الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 121

كمثل الزبال يمر على نجاسة رجل آكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمص فجرى في الطريق فجاء الزبال وأخذ الحمص من نجاسته وجعله يلحسه ويتلذذ به ، فهذا ابن المطهر النجس كالزبال يمر على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفر به سادات العلماء ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر يحسب أنه يحسن صنعا ، نعوذ بالله من الضلال والله الهادي . أقول قد اطلعت على ما ذكرناه في دفع مدافعته المدخولة المموهة التي زينها له الشيطان (1) وأنها هذيان ما أنزل (2) الله به من سلطان ، وأنه في أكثرها قد عدل لعجزه عن إتمام الكلام على وفق أصول أصحابه الأشاعرة إلى اختيار وضع الدعاوي الأخرى الفاجرة القاصرة عن مرتبة تلك الأصول الخاسرة وتقويته للمقصود على وجه جعل الصبيان عليه ساخرة ، وما أشبهه في اختياره تلك الدعاوي المزيفة على تلك الأصول المموهة إلا بكلب خلى عن عظم في فيه حرصا على ما رآه خياله في الماء فضيع الموجود ولم ينل المقصود وأما تمثيله بالزبال فكما ذكرناه سابقا أنسب بحال أهل أصفهان وحملهم دائما للزبل إلى الأرض الخبيث المهان ، وأما

(هامش)

= هذا الناصب في احتوائه على منكر من القول والزور حتى في ما صنفوها في الرد على اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الكفار . وبحق جدي طه المصطفى الأمين (ص) كلما مررت في كتابه على أمثال هذه الترهات منعتني العفاف والأدب من ملاحظتها بالغور والدقة لعدم تعودنا بالفحش والسباب والتفوه بما يقبحها العقلاء من كل ملة ونحلة بل المجانين سيما ذوي الأدوار منهم . فأرى الجدير لإخواننا أهل السنة أن يحذفوا أسم هذا الرجل من معاجم علمائهم لأنه ممن لو عد لكان عارا وشينا . (1) متخذ من الآيات الكريمة كقوله تعالى في سورة الأنعام . الآية 46 . (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة النحل . الآية 100 .

ص 122

الفضلات فهي مشتقة من فضل بن روز بهان وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان . (1) . قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الثاني عشر في إبطال الكسب

علم أن أبا الحسين الأشعري وأتباعه لما لزمهم هذه الأمور الشنيعة والالتزامات الفضيحة والأقوال الهائلة من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شا به ذلك التجأ إلى ارتكاب قول توهم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات ، ولات حين مناص (2) فقال : مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار المعلوم الضرورية كما هو دأبه وعادته فيما تقدم من إنكار الضروريات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد فقال الله تعالى موجد للفعل والعبد مكتسب له ، فإذا طولب بتحقيق الكسب وما هو ؟ وأي وجه يقتضيه ؟ وأي حاجة تدعو إليه ؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه فقال

(هامش)

(1) مقتبس من كلام مولينا أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام ، وذكره الآمدي في كتاب الغرر والدرر في باب ورد من حكمه (ع) بلفظ (عند) فراجع وكذا ورد في كلماته القصار في نسخة قديمة مخطوطة يظن كونها من تأليف بعض العلماء في المأة الخامسة . (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة ص . الآية 2 . قال القاضي في تفسيره (ج 4 ص 85 طبع مصر) أي ليس الحين حين مناصب ، ولا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم ، وخصت بلزوم الاحيان وحذف أحد المعمولين وقيل هي النافية للجنس ، أي ولا حين مناص لهم وقيل للفعل والنصب بإضماره ، أي ولا أرى حين مناص وقرء بالرفع على أنه الاسم لا أو مبتدء محذوف الخبر ، أي ليس حين مناص حاصلا لهم أو لا حين كائن لهم وبالكسر كقوله : طلبوا صلحنا ولات اوار * فأجبنا أن لات حين بقاء إلى أن قال : والمناص المنجا من ناصه ينوصه إذا فاته (انتهى) . وقال في القاموس : المناص الملجاء وناص مناصا ونويصا . (*)

ص 123

بعضهم : معنى الكسب خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل وعدم الفعل عقيب اختياره العدم فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الفعل عند اختيار العبد ، وقال بعضهم معنى الكسب أن الله يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر البتة لكن العبد يؤثر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من الله تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد ، وقال بعضهم : إن هذا الكسب غير معقولا ولا معلوم مع أنه صادر عن العبد (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : قد مر أن مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري أن أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إياه مقارنته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له ، هذا مذهب الشيخ ، ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنه على متن الصراط المستقيم في التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشركاء في الخلق مع إثبات الكسب للعبد حتى تكون قواعد الإسلام ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعية من غير تكلف إيجاد الشركاء في الخلق ، ونحن إن شاء الله تعالى نفسر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف وينقاد لصحته المتعسف فنقول : يفهم من كلام الشيخ أنه فسر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة وفسره بكون العبد محلا للفعل تارة وتحقيقه أن الله تعالى خلق في العبد إرادة يرجح بها الأشياء وقدرة يصح بها الفعل والترك ، ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريات عند حدوث الفعل ، وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ، فإذا تهيأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل وذلك الفعل ممكن والممكن إذا تعلقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح فهو يوجد لا محالة

ص 124

بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية والقدرة القديمة ، فأوجد الله بهما الفعل لكونهما أثم من الإرادة والقدرة الحادثة ، والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة كالنور القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه ، فلما أوجد الله تعالى الفعل وكان قبل الإيجاد تهيأت صفة اختار العبد إلى إيجاد ذلك الفعل ، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته فبقي للفعل نسبتان نسبة إلى العبد وهي أن الفعل كان مقارنا لتهيئة الإرادة والاختيار نح وتحصيل الفعل وحصول الفعل عقيب تهيؤه ، فعبر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب لأن الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد ، ونسبة إلى الله تعالى مكسوبا للعبد ، ثم إن فعل العبد صفة للعبد فيكون العبد محلا له لأن كل موصوف هو محل لصفته كالأسود ، فإنه محل السواد فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له إنه كسبه ، ومعنى الكسب كونه محلا له ، والثواب والعقاب يترتب على المحلية كالاحراق الذي يترتب على الحطب بواسطة كونه محلا له لليبوسة المفرط ، وهل يحسن أن يقال : لم ترتب الاحراق على الحطب لسبب كونه محلا لليبوسة والحال أن الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة ، وأي ذنب للحطب وهل هذا الاحراق إلا الظلم والجور والعدوان ، إن حسن ذلك حسن أن يقال لم جل الله تعالى الكافر محل الكفر ثم أحرقه بالنار ؟ والعاقل يعلم أنه لا يحسن الأول فلا يحسن الثاني ، فرغ جهدك (1) لنيل ما حققناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري لئلا تبقى لك شبهة فهذا نهاية التوضيح ، ولكن المعتزلي

(هامش)

(1) الجهد بضم الجيم : الطاقة والمشقة ، والجهد بفتح الجيم من جهد كمنع بمعنى الجد والسعي ، وكثيرا ما يشتبه الأمر في مقام التلفظ فلا تغفل .

ص 125

عمى بصره فعظم ضرره ألقته الشبهة في مهواة (1) غائلة واغتاله (2) الغول (3) في مهمة (4) هائلة (5) ونعم ما قلت شعر ظهر الحق من الأشعر (6) والنور جلي * طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي

(هامش)

(1) المهواة : ما بين الجبلين ، والغائلة : الشر . (2) اغتاله : أخذه بالخدعة ، وفي القاموس : غاله أهلكه كاغتاله . (3) في القاموس الغول : ساحرة الجن أو شيطان يأكل الناس ، أو دابة رأتها العرب وعرفتها وقتلها تأبط شرا ، ومن يتلون ألوانا من السحرة والجن ، أو كل ما زال به العقل ويفتح غاله غول : أهلكته الخ ، أقول : هذا ما سمعته من أرباب اللغة ، والذي ظهر لي بعد الفحص الأكيد أن الغول هو الحيوان الشبيه بالإنسان في الخلقة ذو استواء القامة والبدن الشعراني ويوجد في قمم جبل (هيماليا) بالهند ويعبر عنه بالفارسية (آدم برفي) وهذه الدابة قد رآها في القديم رجال من السائحين والمسافرين (ثم زيد في الطنبور نغمة) والشاهد على اتحاد الغول مع ما ذكرنا الخصوصيات الخلقية المحكية عمن رآه وعليه فلا يصغي إلى كلام المشهور بأنه لا وجود له بل هو موهوم وعليك بالتنقيب . (4) المهمة والمهمهة : المفازة البعيدة ، البلد المققر جمها مهامة . (5) الهائلة : المفزعة . (6) الأشعر أي الأشعري ، قف أيها الأديب البارع في الشعر هل يستحسن طبعك الأريحي وذوقك الأدبي هذا التعبير ؟ فما أبرده وما اثلجه فهل هي إلا ثلجة في خيارة وظني أنه حيث سمع ما هو المشهور من أنه يسوغ الشعر ما لا يجوز للناثر أتى بهذا الصنيع وما دري المسكين البائس بأن التجويز ليس بهذه السعة التي تؤدي إلى الوقوع في الشبهة إذ الأشعر كما في معاجم اللغة هو الرجل الشعراني بدنه فراجع وأبو الحسن رئيس الأشاعرة لم يكن هو ولا جده أبو موسى أشعر البدن . (*)

ص 126

فانظر إليه هذا الحلي الجاهل (1) كيف افترى (2) في معنى الكسب وخلط المذاهب والأقوال كالحمار الراتع في جنة (3) عالية قطوفها دانية والله تعالى يجازيه (انتهى) . أقول قد مر بيان أن الأشعري في ذلك على شفا جرف هار ، وسيظهر عند انكشاف الغبار أنه على متن فرس (4) أم حمار ، وقد سبق أيضا ما يفيد أن الله تعالى لا يقبل عن الأشاعرة منة هذا التمويه الذي سموه بالتنزيه ، وأنه لا يلزم (5) العدلية

(هامش)

(1) تعسا لك أيها الرجل في إسنادك ما أنت متصف به إلى علم من أعلام الإسلام الذي قد اعترف علمائكم بفضله وأنت بنفسك اعترفت به في أوائل الكتاب . (2) كيف تسند الافتراء إليه قدس سره ، مع أن المعنى الذي ذكره موجود في كتاب الأربعين للرازي والروضة البهية لأبي عذبة والإبانة لأبي الحسن الأشعري والتمهيد للباقلاني والأصول للجويني وغيرهما . (3) مقتبس من قوله تعالى في سورة الحاقة ، الآية 23 . والقطوف جمع القطف بكسر القاف : اسم للثمار المقطوفة المأخوذة ، والدانية من الدنو بمعنى القرب . (4) هذا من الأمثال المولدة . (5) كيف وهم لما أوردوا على قول أبي إسحاق الاسفرائني ، وهو أن أصل فعل العبد بمجموع القدرتين أجابوا بأن تشريك قدرة العبد يجوز أن يكون باختيار منه تعالى بحكمة له تعالى في ذلك : كذا ذكره الفاضل البحر آبادي في حاشيته على شرح العقايد النسفية منه قدس سره . أقول هكذا في هامش الكتاب ، ولعل الصحيح البحيرآبادي نسبة إلى بحيرآباد بالفتح ثم الكسر من قرى مرو وينسب إليها أبو المظفر عبد الكريم بن عبد الوهاب البحيرآبادي . أو نسبة على بحيرآباد بالضم ثم الفتح من قرى جوين من نواحي نيسابور ، منها أبو الحسن = (*)

ص 127

الشرك الذي توهمه الناصب السفيه ، وأنه لا يتأتي للأشاعرة بذلك رعاية أحكام التكليف والترغيب والتخويف ، وأما ما ذكره من التحقيق فهو بالإعراض حقيق ، لأنا نسلم أن أصل القدرة والإرادة مخلوقتان في العبد ، لكن الفعل إنما يتحقق بالإرادة الجازمة الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع كما سبق وهي اختيارية ، بيان ذلك أنه إذا حصل لنا العلم بنفع فعل يتعلق به الإرادة بلا اختيارنا ، لكن تعلق الإرادة به غير كاف في تحققه ما لم تصر جازمة بل لا بد من انتفاء كف النفس عنه حتى تصير الإرادة جازمة موجبة للفعل ، فإنا قد نريد شيئا ومع نأبى ونكف نفسنا عن لحياء وحمية ، ذلك الكف أمر اختياري يستند وجوده على تقدير تحققه إلى وجود الداعي إليه ، فإن عدم علة الوجود علة العدم ، وعدم الداعي إلى هذا الداعي (1) وهكذا ، وغاية ما يلزم منه التسلسل في العدمات ولا استحالة فيه ، وبالجملة الإرادة الجازمة اختيارية لاستناد عدم الكف المعتبر فيها بالاختيار وإن

(هامش)

= علي بن محمد بن حمويه الجويني التوفي سنة 530 ومنها حفيده الفاضل البحير آبادي المتكلم صاحب التصانيف . والنسفي هو الشيخ نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد المتوفى سنة 537 صاحب كتاب العقايد المشهور لدى القوم وشرحه جماعة منهم المحقق التفتازاني وابن الهمام والعصام السيالكوتي والخيالي والفناري والقرماني والقسطلاني وغيرهم وهو كتاب موجز مركز الإفادة والاستفادة لديهم . وللنسفي كتاب طلبة الطلبة في لغات فقه الحنفية يروي عنه السمعاني صاحب الأنساب ذكره القرشي في الجواهر المضية (ج 1 ص 394 طبع حيدرآباد) وأبو الحسنات في الفوائد البهية (ص 149 طبع مصر) وغيرهما فراجع . (*) (1) والظاهر أن العبارة كانت هكذا : وعدم الداعي إلى هذا أي الوجود هو الداعي أي إلى العدم . (*)

ص 128

لم تكن نفسها إرادية ولا يلزم التسلسل المحال ، وأما ما ذكره من أن الممكن إذا تعلقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح تقدم الإرادة والقديمة الدائمة والإلهية الخ فمن قبيل الرجم بالغيب والرمي في الظلام ومخالف لبديهة عقلاء الأنام ، وأيضا يدل ذلك على أن إرادة الله تعالى اختياره لفعل من الأفعال فجاز أن يتقدم على فعل العبد وليس كذلك ، لأنك قد عرفت فيما سبق أن إرادته تعالى عبارة عن العلم بما في الفعل من المصلحة ، فلا معنى لقوله بقدم الإرادة القديمة إلى إيجاد الفعل ، وبهذا تندفع شبهة أخرى لهم في هذا المقام ، وهو أنه لو أراد الإيمان من الكافر والطاعة من العاصي وقد صدر الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لزم أن لا يحصل مراد الكافر والعاصي ، فيلزم أن يكون الله تعالى مغلوبا والكافر والعاصي غالبين عليه ، بل يلزم أن يكون أكثر ما يقع من عباده خلاف مراده ، والظاهر أنه لا يصبر على ذلك رئيس قرية من عباده انتهى ووجه الدفع أنه إذا كان إرادته تعالى عبارة عن العلم بما في الفعل من المصلحة فلو علم الله أن في الفعل الفلاني مصلحة ولم يختر العبد ذلك الفعل بل اختار نقيضه لم يلزم قدح مغلوبيته ولا نقصه ، إذ ليس بين علمه تعالى بالمصلحة في الفعل وبين عدم اختيار العبد إياه تنافي وتعارض حتى يلزم هناك المغلوبية ، نعم لو اختاره تعالى واختار العبد نقيضه وحصل مختار العبد دون مختاره تعالى للزم المغلوبية ، لكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، وأما ما ذكره من أن الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد فمدخول بأنه كيف يحمل الكسب الواقع في القرآن على المعنى الذي ذكره الأشاعرة مع أنه لم يجئ في اللغة التي نزل بها القرآن بشيء من المعاني التي ذكروها له ، وإنما ذلك اختراع منهم من عند أنفسهم فرارا عن الجبر المحض كما مر ، ولهذا قيل : إن هرب الأشعري من الجبر المحض إلى الكسب

ص 129

كالهرب من المطر إلى الميزاب (1) إذ قوله به مشتمل على جميع مفاسد الجبرية مع ارتكاب أمر زائد غير معقول ، ثم أي دلالة لغلبة ذكر الكسب عند إرادة ترتب الجزاء على كون المراد من الكسب المعنى الذي ذكره الأشاعرة دون الفعل بمعناه الحقيقي المساوق للخلق ، وهل هذا إلا وهما (2) منهم على وهم ؟ والحق أن معنى الخلق والفعل واحد وهو إيجاد ما لم يكن ، غاية الأمر أنه إذا كان ذلك الإيجاد بلا آلة كما في فعل الله تعالى يقال : إنه خلقه ، وإذا كان بآلة كما في فعل العبد يقال : فعله ، وكذا الكلام في الكسب ، فإنه إنما يطلق على فعل العبد ، لأنه يقصد بفعله إيصال نفع إليه أو دفع مضرة عنه ، ولما كان الله تعالى منزها عن النفع والضر لا يطلق على فعله الكسب فاحفظ هذا (3) ، وأما ما ذكره من أن الثواب والعقاب يترتب على المحلية فهو كترتيب الذم على الجماد باعتبار كونه محلا للون كدر وهو غير معقول كما لا يخفى ، والقياس على الحطب واه لظهور انتفاء القدرة والإرادة فيه ، قوله : وهل يحسن أن يقال لم ترتب الاحراق على الحطب الخ قلنا : نعم لا يحسن قوله وهل هذا إلا الظلم والجور والعدوان ، قلنا : هاهنا أمران ، أحدهما خلق قوة

(هامش)

(1) قال العلامة أبو الفضل أحمد بن محمد النيسابوري الميداني المتوفى سنة 518 في كتابه النفيس (مجمع الأمثال ج 2 ص 25 ط مصر) ومن أمثال المولدين : فر من المطر وقعد تحت الميزاب . أقول : ويظهر من بعض كتب الأمثال : أن المثل المذكور جاهلي بقي تراثا من العرب العرباء والله أعلم . (2) وهم يهم وهما بسكون الهاء : تخيل وتصور ، وهم يوهم وهما بفتح الهاء : غلط . (3) إشارة إلى نفاسة ما ذكره في وجه التعبير بالكسب في أمثال قوله تعالى : بما تكسبون ، أولها ما كسبت ونحوهما من الآيات المذكورة فيها الكسب وأن هذا الوجه مما لم يذكر في الكتب فلا تغفل .

ص 130

الاحتراق في الحطب وثانيهما صرف الحطب نحو الاحراق بضم النار إليه ، والأول ليس بظلم ولا عدوان ، لأن نفعه أكثر من ضره وخيره أعظم من شره كما لا يخفى والثاني ظلم وعدوان لكنه فعل العبد دونه سبحانه ، وأما قوله : وإن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل الله الكفر وإنما جعله محلا للفطرة الصحيحة كما ورد في الحديث المشهور (1) وهو باختياره السوء جعل نفسه محلا للكفر فلهذا لا يحسن أن يقال لم جعل الله الكافر محلا للكفر لا للقياس الفاسد الذي ذكره الناصب ، وخلاصة الكلام في هذا المقام أن الكسب بأي معنى يرام لا يوجب خلاصهم عن الشناعة والملام لما مر ، سيجئ إليه الإشارة في كلام المصنف قدس سره من أن العبد إن استقل بإدخال شيء في الوجود بطل ما قالوا : إن قدرة العبد لا تؤثر وإن لم تستقل فلا يكون كاسبا ، ويكون الكل بقدرة الله تعالى وهو مخالف للضرورة

(هامش)

(1) المراد بالحديث المشهور قوله صلى الله عليه وآله : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . منه (قده) . أقول : قد ورد هذا الحديث الشريف بعدة طرق في كتب الفريقين فمن كتب العامة في الجامع الصغير (ج 2 ص 242 الحديث 356 ط مصر) ومتنه هكذا : كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (ع طب هق) عن الأسود بن سريع (صح) وكتاب كنز العمال الجزء الأول ص 237 وص 238 . ومن كتب الخاصة في أصول الكافي (ج 2 ص 13 باب الفطرة الحديث 4 ط طهران) ومتنه : كل مولود يولد على الفطرة . (*)

ص 131

والبرهان قال البزدوي الحنفي (1) في أصوله وشارحه (2) الهندي : إن أفعال

(هامش)

(1) هو العلامة علي بن محمد بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي البخاري الحنفي الأصولي المتكلم الفقيه له كتاب ، منها كتاب غناء الفقهاء في الفقه ، وكتاب كبير في أصول الفقه يعرف بأصول البزدوي وهو كتاب معروف لدى العامة شرحه جمع من أعلامهم كالمولى الحسن الجارپري والشيخ علاء الدين عبد العزيز البخاري والشيخ عمر بن عبد المحسن الأرزنجاني والشيخ شمس الدين محمد الفناوي والشيخ حميد الدين الضرير والمولى خسرو وغيرهم وبالجملة هو مورد الإفادة والبحث لديهم . ومن مصنفات البزودي تفسير كبير في زها مائة وعشرين جزء والمجموع والمبسوط وغيرها ولد في حدود سنة 400 وتوفي في خامس رجب سنة 482 وحمل إلى سمرقند وفن بها بباب المسجد . ثم البزودي نسبة إلى (بزده) قال ابن الأثير في اللباب (ج 1 ص 118 ط مصر) ما لفظه (بزده) بفتح الباء الموحدة وسكون الزاء المعجمة وفتح الدال المهملة وفي آخرها الواو هذه النسبة إلى (بزده) وهي قلعة حصينة على ستة فراسخ من نسف ينسب إليها أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم البزودي الفقيه بما وراء النهر روى عنه صاحبه أبو المعالي محمد بن نصر المديني الخطيب بسمرقند الخ . وضبط السمعاني وفاته سنة 884 وخطأه بعض من ألف في طبقات الأحناف وتراجم علماء القوم . ثم إن في أسرة المترجم جماعة من العلماء كوالده محمد وأخيه وعمه وبني عمه ، وإن شئت الوقوف على تراجمهم فراجع الفوائد البهية للشيخ أبي الحسنات محمد بن عبد الحي اللكنهوي الهندي طبع مصر ص 39 وص 63 وص 124 . (2) هو القاضي شهاب الدين ملك العلماء الزاولي الدلتاباذي الدهلوي الهندي العلامة في النحو وعلوم القرآن والحديث والفقه الحنفي ، أخذ العلم عن القاضي عبد المقتدر والمولى خواجگي الدهلوي ، ولما توجه الأمير تيمور إلى الهند خرج الشهاب في = (*)

ص 132

العباد وإن كانت بقضاء الله وقدره ومشيته وإرادته وخلقه وإيجاده لكنه قضى وقدر وشاء حصولها وجودها بآلات العباد بعد خلق الاختيار منهم وجعلهم في صورة الفاعلين الكاسبين ، وهذا جبر بصورة الاختيار منهم وانفعال بصورة الفعل شعر : فجبر بمعنى واختيار بصورة * فلا تترك المعنى ولا تهدر الصور فمن أهدر الصورة فهو جبري * فمن ترك المعنى فهو قدري والحق والجمع بينهما (انتهى) ، والإنصاف أن الاختيار الصوري والكسب المحلي على تقدير تحصيل معناه يصلح لجعله سببا للثواب ، لأنه تفضل في المآل كما أشرنا إليه سابقا ، أما جعله سببا للعقاب ، فمشكل جدا ، لأنه إذا لم يكن فاعلا وكان كسبه وفعله صوريا كان جعله للعقاب ، وبناء العقاب عليه باعتبار حقيقة الفعل

(هامش)

= صحبة أستاذه خواجگي إلى (كالپي) فاقام هو بها وذهب الشهاب إلى (جونفر) بلدة من صوبة إله آباد كانت دار السلطنة للسلاطين الشرقية فاغتنم السلطان إبراهيم قدوم ولقبه (بملك العلماء) فاشتغل بالتدريس والإفادة والتصنيف ، فمن آثاره كتاب البحر المواج في تفسير القرآن بالفارسية ، والحواشي الشهيرة على الكافية في النحو تعرف بحاشية الهندي ، وكتاب بديع الميزان في علوم البلاغة ، وشرح كتاب البزودي في أصول الفقه وشرح قصيدة بانت سعاد ، ورسالة في تقسيم العلوم ، ورسالة في مناقب السادات والعلويين وهي رسالة نفيسة ينقل عنها مولينا آية الله المجاهد السيد حامد حسين في العقبات ويعتمد عليها ، ومن تصانيفه كتاب الارشاد في الفقه وغيرها ، وبالجملة الرجل من مشاهير علماء تلك الأقطار ويعبر عنه تارة بالدولت آبادي ، وأخرى بملك العلماء الجونفوري فلا تغفل . توفي سنة 849 ببلدة جونفور ودفن في الجانب الجنوبي من مسجد السلطان إبراهيم الشرقي ، فراجع الرحيق المختوم من أبجد العلوم للبحاثة السيد صديق حسن خان ص 893 طبع بهوپال . (*)

ص 133

جورا وظلما تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، مع أنه لا يظهر وجه في خلق الاختيار في العبد وجعله كاسبا صورة ومأخوذا بحسبه فتأمل ، وأما وصية الناصب للناظرين بتفريغ جهدهم لنيل ما ذكره في تحقيق الكسب فهي كالكسب لا حقيقة ولا معنى له لأنه قد بذل جهده في إيراد السخف لترويج هذا المطلب المستخف بما يعجز عنه كسب غيره ولا يبلغ إليه أحد في سيره ، وأما ما ذكره من البيت فمقابل بيتين ارتجلت في نظمهما وهما شعر الأشعري عن الشعور بمعزل * عوج (1) مشاعره كضان أعزل (2) ما كسبه عند المشاعر غير ما * دون الشعور (3) تدار فلكة (4) مغزل فانظروا معاشر الإخوان إلى هذا الناصب الشقي كيف يبذل جهده وقواه في ترويج فاسد الأشعري الذي وافق هواه ، مع ما علم أنه ذلك الشيخ المبهوت الذي ورث الحماقة عن جده (5) أبي موسى ، وكان عن العقل والشعور بؤوسا فلم يكن له عن

(هامش)

(1) صفة مشبهة بمعنى كثر الاعوجاج ، وإنما جمع المشاعر مع وحدة الرجل نظرا إلى تعدد مواد شعوره ، وإشارة إلى أن كل شعور حاصل له معوج ، وفي تشبيه اعوجاج ذلك بذنب طويل معوج لطافة لا تخفى ، لأن الأشعري رئيس ذوي الأذناب . منه (قده) . (2) قال الفيروزآبادي في القاموس : الأعزل من الدواب المايل الذنب عادة (انتهى) ومنه يظهر وجه التشبيه كما بينه مولينا القاضي في الحاشية . (3) شعر به كمنع ونصر وكرم شعرا ، وشعرة مثله علم به ، وفطن له وعقله ، والشعر غلب على القول المنظوم لشرفه بالوزن والقافية وإن كان كل علم شعرا . (4) فلكة العزل : هنة في أعلاه مستديرة ، جمعها فلك بكسر الفاء كذا في كتب اللغة . (5) نسب الشيخ أبي الحسن الأشعري ينتهي إلى أبي موسى بوسائط هكذا : هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى ابن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري كما في الأنساب للسمعاني . توفي الشيخ أبو الحسن ببغداد سنة 337 وقيل : 330 وقيل غير ذلك .

ص 134

الحماقة خلاص إلى أن لعب به عمرو بن العاص وأورده طعن العام والخاص ، حتى حكي أن رجلا رأى في الطريق (السكة خ ل) واحدا من أولاد أبي موسى المذكور يمشي في الأرض مرحا متبخترا ، فقال الرجل لصاحب كان معه : انظروا إلى هذا الأحمق أنه يتبختر في المشي على وجه كأنه يظن أن أباه لعب بعمرو بن العاص ، وأنا أظن أن ذلك الماشي كان أبا الحسن شيخ هذه البهائم والمواشي والله كاشف الغواشي . قال المصنف رفع الله درجته وهذه الأجوبة فاسدة ، أما الأول فإن الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورها عن العبد فليجز صدور أصل الفعل منه ، وأي فرق بينهما ، وأي حاجة وضرورة إلى التحمل بهذا ، وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك وليس بعلوم ، وأيضا دليلهم فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به ، وأيضا إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار إما العبد أو الله ، فلا وجه للمخلص (التخلص خ ل) بهذه الواسطة ، وإن لم يكن موجبا لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير من غير شركة للعبد فيه ، وأيضا العادة غير واجبة الاستمرار فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى الفعل وعقبيه ويخلق الله الفعل ابتداء من غير تقدم اختيار فحينئذ ينتفي الخلص (التخلص خ ل) بهذا العذر . قال الناصب خفضه الله أقول : قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ ، وأما هذه الأقوال التي نقلها

ص 135

عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب . وأما ما أورد على القول الأول وهو أن الاختيار والإرادة من جملة الأفعال فباطل لأنهما من جملة الصفات ، وهو يدعي أنهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأن الإرادة مما يخلقها الله تعالى في العبد والعبد بهما يرجح الفعل ، فالحمد لله الذي أنطقه بالحق على رغم منه ، فأنه صار قائلا بأن بعض أفعال العبد مما يخلقه الله تعالى : ولكن ربما يدفعه بأنه من الأفعال الاضطرارية ، وعن المكابرة أن يقال الاختيار فعل اضطراري ، وأما قوله دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، وبيانه أن الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله ، لأنه ممكن وكل ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور لله فيكون مخلوقا لله ، فكيف قال : إن الفعل يخلقه الله تعالى عقيب الاختيار ، فجوابه أن الاختيار من الصفات التي يخلقها الله تعالى أولا في العبد كسائر صفاته النفسانية وكيفياتها المعقولة والمحسوسة ، يترتب عليه الفعل ، فلا يأتي ما ذكره من المحذور ، لأنا نختار أن الدليل صحيح وليس هو مسندا إلى العبد ، وهو صادر عن الله تعالى ، وأما قوله : وإذا كان الاختيار صادرا عن العبد موجبا لوقوع الفعل كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار إلى آخر الدليل ، فجوابه أنا نختار أن الاختيار صادر عن الله تعالى لا عن العبد ، وأيضا نختار أن الاختيار ليس موجبا للفعل ، قوله : لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، قلنا : ممنوع لما مر من أن الاختيار صفة توجب العبد التوجه نحو تحصيل الأفعال ويخلق الفعل عقيب توجه العبد للاختيار والفعل مقارن لذلك الاختيار ، وليس الأكل كذلك فالفرق واضح ، وأما قوله العادة غير واجبة الاستمرار فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه فنقول : هذا هو المدعى ، والمراد بالجواز هو الامكان الذاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار (انتهى) .

ص 136

أقول قد علم أيضا أن معنى الكسب كما ذكره شيخ الناصب لا محصل له ، وأما الأقوال الباقية فهي مذكورة في كتاب الطوالع للبيضاوي (1) وشرح المقاصد للتفتازاني (2) وغيرهما من كتب أهل السنة فليطالع ثمة ، وسيعترف الناصب بأن القول الثاني من هذه الأقوال مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني (3) من الأشاعرة ، فعلم أن إنكاره لذلك عناد ، وأما ما ذكره من أن الإرادة من جملة الصفات دون الأفعال فسقوطه ظاهر ، لأن ما هو من جملة الصفات هو المريد ، وإطلاق الصفة على الإرادة مسامحة من باب إطلاق المصدر وإرادة المشتق ، وكذا الكلام في الكلام بل العالم والقدرة والحياة أيضا ، فإن من طالع صرف الزنجاني (4) ونحوه يعلم أن الإرادة بمعنى (خواستن) وكذا العم بمعنى (دانستن) من الأفعال والمصادر فضلا عم يدعي صرف عمره في متداولات العلوم والنوادر ، وأما ما زعمه الناصب

(هامش)

(1) هو كتاب طوالع النوادر في علم الكلام للعلامة القاضي عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى بتبريز سنة 685 صاحب التفسير الشهير ، وعلى الطوالع شورح أشهرها شرح الشيخ شمس الدين محمود الأصفهاني المتوفى سنة 749 . (2) المقاصد في الكلام للعلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة 792 وعليه شروح أشهرها شرح نفسه وهو المراد هنا . (3) هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري البغدادي المتوفى 403 . (4) المراد به كتاب العزى المشتهر عندنا بالتصريف للشيخ عز الدين أبي الفضائل إبراهيم ابن عبد الوهاب بن عماد الدين بن إبراهيم الزنجاني المتوفى بعد 655 بقليل كما في كشف الظنون (ج 2 ص 1139 طبع الاستانة) وشرحه جماعة منهم المحقق التفتازاني وهذا الشرح والمتن موجودان في ضمن جامع المقدمات الذي هو محط التدريس في ابتداء العلوم الإلهية . (*)

ص 137

المرتاب من . ن المصنف نطق بخلاف مذهبه في هذا الباب وارتاح بذلك كأنه وجد تمرة الغراب فمدفوع رغما لأنفه بما أوضحناه سابقا من أن أصل الإرادة مخلوق لله تعالى والإرادة الجازمة فعل للعبد ، ثم القول بأن الاختيار فعل اضطراري إنما يكون مكابرة كما ذكره الناصب لو أريد بذلك أن الاختيار العبد مثلا فعل اضطر العبد نفسه إليه ، وأما إذا أريد أنه فعل اضطر الله (1) تعالى أو غيره العبد إليه بأن قال له على سبيل الجبر والقسر : اختر هذا فلا ، وإنما نشأ له هذا التوهم من مقابلة الاختيار للجبر والاضطرار ولم يعلم أن أحد المتقابلين ربما يتعلق بالمقابل الآخر كتعلق التصور بالتصديق مع كونهما قسمين متقابلين للعلم ، وأما ما ذكره من المترتبتين الآتيتين في الجواب فمبناهما على فهم أن مراد المصنف من الاختيار والإرادة اللذين حكم بكونهما فعل العبد أصل الاختيار والإرادة وقد علمت أن المراد الاختيار الجازم والإرادة الجازمة ، وأما قوله فنقول : هذا هو المدعى والمراد بالجواز الامكان الذاتي الخ فظاهر أنه أراد به أن ما ذكره المصنف من جواز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقبيه مدعانا ، والمراد بالجواز المأخوذ في هذا المدعى هو الامكان الذاتي الذي تخالفه العادة ، وأنت خبير بأنه إذا سلم إمكان أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقبيه ، وسلم أن العادة غير واجبة الاستمرار فما المانع من خروج الامكان إلى الفعل ، وكيف يحصل الأمان من الوقوع بأن لا يخلق الله الفعل عقيب وجود الاختيار . قال المصنف رفع الله درجته وأما الثاني فلأن كون الفعل طاعة أو معصية أن يكون نفس الفعل في الخارج أو أمرا زائدا عليه ، فإن كان الأول كان أيضا من الله فلا يصدر عن العبد شيء البتة

(هامش)

(1) اضطر من الأفعال التي تعدى بنفسه ولا تعدى فلا تغفل . (*)

ص 138

فيبطل العذر ، وإن كان الثاني كان العبد مستقلا بفعل هذا الزائد ، وإذا جاز استناد هذا الفعل فليجز استناد أصل الفعل ، وأي ضرورة للتمحل (1) بمثل هذه المعاذير الفاسدة التي لا تنهض بالاعتذار ، وأي فارق بين الفعلين ، ولم كان أحدهما صارا عن الله تعالى والآخر صادرا عن العبد ؟ وأيضا دليلهم آت في هذا الوصف فإن كان حقا عندهم امتنع استناد هذا الوصف إلى العبد وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به ، وأيضا كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنما هو شيء ، يرجع إلى ذات الفعل إن طابق الأمر كان طاعة وإلا فلا ، وحينئذ لا يكون الفعل مستندا إلى العبد لا في ذاته ولا في شيء من صفاته ، فينتفي هذا العذر أيضا كما انتفى عذرهم الأول ، وأيضا الطاعة حسنة والمعصية قبيحة ، ولهذا ذم الله تعالى إبليس وفرعون (2) على مخالفتهما أمر الله ، وكل فعل يفعله الله فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله تعالى ، فلو كان أصل الفعل صادرا من الله تعالى امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن ، فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة عنه تعالى امتنع وصفها بالقبح فلا تكون معصية فلا يستحق فاعلها الذم والعقاب ، فلا يحسن من الله تعالى ذم إبليس

(هامش)

(1) التكلف بلا داع . (2) فرعون وفرعون وفرعون كان لقبا لكل من ملك مصر ، كالكسرى لملك العجم ، ووالقيصر لملك الروم ، والخاقان لملك الترك ، والنجاشي لملك الحبشة وهكذا والجمع الفراعنة ، وإذا أطلق فرعون ينصرف إلى الملك الجائر المعاصر بمصر لنبي الله موسى الكليم فلا تغفل ، وقد حفظت دار الآثار القديمة ومتحف القاهرة عدة أجساد من فراعنة مصر كرعسيس (خ ل رامسيس) وغيره وتلك الأجساد استخرجت من مدافنها تحت الأهرامات وحواليها بالتنقيب ، ومن رام الوقوف على خصوصياتها فعليه بالمراجعة إلى مناشير دار الآثار . (*)

ص 139

وأبي لهب وغيرهما حيث لم يصدر عنهم قبيح ولا معصية ، فلا تتحقق معصيته من العبد ألبتة ، وأيضا المعصية قد نهى الله تعالى عنها إجماعا والقرآن مملوء من المناهي والتوعد عليها ، وكل ما نهى عنه فهو قبيح ، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلا ما نهى الله تعالى عنه مع أنها قد صدرت من إبليس وفرعون وغيرهما من البشر ، وكل ما صدر من العبد فهو مستند إلى الله تعالى والفاعل له هو الله تعالى لا غير عندهم ، فيكون حسنا حينئذ وقد فرضناه قبيحا هف ، وأما الثالث فهو باطل بالضرورة إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول وكفاهم من الاعتذار الفاسد واعتذارهم بما لا يعلمونه ، وهل يجوز لعاقل منصف من نفسه المصير إلى هذه الجهالات والدخول في هذه الظلمات والإعراض عن الحق الواضح والدليل اللائح والمصير إلى القول بما لا يفهمه القائل ولا السامع ولا يدري هل يدفع عنهم ما التزموا به أو لا ؟ فإن هذا الدفع وصف من الصفات والوصف إنما يعلم بعد العلم بالذات فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به ، فلينظر العاقل في نفسه قبل دخوله في رمسه (1) ولا يبقى للقول مجال ولا يمكن الاعتذار بمثل هذا المحال (2) (انتهى) قال الناصب خفضه الله أقول : القول الثاني الذي ذكره في معنى الكسب هو مذهب القاضي أبو بكر الباقلاني من الأشاعرة ، ومذهبه أن الأفعال الاختيارية من العبد واقعة بمجموع القدرتين على أن تتعلق قدرة الله تعالى بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته أعني بكونه طاعة أو معصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا يوصف بها أفعاله تعالى كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاءا ، فإن ذات اللطم بقدرة الله تعالى وتأثيره وكونه طاعة على الأول

(هامش)

(1) الرمس : القبر . (2) قد مر أنه من اللغات المثلثة التي يختلف معناها حسب اختلاف حركاتها فراجع (ص 107 ج 1) . (*)

ص 140

ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره ، هذا مذهب القاضي وهو غير مقبول عند عامة الأصحاب من الأشاعرة لشمول الأدلة المبطلة لمدخلية اختيار العبد في التأثير في أصل الفعل تأثيره في الصفة بلا فرق ، وهذا الإبطال مشهور في كتب الأشاعرة فليس من خواصه ، وأما ما أورده على معنى الكسب حسبما هو مذهب القاضي فغير وارد عليه ونحن نبطله حرفا بحرف فنقول : أما قوله : كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة وكونه موافقا لأمر الشريعة إنما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل إلى آخر الدليل ، فجوابه أنا لا نسلم أن كونه موافقا لأمر الشريعة شيء يرجع إلى ذات الفعل ، فإن المراد من رجوعه إلى ذات الفعل إن كان المراد أنه ليس صفة للفعل بل هو ذات الفعل فبطلانه ظاهر ، وإن كان المراد أنه راجع إلى الذات بمعنى أنه وصف للذات فمسلم ، لكن لا نسلم عدم جواز استناده إلى العبد باعتبار الصفة وهذا أول الكلام ، ثم ما ذكر أن الطاعة حسنة والمعصية قبيحة وكل فعل يفعله الله فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله تعالى فلو كان أصل الفعل صادرا من الله تعالى أمتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن الخ ، فجوابه أن الطاعة حسنة والمعصية قبيحة عند الأشاعرة ولكن مدرك هذا الحسن والقبح هو الشرع لا العقل ، فكل فعل يفعله الله تعالى فهو حسن بالنسبة إليه وربما يكون قبيحا بالنسبة إلى المحل كالمعاصي قوله : فلو كان أصل الفعل صادرا من الله تعالى امتنع وصفه بالقبح ، قلنا : المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى وكل ما كان صادرا من الله تعالى كالخلق امتنع وصفه بالقبح ، والمعصية صادرة من العبد ويجوز وصفها بالقبح فلا يلزم شيء مما ذكره بتفاصيله وأما قوله : وأما الثالث فهو باطل بالضرورة إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ، فنقول : هذا القول إن صدر عن الأشاعرة يكون مراد القائل أن هناك شيء ينسب إليه أوصاف فعل العبد ولا بد من إثبات شيء لئلا يلزم بطلان التكليف والثواب والعقاب ، ولكنه غير معلوم الحقيقة ، وعلى هذا الوجه لا خلل في الكلام (انتهى) .

ص 141

أقول لا يخفى أن القاضي إنما عدل عن تفسير شيخه الأشعري إلى هذا لما رأى فساد ذلك فهو شاهد لنا على ما ادعينا من ظهور فساد كلام الأشعري ، واعتراف الناصب بفساد كلام القاضي شهادة بأنه ليس لهم للكسب تفسير له محصل ، ولهذا قال بعضهم ، إنه غير معقول ولا معلوم كما نقله المصنف قدس سره ، وكفى بذلك شناعة ، وأما ما ذكره من أن هذا الإبطال مشهور مذكور في كتب الأشاعرة الخ فنقول : نعم مذكور في كتب متأخري الأشاعرة لكنه من تصرفات الإمامية لظهور انقراض المعتزلة قبل ذلك بستمأة سنة تقريبا ، ووضوح أن الأشاعرة لا يهتمون بإبطال مطالب أنفسهم بل هم قاصرون عن أمثال هذا الدقيق من الإبطال ، ولم يدع المصنف أن ذلك من خواصه حتى يكون وجوده في كتب من تقدمه من الأشاعرة أو الإمامية مكذبا له ، وأما ما ذكره في أول الحرف من جوابه ، فانحرافه عن الحق ظاهر لأن غاية ما يلزم من جواز إسناد صفة الفعل إلى العبد أن يكون وصفا له بحال متعلقة كحسن الغلام وهو وصف مجازي لا يصلح لبناء ثواب العبد وعقابه مثلا عليه ، وأما ما ذكره بقوله : فجوابه أن الطاعة حسنة الخ فمردود بما عرفت من بطلان كون الحسن والقبح شرعيين ، وبما مر من تقبيح قولهم : بأنه لا قبيح بالنسبة إليه تعالى وتزييف مؤاخذة المحل بالقبح المخلوق فيه من الله تعالى ، وأما ما ذكره من أن مراد القائل أن هناك شيء تنسب إليه أوصاف الفعل الخ ففيه أنه إعادة لكلام القائل بعبارة أخرى ، ويتوجه عليه ما يتوجه على ذلك : من أنه رمى في الظلام فلا يصلح لبناء المذهب عليه والاحتجاج به على الأقوام ، وكفى هذا خللا وفسادا في الكلام .

ص 142

قال المنصف رفع الله درجته

المطلب الثالث عشر في أن القدرة متقدمة (1)

ذهبت الإمامية والمعتزلة كافة إلى أن القدرة التي للعبد متقدمة على الفعل ، وقالت الأشاعرة هاهنا : قولا غريبا عجيبا وهو أن القدرة مع الفعل غير متقدمة عليه لا بزمان ولا بآن (2) ، فلزمهم من

(هامش)

(1) قد أسلفنا في ج 1 ص 473 مقالات في مسألة القدرة ، وذكرنا أن فيها مباحث ومشاحات . كالنزاع في أن القدرة للفعل بذاتها أو لا ، وكالنزاع في تعريف القدرة وتعيين الملاك فيها ، فبعضهم عبر بأن القدرة أن يكون الشخص بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك ، وبعض المتكلمين قال : إنها بحيث أن يكون إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل . وكالنزاع في أنها لا بد أن تكون متقدمة على الفعل بمعنى إن الذات تكون متصفة بها قبل وقوع الفعل وصدوره منها أم لا ، ذهب العدلية من الإمامية والزيدية والمعتزلة وأكثر الحكماء إلى الأول ، وأكثر الأشاعرة إلى الثاني ، والأول هو الحق المحقق المؤيد بالعقل والمنصور بالنقل سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى . وكالنزاع في أنها هل تتعلق بالضدين أم لا إلى غير ذلك من السائل التي وقع فيها الغلاف ، طوينا عن ذكرها كشحا اقتناعا بما ذكر في شرح المواقف للشريف المحقق الجرجاني وغيره من المطولات . (2) قال ابن سينا في رسالة الحدود المطبوعة ببلدة بمبئي في مجموعة من آثار ص 59 ما لفظه : الزمان مقدار الحركة من جهة التقدم والتأخر والآن هو طرف موهوم يشترك فيه الماضي والمستقبل من الزمان وقد يقال : آن الزمان صغير المقدار عندهم متصل بالآن الحقيقي من جنسه (انتهى) . وقال بعض المتكلمين كما في الدستور (ج 2 ص 19) : الزمان عبارة عن متجدد معلوم يقدر به متجدد آخر موهوم كما يقال آتيك عند طلوع الشمس فإن طلوع الشمس معلوم متجدد ومجيئه موهوم ، فإذا قرن ذلك الموهوم بذلك المعلوم زال الابهام ، وعند = (*)

ص 143

ذلك محالات ، منها تكليف ما لا يطاق ، لأن الكافر مكلف بالإيمان إجماعا منا ومنهم ، فإن كان قادرا عليه حال كفره ناقضوا مذهبهم من أن القدرة مع الفعل غير متقدمة عليه ، وإن لم يكن قادرا عليه لزمهم تكليف ما لا يطاق ، وقد نص الله تعالى على امتناعه فقال : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (1) ، والعقل دل عليه وقد تقدم ، وإن قالوا إنه غير مكلف حال كفره لزمهم خرق الإجماع من أن الله تعالى أمره بالإيمان بل عندهم أنه أمرهم في الأزل ونهاهم ، فكيف لا يكون مكلفا (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : مذهب الأشاعرة أن القدرة الحادثة مع الفعل وأنها توجد حال حدوث الفعل وتتعلق به في هذه الحالة ، ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلقها به إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، بل امتنع وجوده فيه وإن لم يمتنع وجوده قبله ، بل أمكن فلنفرض وجوده فيه فالحالة التي فرضناها أنها حالة سابقة على الفعل ليس كذلك ، بل هي حال الفعل هذا خلف محال ، لأن كون المتقدم على الفعل مقارنا له يستلزم اجتماع النقيضين أعني كونه متقدما وغير متقدم ، فقد لزم من وجود الفعل قبله محال فلا يكون ممكنا ، إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات ، وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله

(هامش)

= الحكماء على ما ذهب إليه أرسطو الزمان هو مقدار حركة الفلك الأعظم وبعبارة أخرى هو كم متصل قائم بحركة الفلك والمحدد إلى غير ذلك من التعاريف التي ذكرت في كتب الحكمة والكلام والمصطلحات العلمية وجلها من قبيل شرح الاسم والتعريف اللفظي كما لا يخفى . ثم إن في الزمان مباحث كالبحث عن كونه موجودا أو موهوما صرفا ، وكالبحث عن منشأ اعتباره ونحوهما تركناها اكتفاء بما ذكرت في مظان هذه الأمور فراجع إليها . (1) البقرة : الآية 386 . (*)

ص 144

فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ ، لا شك أن وجود القدرة بعد الفعل مما لا يتصور ، فتعين أن تكون موجودة معه وهو المطلوب ، هذا دليل الأشاعرة على هذا المدعى ، وأما ما ذكره من لزوم المحالات بأن الكافر مكلف بالإيمان بالإجماع فإن كان قادرا على الإيمان حال الكفر لزم أن تكون القدرة متقدمة على الفعل وهو خلاف مذهبهم وإن لم يكن قادرا لزم تكليف ما لا يطاق ، فجوابه أنا نختار أنه غير قادر على الإيمان حال الكفر ولا يلزم وقوع تكليف ما لا يطاق ، لأن شرط صحة التكليف عندنا أن يكون الشيء المكلف به متعلقا بالقدرة ، أو يكون ضده متعلقا للقدرة ، وهذا الشرط حاصل في الإيمان ، فإنه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه لكن تركه بالتلبس بضده الذي هو الكفر مقدور له حال كونه كافرا (انتهى) . أقول قد أجاب أصحابنا عن الدليل الذي نقله عن الأشاعرة أولا بالنقض بالقدرة القديمة فإن قيل : لا يلزم من وجود القدرة القديمة قبل وقوع الفعل وجود تعلقها قبله ، فالقدرة القديمة تعلقها مع الفعل ومقدورية الفعل إنما تجب في زمان تعلق القدرة به ، قلنا : فليجز مثل ذلك في القدرة الحادثة وهو أن تكون نفسها موجودة قبل الفعل وتعلقها مقارنا للفعل ، وثانيا بالحل وهو تحقيق معنى قوله : حصول الفعل قبل وقوعه محال بأنه قد يراد به معنيان ، الأول أن حصول الفعل في زمان قبل زمان الفعل مشروطا بشرط كونه قبله محال ، والثاني أن حصول الفعل في زمان قبل زمان حصول لكن غير مشروط بشرط كونه قبله محال ، لا اشتباه في استحالة المعنى الأول لكنه لا ينافي المقدورية وإمكان حصول الفعل من القادر ، لأن هذا المحال لم يلزم من وجود الفعل في ذلك الزمان وحده حتى يلزم امتناعه قبله فيه بل منه مع فرض كون

ص 145

ذلك الزمان قبل زمان الفعل مقارنا لعدمه ، فيكون هذا المجموع محالا دون الفعل وحده ، بل هو ممكن في ذاته قطعا ، فلا يتصف بالامتناع الذاتي ، بل الامتناع بالغير ، وذلك لا ينافي تعلق القدرة به ، والمعنى الثاني غير محال ، فإنه يمكن أن يزول عن ذلك الزمان وصف كونه زمان وقوع الفعل ويحصل بدله وصف كونه زمان وقوع الفعل فلا يلزم اجتماع النقيضين ، وهذا كما يقال : قعود زيد محال بشرط قيامه إذ يمتنع كونه قائما وقاعدا ، وليس بمحال في زمان قيامه ، إذ يمكن أن ينعدم القيام ويوجد بدله القعود هذا ، وأما ما ذكره في جواب لزوم المحالات : من أن شرط صحة التكليف عندنا أن يكون الشيء المكلف به متعلقا للقدرة أو يكون ضده متعلقا للقدرة الخ فمردود بأنه مبني على أن القدرة متعلقة بأحد الطرفين وقد مر ما فيه فتذكر . قال المصنف رفع الله درجته ومنها الاستغناء عن القدرة ، لأن الحاجة إلى القدرة ، إنما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود وهذا إنما يتحقق حال العدم ، لأن حال الوجود هو حال الاستغناء عن القدرة ، لأن الفعل حال الوجود يكون واجبا فلا حاجة إلى القدرة ، على أن مذهبهم أن القدرة غير مؤثرة ألبتة ، لأن المؤثر في الموجودات كلها هو الله تعالى ، فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول ، لأنه خلاف مذهبهم (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : الحاجة إلى القدرة اتصاف العبد بصفة تخرجه عن الاضطرار حتى يصح كونه محلا للثواب والعقاب ، إذ لو لم تكن هذه القدرة حادثة مع الفعل لا يتحقق له صورة الاختيار ، والله تعالى حكيم يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى ، ولا يلزم من عدم كون القدرة مؤثرة في الفعل الاستغناء عنها من جميع الوجوه ، ولا يلزم أن

ص 146

يكون البحث عنها فضولا (انتهى) أقول من البين أن الصفد التي يخرج الاتصاف بها العبد من الاضطرار في الفعل يجب أن تكون مؤثرة في الفعل ، إلا لكانت لغوا ضائعا ، وأيضا إذا لم تكن القدرة مؤثرة كيف يعلم حدوثها مع الفعل ، وكيف يتحقق بها صورة الاختيار مع أن القول بالصورة لا معنى له ، وأيضا قد مر أن القدرة صفة تؤثر على وفق الإرادة ، وقال شارح العقائد (1) : إنها صفة أزلية تؤثر في المقدورات عند تعلقها بها ، فإذا لم تكن قدرة العبد مؤثرة لم تكن قدرة ، وأما ما ذكره من أن الله تعالى حكيم يخلق الأشياء لصالح لا تحصى ، ففيه أن المصنف لم يقل : إن مصلحة خلق القدرة منحصرة في التأثير حتى يتجه أن يقال : يحتمل أن يكون للحكيم في خلقه صالح أخرى لا تحصى ، بل الكلام في أن المصلحة في خلق القدرة في العبد كما يدل عليه مفهوما هو التأثير في الفعل ، فإذا لم تكن مؤثرة لم تكن حاجة في ذلك إلى خلقها ، ويكون البحث عنها من هذه الجهة فضولا ، وهذا لا ينافي اعتداد البحث عنها من جهة أخرى ولمصلحة أخرى ، وهل الذي ذكره الناصب إلا مثل أن يقال : مثله أن الفرس مخلوقة لمصلحة الكتابة ، فإذا قيل له : إن هذه المصلحة لا تظهر في الفرس ، فيكون القول بكون تلك مصلحة خلقه لغوا يجيب بأنه يجوز أن يكون في خلق الفرس مصالح أخرى لا تحصى وفساده مما لا يخفى ، هذا . ويقال لهم : أليس تأثير القدرة في الفعل آكد من تأثير الآلة ؟ فلا بد من بلى ، فيقال : إذا كان فاقد الآلة وتأثيرها عندكم يعذر في الترك وجب مثله في فاقد القدرة وتأثيرها ، فيكون الكافر معذورا في ترك الإيمان ، ويقال لهم ؟ في قولهم : بعدم تقدم القدرة على الفعل : متى يقدر

(هامش)

(1) المراد به شرح عقايد النسفي وإذا أطلق ينصرف إلى شرح المحقق التفتازاني . (*)

ص 147

أحدنا على الانتقال من الشمس إلى الظل إن قلتم يقدر وهو في الشمس تركتم مذهبكم ، وإن قلتم : وهو في الظل فأي حاجة إلى القدرة حينئذ ، فإن قالوا يقدر حالة الانتقال قلنا : ليس بين كونه في الشمس وكونه في الظل حالة تسمى حالة الانتقال وتكون متقدمة على أحدهما متأخرة عن الآخر ، ويقال لهم : ما عندكم في رجل قتل نفسه أقدر على قتلها وهو حي ؟ فهو الذي نقول : أو وهو ميت ، فكيف يقدر الميت على أن يقتل ؟ ثم إذا كان قد حصل الموت بالقتل فعلى أي شيء قدر ؟ . قال المصنف رفع الله درجته ومنها إلزام حدوث قدرة الله أو قدم العالم ، لأن القدرة مقارنة للفعل وحينئذ يلزم أحد الأمرين ، وكلاهما محال لأن قدرة الله تعالى تستحيل أن تكون حادثة ، والعالم يمتنع أن يكون قديما ، ولأن القدم مناف للقدرة ، لأن القدرة إنما تتوجه إلى إيجاد المعدوم ، فإذا كان الفعل قديما امتنع استناده إلى القادر ، ومن أعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد ، والكلام في أحكامها مع أن القدرة غير مؤثرة في الفعل البتة ، وأنه لا مؤثر غير الله ، فأي فرق بين القدرة واللون والمقدار وغيرها بالنسبة إلى الفعل إذا كانت غير مؤثرة ولا مصححة لتأثيره ، قال أبو علي بن سينا (1) ردا عليهم : لعل القائم لا يقدر على القعود (انتهى) .

(هامش)

(1) هو رئيس الحكماء فيلسوف المسلمين مجمع الفضائل والعلوم صاحب الأفكار الأبكار في الفلسفة والطب والرياضيات والشيخ أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا البلخي البخاري ، كان من أعاجيب الدهر في العلم والذكاء والدهاء والأبصار والسماع والاستشمام ، وبالجملة هو ممن استفاد منه الحكماء والأطباء والفلكيون والمنطقيون وغيرهم من القدماء والمتأخرين من أهل المشرق والمغرب . توفي في مستهل رمضان سنة 427 وكانت ولادته 391 . وكان شاعرا بارعا ، وله منظومات معروفة في الطب وغيره رائقة نفيسة ، منها القصيدة = (*)

ص 148

قال الناصب خفضه الله أقول : حاصل هذا الاعتراض أن كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره تعالى ، إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا ، فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته أو من قد قدرته قدم مقدوره وكلاهما باطلان بل قدرته أزلية إجماعا متعلقة في الأزل بمقدوراته ، فقد ثبت تعلق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ، ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا ، وأجاب شارح المواقف عن هذا الاعتراض بأن القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا (1) ، فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز تقدم حادث عليه ، ثم إن القدرة القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقا معنويا لا يترتب عليه وجود الفعل ولها تعلق آخر حال حدوثه تعلقا حادثا موجبا لوجوده ، فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قد آثارها ، فاندفع (2) الإشكال بحذافيره (3)

(هامش)

= النفسية الشهيرة التي مطلعها . هبطت إليك من المحل الأرفع * ورقاء ذات تعزز وتمنع وشرحها جمع كثير بشروح شريفة . وله تصانيف وتآليف منها القانون في الطب الإشارات في الميزان والحكمة الخطب التوحيدية لسان العرب في اللغة الشفاء النجاة في المنطق الحكمة المشرقية الحكمة العرشية الإنصاف المبدء والمعاد المدخل في الموسيقى كتاب الحدود رسالة حي بن يقظان رسالة القولنج عيون الحكمة وغيرها من الآثار القلمية فراجع الريحانة (ج 5 ص 381) والوفيات والروضات والشذرات وأخبار الحكماء وغيرها . (1) لأن القدرة الحادثة عرض ، والعرض لا يبقى زمانين عندهم . (2) مذكور في شرح التجريد بلا إيراد عينه . (3) الحذافير جمع الحذفور بالضم والحذفار بالكسر : الجمع الكثير . (*)

ص 149

وأما ما ذكره من التعجب من بحث الأشاعرة عن القدرة مع القول بأنها غير مؤثرة في الفعل ، فبالحري أن يتعجب من تعجبه لأن القدرة صفة حادثة في العبد وهي من صفات الكمال ، فالبحث عنها لكونها من الأعراض والكيفيات النفسانية وعدم كونها مؤثرة في الفعل من جملة أحوالها المحمولة عليها ، فلم لم يباحث عنها ، وأما قوله : أن لا فرق بينها ، وبين اللون فقد أبطلنا هذا القول فيما سبق مرارا بأن اللون لا نسبة له إلى الفعل ، والقدرة تخلق مع الفعل ليترتب على خلقها صورة الاختيار ويخرج بها العبد من الجبر المطلق ، ويترتب على فعله الثواب والعقاب والتكليف والله أعلم ، قال الإمام الرازي (1) : القدرة تطلق على مجرد القوة التي هي مبدء الأفعال المختلفة الحيوانية ، وهي القوة العضلية التي هي بحيث متى انضمت إليها إرادة أحد الضدين حصل ذلك الضد ، ومتى انضمت إليها إرادة الضد الآخر حصل ذلك الآخر ، ولا شك أن نسبتها إلى الضدين سواء ، وهي قبل الفعل والقدرة أيضا تطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شك أنها لا تتعلق بالضدين معا وإلا اجتمعا في الوجود ، بل هي إلى كل مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ، وذلك لاختلاف الشرائط ، وهذه القدرة مع الفعل ، لأن وجود المقدور لا يتخلف عن المؤثر التام ، ولعل الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير ولذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المضادة ، فهذا وجه الجمع بين المذهبين ، وبهذا يخرج (2) جواب أبي علي ابن سينا حيث قال : لعل القائم لا يقدر على القعود فإنه غير قادر بمعنى أنه لم

(هامش)

(1) قد مرت ترجمته في أوائل هذا المجلد من الكتاب . والجزء الأول ص 110 . (2) خرج المسألة ، بين لها وجها والتخريج المصطلح عند المحدثين مأخوذ منه . (*)

ص 150

يحصل له بعد القوة المستجمعة لشرائط التأثير وهو قادر بمعنى أنه صاحب القوة العضلية (انتهى) . أقول وبالله التوفيق : أن جواب شارح المواقف مما ذكر الشارح (1) الجديد للتجريد أيضا من غير إيراد عليه ، وكنت أظنه واردا إلى الآن ، وقد سنح (2) لي عند النظر إلى هذا المقام أنه مردود ، لأن كلام المصنف مبني على إلزام آخر للأشاعرة ، بيانه أنهم لما لما ذهبوا إلى أن صفات الله تعالى موجودات زائدة قائمة به وقد صرحوا بأنها ليست جواهر حذرا عن أن يلزمهم شرك النصارى القائلين بالذوات القديمة فلا بد أن تكون أعراضا لانحصار الموجود في الجوهر والعرض فالتزام التفرقة بين القدرة الإلهية وقدرة العبد بكون أحدهما عرضا لا يجوز بقاؤها دون الأخرى تحكم قصدوا به الفرار عن الالزام ، فظهر أن اللازم لهم في الحقيقة أمران ، إحداهما ما ذكرناه من التحكم البارد ، والآخر ما ذكره المصنف من الالزام الوارد ، فحال الناصب في استفادته من كلام شارح المواقف مع أداء ذلك إلى تقوية مطلوبه وتضعيف مهروبه كحال الحمار الذي أشار إليه الشاعر بقوله . شعر : ذهب (3) الحمار ليستفيد لنفسه * قرنا فآب وما له أذنان وأما ما زعمه من أن الكلام الرازي يصير وجها للجمع بين المذهبين ففاسد ، إذ يتوجه عليه ما اعترض به صاحب المواقف أيضا ، وحاصله أن الإمام إن أراد بالقدرة

(هامش)

(1) قد مرت ترجمته في أوائل هذا المجلد من الكتاب . (2) سنح الرأي : عرض . (3) أورد الميداني في ج 1 من مجمع الأمثال ص 193 المثل هكذا : ذهب الحمار يطلب قرنين فعاد مصلوم الأذنين . (*)

ص 151

القدرة القديمة فليست مستجمعة لشرائط التأثير ، وإن أراد الحادثة فليس مؤثرة ، وأما ما ذكره من أنه يخرج بهذا جواب أبي علي بن سينا فهو مدخول بما يتصل بذلك من كلام أبي لتصريحه فيه بأن القدرة ليست إلا القوة التي يكون لها التأثير بالقوة ، ورده على من فسره بالقوة المستجمعة لشرائط التأثير ، فكيف يرد عليه بهذا التفسير ؟ وهو الحكيم الإسلامي المقنن (1) للأوضاع والقوانين ، وقد بالغ في ذلك حتى حكم بالعمى على القائل به من بعض الأوائل ، والذين وافقوهم من الأشاعرة حيث قال : في فصل القوة والفعل والقدرة والعجز من الهيآت الشفا : وقد قال بعض الأوائل وغاريقون (2) ، منهم أن القوة تكون مع الفعل ولا تتقدم وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير ، فالقائل بهذا القول كأنه يقول : إن القاعد ليس يقوى على القيام ، أي لا يمكن في جبلته أن يقوم ما لم يقم ، فكيف يقوم ؟ وأن الخشب ليس في جبلته أن ينحت منه باب فكيف ينحت ؟ وهذا القائل لا محالة غير قوي على أن يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا ، فيكون بالحقيقة أعمى انتهى ، وأيضا ما اشتهر من أن القدرة صفة تؤثر (مؤثرة خ ل) على وفق الإرادة وكذا التفسير الذي نقلناه سابقا عن شارح (3) العقائد يدفع وقوع إطلاقها على ما اجتمع

(هامش)

(1) فيه لطف إيماء إلى كتب القانون للشيخ . (2) هو من فلاسفة يونان ويعبر في بعض الكتب عنه (افريطون) قبال في كتاب تاريخ سلاطين يونان وحكمائها الذي أصله انجليزي وترجم بالفارسية في (ص 39 طبع بمبئي) ما حاصله : أن هذا الحكيم كان من أجلة الحكماء ومن أعيان تلاميذ سقراط الحكيم فائقا على سائر أصحابه ، شريك البحث مع أفلاطون ، فلما قتل سقراط انتقل افريطون مع عدة من تلاميذ أفلاطون إلى بلدة اسن (اتن خ ل) وجعل يعلم الحكمة لأهلها إلى آخر ما ذكره . (3) المراد التفتازاني حيثما يطلق ، وعليه فقد مرت ترجمته في ص 142 من الجزء الأول . (*)

ص 152

الشرائط ، ويشعر بأنه اصطلاح جديد وتمحل عنيد كحيل عمرو بن العاص ارتكبوه للخلاص عن تشنيع الخواص ولات حيز مناص (1) . قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الرابع عشر في أن القدرة صالحة للضدين (2)

ذهب جميع العقلاء إلى ذلك عدا الأشاعرة ، فإنهم قالوا القدرة غير صالحة للضدين ، وهذا مناف لمفهوم القدرة فإن القادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل وإذا شاء أن يترك ترك ، فلو فرضنا القدرة على أحد الضدين لا غير لم يكن الآخر مقدورا ، فلم يلزم من مفهوم القادر أنه إذا شاء أن يترك ترك (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : مذهب الأشاعرة أن القدرة الواحدة لا تتعلق بالضدين بناء على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله ، بل قالوا : إن القدرة الواحدة لا تتعلق بمقدورين مطلقا سواء كان متضادين أو متماثلين أو مختلفين لا معا ولا على سبيل البدل بل القدرة الواحدة لا تتعلق إلا بمقدور واحد ، وذلك لأنها مع المقدور ولا شك أن ما نجده عند صدور أحد المقدورين مغاير لما نجده عند صدور الآخر مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية أن قدرة العبد تتعلق بجميع مقدوراته المتضادة وغير المتضادة وأنا أقول : ولعل النزاع لفظي لا على الوجه الذي ذكره الإمام الرازي (3) ، فإن الأشاعرة يجعلون كل فرد من أفراد القدرة الحادثة متعلقا بمقدور واحد وهو الكائن عند حدوث الفعل فكل فرد له متعلق ، والمعتزلة يجعلون القدرة مطلقا متعلقة بجميع المقدورات ، وهذا لا ينافي جعل كل فرد ذا تعلق واحد ، والمعتزلي لا يقول

(هامش)

(1) اقتباس من قوله تعالى في سورة ص الآية 3 . (2) وسيأتي التفصيل في ذلك . (3) قد مرت ترجمته في أوائل هذا المجلد . والجزء الأول ص 110 . (*)

ص 153

إن الفرد من أفراد القدرة الحادثة إذا حدث وحصل منه الفعل فعين ذلك الفرد لا يتعلق بضده بل يقول : إن القدرة الحادثة مطلقا تتعلق بالضدين ، وهذا لا ينفيه الأشاعرة ، فالنزاع لفظي تأمل وأما ما ذكره من أنه يوجب عدم كون القادر قادرا لأنه إذا لم تصلح القدرة للضدين لا يكون الفاعل قادرا على عدم الفعل وهو الترك ، فيكون مضطرا لا قادرا ، فالجواب عن ذلك أنه إن أريد بكونه مضطرا أن فعله غير مقدور له فهو ممنوع ، وإن أريد به أن مقدوره ومتعلق قدرته متعين وأنه لا مقدور له بهذه القدرة سواه ، فهذا عين ما ندعيه ونلتزمه ولا منازعة لنا في تسميته مضطرا ، فإن الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة ، ألا ترى أن من أحاط به بناء من جميع جوانبه بحيث يعجز عن التقلب من جهة إلى أخرى فإنه قادر على الكون في مكانه بإجماع منا ومنهم مع أنه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدروه (انتهى) . أقول قد مر أن القول بأن القدرة مع الفعل مهدوم ، فالبناء عليه يكون ملوما مذموما ، وأما ما أظهر التفرد به من جعل النزاع لفظيا فساقط جدا ، وهو دليل كونه متفردا فيه وذلك لأن مبناه على ما خان فيها الناصب أولا حيث قيد القدرة بالواحدة وبدل صلاحيتها للضدين بتعلقها بهما ، فإن المسألة على وجه عنون به المصنف هاهنا وغيره في غيره وهو أن القدرة صالحة للضدين ، وقال الناصب عند تقرير المبحث أقول : مذهب الأشاعرة أن القدرة الواحدة لا تتعلق بالضدين ، ويدل على ما ذكرنا من أن الكلام في أصل القدرة بلا قيد الواحدة وفي صلاحيتها دون تعلقها كلام شارح العقائد في مسألة الاستطاعة حيث قال : إن القدرة صالحة للضدين عند أبي حنفية (1) حتى أن القدرة المصروفة

(هامش)

(1) هو أبو حنفية نعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه ، وقيل هرمزد الفارسي الأصل والنسب = (*)

ص 154

(هامش)

= البغدادي المسكن والمدفن ، إمام الحنفية أحد الأئمة أهل السنة والجماعة ، ويعبر عنه في كتب الحنفية بالإمام الأعظم تارة والإمام المعظم أخرى وإمام العراق ثالثة ، أخذ الفقه والحديث عن مولينا الصادق عليه السلام روى عنه عليه السلام وعن عطاء ونافع والأعرج وفي سماعه عن الصحابة خلاف ، قال عبد القادر القرشي المتوفى سنة 775 في الجواهر المضية (ص 28 طبع حيدر آباد) إن أبا حنفية سمع عن عبد الله بن أنيس وعبد الله بن جزء الزبيدي وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله ومعقل بن يسار ووائلة بن الأسقع وعايشة بنت عجرد (انتهى) . ولكن صديق حسان خان في أبجد العلوم (ص 807) أنكره أشد النكير وقال : ما لفظه إنه لم ير أحدا من الصحابة باتفاق أهل الحديث وإن كان عاصر بعضهم على رأي الحنفية ، الخ أقول : وكذا أنكر كونه تابعيا جمع من أجلاء المؤرخين والمحدثين فليراجع إلى المظان قال القرشي : الصحيح أنه ولد سنة 80 وقيل : سنة 61 وقيل : 63 . وقال ، وقد اتفقوا أنه توفي سنة 150 أقول : وقبره ببغداد معروف ونسبوا إليه عدة تصانيف منها الفقه الأكبر في العقايد ، والمسند والمقصود في علم الصرف ، وذكر الخطيب : عند ترجمته له في تاريخ بغداد غرائب وعجائب في شين المترجم والتشنيع عليه وأجاب عنها الملك عيسى الأيوبي المتوفى سنة 624 بكتاب سماه السهم المصيب في كبد الخطيب ، ولم يتمكن من دفعه كلمات الخطيب كلها ويروي عن المترجم جماعة كحماد ، وزفر بن الهذيل التميمي ، أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني وغيره . وهو يروي عن عدة : منهم مولينا أبو عبد الله الإمام الصادق سلام الله عليه وعطاء ونافع والأعرج وغيرهم . ومن المأسوف عليه أن أكثر المترجمين له لم يذكروا تدرس المترجم وتعلمه عن مولينا الصادق عليه السلام مع أنه من المسلمات لدى أهل السير والتراجم . ونقل زميلنا العلامة الفقيد في الريحانة : نوادر وطرائف من فتاويه الفقهية ولم يذكر المستند ولعلنا إن شاء الله تعالى نتعرض لها مع ذكر المدارك والكتب التي نقلوها عنه والله الموفق . (*)

ص 155

إلى الكفر هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الإيمان لا اختلاف إلا في المتعلق وهو لا يوجب الاختلاف في نفس القدرة الخ ، وهذا موافقة من أبي حنيفة مع المعتزلة في موضعين ، أحدهما المسألة التي نحن فيها وهو ظاهر ، والثاني مسألة بقاء الأعراض فإن في قوله هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الإيمان تسليم لاستقامة بقاء الأعراض كما ذهب إليه المعتزلة وهو معتزلي عند التحقيق (1) ، ولهذا قلده المتأخرون من

(هامش)

(1) بل المعروف لدى عدة من أرباب التراجم إنه كان يرى رأي الزيدية في الخروج . قال : أبو الفرج في المقاتل (ص 145 طبع مصر) ما لفظه حدحدثنا علي بن الحسن قال : حدثني علي بن العباس قال : حدحدثنا أحمد بن يحيى ، قال : حدحدثنا عبد الله بن مروان بن معاوية ، قال : سمعت محمد بن جعفر بن محمد في دار الإمارة يقول : رحم الله أبا حنيفة لقد تحققت موته لنا في نصرته زيد بن علي ، وفعل بابن المبارك في كتمانه فضائلنا ودعى عليه ، وقال الخطيب في تاريخ بغداد : (ج 13 ص 384) أخبرنا ابن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ، حدحدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثني صفوان بن صالح ، حدحدثنا عمر بن عبد الواحد قال : سمعت عن الأوزاعي يقول أتاني شعيب بن إسحق وابن أبي مالك ، وابن علاق وابن ناصح ، فقالوا : قد أخذنا عن أبي حنيفة شيئا فانظر فيه فلم يبرج بي وبهم حتى أريتهم فما جاؤني به عنه إنه أحل الخروج على الأئمة . وأورد عدة نقول : في رأي المترجم وفتواه بالخروج . ولكن حكي الجرجاني في شرح المواقف (ج 2 ص 491 طبع مصر ، عن الآمدي الأصولي المشهور أن أصحاب المقالات قد عدوا أبا حنيفة وأصحابه من مرجئة أهل السنة ، الخ . وحكي الشهرستاني في الملل (ج 1 ص 264 طبع مصر باهتمام محمد بدران) عن غسان قدوة الطائفة الغسانية من المرجئة إنه كان يعد أبا حنيفة من المرجئة إلى أن قال وعده كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة الخ . وقال الخطيب في تاريخ بغداد (ج 13 ص 396) ما لفظه أخبرنا ابن زورق أخبرنا ابن = (*)

ص 156

المعتزلة في الفروع ومنهم الزمخشري (1) الحنفي المعتزلي وبعد الاطلاع على

(هامش)

= سلم حدحدثنا الآبار حدحدثنا أبو الأزهري النيسابوري حدحدثنا حبيب كاتب مالك بن أنس عن مالك بن أنس قال : كانت فتنة أبي حنيفة أضر على هذه الأمة من فتنة إبليس في الوجهين جميعا في الإرجاء وما وضع من نقض السنن (انتهى) . إلى غير ذلك من الكلمات في كتب السير والتواريخ والرجال والفقه . ومما يؤيد كونه باطنا زيديا كثرة عناية علماء الزيدية وفقهائهم بكلماته وذكر اسمه في إجازاتهم فراجع البحر الزخار ، والفلك السيار ، وشرح المجموع لزيد الشهيد والأمالي للديلمي ، وشرح مسند أبي حنيفة ، وشرح البحر الرائق ، وشرح أمالي المرتضى من أئمتهم ، والدر الفريد في الأسانيد ، وغيرها من كتبهم . ومما يؤيد ذلك كون فقههم مؤتلفا من فقهي الآل وأبي حنيفة كما وهو واضح لمن سبر أسفارهم الفقهية ، مضافا إلى ما سمعته مشافهة عن العلامة المؤرخ نسابة اليمن السيد محمد بن محمد بن زيارة الحسني اليمني صاحب كتاب نيل الوطر ، وعن العلامة السيد جمال الدين أحمد الكوكباني اليماني الأصل الهندي المنشأ والولادة وغيرهما من أعلامهم . وكذا أجاب لي العلامة الشيخ عبد الواسع الواسعي اليماني صاحب كتاب مزيل الحزن في تاريخ اليمن بعد ما سألت عنه كتبا عن فقه مذهبهم ومداركه . وغير خفي على أرباب التتبع أن أكثر الزيدية معتزلة أصولا ، ومنهم من يذهب مذهب الإمامية في تلك المسائل ، وعليه فما ذكره القاضي الشهيد من أن أبا حنيفة معتزلي عند التحقيق كلام حقيق بالقبول ، مؤيد بما يذكره قدس سره في الكتاب ، هذا ما رمت ذكره في المقام مع رعاية الاختصار ، وتركنا أمورا مناسبة لترجمة أبي حنيفة خوفا من الإطالة وإيراث السأمة ولعل الله يوفقنا لإيرادها في محل آخر إن شاء سبحانه وتعالى . (1) هو العلامة جار الله أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري المتكلم المفسر الأديب النحوي اللغوي ولد في قرية زمخشر من قرى بلدة خوارزم 467 = (*)

ص 157

(هامش)

= وتوفي ببلدة جرجانية عاصمة خوارزم سنة 538 وقيل 548 وله تصانيف وتآليف رائقة في فنون العلم منها الفائق في غريب الحديث ، وأساس البلاغة في اللغة ، والكشاف في التفسير ، وكتاب أسماء الجبال والأمكنة ، وأطواق الذهب في المواعظ والخطب ، والأنموذج في النحو ، وأعجب العجب في شرح لامية العرب والأمالي ، وديوان التمثيل وديوان الرسائل ، والمفصل في النحو ، والقسطاس في العروض ، والمنهاج عن الأصول ، والمستصفى في الأمثال ، والكلم النوابغ ، وسواتر الأمثال ، وضالة الناشد ، وشرح أبيات الكتاب لسيبويه ، ورؤس المسائل في الفقه إلى غير ذلك من الآثار النفيسة التي هي موارد للاستفادة والإفادة . وكان شاعرا بارعا مفلقا فمن شعره ما نسب إليه في الريحانة (ج 1 ص 127) نقلا عن ترجمته المذكورة في آخر الجزء الثاني من الكشاف المطبوع بمصر (قوله) : إذا سئلوا عن مذهبي لم أبح به * واكتما كتمانه لي أسلم فإن حنفيا قلت قالوا بأنني * أبيح الطلا وهو الشراب المحرم وإن مالكيا قلت قالوا بأنني * أبيح لهم لحم الكلاب وهم هم وإن شافعيا قلت قالوا بأنني * أبيح نكاح البنت والبنت محرم وإن حنبليا قلت قالوا بأنني * ثقيل حلولي بغيض مجسم وإن قلت من أهل الحديث وحزبه * يقولون تيس ليس يدري ويفهم تعجب من هذا الزمان وقدم معشرا * على أنهم لا يعلمون وأعلم ومذ أفلح الجهال أيقنت أنني * أنا الميم والأيام أفلح اعلم ومن شعره قوله كثر الشك والخلاف فكل * يدعي الفوز والصراط السوي فاعتصامي بلا إله سواه * ثم حبي لأحمد وعلي فاز كلب بحب أصحاب كهف * كيف أشقى بحب آل نبي = (*)

ص 158

هذه الخيانة التي ارتكبها الناصب أولا في مقام الإجماع يظهر للناظر فساد ما فرعها عليه في مقام التفصيل ، ولعله أخذ ذلك من كلام نقله شارح العقائد بعد الكلام الذي نقلناه عنه قبيل ذلك ، ثم رد عليه ، والناصب غير ذلك الكلام نحو تغيير على وفق هواه ، وترك رده لمخالفته لما أهواه ، قال الشارح : فإن أجيب بأن المراد أن القدرة إن صلحت للضدين لكنها من حيث التعلق بإحداهما لا تكون إلا معه حتى إن ما يلزم مقارنتها للفعل هي القدرة المتعلقة بالفعل وما يلزم مقارنتها للترك هي القدرة المتعلقة بالترك ، وأما نفس القدرة فقد تكون متقدمة متعلقة بالضد ، قلنا : هذا لا يتصور فيه نزاع ، بل هو لغو من (1) الكلام انتهى ، وأما ما ذكره من الجواب عن إلزام المصنف فمردود من وجهين ، أحدهما أن المصنف قد استدل على ما ذكره بمنافاته لمفهوم القدرة والناصب لم يتعرض له وحرر كلام المصنف على وجه آخر واعترض عليه بالترديد الذي ذكره ، وحيث كان الاعتراض على كلام نفسه فحصر الاعتراض فيما ذكره من التنوير مظلم ، وذلك لأن من أحاط به البناء من جميع جوانبه إن كانت تلك الإحاطة المستلزمة لعدم الانفكاك بفعل نفسه فيصدق عليه أنه كان قادرا قبل ذلك على الانفكاك من ذاك المضيق ، فتكون قدرته صالحة للضدين وإن كان بإجبار غيره وإدخاله إياه في ذلك المضيق فحيث كل مسلوب القدرة عند الايقاع في ذلك المضيق لا يصدق

(هامش)

= والمترجم معروف بالاعتزال عند القوم متهم بالتشيع عند بعض المترجمين له فراجع الريحانة ذلك الجزء . (1) والشاهد على اللغوية صريح الوجدان من دون افتقار إلى الدليل إذ البرهان لمن فقد الذوق والوجدان قال : القاضي الشهيد في بيان اللغوية في الهامش ما لفظه : لأنه لا نزاع لأحد في أن القدرة المتعلقة بالإيمان مع الإيمان والقدرة المتعلقة بالكفر مع الكفر فهو كلام بلا فائدة . (*)

ص 159

عليه أنه كان قادرا على شيء فلا يصدق عليه أنه قادر على الكون في ذلك المضيق لأن العرف إنما يحكم على قدرته إذا كان قبل ذلك قادرا على الكون وعدمه والمفروض خلافه ، فقوله إنه قادر على الكون في مكانه كذب كما لا يخفى ، على أن دعوى الإجماع في ذلك مردود بما ذكره الرازي في بعض كتبه حيث قال : عند عد الاختلافات الواقعة بين المعتزلة والأشاعرة في هذه المسألة ، الاختلاف الثاني أن الممنوع من جميع أضداد الشيء هل يكون ممنوعا من ذلك الشيء وذلك كمن أحاط به بناء محكم من جميع جوانبه مانع له من الحركة إلى جميع الجهات هل يكون ممنوعا من السكون في ذلك المكان ؟ فالذي ذهب إليه الجبائي (1) المنع واستدل على ذلك بثلاثة مسالك ، الأول ممتنع ، وبيان الملازمة أنه إذا كان قادرا على السكون وقد عدم كل مانع فالتمكن لازم بالضرورة ، أما بيان انتفاء اللازم فهو أن المتمكن من فعل الشيء يستدعي عندنا أن يكون متمكنا من فعله وتركه ، والسكون غير متمكن من تركه بل هو مضطر إليه على ما لا يخفى (انتهى)

(هامش)

(1) هو الشيخ أبو علي محمد بن هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان الجبائي ، كان من أكابر المتكلمين وقدوة للمعتزلة ، آرائه ومقالاته مشهورة في الكتب الكلامية ، أخذ العلم عن جماعة ، منهم والده أبو هاشم المذكور ، توفي سنة 303 في البصرة وقيل في غيرها . والجبائيان هما صاحب الترجمة ووالده المذكور ثم لا يخفى أن كثيرا ما يشتبه الأمر وتسند مقالات أبي هاشم هذا إلى أبي هاشم العلوي من ذرية محمد بن الحنفية فلا تغفل . وأبان جد أبي هاشم من موالي عثمان بن عفان على ما في الريحانة (ج 1 ص 253)

ص 160

قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الخامس عشر في الإرادة

ذهبت الإمامية وجميع المعتزلة إلى أن الإنسان مريد لأفعاله ، بل كان قادر فإنه مريد لأن الإرادة صفة تقتضي التخصيص وأنها نفس الداعي ، وخالفت الأشاعرة في ذلك فأثبتوا صفة زائدة عليه وهذا من أغرب الأشياء أعجبها ، لأن الفعل إذا كان صادرا عن الله ومستندا إليه وأنه لا مؤثر إلا الله فأي دليل يدل حينئذ على ثبوت الإرادة وكيف يمكنهم ثبوتها لنا ؟ لأن طريق الاثبات هو أن القادر كما يقدر على الفعل كذلك يقدر على الترك ، فالقدرة صالحة للإيجاد والترك ، وإنما يتخصص أحد المقدورين بالوقوع دون الآخر بأمر غير القدرة الموجودة وغير العلم التابع ، فالمذهب الذي أختاره لأنفسهم سد عليهم ما علم وجوده بالضرورة ، وهو القدرة والإرادة فلينظر العاقل المنصف من نفسه هل يجوز له اتباع من ينكر الضروريات ويجحد الوجدانيات وهل يشك عاقل في أنه قادر مريد ؟ وأنه فرق بين حركاته الاختيارية (الإرادية خ ل) وحركته الجمادية ؟ وهل يسوغ لعاقل أن يجعل مثل هؤلاء وسائط بينه وبين ربه وهل تتم له المحاجة عند الله تعالى بأني اتبعت هؤلاء ولا يسئل يومئذ كيف قلدت من تعلم بالضرورة بطلان قوله ؟ وهل سمعت تحريم التقليد في الكتاب العزيز (1) مطلق فكيف لأمثال هؤلاء ؟ فما يكون جوابه غدا لربه ؟ وما علينا إلا البلاغ (2) ، وقد طولنا في هذا الكتاب ليرجع الضال عن زلله ، ويستمر المستقيم على معتقده .

(هامش)

(1) والآيات الدالة على ذم التقليد في الاعتقاديات كثيرة ، منها قوله تعالى في سورة الزخرف . الآية 23 : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة يس . الآية 17 .

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب