ص 281
وفي تفسير النيسابوري أن بعضهم حمل الفاحشة على الزنا وخصص من يحب شيوع الفاحشة
بعبد الله بن أوفى ، فعلى هذا لا ترتبط الآية بما نقله القوم أيضا فضلا عن المصنف
قدس سره ، وأما ما ذكره من أن المصنف أساء الأدب بذكر تلك القبائح والمعايب عند ذكر
الأنبياء عليهم السلام فهذا أيضا من بركة البرامكة ، (1) فإن الأشاعرة وهم الذين
قالوا : بجواز صدور الفواحش عنهم ، فيلزم الناقل لكلامهم ما لزمهم من المقارنة في
الذكر ونقل الكفر ليس بكفر بالاتفاق ، وأيضا كثيرا ما يفرض الحكماء والمتكلمون عند
الاستدلال على وجود الواجب أو على وحدته : مثلا عدمه أو تعدده المستلزم لكفر قائله
أو شركه ، ولم يتوجه عليهم إلى الآن مؤاخذة عن عاقل فضلا عن فاضل بأن ذلك إساءة أدب
أو كفر أو شرك ، فكذا فيما أتى به المصنف هاهنا لاتحاد أسلوب الكلامين ، وإنما الذي
حمل الناصب على هذا التشنيع عجزه عن الجواب أو انحرافه عن سمت الحق والصواب ، كما
حكي (2) أن رجلا رأى فقيها ناقصا كالناصب في مسجد فسأله عم مسألة من مسائل الحيض أو
الاستحاضة ولما رأى الفقيه أنه عاجز عن جواب مسألته اضطرب وقال ساخطا عليه ، أخرج
هذه القاذورات من بيت الله موه عليه جهل نفسه ، فلينظر أولياء الناصب أن هذه
(هامش)
(1) هي من الأمثال المولدة قالها رجل من الشعراء والوافدين لما أعطاه الرشيد
العباسي مالا جزيلا فقال بدل أن يشكر للمنعم : وهذا من بركة البرامكة فصارت الكلمة
مثلا شايعا يضربه به في من لم يشكر لمنعمه بل شكر غيره وأسند النعمة إليه وهذه
الصفة مذمومة من جهة وغير مذمومة من أخرى كما لا يخفى . (2) ونظيره ما يحكى من أنه
سأله سائل عن فلسفي متوغل في الحكمة غير عالم بالفقه عن مقدار النزح لو وقع غراب في
البئر ومات ، فلما رأى المسئول عنه عجزه عن الجواب الفقهي أجاب لا وقع لسؤالك لأن
الغراب طائر لا يقع في البئر ، لأنه يضرب به المثل في الحذاقة والكياسة والحذر .
(*)
ص 282
الحيل والتمويهات أفسد أو ما يصدر (1) من رعاع الحلة على شاطئ الفرات . قال المصنف
رفع الله درجته وأما المعتزلة فإنهم حيث جوزوا صدور الذنب عنهم لزمهم القول بجواز
ذلك أيضا ، واتفقوا على وقوع الكبائر منهم قبل البعثة كما في قصة إخوة يوسف ،
فلينظر العاقل بعين الإنصاف هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة والآراء
الردية ، وهل يبقى مكلف ينقاد إلى قبول قول من كان يفعل به الفاحشة طول عمره إلى
وقت نبوته وأنه يصفع ويستهزء به حال النبوة ، وهل يثبت بقول مثل هذا حجة على الخلق
، واعلم أن البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط وأنهم إن بحثوا في ذلك فقد
استعملوا الفضول لأنهم يجوزون تعذيب المكلف على أنه لم يفعل ما أمره الله تعالى به
من غير أن يعلم ما أمره به ولا أرسل إليه رسولا البتة ، بل على امتثال ما أمره به
وأن جميع القبائح من عنده تعالى ، وأن كل ما هو واقع في الوجود فإنه من فعله تعالى
وهو حسن ، لأن الحسن هو الواقع والقبيح هو الذي لم يقع ، فهذه الصفات المذكورة
الخسيسة في النبي وأبويه تكون حسنة لوقوعها من الله تعالى ، فأي مانع حينئذ من
البعثة باعتبارها ، فكيف يمكن للأشاعرة منع كفر النبي وهو من الله وكل ما يفعله
تعالى فهو حسن ، وكذا أنواع المعاصي وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء ،
نعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى تحسين الكفر وتقبيح الإيمان وجواز بعثة من اجتمع فيه
كل الرذائل والسقطات ، وقد عرفت من هذا أن الأشاعرة في هذا الباب قد أنكروا
الضروريات انتهى . قال الناصب خفضه الله أقول : استدلال المعتزلة على وقوع الكبائر
من الأنبياء قبل البعثة بقصة إخوة يوسف
(هامش)
(1) ولا يصدر بل هو افتراء محض وسوء الظن بالمسلم (*)
ص 283
استدلال قوي ، لأن الإجماع واقع (1) على أن إخوة يوسف صاروا أنبياء بعد إلقاء يوسف
في الجب وغيره من الذنوب التي لا شك أنها كبائر ، وهذا الرجل ما تعرض بجوابه إلا
بالفحش والخزعبلة (2) واللوذعية (3) كالرعاع (4) والأجلاف (5) السوقية ، والمعتزلة
يثبتون الوقوع وهو لا يقدر على الدفع ويبحث معهم في الجواز ، وهذا من غرائب أطواره
في البحث ، ثم ما ذكر أن البحث مع الأشاعرة ساقط لأنهم يجوزون تعذيب المكلف وغيره
من الطامات ، وقد عرفت فيما سبق جواب كل ما ذكر وأن الحسن والقبح شرعيان بمعنى
وعقليان بمعنيين آخرين ، وعلمت أن كل ما ذكره بمذهبهم ولا يرد عليهم شيء وأنهم لا
يخالفون ضرورة العقل انتهى أقول دعوى الإجماع ممنوع ، وإنما ذهب من ذهب إلى كونهم
أنبياء من تفسيره الاجتباء بالنبوة في قوله تعالى (6) : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من
تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم
وإسحاق . الآية وليس الاجتباء صريحا ولا ظاهرا في هذا المعنى كما يشعر به قوله
تعالى : وكذلك يجتبيك ، فإن معناه على ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره كما
(هامش)
(1) العجب من هذا الرجل حيث يدعي أمورا لا يوجد لها مستند تاريخي ولا نقلته النقلة
من الفريقين ، وظني أنه كلما عجز عن الجواب عن الاعتراض نسج من عنده حبرا فضلية
يريد بها التمويه والاغفال . (2) الخزعبلة : المزاح (3) اللوذع واللوذعي الخفيف كما
في القاموس (4) الرعاع : سفلة الناس (5) جمع الجلف بالفتح : الأحمق . (6) يوسف .
الآية 6 (*)
ص 284
اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن كذلك يجتبيك لأمور
عظام ، قال الزجاج (1) : الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا أخلصته لنفسك ومنه الماء
في الحوض ، وأيضا قال الرازي (2) واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء فقال الحسن :
يجتبيك ربك بالنبوة ، وقال آخرون : المراد به إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة ، فأما
تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه ، ثم قال : وأعلم أنا لما فسرنا هذه الآية
بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء ، وذلك لأنه قال : ويتم نعمته
عليك وعلى آل يعقوب ، وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لا ل يعقوب فلما كان المراد من
تمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب وترك العمل به في حق من عدا من أبنائه
وجب أن يبقى معمولا به في حق أولاده انتهى ، وكل ذلك صريح في عدم الإجماع ، وأصرح
من ذلك ما في الشفاء للقاضي عياض (3) حيث قال : وأما قصة يوسف وإخوته فليس على يوسف
منها تعقب (فيها تعتب خ ل) وأما إخوته فلم تثبت نبوتهم فيلزم الكلام على أفعالهم
وذكر الأسباط وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحا في كونهم من أهل
(هامش)
(1) هو العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سري بن سهل البحري من مشاهير أئمة
النحو واللغة ، أخذ عنه جماعة ، منهم أبو علي الفارسي النحوي اللغوي الشهير ،
وللمترجم عدة تصانيف وتآليف ، منها الأمالي ، ولعل ما نقله مولينا القاضي في معنى
الاجتباء منقول عنه ، وكتاب الأنواء ، وما ينصرف وما لا ينصرف ومعاني القرآن وشرح
أبيات سيبويه والنوادر وغيرها ، توفي يوم الجمعة 19 جمادى الثانية سنة 310 وقيل 311
وقيل 316 ببغداد في سلطنة المعتضد العباسي ، فراجع الريحانة (ج 2 ص 117) والبغية
للسيوطي ، وشذارت الذهب وابن خلكان وتحفة الالباء وغيرها من معاجم الترجم . (2) قد
تقدمت ترجمته في (ج 1 ص 110) (3) المجلد الثاني (ص 159 ط الاستانة) (*)
ص 285
الأنباء قال المفسرون يريد من أبناء الأسباط (انتهى) وكيف ينعقد الإجماع في ذلك مع
اتفاق أئمة أهل البيت عليهم السلام وعلماء شيعتهم على خلاف ذلك وأنهم لم ينالوا عهد
النبوة والإمامة ، على أن الشارح الجديد للتجريد ذكر أن كثيرا من المعتزلة ذهبوا
إلى نفي الكبائر البعثة أيضا ، فكيف يتأتى النظر إليهم دعوى الإجماع على إخوة يوسف
، مع أن قولهم فيما حكى الله عنهم في كتابه : ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا (1)
محض الحسد ، والحسد من أمهات الكبائر ، لا سيما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على
تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في غيابة الجب وذل العبودية وتبعيده عن الأب المشفق
، وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم ، وأقدموا على الكذب ، فما بقيت خصلة
مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا بها ، وكل ذلك يقدح في العصمة
والنبوة ، وأما قول الناصب : إن المصنف ما تعرض بجواب استدلال المعتزلة إلا بالفحش
، فمجاب بأن من يكابر ضرورة العقل لا يستحق من الجواب إلا مثل ذلك كما مر وأما قوله
: والمعتزلة يثبتون الوقوع ففيه أن إثبات وقوع نبوة إخوة يوسف مما دونه خرط القتاد
، لأنه هذا الناصب زعم ثبته بالإجماع وقد أوضحنا بطلانه ، ولنعم ما فعل من جعل
الطامات بيانا لما ذهبت إليه الأشاعرة في قوله : ثم ما ذكر أن البحث مع الأشاعرة
ساقط لأنهم يجوزون تعذيب المكلف وغيره من الطامات إلخ فافهم ، وأما ما أحال جوابه
إلى ما ذكر فيما سبق فقد مرنا عليه نحن فيما سبق فتذكر .
(هامش)
(1) يوسف . الآية 8 . (*)
ص 286
في مباحث الإمامة قال المصنف رفع الله درجته
المسألة الخامسة في الإمامة (1) 
وفيها
مباحث
المبحث الأول في أن الإمام يجب أن يكون معصوما :
(هامش)
(1) إعلم أن الإمامة والولاية من المناصب الإلهية التي من الله بها سبحانه على
عباده وجعلها تالية لمرتبة النبوة ، وقد قامت الأدلة العقلية والشواهد السمعية على
اعتبارها شروط فيها من العصمة والطهارة والأفضلية وغيرها مما سيأتي ذكرها تباعا إن
شاء الله تعالى والذي يهمنا في المقام تمهيدا للمرام تقديم أمور الأول كون مسألة
الإمامة من أصول الدين لا من فروعها كما يقول به الناصب ويسنده إلى الأشاعرة ونتعرض
لذلك في التعليقة الثانية . الثاني التكلم في شئون الإمام وكرائمه حسب ما اعتقدته
الشيعة الإمامية وسنشير إليه أيضا في التعليقة الثالثة الثالث وجوب كون الإمام
منصوبا من قبله تعالى بواسطة النبي ، والأدلة الدالة على إثبات ذلك تذكر في ضمن
ثلاث مطالب حسبما يسمها المقام الأول أن الشريعة المقدسة الإسلامية مستمرة إلى يوم
القيامة ، حلاله حلال إلى يومها وحرامه حرام كذلك كما شهدت به الأدلة القطعية ، ولا
شبهة بين الفريقين أن بني الإسلام صلى الله عليه وآله خاتم الأنبياء وليس بعده نبي
من قبله تعالى فعلى ذلك لا بد وأن يكون ذلك الشرع شريعة كاملة مشتملة وليس بعده نبي
من قبله تعالى فعلى ذلك لا بد وأن يكون ذلك الشرع شريعة كاملة مشتملة على جميع
أفراد المكلفين على نحو القضية الحقيقية طول الأزمان المتتالية والقرون المتمادية
إلى يوم القيامة وأن لا يحتاج تكميلها بشريعة أخرى لمكان كمالها وشموخ مقامها وسمو
مرتبتها بين الشرايع والأديان وهل نقص فيها كي يفتاق إلى التكميل حاشا ثم حاشا . =
(*)
ص 287
(هامش)
= بعضهم بعد بعض وتعاطوه يدا بيد حسب أهوائهم الضالة فالمنصوب من قبل الناس للزعامة
والسلطنة إن كان عادلا ولم تنقلب حاله بعد ركوب السلطنة إلى الفسق والفجور لكنه
ربما يتبادر إلى نصب نائب له في الخلافة والزعامة يزعم صلوحه لها فينكشف بعد
ارتحاله وصيرورته سلطانا على الناس وزعيما لهم خبث باطنه وسوء سريرته أو ينصب من
أسر السوء في نفسه وأبطن الخبث في زوايا قلبه واليا وحاكما على بعض النواحي ، فلما
اشتد وقوي في سلطنته لم يخضع لمن كان حقه الخلافة والزعامة بين الناس بل رفع راية
الخلاف وأشعل نار الحرب بين المسلمين حتى تمكن بالقهر والتطميع على سرير الخلافة
ونقلها من أهله إلى أسرته حتى توارثوا واحدا بعد واحد ، وفيهم من استهدف القرآن
الشريف بالسهام وهدم بيت الله الحرام ومن استناب لإمامة الناس في الصلاة جاريته
المعروفة وقس عليه فعلل وتفعلل ، بخلاف المنصوب من قبل الله تعالى من النفوس
القدسية التي أودع سبحانه عز وجل فيها القوانين البشرية والملكوتية التي بها يعلم
السر المستسر فإنه رجل إلهي وبشر سماوي لا ينصب من كان مختفيا في انقياد هواه
متظاهرا بالعدالة والتقى عند من يتبعه ويتولاه ، فكيف بمن كان معلنا بصنوف الفجور ،
وبالجملة ما صدر عن الخلفاء من الظلم والفواحش تجاوز عن حد الاحصاء فما بقي حق إلا
وقد أضاء عوه ، ولا موبقة إلا فعلوها ، أعلنوا على المآذن والمنابر بسب صنو الرسول
سيف الله المسلول الذي به قام الدين وكفى في ذلك ما نقله بن الأثير أن معاوية كان
إذا قنت سب عليا والحسن والحسن والأشتر ، وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : لما
مات الحسن بن علي حج معاوية فدخل المدينة وأراد أن يلعن عليا على منبر رسول الله
فقيل له أن هاهنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا الخ . ونقل أبو عثمان الجاحظ
عنه في هذا الباب أمورا فراجع إلى كتاب النصائح الكافية للشريف الأجل السيد محمد بن
عقيل العلوي الصادقي الحضرمي (ص 71 ط بغداد في مطبعة النجاح) ومنهم من هدم دور من
جعلت مودتهم أجرا للرسالة وأثاروا الفتنة الكبرى وأوقدوا النار في قلوب المسلمين
بصنيعه في الطف وما برز منه من قتل سلالة سيد الأنبياء وسوق حريمه = (*)
ص 292
يكون معصوما (1) ، ???
ذهب الإمامية إلى أن الأئمة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن
(هامش)
= سبايا على أقطاب المطيات تلفح وجوهم حر الهاجرات ، ورفعوا رأس ريحانة الرسول على
القناة وهو رأس زهري قمري طاف به في البلدان والبراري والديارات ، وبالجملة فعلوا
ما تقشعر منه الأبدان وتتفتت القلوب والأكباد ، مظالم أبكت عيون الورى حتى اليهود
والنصارى ، فكيف بمن انتحل إلى الإسلام ، فبالله عليك أيها القارئ الكريم هل يسوغ
أن تكون أمثال هؤلاء زعيما بين المسلمين متمكنا على عريشة الخلافة فكيف يمكن أن
تكون هؤلاء هم المعنيون من أولي الأمر في كلامه جل شأنه الذي قد فرض طاعتهم وقرن
طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله بقوله عز من قائل : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم) هذه إحدى الشواهد والأدلة العقلية الدالة على وجوب كون رئيس الدين
وإمام المسلمين منصوبا من قبله تعالى ولم نورد غيرها رعاية للاختصار ، أيقظ الله
إخواننا عن سنة الغفلة ونومتها آمين آمين (1) إعلم أن جميع الوجوه العقلية وغالب
الوجوه النقلية التي أقيمت على عصمة النبي حتى الأدلة التي أوردها فخر الدين الرازي
في الأربعين للاستدلال على ما ذهب إليه من العصمة تدل بعينها على عصمة الإمام أيضا
وقد أقام أصحابنا لاشتراط العصمة في الإمام عدة من الأدلة غير ما إفادة المصنف ونحن
لا نذكر منها هاهنا إلا وجهين أحدهما قوله تعالى في (سورة النساء الآية 59) أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، قد أوجب الله فيها طاعته وطاعة رسوله وطاعة
أولي الأمر ، وهذا يدل على عصمة أولي الأمر فإن غير المعصوم ربما يأمر بما يخالف
الشرع وليس المراد من وجوب الطاعة أولي الأمر طاعتهم فيما أمر الله به بل مطلقا
فإنه يستغني عن إيجاب طاعتهم بإيجاب طاعة الله وبالجملة كيف يلائم الأمر المطلق
بطاعة أولي الأمر الواقعين في معرض مخالفة الشرع وتفويض أمر الدين إليهم مع غرض حفظ
ناموس الشرع وهل يكون خطر أعظم عليه من ذلك . = (*)
ص 293
جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت عمدا وسهوا ، لأنهم حفظة الشرع والقوامون
به ، حالهم في ذلك كحال النبي (ص) ، ولأن الحاجة إلى الإمام إنما هي للانتصاف من
المظلوم عن الظالم ورفع الفساد وحسم مادة الفتن ، وأن الإمام لطف بمنع القاهر من
التعدي ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرمات ويقيم الحدود والفرائض ويؤاخذ
الفساق ويعزر من يستحق التعزير ، فلو جازت عليه المعصية وصدرت عنه انتفت هذه
الفوائد وافتقر إلى إمام آخر وتسلسل ، وخالفت السنة في ذلك وذهبوا إلى جواز إمامة
الساق والعصاة والسراق كما قال الزمخشري (1) وهو من أفضل علمائهم : لا كالدوانيقي
المتلصص يشير به إلى
(هامش)
= قال فخر الدين الرازي في تفسيره (ج 10 ص 144 ، الطبع الجديد بمصر) : إن الله
تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على
سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ
يكون قد أمر الله بمتابعته فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ والخطأ لكون خطأ منهى عنه
فهذا يقضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد وإنه محال
فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أن كل من أمر الله
بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطاء فثبت قطعا أن أولي الأمر
المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما انتهى . والثاني قوله تعالى في (سورة
البقرة . الآية 124) ، إني جاعلك للناس إمام قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي
الظالمين . فإنه لا إشكال في أن المعصية كبيرة كانت أو صغيرة ظلم بلا إشكال وإن كان
يعفو الله عن الصغائر بعد ارتكابها إلا أنها مبغوضة منهية عنها وإلا لم تكن معصبة
أصلا وقد قال تعالى شأنه في (سورة البقرة : الآية 229) ومن يتعد حدود الله فأولئك
هم الظالمون . (1) قد مرت ترجمته في أوائل هذا الجزء . (*)
ص 294
المنصور (1) ، فأي عاقل يرتضي (يرضى خ ل) لنفسه الانقياد الديني والتقرب إلى الله
بامتثال أؤامر من كان يفسقونه طول وقته وهو غائص في القيادة وأنواع الفواحش ويعرض
عن المطيعين المبالغين في الزهد والعبادة ، وقد أنكر الله تعالى بقوله : أمن هو
قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (2) فالأشاعرة لا يتمشى هذا على قواعدهم
حيث جوزوا صدور القبائح عنه تعالى ، ومن جملتها الكذب فجاز الكذب في هذا القول
تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وأما الباقون فإنهم جوزوا تقديم المفضول على الفاضل فلا
يتمشى هذا الانكار على قولهم أيضا فقد ظهر أن الفريقين خالفوا الكتاب العزيز انتهى
. قال الناصب خفضه الله أقول : قد علم أن مبحث الإمامة عند الأشاعرة ليس من أصول
(3) الديانات والعقائد ،
(هامش)
(1) هو أبو جعفر عبد الله المنصور العباسي ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
عم النبي (ص) ، ولد سنة 95 وهو الذي مصر بغداد ، وله حكايات وأقاصيص فراجع تاريخ
الخلفاء للسيوطي ص 176 طبع الهند . (2) الزمر . الآية 9 (3) أصول الدين هي التي
يبتني عليها الدين ، وأصول دين الإسلام على قسمين قسم منها ما يترتب عليه جريان حكم
المسلم في الفقهيات ، وهو الشهادة بالوحدانية والشاهدة بالرسالة وقسم منها يتوقف
عليه النجاة الأخروي فقط ، والتخلص من عذاب الله والفوز برضوانه والدخول في الجنة ،
فيحرم دخولها من لم يعتف به ويساق إلى النار في زمرة الكفار دون العاصين والمرتكبين
لذنب في الفروع ، فإنهم لا يحرم عليهم الجنة وإن دخلوا النار ووقعوا في العذاب بل
يعود مآل أمرهم إلى النجاة إن ارتحلوا عن هذه الدنيا بالعقائد الصحيحة وهذا القسم
من الأصول يسمى أيضا بأصول الإيمان ومن القسم الثاني الاعتقاد بالإمامة = (*)
ص 295
(هامش)
= حيث فيه قد جاء نص جلي * لا فتى في الوجود إلا علي ذاك شخص بملثه الله باها ممكن
غير ممكن بعيان * وصفه في بديع كل بيان إن من كل عنه كل لسان * لا ترم وصفه ففيه
معان لم يصفها إلا الذي سواها هو خدن العلى وللعلم مأوى * كل فضل منه مدى الدهر
يروى مذ سواه العلياء لم تر كفوا * ألفته بكر العلى فهي تهوى حسن أخلاقه كما يهواها
ذاك للمصطفى الحبيب حبيب * وعلى شرعه القويم رقيب ولسقم الدين الحنيف طبيب * عائد
للمؤملين مجيب سامع ما تسر من نجواها ملكا النشأتين دنيا وأخرى * ملأ العالمين يمنا
ويسرى فهما راحتا الفيوضات طرا * وهما مقلتا العوالم يسرا ها علي وأحمد يمناها ما
له في العلا سواه مماثل * وأخ ناصر له في الزلازل وابن عم في الخطب للروح باذل * من
غدى منجدا له في حصار الشعب إذ جد من قريش جفاها قد رآى صورة الهدى من رآه * وأتى
باب العلم من قد أتاه من عن الغيب قد أماط غطاه * كم عرى مشكل فحل عراه ليس
للمشكلات إلا فتاها آية كل منحة تحتويها * آية كل مدحة لا تفيها آية قدست علا
بذويها * آية جائت الولاية فيها لثلاث يعدو الهدى من عداها (*)
ص 304
هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة
وشروط الإمام الذي هو أهل للإمامة ومستحقها أن يكون مجتهدا في الأصول والفروع ليقوم
بأمر الدين ذا رأي وبصارة بتدبير الحرب وترتيب الجيوش ، شجاعا قوي القلب ليقوي على
الذب من الحوزة ، عدلا لئلا يجور ، فإن الفاسق ربما يصرف الأموال في أغراض نفسه ،
والعدل عندنا من لم يباشر الكبائر ولم يصر على الصغائر ، عاقلا ليصلح للتصرفات
الشرعية بالغا لقصور عقل الصبي ذكرا إذ النساء ناقصات العقل والدين حرا قرشيا فمن
جمع هذه الصفات فهو أهل للإمامة والزعامة الكبرى ، وأما العصمة فقد شرطها الشيعة
الإمامية والاسماعيلية ، واستدل عليه هذا الرجل بأن الحاجة إلى الإمام بالأمور
المذكورة ، ولو جازت المعصية عليه وصدرت عنه انتفت هذه الفوائد ، ونقول : ماذا يريد
من العصمة ؟ إن أراد وجوب الاجتناب في جميع أحوال عن الصغائر والكبائر فلا نسلم
لزوم ذلك ، لأن صدور بعض الصغائر المعفو عنها مع اجتنابه عن الكبائر لا يوجب أن لا
يكون منتصفا من الظالم للمظلوم ، وباقي الأمور المذكورة ، وإن أراد وجود ملكة مانعة
من الفجور فنحن أيضا نقول بهذه العصمة ووجوبها للإمام ، لا نا شرطنا أن يكون عدلا
والعدل من له مكلة العصمة مانعة من الفجور ، وصدور بعض الصغائر عنه في بعض الأوقات
ولا يبطل مكلة العصمة لأن الملكة كيفية راسخة في النفس متى يراد صدور الفعل عنه صدر
بلا مشقة وروية وكلفة ، وصدور خلاف مقتضى الملكة لا ينفي وجود الملكة لعوارض لا
يخلوا الإنسان عنها كصاحب الملكة الخلقية من العفة والشجاعة قد يعرض له ما يعرضه
إلى إصدار خلاف الملكة ، ومع ذلك لا تزول عنه الملكة ، فالعصمة بمعنى الملكة حاصلة
للمجتنب عن الكبائر المصر في تركها وإن صدر عنه نادرا بعض الصغائر ، فاندفع هذا
الإشكال ولم يلزم التسلسل كما ذكره ، وأما ما قال : إن أهل السنة خالفوا ذلك وذهبوا
إلى جواز إمامة السراق والفساق
ص 305
فأنت تعلم أن هذا من مفترياته ، لأن كتب أهل السنة مشحونة بالقول بوجوب عدالة
الأئمة (1) ، فالفاسق كيف يجوز عندهم أن يكون إماما والحال أنه ضد العدل فعلم أنه
مفتر كذاب ونعم ما قلت فيه شعر : إذا ما رأى طيبا في الكلام * بقاذورة الكذب قد
دنسه يخلط بالطهر أنجاسه * فابن المطهر ما أنجسه والباقي من الكلام قد علمت أجوبته
غير مرة انتهى أقول فيه نظر من وجوه أما أولا فلأن ما ذكره من أن مبحث الإمامة عند
الأشاعرة ليس من أصول الديانات بل من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين الخ دليل على
عدم ديانتهم أو عدم اطلاعهم على حقائق أصول الدين ، فإن إنكارهم لأصالته مكابرة
مردودة بما ذكره المصنف : من أن الأئمة حفظة الشرع والقوامون به ، حالهم كحال النبي
(ص) ولقوة هذا الدليل أغمض عنه الناصب ولم يتعرض له بل تعرض لما ذكره المصنف بعد
ذلك بقوله : ولأن الحاجة إلى الإمام الخ حيث قال : واستدل عليه هذا الرجل بأن
الحاجة إلى الإمام الخ فافهم ، ومن العجب أنهم بالغوا في فرعية هذه المسألة حتى
قالوا : لا يجب البحث عنها ولا طلب الحق فيها بل يكفي فيها التقليد ، ولهذا لا يكفر
مخالفها بل لا يفسق في ظاهر أقوالهم ، وإنما التزموا ذلك لتحصل الغفلة عما اقترحوه
من ثبوت الإمامة بالاختيار دون النص والاعتبار ، ولئلا يحصل الظفر بفساد ما انتحله
خلفائهم من حقوق الأئمة الأعلام واختلفوه (2) من الأحاديث التي
(هامش)
(1) إلا أنهم وسعوا وتصرفوا في معنى العدالة التي هي من الكيفيات النفسانية الشريفة
الفاضلة بحيث سوغوا الاقتداء بكل بر وفاجر ، وقبول الشهادة واسماع الطلاق كذلك ،
فراجع كلماتهم حتى تطمئن بصدق ما نقلناه من أقوالهم وشاهدناه من أفعالهم . (2)
الاختلاق : في الاصطلاح الوضع والجعل . (*)
ص 306
أسندوها (1) إلى النبي (ص) ، ثم ناقضوا ذلك وصرحوا بأن حقوق النبوة من حماية بيضة
الإسلام وحفظ الشرع ونصب الألوية ، والأعلام في جهاد الكفار والبغاة والانتصاف
للمظلوم وإنفاذ المعروف وإزالة المنكر وغير ذلك من توابع منصب النبوة ثابتة للإمامة
، لأنها خلافة عنها ، ولقوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
(2) وهو الإمام بالاتفاق ، فيجب معرفته أصالة لا من باب المقدمة ولما رووه في كتبهم
كالحميدي في الجمع بين الصحيحين (3) من أن البني (ص) قال من مات ولم يعرف إمام
زمانه مات ميتة جاهلية ، وهو نص صريح في أن الإمامة من الأصول للعلم الضروري بأن
الجاهل بشيء من الفروع وإن كان واجبا لا تكون ميتته ميتة جاهلية ، إذ لا يقدح ذلك
في إسلامه ، وليس المراد من إمام زمانه القرآن المجيد كما زعموا وإلا لكان تعلمه
واجبا على الأعيان ، ولأن النبي (ص) أضاف الإمام إلى الزمان وفيه دليل على اختصاص
أهل كل زمان بإمام فيجب عليهم معرفته ومع القول بأنه القرآن أو بعضه كالفاتحة لا
يبقى لهذا التخصيص فائدة أصلا ، سيما على مذهب الحنفي الذي لا يوجب تعلم القرآن ولا
الفاتحة ولا بعضا آخر منه ، بل يحكمونه بكفاية أن يقال (4) بالفارسية (دو برك سبز)
كما هو المشهور بين الجمهور
(هامش)
(1) فقد تحقق من ذلك أن الإمامة خلافة عن النبوة وقائمة مقامها ، وإذا كان كذلك كان
كل ما استدللنا به على وجوب النبوة في حكمة الله تعالى فهو بعينه دال على وجوب
الإمامة في حكمته أيضا ، لأنها سادة مسدها قائمة مقامها لا فرق بينها وبينها إلا في
تلقي الوحي الإلهي بلا واسطة بشر ، وكذا الكلام في الشرائط ، وسيأتي تحقيق الكلام
فيها إن شاء الله تعالى . (2) النساء . الآية 95 . (3) رواه في كنز العمال (ج 1 ص
186 ط حيدر آباد) (4) كما يدل عليه ما نقله السرخسي عن أبي حنيفة في المبسوط (ج 1 ص
37 ط مصر) = (*)
ص 307
فلا يكون هذا التأويل مطابقا لمقتضى الحديث قطعا بل قد صرح القاضي البيضاوي في مبحث
الأخبار من كتاب المنهاج وجمع من شارحي كلامه بأن مسألة الإمامة من أعظم مسائل أصول
الدين الذي مخالفته توجب الكفر والبدعة ، وقال الاسروشني (1) من الحنفية في كتابه
المشهور بينهم بالفصول الاسروشني بتكفير من لا يقول بإمامة أبي بكر ، بل هم يناقضون
ذلك بفعلهم أيضا حيث يتصدون لقتل (2) من ظن أن
(هامش)
= وكذا ما في كتاب الفتاوى العالمگيرية (ج 1 ص 64 ط الاستانة) وكذا ما فيه أيضا في
(ص 65) وغيرها من كتبهم ، ومن الموارد التي صرح فيه بما ذكره مولينا القاضي من قضية
(دوبرك سبز) كتاب حيوة الحيوان للفاضل الدميري في مسألة مناظرة الحنفية مع الشافعية
بحضرة السلطان فراجع . (1) هو العلامة أبو الفتح مجد الدين محمد بن محمود بن حسين
الحنفي المتوفى سنة 632 أخذ عن أبيه وعن أستاذ أبيه صاحب الهداية وعن السيد ناصر
الدين القتيل وغيرهما ، وله تصانيف وتآليف ، منها كتاب الفصول في الفقه وغيره
والأسروشني بالفتح ثم السكون وضم الراء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة ونون مكسورة
قال ياقوت في المعجم (ج 1 ص 176 طبع بيروت) أن الأعرف أن بعد الهمزة شينا معجمة
انتهى وكذا ضبطه السمعاني فراجعه ، وراجع إلى الفوائد البهية لعبد الحي الهندي (ص
200 طبع مصر) وكثيرا تزاد التاء المحدثناة الفوقانية بعد السين ويقال أستروشني وهو
وهم وزلل فلا تغفل (2) ويكفي في ذلك أن تراجع إلى كتب التراجم فتراها مشحونة
بالشهداء من علماء الشيعة ولله در العلامة المجاهد الآية الأميني دامت بركاته في
تأليفه كتاب شهداء الفضيلة وعليك بالنظر فيه فتجد أن المذكورين فيه هم علماء الشيعة
الذين قتلوا في سبيل التشيع ومنهم الشيخان السعيدان الشهيدان الأول والثاني ومنهم
مولينا الشريف القاضي مصنف الكتاب وممن قتل في هذا الشأن جدي العلامة السيد أبو
المجد الحسيني المرعشي وقد أشرنا في المقدمة أنه قتلته أكراد الشافعية بإشارة من
علمائهم وقد أضفنا على الكتاب أسامي عدة من الشهداء بعنوان الاستدراك فلاحظ . (*)
ص 308
أبا بكر ليس بإمام أو قال أنا أعتقد أن أمير المؤمنين (ع) خليفة النبي (ص) بلا
واسطة لظن أداني أو تقليد لبعض المجتهدين ، وبالجملة لو كانت هذه المسألة من الفروع
لكفى فيها ظن المجتهد أو تقليد الغير ، فلا يكون سبيل إلى تخطئة المجتهد الذي ظن أو
قال شيئا مما تقدم فضلا عن قتله والحال أن فتواهم بل فعلهم بخلاف ذلك هذا ، واستدل
(1) في المواقف وشرحه على أنها من الفروع بأن نصب الإمام واجب على الأمة سمعا
لوجهين الأول أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة والنبي (ص) على
امتناع خلو الوقت (2) عن إمام حتى قال أبو بكر ألا إن محمد قد مات ولا بد لهذا
الدين ممن يقوم به فبادر الكل إلى قبوله وتركوا أهم الأشياء وهو دفن رسول الله (ص)
والصلاة عليه والتعزية لأهل البيت عليهم السلام وتسليتهم ، ولم يزل الناس بعد
الخلفاء على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا هذا من نصب إمام متبع ، الثاني أن فيه
ضرر مظنون وأنه واجب إجماعا ، وبيانه أنا علمنا علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع
فيما شرع إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا انتهى ، وأقول : فيه وجوه من
الخلل وصنوف من الزلل ، أما في استدلاله على ذلك بأن نصب الإمام واجب على الأمة الخ
، فلأنه مصادرة على المطلوب لأنه وجوب النصب على الأمة متفرع على كونه من الفروع مع
أن الوجوب السمعي
(هامش)
(1) شرح المواقف (ج 2 ص 464 ط مصر) (2) وذلك لا يتم إلا بإمام من قبل الشارع يرجعون
إليه فيما يمن لهم ، فإنهم مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء وما بينهم من الشحناء قل
ما ينقاد بعضهم لبعض ، فيقضي ذلك إلى التنازع والتواثب إنما يؤدي إلى هلاكهم جميعا
وتشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر حيث لو تمادى لعطلت
المعاش وصار كل أحد مشغولا يحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه ، وذلك يؤدي إلى رفع
الدين وهلاك جميع المسلمين . كذا في المواقف . (*)
ص 309
منحصر في الكتاب والسنة والإجماع ، والكل مفقود هاهنا باعتراف الخصم كما سيظهر لك
قريبا ، وأيضا وجوب نصبه على الأمة يقتضي أنهم إذا لم يتفقوا لم يحصل انعقاد
الإمامة ، بل يجب إعادة النظر مدة بعد أخرى ، وقد لا يثمر شيئا من ذلك اتفاقهم
لاختلاف الآراء غالبا وهو يبطل تعليقها على رأي الأمة وإلا لزم تعذر نصب الإمام أو
جواز عمل كل فريق برأيه فيكون منصوب كل فريق إمام عليهم خاصة وهو خلاف المطلوب ،
وأما قوله : تواتر إجماع المسلمين على امتناع خلو الوقت وهو خلاف فلأن امتناع خلو
الزمان (الوقت خ ل) عن الإمام أعم من أن يكون منصوبا من الله ورسوله أو من قبل
الأمة ، ولا دلالة للعام على الخاص ، فلا يستلزم المطلوب مع أن الإجماع المذكور حجة
عليهم ، لأنا نجد كثيرا من الزمان خاليا عن إمام جامع للشرائط المعتبرة عندهم وهي
القرشية عندهم بالاتفاق ، والعدالة والاجتهاد على الخلاف ، والقول بوجوده في ناحية
غير معلومة مكابرة ، وأما قوله : فبادر الكل ، فلأن هذا الكل كان بعضا من الكل
باتفاق الكل فلا يكون حجة على الكل عند الكل ، ولأنه يحتمل أن تكون المبادرة للتفحص
عن إمام منصوب من الله تعالى ورسوله ، وأما قوله : وتركوا أهم الأشياء فلأن الذي
ترك الإمام ودفن الرسول كان جائرا جاهلا زنديقا (1) لا عالما عادلا صديقا ، فليس
ذلك مستلزم للمطلوب لقيام الاحتمال المذكور ، والشيعة يستدلون بفعلهم الشنيع هذا
على عصيانهم بل عدم إيمانهم واختيارهم الدنيا على الآخرة وذلك لأنهم يذكرون حديثا
وهو أنه من صلى على مغفور غفر له ذنوبه (2) فلو كانوا مصدقين بما جاء به النبي (ص)
لما أعرضوا عن هذه السعادة الكبرى والمغفرة العظمى مع أن المصلحة والمشورة في أمور
الدين والدنيا ما يفوت بيوم أو يومين ، فلو كان لهم إيمان ومروة لصبروا للصلاة عليه
(ص) والتعزية لأهل البيت عليهم السلام وإدخالهم في المشورة ، إذ النزاع كان معهم
(هامش)
(1) الزندقة الكفر باطنا مع التظاهر بالإيمان . (2) رواه في مجمع الزوائد (ج 10 ص
160 ط مصر) (*)
ص 310
ولذلك قال علي (ع) الشورى والمشيرون غيب (1) وليت شعري كيف صار ذلك واجبا فوريا مع
أنه حين أراد النبي (ص) أن يكتب في مرضه كتابا في هذا الباب منع منه عمر وقال (2)
حسبنا كتاب الله كما سيجئ ، وأما قوله ولم يزل الناس الخ
(هامش)
(1) وقال في خطبة له (ع) في نهج البلاغة (ص 250 ط القديم بطهران) : ولعمري لئن كانت
الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس ما إلى ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون على من
غاب ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار ، وقال أيضا في النهج (ص 561 ط
القديم بطهران) في كلماته في الحكم والآثار : فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف
بهذا والمشيرون غيب (2) ذكر في صحيح البخاري (الجزء الأول ص 30 ط الأميرية بمصر)
وفي صحيح مسلم (الجزء الخامس ص 76 ط الصبيح بمصر) وفي مجمع الزوائد (الجزء التاسع ص
36 ط مصر) وفيه رواية عمر بن الخطاب غير ما رواه صاحب الصحيحين ، وفي حياة النبي (ج
3 ص 339 مخطوط) محمد بن سعد في الطبقات (ج 4 باب مرض النبي) عن ابن عباس ، فقال عمر
: إن رسول الله قد غلبه الوجع : حسبنا كتاب الله ، وفي رواية عن جابر بعد ذكر ما
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ، قال : فكان في البيت لغط وكلام وتكلم عمر بن
الخطاب فرفضه النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية عمر بن الخطاب أن النسوة قلن
أعطوا رسول الله بحاجته ، قال : عمر قلت : استكن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتن أعينكن
وإذا صح أخذتن بعنقه ، فقال صلى الله عليه وسلم : هن خير منكم (انتهى ما في الطبقات
على سبيل التلخيص) إلى آخر ما نقل وروى الخطيب الكازروني في كتاب مولد النبي (باب
مرض النبي مخطوط) فقال عمر : إن رسول قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله
وقال الحلبي في السيرة (ج 3 ص 382 ط مصر ) باب مرض النبي : ما لفظه فقال بعضهم وهو
سيدنا عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن . = (*)
ص 311
فلأنه مكابرة وخلافه ظاهر لا يخفى علي أحد ، وأما قوله : لأن فيه دفع ضرر فلأن في
نصب الإمام بعد النبي وخلفه ضرر مظنون بل مجزوم به ، وكذا بعد ذلك في بعض الأوقات :
وأما قوله : لأنا نعلم الخ فلأن هذا القول مع عدم دلالته على المقصود اعتراف منه
بأن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض لعدم الفرق بين المقصود والغرض ، والقول بأن
مقصوده أو غرضه جل جلاله لا يكون باعثا على فعله مكابرة
(هامش)
= وروى أحمد في السند (ج 1 ص 325 الطبع المصري القديم) بهذا المضمون وروى سبط ابن
الجوزي في تذكرة الخواص (ص 98 ط النجف الأشرف) عن أبي حامد الغزالي في كتاب سر
العالمين : أنه قال صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بيسير : اعطوني بدوات وبياض لأكتب
لكم كتابا لا تختلفون فيه بعدي ، فقال عمر : دع الرجل إنه ليهجر وفي شرح المواقف (ج
2 ص 479 ط مصر) قال عمران النبي قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ويظهر من المناقب
المرتضوية للمولى محمد صالح الترمذي الكشفي الحنفي من مشاهير علماء القوم في القرون
المتأخرة : أن صدور تلك المقالة من الثاني في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وبمحضره
من المسلمات لديهم وأنه تجاسر بقوله : إن هذا الرجل اشتد وجعه حسبنا كتاب الله ،
وقال الترمذي بعد نقل هذه القضية : إنها مما اتفق عليه ، والكتاب فارسي مشهور طبع
مرات بالهند . وفي كتاب مدارج النبوة للمحدث الشهير المولوي شاه عبد العزيز الدهلوي
الهندي (ص 532 طبع كان پور) وقد نقل ما هو صريح في ذلك . ونص على ذلك المولى شمس
الدين الهروي في كتاب السيرة (ص 39 طبع بمبئي) وكذا في صحيح البخاري (ج 1 ص 30
الطبع الجديد بمصر) وفي صحيح مسلم (ج 5 ص 76 الطبع الجديد بمصر) وفي مجمع الزوائد
(ج 9 ص 34 طبع مصر) عدة روايات غير ما في الصحيحين فراجع . (*)
ص 312
صريحة كما لا يخفى ، وقد تحقق بما فصلناه أن الإمامة خلافة عن النبوة قائمة مقامها
كما أشار إليه المصنف ، فإذا كان كذلك فكل ما استدللنا به على وجوب النبوة في حكمة
الله تعالى فهو يعينه دال على وجوب الإمامة في حكمته أيضا ، لأنها سادة مسدها لا
فرق بينها وبينه إلا في تلقي الوحي الإلهي بلا واسطة ، وكذا الكلام في الشرائط
المعتبرة عندنا ، وأما ما ذكره الناصب من اشتراط الاجتهاد فمردود بأن رتبة الإمام
أجل وأعلى من ذلك كما أن النبي (ص) كذلك لما سيجئ في مباحث أصول الفقه من الأدلة
على ذلك : ومنها أن الاجتهاد قد يخطئ ووقوع الخطاء من النبي (ص) عندنا كان محالا
لثبوت عصمته كما مر ، فكذا الإمام القائم مقامه كما سبق ، ولأن الإمام إن لم يكن
مؤيدا بالوحي لكنه متمكن من الالهام ومطالعة اللوح المحفوظ كما يدل عليه كلام الشيخ
(1) ابن حجر العسقلاني في شرح ما رواه البخاري من حديث اعتراض النبي (ص) على الحسن
(ع) أيام رضاعه عند وضع بعض ثمرات الصدقة في فمه بقوله : كخ كخ (2) أما تعلم أن
الصدقة حرام علينا ، فإن الشيخ المذكور أجاب عن قول من استبعد اعتراض النبي (ص) على
الحسن في حال رضاعه وعدم كونه مكلفا بعدم استواء حال الحسن (ع) وحال غيره لأن الحسن
(ع) في تلك الحال كان يطالع اللوح المحفوظ ، على أنه لو بنى على كفاية اشتراط
الاجتهاد في الإمام فربما لزم إفحامه ، لأنه يقول له المكلف : لا يجب علي اتباعك
حتى أعرف أن ما نقوله صواب غير ناش عن حال غلبة القوة الشهرية ولا أعرفه إلا بقولك
وقولك ليس بحجة دائما بل حال غلبة القوة العقلية المساوقة للعصمة ، ولا أعرف أن هذه
الحال هي تلك الحال فينقطع الإمام ، لا يقال : لم لا يجوز
(هامش)
(1) قد مرت ترجمته في أوائل هذا الجزء فليراجع . (2) رواه أيضا في البيان والتعريف
(ج 2 ص 139 ط مصر) عن الصحيحين ولكن يدل أما تعلم أما شعرت وروى البخاري نظير ذلك
فراجع ثم كلمة كخ اسم فعل بمعنى (الق) (*)
ص 313
معرفة صحة قوله يكونه مجتهدا ، سلمنا لكن لم لا يجب قبول قوله كقبول قول المفتي
فإنه يجب على المقلد قبول قوله دائما وإن لم يكن معصوما ، لأنا نقول : أما مدعي
الاجتهاد فيلزم إفحامه أيضا لأنه إذا ألزمه (1) المكلف له أن يقول : إني اجتهدت
فأدى اجتهادي إلى عدم وجوب قبول قولك في هذه الحالة فيقطع ، وأما وجوب قبول قوله
كالمفتي فهو باطل لوجوه 7 منها : أن قبول قول المفتي إنما هو على العامي المحض الذي
لا يتمكن من معرفة الصواب عن الخطاء بالاجتهاد ، أما من يتمكن فلا يجب عليه قبول
اجتهاد آخر (2) ، ومنها ما هو مذكور في كتاب الألفين (3) للمصنف قدس سره فليراجع
إليه من أراد زيادة الإفادة ، وأما اشتراطهم للبصارة بتدبير الحروب فهي من لوازم
اشتراط العصمة ، إذا المعصوم مؤيد ضرورة بالعقل والبصارة في ضروريات الدين وكذا
الشجاعة ، ولعل الناصب لما رأى أن عريضا في غزوات النبي (ص) على ما سيجئ مشكلة
أردفها بقوله : قوي القلب ليكون
(هامش)
(1) هذا مبنى على أن يكون المجتهد مجتهدا مطلقا ، والمكلف المناظر معه مجتهدا
متجزيا . (2) هذا المقدمة مذكورة في الرسالة التي عملها فخر الدين الرازي لبيان
تفضيل مذهب الشافعي على غيره من المذاهب . (3) فراجع الألفين (ص 49 طبع طهران سنة
1296) وسماه بالألفين لاحتوائه على ألفي دليل في إمامة مولينا علي عليه السلام
وبطلان خلافة غيره . (4) فراجع مجمع الزوائد (ج 2 ص 1 - 150 ط مصر) وشرح المواقف (ج
2 ص 475 ط مصر) وحياة محمد (ص 291) وتاريخ الطبري في غزوة أحد (ج 2) . (5) إشارة
إلى ما سيجئ من خطابه صلى الله عليه وآله لعثمان حيث فر من الغزوة قد ذهبت (عريضا)
وهو بفتح العين بمعنى طويلا . (*)
ص 314
مهر باله عند اعتراض أحد عليه في دعوى الشجاعة لهم ، بأن يقول له على طريقة الرجم
بالغيب والرمي في الظلام : إن قوة القلب التي هي منشأ الشجاعة أمر غيبي لا يعلمه
إلا الله كانت حاصلة فيهم وإن لم يظهر فيهم لوازمها وآثارها ، وفيه ما فيه ، وأما
العدالة فقد أغنى الإمام ما اشترطنا فيه من العصمة عن اشتراط التي دونها في المرتبة
فلا يخفى ما في استدلاله على اشتراط العدالة وعدم الجور بقوله : فإن الفاسق ربما
يصرف الأموال في أغراض نفسه ، فإنه أخص من المدعى كما لا يخفى ، وأما اشتراط الحرية
فهو مما لا كلام فيه ، وأما القرشية فليس بشرط لكنه قد اتفق كون أئمتنا المعصومين
الاثنى عشر عليهم السلام من قريش من بني هاشم ثم من بني عبد المطلب ثم من آل النبي
صلوات الله عليه وآله ، وأما ثانيا فلأن قوله : واستدل عليه هذا الرجل بأن الحاجة
إلى الإمام إلى آخر ما ذكره من الايراد والترديد مردود أولا بأن ما أتى به من منع
اللزوم من للمدعى المستدل عليه ، فيكون خارجا عن قانون المناظرة ، وثانيا إنا نختار
أولا الشق الأول ونقول : إن المنع الذي ذكره بقوله لا نسلم لزوم ذلك إما منع لوجوب
الاجتناب عن الصغائر كما يدل عليه قوله : لأن صدور بعض الصغائر الخ أو منع لوجوب
الاجتناب في جميع الأحوال أيضا ، والثاني ظاهر البطلان ، إذ من الأحوال حال الكهولة
والشيخوخة والسفر والحضر وحال القعود والقيام وحال كونه راكبا أو راجلا إلى غير ذلك
، ومن البين أن عدم انتصافه للمظلوم عن الظالم في بعض هذه الأحوال يخل بفائدة
إمامته وكذا الأول ، لأن الكلام ليس في صدور الصغائر وفي إيجاب ذلك عدم الانتصاف عن
الظالم للمظلوم بل في جواز صدور الصغائر والكبائر عنه واستلزام ذلك جواز أن يخطأ
ولا ينتصف فيحتاج إلى إمام آخر وهكذا فيلزم التسلسل والحاصل أن الغرض من نصب الإمام
أن يبعد المكلفين عن الخطأ والعصيان ويقربهم إلى الطاعة والرضوان ، فلو كان هو أيضا
جائز الخطأ لاحتاج إلى إمام آخر ، وذلك
ص 315
الآخر أيضا لو لم يكن معصوما لاحتاج إلى ثالث وهكذا فلو لم يكن في شيء من المراتب
إمام معصوم يلزم التسلسل ، وقد شابه هذا الدليل دليل وجوب انتهاء الممكنات إلى
الواجب تعالى دفعا للتسلسل كما لا يخفى هذا ، وربما يكابر المخالف ويقول : ليس
الغرض من الإمام ما ذكرتهم من التبعيد والتقريب ، بل الغرض منه حفظ أهل الإسلام
وترتيب أمورهم على وجه النظام حتى لا ينتهي إلى الفتنة والفساد واختلال أحوال
العباد ، وفي كلام الناصب إشعار بهذا أيضا ، ودفعه ظاهر لأن نظام الأمور على الوجه
المخالف للشريعة ليس بمطلوب للشارع ، فيجب أن يكون الإمام معصوما وإلا لما كان نظام
الأمور مع وجوده على الوجه الشرعي ولا أقل من جهة معصيته فيحتاج إلى آخر يحصل منه
الانتظام الشرعي ويتسلسل ، وثالثا أنا نختار الشق الثاني ونقول : إن أكثر ما ذكره
من أحكام الملكة باطل مخترع من عند نفسه سيما ما ذكره بقوله : وصدور بعض الصغائر
عنه في بعض الأوقات لا يبطل ملكة العصمة فإنه دعوى كاذبة باطلة ، وما استدل عليه
بقوله : لأن الملكة كيفية المتداولة في تعريف الملكة ما أخذ فيه قيد الدوام والضبط
قال العلامة الدواني (1) في رسالته الفارسية المشهورة المعمولة في تحقيق معنى
العدالة ما هذه عبارته : (وچون نفس متمرن بكلمات ثلاث حكمت وعفت وشجاعت گردد برو
جهى كه على الدوام أفعال برقانونى مضبوط ونهجى مقرر از او صدور يابد بى تجشم رويتى
جديد وسعى مستأسف آنملكه عدالت باشد) ، وقد عرف ابن الحاجب (2) في مختصره وغيره في
غيره العدالة بأنها كيفية راسخة تبعث المتصف بها على ملازمة التقوى والمروة ،
والرسوخ والملازمة يقتضيان الدوام وعدم التخلف كما لا يخفى ،
(هامش)
(1) قد مرت ترجمته (ج 1 ص 40 وج 2 ص 11) (2) قد مرت ترجمته (ج 1 ص 170) (*)
ص 316
وهل يقول عاقل : إن الكتابة إذا صارت ملكة لا ينافيها وقوع الغلط فيها بعد ذلك ؟ بل
الذي نقله هذا الناصب سابقا في شرح مسألة عصمة الأنبياء من تعريف الأشاعرة وهو أن
لا يخلق الله فيهم ذنبا يقتضي الدوام واللزوم أيضا ، بل ما نقله من تعريف الحكماء
ثمة يستدعي ذلك أيضا ، فما ذكره من أن صدور خلاف مقتضى الملكة لا ينفي وجود الملكة
مقدمة فاسدة مخالفة للعقل والنقل ، نعم يمكن وقوع خلاف ملكة الدالة ظاهرا لعارض
كالجبر بأن أوجر (1) الخمر في حلق صاحب تلك الملكة أو كوجوب الكذب لإنقاذ النبي
الذي قصده الأعداء فإن ارتكاب الكذب هاهنا إنما هو لكونه أقل القبيحين وقد قال
الشارع (ع) : من ابتلى ببليتين فليختر أيسرهما وحيث لا مخالفة للشرع حقيقة في هاتين
الصورتين وما يحذو حذوها فلا يكون الاتيان بهما قادحا في ملكة العدالة ، ومن هذا
الباب ما يصدر في حال التقية كما لا يخفى ، وأما ثالث فلأن إنكاره لما نسبه المصنف
إلى أصحابه من تجويزهم إمامة الفساق والسراق حيلة لا تفي بإصلاح ما أفسده أسلافه ،
فقد قال الاسفرايني الشافعي (2) في كتاب الجنايات من الينابيع : وتنعقد الإمامة
ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر حضورهم
الموصوفين بصفات الشهود كإمامة (3) (1) يقال : أوجره إيجارا إذا جعل الوجور في فيه
والوجور : الدواء وكل ما يكرهه الشخص (2) قد مرت ترجمته ج 1 ص 101 فراجع . (3)
فبالله عليك أيها المصنف هل لم يكن في المدينة من أهل الحل والعقد إلا نفر قليل وهم
الذين اجتمعوا في السقيفة كلا ثم كلا أولم يكن هناك عباس عم النبي وأولاده وعقيل
وأولاده وبنو الحارث بن عبد المطلب وبنو مخزوم وغيرهم من كبراء من بني هاشم سادات
الحرم وسائر الأكابر من المهاجرين والأنصار من أهلها ؟ أولم يكن حضورهم متيسرا ؟
أولم يكونوا متصفين بصفات الشهود ؟ وعليه تم أمر الإمامة في حق أبي بكر ، وهل كان
إلا بالتمسك بلطائف الحيل في إذهاب حق من كان ثابت الحق الذي يدور معه حيثما دار ؟
(*)
ص 317
الصديق واستخلاف من قبله ولو لبعضهم كإمامة (1) الفاروق ويجعله الشورى كإمامة (2)
عثمان وبقبول المولى من عهد المولى إلى موته بالقهر والاستيلاء ولو فاسقا أو جاهلا
أو عجميا انتهى ، وقال شارح العقايد النسفية (3) : إنه لا ينعزل الإمام بالفسق
والجور (4) لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء ،
والسلف كانوا
(هامش)
(1) فيا معاشر العقلاء انصفوا في الحكومة ، فلو كان أمر الخلافة شورى بين المسلمين
فما معنى استخلاف شخص لشخص ، فهل هذا إلا التهافت والتحكم الجدير بالتهكم واعتقادي
المصيب الذي يوافقه كل لبيب منقب في استخراج علل القضايا أن المستخلف بالكسر أراد
مكافئة المستخلف بالفتح على بيعته إياه فالأمر من باب (اطعم تطعم) فما جواب إخواننا
أهل السنة والجماعة عند الله تعالى يوم فصل الخطاب في الغميضة عن هذه الشئون . (2)
لو كانت الخلافة بالشورى فلم اختصت بست نفرات مع الشرط بمتابعة العدة التي أحدها
عبد الرحمان بن عوف أولم يكن في المدينة أهل الحل والعقد غيرهم أولم يكن الوصول إلى
غيرهم متيسرا ولا نرى على مبناهم حقا للخليفة أن يفعل كذلك ويجعل كبار الصحابة
وسادات المسلمين ممنوعين من الدخول في هذه الجلسة الشورية ، واعتقادي في مسألة جعل
الشورى بين الستة مع ذاك الشرط أن الثاني كان واقفا على بغض ابن عوف لمولينا أمير
المؤمنين عليه السلام وكان مقصده ومقصوده حرمانه ع عن الخلافة وهذا ظاهر لمن سبر
وغار في السير وأحوال الصحابة . (3) وقال صحاب الكتاب المسمى بفصل الخطاب من
الحنفية (ونزديك ما حكم سلطان جائر همچو سلطان عادل بود وطاعت وي هر چه نه در معصيت
بود بايد داشتن واز پس وي بايد نماز گزاردن وخروج بروي روا نبود) منه (قده) . (*)
ص 318
ينقادون له ويقيمون الجمع (1) والأعياد بإذنهم انتهى ، وقال شارح الوقاية (2) في
فقه الحنفية لا يحد الإمام حد الشراب ، لأنه نائب من الله تعالى انتهى ، وإنما
تكلفوا هذه الخرافات ليتيسر لهم حفظ صحة إمامة معاوية ويزيد وأمثالهم ، ومن قال
منهم : إن الإمام يشترط أن يكون من أهل العدالة فالظاهر أنه شرط استحساني عنده لا
شرط لازم (3) كما قال في المطول (4) : إن اعتقاد التنافي في شرط حسن قصر القلب ،
وقال (5) عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بحضور القلب أي لا كمال
(هامش)
(1) الجمع : جمع والمراد بها صلاة الجمعة . (2) الوقاية في فقه الحنفية لبرهان
الشريعة محمود بن صدر الشريعة الأول الحنفي البخاري وشرحه جماعة وأشهر شروحها شرح
المولى يوسف بن الحسين الكرماستي المتوفى سنة 900 ثم شرح صدر الشريعة الثاني عبيد
الله بن مسعود المتوفى سنة 750 قال الفاضل الجلبي في الكشف : إنه أشهر شروحه
والمنسبق إلى الأذهان . (3) وإلا لزم التناقض وكيف يقولون بذلك مع أن الإمامة تحصل
عندهم بالبيعة ، وقد وقعت البيعة على معاوية ويزيد وأضر بهما أكثر من المتقدمين من
تيم وعدي . منه (قده) (4) في المختصر (ص 81 ط الجديد بطهران) (وفي المطول طبع عبد
الرحيم ص 615) . (5) وروى الحافظ السيوطي في الجامع الصغير (ج 1 ص 481 ط مصر) ما
يشتمل على مضمونه ، وروى الغزالي في الإحياء عنه صلى الله عليه وآله أنه قال : إن
العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل
منها . وفي كتاب عين العلم وزين الحلم لمحمد بن عثمان بن عمر البلخي (ص 49 طبع
بمبئي في مطبعة الدت پرشاد) (حديث) لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه
مع بدنه وقال المولى علي القاري في توضيحه أي لا ينظر قبول ورحمة وعناية . وقال
البلخي في الكتاب المذكور (ص 49) أيضا ما لفظه . (حديث) إن العبد ليصلي الصلاة
وإنما يكتب ما عقل منها انتهى . (*)
ص 319
إلا بها فتدبر ، وأما ما قاله نظما بما قلت ارتجالا شعر : إذا ما رآى فاضلا في
الأنام * بفضلة فيه لقد دنسه يلوث المطهر بما فضله * فضول أصفهاني ما أنجسه قال
المصنف رفع الله درجته
المبحث الثاني في أن الإمام يجب أن يكون أفضل من الرعية

اتفقت الإمامية (1) على ذلك وخالف فيه الجمهور فجوزوا تقديم المفضول على الفاضل
وخالفوا مقتضى العقل (2)
(هامش)
(1) وكذا الزيدية أبو عذبة من الماتريدية . (2) قد بينا في التعاليق السابقة شئون
الإمام والمراد منه ودلالة العقل على وجوب نصبه من قبل الله تعالى وكون الاعتقاد به
من أصول الإسلام ، فيكون تصدي الناس لنصب إمام آخر قياما في قباله تعالى شأنه
العزيز ، فلا تصل النوبة إلى وجوه الترجيح في انتخاب الإمام ومع ذلك تعرض المصنف
للبحث فيه مما شاة لهم فذكر مخالفة الأشاعرة لمقتضى حكم العقل بعدم جواز تقديم
المفضول على الفاضل وتوضيحه أن جهات الفضيلة تنحصر في قسمين أحدهما الفضائل الناشئة
من المولد كالحسب والشرف والنسب وثانيهما الفضائل الشخصية الغير المنوطة بالمولد
وجامعها ما يحصل به ارتقاء النفس إلى مدارج الكمال فمنه ما يحصل للنفس بلا واسطة
الجوارح ومدخلية الأعمال الصادرة عنها فيه ومنه ما يحصل للنفس من ناحية الأعمال
الصادرة عن الجوارح والأعضاء ، ولا يحصل الكمال العملي الحاصل من ناحية العمل إلا
بأمور الأول القوة الورعية الشديدة الباعثة للنفس إلى طاعة الله والملزمة لها عليها
الثاني الشجاعة المانعة عن تأثير أهواء النفوس الأخر في ردعه عن ملازمة التقوى
والطاعة الثالث العلم بالمعارف الحقة والأحكام الشرعية كلياتها وتفاصيلها ودقايقها
الرابع العلم بكيفية تطبيقها على الخارجيات من المعرفة بجزئيات الأمور لتتشخص
موضوعات الأحكام عنده وإلا لا يكون عاملا بالحق بمجرد العلم بالكبريات بل يتوقف على
العلم بالصغريات لتترتب عليهما فعلية تلك الكليات = (*)
ص 320
ونص الكتاب ، فإن العقل يقبح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل ورفع مرتبة المفضول وخفض
مرتبة الفاضل ، والقرآن نص على إنكار ذلك فقال تعالى : أفمن يهدي إلى الحق أحق أن
يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (1) وقال الله تعالى : هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (2) وكيف ينقاد الأعلم
الأزهد الأشرف حسبا ونسبا للأدون في ذلك كله انتهى قال الناصب خفضه الله أقول :
المراد من كون الإمام أفضل من الرعية إن كان كونه أحسب وأنسب وأشرف وأعرف وأعف
وأشجع وأعلم فلا يلزم وجوبه عقلا كما ادعاه على تقدير القول بالوجوب العقلي ، لأن
صريح العقل يحكم بأن مدار الإمامة على حفظ الحوزة والعلم بالرياسة
(هامش)
= وتعينها وتحققها في الخارج ، إذا عرفت ذلك فنقول : الإمام إنما يكون أفضل من غيره
إذا كان حائرا للفضائل المولدية والكمالات النفسانية والعملية المتوقفة على كونه
عالما بالدين والمعارف الحقة والحقايق الإلهية والأحكام الشرعية ، عارفا بالمصالح
الواقعية وبأهمها ومهمها وما يحفها من المفاسد ورجحان أية مصلحة على أية مفسدة وأي
مفسدة على أي مصلحة ، ويكون له من الورع الشديد والتقوى الأكيد ما يحجزه عن الإقدام
على خلافة مصلحة من المصالح الشرعية ويلزمه على العمل بجميع ما تقتضيه على دقايقها
، ومن قوة النفس والشجاعة ما لا يهاب معها في سلوك طريق الحق عن الناس ولو تظاهروا
عليه بأجمعهم ومن هذه حاله يكون أعلم وأقدر وأعمل بأمور الدين ونشره وترويجه وإجراء
أحكامه ونصب القضاة والحكام والولاة وأعرف بمواقعها وكيفية العمل بها من المعرفة
بأحوال الأشخاص وكيفية انفاذ المصالح الشرعية فيهم فيكون ترجيح الغير عليه مخالفا
لبديهة العقل (1) يونس . الآية 35 . (2) الزمر . الآية 9 . (*)