ص 81
من أن الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء الذي خلقه فهو حقيقة منع للمقدمة
التي استدل المصنف عليها بقوله : ولهذا لا يصح إثبات أحدهما حال نفي الآخر وبقوله :
ولأنه لما فعل العدل سمي عادلا ، فكذا لو فعل الظلم سمي ظالما فلا يلتفت إليه ،
وأيضا يتوجه على ما قدمه ما قدمناه ، ويزيد عليه هاهنا أن نفيه لكون الخالق للشئ
موصوفا بذلك الشيء مبني على أن الوصف إنما يترتب على الكسب ، وهو أول المسألة ،
وبالجملة من لم يثبت عنده للصدور معنى سوى الخلق ينحصر عنده أن يكون الاتصاف
بالأوصاف المذكورة من جهلة الخلق ، والمانع للحصر مكابر لا يلتفت إليه . قال المصنف
رفع الله درجته ومنها أنه يلزم منها المحال ، لأنه لو كان هو الخالق للأفعال فإما
أن يتوقف خلقه لها على قدرنا ودواعينا أو لا ، والقسمان باطلان ، أما الأول فلأنه
يلزم منه عجزه تعالى عما يقدر عليه العبد ، لأنه يستلزم خلاف المذهب ، وهو وقوع
الفعل منه والدواعي من العبد ، إذ لو كان من الله تعالى لكان الجميع من عنده ، لأن
القدرة والدعي إن أثرتا فهو المطلوب ، وإلا كان وجودهما كوجود لون للانسان وطوله
وقصره ، ومن المعلوم بالضرورة أنه لا مدخل للون والطول القصر في الأفعال ، وإذا كان
هذا الفعل صادرا عنه جاز وقوع جميع الأفعال المنسوبة إلينا منا وأما الثاني فلأنه
يلزم منه أن يكون الله تعالى أوجد أي خلق تلك الأفعال من دون قدرهم ودواعيهم حتى
يوجد الكتابة والنساجة والمحكمتان ممن لا يكون عالما بهما ، ووقوع الكتابة ممن لا
يدله ولا قلم ، ووقوع شرب الماء من الجائع في الغاية الريان في الغاية ، مع تمكنه
من الأكل ، ويلزم تجويز أن تنقل النملة الجبال ، وأن لا يقوي الرجل الشدى القوة على
رفع تبنة ، وأن يجوز من الممنوع المقعد
ص 82
العدو ، وأن يعجز القادر الصحيح من تحريك الأنملة ، وفي هذا زوال الفرق بين القوي
والضعيف ، ومن المعلوم بالضرورة الفرق بين الزمن والصحيح (انتهى) . قال الناصب خفضه
الله أقول : نختار القسم الثاني وهو أن خلقه تعالى لأفعالنا لا يتوقف على دواعينا
وقدرنا ، وما ذكره من لزوم وجدان الكتابة بدون اليد وغيره من المحالات العادية ،
فهي استبعادات لا يقدح في الجواز العقلي نعم عادة الله تعالى جرت على إحداث الكتابة
عند حصول اليد والقلم ، وإن أمكن حصوله وجاز حدوثه عقلا بدون اليد والقلم ، ولكن هو
من المحالات العادية كما مر غيرة مرة ، وما ذكر أنه يلزم أن تكون القدرة والداعية
إذا لم تكونا مؤثرتين في الفعل كاللون والطول والقصر بالنسبة إلى الأفعال فهو ممنوع
، للفرق بأن الفعل يقع عقيب وجود القدرة كالاحراق الذي يقع عقيب مساس النار عادة ،
ولا يقال : لا فرق بالنسبة إلى الاحراق بين النار وغيره ، إذ لا تجري العادة بحدوث
الاحراق عقيب مساس الماء ، فكذلك لم تجر عادة الله تعالى بإحداث الفعل عقيب وجود
اللون ، بل عقيب حصول القدرة والداعية مع أنهما غير مؤثرتين (انتهى) . أقول يتوجه
عليه أن حاصل ما ذكره المصنف دعوى البداهة في امتناع وجود الكتابة ممن لا يد له ولا
قلم لا مجرد الاستبعاد ، وما ذكره الناصب من جريان العادة تشكيك في البديهي وسفسطة
مبنية على نفي الأسباب الحقيقية فلا يستحق الجواب ، وقد كشفنا النقاب عن ذلك فيما
سبق من الفصل والأبواب (1) .
(هامش)
(1) كفصل إثبات الحسن والقبح العقليين (ج 1 ص 360) . (*)
ص 83
قال المصنف رفع الله درجته ومنها تجويز أن يكون الله تعالى جاهلا أو محتاجا تعالى
الله عن ذلك علوا كبيرا ، لأن في الشاهد فاعل القبيح إما جاهل أو محتاج مع أنه ليس
عندهم فاعل في الحقيقة فلا يكون كذلك في الغائب الذي هو الفاعل في الحقيقة أولى
(انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : قد مر أن الخالق غير الفاعل بمعنى الكاسب
والمباشر ، وخالق القبيح لا يلزم أن يكون جاهلا أو محتاجا حيث لا قبيح بالنسبة إليه
كما في خلقه تعالى لا هو قبيح بالنسبة إلى المخلوق فلا يلزم منه جهل ولا احتياج
(انتهى) . أقول قد سبق أن الفاعل بمعنى الكاسب بالمعنى الذي اخترعه الأشاعرة لم يجئ
في اللغة فلا يتم الفرق ، وأما قوله : خالق القبيح لا يلزم أن يكون جاهلا أو محتاجا
حيث لا قبيح بالنسبة إليه ، فكلام فاسد قبيح ، ضرورة أن القبيح قبيح سواء صدر من
الواجب أو الممكن كما مر مرارا . قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم منه
الظلم ، لأن الفعل إما أن من العبد لا غير ، أو من الله تعالى لا غير ، أو منهما
معا بالشركة ، بحيث لا يمكن تفرد كل منهما بالفعل ، أو لا من واحد منهما ، والأول
هو المطلوب ، والثاني يلزم منه الظلم حيث فعل الكفر ، وعذب من لا أثر له فيه البتة
، ولا قدرة موجدة له ولا مدخل له في الإيجاد وهو أبلغ وأعذب المظالم ، والثالث يلزم
منه الظلم ، لأنه شريك في الفعل ، وكيف يعذب شريكه على فعل فعله هو وإياه ؟ وكيف
يبرئ نفسه من المؤاخذة
ص 84
مع قدرته وسلطنته ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فعل هو مثله ؟ وأيضا يلزم منه تعجيز
الله تعالى ، إذ لا يتمكن من الفعل بتمامه ، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد ، وأيضا
يلزم المطلوب وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل ، وإذا جاز استناد أثر ما إليه جاز
استناد الجميع إليه ، فأي ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات ، فما ترى لهم ضرورة
إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربهم إلى هذه النقائص التي نزه الله تعالى نفسه عنها وتبرأ
منها (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : نختار أن الفعل بمعنى الخلق يصدر من
الله تعالى والعبد كاسب للفعل مباشر له ، ولا تأثير لقدرة العبد في الفعل ، قوله :
يلزم منه الظلم ، قلنا : قد سبق أن الظلم لا يلزم أصلا (1) ، لأنه يتصرف في ما هو
ملك له ، والتصرف في الملك كيف ما شاء المالك لا يسمى ظلما ، ثم إن تعذيب العاصي
بواسطة كونه محلا للفعل الواجب لعذاب ، وأما قوله : فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى
أن ينسبوا ربهم إلى هذه النقائص ، فنقول : إنا نخبره بالذي دعاهم إلى تخصيص الخلق
بالله تعالى وهو الهرب والفرار من الشرك الصريح الذي لزم المخالفين ممن يدعون أن
العبد خالق مثل الرب وهذا فيه خطر الشرك وهم يهربون من الشرك (انتهى) . أقول قد مر
أن ليس في القول بالكسب إلا كسب خطيئة ، وأن التصرف في الملك على الوجه القبيح
(هامش)
(1) قد سبقت منا (ج 1 ص 410) ذكر عدة من الآيات الدالة على أنه تعالى لو عذب أحدا
بالسيئة بما يزيد على مثلها كان ظلما منه تعالى بالنسبة إليه كقوله تعالى : ومن جاء
بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (الأنعام . الآية 160) وأما الحديث
الملكية فقد استقصينا الكلام فيها فيما مر (ج 1 ص 466) فراجع .
ص 85
قبيح وظلم ، وبهذا يعلم أيضا خطأ ما ذكره : من أن تعذيب العاصي بواسطة كونه محلا
للفعل الموجب للعذاب ، إذ لا اختيار للعبد في المحلية التي هو أحد معاني الكسب على
رأي الأشاعرة ، فلا وجه لاستحقاق المدح والذم باعتبارها ، وأما ما أخبر به الناصب
من الأمر الداعي لأصحابه إلى تخصيص الخلق بالله تعالى فليس فيه عن الصحة خبر ، ولا
عين ولا أثر ، لما مر أن الشرك ومماثلة العبد للرب في الخالقية إنما يلزم أهل العدل
لو لم يقولوا : بأن العباد أنفسهم من مخلوقاته تعالى وأن قدرتهم تمكنهم منه تعالى ،
وأن ما يخص بخلقه تعالى له من الجواهر الملكوتية والأجرام السماوية والأجسام
الأرضية صنعا وابداعا أجل وأعلى مما يخص العباد بخلقهم له من بعض الأعراض التي
أكثرها يليق بالنفي والإعراض والذم والاعتراض ، ولو كان مجرد مشاركة العبد مع الرب
تعالى في الخلق بعض الأعراض والأفعال الضعيفة موجبا للشرك المهروب عنه لكان
المشاركة في الوجود والشيءية والتعين والهوية والصفات الزائدة والرؤية على مذهب
الخصم موجبا للشرك المهروب عنه ، فإن المشاركة في هذه المذكورات أصرح من ذلك كما لا
يخفي على المتأمل . قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه يلزم مخالفة القرآن العظيم
(الكتاب العزيز خ ل) والسنة المتواترة والإجماع وأدلة العقل ، أما الكتاب فإنه
مملوء من إسناد الأفعال إلى العبيد (1) ، وقد تقدم بعضها ، وكيف يقول الله تعالى :
تبارك الله أحسن الخالقين (2) ولا خالق سواه ، وقوله ، إني لغفار لمن تاب وآمن وعمل
صالحا ثم اهتدى (3) ، ولا
(هامش)
(1) وقد تقدم سرد تلك الآيات الشريفة في (ج 1 ص 413) (2) المؤمنون . الآية 14 . (3)
طه . الآية 82 . (*)
ص 86
تحقق لهذا الشخص ألبتة ، وقوله : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (1) ليجزي
الذين أساؤا بما علموا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسن (2) ليبلوهم أيهم أحسن عملا (3)
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات (4) أم نجعل
الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض (5) أم نجعل المتقين كالفجار (6) ،
ولا وجود لهؤلاء ثم كيف يأمر وينهى ولا فاعل وهل هو إلا كأمر الجماد ونهيه ؟ وقال
النبي (ص) : اعملوا فكل ميسر لما خلق له (7) ، نية المؤمن خير من علمه (8) ، إنما
الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى (9) ، والإجماع دل على وجوب الرضا بقضاء
الله تعالى فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب الرضاء به ، والرضاء بالكفر حرام
بالإجماع ، فعلمنا أن الكفر ليس من فعله تعالى فلا يكون من خلقه (انتهى) . قال
الناصب خفضه الله أقول : قد عرفت فيما سبق أجوبة كل ما استدل به من آيات الكتاب
العزيز ، ثم إن
(هامش)
ص 90
المشاركة لذاته تعالى في القدم واستغنائها عن خلق الله تعالى إياها ، ولا يناسب حال
من سمى بأهل العدل والتوحيد لنفيهم مشاركة تلك الصفات مع الله تعالى ، وأما
المشاركة التي توهمها الناصب من القول بخلق العباد لأفعالهم ، فقد عرفت أنه مجرد
توهم لا حقيقة له أصلا . قال المصنف رفع الله درجته
المطلب الحادي عشر : في نسخ شبههم 
اعلم أن الأشاعرة احتجوا على مقالتهم بوجهين ، هما أقوى الوجوه عندهم ،
يلزم منهما الخروج عن العقيدة ونحن نذكر ما قالوا : ونبين دلالتهما على ما هو معلوم
البطلان بالضرورة من دين النبي (ص) ، الأول قالوا : لو كان العبد فاعلا لشيء ما
بالقدرة والاختيار فإما أن يتمكن من تركه أو لا ، والثاني يلزم منه الجبر لأن
الفاعل الذي لا يتمكن من ترك ما يفعله موجب لا مختار كما يصدر على النار الاحراق
ولا يتمكن من تركه ، والأول إما يترجح الفعل على الترك حالة الإيجاد أو لا ،
والثاني يلزم منه ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح لأنهما لما استويا من
كل وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر وبالنسبة إلى القادر الموجد كان ترجيح القادر
للفعل على الترك ترجيحا للمساوي بغير مرجح ، وأن ترجح (1) فإن لم ينته إلى الوجوب
أمكن حصول المرجوح مع تحقق الرجحان وهو محال ، أما أو لا فلامتناع وقوعه (2) حالة
التساوي فحالة المرجوحية أولى ، وأما ثانيا فلأنه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح
فلنفرضه واقعا في وقت والراجح في آخر ، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين (3) لا بد
له
(هامش)
= عنها كشحا وأعرضنا صا ثقة بتتبع الناظر وبحثه وتنقيبه . (1) هذا في المعنى عديل
لقوله والثاني يلزم منه الخ . (2) أي وقوع أحد من الفعل والترك (3) أي الراجح
والمرجوح . (*)
ص 91
من مرجح غير المرجح الأول (1) ، وإلا لزم ترجيح أحد المتساوين بغير مرجح ، فينتهي
إلى الوجوب وإلا تسلسل ، وإذا امتنع وقوع الأثر إلا مع الوجوب ، والواجب غير مقدور
ونقيضه ممتنع غير مقدور أيضا فيلزم الجبر والايجاب فلا يكون العبد مختارا ، الثاني
أن كل ما يقع فإن الله تعالى قد علم وقوعه قبل وقوعه ، وكل ما لم يقع فإن الله
تعالى قد علم في الأزل عدم وقوعه ، وما علم الله تعالى وقوعه فهو واجب الوقوع ، ولو
لم يقع لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا وهو محال ، وما علم عدمه فهو مقدورين للعبد
، فيلزم الجبر (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : أول ما ذكره من الدليلين
للأشاعرة قد استدل به أهل المذهب وهو دليل صحيح بجميع مقدماته كما ستراه واضحا إن
شاء الله تعالى ، وأما الثاني ما ذكره من الدليلين فقد ذكره الإمام الرازي ح (2)
على سبيل النقض وليس هو من دلائل أئمة
(هامش)
(1) وهو الذي رجح أصل الفعل على الترك ، وفيه أن المفروض كفاية المرجح الأول لترجيح
الوجود في جميع الأوقات على العدم فيه ، ولم يلزم من البيان الاحتياج إلى مرجح آخر
لهذا الترجيح ، بل إنما يحتاج إليه لترجيح الوجود في بعض أوقات المرجح الأول على
الوجود في بعض آخر منها ، وأين هذا من ذاك ؟ فتأمل . منه (قده) ولو فرض لزومه نقول
: يجوز أن يكون ذلك المرجح أمرا اعتياديا صادرا من العبد ولا يلزم عليه التسلسل
المحال . (2) قال فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير : الأول أن قدرة العبد أما أن
تكون معينة لأحد الطرفين أو صالحة للطرفين ، معا فإن كان الأول فالجبر لازم وإن كان
الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر إما أن يتوقف على المرجح أو لا يتوقف ، فإن
كان الأول ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه وإن كان هو الله
تعالى فمنه ما يفعل = (*)
ص 92
الأشاعرة ، وقد ذكر هذا النقض في شبهة فائدة التكليف والبعثة بهذا التقرير ، ثم إن
هذا (1) الذي ذكروه في لزوم سقوط التكليف إن لزم القائل بعدم استقلال العبد في
أفعاله فهو لازم لهم أيضا لوجوه ، الأول أن ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو
ممتنع الصدور عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا ، وما علم الله وجوه من أفعاله
فهو واجب الصدور عن العبد وإلا جاز الانقلاب ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنه يبطل
الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته لا
بتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم ، فما لزمنا في مسألة خلق
الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء ، قال الإمام الرازي (2)
(هامش)
= ذلك المرجح فيصير الفعل واجب الوقوع وحينئذ يلزم كل ما ذكرتموه ، وأما الثاني فهو
أن يقال : رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح فهذا باطل لوجهين (الأول)
أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح
(الثاني) أنه على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق ولا يكون
صادر عن العبد ، وإذا كان الأمر كذلك فقد عاد الجبر المحض ، الوجه الثاني إنكم
سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ووقوع الشيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب
علمه جهلا وذلك محال ، والمفضى إلى المحال محال وكل ما أوردتموه علينا في القضاء
والقدر لازم عليكم في العلم لزوما لا جواب عنه (انتهى) . (1) أي لزوم وجود المرجحات
الغير المتناهية ، وفيه أن المرجحات لزمت بناءا على الفروض المستحيلة حيث فرض أحد
جزئي وقت المرجح الأول وقت الوجود ففرض بعض من هذا الجزء وقت العدم ثم فصل في البعض
الذي هو على الفرض الثاني وقت الوجود وهكذا ، وفعلية الوجود تناقض فعلية العدم سواء
كانا على سبيل الوجوب أو الأولوية ، والحال جاز أن يستلزم المحال ، وأيضا عدم صدور
المرجحات عن العبد لا ينافي اختياره وفاعليته ، وأيضا غير المتناهي يمكن أن يصدر عن
العبد . (2) قال في تفسير ما محصله : أنه لو تظاهر الثقلان لم يتمكنوا من دفع هذه
الشبهة . (*)
ص 93
ولو اجتمع جملة العقلاء على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا ، وقد أجابه شارح المواقف
(1) كما سيرد عليك (انتهى) . أقول الدليل الثاني أيضا مما ذكره صاحب المواقف
والشارح التجريد (2) بعنوان الاستدلال ولم نره فيما وصل إلينا من كتب فخر الرازي
بصورة انتقض ، ولعله إن صح أنه نقضا فهو جرى منه على ما قيل : (3) من أن محصل
المعارضة نقض (4) بأن يقال : لو كان دليلكم صحيحا لما صدق نقيض مدلوله ، لكن عندنا
دليل دل على صدقه فلا يكون صحيحا ، وعلى هذا فلا ينافي الاستدلال ، والظاهر أن
الناصب لما عجز عن إتمام ذلك الدليل احتال في ذلك بتسميته نقضا لئلا يلزمه إثبات ما
يتوجه على مقدماته من المنع والنقض ، ومثل هذه الحيلة لا تذهب إلا على من هو مثله
في الجهل بأطراف كلام الأقوام وأما ما زعمه من أن ما لزم الأشاعرة
(هامش)
(1) للمواقف شروح وإذا أطلق ينصرف إلى شرح المحقق الشريف الجرجاني . (2) للتجريد
شورح وعند إطلاقه ينصرف إلى شرح المولى علي القوشجي ، وقد تقدم ذكره في (ج 1 ص 123
و463) . (3) قد تقدم الفرق بين النقض والمعارضة والمنع في آداب المناظرة في أوائل
هذا الجزء فراجع . (4) بل قد صرح ابن الحاجب في مختصره ، بأن الاعتراضات راجعة إلى
منع أو معارضة ، وقال الشارح العضدي : اعلم أن المقدمة قد تمنع تفصيلا وذلك واضح
وقد تمنع إجمالا ، وطريقته أن يقال : لو صحت مقدمات دليلك وهي جارية في الصورة
الفلانية لوجب أن يثبت الحكم فيها وإنه غير ثابت وهذا هو النقض ، وأيضا فإن المقدمة
إذا منعت وانتهض المستدل لإقامة الدليل فللمعترض منع مقدمات دليله ومعارضة دليله
عليها فمراد المصنف بالمنع والمعارضة ما يعم ذلك كله (انتهى) . منه (قده) (*)
ص 94
يلزم مثله لأهل العدل في مسألة علم الله تعالى فمدفوع بما سبق وسيجئ من أن هذا إنما
يلزم لو قلنا بأن علمه تعالى علة للمعلومات ، وإما إذا قلنا : إنه تابع له كما هو
التحقيق فلا كما لا يخفى ، ثم لا يذهب عليك أن الناصب ادعى أن ما يلزم الأشاعرة
يلزم أهل العدل من وجوه ، ولم يذكر إلا وجها واحدا والظاهر أنه أراد إظهار قدرته أو
قدرة أصحابه على إبداء الوجوه المتعددة في ذلك وإن كانت تلك الوجوه بعد في بطن
العدم ، فافهم . قال المنصف رفع الله درجته والجواب عن الوجهين من حيث النقض ومن
حيث المعارضة أما النقض ففي الأول من وجوه ، الأول وهو الحق أن الوجوب من حيث
الداعي والإرادة لا ينافي الامكان في نفس الأمر ، ولا يستلزم الايجاب وخروج القادر
عن قدرته ، وعدم وقوع الفعل بها ، فإنا نقول : الفعل مقدور للعبد يمكن وجوده عنه
ويمكن عدمه ، فإذا خلص الداعي إلى إيجاده وحصلت الشرائط وارتفعت الموانع ، وعلم
القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة البتة وجب من هذه الحيثية
إيجاد الفعل ولا يكون ذلك جبرا ولا إيجابا بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير
(انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل
للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار سواء كان ممكنا في نفس الأمر أو لا ، وكل من لا
يتمكن من الفعل وتركه فهو غير قادر سواء كان منشأ عدم تمكنه عدم الامكان الذاتي
لفعله أو عدم حصول الشرائط ووجود الموانع ، فما ذكره من النقض ليس بصحيح (انتهى) .
أقول ما ذكره مدفوع بأن نفي الاختيار على الوجه الأعم قبل الفعل وبعده
ص 95
خروج عن المبحث ، لأن الكلام في الاختيار والقدرة قبل الفعل ، وأما عند اختيار
الفعل فلا يقدح وجوبه في الاختيار المتنازع فيه ، لما تقرر من أن الوجوب بالاختيار
(1) يحقق الاختيار ولا ينافيه ، والوجوب الحاصل من تحقق الدواعي ، والإرادة الجازمة
من هذا القبيل ، والحاصل أنا نختار أن المرجح هو الإرادة وأن الفعل يجب بها ، وهذا
الوجوب لا ينافي الاختيار التمكن من الترك بالنظر إلى نفس القدرة ، بل يحققه ، لأن
القادر هو الذي يصح منه الفعل والترك قبل تعلق الإرادة الجازمة له وإن وجب بعد تعلق
الإرادة به ، وبالجملة أن كون الفعل واجبا بالغير لا ينافي كونه اختياريا في نفسه
وأن لا يكون كحركة الجماد وهو المراد ، وأيضا من المقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد
ولا شبهة أن هذا الوجوب وجوب بالغير ، فلو كان منافيا للاختيار لما وجد قادر مختار
أصلا ، إذ حين الوجوب لا يبقى التمكن من الفعل والترك كما لا يخفى ، وأما ما ذكره
الناصب في الحاشية بقوله : لما امتنع أن يكون الخ فهو اعتراض مذكور في شرحي المواقف
والتجريد ، وقد أجيب عنه بأن الفعل إنما يجب بتعلق إرادة العبد به وهو إنما يحصل
بعد العلم بالنفع واختياره وهذا التعلق أيضا إرادي مسبوق بتعلق آخر متعلق إلى هذا
التعلق وهكذا ، لكن هذه التعلقات أمور انتزاعية اعتبارية لا استحالة للتسلسل فيها ،
والحاصل أنا نريد فعلا واحدا والعقل يجد بعد التأمل والتفصيل أن قد صدر عنا تعلق
الإرادة بهذا الفعل ، وتعلقها بهذا التعلق وهكذا ، وبالجملة الداعي وهو تعلق
الإرادة الجازمة على ما
(هامش)
(1) قال المحقق الطوسي في بعض رسائله : سؤال السائل أنه بعد حصول القدرة والإرادة
هل يقدر على الترك كقول من يقول : الممكن بعد أن يوجد هل يمكن أن يكون معدوما حال
وجوده (انتهى) فافهم . (1 مكرر) وسيعترف الناصب بذلك في الحاشية التي كتبها عليا
المعارضة التي سيذكرها المصنف عن قريب (منه) . (*)
ص 96
في الشرح (1) القديم للتجريد ، ويستفاد من كلام الشارح الجديد (2) أيضا بوجوب الفعل
، وحيث اخترنا أن التعلق بالاختيار لا يستلزم الاضطرار ولكونه اعتباريا لا يلزم
التسلسل المحال . قال المصنف رفع الله درجته الثاني يجوز أن يترجح الفعل فيوجده
المؤثر أو العدم فيعدمه ولا ينتهي الرجحان إلى الوجوب على ما ذهب إليه جماعة من
المتكلمين ، فلا يلزم الجبر ولا الترجيح من غير مرجح قوله مع ذلك الرجحان لا يمتنع
النقيض فلنفرض واقعا في وقت فترجيح الفعل في وقت وجوده يفتقر إلى مرجح آخر ، قلنا :
ممنوع بل الرجحان الأول كاف فلا يفتقر إلى رجحان آخر (انتهى) . قال الناصب خفضه
الله أقول لا يصح أن يكون المرجح في وقت ترجيح الفعل هو المرجح الأول ولا بد أن
يكون هذا المرجح غير المرجح الأول لأنه هذا المرجح موجود عند وقوع الفعل مثلا في
وقت وقوعه ولهذا ترجح الفعل ، فلو كان هذا المرجح موجودا عند عدم الفعل ولم يترجح
به الفعل فلا يكون مرجحا ، وإذا ترجح به الفعل فيكون
(هامش)
(1) هو كتاب تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد ، اشتهر بين أهل العلم بالشرح
القديم لتقدمه زمانا على الشرح الجديد ، الفه الشيخ شمس الدين أبو السنان محمود بن
عبد الرحمان الإصبهاني المتوفى بمصر سنة 746 وقيل 747 وقيل 749 ، وله تصانيف كثيرة
غير شرح التجريد منها شرح طوالع الأنوار للبيضاوي وشرح مختصر الأصول لابن حاجب
وغيرها ، وهو الذي قال في حق مولينا العلامة : أنه أول من شرح التجريد وأنه لولا
شرحه لبقي التجريد في بوتقة الاجمال . (2) المراد به المولى علي القوشجي وقد تقدم
ذكره (ج 1 ص 123 و463) . (*)
ص 97
حكم الوقت مساويا ، فيلزم خلاف المفروض ، لأنا فرضنا إن الفعل يوجد في وقت ويعدم في
الآخر ، ولا بد من مرجح غير المرجح الأول (1) ليترجح به الفعل في وقت وينتهي إلى
الوجوب ، وإلا يتسلسل فيتم الدليل بلا ورود نقض (انتهى) . أقول قد صرح المصنف بأن
الأول من وجوه النقض هو الحق إشارة إلى أن الوجوه الأخر ليست كذلك ، لكنه ذكر ذلك
تعجيزا للأشاعرة ، وبالجملة هذا الوجه كما صرح به المصنف مبني على ما ذهب إليه
جماعة (2) من المتكلمين من جواز وجود الممكن بالأولوية الذاتية وما ذكره الناصب في
دفعه مأخوذ من الوجوه التي ذكرها طائفة أخرى من المتكلمين والحكماء في نفي ذلك (3)
، ولا يسلم شيء من ذلك عن مناقشة كما لا يخفى على من طالع هذا المقام من الشرح
الجديد للتجريد وحواشيه (4) القديمة والجديدة وكان بعض مشايخنا رحمهم الله يبالغ في
(هامش)
(1) والحاصل أن ما فرض من الرجح لما كان مشتركا بين وقتي الفعل والترك فلا يكون هو
وحده مرجحا للفعل وإلا امتنع أن يجتمع مع الترك إذ الترك حينئذ يكون في كلا الوقتين
مرجوحا والمرجوح يمتنع أن يتحقق مع العلة المرجحة بجانب النقيض كما لا يخفى على أحد
. منه (خفضه الله) . (2) وللإشارة إلى هذا أيضا نسب القول بتلك المقدمة إلى جماعة
من المتكلمين ، وحيث كان (قده) هاهنا في مقام المنع يكفيه الاستناد بالمقدمة التي
صارت مذهبا للبعض وإن كان ضعيفا . منه (قده) . (3) أي في نفي جواز وجود الممكن
بالأولوية . (4) اشتهرت حاشية المولى جلال الدين محمد بن أسعد الدواني المتوفى في
حدود سنة 930 على شرح المولى علي القوشجي على التجريد بالحاشية القديمة لما كتب
حاشية أخرى عليه اشتهرت هذه بالحاشية الجديدة الجلالية فكلتاهما للدواني فلا تغفل .
(*)
ص 98
ذلك ويقول : إن هذا المطلب لا يتم بالاستدلال وإن المحقق قدس سره أثبته في التجريد
بدعوى البداهة حيث قال : ولا تتصور الأولوية الذاتية وغفل عن ذلك الشارحون وحملوا
كلامه على إرادة الاستدلال ، وذكروا في تقرير ما استدل به من تقدمه من العلماء ،
فيتوجه عليه ما يتوجه عليهم ، ويتوجه عليه أيضا أن المفروض كفاية المرجح الأول
لترجيح الوجود في جميع أوقاته على العدم فيه ولم يلزم من البيان الاحتياج إلى مرجح
آخر لهذا الترجيح ، بل إنما يحتاج إليه لترجيح الوجود في بعض أوقات المرجح الأول
على الوجود في بعض آخر منها أين هذا من ذاك ؟ تأمل . قال المصنف رفع الله درجته
الثالث : لم لا يوقعه القادر مع التساوي ؟ فإن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر
من غير مرجح ، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المتكلمين (1) وتمثلوا في ذلك بصور وجدانية
كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه ، فإنه يتناول أحدهما من غير ترجيح
ولا يمتنع من الأكل حتى يترجح لمرجح والعطشان يحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه
، والهارب من السبع إذا عن (2) له طريقان متساويان فإنه يسلك أحدهما ، ولا ينتظر
حصول المرجح ، وإذا كان هذا الحكم وجدانيا كيف يمكن الاستدلال على نقيضه ! ؟ الرابع
أن هذا الدليل ينافي مذهبهم فلا يصح لهم الاحتجاج لأن مذهبهم أن القدرة لا تصلح
للضدين فالمتمكن من الفعل يخرج عن القدرة (فالتمكن من الفعل يخرجه عن القدرة خ ل)
لعدم التمكن من الترك ، وإن خالفوا مذهبهم من تعلقها بالضدين لزمهم وجود
(هامش)
(1) وهم قدماء المعتزلة كما في شرح قواعد العقائد . (1) عن : ظهر . (*)
ص 99
الضدين دفعة واحدة ، لأن القدرة لا تتقدم على الفعل المقدور عندهم ، وإن فرضوا
للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل لزمهم إما اجتماع الضدين أو تقدم القدرة على
الفعل ، فانظر إلى هؤلاء القوم الذين لا يبالون في تضاد أقوالهم وتعاندها (انتهى) .
قال الناصب خفضه الله أقول : اتفق العقلاء على أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على
الآخر إلا لمرجح والحكم بعد تصور الطرفين أي تصور الموضوع الذي هو إمكان الممكن
وتصور المحمول الذي هو معنى كونه محوجا إلى السبب ضروري بحكم بديهة العقل بعد
ملاحظة النسبة بينهما ، ولذلك يجزم به الصبيان الذين لهم أدنى تميز ، ألا ترى ؟ أن
كفتي الميزان إذا تساوتا لذاتيهما وقال قائل : ترجحت إحديهما على الأخرى بلا مرجح
من خارج لم يقبله صبي مميز وعلم بطلانه بديهة فالحكم بأن أحد المتساوين لا يترجح
على الآخر إلا مرجح مجزوم به عنده بلا نظر وكسب بل الحكم مركوز في طبائع البهائم ،
ولهذا تراها تنفر من صوت الخشب ، وما ذكر من الأمثلة كالجائع في اختيار أحد
الرغيفين وغيره فإنه لما خالف الحكم البديهي يجب أن يكون هناك مرجح لا يعلمه الجائع
والعلم بوجود المرجح من القادر غير لازم بل اللازم وجود المرجح ، وأما دعون كونه
وجدانيا مع اتفاق العقلاء بأن خلافه بديهي دعوى باطلة كسائر دعاويه والله أعلم .
وأما قوله في الوجه الرابع : أن هذا الدليل ينافي مذهبهم فلا يصح لهم الاحتجاج به ،
لأن مذهبهم أن القدرة لا تصلح للضدين الخ فنقول في جوابه : عدم صلاحية القدرة
للضدين لا يمنع صحة الاحتجاج بهذه الحجة ، فإن المراد من الاحتجاج نفي الاختيار عن
العبد وإثبات أن الفعل واجب الصدور عنه وليس له التمكن من الترك وذلك يوجب نفي
الاختيار ، فإذا كان المذهب أن القدرة لا تصلح للضدين وبلغ الفعل حد الوجوب لوجود
المرجح الموجب ، لم يكن العبد قادرا على
ص 100
الترك فيكون موجبا لا مختارا ، وهذا هو المطلوب ، فكيف يقول : إن كون القدرة غير
صالحة للضدين يوجب عدم صحة الاحتجاج بهذه الحجة فعلم أنه من جهله وكودنيته (1) لا
يفرق بين ما هو مؤيد للحجة وما هو مناف لها ثم ما ذكره أنهم إن خالفوا مذهبهم من
تعلقها بالضدين لزمهم إما اجتماع النقيضين أو تقدم القدرة على الفعل فهذا شيء
يخترعه من عند نفسه ثم يجعله محذورا ، والأشاعرة إنما نفوا هذا المذهب وقالوا : إن
القدرة لا تصلح للضدين ، لأن القدرة عندهم مع الفعل فيجب أن لا يكون صالحا للضدين ،
وإلا لزم اجتماع النقيضين ، انظروا معاشر المسلمين إلى هذا السارق (2) الحلي الذي
اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات
(هامش)
(1) الكودن والكودني البرذون الهجين . الفيل والجمع الكوادين كذا في المعاجم
اللغوية وتطلق على الرجل البليد في الغاية . (2) بالله عليكم يا معاشر العقلاء وزمر
أرباب الحجى أهكذا سبيل المحاورة في العلميات والمطالب النظرية أسئلكم بكل ما
تدينون به هل اطلعتم وهل رأيتم في أرباب التصنيف والتأليف مثل هذا الرجل البذي
اللسان والذي نفسي بيده أن الرجل أخجل علماء القوم وطأطأ رؤسهم بصنيعه في هذه
الأوراق كيف لا وقد سلك طريق السفلة الرعاع ولم يستحي عن ربه القهار الجبار وخالف
قول سيدنا رسول الله (ص) (إن الله يبغض بذي اللسان) وترك شعار الحياء ودثاره مع أنه
قال (ص) (الإيمان عريان ولباسه الحياء) . ألا أحد من علمائهم يسئل عن هذا الرجل كيف
تنسب ما ذكرت إلى مثل العلامة في كتابك أو ما تحذر من أن يقف عليه أهل الاطلاع
بالسير والتراجم فيعرفونك أن مولينا العلامة من أكرمه ربه أصالة الآباء والأمهات
وأن بيته بيد جلالة ونبالة فهذا والده الحقق الشيخ سديد الدين يوسف وهذا خاله
المحقق على الإطلاق وهذا ابن عم أمه الشيخ يحيى بن سعيد الحلي صاحب كتابي نزهة
الناظر والجامع وهذا أخوه الجليل وجده لأبيه كان من أجلة العلماء والفقهاء = (*)
ص 101
حسب أن هذا الكلام حطب يسرق كيف أتى بالدليل وجعله اعتراضا والحمد لله الذي فضحه في
آخر الزمان ، وأظهر جهله وتعصبه على أهل الإيمان (انتهى) . أقول (1) نعم قد اتفق
العقلاء على ذلك لكن وجه كلام المصنف (2) من الأشاعرة المعزولين عن العقل ، وهم قد
جوزوا أن يرجح القادر فعله لمجرد الإرادة بلا داع يختص بها ، ومثلوا بما ذكره
المصنف من الأمثلة الوجدانية ، وممن صرح بنسبة ذلك إلى الشيخ الأشعري أيضا سيف
الدين الأبهري الأشعري في مبحث الحسن والقبيح
(هامش)
= وأسلافه من كرام الأسديين ولولا مخافة الإطالة والسأم لعدونا عدة من أعيان هذا
البيت الجليل . والمظنون القوي المتاخم للعلم أنه متى عجز عن الاعتراض السديد أخذته
الحمية الجاهلة الباردة وجعل يتفوه بما هو فضل وفضول في الكلام والتمسك بالشتم
والوقيعة طريق من حار في أمره وخلى عن لبه عصمنا الله من أمثال هذه الكلمات
والترهات آمين آمين . (1) وتحقيق الجواب أن من جوز الترجيح بلا مرجح للمختار يقول
المرجح هو الإرادة التي هي عين ذاته تعالى أو صادر عنه بالايجاب ومن لم يجوز يقول
المرجح هو الوجود كما ذهب إليه الحكماء أو ملاحظة المصلحة المتدرجة بالفعل دون
الترك وكون الفعل أصلح أمر لازم له لا يتوقف اتصافه به على وجود الفعل بالفعل بل هو
اتصاف تقديري كاتصاف المعدومات الممكنة ، بالامكان والمقدورية من غير أن يقتضي وجود
الموصوف . منه (قده) (2) فيكون هذا البحث من المصنف (قده) إلزاما للأشاعرة . منه
(قده) . (3) هو المحقق الشيخ سيف الدين أحمد الأبهري الأصولي المتكلم النحوي قال
الكاتب الجلبي في كشف الظنون (ج 2 ص 1853 طبع الاستانة) إن له حاشية على شرح
المختصر لابن الحاجب أولها الحمد لله الذي شرع الأحكام الخ . (*)
ص 102
من حاشيته على شرح المختصر فليطالع أصحاب الناصب ذلك فيها ، ومن العجب أن الناصب
شتم القائل بذلك ولم يعلم أن ذلك الشتم يرجع إلى شيخه ، وإمامه ولم يميز من غاية
البهت خلفه من أمامه ، ويؤيد تلك النسبة الحديث الذي وضعه المحدثون من الأشاعرة في
شأن أبي بكر ، وهو قولهم : قال رسول الله (ص) : (1) لو وضع أبي بكر في كفة ميزان
وجميع الناس في كفة أخرى لترجحت الكفة التي كان فيها أبو بكر ، لا يلتفت إلى ما نقل
عن البهلول (2) في رد ذلك من أنه لو صح
(هامش)
(1) روي في مجمع الزوائد (ج 9 ص 59 ط مصر) في حديث طويل عم أبي أمامة : ثم أتي بأبي
بكر فوضع في كفة وأتي بجميع أمتي فوضعوا فرجح . الحديث ، ثم ذكر في ضعف سنده بما
هذا لفظه : رواه أحمد والطبراني بنحوه باختصار ، وفيهما مطرح بن زياد وعلي بن يزيد
الالهاني وكلاهما مجمع على ضعفه ، ومما يدلك على ضعف هذا أن عبد الرحمان بن عوف
(الذي وقع الطعن عليه في متن الحديث) أحد أصحاب بدر والحديبية وأحد العشرة وهم أفضل
الصحابة والحمد لله . انتهى كلامه . (2) هو وهب بن عمرو الكوفي المشتهر بالبهلول ،
كان رجلا تقيا ورعا زاهدا عالما فقيها ، محدثا ، ذا أدب ومعرفة وتشيع ، استفاد من
قدسي أنفاس الإمامين الهمامين الصادق والكاظم عليهما السلام ، وله حكايات ومناظرات
لطيفة في الفقه والكلام مع أبي حنيفة وغيره من المشاهير ، ويعد في كتب التراجم من
عقلاء المجانين ، لأنه كان يتستر بجنة التجنن تقية وحقنا لدمه ، وفي بعض كتب
التواريخ والسير أنه من أبناء عم الرشيد العباسي ، والحق أنه ليس من بني العباس كما
هو واضع لمن سبر في أحواله . وله شعر رائق ، ومنه قوله في العظة والاعتبار بأحوال
الموتى وأهل القبور . شعر تناديك أجداث وهو صموت * وأربابها تحت التراب خفوت فيا
جامع الدنيا حريصا لغيره * لمن تجمع الدنيا وأنت تموت ومن شعره أيضا قوله لما رماه
الصبيان بالحصا فأدمته الحصاة فقال : = (*)
ص 103
(هامش)
= حسبي الله توكلت عليه * من نواصي الخلق طرا بيديه ليس للهارب في مهر به * أبدا من
راحة إلا إليه رب رام إلى بأحجار الردى * لم أجد بدا من العطف عليه فقيل هل : يا
بهلول تعطف عليهم وهم يرمونك بالأحجار ؟ فقال : اسكت ، لعل الله يطلع على غمي ووجعي
وفرح هؤلاء الصبيان ، فيسره فيهب بعضنا من بعض (انتهى) . ومن شعره قوله : إن كنت
تهواهم حقا بلا كذب * فالزم جنونك في جد وفي لعب إياك من أن يقولوا عاقل فطن *
فتبتلى بطوال الكد والنصب مولاك يعلم ما تطويه من خلق * فما يضرك إن سبوك بالكذب
ومن شعره أيضا : حقيق بالتواضع من يموت * وحسب المرء من دنياه قوت فما للمرء يصبح
ذا اهتمام * وشغل لا يقوم له النعوت صنيع مليكنا حسن جميل * وما أرزاقنا مما تفوت
فيا هذا سترحل عن قريب * إلى قوم كلامهم السكوت ومن مكارم أخلاقه أنه اجتمع عليه
الصبيان ذات يوم ونهبوا ما كان معه ، وجعلوا يرمونه بالأحجار ، فهرب منهم وتحصن في
مسجد كان هناك وأغلق عليهم الباب وصعد على السطح حتى أشرف عليهم منه ، وجعل يقرء
قوله تعالى : فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ،
فلما رأى محمد بن سليمان ذلك أمر بتفرقة الأطفال عنه وقال لا إله إلا الله لقد رزق
الله علي ابن أبي طالب (ع) لب كل ذي لب . ومن مكارم أخلاقه أيضا أنه اجتمع عليه ذات
يوم عدة من الصبيان وجعلوا يرمونه ويضربون فقال له رجل ألا تشكوهم إلى آبائهم ،
فقال اسكت فلعلي إذا مت يذكرون هذا الفرح فيقولون : رحم الله ذاك المجنون ، انتهى .
فراجع في ترجمة حاله إلى كتب التراجم ، منها الروضات ج 1 ص 39 . (*)
ص 104
هذا الحديث لكان في ذلك الميزان عيب ألبتة ، لأنه كان رافضيا مجنونا لا يصير كلامه
حجة على الأشاعرة ، ثم من هذا القبيل أيضا قولهم بجواز تفضيل المفضول في باب
الإمامة وتصريحهم بتفضيل أبي بكر على علي (ع) مع روايتهم عن النبي (ص) أنه قال
لضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ، اللهم إلا أن يقال : إن أبا بكر ليس
من الثقلين ، بل نقول : إن تجويزهم تعذيب الله تعالى للأنبياء والأولياء المطيعين
وإكرامه للفساق والأشرار العاصين أيضا من باب ترجيح المرجوح كما لا يخفي ، فكيف
يستبعد منهم تجويز الترجيح بلا مرجح ؟ فافهم ، وبالجملة مخالفة صريح العقل شأن
الأشعري وأصحابه المعزولين عن العقل (الحق خ ل) ، فلا وجه لاستدلال الناصب على نفي
قولهم بجواز الترجيح بلا مرجح ، بكون ذلك مخالفا لاتفاق العقلاء ، وأما ما ذكره في
جواب الوجه الرابع فمدفوع بأن المصنف قدس سره لم يمنع صحة سوق المقدمات المذكورة في
الدليل ، وارتباط بعضها ببعض ، وتحقق شرائط صورها واستلزامها لما قصده ، ومن نفي
الاختيار ، بل أراد أن مادة المقدمة المذكورة في الدليل بقولهم : لو كان العبد
فاعلا لشيء ما بالقدرة والاختيار ، فإما أن يتمكن من تركه أو لا ، لا يصح بناء على
ما أصلوه من أن القدرة لا تصلح للضدين لأن المتمكن من الفعل على هذا الأصل لا يقدر
على الترك فيخرج عن أن يكون قادرا فلا يصح توصيفه بالقدرة وإجراء الترديد فيه بأنه
إما أن يمكن من الترك أو لا ، وهذا نظير ما قيل : من أنه على تقدير نظرية كل من
التصورات والتصديقات لا يمكن الاستدلال على بطلان نظريتها ، لأن المستدل على
الإبطال إن سلم نظرية مقدمات دليله لا يحصل مطلوبه ، وإن ادعى بداهة بعضها فهو
ينافي التقدير ، والقول بأن ما ذكره الناصب من الفرض والترديد بجواز أن يكون على
جهة إلزام أهل العدل مخالف لما اشتهر بينهم من كون ذلك الدليل تحقيقا لما ذكره
الناصب سابقا من أنه دليل صحيح بجميع مقدماته فتأمل ،
ص 105
فعلم أن لجهله بقواعد المنطق ، بل لخروجه عن ذوي النطق ومدركي المعقولات لم يفرق
بين فساد مادة القياس وفساد صورته ، ولم يفهم أن لزوم النتيجة المذكورة إنما هو
لتسليم الناصب المقدمة التي ذكرها في قياسه الفاسد وأن القياس وإن كان فاسد
المقدمات إذا سلمت يلزم منها قول آخر ولم يعلم أن المصنف لا يسلم بعض المقدمات لا
أنه يسلم المقدمات ويمنع اللزوم ، وأما ما ذكره من أن قول المصنف : إن خالفوا
مذهبهم من تعلقها بالضدين لزمه الخ شيء يخترعه من عند نفسه ، ثم يجعله محذورا ففيه
أن كلام المصنف هذا مع ما ذكره سابقا يرجع إلى إيراد ترديد على الدليل المذكور ،
ولا يلزم أن يكون كلا شقي الترديد واقعيا أو مطابقا لمذهب المستدل به ، بل يكفي فيه
الغرض ، لأن من الترديد حصر احتمالات الكلام والردع على كل منها ، لئلا يرجع الخصم
، ويقول : إني أردت معنى لم تذكره أنت ولا يتوجه عليه شيء مما ذكرت ، وكذا الكلام
فيما ذكره من نفي الأشاعرة لذلك المذهب ، فانظروا معاشر العقلاء المؤمنين إلى هذا
الفضول المهان بالزبال (1) في إصبهان أنه لما اعتاد إصلاح فساد زرع شعيره يجعل
الزبل من المزابل واستعماله في أصول السنابل حاول إصلاح ما زرعه شيخه في خبيث أرض
تقريره بكل ما خرج من مزبلة فمه وبالوعة ضميره وقد قيل : شعر وهل يصلح العطار ما
أفسد الدهر ؟ فكيف بالزبال الذي أنتن منه السر والجهر وبالجملة أي ربط لسرقة الحطب
بأهل الحلة ، وأي نسبة للحطب بالفرات الخالي عن الآجام المضلة والمظلمة وإنما يناسب
ذلك بحمالة الحطب (2) التي هي من
(هامش)
(1) ذكر بعض المؤلفين في التراجم أن الرجل كانت له زراعة بإصبهان زمن قضاوته . (2)
هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان عمة معاوية ولا يخفى أن العمة تسمى أما . منه
(قده) (*)
ص 106
أمهات بعض خلفاء الناصب وبخليفة حمال الحطب من سوق المدينة لإضرامه النار في باب
بيت صاحب السكينة ، وقصد إحراق الذين هم لنجاتنا أكرم سفينة (1) والحمد لله الذي
فضح الناصب ورفع عنه الأمان ، وأوضح سوء عاقبته على أهل الإيمان حيث طرده من إيران
وأماته في النيران أعني مظهر القهر من بلاد ما وراء النهر (2) ووفقنا لدفع شره الذي
أورثه لأهل النهر (3) أعني نسخ كتابه الذي يشهد على أمه بالعهر (4) بما لا يخفى (5)
وقعه على علماء الدهر . قال المصنف رفع الله درجته وفي الثاني من وجهين ، الأول
العلم بالوقوع تبع الوقوع فلا تؤثر (6) فيه ، فإن التابع
(هامش)
(1) إشارة إلى قوله (ص) مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تركها غرق . (2)
إشارة إلى أن القاضي ابن روز بهان توفي في قاشان من بلاد ما وراء النهر فلا يصغى
إلى كلام من قال : إنه توفي ببيت المقدس أو بمصر أو الحرمين كما تقدم تفصيل ذلك في
المقدمة . (3) إشارة إلى ذم أهل ما وراء النهر حيث اقتنوا نسخ كتاب ابن رزوبهان
وجعلوه موردا للاستفادة . (4) إشارة إلى ما نقله الثقات من الفريقين من قوله (ص) ،
لا يبغض عليا إلا من لم تطب ولادته . (5) متعلق بقوله : وفقنا لدفع شره . (6) ألا
ترى أن علمنا بطلوع الشمس غدا لا يؤثر في وجوب الطلوع وإمكانه قطعا كذلك علم الله
تعالى بأفعالنا ، ولو صح الدليل المذكور يلزم أن لا يكون الله تعالى فاعلا لأفعاله
، لأنه عالم في الأزل بأفعاله وجودا وعدما ، فالأفعال إما واجبة أو ممتنعة ، فلو
استلزم عدم المقدورية عدم الفعل لاستلزم ذلك عدم حدوث شيء من الموجودات . (*)
ص 107
إنما يتبع متبوعه (1) ، ويتأخر عنه بالذات والمؤثر متقدم ، الثاني أن الوجوب اللاحق
لا يؤثر في الامكان الذاتي ، (2) ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن فإن كل ممكن
على الإطلاق ، إذا فرض موجودا فإنه حالة وجوده يمتنع عدمه لامتناع اجتماع النقيضين
وإذا كان ممتنع العدم كان واجبا ، مع أنه ممكن بالنظر إلى ذاته والعلم حكاية عن
المعلوم ، ومطابق له إذ لا بد في العلم من المطابقة ، فالعلم والمعلوم متطابقان
والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم ، فإنه لولاه لم يكن علما ، ولا فرق بين فرض
الشيء وفرض ما يطابقه بما هو حكاية عنه وفرض العلم هو بعينه فرض العلوم ، وقد عرفت
أن مع فرض المعلوم يجب ، فكذا مع فرض العلم به ، وكما أن ذلك الوجوب لا يؤثر في
الامكان الذاتي كذا هذا الوجوب (3) ، ولا يلزم من تعلق علم الله به وجوبه بالنسبة
إلى ذاته ، بل بالنسبة إلى العلم (انتهى) .
(هامش)
(1) والحاصل أننا نمنع استحالة الإيمان من الكافر مثلا وأن حصوله يفضي إلى انقلاب
علم الله جهلا ، وذلك لأن العلم تابع للمعلوم متعلق به على ما هو عليه ، فإن كان
الشيء واقعا تعلق العلم بوقوعه ، وإن كان غير واقع تعلق العلم بعدمه ، فالإيمان إن
وقع علمنا أنه تعالى كان عالما بوقوعه ، وإن فرضنا غير واقع لزم القطع بأنه تعالى
علم عدم وقوعه ففرض الإيمان بدلا عن الكفر لا يقتضي تغير العم بعدمه ، بل يقتضي أن
يكون الحاصل في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر . (2) وهو شرط
التكليف . (3) يعني أن الوجوب اللاحق بعد فرض العلم فلا يؤثر في الامكان الذاتي ولا
في القدرة عليه كما أن فرض المعلوم يوجبه وجوبا لاحقا وهو لا يؤثر في الامكان
الذاتي للطرف الآخر ، وبالجملة لا فرق بين فرض الشيء وفرض مطابقته ولا ينافي ذلك
تأخير المعلوم عن العلم فإن العلم حكاية والحكاية قد يتقدم زمانا وقد يتأخر ، وهي
متأخرة على التقديرين بالذات عن المحكي وكذا العلم السابق لأن شرطه المطابقة
والامتناع لاحق وهو لا يؤثر في الامكان الذاتي الذي هو شرط التكليف .
ص 108
قال الناصب خفضه الله أقول : قد ذكرنا أن هذه الحجة التي أوردها الإمام الرازي على
سبيل النقض الاجمالي في مبحث التكليف والبعثة ، وهذا صورة تقريره : ما علم الله
عدمه من أفعال العبد ، فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا ، وما
علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد وإلا جاز ذلك الانقلاب ولا مخرج
عنهما لفعل العبد ، وأنه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل
حينئذ التكليف وأخواته (1) لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال ، كما ذكرتم
، فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء قال
الإمام الرازي ، ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا حرفا إلا
بالتزام مذهب هشام (2) وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، وقال شارح
المواقف واعترض عليه ، بأن العلم تابع للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان والأصل في
هذه المطابقة هو المعلوم ألا ترى أن صورة الفرس مثلا على الجدار إنما كانت على
الهيئة المخصوصة ، لأن الفرس في حد نفسه هكذا ، ولا يتصور أن ينعكس الحال بينهما ،
فالعلم بأن زيدا سيقوم غدا مثلا إنما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون
العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه وسلب القدرة والاختيار وإلا لزام أن
لا يكون تعالى فاعلا
(هامش)
(1) المراد بها الأمور التي تعتبر فيها القدرة والاختيار بحكم العقل السليم . (2)
قال الشهرستاني في كتاب الملل والنحل (ج 1 ص 97 - الطبع الجديد بمصر) ما لفظه :
الهشامية أصحاب هشام بن عمرو الفوطي ومبالغته في القدر أشد وأكثر الخ ، وحكى عنه
مقالات في بابي صفات الباري وما يتعلق بالآخرة ، فظهر أنهم أسرة تبعوا هشاما في هذه
المقالات وهو غير هشام بن الحكم وغير هشام البصري وغير هشام الكوفي ، وكثيرا ما يقع
الاشتباه في استناد المقالات إلى هؤلاء فلا تغفل . (*)
ص 109
مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما انتهى كلام شارح (1) المواقف ، فظهر أن
الرجل السارق الحلي سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنة والجماعة وجعلهما حجة عليهم
، وجواب الأول من الوجهين إنا لا ندعي تأثير العلم في الفعل كما ذكرنا ، حتى يلزم
من تأخره عن المعلوم عدم تأثيره ، بل ندعي انقلاب العلم جهلا ، والتابعية لا تدفع
هذا المحذور لما ستعلم ، وجواب الثاني من الوجهين أنا نسلم أن الفعل الذي تعلق به
علم الواجب في الأزل ممكن بالذات واجب بالغير والمراد حصول الوجوب الذي ينفي
الاختيار ويصير به الفعل اضطراريا وهو حاصل سواء كان الوجوب بالذات أو بالغير ،
وأما جواب شارح المواقف فنقول : إنا لا نسلم أن العلم مطلقا تابع للمعلوم بل العلم
الانفعالي الذي تحقق بعد وقوع المعلوم وهو تابع للمعلوم ، وإن أراد بالتابعية
التطابق فلا نسلم أن الأصل في المطابقة هو المعلوم في العلم الفعلي بل الأمر بالعكس
عند التحقيق ، فإن علم المهندس الذي يحصل به تقدير بناء البيت هو الأصل والعلة
لبناء البيت ، والبيت يتبعه ، فإن خالف شيء من أجزاء البيت ما قدره المهندس في علمه
الفعلي لزم انقلاب العلم جهلا وأنت تعلم أن علم الله تعالى بالموجودات التي ستكون
هو علم فعلي كعلم المهندس الذي يحصل من ذاته ، ثم يطابقه البيت ، كذلك علم الله
تعالى هو سبب حصول الموجودات على النظام الواقع ويتبعه وجود الكائنات ، فإن وقع شيء
من الكائنات على خلاف ما قدره علمه الفعلي في الأزل لزم انقلاب العلم جهلا وهذا هو
التحقيق (انتهى) . أقول لا حجة فيما ينقله الناصب لظهور خيانته في مثل ذلك مرارا
ولو صح فلا ينافي
(هامش)
(1) هو المحقق السيد شريف الدين علي الجرجاني (*)
ص 110
إيراد الإمام الرازي لذلك على سبيل النقض إيراد غيره من الأشاعرة إياها على طريق
الاستدلال كيف ؟ وقد صرح الشارح الجديد للتجريد في بحث العلم من الأعراض بأن
الأشاعرة استدلوا بذلك ، حيث قال إن الأشاعرة لما استدلوا على كون أفعال العباد
اضطرارية بأن الله تعالى عالم في الأزل بصدورها عنهم ، فيستحيل انفكاكهم عنها
لامتناع خلاف ما علمه تعالى فكانت لازمة لهم ، فلا تكون اختيارية وأجاب (1)
المعتزلة بأن العلم تابع للمعلوم فلا يكون علة له ، قال الأشاعرة : كيف يجوز أن
يكون علمه الأزلي تابعا لما هو متأخر عنه فإنه يستلزم الدور ؟ فأجابوا : بأنا لا
نعني التابعية هاهنا التأخر حتى يلزم الدور ، بل أصالة موازنة في التطابق الخ
(هامش)
(1) وقد أجاب بعض المدققين من مشاهير أصحابنا بأن الحق أن فعل العبد بقدرته
واختياره ، لكن قدرته واختياره ليسا باختياره ، وإلا لزم التسلسل ، وهما أمران
حادثان ما لم يجبا لم يوجدا ، وإنما يوجدان وجوبا بإرادة الله تعالى وإذا أوجدهما
الله في العبد وجب أن يصدر عنه الفعل بهما ، وإرادته تعالى عين علمه الأزلي المتعلق
بجميع ما وجد ، فعلمه موافق للمصلحة وأنه ينبغي وجوده وبه وجد جميع الموجودات ، ففي
الأزل علم الله تعالى العبد وأنه يوجد هذه الإرادة لداع كذا ، وبهما يصدر الفعل عنه
، فعلمه أوجب وجود العبد في حين وجده فأوجب وجود الإرادة فيه في زمان وجدت ،
وبالإرادة الواجبة بعلمه تعالى وجب وجود الفعل ، فإذا نزل إلى المبدء القريب للفعل
وهو الإرادة الواجبة بالعبد الصادرة عن أرادته تعالى صح القول : بأن الفعل باختيار
العبد وإرادته ، وإذا نظر إلى أن الفعل وجب بعلمه تعالى الذي هو عين إرادته على
التحقيق يميل الذين إلى الجبر ، وهذا سر ما نقل عن سبط رسول الله (ص) الذي هو عن
الوحي جعفر بن محمد الصادق (ع) : أنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، واندفع
الإشكال المذكور ، لا أن علم الله تعالى بفعل العبد في زمان معين وإن لم يجب به
الفعل بلا واسطة ، لكن يجب به بوسايط إذ يجب به وجوب العبد وقدرته وإرادته ، وبها
يجب الفعل . منه (قده) . وهو المولى المدقق العلامة أبو الحسن الكاشي (ره) . (*)
ص 111
وإنما جعله الناصب نقضا ليصير أقل قبولا لورود أقسام البحث عليه فافهم (1) ، وبما
قررناه من كلام شارح التجريد ظهر بطلان ما ذكره الناصب من أن المصنف سرق هذين
الوجهين من كلام أهل السنة والجماعة الخ ، وأما ما ذكره في جواب الأول من الوجهين
فمردود ، بأنه لما كان المفروض أنه تعالى إنما يعلم المعلوم كالفعل مثلا على الوجه
الذي سيقع ، فمن أين يحصل في المعلوم اختلاف يوجب انقلاب علمه تعالى جهلا ، وأما ما
ذكره في جواب الثاني منها فمزيف : بأنه لو كان الوجوب اللاحق نافيا لاختيار الفاعل
لكان الله تعالى أيضا غير مختار فيما وجد من أفعاله : لأن الشيء ما لم يجب لم يوجد
وذلك وجوب لاحق ، فيكون الله تعالى مضطرا غير مختار فيه ، وبطلانه مما لا يخفى ،
وتحقيق الكلام في ذلك أن مدار (2) معنى القدرة والاختيار على أن هذا الفعل بالنسبة
إلى ذات هذا الفاعل بحيث إن شاء فعله وإن لم يشأ لم يفعله مع قطع النظر عن الأمور
العارضة الموجبة والمحيلة فعله للطرف الآخر كما في الواجب ، والامتناع الحاصل من
علمه تعالى بالفعل والترك خارج عن ذات الفاعل لاحق للفعل غير مؤثر فيه ، فلا يوجب
سلب اختياره بالنظر
(هامش)
(1) إشارة إلى أنه حيث كان في مقام رد هذا الدليل ارتكب بما هو دأبه من النقود
الغير الدخيلة في تحقيق المطلب وجعله مناطا للفحش والسباب ، ونسبة السرقة ، وما
أبعده من شأن أهل البحث والتحقيق ، المشاحة في التعبير بالنقض أو الدليل لا يليق
بهم فضلا عن جعله مناطا للوقيعة في حق المسلم وارتكاب ما هو فعل الأراجيف والأراذل
السفلة . (2) لا يخفى على من سبر في كلمات المتكلمين أن لهم في تعيين مدار القدرة
تعبيرين أحدهما أن المدار فيها صدق قضية إن شاء فعل وإن شاء ترك بجعل كل واحد من
الفعل والترك متعلقا للمشية والثاني إن المدار فيها صدق قضية إن شاء فعل وإن لم يشأ
لم يفعل ، فما ذكره مولينا القاضي الشريف يوافق أحد القولين ، وهو التحقيق لدى أهله
. (*)
ص 112
إلى أصل الفعل ولا عدم استحقاقه لشيء من الثواب والعقاب ، ويوضح (1) ذلك أنه إذا
كان رجل حمال مدار تعيشه في كل يوم أن يأخذ أجرة معينة على حمل قدر معين من الخمر
مثلا من مكان إلى مكان ، فأمره سلطان قاهر لا يعرفه هو بهذا الوصف ذات يوم بحمل شيء
من ذلك بتلك الأجرة المقررة أو أزيد منها في تلك المسافة المعهودة بعينها فإن
قاهرية السلطان واقتداره في الواقع لا يوجب سلب اختيار المأمور المذكور في ذلك
الفعل ، لأن الفرض أنه كان يفعل ذلك بطيب قلبه دائما ولم يقع إجبار السلطان له فعلا
(2) في ذلك الفعل مع ظهور أنه لم يمكنه التخلف عن أمر ذلك السلطان ، فكما أن حصول
القهر بالقوة هاهنا لا يوجب سلب الاختيار ، لأنه أمر لاحق ، كذلك الايجاب الناشي من
علمه تعالى بوقوع أحد طرفي الفعل من المكلف لا يؤثر فيه ولا يوجب سلب اختياره ،
وكونه معذورا في ذلك الفعل المحرم (3) فتدبر ، وأما ما أورده على الجواب المذكور في
(شرح المواقف) أيضا فكلام منتحل مأخوذ عن بعض المتأخرين ، وقد أطال الناصب فيه بما
لا طائل تحته لئلا يظهر انتحاله إياه لكل أحد ، بل أفسده حيث قرره بطريق المنع ،
وخرج به عن قانون المناظرة كما لا يخفى على من تأمل في المراتب التي نقلناها من
كلام شارح التجريد ، ومع هذا يمكن أن يدفع بأن للإمامية والمعتزلة أن يقولوا :
سلمنا أن علمه تعالى بما يصدر عنه فعلي كعلم البناء بخصوصيات البناء قبل أن يصنعه
لا انفعالي إلا أنا لا نسلم أن علمه بأفعال العباد كذلك ، وإنما يسلم ذلك أن لو ثبت
أنه فاعل لأفعالهم ولم يثبت عندنا ذلك بعد ، وإذا لم يكن علمه تعالى
(هامش)
(1) هذا التوضيح من خصائص هذا التعليق وهو أقوى وأوضح من جميع ما استوضحوا به
المرام كما لا يخفى على المتتبع المنصف ، منه (قده) . (2) أي بالفعل وفي الوقت
الخاص . (3) وهو عمل الخمر بأمر السلطان من غير حصول الجبر . (*)
ص 113
بأفعالهم فعليا فلا مدخل له في الوجوب هذه الأفعال أو امتناعها كما توهمه صاحب
الشبهة ، وهاهنا دفع آخر تركناه على ذوي الأفهام لضيق المقام . قال المصنف رفع الله
درجته وأما المعارضة في الوجهين فإنهما آتيان في حق واجب الوجود تعالى فإنا نقول في
الأول : لو كان الله تعالى قادرا مختارا فإما أن يتمكن من الترك أو لا ، فإن لم
يتمكن من الترك كان موجبا مجبرا على الفعل لا قادرا مختارا ، وإن تمكن فإما أن ترجح
أحد الطرفين على الآخر أو لا ، فإن لم يترجح لزم وجود الممكن المتساوي من غير مرجح
، فإن كان محالا في حق العبد كان محالا في حق الله لعدم الفرق ، وإن ترجح فإن انتهى
إلى الوجوب لزم الجبر وإلا تسلسل أو وقع التساوي من غير مرجح ، فكل ما تقولونه
هاهنا نقوله نحن في حق العبد انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : ذكر صاحب المواقف
هذا الدليل في كتابه ، وأورد عليه أن هذا ينفي كون الله تعالى قادرا مختارا لا مكان
إقامة الدليل بعينه (الدلالة بعينها خ ل) ، فيقال : لو كان تعالى موجدا لفعله
بالقدرة استقلالا فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه ، وإن يتوقف فعله على مرجح إلى آخر
ما مر تقريره وأجيب عن ذلك بالفرق بأن إرادة العبد محدثة أي الفعل يتوقف على مرجح
هو الإرادة الجازمة لكن إرادة العبد محدثة لكن ينتهي إلى إرادة يخلقها الله فيه بلا
إرادة واختيار منه دفعا للتسلسل في الإرادات التي نفرض صدورها عنه ، وإرادة الله
قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى ، فظهر الفرق واندفع النقض .
ص 114
أقول هذا الجواب من جملة تشكيكات إمام الناصب فخر الدين الرازي وقد رده سلطان (1)
المحققين قدس سره في التجريد بما قرره الشارح (2) الجديد بأن هذا الفرق لا يدفع
التسلسل المذكور إذ يقال : إن لم يكن الترك (3) مع الإرادة القديمة كان موجبا لا
قادرا مختارا ، وإن أمكن فإن لم يتوقف فعله على مرجح استغنى الجائز عن المرجح ، وإن
توقف عليه كان الفعل معه واجبا فيكون اضطراريا ، والفرق الذي ذكرتموه في المدلول مع
الاشتراك في الدليل دليل على بطلان الدليل ، وإنما يندفع النقض إذا بين عدم جريان
الدليل في سورة التخلف وقد أشار صاحب المواقف أيضا إلى الجواب المذكور في شرحه
لمختصر ابن الحاجب حيث قال في مبحث الحسن والقبح منه إن تعلق إرادته تعالى قديم (4)
لا يحتاج إلى مرجح متجدد ،
(هامش)
(1) أي المحقق الطوسي الخواجه نصير الملة والدين (قدس سره) . (2) هو المحقق المولى
علي القوشجي . (3) وبعبارة أخرى نقول : وإن كانت إرادة الباري تعالى قديمة فإما أن
يصح معها الفعل بدلا عن الترك والترك بدلا عن الفعل أو لا ، فإن كان الأول فلا بد
لأحد الطرفين من مرجح ، والكلام في ذلك المرجح كالكلام في الأول ، وهو تسلسل ممتنع
، وإن كان الثاني لزم الجبر ولا مخلص عنه كما لا يخفى . (4) وقد تقرر بأن كون إرادة
الباري تعالى قديمة لا يدفع لزوم التسلسل الذي ذكره في جانب إرادة العبد ، لأنا
نقول : إن المرجح القديم إن كان كافيا في الفعل من غير احتياج إلى أمر حادث لزم قدم
الفعل ، لامتناع تخلف المعلول عن العلة التامة ، وإن لم يكف بل كان محتاجا إلى أمر
حادث كتعلق الإرادة ، فوقوع هذا التعلق بجناح إلى حادث آخر ويتسلسل إلى غير النهاية
أو تنتهي سلسلة الأسباب الحادثة إلى أمر قديم ، فيلزم قد تلك التعلقات فتأمل حق
التأمل في المقام .
ص 115
ورد عليه سيد المحققين قدس سره في حاشيته بأنه إن أراد بالتعلق التعلق الذي يترتب
عليه الوجود لم يكن قديما والالزام قدم المراد ، وإن أراد التعلق المعنوي فمعه
يحتاج إلى مرجح متجدد وهو التعلق الحادث الذي به الحدوث ، ولو قيل : بأن أرادته
تعلقت في الأزل بوجود زيد في زمان مخصوص فعنده يوجده ولا حاجة له إلى تعلق آخر لم
يتم أيضا لاحتياج وجوده في ذلك الزمان إلى تعلق حادث للقدرة يترتب عليه حدوثه كما
صرح به فيما تقدم (انتهى) ، وأيضا يتوجه عليه ما قيل : من أنه لو أقتضى ذات الفاعل
مع هذا التعلق أن يحدث الحادث في زمان معين وذلك كان كافيا فيه يلزم وجود الحادث في
هذا الزمان في الأزل وأيضا على هذا التقدير كان محتاجا إلى حضور ذلك الزمان ولم يكن
كافيا في الاقتضاء فتأمل هذا ، وأما ما ذكره (2) في حاشية هذا المقام من أن الكلام
الذي ذكره المصنف نقض سماه معارضة لجهله بآداب البحث (3) ، ففيه أن قضية الجهل
منعكسة ، فإن التعبير عن النقض بالمعارضة اصطلاح آخر من أرباب المناظرة (4)
(هامش)
(1) هو العلامة السيد صدر الدين الشيرازي وحاشيته هذه لم تتم ، فأتمها ابنه العلامة
السيد غياث الدين منصور الحسيني الشيرازي المتوفى سنة 949 صاحبة المدرسة المنصورية
بشيراز . (2) هذه الحاشية موجودة في بعض النسخ المخطوطة . (3) قد تقدم الفرق بين
النقض والمعارضة بحسب اصطلاح علم آداب البحث والمناظرة في أوائل هذا الجزء . (4)
علم المناظرة يطلق عليه علم آداب البحث أيضا ، وعرف بتعاريف منها ما ذكره الجرجاني
في كتاب الحدود (ص 8 طبع مصر) حيث قال : آداب البحث صناعة نظرية يستفيد منها
الإنسان كيفية المناظرة وشرائطها صيانة له عن الخبط في البحث وإلزاما للخصم وإفحامه
(انتهى) . وعرفه صاحب أبجد العلوم (ص 648 ط هند) بقوله : هو علم البحث من أحوال
المتخاصمين ليكون ترتيب البحث بينهما على وجه الصواب حتى يظهر الحق بينهما ، إلى
غير ذلك . = (*)
ص 116
وقد استعلمه (1) المحقق الطوسي قدس سره أستاذ المصنف رحمه الله في شرح للاشارات ،
فظهر أنه جاهل بالاصطلاح غير مطالع لشرح الإشارات أو قاصر عن فهم ما فيه من
الإشارات والبشارات . قال المصنف رفع الله درجته ونقول في الثاني : إن ما علمه الله
تعالى إن وجب ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منا عن قدرته وإدخاله في الموجب في
حق الله تعالى ذلك بعينه ، وإن لم يقتض سقط الاستدلال ، فقد ظهر من هذا أن هذين
الدليلين آتيان في حق الله تعالى ، وهما إن صحا لزم خروج الواجب تعالى عن كونه
قادرا ويكون موجبا ، هذا هو الكفر الصريح ، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة إنما هو
هذه المسألة ، والحاصل أن هؤلاء إن اعترفوا بصحة هذين الدليلين لزمهم الكفر وإن
اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما (انتهى) .
(هامش)
= ورأيت للعلماء في هذا الفن عدة رسائل وكتب كمنظومة الشيخ زين الدين المرصفي
ورسالة السيد فخر الدين السماكي ورسالة آداب البحث للشيخ أبي محمد الرازي ورسالة
المناظرة للمولى طاش كبرى زاده من علماء الدولة العثمانية إلى غير ذلك من الرسائل
والكتب مضافا إلى ما أورده العلامة الآملي في نفائس الفنون فيه وصاحب مطلع العلوم
ومجمع الفنون فيه ومؤلف كتاب مفتاح السعادة ونحوهما من الزبر المؤلفة في الفنون
المتنوعة فلله در القدماء حيث أراحوا الخلف بتأليفهم في كل علم ، ومن الأسف نبذ
المحصلين أكثر هذه الكتب والآثار وراء الأظهر فما أجدر أن يقال في حقهم : گرگدا
كاهل بود * تقصير صاحب خانه چيست (1) قد ذكر هذا أيضا المولى الفاضل الميرزا جان
الشيرازي في بحث الحسن والقبح من حاشيته على الشرح العضدي : ولعل الوجه فيه ما
قدمناه من أن محصل المعارضة يرجع إلى النقض فتذكر . منه (قده) .
ص 117
قال الناصب خفضه الله أقول : قد عرفت في كلام شارح المواقف أنه ذكر هذا النقض وليس
هو من خواصه حتى يتبختر به ويأخذ بالارعاد والابراق والطامات (1) ، والجواب أما عن
ما يرد على الدليل الأول فهو أن فعل الباري محتاج إلى مرجح قديم يتعلق في الأزل
(الأول) بالفعل حادث في وقت معين ، وذلك المرجح القديم لا يحتاج إلى مرجح آخر فيكون
تعالى مسقلا في الفعل ولو قال قائل : إذا وجب الفعل مع ذلك المرجح القديم كان موجبا
لا مختارا ، قلنا : إن الوجوب المترتب على الاختيار لا ينافيه بل يحققه ، فإن قلت
نحن نقول : اختيار العبد أيضا يوجب فعله ، وهذا الوجوب لا ينافي كونه قادرا مختارا
، قلت : لا شك أن اختياره حادث وليس صارا عنه باختياره ، وإلا نقلنا الكلام إلى ذلك
الاختيار وتسلسل ، بل عن غيره فلا يكون مستقلا في فعله باختياره ، وبخلاف إرادة
الباري فإنها مستندة إلى ذاته فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه ،
وأما عن ما يرد على الدليل الثاني فهو أن علم الله تعالى في ذاته مقارن لصفة القدرة
والإرادة ، فإذا علمن الشيء وتعلق به علمه تعلق به الإرادة والقدرة وخلق الموجودات
، وكل واحدة من الصفات الثلاث يتعلق بمتعلقه من الأشياء وكل ما تقتضيه ، فمقتضى
العلم التعلق من حيث الانكشاف ومقتضى الإرادة الترجيح ومقتضى القدرة صحة وقوع الفعل
والترك ، فلا يلزم الوجوب لأن صفة العلم لا تصادم صفة القدرة لأنهما قديمتان
حاصلتان معا بخلاف القدرة الحادثة ، وهذا جائز في الصفات الحادثة ، بخلاف الصفات
القديمة ، فليس ثمة إيجاب تأمل فإن هذا الجواب دقيق وبالتأمل فيه حقيق ، وأما ما
ذكره من لزوم الكفر فمن باب طاماته وترهاته
(هامش)
(1) جمع الطامة الداهية تفوق ما سواها . (*)
ص 118
وهذه مسائل علمية يباحث الناس فيها فهو من ضعف رأيه وكثرة تعصبه ينزله على الكفر
والتفسيق نعوذ بالله من جهل ذلك الفسيق (1) (انتهى) . أقول من البين أن المصنف قدس
سره مقدم على صاحب المواقف ، فذكر صاحب المواقف لذلك الدليل لا يدل على أن لا يكون
ذلك النقض من خواص المصنف قدس سره ، فإن ما في المواقف وسائر تصانيف القاضي العضدي
(2) من التحقيقات والتدقيقات ملتقط من كلام من تقدمه ومنتخب عنه ، وليس له سوى
الالتقاط والجمع ، فقد كان معزولا عن العقل والسمع على أن المصنف لم يشعر بأن ذلك
من خواص إفادته والتبختر في ذلك غير مفهوم من كلام المصنف ، والارعاد والابراق لا
يتوقف على كون ذلك من خواصه بل يكفي فيه أن يكون من إفادات أصحابه ، وأما ما أتى به
الناصب من الجواب عما يرد على الدليل الأول فقد مر ما يدفعه في الفصل السابق على
هذا ، ونزيد عليه هاهنا ونقول : إن ما ذكره في المرتبة الأخيرة المتعلقة
(هامش)
(1) الفسيق كشرير مبالغة من الفسق كما في كتب اللغة ، قال الفيروز آبادي في القاموس
: هو كسكيت دائم الفسق (انتهى) . أقول : لا إله إلا الله من بذائة الرجل فتراه كأنه
لم يشم رائحة الأدب والتقوى يتفوه بدلا عن العلميات بكل ما يخرج من فيه ، فض الله
فاه ما أقل حيائه ؟ ! وما أجرئه على الله بهتكه علماء الإسلام سيما مثل مولينا
العلامة (قدس سره) الذي ينتهي إليه تدرس الرجل بالوسائط . بالله عليكم يا معاشر
إخواننا المسلمون ، أهكذا يظلم في حق رجل لم يزل أرباب الفضل مستفيدون من كلماته
إلى الآن ؟ أخذه الله تحقه عن هذا الظالم يوم لا حكم إلا حكمه وقد روى الفريقان عنه
(ص) : قوله : السلم من سلم المسلمون من يده ولسانه عصمنا الله آمين آمين . (2) قد
مرت ترجمته في (ج 1 ص 47) فراجع . (*)
ص 119
بهذا الجوا ب من قوله : قلت لا شك أن اختياره حادث الخ مردود بأن كون اختيار البعد
حادثا مسلم ، لكن عدم كونه صادرا عنه باختياره غير مسلم ، وبأن الاختيار في الفعل
عبارة عن تعلق إرادة العبد مثلا بالفعل ، وهذا التعلق إرادي مسبوق بتعلق آخر متعلق
إلى هذا التعلق وهكذا ، وهذه التعلقات أمور انتزاعية اعتبارية لا استحالة للتسلسل
فيها كما مر ، وأما ما أتى به من الجواب عما يرد على الدليل الثاني فيتوجه عليه
وجوه من الخلل ، منها منع قوله مقتضى العلم القديم يسلب القدرة عن ذي القدرة
الحادثة ، فإن ذلك إنما يسلم لو كان العلم القديم علة للمعلوم المقدور ، وكان
مخالفا لما علمه الله تعالى في الأزل ، وكلتا المقدمتين ممنوعتان مقدوحتان كما مرت
الإشارة إليه ، فظهر أن ما زعمه الناصب الفريق من باب التدقيق حقيق باسم الزريق (1)
ودليل على كونه من الجهل في بحر عميق ، وأما ما ذكره من أن لزوم الكفر من باب
طاماته الخ فلعله أراد به أن اللزوم غير الالتزام فإذا ألزم الكفر من الدليل بحيث
لا يشعر به المستدل لا يلزمه الكفر ولا يحكم به عليه ، وأنت خبير بأن مراد المصنف
أن هؤلاء من أصحاب الناصب إن اعترفوا بصحة الدليلين بعد ما أوضحنا لهم ما يلزم منها
يلزمهم الكفر ، إذ اللزوم حينئذ يقترن بالالتزام ولم يرد أنه يلزمهم ذلك مع عدم
شعورهم به حتى تكون من باب الطامات كما زعمه ، فغاية الأمر أن يخلص من الكفر من لم
يصل إليه كلام المصنف قدس سره وإيضاحه للزوم ذلك ، وأما الناصب التورط في العناد
والعصبية فيلزمه التزام كفر أهل الجاهلية بعد اطلاعه على تلك الملازمة الجلية
أعاذنا الله من تلك البلية . قال المصنف رفع الله درجته فلينظر العاقل من نفسه هل
يجوز له أن يقلد من يستدل بدليل يعتقد صحته ويحتج به
(هامش)
(1) وفي بعض النسخ مكان لفظة الزريق (الزنديق) فبناء على هذا يكون مراده (قده) : أن
ما زعمه الناصب من باب التدقيق فضول من الكلام وحقيق باسمه وهو الفضل فتأمل . (*)
ص 120
غدا يوم القيامة وهو يوجب الكفر والالحاد ، وآي عذر لهم عن ذلك وعن الخروج عن الكفر
والالحاد ؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفهمون حديثا ، (1) هذه حجتهم تنطق بصريح
الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي قد عرفت أنه يلزم منها نسبة الله تعالى إلى
كل خسيسة ورذيلة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فليحذر المقلد وينظر كيف هؤلاء
القوم الذين يقلدونهم ، فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والايضاح اتباعهم كفاهم
بذلك ضلالا ، وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتباع الأهواء عرفوا الحق بمعنى الإنصاف
وفقهم الله لإصابة الصواب (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : قد عثرت على ما
فصلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات
المعتزلة ، ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم (2)
(هامش)
(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة النساء الآية 78 . (2) الله أكبر من صنيع هذا
الشقي ليت أمه ولدت حية تسعى بدل هذا المولود الذي أخجل أهل الفضل والتصنيف ، بل
طأطأ هامات المسلمين فكأنه غير معتقد بالمعاد والقضاء العدل هناك ، وكأنه لم يقرء
قوله تعالى في الكتاب العزيز : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، وقوله سبحانه :
إن ربك لبالمرصاد وغيرهما من الآيات الشريفة . وكأنه لم يسمع من محدثيهم ولم ير في
كتبهم هذه الأحاديث . روى الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي
الهيثمي في كتابه الزواجر من اقتراف الكبائر (ج 1 ص 109 طبع مصر) عن الترمذي وابن
حبان قوله (ص) : الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ، والبذاء أي الفحش من الجفاء
والجفاء في النار ، وروى عن أحمد قوله (ص) ، إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في
شيء الخ وغيرهما من الآثار النبوية المودعة في زبرهم وصحفهم . وإني مع كثرة اطلاعي
على كتب المسلمين ووقوفي عليها لم أر إلى الآن فيها مثل كتاب = (*)