ص 161
قال الناصب خفضه الله أقول : هذا المطلب لا يتحصل مقصوده من عباراته الركيكة ،
والظاهر أنه أراد أن الأشاعرة لا يقدرون على إثبات صفة الإرادة لأن إسناد الفعل إلى
الله وأنه لا مؤثر القدرة والإرادة في العبد معلوم بالضرورة ، وكونهما غير مؤثرتين
في الفعل لا يوجب عدم ثبوتهما في العبد كما مر مرارا والله أعلم ، وما ذكره من
الطامات قد كرره فرات ، ومن كثرة التطويل الذي كله حشو حصل له الخجل وما أحسن ما
قلت في تطويلاته شعر : وقد طولت والتطويل حشو * * وفيما قلته نفع قليل وقالوا الحشو
لا التطويل لكن * كلامك كله حشو طويل أقول قد بينا سابقا بطلان ما ذكره الناصب فيما
سلف على وجه لا مزيد عليه ولا تتوجه مناقشة إليه فتذكر . وأما ما نسبه إلى المصنف
من الطامات وإيراد الحشو في العبارات فهو إنما يليق بأصحابه الحشو الملقبين
بالحشوية (1) ، وحاشا عن أن يوجد في كلام المصنف العلم العلامة حشو أو تطويل لا
يؤدي إلى طائل كما لا يخفى على فصيح عن التعصب مائل (2) ، وإنما نسبه الناصب إلى
التطويل لبعده عن فهم كلام أهل التحصيل وكونه عن المصنف في فزع وعويل مع أن في شعر
المبرود
(هامش)
(1) قد مر المراد بهم في (ج 1 ص 175) . (2) مال إن عديت : (إلى) أفادت التوجه إلى
الشيء وإن عديت : (عن) أفادت الإعراض عنه . (*)
ص 162
ما لا يخفى من الحشو المردود ، أما في البيت الأول فلأن قوله التطويل حشو غير بصحيح
لما حقق (1) من مغايرتهما في علم المعاني ، فيكون تطويلا بلا حشوا وأما في البيت
الثاني فلأن قوله طويل حشو لا يناسب مقصوده ، لأن المردود هو التطويل لا مطلق
الكلام الطويل ، وها أنا أقول في مقابلة ما أنشده من شعره الحشو الذميم مخاطبا إياه
بما يستحقه من الطعن والشتم الأليم شعر : أراك على شفا جرف عظيم * بما أوعيت جوفك
من قضيم (1) لعلك أنت لم ترزق أديبا * لكي يعركك عركا (3) للأديم (4) وأنت الحشو
تعزى الحشو جهلا * إلى عالي كلام من عليم براعته (5) كوحي من كلام * يراعته (6) عصا
ليد الكليم أما أنت الذي أكثرت لحنا * وقد تنعق (7) نعيقا كالبهيم وكم ألفت من لفظ
ركيك * وكم رتبت من قول عقيم لأوهن من بيوت العنكبوت * وأهون من قوي العظم الرميم
(هامش)
(1) قال المحقق التفتازاني في شرحه المختصر على تلخيص المفتاح : التطويل أن يزيد
اللفظ على الأصل المراد لا لفائدة ولا يكون اللفظ الزائد معينا . والحشو أن يزيد
اللفظ على الأصل المراد لا لفائدة ويكون اللفظ الزائد معينا . (2) علف الدابة . (3)
عرك الأديم : دلكه . (4) الجلد المدبوغ . (5) برع براعة : فاق علما أو فضيلة أو
جمالا . (6) واحدة اليراع : القصب . (7) نعق نعيقا الغراب : صاح . (8) اقتباس من
قوله تعالى في سورة العنكبوت . الآية 41 . (*)
ص 163
لتبلع دائما من جوع جهل * فضولا قائه (1) طبع اللئيم تعيد القول من سلف إلى من *
مرارا رده رد المليم (2) كفاية أنه في سالف الدهر * جرى مجرى الكلام المستقيم كمن
يأكل خرى من غاية الحمق * لما قد كان خبزا في القديم لقد أنشدت وأنشدنا جزاء * فذق
ما أنت بالعز الكريم (3) جزاء عاجل هذا ولكن * ستصلى آجلا نار الجحيم (4) لقد هاجت
لدين الله نفسي * فعذري واضح عند الكريم وماج الطبع مع حلمي وحسبي * معاذ الله من
غضب الحليم قال المصنف رفع الله درجته
المطلب السادس عشر في المتولد 
ذهبت
الإمامية إلى أن المتولد (5) من أفعالنا مستند إلينا ، وخالف أهل السنة في ذلك
وتشعبوا في ذلك وذهبوا كل مذهب
(هامش)
(1) قائه قيئا : ألقاه من فمه . (2) فعيل بمعنى المفعول من لام يلوم ملامة أي عدل .
(3) اقتباس من قوله تعالى في سورة الدخان . الآية 49 . (4) هو بمعنى جهنم وكل مكان
شديد الحر . (5) ونعم ما قال الشريف الحجة الآية محمد باقر الطباطبائي قدس سره في
المقام . الفعل أن أولد فعلا انتسب * كلاهما إلى مباشر السبب ولا يريب من له شعور *
في أنه كأصله مقدور ولا ينافي كونه مقدوره * وجوبه العارض بالضروره وقال الشريف
الجائسي (قده) : وما من الأفعال قد تولدا * * لقد غدا للفاعلين مسندا لحسن مدحهم
وحسن الذم * * لهم عليه عند أهل الحلم = (*)
ص 164
فزعم معمر (1) : أنه لا فعل للعبد إلا الإرادة وما يحصل بعدها فهو من طبع المحل
وقال بعض المعتزلة : لا فعل للعبد إلا الفكر ، وقال النظام (2) لا فعل للعبد إلا ما
يوجده في محل قدرته وما تجاوزها فهو واقع بطبع المحل ، وذهبت الأشاعرة إلى أن
المتولد من فعل الله ، وقد خالف الكل ما هو معلوم بالضرورة عند كل عاقل فإنا نستحسن
المدح والذم على المتولد كالمباشر للكتابة والبناء والقتل وغيرها ، وحسن المدح
والذم فرع على العلم بالصدور عنا ، ومن كابر في حسن مدح الكاتب والبناء المجيدين في
صنعتهما المتبوعين فيهما (المتبرعين بها خ ل) فقد كابر
(هامش)
= ويلحق الوجوب للسبب * بالغير من بعد اختيار السبب وليس في ذم الذي ألقى الصبي *
فأحرقته النار ذات اللهب للخصم ما يغنيه في الاملاق * إذ ذا على الالقاء لا الاحراق
والأولى إحالة المسألة إلى وجدان العرف وفهم العقلاء حيث تراهم لا يتوقفون في
استناد الأفعال التوليدية إلى مباشري أسبابها مع كون الدواعي والإرادات متوجهة
غالبا إلى المسببات وهي العلل الذاتية لصدور الأسباب كما هو واضح عند من نبذ
الشبهات هنيئة وتجرد عن شعار الاعتساف ودثار الجهل عصمنا الله منها آمين . (1) هو
معمر بن عباد السلمي قال الشهرستاني في الملل (ج 1 ص 89) ما لفظه : أنه أعظم
القدرية في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر خيره وشره من الله والتكفير
والتضليل على ذلك وانفرد عن أصحابه بمسائل إلى آخر ما قال . وعد منا إنكار قدمه
تعالى * ومنها أنه تعالى لم يخلق غير الأجسام ومنها عدم تناهي الأعراض إلى غير ذلك
فراجع . (2) هو إبراهيم بن سيار هاني أبو إسحاق البصري من رؤساء المعتزلة ، أخذ عنه
الجاحظ وهو عن خاله أبي الهذيل ، وله تصانيف في الكلام ومقالات مشهورة ، وإليه تنسب
الطائفة النظامية من المعتزلة ، قال في الريحانة (ج 4 ص 207) : أنه توفي سنة 231
وعندي في ذلك نظر فتأمل .
ص 165
مقتضى عقله (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : إعلم أن المعتزلة لما أسندوا
أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتبا قالوا بالتوليد : وهو أن يوجد فعل لفاعله فعلا
آخرا نحو حركة اليد وحركة المفتاح والمعتمد في إبطال التوليد عند الأشاعرة استناد
جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداءا وأما ما ترتب المدح والذم للعبد فلأنه محل
للفعل ومباشر وكاسب له وكذا ما يترتب على فعله ، وإن أحدثه الله تعالى بقدرته فلا
يلزم مخالفة الضرورة كما مرا مرارا (انتهى) . أقول ما اعتمد عليه مهدوم بما بيناه
مرارا من استناد بعض الممكنات كقبائح الأفعال إلى العبد دونه تعالى ، وبما أوضحناه
من إبطال القول بالكسب وأنه لا يؤدي إلى طائل ولا يرجع إلى حاصل فتذكر واستقم (1)
كما أمرت . قال المصنف رفع الله درجته
المطلب السابع عشر : في التكليف 
لا خلاف
(2) بين المسلمين في أن الله كلف
(هامش)
(1) مأخوذ من قوله تعالى فاستقم كما أمرت . (2) ونعم ما قال الشريف الجائسي الحائري
الهندي في المقام . واعتبرت في حسنه شروط * فحسنه بكلها مضبوط أي التكليف خلوه عن
جهة الفساد * لكونه ظلما على العباد وأن يكون قبل وقت العمل * ليمكن الإيجاد في
المستقبل وأن يكون ممكنا إيجاده * كي يستتب خارجا مراده وأن يكون الفعل ذار جحان *
في الفعل أو في الترك لا سيان = (*)
ص 166
عباده فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، وأن التكليف سابق على الفعل ، وقالت الأشاعرة
هاهنا مذهبا غريبا عجيبا ، وهو أن التكليف بالفعل حالة الفعل لا قبله وهذا يلزم منه
محالات (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : لما ذهبت الأشاعرة إلى أن القدرة مع
الفعل والتكليف لا كون إلا حال القدرة ، فيلزم أن يكون التكليف مع الفعل ، وهذا شيء
لزم من القول الأول (انتهى) . أقول قد عرف إبطالنا للقول الأول ، فيلزم إبطال ما
لزم منه من القول الثاني والله المستعان . قال المصنف رفع الله درجته وهذا يلزم منه
محالات ، الأول أن يكون التكليف بغير المقدور ، لأن الفعل حالة وقوعه يكون واجبا
والواجب غير مقدور (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : لا نسلم أن الواجب غير
مقدور مطلقا ، بل ما أوجبته القدرة الحادثة فهو
(هامش)
= وأن يكون قادرا من كلفا *
على الذي غدا به مكلفا وعالما به ولو بالقوة * وواجدا لما يفيد القوة إلى آخر ما
أفاد ، فلله دره حيث أشار إلى شروط حسن التكليف ومنها تقدمه على المتعلق الذي هو
مورد البحث فاحفظ وكن من الشاكرين . ثم إن بعض المتكلمين من أصحابنا كشيخنا الفاضل
المقداد قد نسب في كتابه إرشاد الطالبين (ص 136 ط هند) قبح التكليف حتى مع اجتماع
شرائط حسنه إلى البراهمة من الهند وغيره في غيره فلاحظ . (*)
ص 167
مقدور لتلك القدرة التي أوجبها ، وكذلك فعل العبد بعد الحصول ، فيكون مقدورا ، وإذا
صار مقدورا تعلق به التكليف ولا محذور فيه (انتهى) . أقول هذا المنع مكابرة بل
مخالف لإجماع العقلاء ، كيف ولو كان الواجب مقدورا لكان حركة المرتعش والساقط من
المنارة مثلا مقدورا أيضا وهو سفسطة لا تخفى . قال المصنف رفعه الله الثاني يلزم أن
لا يكون أحد عاصيا البتة ، لأن العصيان مخالفة الأمر ، فإذا لم يكن الأمر ثابتا إلا
حالة الفعل وحالة العصيان هي حالة عدم الفعل فلا يكون مكلفا حينئذ وإلا لزم تقدم
التكليف على الفعل وهو خلاف مذهبهم ، لكن العصيان ثابت بالإجماع ونص القرآن ، قال
الله تعالى : أفعصيت أمري (1) ولا أعصى لك أمرا (2) الآن قد عصيت قبل (3) ويلزم
انتفاء الفسق الذي هو الخروج من الطاعة أيضا ، فلينظر العاقل لنفسه هل يجوز لأحد
تقليد هؤلاء الذين طعنوا في الضروريات فإن كل عاقل يعلم بالضرورة من دين النبي (ص)
أن الكافر عاص وكذا الفاسق يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح
لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم (4) فأي سداد في هذا القول المخالف لنصوص القرآن
(انتهى) قال الناصب الله خفضه أقول : الأمر عندنا قديم أزلي فكيف ينسب إلينا أن
الأمر عندنا لم يكن ثابتا
(هامش)
(1) طه . الآية 93 . (2) الكهف . الآية 69 . (3) يونس . الآية 91 . (4) الأحزاب .
الآية 71 . (*)
ص 168
إلا حالة الفعل ، وأما قوله : حالة العصيان حال عدم الفعل فنقول : ممنوع لأن الأمر
إذا توجه إلى المكلف وتعلق به فهو إما أن يفعل المأمور أو لا يفعل ، فإن فعل
المأمور فهو مطيع ، وإن فعل غيره فهل عاص ، الطاعة والعصيان يكونان مع الفعل ،
والتكليف حاصل معه ؟ والحاصل أن عصيان الأمر مخالفة وإذا صدر الفعل عن المكلف فإن
وافق الأمر فهو طاعة وإن خالفه فهو عصيان ، فالعصيان حاصل حال الفعل ولا يلزم أصلا
من هذا الكلام أن لا يكون العصيان ثابتا ، وأما قوله : والعصيان ثابت وإقامة الأدلة
على هذا المدعى فهو من باب طاماته وإقامته الدلائل الكثيرة على مدعى ضروري في الشرع
متفق عليه (انتهى) . أقول يظهر من كلام الناصب هاهنا أنه جاهل بمذهبه أيضا ، فإن
الأمر الذي ذهب أصحابه إلى قدمه هو الأمر المعنوي الذي لا معنى له كما سيجئ تحقيقه
في مسائل أصول الفقه دون الأمر التنجيزي ، والتكليف إنما هو بالأمر التنجيزي لظهور
أن المكلف لا اطلاع له على الأمر المعنوي الأزلي ، وأما ما ذكره من منع ما زعمه قول
المصنف وهو أن حالة العصيان حالة عدم الفعل فهو منع وارد ، لكن نعلم قطعا إن الناصب
خان في النقل ، وإنما قول المصنف إن العصيان حال عدم الأمر ، وهذا هو الذي يرتبط به
باقي كلام المصنف ولم يقبل المنع كما لا يخفى ، وكيف يقول فاضل فضلا عن المصنف
العلامة : إن العصيان حال عدم الفعل مع أن العصيان ليس إلا فعل المعصية كما ذكره
الناصب ، وأما إقامة المصنف الأدلة الكثيرة على المدعى الضروري ، فضروري له لأن
الكلام مع من كان من شأنه المكابرة على
ص 169
الضروري ، فيلزمه سوق الكلام على قدر فهمه (1) ، والتكلم معه على مقدار عقله لما قد
قيل شعر : صد پرده پست كرده ام آهنك قول خويش * * تابو كه ان سخن بمذاق تو در شود
قال المصنف رفع الله درجته الثالث : لو كان التكليف حالة الفعل خاصة لا قبله لزم
إما تحصيل الحاصل أو مخالفة التقدير ، والتالي باطل بقسميه بالضرورة فالمقدم مثله ،
بيان الشرطية أن التكليف إما أن يكون بالفعل الثابت حالة التكليف أو بغيره ، والأول
يستلزم تحصيل الحاصل ، والثاني يستلزم تقدم التكليف على الفعل وهو خلاف الفرض ،
وأيضا هو المطلوب وأيضا يستلزم التكرار (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول :
نختار أن التكليف بالفعل الثابت حالة التكليف ، قوله يستلزم تحصيل الحاصل قلنا :
تحصيل الحاصل بهذا التحصيل ليس بمحال وهاهنا كذلك ، لأن التكليف وجد مع القدرة
والفعل فهو حاصل بهذا التحصيل ، فلا محذور (انتهى) . أقول يكفي في إظهار عناد
الناصب كلام الفاضل البدخشي الحنفي (2) في شرحه للمنهاج
(هامش)
(1) هذا المضمون قد ورد في عدة أحاديث من طرق الفريقين ، منها ما تقدم في الجزء
الأول ص 73 عن الجامع الصغير للسيوطي . ومنها ما نقله المحدث الخبير والعالم
التحرير حجة الإسلام الحاج الشيخ عباس القمي في كتاب سفينة النجاة (ج 2 ص 214 ط
النجف الأشرف) في مادة عقل عن الصادق عليه السلام ما كلم رسول الله (ص) العباد يكنه
عقله قط قال رسول الله (ص) إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم .
(2) قد مرت ترجمته في أوائل هذا الجزء . (*)
ص 170
حيث قال : أقول : والحق في هذه المسألة أن التكليف قبل المباشرة وإلا لزم أن لا
يكون الكافر حال كفره مكلفا بالإيمان وتارك الصلاة بالصلاة بعد دخول الوقت ، وأن لا
يذم تارك المأمور به أصلا : وقال الشارح العضدي (1) فرارا عن الزحف (2) جاعلا
المناقشة لفظية : لا خلاف في ثبوت التكليف بالفعل قبل حدوثه وينقطع بعد الفعل ،
وإنما الخلاف في أنه هل هو باق حال حدوثه لا ينقطع أم لا الخ ، وأما ما ألزمه
المصنف من لزوم تحصيل الحاصل فهو مما ذكره الشارح العضدي في هذا المقام بعبارة أخرى
، وهي لزوم إيجاد الموجود ، وأجاب عنه الفاضل التفتازاني (3) والشارح البدخشي
للمنهاج بما ذكره الناصب هاهنا ظنا منه أنه وجد تمرة الغراب
(هامش)
(1) قد مرت ترجمته في أوائل هذا الجزء . (2) ولا يخفى التعبير التي هي من الكبائر .
(3) هو العلامة المتكلم الأصولي الأديب الشاعر البارع المولى سعد الدين بن عمر بن
عبد الله الهروي الشافعي المتوفى سنة 792 وقيل 793 ، أخذ العلوم واكتسب عن جماعة
منهم العلامة المحقق قطب الدين الرازي ، ومنهم العلامة القاضي عضد الدين الإيجي
الشيرازي وغيرهما ، له تصانيف وتآليف رائقة ككتاب المقاصد في علم الكلام والشرح على
العقايد للنسفي ، وكتاب السعدية في شرح الشمسية في الميزان للكاتبي القزويني وشرح
على العزية في الصرف لعز الدين الزنجاني وكتاب التهذيب في المنطق والكلام وشرح على
أربعين حديثا للشيخ النووي ، والمطول في شرح تلخيص المفتاح وهو أشهر آثاره بحيث صار
مركز للإفادة والاستفادة وعندي أنه أحسن من عروس الأفراح ونشأة الراح وغيرهما من
شروح التلخيص من حيث التحقيق والتعمل والتدقيق ، وعلق العلماء من الفريقين تعاليق
وحواشي عليه كحاشية العلامة الشريف الجرجاني وحاشية المولى حسن الچلبي وحاشية عبد
الحكيم السيالكوتي وحاشية الخواجه أبي القاسم السمرقندي وحاشية شيخنا البهائي
وحاشية سلطان العلماء السيد حسين الحسيني المرعشي وحاشية الفاضل الهندي وحاشية
السيد علي خان المدني لم تتم ولنا تعليقة = (*)
ص 171
أو مس عرب الأتراب (1) مع أنه غير متوجه على عبارة الكتاب ، وذلك لأن اللازم من كون
التكليف بالفعل الثابت الموجود حال التكليف كما ذكره المصنف هو تحصيل الحاصل الثابت
بتحصيل سابق على هذا التحصيل لا بنفس هذا التحصيل لا بنفس هذا التحصيل كما لا يخفى
، وسيجئ لهذا مزيد إيضاح في المسائل الأصولية إن شاء الله تعالى . قال المصنف رفع
الله درجته
المطلب الثامن عشر : في شرائط التكليف : 
ذهبت الإمامية إلى أن شرائط
التكليف
(هامش)
= لطيفة مختصرة عليه سميناها بالمعول في أمر المطول لم تتم ، وحاشية الميرزا محمد
آل داود الهمداني نزيل مشهد الكاظمين عليهما السلام إلى غيره ذلك من الحواشي
والشروح وللمترجم أشعار رائقة منها قوله في تعداد عدة من الأضداد في لغة العرب . ده
لفظ از نوادر الفاظ بر شمر * * هر لفظ را دومعنى وآن ضد يكد گر جون وصريم وسدفه وظن
است وشف وبين * * قرء است وهاجد وجلل ورهوه اى پسر ولا يخفى أن الجون مشترك بين
الأبيض والسود ، والصريم بين الصباح والمساء ، والسدفة بين النور والظلمة ، والظن
بين الشك واليقين ، والشف بين القليل والكثير والبين بين الوصل والفصل ، والقره بين
الطهر والحيض ، والهاجد بين النائم واليقظان ، والجلل بين الصغير والكبير ، والرهوة
بين الارتفاع والانخفاض . ثم إن وفاة المترجم كانت بسرخس من بلاد خراسان وتفتازان
قرية من قرى بلدة (نسا) وله عقب بتلك الديار نبغ بينهم جمع من العلماء والأدباء
والأطباء والحكماء . أشهرهم شيخ الإسلام المشتهر بالحفيد وهو المولى أحمد بن يحيى
بن مسعود بن عمر المذكور له تآليف في الفنون المتنوعة منها كتاب أورد فيه من كل علم
ما لا محيص عنه قتل سنة 916 . (1) متخذ من قوله تعالى في سورة الواقعة . الاية 37 .
(*)
ص 172
ستة الأول وجود المكلف (1) لامتناع تكليف المعدوم ، فإن الضرورة قاضية بقبح أمر
الجماد وهو إلى الإنسان أقرب من المعدوم ، وقبح أمر الرجل عبيدا يريد أن يشتريهم
وهو في منزله وحده ويقول : يا سالم قم ، ويا غانم كل ، ويعده كل عاقل سفيها وهو إلى
الإنسان الموجود أقرب ، وخالفت الأشاعرة في ذلك فجوزوا تكليف المعدوم ومخاطبته
والإخبار عنه فيقول الله تعالى : في الأزل يا أيها الناس اعبدوا ربكم (2) ولا شخص
هناك ويقول إنا أرسلنا نوحا (3) ولا نوح هناك ، وهذه مكابرة في الضرورة (انتهى) .
قال الناصب خفضه الله أقول : قد عرفت جواب هذا في مبحث إثبات الكلام النفساني وأن
الخطاب موجود في الأزل قبل وجود المخاطبين يحسب الكلام النفساني ويحدث التعلق عند
وجودهم ولا قبح في هذا ، فإن من زور في نفسه كلاما ليخاطب به العبيد الذين يريد أن
يشتريهم بأن يخاطبهم بعد الاشتراء لا يعد سفيها ، ثم ما ذكر أن الأشاعرة
(هامش)
(1) لا يخفى أن هناك مسائل وقع الخلاف فيها منها جواز مخاطبة المعدوم بإلقاء الكلام
نحوه للتفهيم كالخطابات المتوجهة إلى الموجودين . ومنها توجيه التكليف نحو المعدوم
كالموجود ومنها إنشاء الكلام لا بداعي التفهيم ولا التكليف فلا ، وأصحابنا معاشر
الإمامية وجماعة الزيدية وأكثر المعتزلة ذهبوا إلى الامتناع في المسألتين والأوليين
وذهب أكثر الأشاعرة إلى الجواز فيهما خالفهم أبو عذبة صاحب الروضة البهية فوافق
أصحابنا والمعتزلة ، وأما الثالثة فقد ذهب عدة إلى الجواز ، ومن رام تفصيل ذلك
فليراجع إلى مبحث الخطابات الشفاهية في علم الأصول يجد بها أنشودته الضالة هناك .
(2) متخذ من القرآن الكريم في سورة البقرة . الآية 21 . (3) متخذ من القرآن الكريم
في سورة نوح . الآية 1 . (*)
ص 173
جوزوا تكليف المعدوم ، فهذا ينافي ما أثبته في الفصل السابق ، أنهم يقولون : إن
التكليف مع الفعل ، وليس قبله تكليف ، فإذا كان وجود التكليف عند الأشاعرة مع الفعل
، فهل يجوز عندهم أن يقولوا بتكليف المعدوم ؟ . أقول قد بينا عند أبطال الكلام
النفساني يرجع إلى العلم كما يدل عليه أيضا قول الناصب هاهنا : فإن من زور في نفسه
كلاما ليخاطب به الخ والكلام هاهنا في صحة الخطاب والأمر والخطاب والنهي ، فإثبات
الكلام النفسي على الوجه المذكور لا يدفع قبح الأمر والخطاب في الأزل ، ولو أريد
بالكلام النفسي الأزلي ما يتحقق في ضمن الخطاب والأمر فهو كالخطاب والأمر قبيح غير
معقول أيضا كما لا يخفى ، ثم ما ذكره من أن ما نسب المصنف إلى الأشاعرة من جواز
تكليف المعدوم ينافي ما نسبه إليهم سابقا من أن التكليف مع الفعل مردود ، بأن غاية
ما يلزم من ذلك توجه اعتراض آخر على الأشاعرة بتنافي أقوالهم لا على المصنف ، نعم
لو لم يثبت النقل في أحد الموضعين لتوجه على المصنف أنه خان في النقل ، وهو بحمد
الله تعالى برئ عن ذلك كما لا يخفى على المتتبع ، والله أعلم . قال المصنف رفع الله
درجته الثاني : كون المكلف عاقلا فلا يصح تكليف الرضيع ولا المجنون المطبق ، وخالفت
الأشاعرة في ذلك ، وجوزوا تكليف هؤلاء ، فلينظر العاقل هل يحكم عقله بأن يؤاخذ
المولود حال ولادته بالصلاة وتركها وترك الصوم والحج والزكاة ، وهل يصح مؤاخذة
المجنون المطبق على ذلك انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : مذهب الأشاعرة أن
القلم مرفوع عن الصبي حتى يبلغ الحلم وعن المجنون
ص 174
حتى يفيق ، وما ذكره افتراء محض كما هو عادته في الافتراء والكذب والاختراع (انتهى)
. أقول ما ذكره مضمون الحديث (1) لا مذهب الأشاعرة والدليل عليه أنهم جوزوا تكليف
المعدوم كما مر قبيل ذلك ، فلا يستبعد منهم القول بجواز تكليف الصبي والمجنون بل
تكليفها أولى بالجواز من تكليف المعدوم كما لا يخفى ، وكيف ينكر ذلك مع ذكر
احتجاجهم والرد عليهم في كتب الأصول فإنهم احتجوا بأن الأمر بالمعرفة إن توجه على
العارف لزم تحصيل الحاصل ، وإلا ثبت المطلوب ، لاستحالة معرفة الأمر قبل معرفة
الأمر وبأن الغرامة تجب على الصبي المجنون ولقوله تعالى : ولا تقربوا الصلاة ،
وأنتم سكارى والجواب أن المعرفة واجبة عقلا ولا بالأمر وإيجاب الغرامة لا يستلزم
الوجوب على المجنون والصبي ، فإن وجوب ضمان قيمة التلف وثبوت الزكاة في أموالهم لا
يتعلقان بأفعالهم وليس ذلك تكليفا لهم ، بل هو من باب الأسباب والمكلف بإخراجها
الولي ، وصلاة المميز غير مأمور بها من جهة الشارع بل من جهة الولي ، وخطابه مفهوم
للصبي بخلاف خطاب الشارع ، وبأن المراد بالسكران هاهنا من ظهرت منه مبادي الطرب ولم
يزل عقله وهو الثمل (2) ، وأيضا قال الشارح البدخشي للمنهاج عند قول المصنف :
المسألة الثانية
(هامش)
(1) رواه صاحب التاج الجامع الأصول (ج 1 ص 154 ط مصر) عن أبي داود والنسائي والحاكم
بأسانيدهم المنتهية ، إلى علي عليه السلام عن النبي (ص) قال : رفع القلم عن ثلاثة ،
عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل ، وورد في الجامع
الصغير للسيوطي (الجزء الأول ص 600) عن علي عليه السلام وعن عايشة . (2) بفتح الثاء
المثلثة وكسر الميم ، من أخذه شرب السكر . (*)
ص 175
لا يجوز تكليف الغافل من أحال تكليف المحال : وأما القائلون بجواز التكليف بالمحال
فقد اختلفوا فيه ، فالجمهور ذهبوا إلى جوازه ومنعه بعضهم الخ ، ولا ريب أن المجوزين
للتكليف بالمحال هم الأشاعرة وتكليف الغافل يشمل تكليف الصبيان والمجانين ، فصح ما
نسبه المصنف هاهنا إليهم كما لا يخفى . قال المصنف رفع الله درجته الثالث فهم
المكلف ، فلا يصح تكليف من لا يفهم الخطاب قبل فهمه ، وخالفت الأشاعرة في ذلك ،
فلزمهم التكليف بالمهمل وإلزام للمكلف معرفته ومعرفة المراد منه مع أنه لم يوضع
لشيء البتة ولا يراد منه شيء أصلا ، فهل يجوز للعاقل أن يرضى لنفسه إلى هذه
الأقاويل ؟ (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : مذهب الأشاعرة أنه لا يصح خطاب
المكلفين بما لا يفهمونه مما يتعلق بالأمر والنهي ، وما لا يتعلق به اختلف فيه ،
فذهب جماعة منهم إلى جواز المخاطبة بما لا يفهمه المكلف كالمقطعات في أوائل السور ،
ولكن ليس هذا مذهب العامة (انتهى) . أقول كفى في صدق كلام المصنف كون ذلك مذهبا
لجماعة من الأشاعرة كما اعترف الناصب وأما التشنيع في ذلك فراجع إلى الكل بدليل قول
شاعرهم : جه از قومي يكي بي دانشي كرد * * نه كه را منزلت مانده نه مه را قال
المصنف رفع الله درجته الرابع : إمكان الفعل (1) من المكلف فلا يصح التكليف بالمحال
، وخالفت
(هامش)
(1) إعلم أن مخالفة الأشاعرة في هذه المسألة مبنية على ما أصلوه في باب العقليات من
= (*)
ص 176
الأشاعرة فيه ، فجوزوا تكليف الزمن من الطيران إلى السماء ، وتكليف العاجز خلق مثل
الله تعالى وضده وشريكه وولد له ، وأن يعاقبه على ذلك ، وتكليفه الصعود إلى السطح
العالي بأن يضع رجلا في الأرض ورجلا على السطح ، وكفى من ذهب إلى هذا نقصا في عقله
وقلة في دينه وجرما عند الله تعالى ، حيث نسبه إلى إيجاد ذلك ، بل مذهبهم أنه تعالى
لم يكلف أحد إلا بما لا يطاق ، وترى ما يكون جواب هذا القائل إذا وقف بين يدي الله
تعالى وسأله كيف ذهبت إلى هذا القول وكذبت القرآن العزيز وأن فيه لا يكلف الله نفسا
إلا وسعها (1) (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : قد عرفت في الفصل الذي ذكر
فيه بيان تكليف ما لا يطاق ، أن ما لا يطاق على ثلاث مراتب ، ولا يجوز التكليف
بالوسطى دون الثالثة والأولى واقعة بالاتفاق كتكليف أبي لهب بالإيمان وهذا بحسب
التجويز العقلي ، والاستقراء يحكم بأن التكليف بما لا يطاق لم يقع ، ولقوله تعالى
(2) : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، هذا مذهب الأشاعرة ، والعجب مع هذا الرجل أنه
يفتري الكذب ثم يعترض عليه فكأنه لم يتفق له مطالعة كتاب في الكلام على مذهب
الأشاعرة وسمع عقايدهم
(هامش)
= إنكار الحسن والقبح العقليين ، فارتكبوا خلاف بديهة العقل فتفرع عليه القول
بالمناكير في كثير من المسائل كالمسألة المبحوثة عنها فيما نحن فيه وإلا فاشترط
إمكان الفعل من المكلف مما لا ينبغي البحث عنه ، وقد ألجأ المصنف العلامة إليه ما
ارتكبته الأشاعرة من مخالفة بديهة العقل . (1) اقتباس من قوله تعالى في سورة البقرة
. الآية 286 . (2) البقرة . الآية 286 . (*)
ص 177
من مشايخه من الشيعة ، وتقرر بينهم أن هذه عقائد الأشاعرة ، ثم لم يستحي من الله
ومن الناظر في كتابه وأني بهذه الترهات والمزخرفات (انتهى) . أقول قد سبق في الفصل
الذي ذكره الناصب أن تفصيل المراتب على الوجه الذي ذكره لا يسمن ولا يغني عن جوع ،
وأن ما ظنه افتراء من المصنف عليهم من قبيل أن بعض الظن إثم ، لكن الناصب العاجز
المسكين حيث لا يقدر على إخراج نقد من كيسه يموه للشغب ، (1) فتارة يعيد المزيف من
كلام أصحابه ، وتارة ينكر مذهبه ، وأخرى يطير من غصن إلى غصن ، ولا محيص له بشيء من
ذلك إن شاء الله تعالى . قال المصنف رفع الله درجته الخامس أن يكون الفعل ما يستحق
به الثواب ، وإلا لزم العبث والظلم على الله تعالى ، وخالفت الأشاعرة فيه فلم
يجعلوا الثواب مستحقا على شيء من الأفعال ، بل جوزوا التكليف بما يستحق عليه العقاب
وأن يرسل رسولا يكلف الخلق فعل جميع القبائح وترك جميع الطاعات ، فلزمهم من هذا أن
يكون المطيع المبالغ في الطاعة من أسفه الناس وأجهل الجهلاء وحيث يتعب بماله وبدنه
في فعله شيئا ربما يكون هلاكه فيه ، وأن يكون المبالغ في المعصية والفسوق أعقل
العقلاء ، وضع المدارس والربط والمساجد من أنقص التدبيرات البشرية حيث يخسر الأموال
فيما لا نفع له ولا فائدة عاجلة ولا آجلة (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول :
شرط الفعل الذي يقع به التكليف أن يكون مما يترتب عليه الثواب في
(هامش)
(1) تهييج الشر . (*)
ص 178
عادة الله تعالى إلا أنه يجب على الله تعالى إنابة المكلف المطيع ، لأنه لا يجب
عليه شيء ، بل جرى عادة الله تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح ، وليس
للمكلفين على الله دين يجب عليه قضاءه ، ولو كان الأمر كذلك للزم أن تكون العباد
متاجرين (1) معاملين مع الله كالأجراء الذين يأخذون أجراتهم عند الفراغ من العمل
ولو لم يعط المؤجر أجرتهم لكان ظالما وجائرا ، وهذا مذهب باطل لا يذهب إليه من يعرف
نعم الله تعالى على عباده ويعرف علو الشأن الإلهي ، وأن الناس كلهم عبيد له ، يعطي
وجرى عادته أن يعطي العبد المطيع عقيب طاعته كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل
الخبز ، وهل يحسن أن يقال : إذا لم يجب على الله تعالى إعطاء الشبع عقيب أكل الخبز
يموت يموت الناس من الجوع ؟ كذلك لا يحسن أن يقال لو لم يجب على الله تعالى إنابة
المطيع وجزاء العاصي لارتفع الفرق بين المطيع والعاصي ، ولكان فعل الخيرات وإثارة
المبرات ضائعا عبثا لأنا نقول : جرت عادة الله التي لا تتخلف إلا بسبيل الخرق على
إعطاء الثواب للمطيع من غير أن يجب عليه شيء ، فلم يرتفع الفرق بين المطيع والعاصي
كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، فهل يكون من أكل الخبز فشبع كمن ترك
أكل الخبز فجاع (انتهى) . أقول قد بينا سابقا انهدام البناء على العادة ، فلا حاجة
إلى الإعادة ، وكذا سبق الكلام في أن الوجوب الذي يدعيه أهل العدل ليس معناه ما
زعمته الأشاعرة ، وإنما المعنى به ما يحكم به صحيح العقل ويؤيده صريح النقل ، ومنه
قوله تعالى : كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده
وأصلح
(هامش)
(1) متاجرين جمع متاجر من تاجر يتاجر وفي بعض النسخ المخطوطة تاجرين . (*)
ص 179
فإنه غفور رحيم (1) ، ولا يلزم من الوجوب بالمعنى المشار إليه أن يكون الجزاء
كالدين وإن جاز أن يكون بعض العطايا في ذمة همة الجواد الحكيم كالدين ، وأما لزوم
كون العباد متاجرين معاملين ، فلا مانع من العقل والنقل في التزامه لأن الله تعالى
هو الذي أرشدهم إلى التجارة والمعاملة والفرض ، ووعدهم الجزاء في يوم العرض بقوله :
جزاءا بما كانوا يعملون (2) ، إنما تجزون ما كنتم تعملون (3) وما تنفقوا من خير يوف
إليكم وأنتم لا تظلمون (4) ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير
لكم إن كنتم تعلمون (5) ، ما عندكم ينفد وما عند الله باق ، ولنجزين الذين صبروا
أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (6) ، إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن
لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل
والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، ذلك هو الفوز
العظيم (7) الآية . وقوله تعالى : في سورة واحدة هي سورة الحديد : فالذين آمنوا
منكم وأنفقوا لهم أجمر كبير (8) ، وكلا وعد الله الحسنى والله
(هامش)
(1) الأنعام . الآية 54 . (2) الواقعة . الآية 24 . (3) الطور . الآية 16 . (4)
البقرة . الآية 272 . (5) النحل . الآية 95 . (6) النحل . الآية 96 . (7) التوبة .
الآية 111 . (8) الحديد . الآية 7 . (*)
ص 180
بما تعلمون خبير ، من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (1) ،
وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم (2) ، فآتينا الذين آمنوا منهم
أجرهم (3) ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين (4) من
رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم (5) ، إلى غير ذلك من
الآيات والروايات ، وأما قول الناصب : لو لم يعطهم لكان ظالما جائرا فمجاب ، بأنا
هكذا نقول ولا فساد فيه كما لا فساد في القول بأنه تعالى لو أدخل الأنبياء في النار
والأشقياء في الجنة كان ظالما جائرا فافهم ، وأما ما ذكره من مثال الموت من الجوع
فلا يغني من جوع ، لأن ذلك إنما لا يحسن لأنه ليس بواجب على الله تعالى عند أهل
العدل ، وإنما الذي أوجبوه على الله تعالى الألطاف المقربة وما وعدهم الله تعالى من
الثواب بإزاء الطاعة ، والعقاب بإزاء المعصية ونحو ذلك ، وأما إعطاء الشبع عقيب أكل
الخبز ، فلم يقل أحد بوجوبه على الله تعالى ، لجواز أن يكون ذلك (6) من قبيل سائر
الأسقام والآلام الذي يمتحن الله تعالى به العبد ، فالذي يجب عليه تعالى حينئذ عوض
تلك الآلام على التفصيل الذي سيأتي في كلام المصنف عن قريب ، وحيث ظهر بهذا بطلان
ما ذكر بقوله : وهل يحسن أن يقال الخ ؟ ظهر بطلان ما فرعه عليه بقوله : كذلك لا
يحسن أن يقال الخ : فاحسن التأمل ، وأما ما ذكره من أن عادة الله تعالى التي لا
تتخلف قد جرت على إعطاء
(هامش)
(1) الحديد . الآية 11 . (2) الحديد . 18 . (3) الحديد . الآية 28 . (4) الكفل
بالكسر النصيب والحظ . (5) الحديد الآية 29 . (6) أي عدم الشبع عقيب الأكل . م .
(*)
ص 181
الثواب الخ ، ففيه ما مر من أن هذه العادة لما لم تكن واجبة ولو بطريق الخرق ، فجاز
أن تنعكس القضية ، فلا يحصل الفرق ويرتفع الأمان عن الوعد والوعيد كما مر غير بعيد
، وبالجملة أن أصحاب الناصب يويئسون العباد من رحمة الله وعدله بتجويزهم التخلف في
ترتب الثواب والعقاب وأن يعذب الله تعالى من غير ذنب ، وأنه خلق خلقا للنار ، فلا
تنفعهم الطاعة ، وآخر للجنة فلا تضرهم المعصية فلا تسكن نفس مطيع بطاعة ولا تخاف
نفس عاص عن معصية ، بل هم يغرون بالمعاصي ويسهلونها بقولهم : ما قدره الله كان وما
لم يقدره لم يكن ، فلا يبقى وجه للصبر عن المعصية والتحفظ عنها كما لا يخفى . قال
المصنف رفع الله درجته السادس أن لا يكون حراما لامتناع كون الشيء الواحد من الجهة
الواحدة مأمورا به منهيا عنه ، لاستحالة التكليف بما لا يطاق أن يكون الشيء مرادا
ومكروها في وقت واحد من جهة واحدة من شخص واحد ، وهذا مستحيل عقلا ، وخالفت أهل
السنة (الأشاعرة خ ل) في ذلك ، فجوزوا أن يكون الشيء الواحد مأمورا به منهيا عن
لإمكان تكليف ما لا يطاق عندهم (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : لا خلاف في
أن المأمور به لا بد أن لا يكون حراما لأن الحرام ما نهى الله تعالى عنه ولا يكون
الشيء الواحد مأمورا به منهيا عنه في وقت واحد من جهة واحدة ، ولكن إن اختلف الوقت
والجهة والشرائط التي اعتبرت في التناقض ، يجوز أن يتعلق به الأمر في وقت من جهة
والنهي في وقت آخر من جهة أخرى (1) ، فهذا
(هامش)
هذا على جواز الاجتماع وجعل في الخارج مركبا انضماميا من الفعلين اللذين أحدهما
محبوب والآخر مبغوض ، وهو أول الكلام والحق الحقيق بالقبول المنصور = (*)
ص 182
مذهب أهل السنة ، وأما إمكان التكليف بما لا يطاق فقد سمعته غير مرة ، وأنه لا يقع
ولم يقع (انتهى) . أقول سيجئ تحقيق هذه المسألة في الموضع اللائق بها من مسائل
الفقه فانتظر . قال المصنف رفع الله درجته والعجب أنهم حرموا الصلاة في الدار
المغصوبة ومع ذلك لم يوجبوا القضاء وقالوا : إنها صحيحة مع أن الصحيح هو المعتبر في
نظر الشرع ، وإنما يطلق على المطلوب شرعا ، والحرام ير معتبر في نظر الشارع مطلوب
الترك شرعا ، وهل هذا إلا محض التناقض (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول :
الصلاة الصحيحة ما استجمعت شرائط الصحة التي اعتبرت في الشرع ، فالصلاة في الدار
المغصوبة صحيحة لأنه مستجمعة لشرائط الصحة التي اعتبرت في الصلاة في الشرع ، وليس
وقوعها في مكان طاهر من النجاسات ، ولو كان من شرائط الصحة وقوعها في مكان غير
منصوب لكان الواقع في المكان المغصوب منها فاسدا وكان يجب قضاؤها لكونها غير معتبرة
في نظر الشرع لعدم استجماعها الشرائط المعتبرة فيها ، وأما كونها حراما فلأجل أنها
تتضمن الاستيلاء على حق الغير عدوانا فهي بهذا الاعتبار حرام ، فالحرمة باعتبار
والصحة باعتبار آخر ، فأين التناقض
(هامش)
= المؤيد الدليل كما سيأتي في الغرض لمسائل الأصولية هو القول بالامتناع ، وأن
الباب باب الاتحاد لا الانضمام وأدلة القول بالاجتماع بجميع تقاريبه مدخولة فاصبر
فإن الصبر مفتاح الفرج . (*)
ص 183
والعجب أنه مشتهر بالدربة (1) في المعقولات ولا يعلم شرائط حصول التناقض (انتهى) .
أقول ستجئ هذه المسألة أيضا في مسائل أصول الفقه لكن نذكرها هنا أنموذجا لئلا يظن
الناظر في أول النظر أنه وعد بلا وفاء ، فنقول : إن ما ذكره من أن وقوع الصلاة في
مكان مملوك غير مغصوب ليس من شرائط الصلاة الخ مردود ، بأن الكلام في الصلاة
الشخصية في الدار المغصوبة ، وتحقق التلازم بين الغصب والصلاة فيها ظاهر ، والأمر
بالشيء أمر بلوازمه كما حقق في الأصول ، فلو كانت هذه الصلاة مأمورا بها لكان الغصب
مأمورا به مع كونه منهيا عنه (هف) ، والتعجب الحاصل للناصب من كلام المصنف إنما نشأ
من أنه أكب مدة عمره على تقليد الأشعري البليد الذي به يسخر ولا يدري أي طرفيه أطول
من الآخر ، فإذا ورد على سمعه قول يخالف رأي الأشعري يفزع ويتعجب منه ويرده ولا
يقبله بكل حيلة وينسب قائله إلى الجهل لجمود طبعه وإفتاء عمره في التقليد الذي من
خواصه أن يكون مقلده بليدا في أضيق تقييد ، وقال الرئيس (2) المحقق في الحكمة
اليونانية ، إن من تعود (3) أن يصدق من غير دليل فقد انسلخ عن الفطرة الإنسانية .
(هامش)
(1) يقال درب دربا ودربة إذا كان عاقلا وحاذقا بصناعته ثم العجب من هذا الرجل البذي
حيث يعبر عن مولينا العلامة مع أنه صرح في أوائل الكتاب بمهارته في العلوم العقلية
فكأنه نسي ما تقدم أو يتناسى عنادا . (2) قد مرت ترجمته في أوائل هذا الجزء . (3)
ويحكى عن الفخر الرازي نظير هذه العبارة وهي من تعود أن يقبل المسائل العلمية من
غير دليل فهو عنين أهل العلم . (*)
ص 184
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب التاسع عشر : في الأعواض (1) 
ذهبت الإمامية إلى
أن الألم الذي
(هامش)
(1) عرف المتكلمون العوض بأنه النفع المستحق الخالي عن تعظيم وإجلال ، فالنفع
بمنزلة الجنس شامل له ولغيره ، ويقيد المستحق يخرج التفضل ، وبقيد الخالي عن
التعظيم يخرج الثواب ، وهو قسمان أحدهما مستحق علينا لا عليه تعالى ، وذلك يجب أن
يكون مساويا للألم لا أزيد ولا أنقص ، وإلا لزم الظلم للمؤلم لو كان زائدا ،
وللمتألم لو كان ناقصا ، وثانيهما مستحق عليه تعالى ، وذلك يجب أن يزيد على الألم
إلى حد الرضا عند كل شخص بحيث لو عرض عليه الألم والعوض الزايد لاختار الألم رغبة
في ذلك العوض ، إذ لولا الزيادة لقبح الألم إذ لا فائدة فيه (انتهى) . وفي مسألة
الأعواض مباحث بين علماء الكلام طوينا عنها كشحا فلنكتف بأبيات في المقام تكميلا
للفائدة . قال الشريف الآية محمد الباقر الحجة الحائري في منظومته . فالبعث والزجر
من اللطيف * لطف فلا بد من التكليف ولا ينافي الكلفة المستتبعة * لما استحق من جزيل
المنفعة ولا تقس بالجرح والتداوي * فبالثواب ارتفع التساوي وليس مثل الفوز بالجنان
* شيء من العروض والأثمان فلا يقاس ما يوف عوضا * يوم الجزا بما يناط بالرضا الخ
وقال الشريف الجائسي الهندي الحائري في باب الأعواض من نظمه : وذاك نفع مستحق خال *
عن جهة التعظيم والاجلال وإن دهى العبد أسى أو مرض * منه تعالى فعليه العوض وهكذا
تفويته المنافعا * مهما لأجل الغير كان واقعا وهكذا انزاله للغم * إن يكن استناده
للعلم = (*)
ص 185
يفعله الله بالعبد إما أن يكون على وجه الانتقام والعقوبة وهو المستحق لقوله تعالى
: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة
(هامش)
= وأن يكن ذاك باكتساب * والظن كالعلم بهذا الباب لا ما إلى فعل العباد يستند * إذ
ليس أجره على الفرد الصمد وأمره العبد بما يضر * أو أن يبيح ما هو المضر من ضرر في
النفس أو في المال * فعوض الجميع في المآل على الغني العادل الجواد * إذ لم يكن
بظالم العباد الخ ما أفاد هذا ما أهمنا الايماء إليه في إعواض أفعال الإنسان العاقل
وأما العوض عن الآلام الصادرة عن الحيوانات العجم والمجانين من أفراد البشر فمما
اختلفت فيه كلمة العدلية من الإمامية والمعتزلة ، وإنه هل لها عوض عند الله تعالى
لأنه خلقها ومكنها وجعل فيها ميلا إلى الايلام مع إمكان أن لا يخلقها ولم يجعل فيها
ميلا إلى الإيلام ومع ذلك لم يجعل لها عقلا مميزا بين الحسن والقبح ولا زاجرا مع
إمكان أن يجعل لها ذلك فكان على هذا كالمغرى لها ، فلو لم يكن عوض آلامها لقبح منه
ذلك ، ومن المعتزلة من فصل بين كون الحيوان ملجئا إلى الايلام كما لو أجاعه أياما
متعددة فالعوض عليه تعالى وإن لم يكن فلا وتحقيق الحق وما ينبغي أن يقال موكول إلى
مجال أوسع قال الجائسي في تعداد موارد عدم العوض أو أن يمكن الذي لا يعقل * * عليه
فيما منه حينا يحصل (1 مكرر) أي عوض الآلام عن الله تعالى ابتداء من غير سبق
استحقاق كالأمراض والغموم المستندة إلى علم ضروري أو كسبي أو يقيني أ وظني ، وتفويت
المنافع لمصلحة الغير كالزكاة والمضار الصادرة عن العباد بأمره كالذبح في الهدى
والأضحية أو إباحته كالصيد والمضار الصادرة عن غير العاقل بتمكينه كالآلام الصادرة
عن السباع المولمة ، وبالجملة كل ألم للعبد كان الله تعالى هو الباعث على حصوله
ابتداء سواء كان لقدرة العبد واختياره مدخل فيه أو لا ، فيجب عوضه عليه تعالى ،
وأما ما كان الباعث على حصوله هو العبد عقلا أو شرعا ، كالاحراق عند القاء الإنسان
في النار والقتل = (*)
ص 186
خاسئين (1) ، وقوله : ألا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون
ولا هم يذكرون ، (2) ولا عوض فيه ، وإما على وجه الابتداء وإنما يحسن فعله من الله
تعالى بشرطين ، أحدهما أن يشتمل على مصلحة إما للمتألم أو لغيره ، وهو نوع من اللطف
، لأنه لولا ذلك لكان عبثا والله تعالى منزه عنه ، الثاني أن يكون في مقابلته عوض
للمتألم يزيد على الألم بحيث لو عرض على المتألم الألم والعوض اختار الألم وإلا لزم
(3) الظلم والجور من الله تعالى على عبيده ، لأن إيلام الحيوان وتعذيبه على غير ذنب
ولا لفائدة تصل إليه ظلم وجور وهو على الله تعالى محال ، وخالفت الأشاعرة في ذلك
فجوزوا أن يؤلم الله عبده بأنواع الألم من غير جرم ولا ذنب لا لغرض وغاية ولا يوصل
إليه العوض ، ويعذب الأطفال والأنبياء والأولياء من غير فائدة ، ولا يعوضه على ذلك
بشيء البتة ، مع أن العلم الضروري حاصل لنا بأن من فعل من البشر مثل هذا عده
العقلاء ظالما جائرا سفيها ، فكيف
(هامش)
= عنده شهادة الزور أو كان الباعث عليه هو الله تعالى ، لكن لسبق استحقاق المكلف له
بارتكاب معصية كآلام الحدود ، فلا يجب عوضه عليه تعالى بل عوض الأول على العبد ولا
عوض للثاني . م . (1) البقرة . الآية 65 (2) التوبة . الآية . 126 . (3) حاصل وجه
الملازمة أن الايلام بكل واحد من تلك الآلام على تقدير عدم إيصال العوض يكون إضرارا
محضا من غير مستحق لكونه باعثا عليها ابتداء ، ولا شك في أن الإضرار المحض من غير
استحقاق ظلم ، فيكون الايلام بها على ذلك التقدير ظلما قطعا وإذا ثبت أن عدم إيصال
العوض في تلك الآلام إلى المتألم بها باطل ممتنع ثبت أن إيصال العوض فيها إليه واجب
عليه تعالى وهو المطلوب . هذا خلاصة الكلام في هذا المقام على ما يستفاد من كلامهم
في تقرير المرام . وأنت تعلم أن الفرق بي الغم المستند إلى علم ضروري أو كسبي
والاحراق عند القاء الشخص في النار بأن الباعث على حصول الأول هو الله تعالى وعلى
حصول الثاني هو العبد الملقى مشكل جدا فليتأمل أبو الفتح (*)
ص 187
يجوز لهؤلاء نسبة الله سبحانه إلى مثل هذه النقائص ولا يخشى ربه ، وكيف لا يخجل منه
غدا يوم القيامة إذا سألته الملائكة يوم الحساب هل كنت تعذب أحدا من غير الاستحقاق
ولا تعوضه على ألمه عوضا يرضى به ؟ فيقول كلا ما كنت أفعل ذلك ، فيقال له : كيف
نسبت ربك إلى هذا الفعل الذي لا ترضاه لنفسك (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول
اعلم أن الأعواض مذهب المعتزلة ولهم على هذا الأصل اختلافات ركيكة تدل على فساد
الأصل مذكورة في كتب القوم ، وأما الأشاعرة فذهبوا إلى أن الله تعالى لا يجب عليه
شيء لا عوض على الألم ولا غيره ، لأنه يتصرف في ملكه ما يشاء ، والعوض إنما يجب على
من يتصرف في غير ملكه (1) نعم جرت عادة الله تعالى على أن المتألم بالآلام إما أن
يكفر عنه سيئاته ويرفع له درجاته إن لم تكن له سيئات ولكن لا على طريق الوجوب عليه
، وأما حديث العوض في أفعال الله تعال فقد مر بطلانه فيما سبق ، وأما تعذيب الأطفال
والأنبياء والأولياء ففيه فوائد ترجع إليهم من رفع الدرجات وحط السيئات كما أشير
إليه في الأحاديث الصحاح ، ولكن على سبيل جري العادة لا على سبيل الوجوب ، فلا يلزم
منه جور ولا ظلم ، ثم ما ادعى من العلم الضروري بأن البشر لو عذب حيوانا بلا عوض
لكان ظالما ، فهذا قياس فاسد ، لأن البشر يتصرف في الحيوان بما ليس له والله تعالى
مالك مطلق يتصرف كيف يشاء ، ونحن لا نمنع عدم وقوع الجزاء والمنافع ولكن نمنع
(هامش)
(1) لا يخفى عليك أن الرجل أخذ مسألة تسلط المالك على التصرف في ملك سلاحا وجعله
مبنى لقضية الحسن والقبح كما سبق في مبادئ الكتاب ، وما درى المسكين في هذا الشئون
أن هذه السلطنة هل هي مطلقة ومتسعة بهذه السعة بحيث يفعل كيف يشاء ، وحيثما شاء
وأين شاء ؟ وأنى شاء ؟ أم محدودة ومقيدة بقيود ؟ . (*)
ص 188
وجوب هذا ، ونحن نقول : من يعتقد أن الله تعالى يجب عليه الأعواض عن الآلام إذا حضر
يوم القيامة عند ربه ورأى الجلال الإلهي والعظمة الربانية والتصرف المطلق الذي حاصل
له في الملك والملكوت سيما في موقف القيامة التي يقال فيها : لعن الملك اليوم ، ؟
لله الواحد القهار (1) أما يكون مستحييا من الله تعالى أن يعتقد في الدنيا أنه مع
الله تعالى كالتاجر والعامل أعطى الأعمال والآن يريد جزاء الواجب على الله تعالى
فيدعي على الله في ذلك المشهد إنك عذبتني وألمتني في الدنيا فآلان لا أخليك حتى آخذ
منك العوض لأنه واجب عليك أن تعوضني ، فيقول الله تعالى : يا عبد السوء أنا خلقتك
سويا وأنعمت عليك كيت وكيت أتحسبني كنت تاجرا معك معاملا لك حتى توجب علي العوض ،
ادخلوا العبد السوء النار ، فيقول : علمني ابن المطهر الحلي وهو كان إمامي وأنا
الآن برئ منه ، فيقول الله تعالى : ادخلوا جميعا النار ، كذلك يريهم الله أعمالهم
حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار (2) والله أعلم وهو أصدق القائلين (انتهى) .
أقول نعم الأعوض مذهب المعتزلة ، لكن الأصل في ذلك الإمامية والاختلاف بينهم ،
واختلاف المعتزلة إنما وقع لعدم تحقيقهم حقيقة ذلك الأصل على وجه حقه الإمامية ،
فاختلافهم في ذلك الأصل لا يدل على ساده عن أصله ، وإلا لكان الاختلاف في كل أصل من
أصول الدين كصفات الله وأفعاله وصفات النبي والإمام عليهم السلام كذلك ، وفساده
أظهر من أن يخفى ، ولو سلم فاختلاف المعتزلة لا يقدح في مذهب
(هامش)
(1) الغافر . الآية 16 . (2) البقرة . الآية 167 . (*)
ص 189
الإمامية ولا تزر وازرة وزر أخرى (1) ، وأما ما ذهبت إليه الأشاعرة من نفي الوجوب
عليه تعالى فقد مر أنه مبنى على عدم فهمهم لمعنى الوجوب الذي أثبته العدلية ، وأما
حديث التصرف في الملك فقد مر أن التصرف من الملك كائنا من كان إن كان على وجه حسن
فحسن ، وإن كان على وجه قبيح فقبيح ، وحديث جريان العادة قد جرى عليه ما جرى ،
وحثونا (2) على رأس قائله تراب الثرى ، وإثبات الفوائد في تعذيب الأطفال ونحوه بعد
تجويز أن يعذبهم من غير جرم كما ترى ، وفي حكمه بفساد قياس المصنف بناء على حديث
التصرف في الملك فساد لا يخفى على الورى ، وفي باقي المقدمات سترى أنه يأكل الخرى ،
وبالجملة إن الله تعالى لما كتب على نفسه الرحمة والافضال ، وأوجب في حكمته وجوده
إعطاء جزاء الأعمال وليس له فقراء وحاجة أو كسالة وكلال ، يدعوه إلى الطلب والدعوى
اضطرار ، كما قال بعض الأبرار نظم : أرباب حاجتيم وزبان سؤال نيست * در حضرت كريم
تقاضا چه جاجتست وكما قلت في جملة قصيدة في مدح مولاي الرضا (ع) نظم : سؤال از تو
چه كه جود ذات ترا * بود تقدم بالذات بر وجود سؤال
(هامش)
(1) الأنعام . الآية 164 . (2) حثا حثوا . وحثى حثيا ، وتحثا : التراب صبه . (*)
ص 190
قال المصنف رفع الله درجته
المسألة الرابعة في النبوة 
وفيه مباحث
المبحث الأول في نبوة محمد (ص) 
اعلم أن هذا أصل عظيم في الدين وبه يقع الفرق بين المسلم والكافر ، فيجب
الاعتناء به وإقامة البرهان عليه ، ولا طريق في إثبات النبوة على العموم ولا على
الخصوص إلا بمقدمتين ، إحديهما أن النبي (ص) إدعى رسالة رب العالمين له إلى الخلق
كافة ، وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض التصديق له ، والثانية أن كل من صدقه الله
فهو صادق ، وهاتان المقدمتان لا يقول بهما الأشاعرة ، أما الأولى فلأنه يمتنع أن
يفعل الله فعلا لغرض من الأغراض أو لغاية من الغايات ، فلا يجوز أن يقال : إنه
تعالى فعل المعجز على يد مدعي الرسالة لا لغرض تصديقه ولا لأجل تصحيح دعواه ، بل
فعله مجانا ومثل هذا لا يمكن أن يكون حجة النبي (ص) ، لأنا لو شككنا في أن الله
تعالى لو فعله لغرض التصديق أو لغيره لم يمكن الاستدلال على صدق مدعي النبوة مع هذا
الشك فكيف يحصل الجزم بصدقه مع الجزم بأنه لم يفعله لغرض التصديق وأما الثانية
فإنها لا تتم على مذهبهم ، لأنهم يسندون القبائح كلها إلى الله تعالى ويقولون : كل
من ادعى النبوة سواء كان محقا أو مبطلا فإن دعواه من فعل الله تعالى وأثره ، وجميع
أنواع الشرك والمعاصي والضلال في العالم من عند الله تعالى ، فكيف يصح مع هذا أن
يعرف أن هذا الذي صدقه صادق في دعواه ، فجاز أن يكذب في دعواه ويكون هذا الاضلال من
الله تعالى كغيره من الأضاليل التي هو فعلها ، فلينظر العاقل هل يجوز له أن يصير
إلى مذهب لا يمكن إثبات نبوة نبي من الأنبياء البتة ولا يمكن الجزم بشريعة من
الشرايع ؟ والله تعالى قد قطع أعذار المكلفين بإرسال الرسل
ص 191
فقال : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (1) وأي حجة أعظم من هذه الحجة عليه
تعالى ؟ ، وأي عذر أعظم من أن يقول العبد لربه تعالى : إنك أضللت العالم وخلقت فيهم
الشرور والقبائح ، وظهر جماعة خلقت فيهم كذب ادعاء النبوة وآخرون ادعوا النبوة ولم
تجعل لنا طريقا إلى العلم بصدقهم ، ولا سبيل لنا إلى معرفة صحة الشرايع التي أتوا
بها ، فيلزم انقطاع حجة الله تعالى ، وهل يجوز لمسلم أو من يخشى الله تعالى وعقابه
أو يطلب الخلاص من العذاب ، المصير إلى هذا القول نعوذ بالله من الدخول في الشبهات
(انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : هذا الكلام المموه الخارج عن طريق المعقول
قد ذكره قبل هذا بعينه في مسألة خلق الأعمال وقد أجبنا عنه هناك ، ولما أعاد الكلام
في هذا المقام لزمنا مؤنة الإعادة في الجواب فنقول ، أما المقدمة الأولى من
المقدمتين اللتين ادعى توقف النبوة ثبوت النبوة عليهما وهو أن النبي ادعى الرسالة
وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض التصديق له فقد بينا قبل هذا أن غاية إظهار
المعجزة والحكمة والمصلحة فيه تصديق الله تعالى النبي فيما ادعاه ، وهذا يتوقف على
كون إظهار الله المعجزة مشتملا على الحكمة والمصلحة والغاية ، لا على إثبات الغرض
والعلة الغائية الموجبة للنقص والاحتياج ، فثبت المقدمة الأولى على رأي الأشاعرة ،
وبطل ما أورد عليهم ، وأما المقدمة الثانية وهي أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق
فهذا شيء ثبته الأشاعرة ، ويستدلون عليه بالدلائل الحقة الصريحة ، ولا يلزم من خلق
الله تعالى القبائح التي ليست بقبيحة بالنسبة إليه أن يكون كل مدعي النبوة سواء كان
(هامش)
(1) النساء . الآية 165 . (*)
ص 192
محقا أو مبطلا دعواه من الله تعالى ، وماذا يريد من أن دعوى المحق والمبطل من الله
؟ إن أراد أنه من خلق الله تعالى ، فلا كلام في هذا ، لأن كل فعل يخلقه الله تعالى
؟ وإن أراد أنه مرضى من الله تعالى والله يرسل المحق والمبطل ، وهذا باطل صريح ،
فإنه تعالى لا يرضى لعباده الكفر والضلال (1) وإن كان بخلقه وتقديره كما سمعت مرارا
، وكل من يدعي النبوة وهو مبعوث من الله فقد جرت عادة الله تعالى على إظهار المعجزة
بيده لتصديقه ولم تتخلف عادة الله عن هذا ، وجرت عادته التي خلافها جار مجرى المحال
العادي بعدم إظهار المعجزة على يد الكذاب ، والحاصل أن الأشاعرة يقولون : بعدم وجوب
شيء على الله تعالى ، لأنه المالك المطلق ، ولا يجب عليه شيء ، وما ذكره من أنه كيف
يعرف أن هذا الذي صدقه صادق في دعواه ، فنقول : بتصديق المعجزة يعرف هذا ، قوله :
يجوز أن يظهر المعجزة على يد الكاذب ، قلنا : ماذا تريدون أنه يجوزه العقل بحسب
العادة ، فنقول : هذا ممتنع عادة ، ويفيدنا العلم العادي بأن هذا لا يجري في عادة
الله تعالى كالجزم بأن الجبل الفلاني لم يصر الآن ذهبا ، فلا يلزم ما ذكر وأما ما
أطال من الطامات والترهات فتعمل بقوله تعالى واعرض عن الجاهلين (2) انتهى . أقول
أولا : إن تخصيصه لإعادة الكلام بهذا المقام مما لا وجه له ، لأن جميع المراتب
كلامه إعادة منه لما نقلها المصنف من كلام أقوامه ، غاية الأمر أنه إعادة على
(هامش)
(1) كما يشهد له قوله تعالى في سورة الزمر . الآية 7 . (2) الأعراف . الآية 99 .
(*)
ص 193
طريقة إعادة الثورة لما قضمه مرة بأن زاده هضما ومضرة ، وثانيا إن ما ذكره في بيان
اتجاه المقدمة الأولى على رأي الأشاعرة غير موجه ، لأن المصنف قدس سره عمم في
الكلام وقال لغرض من الأغراض وغاية من الغايات ، فيشتمل الغاية التي اعترف الناصب
باعتبارها في الأفعال فكيف يصير ذلك جوابا دافعا لكلام المصنف ، نعم لو قال في
الجواب : إن الأشعري لا ينفي مطلق الغاية لكان متجها لكنه ناف لذلك كما شحنوا (1)
به كتبهم ، فالقول بالغاية مطلقا من قبل الأشعري لدفع الالزام عنه يكون وكالة
فضولية ، والحاصل أن الأشعري ينفي مطلق الغاية والغرض ، سواء أخذ بمعنى العلة
الغائية أو الفائدة والمصلحة ، وكيف يكون قائلا بذلك مع تصريحه بنفي أن يكون للفعل
جهة محسنة أو مقبحة في ذاته وفي صفاته اللازمة أو الجهات والاعتبارات كما مر في
مبحث الحسن والقبح (2) ، ولو كان قائلا بما اعترف به الناصب من قبله لما خفي ذلك
على الفاضل التفتازاني من ابتاعه المتعصبين له ، ولما قال في مقام الرد عليه من
شرحه على شرح المختصر : الحق أن تعليل بعض الأفعال سيما شرعية الأحكام والمصالح
ظاهر كإيجاب الحدود والكفارات وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك ، والنصوص أيضا شاهدة
بذلك كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (3) ومن أجل ذلك كتبنا على
بني إسرائيل (4)
(هامش)
(1) فمن ذلك ما ذكره في شرح المواقف (ج 2 ص 401 ط مصر) : المقصد الثامن في أن أفعال
الله تعالى ليس معللة بالأغراض ، إليه ذهب الأشاعرة وقالوا لا يجوز تعليل أفعاله
تعالى بشيء من الأغراض والعلل الغائية . (2) في الجزء الأول ص 341 . (3) الذاريات .
الآية 56 . (4) المائدة . الآية 32 . (*)
ص 194
الآية فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين (1) الآية ، ولهذا
يكون القياس حجة إلا عند شرذمة ، وأما تعميم ذلك فمحل بحث انتهى كلامه ، وبالجملة
لو كان النزاع في التعبير عن منشأ الحكم بالغرض والعلة الغائية دون المصلحة
والغائية دون المصلحة والغاية كما ذكره الناصب لما اضطر ذلك الفاضل إلى المحاكمة
تخصيص المبحث ، والملخص أن العلة الغائية والغرض والمصلحة متقاربة في المعنى وتكلف
الفرق بينها والهرب من بعضها إلى بعض كما ارتكبه بعض المتأخرين إنما هو لضيق الخناق
(2) لا لقصد الاتفاق ، وعلى التقديرين فمرحبا بالوفاق . وأيضا الدليل الذي قاد
الأشعري إلى نفي التعليل وهو لزوم تأثر الرب عن شعوره بخلقه كما ينفي التعليل ينفي
مراعاته للمصالح أيضا ، فلا وجه لنسبة إثبات المصالح في الأفعال إليه ، وقد ذكرنا
هذا الدليل مع ما فيه في أوايل الكتاب والله الموفق للصواب ، وثالثا أن ما ذكره في
توجيه المقدمة الثانية من الترديد مردود قوله في الشق الأول : لا كلام في هذا ،
قلنا فيه كلام من وجوه ، منها ما مر في بحث خلق الأفعال ، ومنها أنه إذا كان دعوى
المحق والمبطل من خلق الله تعالى ولم يكن شيء من القبائح قبيحا بالنسبة إلى الله
تعالى (3) فمن أين يعلم أن
(هامش)
(1) الأحزاب . الآية 37 . (2) قد مر شرح هذا التعبير في (ج 1 ص 225) (3) قال
الجرجاني في شرح قواعد العقائد : اعلم أن النظام من المعتزلة ذهب إلى أن القبائح لا
تصح أن تكون مقدورة لله تعالى ، وأهل السنة يوافقونه في هذا الإطلاق ، وإن كان
الخلاف باقيا من حيث المعنى ، فإن النظام يريد به أنه تعالى غير قادر على خلق الجهل
والكذب والألم الذي لا يكون مسبوقا بحياته ولا يكون مخلوقا بعض ، وأما أهل السنة
فقد اتفقوا على أنه تعالى قادر على هذه الأشياء موجد لها ، ولكن إيجاده لها غير
قبيح أصلا لأن الحسن والقبح عندهم لا يثبتان إلا بالشرح . انتهى . منه (قده) . (*)
ص 195
هذا قبيح منهي عنه خلقه الله تعالى في مدعي النبوة ، وأجرى كسب العبد على وفقه حتى
لا نقبله أو حسن مرضى له تعالى حتى نتبعه ، والاعتراف بكونه لا يرضى لعباده الكفر
والضلال إنما يفيد لو كان هناك ما يتميز به عند العقل الكفر والضلال عن غيره ، وأما
إذا كانت الأفعال سواسية (1) في عدم اتصافها بالحسن والقبح الذاتي والوصفي
والاعتباري كما ذهب إليه الأشعري فكيف يهتدي المكلف إلى أن ذلك المخلوق فيه حسن
مرضي لله تعالى أو قبيح ليس بمرضي له ، وأما ما ذكره من الترديد في المجاز بقوله :
أتريدون الامكان العقلي الخ ، ففيه من التحمل (2) والتمويه ما لا يخفى ، لأنه جعل
الامكان العقلي مقابلا للتجويز العقلي بحسب العادة ، مع أن المتقابلين في هذا
المقام هما الامكان العقلي والامكان العادي ، وليت شعري ما معنى تجويز العقل بحسب
العادة ؟ ! وبالجملة أنا نختار الشق الأول ونقول : المراد الامكان العقلي بمعنى
تجويز العقل وقوع الكذب ، فيصير حاصل دليل المصنف أنه على تقدير نفي القبح العقلي
لا يمتنع الكذب عليه تعالى امتناعا عقليا ، بمعنى أن يجزم العقل بسلب صدوره عنه
تعالى ، إذ لا دليل على هذا الجزم إلا أنه يقبح عقلا صدور القبح عنه ، وإذا لم يجزم
العقل بسلب صدور القبيح عنه تعالى فيجوز إظهار المعجزة على يد الكاذب وإذا جوز
العقل ذلك انسد باب إثبات النبوة ، فلا يثبت نبوة بني كما ذكره المصنف (قده)
والحاصل أنهم إذا اعترفوا بجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب وتصديقه تعالى إياه
فمجرد الدعوى في الجزم بعدمه غير كاف ، ضرورة أنه ليس ببديهي ، بل لا بد من إثباته
حتى يثبت
(هامش)
(1) السواء : العدل والوسط والمستوى ، والجمع أسواء وسواسي وسواسية وسواسوة على غير
القياس ، ولا يخفى أنها من الجموع المولدة لا الأصلية المعهودة من عصر الجاهلية
التي يستشهد بها في كلام العرب العرباء . (2) تمحل الشيء : احتال في طلبه . (*)
ص 196
به النبوة ، ولا دليل عليه على طريقة الأشعري ، أما شرعا فلعدم ثبوت الشرع قبل ثبوت
النبوة ، وأما عقلا فلفرض أن ليس في الأفعال بحسب ذواتها وصفاتها واعتباراتها ما
يحسنها أو يقبحها كما زعمه حتى يستدل به العقل على حالها من الحسن والقبح والرضا
والسخط ، وأما عادة فلأنها كما مر عبارة عن تكرار (تكرر خ ل) أمر من غير علاقة
عقلية ، فلا يجري في معجزة النبي الأول بل الثاني كما سبق ، بل ربما لا يفيد في
معجزة نبينا خاتم الأنبياء (ص) فإن من بعث نبينا إليهم من أهل الجاهلية الذي نشأوا
في أيام فترة الرسل ربما لا يكون لهم اطلاع على أحوال الأنبياء السابقين ومعجزاتهم
وكيفية جريان العادة فيها فكيف يحصل لهم العلم العادي بصدق مدعي النبوة وكذبه ، فلا
محالة يلزم الافحام وسد باب إثبات النبوة ، وقد ظهر بما قررنا به الدليل وأوضحنا به
السبيل أن تشبيه ما في كلام المصنف من حقايق الإلهامات بالترهات والطامات تعصب فاسد
وتمويه كاسد لا يروج إلا على من حرم التوفيق ولم ينعم النظر في أول ما يفجئونه من
الزفير والشهيق والتيتال (1) المشتبه بالتدقيق والله الموفق . قال المصنف رفع الله
درجته :
المبحث الثاني في أن الأنبياء معصومون (2) 
ذهبت الإمامية كافة إلى أن
الأنبياء
(هامش)
(1) قد مر معنى هذه اللفظة المولدة في (الجزء الأول ص 432) فراجع . (2) لا يذهب على
اللبيب الخبير أن من المسائل المختلف فيه بين فرق المسلمين بل وغيرهم مسألة عصمة
الأنبياء ، قال مولينا فخر آل رسول سيدنا الشريف المرتضى ذو المجدين علم الهدى قدس
لطفه وأجزل تشريفه في كتابه المسمى بتنزيه الأنبياء (ص 2 ط تبريز) ما لفظه : اختلف
الناس في الأنبياء (ع) ، فقالت الشيعة الإمامية لا يجوز عليهم شيء من المعاصي
والذنوب كبيرا كان أو صغيرا لا قبل النبوة لا بعدها ، أو يقولون في الأئمة مثل ذلك
وجوز أصحاب الحديث والحشوية على الأنبياء الكبائر = (*)
ص 197