق
الأفعال القبيحة (انتهى) أقول قد مر مرارا بيان قبح ما قالوا : أن لا قبيح بالنسبة
إليه تعالى ، وأن الفرق بين الخالق والفاعل فاسد ، وما ذكره هاهنا في بيان الفرق من
تنوير المظلم عن ما نقلناه سابقا عن شارح العقائد ، ويتوجه عليه ما أوردناه ثمة
وحاصله : أن خلق الله تعالى للسواد في الأجسام وصدورها عن إنما يقتضي اتصافه تعالى
بكونه مسودا ، لا بكونه أسود ، وكأنه اشتبه على الناصب سود الله وجهه حال الفاعل
الكلامي الذي نحن فيه بحال الفاعل النحوي ، وهو مطلق ما أسند إليه الفعل ، فزعم أن
الفاعل لأجل الفاعلية لوجب اتصاف الله تعالى أيضا بكونه أسود على تقدير القول بكون
فاعلا خالقا للسواد ، ويندفع الاشتباه بأن زيدا في قولنا أسود زيد فاعل نحوي لا
فاعل كلامي بمعنى خالق السواد ومصدره ، وإنما الخالق والفاعل الكلامي للسواد في زيد
هو الله تعالى ، فلا جرم يتصف سبحانه وتعالى بكونه مسودا ويتصف
ص 72
زيد الذي هو المفعول بكونه أسود ، وبالجملة الفرق بين الظالم والعابث والآكل
والشارب والزاني والسارق نحوهما ، وبين الأسود والأبيض ونحوهما بين جدا بحسب الصدور
وعدمه ، فإن الظالم مثلا بمعنى فاعل الظلم ومصدره والأسود من وقع عليه السواد ، أو
قام به ، لا فاعله ومصدره ، وإن كان في المثال المذكور يكون فاعلا نحويا كما قلناه
، فالسواد والبياض كالحرارة والبرودة ونحوها من الصفات التي أوجدها الله تعالى في
محالها وفاقا ، ولا يتصف بها إلا تلك المحال ، فلا وجه لقياس الأفعال الصادرة عن
العباد عند أهل العدل إليها ، هذا ، وما زعمه من أن خلق الخنزير والكلب ونحوهما من
الحشرات المؤذية القبيحة ، وأوردها نقضا على أهل العدل فقد عرفت مرارا دفعه ،
بإبداء الفرق بين ما أورده نقضا وإلزاما وبين القبائح من أفعال العباد والله ولي
السداد . قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم إلحاق الله تعالى بالسفهاء
والجهال تعالى الله عن ذلك ، لأن من جملة أفعال العباد الشرك بالله ووصفه بالأضداد
والأنداد (1) والصاحبة والأولاد وشمته وسبه ، فلو كان تعالى فاعلا لأفعال العباد ،
لكان فاعلا للأفعال كلها ، ولكل هذه الأمور ، وذلك يبطل حكمته ، لأن الحكيم لا يشتم
نفسه ، وفي نفي الحكمة إلحاقه بالسفهاء ، نعوذ بالله من هذه المقالات الردية
(انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : ونحن أيضا نعوذ بالله من هذه المقالات
المزخرفة الباطلة ، وهذا أيضا نشأ له لعدم الفرق بين الخالق والفاعل ، فإن الله
تعالى يخلق الأشياء ، فالسب والشتم له
(1) الفرق بين الضد والند : أن الأول أعم من الثاني ، إذ هو يطلق على مخالف الشيء
كل من ذوي العقول أو غيرهم بخلاف الثاني فإنه يختص بذوي العقول (*)
إن كانا مخلوقين لله تعالى فيما فعل العبد والمذمة للفعل لا للخلق ، فلا يلزم كونه
شاتما لنفسه ، وخلق هذه الأفعال ليس سفها حتى يلزم إلحاقه تعالى بالسفهاء ، نعوذ
بالله من هذا ، لأن الله تعالى قدر في الأزل شقاوة الشاتم له والساب ، وأراد دخوله
النار ، فيخلق فيه هذه الأفعال لتحصل الغاية التي هي دخول الشاتم النار فأي سفه في
هذا (انتهى) . أقول استعاذة الناصب الشقي من ذلك كإنكار الشيطان لما يفعله من
الاغواء والدعوة إلى الشرور كما أخبر عنه تعالى بقوله : وقال الشيطان لما قضي الأمر
إن الله وعدكم وعد الحق ، ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن
دعوتكم ، فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم (1) الآية وقد علم بما ذكرنا قبيل
ذلك أن ما ذكره الناصب هاهنا كلها سفه وحماقة وأسخفها تجويزه مؤاخذة الله تعالى
للعبد بما جعله عليه في الأزل من الواجب الحتم ، فإن القائل بذلك لا يستحق إلا
الصفع (2) واللعن والشتم . قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم مخالفة
الضرورة لأنه لو جاز أن يخلق الزنا واللواط ، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه ، ولو
جاز ذلك لجوزنا أن يكون فيما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلا للدعوة إلى السرقة
والزنا واللواط وكل القبائح ومدح الشيطان وعبادته والاستخفاف بالله تعالى والشتم له
والسب لرسوله وعقوق الأبوين وذم المحسن ومدح المسئ (انتهى) .
(1) إبراهيم . الآية 22 (2) صفعه بالفاء : ضرب قفاه أو بدنه بكفه مبسوطة .
قال الناصب خفضه الله أقول : لو أراد من نفي جواز بعثة الرسول بهذه الأشياء الوجوب
على الله تعالى فنحن نمنعه ، لأنه لا يجب على الله شيء ، وإن أراد بنفي هذا الجواز
الامتناع عقلا فهو لا يمتنع يمتنع عقلا ، وإن أراد الوقوع فنحن نمنع هذا ، لأن
العلم العادي يفيدنا عدم وقوع هذا ، فهو محال عادة ، والتجويز العقلي لا يوجب وقوع
هذه الأشياء كما عرفته مرارا ، ثم إنه صدر كلامه بلزوم مخالفة الضرورة وأي مخالفة
للضرورة في هذا البحث (انتهى) . أقول نختار أولا الشق الأول ، ونقول : قد بينا أن
الوجوب بالمعنى الذي ذهب إليه أهل العدل لا يقبل المنع ، وثانيا فنقول : العقل
السليم إذا نظر إلى ذات الله المستجمع لجميع الصفات الكمال المنزه عن آثار النقص
والاختلال يحكم بامتناع أن يبعث رسولا دينه خلاف ما اقتضاه كماله ، وثالثا الشق
الثالث ونقول : إن ما ذكره من أن العلم العادي يفيدنا عدم وقوع هذا تهمة على العلم
العادي ، أو على وجدانهم ، فإن العادة كما ذكرنا سابقا لما جاز التخلف فيها ، فلا
يفيدهم ذلك إفادة قطعية يقتضيه ما نحن فيه من تقرير العقيدة الدينية ، وبما قررناه
ظهر أن ما ادعاه المصنف عليهم من لزوم مخالفة الضرورة ضرورية ، فاستفهام الناصب عن
ذلك دليل على قلة فهمه أو مكابرته وإنكاره للضروريات كما هو عادته وعادة أصحابه .
قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم أن يكون الله تعالى أشد ضررا من الشيطان
، لأن الله تعالى لو خلق الكفر في العبد ثم يعذبه عليه ، لكان أضر من الشيطان لأن
الشيطان لا يمكنه أن يلجئه إلى القبائح بل يدعوهم إليها ، كما قال الله تعالى : وما
كان لي عليكم من سلطان إلا
ص 75
أن دعوتكم فاستجبتم لي ، (1) ولأن دعاء الشيطان هو أيضا من فعل الله تعالى وأما
الله فإنه يضطرهم إلى القبائح ولو كان لحسن من الكافر أن يمدح الشيطان وأن يذم الله
، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : نعوذ بالله
من التفوه بهذه المقالة والاستجراء على تصوير أمثال هذه الترهات ، فإن الله تعالى
يخلق كل شيء ، والتعذيب مترتب على المباشرة والكسب ، وخلق الكفر ليس بقبيح ، لأنه
غاية دخول الشقي في النار كما يقتضيه نظام عالم الوجود والتصرف في العبد بما شاء
ليس بظلم ، لأنه تصرف في ملكه ، وقد عرفت أن تصرف المالك في الملك بما شاء ليس بظلم
، والله تعالى وإن خلق الكفر في العبد ولكن العبد هو يباشره ويكسبه ، والله تعالى
بعث الأنبياء وخلق أيضا قوة النظر وبث دلائل الوحدانية في الآفاق والأنفس ، فهذه
كلها ألطاف من الله تعالى والشيطان يضر بالاغواء والوسوسة ، فأين نسبة اللطيف
النافع الهادي وهو الله تعالى بالشيطان الضار المضل ؟ ومن أين لزم هذا ؟ (انتهى) .
أقول قد مر مرارا وسيجئ أيضا أن الكسب لا محصل له ، وأن خلق الكفر قبيح ، ومن العجب
استدلاله على عدم قبح الكفر بأنه غاية دخول الشقي في النار ، فإن الكفر لو كان فعل
الكافر كما قال به أهل العدل كان أولى بأن يجعل ذلك غاية لدخوله في النار كما لا
يخفى ، وأما اقتضاء نظام عالم الوجود للكفر فهو دعوى كاذبة لا يعجز أحد عن مثلها
إذا فقد الحياء ونهى النفس عن الوقاء (2) ، وأما ما ذكره من أن
(1) إبراهيم . الآية 22 . (2) التعبير متخذ من قوله تعالى في سورة النازعات . الآية
40 .
تصرف المالك في ملكه بما شاء ليس بظلم ، فقد مر وجه الظلم فيه ، وأن التصرف إن كان
على الوجه حسن حسن وإلا فقبيح ، وأما ما ذكره من أن الله تعالى بعث الأنبياء وخلق
أيضا قوة النظر ، وبث دلائل الوحدانية الخ ففيه أن الكفر إذا كان مخلوقا لله تعالى
بدون مدخلية للعبد فيه بناء على بطلان الكسب الذي ارتكبوا مهربا عن الجبر فأي أثر
لبعثه الأنبياء وبث الدلائل في الهداية وأي مدخل لوسوسة الشيطان في الغواية . قال
المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم منه مخالفة العقل والنقل ، لأن العبد لو لم
يكن موجدا لأفعاله لم يستحق ثوابا ولا عقابا ، بل يكون الله تعالى مبتدئا بالثواب
والعقاب من غير استحقاق منهم ، ولو جاز ذلك لجاز منه تعذيب الأنبياء عليهم السلام
وإثابة الفراعنة والأبالسة ، فيكون الله تعالى أسفه السفهاء وقد نزه الله تعالى
نفسه عن ذلك في كتابه العزيز فقال : أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون
(1) ؟ أم نجعل المتقين كالفجار (2) ؟ (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : جوابه
أن استحقاق العبد للثواب والعقاب بواسطة المباشرة والكسب وهو يستحق الثواب والعقاب
بالمباشرة ، لا أنه يجب على الله تعالى إثابته ، فالله تعالى متعال عن أن يكون
إثابة المطيع وتعذيب العاصي واجبا عليه ، بل جرى عادة الله تعالى بإعطاء الثواب
عقيب العمل الصالح والتعذيب عقيب الكفر والعصيان ، وجواز تعذيب الأنبياء وإثابة
الفراعنة والأبالسة المراد به نفي الوجوب على الله وهو لا يستلزم
(1) القلم . الآية 35 . (2) ص . الآية 28 . (*)
الوقوع ، بل وقوعه محال عادة كما ذكرناه مرارا ، فلا يلزم المحذور (انتهى) . أقول
ما ذكره هاهنا مدفوع بما ذكر مرارا سيما في الفصلين المتصلين بهذا ، وبالجملة أن
العبد إنما يستحق الثواب أو العقاب بالكسب لو كان الكسب بالمعاني التي أرادوا منه
فعلا وأثرا صادرا عن العباد ، وهم لا يقولون بذلك ، فيلزمهم الجبر المحض وما يلزم
منه من عدم استحقاق الثواب والعقاب كما ذكره المصنف قدس سره . قال المصنف رفع الله
درجته ومنها أنه منه مخالفة الكتاب العزيز من انتفاء النعمة عن الكافر لأنه تعالى
إذا خلق الكفر في العبد الكافر ، لزم أن يكون قد خلقه للعقاب في نار جهنم ولو كان
كذلك لم يكن له عليه نعمة أصلا ، فإن نعمة الدنيا عقاب الآخرة لا تعد نعمة كمن جعل
لغيره سما في حلوا وأطعمه ، فإنه لا تعد اللذة الحاصلة من تناوله نعمة ، والقرآن قد
دل على أنه تعالى منعم على الكافرين قال الله تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة
الله كفرا (1) ، وحسن كما أحسن الله إليك (2) ، وأيضا قد علم بالضرورة من دين محمد
(ص) ، أنه ما من عبدا إلا ولله عليه نعمة كافرا كان أو مسلما (3) (انتهى) .
(1) إبراهيم . الآية 28 . (2) القصص . الآية 77 . (3) وقد دلت عليه عدة من الآيات
الكريمة كقوله تعالى في سورة لقمان . الآية 19 : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة
وقوله تعالى في سورة فاطر . الآية 3 : يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من
خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض وقوله تعالى في سورة إبراهيم . الآية 28 :
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا = (*)
قال الناصب خفضه الله أقول : هذا أيضا من غرائب الاستدلالات فإن نعمة الله تعالى
على الكافر محسوسة ، والهداية أعظم النعم وإرسال الرسول وبث الدلائل العقلية كلها
نعم عظام ، والكافر استحق دخول النار بالمباشرة والكسب ، والخلق من الله تعالى ليس
بقبيح ، ثم ما ذكر من لزوم عدم كون الكافر منعما عليه يلزمه أيضا بإدخاله النار فإن
الله تعالى يدخل الكافر ورجحه واختاره . قلنا : في مذهبنا أيضا كذلك وإدخاله لكونه
باشر الكفر وكسبه وعمل به ، ولو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر وهو
المفهوم من ضرورة الدين لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار بأي وصف كان الكافر ،
لأنه يلزم أن لا يكون منعما عليه وهو خلاف ضرورة الدين ، وأمثال هذه الاستدلالات
ترهات (1) ومزخرفات (انتهى) . أقول قد مر أن الكسب غير معقول ، أو غير مفيد في
أثبات مدعاهم ، وأما ما ذكره ، من أن ما قاله المصنف : من لزوم عدم كون الكافر
منعما عليه يلزمه أيضا بإدخاله النار ، ففيه أن المصنف قد صرح بالتزام ذلك حيث قال
: ولو كان خلقه للعقاب في نار جهنم لم يكن له عليه نعمة أصلا ، فإن نعمة الدنيا مع
عقاب الآخرة لا تعد
= وقوله تعالى في سورة النحل . الآية 72 ، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون
وقوله تعالى في سور النحل . الآية 83 ، يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وقوله تعالى
في سورة العنكبوت . الآية 67 : أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون . (1) الترهات
جمع الترهة بضم التاء المحدثناة الفوقانية وفتح الراء المشددة : الأباطيل والدواهي
. الطرق الصغار . (*)
نعمة الخ فمع تصريح المصنف بالالتزام كيف يصح ما ذكره الناصب من الالزام ، وأما ما
ذكره بقوله : فإن قال إدخاله لكونه آثر الكفر الخ فلا ارتباط له بما قبله من
الالزام ، فلا يقوله المصنف في هذا المقام ، وإنما ذكره النصب واشتغل بجوابه صرفا
لعنان تأمل الناظرين عما في كلامه السابق من الفساد وإيقاعه في أذهانهم أن ما
يتراءى فيه من الفساد ليس سوى ما استدركه هو بقوله فإن قال الخ ، وأجاب عنه قلنا
الخ ، مع أن جوابه هذا مبني على الكسب المهدوم كما لا يخفى ، وأما ما ذكره من أنه
لو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر وهو المفهوم من ضرورة الدين لكان
الواجب الخ فدليل على سوء فهمه وبعده عن مرتبة ذوي التحصيل ، إذ لا يلزم من كون
وجوب العلم بشيء وبداهته ناشئة من الدين أن يكون ذلك الشيء المعلوم واجبا حتى يلزم
من علمنا بداهة ، أو وجوب بشمول نعمة الله تعالى للمؤمن والكافر واجبا عليه تعالى
إنعامه للكافر ، على أن القول بوجوب ذلك على الله تعالى بالمعنى الذي عرفته سابقا
مما لا فساد فيه ، وأما ما ذكره من أنه لو كان الإنعام الخ ، ففيه أن المصنف لم يدع
وجوب تعلق كل نعمة بالكافر حتى يلزم أن لا يعذب بالنار مع كفرانه للنعمة ، بل قال :
قد علم بالضرورة من الدين أنه ما من عبد إلا ولله عليه نعمة الخ ، وذلك لا يستلزم
شمول جميع النعماء لشيء من العباد فضلا عن الكافر ، ثم ما ذكره من الملازمة المدلول
عليها بقوله : لو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر لكان الواجب عليه
أن لا يدخل النار بأي وصف كان الكافر غير ملسم ، لأن هذا إنما يجب أن لو لم يخلقه
الله تعالى على الفطرة الصحيحة ، ولم ينعم عليه بأصول النعم السابقة على الاستحقاق
والنعم اللاحقة من الألطاف المقربة لتحصيل الثواب في الآخرة ، وفعل فيه ما يلجئه
إلى فعل ما يورث عذاب الآخرة كخلق الكفر والضلالة فيه ، الله تعالى منزه عن هذا ،
وإذا كان العبد هو المفوت بكفره لنعم الآخرة
ص 80
تكون نعم الدنيا في حقه معتدة بها ، فلا يلزم عدم كونه تعالى منعما عليه أصلا كما
توهمه الناصب الراسب (1) في العذاب الواصب . قال المصنف رفع الله درجته ومنها صحة
وصف الله تعالى بأنه ظالم وجائر ومفسد ، لأنه لا معنى للظالم إلا فاعل الظلم ، ولا
الجائر إلا فاعل الجور ، ولا المفسد إلا فاعل الفساد ، ولهذا لا يصح إثبات أحدهما
حال نفي الآخر ، ولأنه لما فعل العدل سمي عادلا فكذا لو فعل الظلم سمي ظالما ،
ويلزم أن لا يسمى العبد ظالما ، ولا سفيها لأنه لم يصدر عنه شيء من هذه (انتهى) .
قال الناصب خفضه الله أقول : قد عرفت أن خالق الشيء غير فاعله ومباشره ، فالفعل
تارة يطلق ويراد به الخلق كما يقال : الله فاعل كل شيء ، وقد يطلق ويراد به
المباشرة والاعتمال (2) وعلى التقديرين فإن الخالق للشئ لا يكون موصوفا بذلك الشيء
الذي خلقه إن كان المخلوق من جملة الصفات كما قدمنا ، فمن خلق الظلم لا يقال : أنه
ظالم وقد ذكرنا أنه لم يفرق بين هذين المعنيين ولو فرق لم يستدل بأمثال هذا (انتهى)
. أقول قد مر أن الفرق كالكسب اصطلاح منهم ، وأن إطلاق الفعل على الكسب والمباشرة
بالمعنى الذي قصدوه لم يقع في لغة ولا قرآن ولا سنة ، وأما ما ذكره
(1) يقال : رسب الماء رسوبا أي ذهب سفلا وسقط إلى أسفله . ووصب وصوبا أي دام وثبت .
(2) يقال : اعتمل أي عمل بنفسه . (*)
|
شرح إحقاق الحق (ج2) |