الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 241

وعين الرضا عن كل عيب كليلة * * ولكن عين السخط تبدي المساويا أقول استدلال الناصب وأصحابه على عدم الحرمة منحصر في هذه الرواية وما يشاكلها مما شنع عليه الخصم فإن استند في الحكم بعدم الحرمة بهذه الرواية كان مصادرة (1) ، وإن كان له دليل آخر من القرآن والإجماع فليذكر حتى ينظر في دلالته على أن قول أبي بكر مزمارة الشيطان صريح في أنه فعل الشيطان ولم ينكر عليه النبي (ص) في قوله هذا ، ولعله أراد بجواز اللعب المذكورة في موضعه قوله تعالى : إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة (2) الآية كما استدل به عبيد (3)

(هامش)

(1) المصادرة على المطلوب عبارة عن جعل المدعى عين الدليل أو جزئه وهي على أربعة أقسام (1) أن يكون المدعى عين الدليل (2) أن يكون جزئه (3) أن يكون موقوفا عليه صحة الدليل (4) أن كان موقوفا عليه صحة جزء الدليل ، والكل باطل للزوم الدور الباطل ، وتجمع المصادرة بالمصادرات و(ح) كثيرا ما يشتبه الأمر على الناظر ، ولا يميز المصادرات جمع المصادرة باصطلاح آداب البحث والمناظرة عن المصادرات المصطلحة في الميزان وهي عبارة عن المبادي التصديقية التي غير بينة بنفسها ، وأخذها المتعلم من المعلم بالانكار والشك فلا تغفل . (2) الحديد . الآية 20 . (3) هو العلامة المولى نظام الدين عبيد الله الزاكاني القزويني ، الفقيه المحدث الشاعر الأديب الرياضي الفلكي من مشاهير بلاد العجم في المجون والظرائف ، أورده العلامة البحاثة المتتبع الميرزا عبد الله أفندي في باب العين من كتابه النفيس رياض العلماء وأحدثنا عليه وقال ستر علمه هزله . وكذا ذكره المؤرخ حمد الله المستوفي القزويني في تاريخ گزيده ص 845 وقال ما محصله : إنه من طائفة (زاكان) فرع من بني خفاجة نزلوا بلدة قزوين الخ وله آثار لطيفة ، = (*)

ص 242

الزاكاني في رسالة الأخلاق (1) ومن جانب أصحاب مذهب المختار فليضحك وليه قليلا (2) ، وأما ما احتمله من أن أبا بكر لم يعلم جواز ذلك في العيد فكفى نقصا له حيث جهل ما علمته طفلته الصغيرة والجاريتان وأما ما ذكره من تتمة الحديث فهو من إضافاته ومخترعاته التي لا تروج إلا على جاهل مثله ، مع ما فيه من لزوم جهل أبي بكر بما علمه الأطفال والسوقية كما مر وأما ما ذكره من أنهن كن يظهرن السرور بمقدم رسول الله (ص) وهو عبادة مدفوع بأن السرور عبادة ، لكن ما قرنوه به من اللعب مع الدف معصية ، والكلام فيه وفي رقص النبي (ص) وأما ما ذكره من أن ترك المروءة في أمثال هذه الأمور التي توجب الألفة والموافقة وتطيب الخواطر وتشريع المسائل جائز مردود بأن كثيرا مما يعد من ترك المروءة ويقدح في العدالة اتفاقا ربما يوجب الألفة والموافقة مع جماعة لا يبالون بترك المروءة والتقوى ، فعلى قياس ما ذكره يلزم أن يكون

(هامش)

= منها المنظومة الشهيرة السائرة (موش وگربه) أي الفارة والهرة وقد طبعت مرات ، وترجمت بالألسنة المختلفة ، وخمست وطبعت وسدست وسبعت وكتاب المنتخبات في الظرائف ، ورسالات أخلاق الأشراف ، ورسالة دلكشا ، ورسالة التعريفات وكتاب في الفقه ، وأكثر تآليفه وتصانيفه على سبيل الدعابة والهزل ما ذلك إلا لأغراض عقلائية في ذلك ، وحتى يتمكن من إفشاء الحق وشرح حال أبناء الزمان في سترة وبالجملة الرجل من النوابغ في الأدب . توفي سنة 772 وقيل سنة 771 وقيل غير ذلك ، وكان ولده المولى إسحاق الزاكاني أيضا من الأدباء والبلغاء ، فراجع المقدمة التي كتبها المرحوم فقيد التاريخ الميرزا عباس خان إقبال الآشتياني على الكليات للمترجم وطبع بطهران سنة 1334 . (1) فراجع رسالة أخلاق الأشراف للزاكاني (ص 18 طبع طهران) . (2) اقتباس من قوله تعالى في سورة التوبة الآية 82 . (*)

ص 243

جائزا وهو مما لا يقول به عاقل مسلم ، وأما إرادة تشريع المسائل فقد علمت ما فيه . قال المصنف رفع الله درجته وفي الصحيحين (1) أن ملك الموت لما جاء ليقبض روح موسى (ع) لطمه موسى فقلع (ففقأ خ ل) عينه فكيف يجوز لعاقل أن ينسب موسى مع عظمته وشرف منزلته وطلب قربه من الله تعالى والفوز بمجاورة عالم القدس إلى هذه الكراهة ؟ وكيف يجوز منه أن يوقع بملك الموت (ع) ذلك وهو مأمور من قبل الله تعالى انتهى . ؟ قال الناصب خفضه الله أقول الموت بالطبع مكروه للانسان وكان موسى (ع) رجلا حادا كما جاء في الأخبار والآثار ، فلما صح الحديث وجب أن يحمل على كراهته للموت ، وبعثته الحدة على أن لطم ملك الموت كما أنه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وهذا الاعتراض وراد على ضرب هارون وكسر ألواح التوراة التي أعطاه الله تعالى إياها هدى ورحمة ، ويمكن أن يقال : كيف يجوز أن ينسب إلى موسى إلقاء الألواح وطرح كتاب الله تعالى وكسر لوحه إهانة لكتاب الله ، وكيف يجوز له ضرب هارون وهو نبي مرسل ، وكل هذه عند أهل الحق محمول على ما يعرض البشر من الصفات البشرية ، وليس فيه قدح في ملكة عصمة الأنبياء ، وأما عند ابن المطهر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء ولو لم يكن القرآن متواترا ، ونقل لابن المطهر الحلي أن موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه لكان ينكر هذا ويعترض بمثل هذه

(هامش)

(1) رواه البخاري في (ج 4 ص 157 ط مصر) باب وفاة موسى (ع) ورواه مسلم في (ج 7 ص 100 ط مصر صبيح) . (*)

ص 244

الاعتراضات ، فلو أنه أنصف من نفسه يعلم أن ما نقول في تعصبه حق انتهى . أقول وقد حكم القاضي عياض المالكي أيضا بصحة الحديث ، لأنه مذكور نفي كتابين سماهما مؤلفاهما بالصحيح ، وأجاب عما يتضمنه من نسبة الذنب إلى موسى (ع) بأن الحديث ليس فيه ما يحكم على موسى بالتعدي وفعل ما لا يجب له إذ هو ظاهر الأمر بين الوجه جائز الفعل ، لأن موسى دافع من نفسه مدافعة من أتاه لإتلافها ، وقد تصور له في صورة آدمي ولا يمكن أنه علم حينئذ أن ملك الموت فدافعه عن نفسه مدافعة أدت إلى ذهاب عين تلك الصورة التي تصور له فيها الملك امتحانا من الله فلما جائه بعد وأعلمه أنه رسوله إليه استسلم انتهى ، وفيه ما فيه أما أولا فلأن عدم إمكان الاستعلام ممنوع إذ كثيرا ما تتصور الملائكة للأنبياء بصورة غيرهم ويعلمون بهم (1) على أن في الحديث ملك الموت لما رجع إلى ربه وقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه وقل له يضع يده الخ ، وهذا قرينة شعوره بالملك ، وأما ثانيا فلأنه لا وجه للاختيار والامتحان بعد القول بأنه فعل الواجب من المدافعة فافهم ، وقد يجاب بحمل وفقأ عينه على المجاز من قولهم فقأ عين حجته ، فالمراد صكه ولطمه بالحجة وفقأ عين حجته ، وفيه أنه لا يلائم ما وقع في الحديث بقوله : فرد الله عليه عينه ، وأيضا فما المباحثة الواقعة مع ملك الموت عند قبض روحه حتى يحتاج إلى إيراد حجته وإطالته ، وأجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون هذا الفعل وقع منه من غير اختيار ، لأن للموت سكرات انتهى ، وأقول : هذا الجواب الخارج عن الصواب مأخوذ عما سيجئ من قول الثاني في شأن النبي (ص) : إن الرجل ليهجر أو ليهذر وعلى اختلاف الروايتين ، فانظروا أيها الإخوان بنظر الإنصاف والعناية أن سعة ميدان الغواية إلى أي غاية ؟ ثم ليس الكلام في مجرد نسبة الذنب إلى

(هامش)

(1) كما ورد في كتب الفريقين من تصور جبرائيل بصورة (حية الكلبي) فراجع المظان . (*)

ص 245

موسى (ع) بل في سخافة اعتقادهم أيضا أن ملك الموت مع تلك القدرة والتأييد من الله تعالى يعجز عن مقاومة موسى (ع) في حال مرضه وضعفه بحيث يتلف عينه ويحتاج إلى الشكاية عند ربه إلى غير ذلك من المضحكات التي يتلهى بها الصبيان فتأمل فإن الفكر فيهم طويل ، وأما ما ذكره الناصب من المعارضة بقصة غصة موسى (ع) في إلقاء الألواح وجر رأس أخيه فلا يصلح للمعارضة أصلا ، لأن له محملا صحيحا وتأويلا جميلا قد ذكره السيد الشريف المرتضى علم الهدى رضي الله عنه (1) واستحسنه فخر الدين الرازي (2) وذكره في تفسيره الكبير ، وهو أن بني إسرائيل كانوا في نهاية سوء الظن بموسى (ع) حتى أن موسى (ع) لما غاب عنهم غيبته قالوا لهارون (ع) : أنت قتلته ، فلما وعد الله موسى (ع) بثلاثين ليلة وأتمها بعشرة وكتب له في الألواح من كل شيء فرجع فرأى في قومه ما رأى ، فأخذ برأس أخيه ليدنيه من نفسه ويتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون (ع) أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له فقال إشفاقا على موسى (ع) لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي لئلا يظن القوم أنك تريد أن تضربني وتؤذيني انتهى ، وأقول لا يخفى أن أخذ اللحية والرأس عند الملاقاة والمشاورة عادة جارية بين العرب إلى الآن ، ولو كان ذلك للإهانة لقارنت لطمة واحدة ولنقل إذ ليس فليس ، ثم أقول : يجوز أن يكون ذلك الاعتراض والتعرض من باب قولهم : إياك أعني واسمعي يا جارة (3) بل قيل إن أكثر أساليب

(هامش)

(1) مذكور في كتاب تنزيه الأنبياء (ص 83 طبع تبريز) . (2) مرت ترجمته في (ج 1 ص 110) . (3) هو مثل مشهور قال المفضل بن سلمة بن عاصم الكوفي في كتاب الفاخر (ص 129 طبع ليدن) : إن أول من قال ذلك سهل بن ملك الفزاري وذلك أنه خرج يريد النعمان فمر ببعض أحياء طي فسئل عن سيد الحي ، فقيل له حارثة بن لام قام رحله فلم يصبه شاهدا ، فقالت له أخته انزل في الرحب والسعة فنزل فأكرمته وألطفته (ولا طفته خ ل) ، = (*)

ص 246

الإنذارات المتوجهة إلى الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى : (1) ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية من هذا القبيل ، والحاصل أن إلقاء الألواح (2)

(هامش)

= ثم خرجت من خبائها فرأى أجمل أهل دهرها وكانت عقيلة قومها وسيدة نسائها ، فوقع في نفسه منها شيء فجعل لا يدري كيف يرسل إليها ولا ما يوافقها من ذلك فجلس بفناء الخباء يوما وهي تسمع كلامه وهو ينشد : يا أخت خير البدو والحضارة * كيف ترين في فتى فزارة أصبح يهوى حرة معطارة * إياك أعني واسمعي يا جارة فلما سمعت قوله عرفت أنه إياها يعني فقالت ماذا يقول ذي عقل أريب ، لا رأي مصيب ولا أنف نجيب ، فأقم ما أقمت مكرما ، ثم ارتحل إذا شئت مسلما ، فاستحى من قولها وقال ما أردت منكرا واسوأتاه ، قالت صدقت وكأنها استحيت من تسرعها إلى تهمته ، فارتحل فأتى النعمان فجاءه وأكرمه ، فلما رجع نزل على أخيها فبينما هو مقيم عندهم تطلعت إليه نفسها وكان جميلا ، فأرسلت إليه أن اخطبني إن كان لك في يوما من الدهر حاجة فإني سريعة إلى ذلك ، فخطبها وتزوجها وسار بها إلى قومه انتهى . وأورده الميداني في المجمع بعين هذه القصة وألفاظها ، وقال بعد تمامها : أنه يضرب به مثلا لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئا غيره انتهى فراجع ص 32 من ج 1 من الكتاب (1) الحاقة . الآية 44 . (2) وبالجملة حكم الأفعال يختلف باختلاف النيات والمصالح فجاز أن يكون القاء الألواح أو كتاب الله في الأرض إهانة مستلزمة للذنب والارتداد في بعض الأحوال دون بعض ، وذلك كما أن مولينا أمير المؤمنين (ع) أمر أصحابه في حرب الصفين أن يرموا أصحاب معاوية حين رفعوا المصاحف على رأس الرماح اظهارا للاستشفاع به مع ظهور أن الرمي كان يلحق المصاحف أيضا ، فقال (ع) : لا تتوقفوا عن الحرب والرمي ، فإن هذا قرآن صامت وأنا قرآن ناطق ، فإن هذا يدل على أن رمي المصحف جائز لمصلحة الدين وهذا الكلام منه (ع) قد نقله عنه أهل السنة أيضا في مؤلفاتهم ولم يطعنوا فيه فافهم منه (قده) . (*)

ص 247

إنما كان لمصلحة إظهار الغضب على القوم وانزجارهم عما صدر عنهم من الغواية ولا مصلحة دينية في لطم ملك الموت وفقاء عينه ، بل كان المصلحة في تمكينه كما مر ، وأما ما ذكره من كسر الألواح وقصة إهانة كتاب الله تعالى فذلك من إضافات الناصب عدو الله وعدوا أنبيائه وأوليائه كما لا يخفى ، ومن أين علم أن قصد موسى من إلقاء الألواح كان إهانة كتاب الله تعالى دون ما ذكرناه من المصلحة ، ولو صح قصده لذلك لكفى قدحا في عصمته سواء دعاه الحدة إلى ذلك أو غيرها ، وأما قوله وكل هذه عند أهل الحق محمول على ما يعرض البشر الخ فيوجب خروج إمامه فخر الدين الرازي (1) وشيخه صاحب المواقف (2) عن أهل الحق حيث حملوا ذلك على ما حمله عليه ابن المطهر طهر الله رمسه مما لا ينافي طهارة الأنبياء عليهم السلام ، فالعجب أن النواصب يحملون الآيات التي ظاهرها عتاب الأنبياء عليهم السلام على ترك الأولى والأفضل على ظواهرها ويحكمون عليهم المعاصي والخطاء مع دلالة العقل على وجوب تنزيههم عن ذلك ، ومع وجود المحامل لظواهر تلك الآيات ، ويحملون هذيانا عمر بن الخطاب وكلماته التي ظاهرها منكر ومرتبته أقل من مراتب الأنبياء عليهم السلام بأضعاف لا تحصى على خلاف ظاهرها ويمنعون من جواز حلمها على ظواهرها مع أن كلامه لا محمل له ويتركون العمل بظاهره بغير تأويل واضح وتوجيه بين ، وهلا ساووا بينه وبين الأنبياء الذين هم في محل التعظيم ؟ وما ذاك إلا من قلة الإنصاف وشدة العصبية والاعتساف ، وأما قوله : ولو لم يكن القرآن متواترا ونقل لابن المطهر أن موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه لكان ينكر هذا الخ ، فرجم بالغيب ورمي في الظلام كما لا يخفى ، ومن أين علم أنه لم يكن يحمله على ما ذكرناه من المحمل الذي ارتضاه مرتضى الشيعة

(هامش)

(1) قد مرت ترجمته في (ج 1 ص 110) . (2) قد مرت ترجمته في (ج 1 ص 47) . (*)

ص 248

ووافق فيه فخر الدين الرازي وغيره . قال المصنف رفع الله درجته وفي الجمع بين الصحيحين (1) أن رسول الله (ص) قال في صفة حالة الخلق يوم القيامة : وأنهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر إليهم فيأتون نوحا فيعتذر إليهم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك أما ترى ما نحن فيه ؟ فيقول لهم : إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله ، وإني قد كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري ، وفي الجمع بين الصحيحين (2) أن رسول الله (ص) قال لم يكذب إبراهيم النبي (ع) قط إلا ثلاث كذبات ، كيف يحل لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء وكيف يبقى الوثوق بشرائعهم مع الاعتراف بتعمد كذبهم انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : قد عرفت فيما مضى أن الإجماع واقع على وجوب عصمة الأنبياء عن الكذب وأما الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم لما صح الحديث فالمراد منه صورة الكذب لا حقيقته كما قال : بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون (3) ، وكان مراده إلزامهم ، ونسبة الفعل إلى كبيرهم ، لأن الفأس الذي كسر به الأصنام وضعه على رقبة كبير الأصنام فالكذب المأول ليس كذبا في الحقيقة ، بل هو صورة الكذب إذا كان التأويل ظاهرا وهذا لا بأس به عند وقوع الضرورة انتهى .

(هامش)

(1) رواه المسلم في رواية طويلة (ج 1 ص 8 - 127 ط مصر) والبخاري (ج 4 ص 141 ط مصر) (2) رواه في صحيح البخاري بسندين عن أبي هريرة (ج 4 ص 140 ط مصر) وفي صحيح مسلم (جزء 7 ص 98 طبع صبيح) . (3) الأنبياء الآية 63 . (*)

ص 249

أقول قد مر أن الإجماع لم ينعقد على العصمة عن الكذب على إطلاقه ، بل خصها الأشاعرة بما بعد النبوة ، وأما ما ذكره من أن المراد بكذبات إبراهيم ما كان في صورة الكذب لا حقيقة فمما يأبى عنه استعذار إبراهيم (ع) عن شفاعة الناس بأنه كذب ثلاث كذبات فلا يليق بطلب الشفاعة من الله تعالى ، وأيضا يأبى عنه قوله (ع) في الرواية الثانية : إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات فإن ما يفيده سوق الكلام من الحصر والتأكيد بقوله قط يدل على أنه أراد حقيقة الكذب كما لا يخفى ، والحاصل أنا نعلم أن الكذب الذي يتراءى في الآية ليس بكذب بل هو من المعاريض (1) التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال صاحبك

(هامش)

(1) قال المحقق التفتازاني في شرح التلخيص طبع الاستانة ص 374 ما لفظه : أن الكتابة إذا كانت عرضية مسوقة لأجل موصوف غير مذكور كان المناسب أن يطلق عليها اسم التعريض يقال عرضت لفلان وبفلان إذا قلت وأنت تعنيه ، فكأنك أشرت به إلى جانب ، وتريد جانبا آخر ومنه (المعاريض) في الكلام وهي التورية بالشيء عن الشيء ، وقال صاحب الكشاف الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظ الموضوع له ، والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شيء لم نذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك فكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على المقصود ويسمى (التلويح) لأنه يلوح منه ما يريده ، وقال ابن الأثير في المثل السائر : التعريض هو اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي بل من جهة التلويح والإشارة ، ويختص بالمركب كقول من يتوقع صلة : والله إني محتاج فإنه تعريض بالطلب مع أنه لم يوضع له حقيقة ولا مجازا وإنما فهم المعنى من عرض اللفظ أي جانبه ، وفي الخبر عنهم عليهم السلام أن لكلامنا معاريض ، ومن ثم ترى المحققين من علمائنا الكرام يؤكدون الجد والجهد في فقه الحديث وكانت كتب الروايات المأثورة عن الأئمة (ع) مركز الإفادة والاستفادة والإجازة والمناولة والعرض = (*)

ص 250

وقد كتبت كتابا بخط في غاية الحسن أنت تكتب هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط ، فقلت له : بل كتبته أنت كان قصدك بذلك الجواب تقريره ذلك مع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للأمي ، لكن الكلام في الكذب المذكور في الحديث المنقول ، فإنه إذا لم يكن ذلك كذبا حقيقة كما ذكر أولا لم يكن به بأس كما ذكره ثانيا فما وجه ما وصف في متن الحديث من شدة غضبه تعالى في ذلك حتى يئس إبراهيم عن قبول شفاعته وعدل إلى الاعتذار . قال المصنف رفع الله درجته وفي الجمع بين الصحيحين (1) أن النبي (ص) قال : نحن أحق بالشك من إبراهيم إذا قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي (2) ويرحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد (3) ولو ثبت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي (4) كيف يجوز ؟ ! لهؤلاء القوم الاجتراء على النبي

(هامش)

= والقرائة اهتماما بشأن الأثر ، والأسف كل الأسف في نبذها وراء الأظهر والاشتغال بما حاكته حيكة يونان ونسجته أرباب العرفان ، فترى الرجل المتوغل في وليدات تلك الأدمغة راجلا في فهم الخبر ، كيف والاستفادة من كلامهم عليهم السلام والاستنارة من أنوار بياناتهم تحتاج إلى أنس بتلك الدراري واليواقيت بعد كون المستفيد صيرفيا في الرجال والدراية ، وأرجو من فضله تعالى أن يوفقنا من سنة الغفلة حتى نصرف الأعمار العزيزة فيما أومأنا إليه والله المعين . (1) رواه البخاري في الصحيح (ج 4 ص 147 ط صبيح مصر) ورواه مسلم في (ج 7 ص 98 ط مصر) . (2) البقرة . الآية 260 . (3) هود . الآية 80 . (4) رواه في صحيح البخاري (ج 4 ص 147 ط مصر) وفي صحيح مسلم (ج 7 ص 98) (*)

ص 251

(ص) بالشك في العقيدة انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : كان من عادة النبي (ص) التواضع مع الأنبياء كما قال لا تفضلوني على يونس بن متى وقال لا تفضلوني على موسى قد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء عليهم السلام ، فذكر ثبات إبراهيم في الإيمان ، والمراد من الحديث أن إبراهيم مع ثباته في الإيمان وكمال استقامته في إثبات الصانع والحشر كان يريد الاطمئنان ويقول ولكن ليطمئن قلبي فغيره أحق بهذا التردد الذي يوجب الاطمئنان ، وأما الترحم على لوط فهو أمر واقع ، فإن لوطا كان يأوى إلى ركن شديد كما قال : أو آوي إلى ركن شديد فترحم له رسول الله (ص) لأنه كان ضعيفا ، وليس فيه الدلالة على أنه (ص) عاب لوطا في أويه إلى ركن شديد ، وأما قوله : لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي ففيه وصف يوسف (ع) بالصبر والتثبت في الأمور وأنه صبر مع طول السجن حتى تبين أمره ، فانظروا معاشر الناظرين هل في هذه الأمور يرجع عيب وشين إلى الأنبياء مع أن الحديث صح وهو يطعن في قول النبي (ص) نعوذ بالله من رأيه الفاسد انتهى . أقول لا دلالة للجملة الأولى من الحديث على إرادة النبي (ص) للتواضع مع إبراهيم ، وأي تواضع في إثباته له الشك الذي هما بريئان عنه في الواقع ؟ مع صراحة كلامه المحكي في القرآن على أنه لم يرد الشك ، بل قال ذلك لزيادة الاطمئنان ولاعتضاد النقل بالعقل ، وبهذا ظهر أن ما ذكره الناصب من المراد بالحديث لا يرتبط بالشك قطعا هذا ، وقد نقل القسطلاني (العسقلاني خ ل) شارح البخاري عن الشافعي أنه قال : معنى الحديث إن الشك يستحيل في حق إبراهيم ولو كان الشك متطرقا

ص 252

إلى الأنبياء عليهم السلام لكنت أحق به من إبراهيم وقد علمتم أن إبراهيم لم يشك فإذا لم أشك أنا ولم أرتب في القدرة على الإحياء فإبراهيم أولى بذلك انتهى ، وأقول : هذا التأويل الطويل العليل المشتمل على التمويه والتسويل يوجب إلحاق الحديث التعمية والألغاز (1) فكان يجب على الشافعي أن يسأل الله تعالى طول عمره

(هامش)

لا يذهب عليك أن المتقدمين من أرباب الكتب قد يعبرون بعلم الأحاجي والأغاليط وقد يذكرون علم الألغاز والتعمية وكثيرا ما يشتبه الأمر على الراجل في ضروب الكمالات ويظن أن الثلاثة مترادفة ، وليس كذلك بحسب المصطلح لذي أهلها ، فالأحاجي جمع أحجية كالأضحية ، وهو علم يبحث فيه عن الألفاظ المخالفة لقواعد العربية بحسب الظاهر وتطبيقها عليها ، إذ لا يتيسر إدراجها فيها بحسب القواعد المشهورة ، وموضوع هذا العلم الألفاظ المذكورة من الحيثية المذكورة ، والغرض منه تحصيل ملكة تطبيق الألفاظ التي تتراءى بحسب الظاهر مخالفتها لقواعد لسان العرب ، والاحتياج إلى هذا العلم من حيث إن ألفاظ العرب قد يوجد فيها ما يخالف قواعد العلوم العربية بحسب الظاهر بحيث لا يتيسر إدراجه فيها بمجرد معرفة تلك القواعد فاحتج إلى هذا الفن ، وقد صنفت في المحاجات عدة كتب منها كتاب المحاجاة لأبي المعالي سعد بن علي الوراق الحطيري المتوفى سنة 568 ، ومنها كتاب المحاجات لجار الله الزمخشري المتوفى سنة 538 ، وشرحه للشيخ علم الدين علي بن محمد السخاوي الدمشقي المتوفى سنة 643 وقد سلك الحريري في المقامة السادسة والثلاثين المسماة بالملطية مسلك المحاجات فراجع وأما علم الألغاز فهو علم يتعرف منه دلالة الألفاظ على المراد دلالة خفية في الغاية لكن لا بحيث تنبو عنها الأذهان السليمة بل تستحنها وتنشرح إليها بشرط أن يكون المراد من الألفاظ الذوات الموجدة في الخارج ، وبهذا يفترق عن المعمى الآن المراد في باب الألغاز من الألفاظ اسم شيء من الإنسان وغيره والحاصل أن هذا المدلول الحفي إن لم يكن ألفاظا وحروفا بلا قصد دلالتها على معان آخر بل ذوات موجودة يسمى اللغز وإن كان ألفاظا وحروفا دالة على معان مقصودة يسمى معمى ، وبهذا يعلم أن اللفظ = (*)

ص 253

ليصحب هذا الحديث أينما سار ويذكر تأويله لمن تلقى ظاهره بالانكار ونقل عن الزركشي (1)

(هامش)

= الواحد يمكن أن يكون معمى ولغزا باعتبارين ، لأن المدلول إذا كان ألفاظا ، فإن قصد بها معان أخر يكون معمى ، وإن قصد ذوات الحروف على أنها من الذات يكون لغزا ، ويحتاج حلهما إلى لطف قريحة وذوق سليم تدرك بها المناسبة بين الدال والمدلول الخفي ، على وجه مقبول لدى ذوي الأذواق السليمة والأذهان المستقيمة ، وقد ألفت وصنفت فيهما عدة كتب ورسائل ونبعت نوابع ، فمن ذلك كتاب المعميات للعلامة المير سيد حسين المعمائي ، ورسالة المعميات لسام ميرزا ابن السلطان المؤيد الغازي (شاه إسماعيل) الماضي الموسوي الصفوي ، وكتاب الألغاز للسيد عز الدين حمزة الصادقي النسب الدمشقي المتوفى سنة 874 ، وكتاب الذخائر الأشرفية للقاضي عبد البر بن شحنة المتوفى 921 ، وكتاب الشيخ عبد الرحيم بن الحسن الأصنوي المتوفى سنة 772 ، وكتاب الشيخ عبد الوهاب السبكي المتوفى سنة 771 ، ورسالة أستاذي العلامة الشيخ محمد الحسين الشيرازي النجفي المتوفى ببلدة (سر من رأى) إلى غير ذلك ، ومن الأمثلة الشهيرة في اللغز قول الشاعر في القلم وما غلام راكع ساجد * أخو نحول دمعه جاري ملازم الخمس لأوقاتها * منقطع في خدمة الباري وقال آخر في الميزان وقاضي قضاة يفصل الحق ساكتا * وبالحق يقضي لا يبوح فينطق قضى بلسان لا يميل وأن يمل * على أحد الخصمين فهو مصدق هذا ملخص ما يستفاد من كشف الظنون والدستور ، ومفتاح السعادة ، والأبجد ، والمدائن . (1) هو العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري المنهاجي العالم الأصولي الأديب الشاعر كان أبوه بهادر مملوكا لبعض الأكابر وتعلم ابنه محمد في صغره صنعة (الزركش) ثم حفظ النهاج في الفقه فقيل له المنهاجي ، أخذ العلم عن الأسنوي ومغلطاي والبلقيني ، له كتب منها كتاب تشنيف المسامع في شرح = (*)

ص 254

أنه قال ذكر صاحب (1) الأمثال السائرة أن أفعل يأتي في اللغة لنفي المعنى عن الشيئين نحو الشيطان خير من زيد أي لا خير فيها وكقوله تعالى أهم خير أم قوم تبع (2) أي لا خير في الفريقين ، وعلى هذا فمعنى قوله : نحن أحق بالشك من إبراهيم لا شك عندنا جميعا وهو أحسن ما يتخرج عليه هذا الحديث انتهى ، وأقول : قبحه ظاهر إذ قياس ما نحن فيه على العبارتين السابقتين يقتضي أن يكون معناها نفي الأحقية بالشك لا نفي الشك وهذا ظاهر لا يشك فيه المتأمل ، وأما ما ذكره من أن في الجملة الثالثة وصف يوسف (ع) بالصبر والتثبت في الأمور إلخ فمدفوع بأنه مع ذلك يتضمن إظهار النبي (ع) عدم صبره على ذلك في سبيل الله وأنه لو كان في مقام يوسف لأجاب دعوة زليخا وهذا هو محط التشنيع الذي ينبغي برائة النبي (ص) عنه وهذا ما أراده المصنف قدس سهر ، وأما الجملة الثانية فهي وإن كانت في نفسها ظاهرة فيما ذكره الناصب ، لكن مجموع ما ذكره من الجمل

(هامش)

= جمع الجوامع في أصول الفقه للتاج السبكي ، وكتاب يقظة العجلان في الأصول أيضا وكتاب العريش في حكم الحشيش ، توفي بالقاهرة سنة 794 هكذا في الكنى والألقاب للمحدث القمي (ج 1 ص 266) ، أقول ويعرف أصوله لدى الفريقين بأصول الزركشي وينقل عنه العلامة الصالح المازندراني (قده) في شرح الزبدة ، كثيرا ، وهناك زركشي آخر وهو الشيخ شهاب الدين صاحب كتاب تلخيص شرح الهداية في الفقه الحنفي والشرح للسغناقي ، توفى الزركشي هذا سنة 738 كما في الفوائد لعبد الحي الهندي أبي الحسنات طبع مصر ص 16 والمراد هنا هو الأول فلا تغفل . (1) المراد به اللغوي المحقق الأديب النحوي ، أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 كما في كشف الظنون (ج 1 ص 167 طبع الاستانة) وعليه شروح كثيرة ، منها شرح البكري المتوفى سنة 487 وغيره . (2) الدخان . الآية 37 . (*)

ص 255

الثلاثة حديث واحد مذكور في صحيح البخاري (1) والأولى والثالثة صريحتان في الشك وعدم الصبر ، فيلزم أن تكون الثانية أيضا واقعة على ما يناسبه سياقهما بأن فهم النبي (ص) منها أن الباعث للوط (ع) على الالتجاء لركن شديد ضعف اعتقاده وفتور اعتماده ، واتكاله على الله تعالى ، ولهذا أوله القسطلاني بأن المعنى لو أراد لآوى إليه ولكن آوى إلى الله انتهى ، ويؤيد ما ذكرناه ما ذكره (2) البخاري بعيد ذلك من قوله باب قصة لوط (ع) حدحدثنا أبو اليمان (3) أخبرنا شعيب (4) حدحدثنا أبو الزناد (5) عن الأعرج (6)

(هامش)

(1) فراجع البخاري (ج 4 ص 148 ط مصر) . (2) أورده في البخاري (ج 4 ص 148 ط مصر) (3) قال الخزرجي في الخلاصة (ص 76 ط مصر) ما لفظه : الحكم بن نافع القضاعي الهراني أبو اليمان الحمصي عن حريز بن عثمان وشعيب بن أبي حمزة وطائفة : وعنه عبد الله الدارمي ورجاء بن المرجا وأبو زرعة الدمشقي وخلق ، إلى أن قال : إنه مات سنة 222 ، وقيل سنة 221 . (4) قال الخزرجي في الخلاصة (ص 141 ط مصر) ما لفظه : شعيب بن أبي حمزة الأموي مولاهم أبو بشر الحمصي أحمد الاثبات المشاهير عن نافع وابن المنكدر والزهري وعنه أبو إسحق الفزاري وعثمان بن سعيد وأبو اليمان إلى أن قال : مات سنة 163 (5) عبد الله بن ذكوان الأموي مولاهم ، أبو الزناد المدني يكنى أبا عبد الرحمان كان أحد الأئمة ، عن أنس وابن عمر بن أبي سلمة مرسلا وعن الأعرج فاكثر وابن المسيب وطائفة ، وعنه موسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر ومالك والليث والسفيانان وخلق ، قال البخاري أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج ، مات فجأة سنة 130 ، وقيل سنة 131 ، كما في الخلاصة للخزرجي (ص 166 ط مصر) (6) قال الذهبي في التذكرة (ج 1 ص 91 ط حيدر آباد) ما لفظه : أبو داود عبد الرحمان ابن هرمز مولا ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي المدني كاتب المصحف ، سمع = (*)

ص 256

عن أبي هريرة (1) عن النبي (ص) قال : يغفر الله للوط أن كان ليأوى إلى ركن شديد انتهى ، فإن فيه دلالة على أن لوطا يحتاج أن يستغفر له إن قال ذلك وقصر في الصبر على أذى القوم والله المستعان .

(هامش)

= أبا هريرة وأبا سعيد الخدري وعبد الله بن بحينة وجماعة ، حدث عنه الزهري أبو الزناد وصالح بن كيسان ويحيى بن سعيد وعبد الله بن لهيعة وآخرون ، إلى أن قال : فتوفي في سنة 117 . (1) هو عبد الرحمان وقيل : عبد الله ، والأول أشهر ، ابن عدنان بن عبد الله الأزدي الدوسي الصحابي المشهور الذي عده عدة من أكابر القوم في وضاعي الحديث ، قال ابن عبد البر في الاستيعاب (ج 2 ص 698 ط حيدر آباد) أنه أسلم عام خيبر ، وتوفي سنة 57 وقيل 58 ، وقال الواقدي 59 ، وقال بعض : إنه مات بالعقيق ، وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكان أمير يومئذ على المدينة وحكى في سفينة البحار (ج 2 ص 713 ط النجف) عن كتاب ربيع الأبرار للزمخشري أنه قال : وكان يعجبه أي أبا هريرة المضيرة جدا فيأكلها مع معاوية ، وإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي ، فإذا قيل له : قال : مضيرة معاوية أرسم وأطيب ، والصلاة خلف علي أتم ، فكان يقال له : شيخ المضيرة ، ويقول : اللهم ارزقني ضرسا طعونا ومعدة هضوما ، ودبرا نثورا ، ثم الرجل وإن اعتمد عليه إخواننا أهل السنة إلا أن الحق الحقيق بالقبول أنه لا قيمة لمروياته وكونه من الوضاعين حسب ميول أرباب السلطة والنفوذ كما أشرنا إليه في أوائل المجلد الأول ، ولله در العلامة المجاهد الآية الباهرة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي أدام الله بركته حيث أنا المحجة وأتم الحجة في كتاب النفيس (أبو هريرة) ومن لا حظه من القوم متجنبا عن الاعتساف والعصبية الباردة تراث الجاهلية ، نبذ مرويات المترجم وراء الظهر وشاركنا في عدم الاعتماد عليها عصمنا الله وإياهم من الزلل آمين آمين . (*)

ص 257

قال المصنف رفع الله درجته وفي الصحيحين (1) وقال بينما الحبشة يلعبون عند النبي (ص) بحرابهم (2) فدخل عمر فأهوى إلى الحصى (الحصباء) فحصاهم بها فقال له رسول الله (ص) دعهم يا عمر ، وروى الغزالي (3) في إحياء علوم الدين أن النبي (ص) كان جالسا وعنده جواز يتغنين ويلعبن فجاء عمر فاستأذن فقال النبي (ص) للجواري ، اسكتن فسكتن فدخل عمر وقضى حاجته ثم خرج فقال لهن : عدن فعدن إلى الغناء ، فقلن يا رسول الله : من هذا الذي كلما دخل قلت اسكتن وكلما خرج قلت عدن إلى الغناء ، فقال هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل ، كيف يحل لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النبي (ص) أيرى عمر أشرف من النبي (ص) حيث لا يؤثر سماع الباطل والنبي يؤثره انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : أما لعب الحبشة بالحراب فإنه كان يوم العيد وقد ذكرنا أنه يجوز اللهو يوم العيد بالاتفاق ، ويمكن أن يكون تجويز ذلك اللعب بالحراب لأنه ينفع في الحرب ، وفيه المهارة من طعن الحربة وكيفية تعليمه وإلقائه في الحرب ، وكل ما كان من أمر الحرب فلا بأس به ، ويمكن أن يكون عمر لم يعلم جوازه فعلمه النبي (ص) ، وأما ما روي عن الغزالي فإن صح يمكن حمله على جواز اللعب مطلقا وفي أيام الأعياد ، وكان النبي (ص) يسمعه لضرورة التشريع حتى يعلم أن اللهو ليس بحرام ، وربما كان عمر يمتنع منه ومكنه رسول الله (ص) على عدم السماع ليعلم أن الأولى تركه ، وسمع هو كما ذكرنا لضرورة التشريع ، فهل يلزم من هذا أن يكون عمر أشرف من النبي (ص) وعمر من

(هامش)

(1) أورده في صحيح البخاري (ج 4 ص 38 ط مصر) باب اللهو بالحراب (2) الحراب جمع الحربة : آلة للحرب من الحديد قصيرة محددة (3) قد مرت ترجمته في المجلد الأول ص 145 فراجع (*)

ص 258

أمته وممن يتعلم منه الشريعة انتهى . أقول ما ذكره من أن ذلك اللعب كان يوم العيد رجم بالغيب كما مر ، وما ذكره من أنه يجوز اللهو يوم العيد دعوى من غير دليل ، ودعواه الاتفاق على جواز ذلك ممنوع ، لظهور مخالفة الشيعة ومن وافقهم في ذلك ، اللهم إلا أن يريد اتفاق الفساق من أهل النصب والنفاق عليه ، وليس في اتفاقهم رواج ونفاق (1) كما لا يخفى ، ومن هذا يعلم أيضا بطلان قوله : ويمكن أن يكون تجويز ذلك الخ ، وقد علم بطلان قوله : ويمكن أن يكون عمر الخ ، بما ذكرناه في بعض الفصول السابقة فتذكر ، وأما قوله وكان النبي (ص) يسمعه لضرورة التشريع الخ فيقال في جوابه : ثبت العرش ثم انقش (2) ، وهل كون ذلك شرعيا إلا أول البحث والنزاع ، وكذا الكلام في توجيهه لما روى الغزالي ، وبالجملة ما ذكره الناصب من التأويلات الباردة الشبيهة بتأويلات الباطنية من الملاحدة والماردة مما يأبى عنها ما نسب في الرواية إليه (ص) من قوله : هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل ، فإن ما هو جائز أو مكروه لا يوصف بالباطل ، فيلزم منه أن النبي (ص) مريد لسماع الباطل دون عمر ، وهذا كفر محض ممن يعتقده كما لا يخفى على من آمن بالله ورسوله فضلا عن استلزامه أشرفية عمر عن النبي (ص) فيه ، على أن ما يكون تشريعه ضروريا لا يكون تركه أولى فتأمل قال المصنف رفع الله درجته وفي الصحيحين (3) عن أبي هريرة قال : أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما قبل

(هامش)

(1) النفاق بفتح النون : رواج البيع (2) العرش من البيت سقفه والكلام من الأمثال المولدة بضرب فيما لو ادعى شخص دعوى تتوقف على مبنى غير مسلم الثبوت (3) رواه في صحيح البخاري (ج 1 ص 59 ط مصر) (*)

ص 259

أن يخرج إلينا رسول الله (ص) ، فخرج إلينا رسول الله (ص) فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب ، فقال لنا : مكانكم ، فلبحدثنا على هيأتنا قيام ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر فصلينا ، فلينظر العاقل هل يحسن منه وصف أدنى الناس بأنه يحضر في الصلاة ويقوم في الصف وهو جنب ؟ وهل ذلك إلا من تقصير في عبادة ربه وعدم المسارعة إليها ؟ وقد قال الله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم (1) فاستبقوا الخيرات (2) فأي مكلف أجدر بقبول هذا الأمر من النبي (ص) ، وفي الجمع بين الصحيحين (3) عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله (النبي) (ص) إحدى صلاتي العشى قال محمد وأكثر ظني أنها العصر ركعتين ، ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر عمر ، فهاباه أن يكلماه وخرج سرعان الناس وقالوا : أقصرت الصلاة ؟ ورجل يدعى ذا اليدين قال يا نبي الله أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال لم أنس ولم أقصر ، وقال بلى قد نسيت ، قال : صدق ذو اليدين فقام فصلى ركعتين ثم سلم ، فلينظر العاقل هل يجوز نسبة هذا العفل إلى رسول الله (ص) وكيف يجوز منه (ص) أن يقول ما نسيت ؟ فإن هذا سهو في سهو ومن يعلم أن أبا بكر وعمر حفظا ما نسي رسول الله (ص) مع أنهما لم يذكرا ذلك للنبي (ص) انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : قد مر فيما سبق جواز السهو والنسيان على الأنبياء ، لأنهم بشر سيما إذا

(هامش)

(1) آل عمران . الآية 133 (2) المائة . الآية 48 (3) رواه في صحيح البخاري (ج 2 ص 68 ط 1314 مصر) وفي صحيح مسلم (ج 2 ص 76 ط مصر) بأدنى تغاير في بعض الألفاظ والتعابير بما لا يهم نقله

ص 260

كان السهو موجبا للتشريع ، فإن التشريع في الأعمال الفعلية آكد وأثبت من الأقوال فما ذكر من حديث تذكر الجنابة فمن باب النسيان وفيه تشريع العمل بعد النسيان إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو لا يتيمم ، ولا يلزم من هذا نقص ، وما ذكر من سهو النبي (ص) في الصلاة فهو سهو يتضمن التشريع فلا بأس به ، وما ذكره من نسيانه السهو فهذا أيضا يتضمن التشريع لأنه شرع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلق بالصلاة في أحدثنا الصلاة وكذا الكلام القيل ، والعجب أنه قال : كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر ما نسي رسول الله (ص) وأي عجب في هذا ؟ فإن الإمام كثيرا ما يسهو والمأمومون لا يسهون ، فلا يلزم من هذا تفضيل المأموم على الإمام ، وهل هذه الكلمات إلا ترهات ومزخرفات انتهى . أقول قد سبق الكلام منا أيضا على ما ارتكبه من الجواز وعلى ما استدل على من أن النبي بشر وعلى جعل السهو والنسيان وسيلة إلى التشريع ، وأما ما خصر هذا المقام به من أن التشريع في الأعمال الفعلية آكد فممنوع بل القضية منعكسة لجواز أن يكون التشريع الفعلي مخصوصا به بخلاف الأمر القولي العام ، وبهذا يعلم ضعف ما التزم صحته من التشريعات الفعلية المتتالية ، وأما قوله : لأنه شرع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلق بالصلاة في أثناء الصلاة ففساده ظاهر ، لأن ظهور تشريع النسيان لم يكن متوقفا على أن يقف النبي (ص) بعد الصلاة قائما على خشبة المسجد واضعا يديه عليها ، ثم يدخل الحجرة ثم يخرج فيسأل عنه فيجيب بأربع كلمات ثم يسأل عنه فيجب بمثل الأول مع أن التكلم بكلام الآدميين والفعل الكثير مبطل

(هامش)

في (ج 1 ص 59 ط مصر) والمراد أنه عنون الباب كذا (*)

ص 261

للصلاة عند الفقهاء الأربعة أيضا ، أما الأول فلما في كتاب الينابيع (1) إن مما يتوقف عليه صحة الصلاة ترك الكلام لقوله (2) عليه الصلاة والسلام : لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، قال الشارح الأنصاري (3) : المراد بكلام الناس ما يتخاطب به الناس وما من جنسه ، وفي التتمة (4) وغيره هو المسموع المتهجي (المهجي خ ل) سواء كان مفهما أم لا ، هذا هو مذهب الفقيه وعليه اللغوي والأصولي ، وأما النحوي فلا يطلق الكلام إلا على المفهم ، فلما شرط فيها ترك الكلام فتبطل بالنطق بحرفين وحرف مفهم ولو ممدودا ، إذ المد حرف (انتهى) نعم قال الشافعي : إنه لا تبطل الصلاة بالكلام الصادر نسيانا أو جهلا إن لم يكثر ذلك الكلام بحسب العادة على الصحيح الذي في الأم (5) وقطع به جمهور الشافعية ، وعند أبي حنيفة (6) على ما في الهداية (7)

(هامش)

(1) هو كتاب ينابيع الأحكام للشيخ أبي عبد الله محمد أبي عبد الله بن محمد بن زنكي الاسفرايني الساوي وقد رتبه كما في كشف الظنون على أربعة أقسام (2) رواه أحمد في المسند (ج 5 ص 447) (3) لعل المراد الشيخ عبد الله بن محمد الأنصاري الشافعي أولا الحنفي ثانيا ، إذ هو أحد من شرح كتاب الينابيع المذكور في المتن (4) المراد بها كتاب تتمة الفتاوى لبرهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز الحنفي صاحب كتاب المتوفى سنة 616 (5) فراجع كتاب الأم للشافعي (ج 1 ص 108 و109 طبع مصر) فإنه أورد فيه مناظرته مع خصمه في هذه المسألة وأطال واختار ما أشار إليه القاضي الشهيد فراجع (6) قد مرت ترجمته في أوائل هذا الجزء فراجع (7) هو كتاب في الفقه معتمد عليه عند الحنفية ، مصنفه شيخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني الحنفي المتوفى سنة 593 وهو شرح على متن له سماه بداية المبتدي ، وعليه شروح كثيرة (*)

ص 262

وغيرها تبطل بالنسيان والجهل لعموم ما مر من الحديث ، وبهذا ظهر أن ما زعمه الناصب من أن ما نسب إلى النبي (ص) من مراتب الجواب داخل في الكلام القليل باطل مخالف لمذهب أصحابه أيضا ، وأما الثاني فلما قال في الينابيع وشرحه أيضا : إنه تبطل الصلاة بغير فعل مجانس لأفعاله الصلاة إن فحش ذلك الفعل كوثبة المصلي وإن لم يكن كثيرا أو فعل غير مجانس صادر للعب مثل ضرب إحدى الراحتين بالأخرى أو أن يفعل غير (زائد ظ) مجانس كثير ذلك الفعل بحسب العادة فتبطل الصلاة على أظهر الوجوه الذي عليه الأكثرون ، والفعل الكثير مثل ضربات ثلاث وخطوات ثلاث متوالية كل واحدة فلا تبطل بأقل من ثلاث ولا بثلاث وأكثر من غير متوالية والقلة والكثرة بحسب العرف والعادة على الأصح الذي عليه الجمهور انتهى ، وأما ما ذكره في مقام دفع التعجب من أن الإمام كثيرا ما يسهو والمأمومون لا يسهون إلخ فقد سهى فيه عن علو شأن النبي (ص) ، فإن الكلام سهوا ليس في إمام الصلاة الذي جوز أهل السنة أن يكون عاصيا جاهلا فاجرا ، بل في الإمام النبي المعصوم المؤيد بالنفس القدسي والوحي الإلهي الذي يتوقع بركته صيانة المأمومين عن السهو والنسيان الخطأ والطغيان كما قال مادح أئمة أهل البيت عليهم السلام بالفارسية نظم : زهي إمام كه پاسش نگاه ميدارد * * بوقت نيست از انديشه خاطر مأموم مگر حجاب نماند وگرنه از در وصف * * بعد كتاب نگردد مقام او معلوم ولقد علم بما قررناه وأوضحناه أن ما ذكره المصنف مزخرفات بمعنى المحبرات والمزينات وبالمعنى الآخر لا يصدق إلا على أمثال ما أتى به الناصب من ركيك الهفوات . قال المصنف رفع الله درجته وفي الصحيحين (1) عن عبد الله بن عمر أنه كان يحدث عن رسول الله (ص) أنه لقى

(هامش)

(1) رواه في صحيح البخاري (ج 7 ص 91 ط مصر) (*)

ص 263

زيد (1) بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل الوحي على رسول الله (ص) ، فقدم إليه رسول الله (ص) سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، ثم قال : إني لا آكل مما تذبحون علي أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه ، فلينظر العاقل هل يجوز له أن ينسب نبيه عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الأصنام والذبح على الأنصاب ويأكل منه ؟ وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف بالله منه وأتم حفظا ورعاية لجانب الله ، نعوذ بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : من غرائب ما يستدل به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله رواية هذا الحديث فقد روى بعض الحديث ليستدل به على مطلوبه وهو الطعن في رواية الصحاح وما ذكر تمامه ، وتمام الحديث أن رسول الله (ص) لما قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام قال : وأنا أيضا لا آكل من ذبيحتهم ومما لا يذكر عليه اسم الله تعالى فأكلا معا ، وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمة ليتمكن من الطعن في الرواية نسأل الله العصمة من التعصب فإنه بئس الضجيع انتهى . أقول من بدايع حيل هذا الناصب الفاجر الكاذب الخائن أنه لما أراد التفصي عن التشنيع المتوجه على أصحابه في هذه الرواية بضم بعض ما اخترعه من العبارات أرعد وأبرق أولا وتشدد في إظهار التعجب والغرابة ونسبة المصنف قدس سره إلى الخيانة والتقصير وختم ذلك بسؤال العصمة عن التعصب ليسد بذلك باب رجوع الناظرين

(هامش)

(1) هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح العدوي ، قال الذهبي في التجريد (ص 215 طبع الهند) ما لفظه بعد سرد نسبه : هو والد أحد العشرة المبشرين سعيد بن زيد قال النبي صلى الله عليه وآله يبعث أمة وحده ، مات قبل المبعث (*)

ص 264

إلى مأخذ الرواية فلا يظهر خيانته فيها بالزيادة عليها ، والحاصل إنا قد راجعنا صحيح البخاري فكان الحديث كما نقله (1) المصنف قدس سره ولم يكن من الإضافة التي ذكرها هذا الناصب الخائن الشقي عين ولا أثر ، ومن أبى لحسن ظنه في هذا الشقي السقيم فليراجع ذلك الصحيح ليتضح له ما أتى به من الكذب الصريح ، ومن هنا أيضا يظهر صدق ما أشرنا إليه في بعض المراتب من أن أصحاب الناصب بعد ما نبههم الشيعة على شناعة بعض أحاديثهم يزيدون على ذلك أو ينقصون عن على حسب ما عرض له من ضيق الخناق ، فلا يعتد بما يرويه أهل الشقاق . قال المصنف رفع الله درجته وفي الصحيحين (2) عن حذيفة (3) بن اليمان قال : كنت مع النبي (ص) فانتهى إلى

(هامش)

(1) فراجع صحيح البخاري (ج 7 ص 91 ط مصر) (2) رواه في صحيح مسلم (ج 1 ص 157 ط مصر) وفي صحيح البخاري (ج 1 ص 51) بسندين مع تفاوت (3) قال الذهبي في التجريد (ص 132 طبع حيدر آباد) ما لفظه ، حذيفة بن اليمان اسم أبيه (حسل) ويقال (حسيل) بن جابر بن عمرو أبو عبد الله العبسي . وقيل اليمان لقب جدهم جروة بن الحارث ، قال الكلبي لأنه أصاب دما في قومه فهرب إلى المدينة وحالف بني الأشهل فسماه قومه اليمان ، توفي سنة 36 في دمشق انتهى ، وقال الخزرجي في الخلاصة ص 63 ما لفظه : أبو عبد الله الكوفي حليف بني عبد الأشهل صحابي جليل من السابقين أعلمه رسول الله (ص) بما كان وما يكون إلى يوم القيامة من الفتن والحوادث إلى أن قال : افتتح الدينور وما سبذان وهمذان والري ، روى عنه أبو الطفيل والأسود بن يزيد وزيد بن وهب الخ أقول وهذا الرجل الجليل ممدوح عند أصحابنا في كتب الرجال والمعروف أنه مات بالكوفة ، وقيل بالمداين ، والمشهور لدى الناس أنه مقبور قريبا من قبر سلمان الفارسي وعليه فلا مساغ لما ذكره الذهبي كما لا يخفى والله الهادي . (*)

ص 265

سباطة (1) قوم فبال قائما ، فتنحيت ، فقال : أدن ، فدنوت ، حتى قمت عند عقيبه فتوضأ ومسح على خفيه ، فكيف يجوز أن ينسب إلى رسول الله (ص) البول قائما مع أن أرذل الناس لو نسب إليه هذا تبرأ عنه ، ثم المسح على الخفين ، والله يقول : وأرجلكم (2) فانظروا إلى هؤلاء القوم كيف جوزوا الخطاء والغلط على الأنبياء وإن النبي (ص) يجوز أن يسرق درهما ويكذب في أخس الأشياء وأحقرها (انتهى) . قال الناصب خفضه الله أقول : اختلف في جواز البول قائما ، فالذي يستدل بهذا الحديث ، وعن الأطباء أن البول قائما ينفع الكلية والمخصر (3) ، فالنبي (ص) هكذا ليشرع

(هامش)

(1) السباطة بضم السين : الموضع الذي تطرح فيه الأوساخ (2) المائدة . الآية 6 (3) العجب من الرجل كيف ينسج من عنده ويتداخل في الطب ونحوه من الشئون التي ليس أهلها ، فنقول : عليك أيها الرجل بكلمات المهرة الحذقة من الأطباء وذا راجعت إليها تراهم ينادون بأن البول قائما يضر المثانة ويورث الضعف والحجر فيها ، فلاحظ كلمات العلامة الشيرازي في شرح القانون وتعليقة علاء الدين القرشي على القانون ، وشرح قانونجه ، وكتاب الطب لابن هبل وغيرها وقد ورد عن أئمة الهدى سادات المسلمين النهى عن البول قائما إلا في حالة واحدة وهي تلطخ عورتيه بالنورة عدة روايات منها ما أورده المحقق المحدث الكاشاني في الوافي (ج 4 ص 18) وفي غيره من كتب الحديث سيما المدونة في الآداب والسنن والمكروهات ، قال أستاذنا العلامة الفقيه النابغة آية الباري الحاج الشيخ عبد الله المامقاني قدس سره وجزاه الله عني خير الجزاء في كتابه مرآة الكمال (ص 63 طبع النجف الأشرف) ما لفظه : ومنها أي من المكروهات في التخلي البول والتغوط من غير علة فإنه من الجفاء إلا أن يكون مطليا للنورة ، فإنه = (*)

ص 266

جواز البول قائما ، وأي منقصة يتصور من البول قائما سيما إذا كان متضمنا للتشريع وطلب الدنو من حذيفة ربما يكون لتشريع جواز البول قائما يقرب من الناس بخلاف الغائط لغلظته ولتقذره ، ولهذا كان يبعد عن الناس في الغائط دون البول ، وأما المسح على الخف فهو جائز بالإجماع من أهل السنة كما سيأتي في مباحث الفقه إن شاء الله تعالى والله أعلم ، ثم ما ذكر أنهم جوزوا الخطأ والغلط على الأنبياء والنبي يجوز أن يسرق درهما فقد ذكرنا أن هذا افتراء محض ووجب على تنزيه الأنبياء من الصغيرة الدالة على الخسة انتهى . أقول لا يخفى أن نفع الكلية عند الأطباء لا ينحصر في البول قائما

(هامش)

= يبول قائما ، لأنه يخاف عليه إذا بال جالسا الفتق انتهى ، وهذه الجمل متخذة من أخبار أهل البيت عليهم السلام وإن شئت فراجعها وأما من طرق العامة فالروايات في النهي عنه كثيرة ، وقد عقد الشيخ عبد السلام بن تيمية الحراني في كتاب المنتفي بابا في ذلك سننقل عنه روايتين صريحتين في النهي مرويتين عنه صلى الله وعليه وآله بطرقهم فلاحظ ، هذا ما تلونا عليك من كلمات أهل الطب اليوناني وأحاديث الفريقين وما هي إلا النبذ القليل ، وأما الأطباء من أبناء العصر فتكلمت مع جماعة منهم في هذا الباب ورأيتهم مذعنين على كون البول قائما مضرا حتى أن المرحوم فقيد الطب (لقمان الدولة الأدهم) كان يعد له آثار سوء وتوالي فاسدة ، ومن كان واقفا على علم التشريح وكيفية بدن الإنسان لصدقنا بأن البول قائما مضر ، ويلزمه عدم نقاء المثانة من البول وبقاء أجزاء من (درديها) وبعد هذا فالأسف كل الأسف من شبان العصر حيث جرت سيرتهم على البول قياما غير مبالين بنواهي الشرع الشريف ولا بكلمات الأطباء الشامخين في علمهم الحاذقين في فنهم هداهم الله إلى سواء الضراط وبصرهم بما هو خير لهم آمين . (*)

ص 267

ولا هو من المعالجات التي يحصل التي يحصل بها سرعة البرء حتى هذا يعارض قبحه الظاهر ويضطر معه إلى تشريعه ، ولو تنزلنا عن ذلك فنورد عليهم مثل ما أورده القفال الشافعي (1) على الحنفية من أنا نعلم ببديهة العقل أن شاء الله سبحانه لم يرسل رسولا لأجل تشريع مثل هذا الحكم ، وتحقيق وجه ابتلاء القوم بهذه الرواية الموضوعة (2) أنه لما قال الثاني وبعض أصحابه : إن البول قائما أحصن للدبر وفعلوه لذلك كما ذكره النووي في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم ورأوا أن فيه قباحة وشناعة وشركوا معه النبي (ص) بوضع هذا الحديث لئلا يجترئ أحد على تشنيعه ، ويؤيد (3) هذا ما نقل عن عائشة في هذا المقام أنها قالت من حدثكم أن

(هامش)

(1) هو العلامة أبو بكر عبد الله بن أحمد المروزي الشافعي من أجلا الشافعية في الفقه والكلام والحديث ، وهو الذي صلى بحضرة السلطان محمود سبكتكين صلاة على طريقة الحنفية وأخرى على مذهب الشافعية فاستحسن الملك صلاة الشوافع وانتقل من مذهبه الحنفي وصار شافعيا ، وتفصيل تكلما الصلاتين مذكور في حياة الحيوان وتاريخ ابن خلكان ، توفي المترجم سنة 417 وقيل 429 بسجستان كما في طبقات الشافعية (ج 3 ص 198 والريحانة ج 3 ص 315) (2) نص على عدم صحته الشيخ مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن تيمية الحراني في كتابه (المنتقى من أخبار المصطفى الجزء 1 ص 55 الطبعة الأولى بمصر) قال ما لفظه : باب ما جاء في البول قائما 143 - عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثكم أن رسول الله (ص) بال قائما فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا جالسا ، رواه الخمسة إلا أبا داود وقال الترمذي : هو أحسن في هذا الباب وأصح 144 - وعن جابر قال : نهى النبي (ص) أن يبول الرجل قائما رواه ابن ماجه . (3) هذا موجود في كتاب شرح الهداية وهو مخطوط في خزانة كتبنا ويظهر أن الشارح أتمه ببلدة بخارى . (*)

ص 268

رسول الله (ص) كان يبول قائما فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا قاعدا ، ثم نقل (1) عن ابن المنذر (2) في الإشراف أنه قال : اختلفوا في البول قائما فثبت عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت (3) وابن عمر (4) وسهل بن سعد (5) أنهم بالوا قياما انتهى هذا (6) ، وأما ما ذكره من أن نسبة تجويز سرقة الدرهم على الأنبياء إلى أهل السنة افتراء فمكابرة ومراء لما سيجئ في مباحث الحدود والجنايات من المسائل

(هامش)

(1) قال ابن قدامة الحنبلي في كتاب المغني : قال الترمذي : هذا أصح شيء في الباب انتهى . منه (قده) . (2) هو الشيخ أبو بكر محمد بن إبراهيم المشتهر بابن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318 وله كتب كتاب الإشراف على مذاهب الأشراف في الفقه على المذاهب الأربعة (3) هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمر البخاري المدني كاتب الوحي وهو الذي جمع المصحف في عهد أبي بكر على ما ذكره الخزرجي التذهيب ص 108 وقسم غنائم اليرموك ، روى عنه أنس وابنه خارجة بن زيد وسليمان بن زيد بن يسار ، توفي سنة 45 وقيل 48 وقيل 51 (4) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمان المكي عنه سالم وحمزة وابن المسيب ومولاه نافع ، توفي سنة 74 كما في التذهيب ص 176 (5) هو سهل بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري أبو العباس ، المدني الصحابي الجليل ، عنه الزهري وأبو حازم ، وأبو سهل ، الأصبحي ، توفي على ما في التذهيب للخزرجي ص 133 سنة (91) عن مأة سنة ونقل عن ابن مطين أنه آخر من مات من الصحابة بالمدينة ، ثم إن المعروف والمذكور في بعض كتب المقاتل إنه كان هذا الصحابي مقيما بالشام زمن ورود أهل البيت عليهم السلام في أسارة يزيد عليه اللعنة إياهم ومجيئه إلى السجاد (ع) والله العالم (6) يوجد في بعض النسخ هنا بعض الكلمات ويحث لم نتيقن بكونها من الكتاب تركناها . (*)

ص 269

الفقهية أنهم قالوا : إن الدرهم ليس بمال ، لأنه لا قطع فيه فسرقته لا تكون كبيرة وقد مر أن الصغيرة جائزة على الأنبياء عند جماعة من أهل السنة فظهر تجويزهم لسرقة الدرهم عليهم كما ذكره المصنف . قال المصنف رفع الله درجته وقد لزمهم من ذلك محالات منها جواز الطعن على الشرائع وعدم الوثوق بها ، فإن المبلغ إذا جوزنا عليه الكذب وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمدا أو نسيانا أو يترك شيئا مما أوحي إليه ويأمر من عنده فكيف يبقى اعتماد على أقواله انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : قد علمت فيما سبق مذهب الأشاعرة وأنهم لا يجوزون الكذب عمدا على الأنبياء ولا سهوا ، وهذا مذهبهم ، وأما السهو في غير الكذب فيجوزونه ولا بأس فيه ، لأنه الله تعالى هو الذي يوقع عليه السهو ليجعله سببا للتشريع انتهى . أقول الكلام مع من أجازه من أهل السنة وقوع الكذب وغيره من المعاصي عن إبراهيم وغيره من الأنبياء في حال النبوة كما مر ، ولا يدفع ذلك القول بأن خصوص الأشاعرة منهم لا يجوزون الكذب الخ ، على أن الأشاعرة حيث يجوزون عليهم الكذب وسائر الكبائر قبل البعثة فلا يبقى اعتماد على أقوالهم بعدها أيضا كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، وما ما ذكره من أن الله تعالى يجعل السهو على النبي (ص) سببا للتشريع فقد مر أن الله متعال عن هذا التشريع الشنيع قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه إذا فعل المعصية فإما أن يجب علينا اتباعه فيها فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه ، واجتمع الضدان وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة انتهى .

ص 270

قال الناصب خفضه الله أقول : قد ذكرنا هذا الدليل فيما مضى من قبل الأشاعرة وهو حجة على من يجوز المعاصي على الأنبياء ، وهذا ليس مذهب الأشاعرة ، والصغائر التي يجوزونها على الأنبياء ما يقع على سبيل الندرة ولا يقدح هذا في ملكة العصمة كما قد قدمناه ، ويجب أن يكون في محل يعلم أنها واقعة منه على سبيل الندرة ، والنبي يبين أن هذا ليس محل المتابعة ، وبالجملة قد قدمنا أن تجويز المعصية على الأنبياء مطلقا محل تأمل لهذا البرهان والله أعلم . أقول ما ذكره هاهنا مدفوع ، بمثل ما دفعنا جوابه عن الفصل السابق فعليك بالتأمل في التطبيق وبالله التوفيق . قال المصنف رفع الله درجته ومنها أنه لو جاز أن يعصي لوجب إيذائه والتبري منه ، لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن الله تعالى قد نص على تحريم إيذاء النبي (ص) ، فقال : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة (1) انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : قد ذكرنا هذا الدليل من قبل الأشاعرة وهو حجة على من يجوز الكبائر ، وأما الصغائر فمن لم يباشر الكبيرة في معفوة عنه فلا زجر ولا تعنيف ولا إيذاء (انتهى) . أقول يندفع هذا أيضا ما ذكرناه في الفصل السابق وقد مر أن الأشاعرة يجوزون

(هامش)

(1) الأحزاب . الآية 57 (*)

ص 271

الكذب في غير ما يتعلق بالرسالة وغيرها من الكبائر فهذا الدليل حجة على الأشاعرة أيضا . قال المصنف رفع الله درجته ومنها سقوط محله ورتبته عند العوام فلا ينقادون إلى طاعته ، فتنتفي فائدة البعثة ، ومنها أنه يلزم أن يكون أدون حالا من آحاد الأمة ، لأن درجات الأنبياء في غاية الشرف ، وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش كما قال الله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين (4) والمحصن يرجم وغيره يحد وحد العبد نصف حد الحر ، والأصل فيه أن علمهم بالله أكثر وأتم وهم مهبط ويحه ومنازل ملائكته ، ومن المعلوم أن كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع ، فينافي صدور الذنب لكن الإجماع دل على أن النبي (ص) لا يجوز أن يكون أقل حالا من آحاد الأمة ، ومنها أنه يلزم أن يكون مردود الشهادة لقوله تعالى : إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا (2) فكيف يقبل عموم شهادته في الوحي ؟ ويلزم أيضا أن يكون أدنى حالا من عدول الأمة وهو باطل بالإجماع ، ومنها أنه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به لقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول (3) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فاتبعوني (4) والتالي باطل بالإجماع وإلا اجتمع الوجوب والحرمة انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : قد سبق أن هذه الدلائل حجة على من قال بجواز صدور الكبائر عنهم

(هامش)

(1) الأحزاب . الآية 30 (2) الحجرات . الآية 6 (3) النساء . الآية 59 (4) الأحزاب . الآية 21 (*)

ص 272

والاكثار من الصغائر حتى يصير سببا لحط منزلتهم عند الناس وموجبا للإيذاء والتعنيف وترجيح الأمة عليه ، وأما صدور الصغائر التي عفا الله عنها إذا كان على سبيل الندرة فغير ممتنع ، ولا تدل المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها عنهم ، وكل هذه الدلائل قد ذكرناه فيما سلف وأن الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال على من يقول بجواز الكبائر ، وقد قدمنا أن بعض تلك الأدلة يدل على وجوب نفي الذنب عن الأنبياء مطلقا والله تعالى أعلم انتهى . أقول ما ذكره الناصب هاهنا يدل على بهته واضطرابه واشتباه حقيقة مذهبه عليه ونسيانه لما ذكره سابقا ، فإنه لم يقل سابقا ، إن هذه الدلائل حجة على من قال : بجواز صدور الكبائر عن الأنبياء ، ولو اعترف بذلك فقد تم لنا الدست (1) وقامت الحجة عليه وعلى أصحابه ، لأنه النزاع بين الفريقين إنما كان في أن المخل بالنبوة والمانع من امتثال أمر الأنبياء هل هو وقوع الكبائر والصغائر أو جواز وقوعهما ؟ فالأشاعرة كانوا يقولون : إن مجرد الجواز لا يخل بذلك ، والإمامية كانوا قائلين بإخلاله ، وبالجملة الأشاعرة قائلون بجواز وقوع الكبائر عنهم ، غاية الأمر أنهم يقولون : إن العقل والسمع دل على عدم وقوع بعض الكبائر المخل بالمعجزة كالكذب ، وكيف ينكر هذا ؟ وعنوان أدلته ثمة صريحة فيه حيث قال : الأول أنه إن صدر عنهم الكذب الخ والثاني ذكرها المصنف إذا افرغ في قالب الدليل يصير أنه لو جاز صدور الذنب عنهم لكان كذا ، ولو جاز وقوع الكبائر عنهم لكان كذا ، والفرق بين العنوانين لفظا ومعنى ظاهر جدا ، وأيضا قد سبق منا أيضا أن هذه اللوازم التي

(هامش)

(1) الحيلة والخديعة والتمكن (*)

ص 273

سماها الناصب دلائل إنما أوردها المصنف على من قال بجواز صدور الكبائر والصغائر عن الأنبياء مطلقا قبل البعثة وصدور بعض منها بعدها لا على خصوص الأشاعرة فلا يفيد في دفعها إظهار تنزيه الأشاعرة عن ذلك مع أن الأشاعرة بأجمعهم ليسوا براء عن ذلك كما مر أيضا ، إن قيل : حاصل ما ذكر في المقام من الدليلين الأولين أن تجويز المعاصي عن الأنبياء والأئمة عليهم السلام يقدح فيما هو الغرض من بعثة الأنبياء ونصب الإمام أعني قبول أقوالهم وامتثال أوامرهم ونواهيهم ، فبينوا لنا وجه القدح في ذلك وسقوط مرتبتهم عند الناس ، إذ هو خفي جدا ، ولهذا طال الكلام في المسألة بين الفريقين قلت : وجهه أن من يجوز عليه الكباير والمعاصي فإن النفس لا تسكن ولا تطمئن إلى قبول قوله مثل (كما تسكن وتطمئن خ ل) ما تطمئن إلى قول من لا يجوز عليه شيء من ذلك جزما قال (1) الشريف المرتضى رضي الله عنه وهذا هو معنى قولنا : إن وقوع الكبائر والمعاصي ينفر عن القبول والامتثال والمرجع فيما ينفر ولا ينفر إلى العادات (2) وليس ذلك مما يستخرج بالدليل ، ومن رجع إلى العادة علم صدق ما ذكرناه فإن الكبائر في باب التنفر لا تنحط عن المباحاة التي تدل على خسة صاحبها وعن المجون (3) والسخافة ولا خلاف في أنها ممتنعة عنهم ، فإن قيل : أو ليس قد جوز كثير من الناس الكبائر على الأنبياء والأئمة ومع ذلك لم ينفروا عن قبول أقوالهم وامتثال أوامرهم ؟ وهذا يناقض قولكم إن الكبائر منفردة ، قلنا : هذا من لا يعرف معنى التنفير ، إذ لم نرد به ارتفاع التصديق والامتثال رأسا ، بل ما ذكرناه من عدم سكون النفس وحصول

(هامش)

(1) في كتاب تنزيه الأنبياء (ص 4 ط تبريز) (2) عبارة التنزيه إلى هنا (3) قلة الحياء (*)

ص 274

الاطمئنان ، ولا يشك عاقل في أن النفس حال عدم تجويز الكبائر أقرب منها إلى ذلك عند تجويزها ، وقد يبعد الأمر عند الشيء ولا يرتفع كما يقرب من الشيء ولا يقع عنده ، ولا يرى أن عبوس (1) الداعي إلى طعامه وتضجره منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفرا ، وكذلك طلاقة وجه واستبشاره وتبسمه يقرب من الحضور والتناول وقد يرتفع عند ذلك ، ولا يقال : هذا يقتضي أن لا تقع الكبائر عنهم حال النبوة والإمامة ، وأما قبلها فلا لزوال حكمها بالتوبة المسقطة للعقاب والذم ولم يبق وجه يقتضي التغير ، لأنا نقول : إنا لم نجعل المانع عن ذلك استحقاق العقاب والذم فقط ، بل ولزوم التنفير أيضا ، وذلك حاصل بعد التوبة ، ولهذا نجد ذلك من حال الواعظ الداعي إلى الله وقد عهدنا منه الإقدام على كبائر الذنوب وإن تاب عنها ، بخلاف من لم يعهد منه ذلك (2) ، والضرورة فارقة بين الرجلين فيما يقتضي القبول والنفور ، وكثيرا ما نشاهد أن الناس يعيرون من عهد منه القبائح المتقدمة وإن حصلت منه التوبة والنزاهة ويجعلونها نقصا وعيبا وقدحا ، غاية ما في الباب أن الكبائر بعد التوبة أقل تنفيرا منها قبل التوبة لا يخرج بذلك عن كونها منفردة ، فإن قلت فلم قلتم : إن الصغائر لا تجوز عليهم مطلقا ولا تنفير فيها ؟ قلت : بل التنفير حاصل فيها أيضا عند التأمل ، لأن اطمئنان النفس وسكونها إنما هو مع الأمن عن ذلك لا مع تجويزها ، والفرق بأن الصغائر لا توجب عقابا وذما ساقط ، لأن المعتبر التنفير كما ذكرنا مرارا ، ألا ترى أن كثيرا من المباحات منفردة ولا ذم ولا عقاب فيها

(هامش)

(1) بضم العين ، التقطب (2) ومن هذا الباب ما يذكر في الفقه في باب الصلاة حيث يشترط أكثر الأصحاب : أن لا يكون الإمام محدودا بالحد الشرعي وأن لا يكون مبتلى بأمراض منفردة للقلوب ولا يكون غير طاهر المولد ونحوها من الأمور التي تنفر الناس من المتصف بها . (*)

ص 275

بل نقول : إنه ربما يحصل التنفير عما يورث لفاعله ثوابا أيضا باعتراف الخصم ، فإنهم أيضا ربما حكموا على بعض الاجتهادات البعيدة عن قانون العقل والتنقل بكونه منفرا للعوام مع تصريحهم بأن المجتهد المخطئ مثاب ، قال أبو المعالي الجويني (1) الملقب بإمام الحرمين في رسالته المعمولة في بيان حقية (أحقية خ ل) مذهب الشافعي ، فإن قيل : قد أتفق للشافعي أصل (2) مقطوع ببطلانه على وجه أجمعت الأمة شارقة وغاربة أرضا فأرضا طولا وعرضا على بطلان ذلك الأصل ، وهو أنه لم يجوز نسخ السنة بالكتاب ولم يجوز نسخ الكتاب بالسنة وهذا من أمحل المحالات والعاصي إذا سمع هذا يستنفر طبعه وينزوي من تقليده والاقتداء به ، الجواب قلنا : هذا الأصل غير مقطوع ببطلانه ، فإنه إنما لم يجوز نسخ السنة المتواترة بالكتاب لأن الله تعالى الخ ، وتقرير الكلام على هذا التفصيل والتدقيق من نفائس هذا التعليق فاحفظه فإنه بذلك حقيق . قال المصنف رفع الله درجته

المبحث الثالث في أنه يجب أن يكون منزها عن دناءة (3) الآباء وعهر الأمهات

(هامش)

(1) قد مرت ترجمته في أوائل هذا الجزء (2) قاعدة عدم جواز نسخ السنة بالكتاب ونسخ الكتاب بالسنة مذكورة في مقدمات كتاب الأم للشافعي ، واختلفت كلمة الشافعية ، فمنهم من تبعه في كلا الأمرين ومنهم من خالفه فيهما ، ومنهم من فصل ، ومن رام التفصيل فليراجع إلى أصول المزي وكتاب النووي والسبكي والجويني وغيرها من كتبهم الأصولية . (3) مسألة طهارة آباء النبي وأمهاته من الدنائة والكفر والعهر مما اختلفت الكلمة فيها أما نحن معاشر شيعة آل الرسول صلى الله عليه وآله مجمعون على الطهارة منها ووافقنا أكثر الشيعة الزيدية كما يفصح عن ذلك كلمات الشريف المرتضى اليماني الحسني صاحب كتاب إيثار الحق على الخلق ، والروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ، وكذا = (*)

ص 276

(هامش)

= وافقنا أكثر المعتزلة من العامة والأدلة السمعية العقلية والاعتبار تساعدنا كما سيتضح لك ذلك . ولله در الحافظ جلال الدين السيوطي حيث ألف رسائل في هذا الباب وأثبت ما نحن عليه وكذا صرح به الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب سيرته صلى الله على وآله . وعقد السيوطي بابا في ذلك في كتاب الخصائص الكبرى (ج 1 ص 37 طبع حيدر آباد) . قال ما لفظه : أخرج ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح ، وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء وما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام ، وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت من نكاح غير سفاح ، وأخرج ابن ساع وابن أبي شيبة في المصنف عن محمد بن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم لم يصيبني من سفاح الجاهلية شيء ولم أخرج إلا من طهرة ، وأخرج أبو نعيم من طرق ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلتق أبواي قط على سفاح لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا لا تتشعب شعبتان لا كنت في خيرهما ، وأخرج البزاز والطبراني وأبو نعيم من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى وتقلبك في الساجدين قال ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه ، إلى أن قال وقال أبو نعيم : وجه الدلالة على نبوته من هذه الفضيلة أن النبوة ملك وسياسة عامة والملك في ذوي الأحساب والاخطار من الناس ، لأن ذلك أدعى إلى انقياد الرعية له وأسرع إلى طاعته ، ولذلك سأل هرقل أبا سفيان كيف نسبه فيكم ؟ قال هو فينا ذو نسب ، قال هرقل : وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها انتهى . وفي حيوة النبي صلى الله عليه وآله نقلا عن سيرة العلامة ذيني دحلان المفتي أنه قال قال الفخر الرازي : إن أبوى النبي صلى الله عليه وسلم كانا على الحنيفية دين إبراهيم = (*)

ص 277

ذهبت الإمامية إلى أن النبي يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات (1)

(هامش)

= كما كان زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه ، بل إن آباء الأنبياء كلهم ما كانوا كفارا تشريفا لمقام النبوة ، وكذلك أمهاتهم وإن آزر لم يكن أبا لإبراهيم بل كان عمه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : وتقلبك في الساجدين ، مع قوله صلى الله عليه وسلم : لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات إلى أن قال : وقد ارتضى كلامه هذا أئمة محققون منهم العلامة المحقق السنوسي والتلمساني محشى الشفاء ، فقالا لم يتقدم لوالديه شرك وكان مسلمين لأنه صلى الله عليه وسلم انتقل من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة ، ولا يكون ذلك إلا مع الإيمان بالله تعالى ، وقد أيد الجلال السيوطي كلام الفخر الرازي بأدلة كثيرة وألف في ذلك رسائل إلى أن قال زيني دحلان : وقد صحت الأحاديث في البخاري وغيره وتظافرت نصوص العلماء بأن العرب من عهد إبراهيم كانوا على دينه لم يكفر منهم أحد إلى أن جاء عمرو بن عامر الخزاعي الذي قال له عمرو بن الحي فهو أول من عبد الأصنام وغير دين إبراهيم الخ انتهى وهذا نبذ من كلماتهم في المقام ولعمري ما أقل حياء رجل يذهب إلى عدم اشتراط الطهارة من الدنائة وغيرها وما أساء أدبه النسبة إلى ساحة النبي الأكرم ، فأكرم بما اخترناه من التقديس والتنزيه في نسبه وحسبه وقد ورد في زيارة مولينا الحسين الشهيد سبط الرسول صلى الله عليه وآله (أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها) . ثم إن ما اخترناه من الطهارة والتنزيه في أصول النبي صلى الله عليه وآله ، هو مختارنا في أصول أوصيائه وخلفائه الأئمة من أهل البيت عليهم السلام كيف وهم فرع من تلك الشجرة المباركة الزكية الطيبة الطاهرة .

(هامش)

(1) العهر بفتح العين وكسرها : السفاح والزناء ومنه قوله صلى الله عليه وآله : الولد للفراش وللعاهر الحجر . (*)

ص 278

بريئا من الرذائل والأفعال الدالة على الخسة كالاستزراء (1) به (كالاستهزاء خ ل) والسخرية والضحك عليه ، لأن ذلك يسقط محله عن القلوب وينفر الناس عن الانقياد له ، فإنه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشك والارتياب ، وخالفت السنة فيه ، أما الأشاعرة فباعتبار نفي الحسن والقبح فلزمهم أن يذهبوا إلى جواز بعثة من ولد من الزنا المعلوم لكل أحد ، وأن يكون أبوه فاعلا لجميع أنواع الفواحش وأبلغ أصناف الشرك ، وهو ممن يتمسخر به ويضحك عليه ويصفع (2) في الأسواق ويستهزء به قوادا ، تكون أمه في غاية الزناء والقيادة والافتضاح بذلك لا ترديد المس ، ويكون هو عليه السلام في غاية الدناءة والسقاطة حال النبوة وقبلها يصفع في الأسواق ويعتمد المناكير ويكون قوادا بصاصا (بطاطا خ ل . بطالا خ ل) فهؤلاء يلزمهم القول يذلك حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليين ، وأن ذلك ممكن ، فيجوز وقوعه من الله تعالى وليس هذا أبلغ من تعذيب الله لمن لا يستحق العذاب بل يستحق الثواب طول الأبد انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : نعوذ بالله من هذه الخرافات والهذيانات وذكر هذه الفواحش عند ذكر الأنبياء والدخول في زمرة إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة (3) وكفى به إسائة للأدب أن يذكر عند ذكر الأنبياء عليهم السلام أمثال هذه الترهات ، ثم يفتري على مشايخ السنة وعلماء الإسلام ما لا يلزم من قولهم شيء منه ، قود علمت أن الحسن والقبح يكون بمعاني ثلاثة ، أحدها

(هامش)

(1) من زرى ، بمعنى استخف واحتقر . (2) أي يضرب قفاه بالكف المبسوطة . (3) النور : الآية 19 (*)

ص 279

وصف النقص والكمال ، والثاني الملائمة والمنافرة ، وهذان المعنيان عقليان لا شك فيه ، فإذا كان مذهب الأشاعرة أنهما عقليان فأي نقص أتم من أن يكون صاحب الدعوة الإلهية موصوفا بهذه القبائح التي ذكرها هذا الرجل السوء الفحاش وكأنه حسب أن الأنبياء أمثاله من رعاع الحلة الذين يفسدون على شاطئ الفرات بكل ما ذكره نعوذ بالله من التعصب فإنه أورده النار انتهى . أقول الخرافة الظاهرة ما ظهر عن هذا الناصب الفاجر العاجز المبهوت الذي ينسج عليه أمورا واهية كنسج العنكبوت ، فمقصود المصنف عنه يفوت ، فإنه لم يفهم مقصود المصنف قدس سره مع ظهوره كالنور على شاهق الطور فأتى بما شاء من الفتور والفطور ، وذلك لأن كلام المصنف قدس سره في فعل الله وهو البعثة كما صرح به بقوله : فلزمهم أن يذهبوا إلى جواز بعثة من ولد من الزناء الخ ولزوم (1) ما ذكره مع القول بالحسن والقبح بالمعنيين المذكورين وتجويز صدور القبائح عنه تعالى ظاهر لا خفاء فيه ، إما بالنظر إلى المعنى الأول فلأن الكمال والنقصان مخصوصان بالصفات كما صرحوا به فيما نقل سابقا ، والبعثة من الأفعال فلا يجريان فيها ، وإما بمعنى الملائمة والمنافرة فلأن بعثة من يفعل به كل شنيع قد يلائم غرض الفاعلين فجاز أن يبعث الله تعالى مثل هذا الشخص لملائمته غرض هؤلاء ، إذ هو حاكم على الإطلاق ولا يجب عليه شيء ولا يقبح بل كان قبيح يصير حسنا بفعله كما قال به الأشعري ، فكيف يحكم العقل بأحد المعنيين على عدم جواز ذلك على الله تعالى ، وقد أشار المصنف إلى انضمام باقي المقدمات التي ذكرناها بقوله : وإن ذلك

(هامش)

(1) على أن الناصب قد صرح في جرح المطلب العاشر بأن الأشاعرة لم يقولوا بالحسن العقلي أصلا ، فكيف يبني هاهنا على ذلك تأمل . منه (قده) . (*)

ص 280

ممكن فيجوز وقوعه من الله وليس هذا أبلغ من تعذيب الله تعالى من لا يستحق العذاب بل يستحق الثواب وفصل ذلك فيما سيجئ بعيد ذلك متصلا به عند الكلام على المعتزلة فلا تغفل ، ولقد اتضح بما ذكرناه أنه لا يرتبط بما ذكره المصنف قدس سره ما ذكرناه هذا الناصب بقوله : فإن كان مذهب الأشاعرة أنهما عقليان فأي نقص أتم من أن يكون صاحب الدعوة الإلهية موصوفا بهذه القبائح الخ ، وذلك لظهور أنه لا يلزم من إدراك العقل بأحد المعنيين قبح اتصاف صاحب الدعوة بذلك إدراكه قبح إرسال الله تعالى لمثل هذا الشخص ، وكيف يدرك ذلك مع أنه على قاعدة القوم لا يقبح شيء عن الله تعالى ، فيجوز عليه بعثة مثل ذلك الشخص كما جوزوا عليه صدور غيره من القبائح والظلم حسب ما أشار إليه المصنف قدس سره ويؤكده ما في المواقف وشرحه (1) من أن النبوة عند أهل الحق من الأشاعرة من قال له الله : أرسلتك إلى قوم كذا ولا يشترط في الارسال شرط من الأعراض والأحوال المكتسبة بالرياضيات والمجاهدات في الخلوات والانقطاعات ، ولا استعداد ذاتي من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة كما يزعمه الحكماء ، بل الله سبحانه يختص برحمته من يشاء من عباده (2) فالنبوة رحمة متعلقة بمشيءته فقط انتهى ، هذا ، وأما الآيات التي ذكرها في توبيخ المصنف قدس سره فإنما تناسب بحال أسلاف الناصب حيث أشاعوا تلك الروايات الفاحشة وذكروها في صحاحهم وغيرها من جوامعهم وتداولوها بينهم في أنديتهم ومجالسهم قرنا بعد قرن ، فإن كون قصدهم في ذلك تشييع الفاحشة ظاهر لا مجال للمناقشة فيه ، وأما المصنف فليس قصده في هذا المقام إلا استقباح أمر السلف في إشاعة تلك الفواحش ليرتدع الخلف عن اتباعهم بل الذي فعله المصنف من قبيل الجرح والتعديل الذي قد أوسعوا له السبيل ،

(هامش)

(1) ذكره في (ج 2 ص 408 ط مصر) (2) البقرة . الآية 105 (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب