ص 406
الافحام، وإلا فلهم في الحديث ما هو أضعاف الصحاح الستة لأهل السنة كجامع الكافي
للشيخ الحافظ محمد بن يعقوب الكليني الرازي، وكتابي التهذيب والاستبصار للشيخ
النحرير أبي جعفر الطوسي، وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الأقدم ابن بابويه (ره)
وغيرها من الكتب المشحونة بالأحاديث الصحيحة والحسنة والموثقة والمروية من طريق أهل
البيت عليهم السلام، وقد ذكر الشهرستاني في كتاب الملل والنحل جماعة من أكابر مصنفي
الإمامية كما مر وبالجملة لما علم الصنف (قد) أن الخصم وهم أهل السنة لا يتلقون
أحاديث الشيعة بالقبول عنادا ولجاجا بادر إلى الاحتجاج عليهم بأحاديثهم ورواياتهم،
لأنه أوكد في الالزام، لما ذكرنا، وكما قال والدي قدس سره رباعية: خواهى كه شود خصم
تو عاجز زسخن * مى بند بكار قول پيران كهن خصم از سخن تو چون نگردد ملزم * او را
بسخنهاى خودش ملزم كن وكان هذا الناصب الجاهل لم يعرف معني البحث الالزامي
والتحقيقي ومقام استعمالهما، وهذا غاية الجهل والبعد عن مرتبة أرباب التحصيل كما لا
يخفى على المحصل، وأما قوله: فكل الناس يعلمون أن عدد الشيعة والروافض في كل عصر من
العصر الأول إلى هذا العصر ما بلغ حد الكثرة والاستفاضة الخ ففيه أولا إن ذلك الكل
الذي تمسك بعلمهم هم المتسمون بأهل السنة جهال الذين قالوا فيهم - شهر: فكلهم لا
خير في كلهم * فلعنة الله على كلهم فلا يصر علمهم حجة على غيرهم وثانيا أن نفيه
لبلوغ الشيعة حد التواتر في عصر من الأعصار عناد محض وكذب بحت يدل عليه حال بلدان
الشيعة كالمتأصلين من أهل المدينة الطيبة والكوفة ونواحيها وقم وكاشان وسبزوار وتون
مما لم يوجد فيها قط غير الشيعة
ص 407
فضلا عن البلاد المشتركة، ويشهد أيضا بخلافه عبارات أصحابه منها ما ذكره الذهبي
الشامي في أول كتاب ميزان الاعتدال في أحوال الرجال عند ذكر أبان بن تغلب (1) من
أنه شيعي صلب، لكنه صدوق فصدقه لنا وبدعته عليه، وقال أحمد بن حنبل وابن معين وأبو
حاتم إنه ثقة وذكره ابن عدي، وقال: إنه كان غاليا في التشيع، ثم قال: إن قيل: كيف
يحكم بثقة المبتدع مع أن العدالة المنافية للبدعة مأخوذة في تعريف الثقة، قلنا:
الغلو في التشيع والتشيع بلا غلو كان كثيرا في التابعين وتبع التابعين، مع أنهم
كلهم كانوا من أهل الدين والصدق والورع، فلو رد حديث هؤلا مع كثرتهم لضاع كثير من
الآثار النبوية وهذا مفسدة ظاهرة (إنتهى كلامه) ووجه شهادته على ما ذكرنا ظاهر.
ومنها ما ذكره
(هامش)
(1) قال العلامة العسقلاني في ترجمة أبان بن تغلب في تهذيب التهذيب (ج 1 ص 93 ط
هند) ما لفظه: أبان بن تغلب الربعي أبو سعد الكوفي، روى عن أبي إسحاق السبيعي،
والحكم بن عتيبة، وفضيل بن عمرو الفقيمي، وأبي جعفر الباقر، وغيرهم، وعنه موسى بن
عقبة، وشعبة، وحماد بن زيد، وابن عيينة، قال أحمد، ويحيى، وأبو حاتم، والنسائي:
ثقة. وقال ابن عدي: له نسخ عامتها مستقيمة إذا روى عنه ثقة وهو من أهل الصدق في
الروايات وإن كان مذهبه مذهب الشيعة وهو في الرواية صالح لا بأس به. وقال ابن
عجلان: ثنا أبان بن تغلب رجل من أهل العراق. من النساك ثقة، ولما خرج الحاكم حديث
أبان بن تغلب في مستدركه قال: كان قاص الشيعة وهو ثقة ومدحه ابن عينية بالفصاحة
والبيان، وقال العقيلي: سمعت أبا عبد الله يذكر عنه أدبا وعقلا وصحة حديث إلا أنه
كان غاليا في التشيع. وقال ابن سعد: كان ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال
الأزدي: كان غاليا في التشيع وما أعلم به في الحديث بأسا. (*)
ص 408
ابن أثير الجزري في شرح كتاب النبوة من جامع الأصول: إن المذاهب المشهورة في
الإسلام التي عليها مدار المسلمين في أقطار الأرض مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك،
وأحمد، ومذهب الإمامية، وقال: إن مجدد مذهب الإمامية على رأس المأة الثانية هو
الإمام علي بن موسى الرضا، وعلى رأس المأة الثالثة محمد بن يعقوب الرازي، وعلى رأس
المأة الرابعة المرتضى الموسوي، ومنها ما قال الشيخ عماد الدين ابن كثير الشامي في
أحوال سنة ثلاث وعشرة وأربعمأة من تاريخه توفي فيها ابن المعلم (1) شيخ الروافض،
والمصنف لهم والحامي عن حوزتهم، وكان مجلسه
(هامش)
هو محمد بن محمد بن نعمان بن عبد السلام بن جابر بن نعمان بن السعيد العربي
الحارثي، العكبري الأصل البغدادي النشأة والتحصيل، المكنى بأبي عبد الله والملقب
بالمفيد، ونسبه على ما قال تلميذه النجاشي موصول إلى يعرب بن قحطان، واشتهر بابن
المعلم لمكان تلقب أبيه بالمعلم، وهو من أركان فقهاء الفرقة الحقة ومتكلميهم، عابد
زاهد متقي، وقد برع في الفقه وجمع في الأصول إلى النهاية وهو متكلم جدلي ومحدث
رجالي، حاو للفضائل العلمية والعملية وجامع للكمالات النفسانية، حاضر الجواب وكثير
الرواية وخبير في الأشعار والأخبار وحريص على العبادات والصدقات، والليالي بعد
النوم قليلا مشتغل بالصلاة وتلاوة القرآن، ومحضره محضر درس ومطالعة وبالجملة وثاقته
وجلالة علمه ومقام نبوغه مما لا يرتاب فيه العامة والخاصة وأعلم أهل زمانه في
العلوم المتنوعة وإليه انتهت الزعامة والرياسة للإمامية وكان مرجعا للاستفادة في
الفقه والحديث والكلام وناظر مع أهل كل نحلة ومرام وغلب عليهم لتأييده من قبل الملك
العلام. روى أنه لما قدم من مولده الأصلي العكبري إلى بغداد، حضر يوما في مجلس درس
العلامة القاضي عبد الجبار المعتزلي، وكان مملوءا من علماء الفريقين، وجلس في ذيل
المجلس تأدبا، ثم إنه سأل بعد الاستيذان عن صحة حديث الغدير، فأجاب القاضي بأنه
صحيح، فسأل عن معنى المولى، فقال إنه بمعنى الأولى، فقال الشيخ فما معنى الاختلاف
ص 409
(هامش)
بين الخاصة والعامة في تعيين الإمام، فقال القاضي: إن خلافة أبي بكر ثبت بالدراية،
وإمامته على بالرواية ولا يقاوم الرواية مع الدراية، فسأل الشيخ أيضا عن صحة حديث:
يا علي حربك حربي وسلمك سلمي، فأجاب أنه صحيح، فسأل الشيخ عن كيفية محاربة أصحاب
جمل مع علي وكونهم ممن حارب عليا، فأجاب القاضي أنهم تابوا بعد ذلك، فقال الشيخ
حربهم ثبت بالدراية وتوبتهم بالرواية، فلا يقام الرواية مع الدراية، فسكت القاضي عن
الجواب، وبعد الاستعلام عن اسمه أجلسه في مكانه وقال أنت المفيد حقا، فتغير
الحاضرون من العلماء في المجلس من صنيع القاضي مع الشيخ بذاك المنوال، فقال: إن
أجبتم سؤاله فأنا أجلسه في مكانه الأول ولم يقدروا أن يجيبوه، هذا نبذ يسير من
إفاداته العلمية والرد على المخالفين فللمتتبع المنقب أن يراجع كتب التراجم والسير
ويطالع كيفية مناظرته مع أبي بكر الباقلاني وعلي بن عيسى الرماني وغير ذلك مما يفصح
عن علو مقامه في العلوم المتنوعة. تلمذ واستفاد من مشايخه: الشيخ جعفر بن محمد بن
قولويه والشيخ الصدوق ابن بابويه وأبي غالب الرازي وأحمد بن محمد بن حسن بن الوليد
وغيرهم من أكابر مشايخ الفريقين. وتلمذ واستفاد منه العلامة السيد الرضي والسيد
المرتضى والشيخ أبو الفتح الكراجكي والشيخ المحقق الطوسي إمام الفرقة الحقة
الإمامية في الفقه وسلار بن عبد العزيز الديلمي وغيرهم من معاصري هؤلاء الأعلام.
وله تآليف ومصنفات كثيرة: منها أحكام أهل الجمل، أحكام النساء، الارشاد في معرفة
حجج الله على العباد، الأركان في دعائم الدين، الاستبصار فيما جمعه الشافعي من
الأخبار، الإشراف في علم فرائض الإسلام، أطراف الدلائل في أوائل المسائل، إعجاز
القرآن والكلام في وجوهه، الإعلام في ما اتفقت الإمامية عليه من الأحكام، الافصاح
في الإمامة، أقسام المولى وبيان معانيه، الاقناع في وجوب الدعوة، الأمالي
المتفرقات، إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من القرآن الانتصار، =
ص 410
يحضره خلق من العلماء من ساير الطوايف، وكان من جملة تلاميذه الشريف المرتضى، وقال
اليافعي في تاريخه: توفي فيها عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة
المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضا البارع في الكلام والجدل والفقه، وكان يناظر كل
عقيدة بالجلالة والعظمة في الدولة البويهية، وكان
(هامش)
= الانسان والكلام فيه، أوائل المقالات في المذاهب المختارات الايضاح في الإمامة
إيمان أبي طالب، الباهر من المعجزات، البيان عن غلط قطرب في القرآن، البيان في
أنواع علوم القرآن، البيان في تأليف القرآن، التذكرة بأصول الفقه، تصحيح اعتقاد
الإمامية وهو شرح لكتاب اعتقادات الصدوق تفضيل الأئمة على الملائكة، تفضيل أمير
المؤمنين على سائر الأصحاب، تقريب الأحكام، التمهيد، الجمل، جمل الفرائض، الجنديدي
وهو رساله بأهل مصر، جوابات الفيلسوف في الاتحاد، حجية الاجماع، ذبائح أهل الكتاب
الرد على الجاحظ والعثمانية في فضيلة المعتزلة، العيون والمجالس، الفصول المنتخبة،
كشف الالتباس، كشف السرائر، المتعة، المزار، المسائل الصاغانية، مسائل النظم، مسار
الشيعة، المقنعة في الإمامة المقنعة في الفقه وهو كتاب مختصر مفيد مشتمل على فقه
الإمامية من أوله إلى آخره وطبع مع كتاب فقه الرضا في ايران النقض على ابن جنيد في
اجتهاد الرأي، النقض على علي بن عباد في الإمامة، النقض على علي بن عيسى الرماني،
نقض فضيلة المعتزلة، نقض المروانية وغيرها من الكتب والآثار التي تثبت تبحره في
العلوم وكثرة خدمات الدينية وتحمله للمشقات في إثبات المذهب جزاه الله عن الإسلام
والمسلمين خير الجزاء، ومن امتيازاته الخاصة صدور توقيعات رفيعة من الناحية المقدسة
ولي العصر عجل الله تعالى فرجه بعنوان.. للأخ الصديق والولي الرشيد الشيخ المفيد
أبي عبد الله محمد بن محمد بن نعمان أدام الله اعزازه، وبعنوان آخر: أيها الناصر
للحق والداعي إليه بكلمة الصدق. (*)
ص 411
كثير الصدقات عظيم الخشوع، كثير الصلاة، والصوم، خشن اللباس، وكان عضد الدولة ربما
زار الشيخ المفيد، عاش ستا وسبعين وله أكثر من مأتي مصنف، وكان يوم وفاته مشهورا
وشيعه ثمانون ألفا من الرفضة والشيعة وأراح الله منه (إنتهى) ومنها أنه قال صدر
العلماء الأمير صدر الدين محمد الشيرازي في أوايل حاشيته الجديدة على الشرح الجديد
للتجريد عند تحقيق صيغة أفعل التفضيل في قول المصنف المحقق (قدس سره) وعلي أكرم
أحبائه ما هذه عبارته: اختلف المسلمون في أفضلية بعض الصحابة، فذهب أهل السنة إلى
أن أبا بكر أفضلهم وأثبتوا ذلك بوجوه مذكورة في موضعها، وبنوا على ذلك أن غيره ليس
أفضل منهم، ومنعوا إطلاق الأفضل على غيره منهم، وذهب الشيعة إلى أن عليا أفضلهم
وأثبتوا ذلك بما لهم من الدلايل، وبنوا على ذلك أن غيره من الصحابة ليس أفضل منه،
ومنعوا أن يطلق الأفضل على أحد من الصحابة غيره واستمر هذا الخلاف والمراء بينهما،
وفي كل من الطائفتين علماء كبار، عارفون باللغة حق المعرفة، فلو كان معني الصيغة ما
ظنه هذا القائل، لصح أن يكون كل واحد منهما أفضل من الآخر ولم يتمش هذا الخلاف
والمراء والمنع، وكيف يجوز أن يكون معناها ذلك؟ ولم يتنبه له أحد من هذه الجماعات
الكثيرة وبقي الخلاف والبناء والمنع المذكورة بين الطائفين قريب من ثمانمأة سنة
(إنتهى كلامه) ومنها ما طويناه على غره حذرا عن الاطناب المفضي إلى الاسهاب.
قال
المصنف رفع الله درجته الثاني من (1) مسند أحمد: لما نزل: وأنذر عشيرتك الأقربين.
جمع
(هامش)
(1) لا يخفى أن عبارة المصنف رحمه الله في نسخة الكتاب هكذا: روى أحمد بن حنبل في
مسنده عن ابن عباس من عدة طرق: أن علي عليه السلام أول من أسلم (الخ) وقد حذف
الناصب أكثر ذلك من البين (منه ره). (*)
ص 412
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل بيته ثلاثين نفرا، فأكلوا وشربوا ثلاثا، ثم
قال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي، ويكون خليفتي ويكون معي في الجنة؟ فقال: علي
عليه السلام: أنا فقال: أنت، ورواه الثعلبي في تفسيره بعد ثلاث مرات في كل مرة سكت
القوم غير علي عليه السلام (1) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله أقول: هذا الحديث
ذكره ابن الجوزي رحمه الله في قصة طويله وليس فيها يكون خليفتي، وهذا من وضعه، أو
من وضع مشايخه من شيوخ الرفض وأهل التهمة والافتراء، وفي مسند أحمد بن حنبل لفظ
ويكون خليفتي غير موجود، بل هو من إلحاقات الرفضة، وهذان الكتابان اليوم موجودان،
وهم لا يبالون عن خجلة الكذب والافتراء، بل الرواية ويكون معي في الجنة، وهو من
فضايل أمير المؤمنين عليه السلام، حيث أقبل إذ الناس أدبر وأقدم إذ الناس أحجم،
وفضايله أكثر من أن تحصى عليه السلام من الله تترى مرة بعد أخرى (إنتهى).
أقول بل
حذف خليفتي خلف باطل من أباطيل الناصب، فإن هذا الحديث، إن ذكره ابن الجوزي في كتاب
الموضوعات، فقد حكم عليه بالوضع، فكان ينبغي رد الحديث بذلك، لا بأن لفظ خليفتي غير
موجود فيه، وإن ذكره في كتاب آخر لابن الجوزي، فكان ينبغي أن يذكر ذلك الكتاب حتى
يرجع إليه في تحقيق ذلك، وحيث أبهم الكلام في ذلك دل على اختراعه واضطرابه، وكيف
يكون من الموضوعات؟ مع ما مر نقلا عن السخاوي إنه قال: ليس في مسند أحمد شيء
(هامش)
(1) تقدم منا نقل مدارك هذا الحديث عن أعاظم محدثي العامة في (4 ص 60 إلى 70) (*)
ص 413
من الموضوع وقوله هذان الكتابان موجودان، مسلم، لكن الظاهر لم يكونا موجودين في
البلاد الذي قصد الناصب ترويج زيفه الكاسد على أهلها، أعني بلاد ما وراء النهر
واطمأن قلبه بأنهم يكتفون بمجرد نقله حرصا على محو فضائل أمير المؤمنين عليه آلاف
التحية والثناء فليرجع أولياء الناصب إلى مسند أحمد وتفسير الثعلبي حتى يتحقق أنه
لغاية العجز والاضطراب تترس بالافتراء في الجواب، وأيضا قوله صلى الله عليه وآله
وسلم: يضمن ديني، يكفي في ثبوت المدعي، لأن الظاهر أنه بكسر الدال، لا بفتحها، إذ
لم يكن عليه صلى الله عليه وآله وسلم دين بقي عليه إلى حين وفاته، لما يروى: من أنه
صلى الله عليه وآله وسلم في أيام مرضه طلب براءة الذمة من الناس ولم يدع عليه أحد
شيئا سوى من ادعى عليه ضرب سوط من غير عمد، ولأن ضمان حفظ الدين بكسر الدال هو الذي
يصعب على الناس ارتكابه، حتى سكت القوم عن إجابته بعد ذكر النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ذلك ثلاث مرات كما في رواية الثعلبي، ولو كان المراد الدين بفتح الدال وكان
المراد بذل بعض المال في عوض ما على ذمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدين،
لكان الظاهر أن يجيب عن ذلك أبو بكر إلى صرف أموالا كثيرة في سبيل الله، على ما
يرويه القوم، ولا ريب في أن ضامن حفظ دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون
خليفته إن قيل: الظاهر من ذكر المواعيد أن يكون الدين المذكور قبلها الدين بفتح
الدال. قلت: جاز أن يكون المراد المواعدة بإعطاء أحد شيئا من بيت المال كما وقع
لابن مسعود، وهو أيضا من لواحق الدين بكسر الدال، ولو سلم فلا بد من العدول عن ظاهر
عند قيام الدليل الدال على إرادة خلافه، وهو ههنا ثبوت براءة ذمة الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم عن حق الناس كما مر، ويؤيد أيضا ما رواه المحقق قدس سره في التجريد
حيث قال: ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي
ديني بكسر الدال (إنتهى) على أن ما أجره الله تعالى على لسان قلمه من أنه عليه آلاف
التحية والثناء أقبل إذ الناس أدبر، وأفدم إذ الناس أحجم كاف في
ص 414
المرام كما لا يخفى على ذوي الأفهام. قال المصنف رفعه الله
الثالث: حديث وصيي ووارثي علي بن أبيطالب(ع)

من المسند (1) عن
سلمان: إنه قال يا رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم من وصيك؟ قال: يا
سلمان، من كان وصي أخي موسى؟ قال: يوشع بن نون، قال: فإن وصيي ووارثي يقضي ديني
وينجز موعدي علي بن أبي طالب عليه السلام (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله أقول:
الوصي قد يقال ويراد به من أوصى له بالعلم والهداية وحفظ قوانين الشريعة وتبليغ
العلم والمعرفة، فإن أريد هذا من الوصي فمسلم، أنه عليه الصلاة والسلام كان وصيا
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خلاف في هذا، وإن أريد الوصية بالخلافة
فقد ذكرنا بالدلايل العقلية والنقلية عدم النص في خلافة علي، ولو كان نصا جليلا لم
يخالفه الصحابة، وإن خالفوا لم يطعهم العساكر وعامة العرب سيما الأنصار (إنتهى).
أقول الوصي بالمعنى الأول الذي ذكره الناصب أيضا يستدعي أن يكون بالنسبة إلى
الخليفة، إذ ليس معنى الخليفة إلا من أوصاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعلم
والهداية وحفظ قوانين الشريعة وتبليغ العلم والمعرفة، وأنى حصل هذا الحفظ والتبليغ
للثلاثة المتحيرين في آرائهم الجاهلية؟ فضلا عن ضبط معاني الكتاب والسنة، ولو سلم
(هامش)
(1) تقدم منا نقل بعض مدارك هذا الحديث على أنحائه عن كتب القوم في (ج 4 ص 71 إلى ص
76) (*)
ص 415
فنقول: الوصي ههنا بمعنى الإمام والخليفة بدليل جعله عليا عليه آلاف التحية والسلام
منه بمنزلة يوشع في الوصاية والإمامة عن موسى على نبينا وآله وعليه السلام فإن يوشع
كان وصيا وإماما بعد موسى على نبينا وآله وعليه السلام كما صرح به الأعلام ومنهم
محمد الشهرستاني (1) الأشعري في أثناء بيان أحوال اليهود حيث قال: إن الأمر كان
مشتركا بين موسى وبين أخيه هارون عليه السلام إذ قال: أشركه في أمري فكان هو الوصي،
فلما مات هارون في حياته انتقلت الوصاية إلى يوشع وديعة ليوصلها إلى شبير وشبر ابني
هارون قرارا، وذلك أن الوصية والإمامة بعضها مستقر وبعضها مستودع (إنتهى كلامه
بعبارته) وهو مما يجعل قوله عليه السلام: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، نصا في كون
المراد من المنزلة منزلة الوصاية فافهم، وأما ما ذكره من إنا قد ذكرنا بالدلايل
العقلية والنقلية عدم النص في خلافة علي عليه السلام، فحوالة على العدم المحض، إذ
لم يسبق عن الناصب المعزول عن السمع والعقل القانع بالبقل عن النقل دليل عقلي أو
نقلي على ذاك، وأنما قصارى أمره فيما سبق التشكيك في الأدلة العقلية والنقلية التي
ذكرها المصنف، وقد أوضحنا بطلان تلك التشكيكات بأوضح وجه وأتم بيان بحمد الله
تعالى، ولعله أراد بالدليل العقلي والنقلي النقض الركيك الذي أعاده ههنا بقوله: لو
كان نصا جليا لم يخالفه الصحابة إلى آخره، وهذا كما أشرنا إليه سابقا مصادرة ظاهرة
لا يخفى بطلانه على أولي النهي، وأما قوله: وإن خالفوا لم يطعهم العساكر، فقد سبق
جوابه بما حاصله أن العساكر كانوا على طبقات ثلاث: سادات، وأتباعهم، ومقلدة، أما
السادات فإنما اجتمع أكثرهم وهم قريش على كتمان النص ومخالفته، لأنهم كانوا على
قسمين حساد ومبغضين، أما حسد الحساد فلما
(هامش)
(1) ذكره الشهرستاني في كتاب الملل والنحل (ج 2 ص 11 ص مطبعة حجازي بالقاهرة)
فراجع. (*)
ص 416
كانوا يشاهدونه من تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام (1)
وإثابته (إبانته خ ل) عليهم في المواطن كلها، وأما بغضهم إياه، فلأنه كان قد وتر
أكابر القوم ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وكان لهم على علي عليه السلام دعوى دم
أراقه في سبيل الله كما اعترف به الناصب، ولا شبهة عند من اعتبر العاداة والطبايع
البشرية في أن من قتل أقارب قوم وأحبائهم وإخوانهم وأولادهم، فإنهم يبغضونه ويودون
قتله، ولا يألون جهدا في منعه مما يرومه إن استطاعوا، وكيف يستبعد ذلك عن النفوس
الأمارة المارة جملة من أعمارهم في الكفر والجاهلية، مع أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم مع عصمته وطهارته وتقدس نفسه لم يطق رؤية وحشي (2) قاتل عمه حمزة رضي
الله عنه بعد إسلامه الذي يجب ما قبله فقال له حين أسلم: غيب عني وجهك لا أراك كما
ذكره صاحب الاستيعاب وأما أتباعهم، فإنما كتموا وخالفوا اتباعا لساداتهم، وأما باقي
الناس فكانوا مقلدة، فلما رأوا إقدام متقدميهم وأهل البصيرة منهم على ما أقدموا
(هامش)
(1) قيل لخليل بن أحمد: لم لا نمدح عليا؟ قال: كيف أقدم في مدح من كتمت أحباؤه
فضائله خوفا وأعداؤه حسدا وظهر بين الكتمانين ما ملأ الخافقين. (2) هو وحشي بن حرب
الحبشي من سودان مكة مولى لطعيمة بن عدي، ويقال: هو مولى جبير بن مطعم بن عدي، يكنى
أبا دسمة وهو الذي قتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم
أحد وكان يومئذ وحشي كافرا استخفى له خلف حجر ثم رماه بحربة كانت معه، وكان يرمي
بها رمي الحبشة فلا يكاد يخطئ، واستشهد حمزة حينئذ، ثم أسلم وحشي بعد أخذ الطائف
وشهد اليمامة ورمى مسيلمة بحربته التي قتل بها حمزة وزعم أنه أصابه وقتله وكان
يقول: قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس، حكى ذلك جعفر بن عمرو بن أمية الضمري
عن وحشي، وفي خبره ذلك أن رسول الله (ص) قال لوحشي حين اسلم. غيب وجهك عني يا وحشي
لا أراك. ذكره في الاستيعاب (ج 2 ص 608 ط حيدر آباد الد كن) (*) (ج 26)
ص 417
عليه اعتقدوا أن ما سمعوا من ذلك لم يكن نصا، وإنما كان دليلا على التفضيل على ما
لا يزال يقولون به، وأيضا قد أوقعوا الشبهة على قلوب بعضهم بقعود علي عليه آلاف
التحية والسلام في بيته مشتغلا بتجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الأقلون
عددا الأعظمون قدرا فلم يكتموا الحق وزجروا أبا بكر وأصحابه ولم يبايعوه اختيارا
كما مر مفصلا. قال المصنف رفع الله درجته
الرابع:حديث علي(ع) أقدمكم سلما وإسلاما

من كتاب المناقب لأبي بكر أحمد بن
مردويه وهو حجة عند المذاهب الأربعة رواه بإسناده إلى أبي ذر، قال: دخلنا على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا: (1) من أحب أصحابك إليك؟ فإن كان أمر كنا
معه، وإن كانت نائبة كنا من دونه، قال: هذا علي أقدمكم سلما وإسلاما (2) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله أقول: هذا الحديث إن صح يدل على أفضلية أمير المؤمنين عليه
السلام، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحبه حبا شديدا، ولا يدل على النص
بأمارته، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(هامش)
(1) تقدم منا نقل عدة من الأحاديث الدالة على تصريح النبي صلى الله عليه وآله بكون
علي أحب الناس إليه في (ج 4) ص 324 و325 و335 و337 وفي (ج 5 ص 318، إلى ص 386،
فراجع. (2) تقدم منقل عدة من الأحاديث الدالة على تصريح النبي صلى الله عليه وآله
بكون على أول المسلمين إسلاما في (ج 4) ص 29 و31 و34 و105 و106 و151، إلى ص 156
و159 و164 و233 و234 و331 و339 و346 و347 و359 و360 و361 و386 فراجع (*)
ص 418
ناصا على خلافته لكان هذا محل إظهاره وهو ظاهر، فإنه لما لم يقل أنه الأمير بعدي
(إن الأمير بعدي علي خ ل) علم عدم النص، فكيف يصح الاستدلال به؟ (إنتهى) أقول قد
عرفت سابا أن النص على المعنى المراد كما يكون بالدلالة على ذلك من مجرد مدلول
اللفظ، كذلك يكون بإقامة القرائن الواضحة النافية للاحتمالات المخالفة للمعنى
المقصود، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن قول السائل: وإن كان أمر كنا معه، وإن
كانت نائبة كنا من دونه. مع قوله عليه السلام هذا علي أقدمكم إلى آخره نص على إرادة
الخلافة، فإن قوله عليه السلام أقدمكم بمنزلة الدليل على أهليته للتقدم على ساير
الأمة، فقوله: لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناصا لقال: إنه الأمير
بعدي من باب تعيين الطريق الخارج عن شرع المحصلين، بل لو قال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: ذلك، لكان يتعسف الناصب الشقي، ويقول: الأمارة ليست نصا صريحا في
الخلافة لاستعماله في إمارة الجيوش وفي أمارة قوم دون قوم، كما قال الأنصار: منا
أمير ومنكم أمير، وبالجملة التصريح والتطويل لا ينفع المعاند المحيل ولو تليت عليه
التوراة والإنجيل. قال المصنف رفع الله درجته
الخامس لكل نبي وصي ووارث

من كتاب ابن المغازلي الشافعي
(1) بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لكل نبي وصي ووارث، وإن
وصيي ووارثي علي بن أبي طالب عليهما السلام (إنتهى).
(هامش)
(1) تقدم منا مدارك هذا الحديث في (ج 24 ص 71، إلى ص 73) والروايات الدالة على كون
أمير المؤمنين علي (ع) وصيا للنبي (ص) ووارثا له كثيرة، فراجع المجلد الرابع. (*)
ص 419
قال الناصب خفضه الله أقول: قد ذكرنا معني الوصاية وأنه غير الخلافة فقد يقال: هذا
وصي فلان على الصبي، ويراد به أنه القائم بعده بأمر الصبي وهو قريب من الوارث ولهذا
قرنه في هذا الحديث بالوارث، وليس هذا بنص في الخلافة أن صحت الرواية (إنتهى). أقول
قد ذكرنا أيضا هناك أن أصل معني الوصية في اللغة هو الوصل، ومعناه العرفي أن يصل
الموصي تصرفه بعد الموت بما قبل الموت أي تصرف كان، فالوصي أذا أطلق يكون المراد به
الأولى بالتصرف في أمور الموصي جميعا، إلا ما أخرجه الدليل، وإنما يطلق على الولي
الخاص كولي الطفل بالاضافة والتقييد، فيكون المراد بالوصي حيث أطلقه النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في شأن وصيه عليه السلام الخلافة وأولوية التصرف، فثبت ما ادعيناه،
وأما ذكره من قرب معني الوراثة للوصية فلا يخفى بطلانه على ورثة العلم ولنضرب عنه
صفحا. قال المصنف رفعه الله
السادس:حديث لا يؤدي عنك الا أنت أو رجل منك
في مسند أحمد وفي جمع بين الصحاح الستة ما
معناه: أن (1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث برائة مع أبي بكر إلى أهل مكة
فلما بلغ ذا الحليفة بعث إليه عليا عليه السلام، فرده فرجع أبو بكر إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنزل في شيء؟ قال:
لا، ولكن جبرئيل جاءني وقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك (إنتهى).
(هامش)
(1) تقدم منا نقل بضع مدارك هذا الحديث في (ج 3 ص 428، إلى ص 438) (*)
ص 420
قال الناصب خفضه الله أقول: حقيقة هذا الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في السنة الثامنة من الهجرة بعث أبا بكر الصديق أميرا للحاج وأمره أن يقرء أوايل
سورة البراءة على المشركين في الموسم، وكان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وقبايل العرب عهود فأمر أبا بكر بأن ينبذ إليهم عهدهم إلى مدة أربعة أشهر كما جاء
في صدر سورة البراءة عند قوله تعالى: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وأمر أيضا أبا
بكر: بأن ينادي في الناس أن لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج بعد العام مشرك، فلما خرج
أبو بكر إلى الحج بدا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أمر تبليغ سورة البراءة،
لأنها كانت مشتملة على نبذ العهود وإرجاعها إلى أربعة أشهر، وأن العرب كانوا لا
يعتبرون نبذ العهد وعقده إلا من صاحب العهد، أو من أحد من قومه، وأبو بكر كان من
بني تيم فخاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يعتبر العرب نبذ العهد وعقده
إلى أربعة أشهر من أبي بكر، لأنه لم يكن من بني هاشم، فبعث عليا عليه آلاف التحية
والسلام لقراءة سورة البراءة ونبذ عهود المشركين وأبو بكر على أمره من أمارة الحج
والنداء في الناس بأن لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج بعد العام مشرك، فلما وصل علي
إلى أبي بكر قال له أبو بكر: أأمير؟ قال: لا، بل مبلغ لنبذ العهود، فذهبا جميعا إلى
أمرهم، فلما حجوا أو رجعوا قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فداك
أبي وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنزل في شيء؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ
عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي، هذا حقيقة هذا الخبر، وليس فيه دلالة على نص ولا
قدح في أبي بكر، وأما ما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا، ولكن
جبرئيل أتاني فهذا من ملحقاته وليس في أصل الحديث هذا الكلام (إنتهى).
ص 421
أقول ما ذكره في حقيقة الخبر لا حقيقة له، لما أشرنا إليه سابقا: من أنه لو كان
المتعارف ما اختلقوه لا حقيقة له، لما أشرنا إليه سابقا: من أنه لو كان المتعارف ما
اختلقوه من عدم اعتبار العرب نبذ العهد وعقده إلا من صاحب العقد أو من أحد من قومه
لما خفي ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولا ونزيد عليه ههنا، ونقول: لو
كان كذلك لما خفي أيضا على أبي بكر ولم يلحقه شدة الخوف مما حصل له كما يدل عليه ما
نقله الناصب أيضا من قوله: أنزل في شيء يا رسول الله؟ صلى الله عليه وآله وسلم،
ونقول: أيضا أن كون عقد العهد مما يتوقف على أسباب يوجب اعتبار الطرفين به
واعتمادهما عليه ظاهر، وأما نبذ العهد فإنما يتوقف على وصول خبره بحيث يحصل هناك
أمارات صدق ذلك على من نبذ إليهم ولو بمجرد كتابة وختم، لأن النبذ سلب لا يستدعى
معونة إيجاب العهد كما لا يخفى، فلولا أن الغرض من إبلاغ علي عليه السلام مدخلية
خصوص حضوره في انتظام الحج وكف المشركين لبأسه وخوفه عن تعرض المسلمين ونحو ذلك من
الحكم، لأرسل عمه عباس أو أخاه عقيلا وجعفرا مع كونهم أكبر سنا منه أو غيرهم من بني
هاشم، سيما وقد روي أن عليا عليه الصلاة والسلام استعذر بأني لست بالخطيب وأنا حديث
السن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا بد أن تذهب بها، أو أن أذهب بها،
قال: أما إذا كان كذلك فأنا أذهب بها يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
إذهب فسوف يثبت الله لسانك ويهدي قلبك، هذا ومعلوم أن إقدام علي عليه السلام على
ذلك أمر عظيم حيث إنه قتل خلقا عظيما من أهل مكة ولم يقدم خوفا من قدومه عليهم،
وموسى بن عمران على نبينا وآله وعليه السلام مع عظم شأنه وشرف منزلته قدم الخوف في
قدومه على فرعون وقومه القبط، لأجل قتل نفسا واحدة، وفي حديث عن الباقر عليه الصلاة
والسلام: أنه لما قام علي عليه السلام أيام التشريق ينادي ذمة الله ورسوله بريئة من
ص 422
كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت بعد
اليوم عريان، فقام خداش وسعيد. أخو عمرو بن عبدود، فقالا: وما برئنا على أربعة
أشهر، بل برئنا منك ومن ابن عمك، وليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح، وإن
شئت بدأنا بك فقال: علي عليه السلام هلموا هلموا، ثم قال: واعلموا أنكم غير معجزي
الله، الآية ومن تشرف فعله على فعل الأنبياء، أولوا العزم عليهم الصلاة والسلام كان
أولى بالتقدم على جميع الصحابة لا سيما صحابي ليس له بلاء حسن قط في حرب من الحروب،
وهذا الانفاذ كان أول يوم من ذي الحجة سنة سبع من الهجرة، وأداها علي عليه الصلاة
والسلام إلى الناس يوم عرفة ويوم نحر، وهذا هو الذي أمر الله إبراهيم عليه وعلى
نبينا وآله السلام حين قال تعالى: وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، (1)
فكان الله تعالى أمر الخليل بالنداء أولا بقوله: وأذن في الناس بالحج، (2) وأمر
الولي بالنداء أخيرا، وكان نبذ العهد مختصا بمن عقدها ومن يقوم مقامه في فرض الطاعة
وجلالة القدر وعلو المرتبة وشرف المقام وعظم المنزلة، ومن لا يرتاب بفعاله ولا
يعترض في مقاله ومن هو كنفس العاقد ومن أمره أمره وحكمه حكمه، وإذا حكم بحكم مضى
واستقر وأمن فيه الاعتراض، وكان نبذ العهد قوة الإسلام، وكمال الدين، وصلاح أمر
المسلمين، وفتح مكة واتساق أحوال الصلاح، وأراد الله تعالى أن يجعل ذلك كله على يد
علي بن أبي طالب عليهما السلام حتى ينوه باسمه ويعلى ذكره وينبه على فضله، ويدل على
علو قدره وشرف منزلته على من لم يحصل له شيء من ذلك، وبالجملة أن بين العزل
والولاية فرقا عظيما وبونا كبيرا لا يخفى على من رزق الحجى، وفي المثل الساير:
العزل طلاق الرجال، فإن كانت ولاية الرجل من
(هامش)
(1) الحج: الآية 26 (2) الحج: الآية 27 (*)
ص 423
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسن اختياره، فعزله من الله سبحانه بحسن اختياره،
لأن فعله تعالى على باطن الأحوال، وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ظاهرها،
وإذا كان أبو بكر لم يصلح لتأدية آيات يسيرة، فكيف يصلح للإمامة؟ لأن الإمام مترجم
عن الكتاب العزيز بأجمعه، وعن السنة بأسرها، ومعلوم أن الفعل الصادر عن الله تعالى
ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم يتعالى عن العبث، فما الوجه في إنفاذ الرجل أولا
وأخذها منه ثانيا، إلا تنبيها على الفضل وتنويها بالاسم وتعلية للذكر ورفعة لجناب
من ارتضى لتأديتها، وعكس ذلك فيمن عزل، ويؤيد هذا أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم اختصم إليه رجلان في بقرة قتلت حمارا فقال أحدهما: يا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: بقرة هذا قتلت حماري، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذهبا
إلى أبي بكر واسألاه عن ذلك، فجائا إلى أبي بكر وقصا عليه قصتها، فقال: كيف تركتما
رسول الله وجئتموني؟ قالا: هو أمرنا بذلك، فقال لهما: بهيمة قتلت بهيمة لا شيء على
ربها، فعادا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبراه بذلك فقال لهما: امضيا إلى
عمر واسألاه القضاء في ذلك، فذهبا إليه وقصا عليه قصتهما فقال لهما: كيف تركتما
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئتماني فقالا: هو أمرنا بذلك قال: فكيف لم يأمر كما
بالمصير إلى أبي بكر؟ فقالا: قد أمرنا بذلك فصرنا إليه فقال: ما الذي لكما في هذه
القصة؟ قالا له: كيت وكيت، قال ما أرى فيها إلى ما رآه أبو بكر، فعادا إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فأخبراه بالخبر، فقال: اذهبا إلى علي بن أبي طالب عليه
السلام ليقضي بينكما فذهبا إليه فقصا عليه قصتهما، قال عليه السلام: إن كانت البقرة
دخلت على الحمار في منامه فعلى ربها قيمة الحمار لصاحبه، وإن كان الحمار دخل على
البقرة في منامها فقتله فلا غرم على صاحبها فعادا إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فأخبراه بقضيته بينهما قال: فقد قضا بينكما بقضاء الله عز وجل، ثم قال: الحمد
لله الذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داود في القضاء، وقد روى هذه القصة
بعض أهل المذاهب الأربعة وذكرا أنها جرت في قضاء علي عليه السلام باليمن (1) وظاهر
هذا الحال أنه قصد بها
(هامش)
(1) سيجئ منا تفصيل قضاياه عليه السلام عند التعرض لعلمه. (*)
ص 424
الرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله أن يبين بها فضل علي عليه السلام وإن هذين
الرجلين يجهلان القضاء في بهيمة، فكيف يصلحان للإمامة؟ لأن الإمام يجب أن يكون
حاويا على ما يحتاج إليه الرعية من ساير العلوم جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها،
وينوه بذكر ابن عمه عليه السلام، وأنه يقضي بقضاء داود عليه السلام، وإن هذين
الرجلين لم يحكما بما أنزل الله وقد ذم الله من لم يحكم بما أنزل الله ونبه على أن
من يهدي إلى الحق أحق أن يتبع بقوله تعالى: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا
يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (1)، وفيه كفاية على الدلالة على أنه عليه
السلام أحق بالإمامة من غيره، ومعلوم أن القضاء بين الناس من منازل الأنبياء أو
الأئمة فلا يجوز أن يحكم أحد في زمن الأنبياء وفي حضورهم إلا نائب يريد النبي أن
ينوه بذكره ويبين منزلته عند أمته ليقتدوا به بعده أو من يؤت الحكومة في زمن النبي
لتدل الحكومة على نبوته، لا على نيابته كقوله تعالى: ففهمناها سليمان (2)، فكان
تفهم سليمان في حكومة الكرم والغنم دليلا على نبوته واستحقاق الأمر في حياة أبيه،
وبعد وفاته وحيث كانت الحكومة دليلا على استحقاق النبوة والإمامة، وكانت النبوة
ممتنعة في حق علي عليه السلام ثبتت له الإمامة بهذه الطريقة، وفي ذلك ثبوتها له بعد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل عند من نظر بعين الحق والإنصاف وترك حب
التقليد جانبا، ولو كان دفع البراءة وإنفاذه الخصمين إلى علي عليه السلام أولا ما
وضح هذا الوضوح، ولجاز أن يجول بخواطر الناس: إن في الجماعة غير علي عليه السلام من
يصلح أن يكون مؤديا للبراءة أو قاضيا بين الخصمين قائما في ذينك مقام رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، ولنعم ما قال صاحب بن عباد (3) رحمه الله
(هامش)
(1) يونس: الآية 35 (2) الأنبياء: الآية 79 (3) قد مرت ترجمته (ج 2 ص 45) فراجع (*)
ص 425
في قوله: شعر: براءة استرسلي في القول وانبسطي * فقد لبست جمالا من توليه وأما ما
يشعر به كلام الناصب: من أن أبا بكر لم يرجع عن الطريق، بل انطلق مع علي عليه
السلام مشتغلا بإمارة الحج فهو من زيادات بعض متأخري أصحابه كرزين العبدري، وإلا
فرواية صاحب جامع الأصول عن أنس صريحة في الرجوع والعزل، حيث قال بعث النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ببراءة مع أبي بكر ثم دعاه، فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا
إلا رجل من أهلي، فدعا عليا فأعطاها إياه وقد صرح صاحب الجامع بما ذكرناه من
الزيادة حيث قال بعد نقل الرواية التي ذكرناها: وزاد رزين (1)، فإنه لا ينبغي أن
يبلغ عني إلا رجل من أهلي، ثم اتفقا فانطلقا، (الحديث) وأما إنكار الناصب لنزول
جبرئيل عليه السلام بعزل أبي بكر ونصب علي عليه السلام لأداء البراءة واختياره إن
ذلك منه صلى الله عليه وآله كان على وجه البداء والجهل والنسيان للعادة المعهودة
دون الوحي، مع قوله تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى الآية فيكفي في
دفعه ما رواه المصنف عن مسند أحمد والجمع بين الصحاح الستة، قان صاحب هذا الجمع وهو
رزين العبدري ذكر ذلك في الجزء الثاني من كتابه في تفسير سورة براءة وفي صحيح أبي
داود وهو السنن، وصحيح الترمذي عن ابن عباس فليطالع ثمة ليتضح حقيقة الحال وحقيقة
المقال.
(هامش)
(1) على أن هذه الزيادة مع طولها خالية عن أن إمارة الحج كانت في تلك السنة مفوضة
إلى أبي بكر وغاية ما تدل عليه إنه كان يخدم عليا عليه السلام في تلك الأيام عند
النداء بالبراءة ويعاونه فيه حيث قال: فكان علي نادي بهذه الكلمات فإذا يجلس قام
أبو بكر فينادي بها (إنتهى) منه رحمه الله. (*)
ص 426
قال المصنف رفعه الله
السابع: آية المناجاة

في الجمع بين الصحاح الستة وتفسير الثعلبي، ورواية
ابن المغازلي الشافعي آية المناجاة، واختصاص أمير المؤمنين عليه السلام بها لما
تصدق بدينار حال المناجاة، ولم يتصدق أحد قبله، ولا بعده، ثم قال علي عليه السلام:
إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحمد بعدي، وهي: يا أيها
الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول الآية، وبي خفف الله عن هذه الأمة فلم ينزل في أحد
بعدي (1) (إنتهى). قال الناصب خفضه الله أقول: قد ذكرنا إن هذا من فضائل أمير
المؤمنين كرم الله وجهه ولم يشاركه أحد في هذه الفضيلة، وهي مذكورة في الصحاح، ولكن
لا يدل على النص المدعى. أقول قد سبق منا بيان دلالة الرواية على المدعى فتذكر
وتأمل حتى يأتيك اليقين. قال المصنف رفع الله درجته
الثامن: آية المباهلة، (2)

في
الصحيحين: أنه لما أراد المباهلة لنصارى
(هامش)
(1) تقدم منا نقل مدارك هذا الحديث في (ج 3 ص 129، إلى ص 139 (2) تقدم منا نقل
مدارك هذا الحديث في (ج 3 ص 46، إلى ص 62) (*)
ص 427
نجران احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي يمشي خلفها وهو يقول لهم:
إذا أنا دعوت فأمنوا، فأي فضل أعظم من هذا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يستسعد
بدعائه، ويجعله واسطة بينه وبين ربه تعالى (إنتهى). قال الناصب خفضه الله أقول: قصة
المباهلة مشهورة، وهي فضيلة عظيمة كما ذكرنا، وليس فيه دلالة على النص، وأما ما
ذكره: من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستسعد بدعائه، فهذا لا يدل على
احتياج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى دعاء أهل بيته وتأمينهم، ولكن عادة
المباهلة كما ذكر الله تعالى في القرآن أن يجمع الرجل أهله وقومه وأولاده، ليكون
أهيب في أعين المباهلين، ويشتمل البهلة إياه وقومه وأتباعه وهذا سر طلب التأمين
عنهم، لا أنه استعان بهم، وجعلهم واسطة بينه وبين ربه، ليلزم أنهم كانوا أقرب إلى
الله تعالى منه، هذا يفهم من كلامه، ومن معتقده الميشوم الباطل، نعوذ بالله من أن
يعتقد أن في أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان أقرب إلى الله منه.
(إنتهى). أقول فيه نظر، لأنا لا نسلم أن عادة المباهلة ما ذكره من جمع الأهل
والأولاد بل قد يكون جمعا، وقد يكون إفرادا، ولو كان كذلك، لكان ضم عباس الذي
استسقى به أبو بكر وعمر وعقيل وجعفر وغيرهم من بني هاشم أدخل في الهيبه من ضم طفلين
وأمهما عليهم السلام، ولكان أشمل من الاكتفاء بآل العباء، مع أن شمول البهلة
للمباهل، ومما لا يظهر مدخلية في ذلك، بل الظاهر كفاية اختصاصه بنفس المباهل، وما
ذكره الله تعالى في القرآن لا يدل على تقرير (تقرر خ ل) عادة المباهلة على ذلك، بل
الظاهر أنه تعالى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل العباء معه لقربهم
ص 428
من جانبه الأقدس، فظهر أن إظهاره للسر المذكور إنما هو نتيجة أكل الحشيش وأما ما
ذكره: من أن هذا يفهم من كلام المصنف ومعتقده الميشوم الخ فإنما يفهم ذلك مثل طبعه
السقيم الميشوم، إذ ليس مراد المصنف مما ذكره جعلهم واسطة في الهداية بأن يكونوا
رسولا بينه وبين الله تعالى، بل المراد جعلهم وسائط ووسائل بينه وبين الله تعالى في
طلب الرحمة عليه وعليهم ونزول العذاب على مخالفيهم، ولو سلم شوم ذلك الاعتقاد
فمعارض بما سيرويه الناصب في فصل تبراء الصحابة عن عثمان، حيث روى عن عثمان أنه قال
مخاطبا للمسلمين المحاصرين له في داره: أنشدكم الله تعالى والاسلام، هل تعلمون أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان بثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا، فتحرك
الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، فركضه برجله فقال: أسكن ثبير، فإنما عليك نبي
وصديق وشهيدان الخ، فإن، هذا صريح في استسعاد النبي بأبي بكر وعمر عثمان في دفع
الخوف والبلية، وبما ذكره ابن حجر في الصواعق في منقبة عمر حيث قال: أخرج أبو داود
عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: لا تنسنا يا أخي من دعائك
وابن ماجة عن عمر أيضا: إن النبي قال له: يا أخي أشركنا في صالح دعائك ولا تنسنا
(إنتهى)، والجواب الجواب. قال المصنف رفع الله درجته
التاسع: حديث المنزلة

في مسند أحمد بن حنبل
من عدة طرق، وفي صحيح البخاري ومسلم من عدة طرق: (1) أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لما خرج إلى تبوك استخلف عليا عليه السلام في المدينة، على أهله فقال علي عليه
السلام: وما كنت أؤثر أن تخرج في وجه إلا وأنا معك ، فقال: أما ترضى أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي (إنتهى).
(هامش)
(1) تقدم نقل مدارك هذا الحديث منا في (ج 5 ص 132، إلى ص 234) (*)
ص 429
قال الناصب خفضه الله أقول: هذا من روايات الصحاح، وهذا لا يدل على النص كما ذكره
العلماء ووجه الاستدلال به أنه نفي النبوة من علي وأثبت له كل شيء سواه، ومن جملته
الخلافة، والجواب أن هارون لم يكن خليفة بعد موسى، لأنه مات قبل موسى على نبينا
وآله وعليه السلام، بل المراد استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك كما استخلف
موسى هارون عند ذهابه إلى الطور لقوله تعالى: واخلفني في قومي وأيضا يثبت به لأمير
المؤمنين فضيلة الأخوة والمؤازرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ
الرسالة وغيرهما من الفضايل وهي مثبتة يقينا لا شك فيه (إنتهى). أقول الجواب مردود،
بأن هارون كان خليفة موسى على نبينا وآله وعليه السلام في حال حياته، ولو بقي إلى
بعد وفاته لكان خلافته ثابتة كما كانت في حياته بالضرورة العقيلة، ولما سبق من كلام
الشهرستاني في توديع موسى عليه السلام الوصاية الهارونية ليوشع حتى بوصلها إلى شبير
وشبر عند بلوغهما، فإذا بقي أمير المؤمنين عليه السلام إلى بعد وفاة النبي فيجب أن
يكون الخلافة حاصلة له، وتوضيحه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت لعلي عليه
السلام جميع منازل هارون من موسى واستثنى النبوة، فيبقى الباقي على عمومه، لأنه
قضية لاستثناء، ومن جملة منازل هارون من موسى أنه كان خليفة لموسى لقوله تعالى:
اخلفني في قومي، فكان خليفته في حياته فيكون خليفته بعد وفاته لو عاش لكنه مات قبله
وعلي عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتكون خلافته ثابتة إذ لا مزيل لها
فإن قيل لم قلتم إنه لو بقي هارون بعد موسى لكانت خلافته ثابتة من موسى؟ قلنا لأنه
إذا ثبتت هذه المنزلة له في حال الحياة فلا يجوز أن يزول عنها
ص 430
بعد الوفاة لأنها منزلة جليلة لا يجوز أن يحط عنها من ثبتت له لأن ذلك يقتضي غاية
التنفير لما قيل: من أن العزل طلاق الرجال، وأيضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
جعل هذه المنازل لأمير المؤمنين بعده بدلالة قوله: إلا أنه لا نبي بعدي فإذن يثبت
هذه المنازل لعلي عليه السلام وفي ثبوتها له ثبوت فرض طاعته كفرض طاعة رسول الله
فإن قيل هذا يوجب كون علي إماما في حال حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والمنقول من السلف خلافه قلت الظاهر يقتضي ذلك وفي الأصحاب من قال إن منزلة الإمامة
كانت ثابتة في الحال وإنما لم يسم إماما لوجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن
تسمية أمير المؤمنين في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وارد قد نقله كثير من
العلماء لا يقال كيف يمكن التزام ذلك مع امتناع اجتماع أوامر الخليفة مع أوامر
المستخلف بحسب العرف والعادة لأنا نقول الامتناع ممنوع وذلك لأنه إن أراد أنه يمتنع
اجتماعهما لاختلاف مقتضى أو أمرهما فبطلانه فيما نحن فيه ظاهر لأن ذلك الاختلاف
إنما يحصل إذا حكموا بموجب اشتهاءهم كالحاكم الجائرة أو بالاجتهاد الذي لا يخلو عن
الخطأ وليس الحال في النبي أو وصيه المعصوم. عليهما السلام كذلك، لأن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم إنما ينطق عن الوحي، وأمير المؤمنين عليهما السلام باب مدينة
علمه وعيبة سره فلا اختلاف، وإن أراد أنه يمتنع اجتماعهما بمعنى أنه لا يتصور في كل
حكم صدور الأمر منهما معا، فهذا غير لازم في تحقق الخلافة بل يكفي في ذلك كون
الخليفة بحيث لو لم يبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى انفاذ الحكم الخاص،
لكان له أن يبادر إلى انفاذه ولا امتناع في ذلك عقلا ولا عرفا، ولو سلم وجود دليل
يدل على أنه لم يرد حال الحياة فيثبت فيما عداها وهو كاف في ثبوت المطلوب كما عرفت،
فإن قلت: رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة يقتضي عزله وإن لم يقع
العزل بالقول أجيب: بأن الرجوع ليس بعزل عن ولاية لا في عادة ولا في عرف، وكيف يكون
العود عزلا أو يقتضي العزل؟ وقد يجتمع فيه الخليفة والمستخلف في البلد الواحد، ولا
ينفى حضوره الخلافة له، وإن ما يثبت في بعض
ص 431
الأحوال العزل بعود المستخلف بشرط أن يستخلفه في حال الغيبة فقط دون الحضور، والنبي
صلى الله عليه وآله وسلم استخلفه من غير شرط باتفاق روايات الفريقين على نفي الشرط،
فإن قيل: النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف معاذ بن جبل وابن أم مكتوم وغيرهما،
ولم يوجب لهم ذلك إمامة، فكذا علي عليه السلام، فالجواب: أن الاجماع من الأمة حاصل
على أن هؤلاء لا حظ لهم بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في إمامة، ولا فرض
طاعة، وذلك دليل ظاهر على ثبوت عزلهم، فإن قيل: تخصيص هذا الاستخلاف بالمدينة فقط
ولا يقتضي له الإمامة التي تعم قلنا: إذا ثبت له عليه السلام بعد النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فرض الطاعة واستحقاق التصرف بالأمر في بعض الأمة، وجب أن يكون إماما
على سائر الأمة، لأنه لا قائل من الأمة يذهب إلى اختصاص ما يجب له في هذه الحال، بل
كل من أثبت هذه المنزلة أثبتها عامة على وجه الإمامة، فكان الجماع مانعا من هذا
القول، فإذن يثبت منازل هارون من موسى لعلي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ويثبت له الاستحقاق منهم، وفي ذلك ثبوت إمامته وولايته وفرض طاعته بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل، كفرض طاعة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بالدلائل القاهرة والبراهين الباهرة، وفي ذلك يقول زيد بن علي عليه
السلام، وقد سمع من يقدم أبا بكر وعمر على علي عليه السلام. شعر:
فمن شرف الأقوام
يوما برأيه * فإن عليا شرفته المناقب
وقال رسول الله والحق قوله * وإن رغمت منه
أنوف كواذب
بأنك مني يا علي معالنا * كهارون من موسى أخ لي وصاحب
دعاه ببدر فاستجاب
لأمره * وما زال في ذات الإله يضارب
فما زال يعلوهم به وكأنه * شهاب تلقاه القوابس
ثاقب
فإن قيل: بعد تسليم دلالة هذا الحديث على أنه له عليه السلام منازل هارون
كلها،
ص 432
لا يدل الحديث على نفي الإمامة الثلاثة قبله، لأن لفظة بعدي محتملة للبعدية بلا فصل
وبفصل، فمن جعله إماما بعد عثمان فقد قال بموجب الخبر. قلت: هب أنه من حيث الوضع
محتملة للأمرين، لكن صار المفهوم منهما بحسب العرف البعدية بلا فصل، ألا ترى؟ أن
القائل إذا قال: هذا المال للفقراء بعدي تبادر إلى الأفهام أنه أراد بعد موته بلا
فصل، والتبادر دليل الحقيقة، فيكون حقيقتها العرفية، وكذا إذا ذكر أهل التواريخ أن
فلانا جلس على سرير الملك بعد فلان لا يفهم إلا ذلك، فكذا ههنا وأيضا نحن ندعي
دلالة الحديث على نفي إمامة الثلاثة بسبب عموم جميع المنازل ما عدا النبوة والأخوة
النسبية، وقد ثبت عمومه بشهادة العربية والأصول ودلالة اسلوب الكلام، فإنه نص صريح
في العموم والاستغراق مع الاستثناء، وقد سبق إن من جملة منازل هارون عليه السلام هو
التدبير والتصرف ونفاذ الحكم على فرض التعيش بعد موسى عليه السالم على عامة الأمة
بحيث لم يشذ منهم أحد، فبعد إثبات العموم وتسليم الخصم يلزم دخول عامة أمة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته وارتحاله تحت تصرف أمير المؤمنين عليه السلام
كما كان عامة قوم موسى عليه السلام تحت تصرف هارون عليه السلام، وهذا ينفي إمامة
الثلاثة مطلقا فثبتت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وهو المطلوب. قال المصنف رفع
الله درجته
العاشر: (1)حديث خبير وإعطائه (ص)الراية لعلي(ع)
في مسند أحمد من عدة طرق وصيح مسلم والبخاري من طرق متعددة
وفي الصحاح الستة أيضا عن عبد الله بن بريدة، قال: سمعت أبي يقول حاصرنا خيبر وأخذ
اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له، ثم أخذها عمر من الغد، فرجع ولم يفتح وأصاب
الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إني دافع الرواية
(هامش)
(1) تقدم منا نقل هذا الحديث عن جماعة من الصحابة بريدة وغيره في (ج 5 ص 368. إلى ص
467) (ج 27) (*)
ص 433
غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح
الله لم، فبات الناس يتداولون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب
عليهما السلام؟ فقالوا: إنه أرمد العين، فأرسل إليه فأنى فبصق رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في عينه ودعا له فبرأ، فأعطاه الراية ومضى علي عليه السلام فلم يرجح
حتى فتح الله على يديه (إنتهى). قال الناصب خفضه الله أقول: حديث خيبر صحيح، وهذا
من الفضائل العلية لأمير المؤمنين عليه السلام لا يكاد يشاركه فيها أحدكم من فضايل
مثل هذا؟! والعجب أن كل هذه الفضائل يرويه من كتب أصحابنا ويعلم أنهم في غاية
الاهتمام بنشر مناقب أمير المؤمنين عليه آلاف التحية والثناء وفضائله وما هم
كالروافض والشيعة في إخفاء مناقب مشايخ الصحابة، فلو كان هناك نص كانوا مهتمين
لنقله ونشره كاهتمامهم في نشر فضائله ومناقبه لخلوهم عن الأغراض والإعراض عن الحق.
أقول إن قوله: لا يكاد يشاركهم فيها أحد، يكاد أن يكون كيدا وتمويها ناشيا من غاية
نصبه وعداوته لأمير المؤمنين عليه السلام، وإلا فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إني
دافع الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله إلى آخره، يدل دلالة قطعية على أن هذه
الأوصاف ما كانت في أبي بكر وعمر، ألا ترى، أن السلطان إذا أرسل رسولا في بعض
مهماته ولم يكف الرسول ذلك المهم على وفق رأي السلطان فيقول السلطان: لأرسلن في ذلك
المهم رسول كافيا عالما بالأمور، دل دلالة قطعية على أن هذه الصفات ما كانت ثابتة
في الرسول الأول، وأن الرسول الثاني أفضل من الأول، وكذا
ص 434
ههنا، وبالجملة قد بان بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى،
ثبوت محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، في علي عليه السلام، ولو لا
اختصاص علي عليه السلام بغاية هذه المرتبة لاقتضى الكلام خروج الجماعة بأسرها عن
هذه المحبة على كل حال، وذلك محال، أو كان التخصيص بلا معنى، فيلحق بالعبث ومنصب
النوبة متعال عن ذلك، فثبتت هذه المرتبة لعلي عليه السلام بدلالة قوله: كرار غير
فرار، وهي منتفية عن أبي بكر وعمر لفرهما وعدم كرهما، وفي تلافي أمير المؤمنين عليه
السلام بخيبر ما فرط من غيره، دليل على توحده بزيادة الفضل ومزيته على من عداه، ولا
ريب أن غاية المدح والتعظيم والتبجيل، المحبة من الله ورسوله، لأنها النهاية ولا
ملتمس بعدها ولا مزيد عليها وهي الغاية القصوى والدرجة العظمى والله ذو الفضل
العظيم. وأما ما ذكره من أن المصنف يروي هذه الفضائل من كتب أهل السنة، فمسلم ووجهه
ظاهر مما قررناه سابقا، لكنهم حين نقلوا هذه الأحاديث لم يكن يفهموا لحماقتهم أنها
مما يصير حجة للشيعة، فلا يدل ذلك علي إخلاصهم وخلاصهم عن الأغراض، ولهذا ترى
المتأخرين من أهل السنة إنهم إذا نبههم (أنبهم خ ل) الشيعة بما يلزمهم من أحاديث
المتقدمين يبادرون إلى قدحها تارة في سندها، وتارة في دلالتها، وتارة في تأويلها،
وتارة بتخصيصها، وتارة بالزيادة والنقصان كما أريناكه مرارا. قال المصنف رفع الله
درجته
الحادي عشر: حديث برز الإيمان كله

روى الجمهور: (1) أنه عليه السلام لما برز إلى عمرو بن عبدود
العامري في غزاة الخندق، وقد عجز عنه المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
برز الإيمان كله إلى الكفر كله (إنتهى).
(هامش)
(1) تقدم منا نقل الحديث في (ج 5 ص 9) (*)
ص 435
قال الناصب خفضه الله أقول: إنه صح هذا أيضا في الخبر وهذا أيضا من مناقبه وفضائله
التي لا ينكره إلا سقيم الرأي، ضعيف الإيمان، ولكن الكلام في إثبات النص وهذا لا
يثبته (إنتهى). أقول إذ جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام كل
الإيمان بإثبات كله له، فكان سيد جميع المؤمنين، وكان ثبات إيمان الكل ببركته،
فيكون أفضل من الكل، وقد مر إن الكلام في الأعم من إثبات النص على الإمامة
والأفضلية، بل إذا ثبتت الأفضلية ثبتت الإمامة، لما عرفت من قبح تفضيل المفضول،
وأصرح من هذا الحديث في الأفضلية ما استفاض واشتهر من قوله عليه السلام: لضربة علي
عليه السلام يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين، فتأمل. قال المصنف رفع الله درجته
الثاني عشر:(1) حديث سد الأبواب

في مسند أحمد بن حنبل من عدة طرق: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم. أمر بسد الأبواب إلا باب علي بن أبي طالب عليه السلام، فتكلم الناس فخطب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني لما أمرت
بسد هذه الأبواب غير باب علي عليه السلام، فقال فيه قائلكم، والله ما سددت شيئا ولا
فتحت ولكن أمرت بشيء فاتبعته (إنتهى).
(هامش)
(1) تقدم منا نقل مدارك هذا الحديث في (ج 5 ص 540، إلى ص 570) (*)
ص 436
قال الناصب خفضه الله
أقول: كان المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
متصلا ببيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان علي عليه السلام ساكن بيت رسول
الله، لمكان ابنته، وكان الناس من أبوابهم في المسجد يترددون ويزاحمون المصلين،
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسد الأبواب إلا باب علي عليه السلام، وقد
صح في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بأن يسد كل خوخة في
المسجد إلا خوخة أبي بكر، والخوخة باب الصغير، فهذا فضيلة وقرب حصل لأبي بكر وعلي
رضي الله عنهما (إنتهى)
أقول إن أراد بقوله: إن عليا كان ساكن بيت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إنه كان ساكن الحجرة المخصوصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأزواجه، فهذا كذب ظاهر، وإن أراد: أنه كان ساكنا في بعض الحجرات العشر التي كان
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا مسلم، ولكنه لا يقتضي عدم سد بابه لو كانت
المصلحة في سد الأبواب الباقية رفع مزاحمة المصلين، لأن تردد علي وأولاده عليهم
السلام وعبيده ومواليه أيضا كان مزاحما، فدل ذلك على أن تخصيص باب مدينة العلم لم
يكن لأجل ذلك، وإنما كان لزيادة درجاته وطهارته وشرفه وجواز استطراقه في المسجد ولو
جنبا، (1) كما ورد في الحديث الآخر المشهور (2) المذكور في صحيح الترمذي وغيره، وفي
قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث
(هامش)
(1) لأن جواز الاستطراق والمقام في المسجد لعلي عليه السلام حال الجنابة دليل ظاهر
على زيادة درجاته عليه السلام وطهارته وشرفه وكذا في حق ذريته الطاهرة عليهم السلام
وليس في فتح الخوخة إلا دفع ظلمة البيت (منه) (2) راجع ما تقدم منا في (ج 5 ص 546)
(*)
ص 437
المذكور، ولكني أمرت بشيء فاتبعته إشارة أيضا إلى ما ذكر فافهم. وأما ما ذكره
الناصب من حديث خوخة أبي بكر، فلا يصلح لأن يكون موازيا في الدلالة على الفضل لفتح
الباب، وهذا ظاهر من تفسير الجوهري الخوخة بالكوة في الجدار يؤدي الضوء، وتفسيرها
بالباب الصغير من جملة تمويهات الناصب، فلا يلتفت إليه، مع أن أصل هذا الحديث ليس
بمتفق عليه، فلا يصلح للاحتجاج به على الخصم، بل الخصم يقول: إن أصحاب الناصب وضعوا
هذا في مقابل ذاك حفظا لشأن أبي بكر وترويجا له، وبالجملة نحن إنما نحتج برواية من
لم يعتقد كون علي عليه السلام أفضل الصحابة على الاطلاق، فإن أتيتم في فضايل
الصحابة الثلاثة برواية من لم يعتقد أفضليتهم فقد تمت المعارضة، وإلا فلا، على أن
ذلك معارض بما رواه ابن الأثير في النهاية، حيث قال: وفي حديث آخر إلا خوخة علي
عليه السلام (إنتهى) وإذا تعارضا تساقطا، وبقي حديث الباب سالما مسلما لباب مدينة
العلم، وتوضيح المقام على وجه يتضح به جلية الحال وسريرة المقال، أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بنى أفعاله في الأمور الدنيوية من الحركة والسكون على ظاهر الحال من
كونها صالحة مباحة على أصلها، كفتح أبواب الصحابة واعطائه الراية، ودفع الآيات من
البراءة لأبي بكر، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم الباطن ولا يعلمها إلا
الله سبحانه، وسد الأبواب وأخذ الآيات من أبي بكر بوحي من الله تعالى كما نقله
الفريقان، وقد تقدم ذكره، وكان فعله صلى الله عليه وآله وسلم على ظاهر الحال، وفعل
الباري سبحانه تعالى في المنع على باطن الحال لا على ظاهره، فعلم من صلاح باطن علي
عليه السلام ما لم يكن حاصلا للممنوع، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان اختصاصه عليه
السلام بذلك دون غيره عبثا، ويتعالى فعل القديم سبحانه عنه عقلا ونقلا، لقوله
تعالى: أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون، فقد ثبت صلاح الباطن
والظاهر لعلي عليه السلام بمقتضى الوحي من الله سبحانه وفعل رسوله صلى الله عليه
وآله وسلم، واختصاص الرسول وعلي صلوات
ص 438
الله عليهما بفتح بابيهما دليل ظاهر على زيادة درجات علي عليه السلام في الشرف
والفضل والكرامة، حتى لم يبق بعدها زيادة المستزيد إلى أن ألحقه الله بنبيه صلى
الله عليه وآله وسلم وجواز الاستطراق وهو جنب، دليل لائح على طهارته وشرفه، وكذا في
حق ذريته الطاهرة عليهم الصلاة والسلام، فإذن فقد تفرد علي عليه السلام بذلك وهو
ممن لا يضاهيه أحد من الأمة، ومن ثبت له ذلك كان الاتباع له أولى وأوجب والاقتداء
به أوكد وأفرض، ولنعلم ما قال السيد الحميري رحمه الله تعالى: شعر:
وخص رجالا من
قريش بأن بنى * لهم حجرا فيه وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) مسددا
فقيل له سد كل
باب فتحته * سوى باب ذي التقوى علي فسددا
لهم كل باب أشرعوا غير بابه * وقد كان
منفوسا عليه محسدا
وقال رحمه الله تعالى: شعر:
وأسكنه في المسجد الطهر وحده *
وزوجته والله من شاء يرفع
فجاوره فيه الوصي وغيره * وأبوابهم في المسجد الطهر شرع
فقال لهم سدوا عن الله صادقا * فظنوا بها عن سدها وتمنعوا
فقام رجال يذكرون قرابة *
وما تم فيما ينبغي (يبتغى ظ) القوم مطمع
فعاتبه في ذاك منهم معاتب * وكان له عما
وللعم موصع
فقال له أخرجت عمك كارها * وأسكنت هذا إن عمك يجزع
فقال له يا عم ما أنا
الذي * فعلت بكم هذا بل الله فاقنع
قال المصنف رفع الله درجته
الثالث عشر: حديث المواخاة والمنزلة
في مسند
أحمد بن حنبل من عدة طرق (1) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(هامش)
(1) تقدم نقل مدارك هذا الحديث في (ج 4 ص 173، إلى ص 176 وج 6 ص 468) والأحاديث
الدالة على مؤاخاة النبي مع علي كثيرة تقدم منا في (ج 4 ص 171، إلى ص 215) وفي (ج 6
ص 461، إلى ص 486) وكذا الأحاديث الدالة على قوله صلى الله عليه وآله وسلم: علي مني
بمنزلة هارون من موسى كثيرة تقدم منا نقل بعضها في (ج 5 ص 133، إلى ص 234). (*)
ص 439
آخا بين الناس وترك عليا عليه السلام حتى بقي آخرهم لا يرى له أخا فقال: يا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم آخيت بين أصحابك وتركتني؟ فقال: إنما تركتك لنفسي أنت
أخي وأنا أخوك، فإن ذكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لا يدعيها بعد ك إلا كذاب، والذي بعثني بالحق نبيا ما أخرتك إلا لنفسي، وأنت
مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي وأنت أخي ووارثي، وفي الجمع بين
الصحاح (1) الستة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مكتوب على باب الجنة لا
إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علي أخو رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بألفي عام (إنتهى). قال الناصب
خفضه الله أقول: حديث المواخاة معتبر مشهور معول عليه، ولا شك أن عليا عليه السلام
أخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبه وحبيبه، وكان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم شديد الحب له وهذا كله يؤخذ من صحاحنا ومن مذهبنا، ولكن لا يدل على النص،
لأن أبا بكر كان خليل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووزيره وقرينه، وله أيضا
من الفضايل ما لا تعد ولا تحصى، والكلام ليس في عد الفضايل وإثباتها بل وجود النص
(إنتهى).
(هامش)
(1) (تقدم منا نقل مدارك هذا الحديث في (ج 4 ص 199، إلى ص 202) (و ج 6 ص 139، إلى ص
152) (*)
ص 440
أقول إنما أخذ المصنف الأحاديث الدالة على فضائل علي عليه السلام من صحاحهم، لأن
قيام الحجة على الخصم إنما يحصل بها كما مر، لا لأنه ليس في طريقة الشيعة من
الأحاديث ما يدل على مناقب علي عليه السلام وفضائله كما توهمه الناصب وأما ما ذكره:
من أن الحديث المذكور لا يدل على النص وأن الكلام ليس في عد الفضائل وإثباتها إلى
آخره، فمجاب بما مر مرارا: من أن الكلام في النص، وفي إثبات الأفضلية وفي عد
الفضائل أيضا، لما مر من أن اجتماع الفضائل في شخص دون غيره يورث أفضليته عنهم،
وهذا الحديث يدل على الأفضلية، وذلك لأنه لما نزلت قوله تعالى: إنما المؤمنون أخوة،
آخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الأشكال والنظاير بوحي من الله تعالى،
يكون كل أخ يعرف بنظيره، وينسب إلى قرينه ويستدل به عليه ويتضح به شرف منازل
الأصحاب ويتميز به الخبيث من الطيب والمميز لهم كان جبرئيل عليه السلام، مع أن
مماثلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقع إلا على الصحة والسداد، لأنه صلى الله
عليه وآله وسلم لا يجوز أن يشبه الشيء بخلافه ويمثله بضده، لكن يضع الأشياء في
مواضعها للمواد المتصلة به من الله تعالى، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه
السلام: أنت أخي وأنا أخوك، يريد به أن المناظرة والمشابهة والمشاكلة بينهما من
الطرفين، وفي جميع المنازل إلا النوبة خاصة والعرب يقول للشئ إنه أخو الشيء إذا
شبهه وماثله وقارنه ووافق معناه، ومن ذلك قوله تعالى: إن هذا أخي له تسع وتسعون
نعجة، وكانا جبرئيل وميكائيل عليهما السلام: وقوله تعالى: يا أخت هارون ما كان أبوك
امرء سوء، ومعلوم أن الأخوة في النسب فقط، لا يوجب فضلا، لأن الكافر قد يكون أخا
لمؤمن، لكن الأخوة في المماثلة والمشابهة هي الموجبة للفضل، ومولانا أمير المؤمنين
عليه الصلاة والسلام حصلت له من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ص 441
الأخوة فيها وفي مراتب كثيرة، منها أنه مماثله في النفس بنص القرآن المجيد، وقد سبق
بيانه في آية المباهلة، (1) ومنها أنه مضاهية في الولاية، لقوله تعالى: إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا (2) الآية وقد تقدم أيضا، ومنها أنه نظيره في العصمة
بدليل قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت (3) الآية، وقد مضى
شرحه، ومنها أنه مشابهه ومشاركه في الأداء والتبليغ بدليل الوحي من الله سبحانه إلى
الرسول يوم إعطائه براءة لغيره، فهبط جبرئيل عليه السلام وقال: لا يؤديها إلا أنت
أو رجل منك، فاستعادها من أبي بكر ودفعها إلى علي عليه السلام، وقد سلف بيانه، (4)
ومنها أنه نظيره في النسب الطاهر الكريم، ومنها أنه نظيره في الموالات لقول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه كما مر، (5) ومنها فتح بابه في
المسجد كفتح باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوازه في المسجد كجوازه ودخوله في
المسجد جنبا كحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد مر أيضا (6) ومنها أنه
نظيره في النور قبل خلق آدم بأربعة آلاف عام (7) والتسبيح والتقديس يصدر منها لله
عز وجل
(هامش)
(تقدم مدارك كون المراد من الأنفس في آية المباهلة عليا عليه السلام في (ج 3 ص 46،
إلى ص 62). (2) تقدم بعض مدارك نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام في (ج 2 ص
339، إلى ص 408). (3) تقدم بعض مدارك نزول هذا الآية فيه شأن علي عليه السلام في (ج
2 ص 502، إلى ص 544). (4) تقدم بعض مداركه في (ج 3 ص 427، إلى ص 438). (5) تقدم
مداركه في (ج 2 ص 415، إلى ص 465 وج 6 ص 225، إلى ص 368 (6) تقدم مداركه في (ج 5 ص
540، إلى ص 586) (7) تقدم مداركه في (ج 5 ص 242، إلى ص 255). (*)
ص 442
وقد تقدم هذا أيضا ومنها أنه نظيره في استحقاق الإمامة، لأنه يستحقها على طريق
استحقاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم النبوة، سواء بدليل قوله تعالى لإبراهيم:
إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي، الآية وقد مضى بيان ذلك وإنهما عليهما
السلام دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام ومنها أنه أخوه بسببين آخرين وهو أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمى فاطمة بنت أسد أما، والعم يسمى أبا بدليل قوله
تعالى: وإذ قال إبراهيم لأبيه آذر الآية وقال الزجاج: أجمع النسابون على أن اسم أبي
إبراهيم تارخ وبقوله تعالى حكاية عن يعقوب: ما تعبدون من بعدي، الآية وإسماعيل كان
عمه إلى غير ذلك من الأشياء الشريفة التي شابهه وناظره فيها وتعذر استقصاؤها ههنا،
ومن يكون مشاكلا ومضاهيا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المراتب العظيمة
الجليلة، لا ريب في أنه يكون أحق بالخلافة وأجدر ممن لم يحصل له شيء من هذا أو
بعضها، وهذا ظاهر لمن تأمله بين لمن تدبره إن شاء الله سبحانه، وأما ما ذكره من أن
أبا بكر كان خليل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنما توهمه من الحديث
الموضوع الذي وقع فيه الخلة على وجه الفرض والتقدير وهو ما رووا عنه إنه قال: لو
كنت متخذ خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، يعني لو اتخذت من غير أهل بيتي خليلا لاتخذت
أبا بكر خليلا فلا يلزم وقوع الخلة وقال في شأن علي عليه السلام بحرف التحقيق وصيغة
الجزم في رواية ابن مردويه: (1) إن خليلي ووزيري وخليفتي وخير من أتركه بعدي يقضي
ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب، فلا يعارض ما روي في شأن أبي بكر ما روي في شأن
علي عليه آلاف التحية والثناء وأين المخيل من المحقق؟ والمفروض من المجزوم به؟، ولو
فرض وضع حديث يدل على تحقق الخلة لما كان معارضا، لذلك، لعدم الاتفاق عليه،
ولمعارضته ما روي من نقايصه معه هذا. وقد أغمض الناصب عن التعرض لما ذكره من الحديث
الجمع بين الصحاح
(هامش)
(1) تقدم بعض مداركه في (ج 4 ص 54، إلى ص 56) (*)
ص 443
ولعله استحيى نعم، ونعم ما قيل: شعر: اسم على العرش مكتوب كما نقلوا * من يستطيع له
محوا وترقينا (1) قال المصنف رفع الله درجته
الرابع عشر: حديث إن عليا مني وأنا من علي
في مسند أحمد بن حنبل وفي
الصحاح الستة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عدة طرق: إن عليا مني، وأنا من
علي وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة من بعدي لا يؤدي عني إلا أنا أو علي (2)، وفيه أيضا إنه
(3) لما قتل علي عليه السلام أصحاب الألوية يوم أحد قال جبرئيل عليه السلام لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذه لهي المواساة فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: إن عليا مني وأنه منه فقال جبرئيل: وأنا منكما يا رسول الله (إنتهى). قال
الناصب خفضه الله أقول: اتصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلي في النسب وأخوة
الإسلام والنصرة الموازرة غير خفي على أحد، ولا دلالة على النص بخلافته، لأن مثل
هذا الكلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغير علي كما ذكر أنه قال
الأشعريون إذا قحطوا أرملوا، وأنا منهم وهم مني، ولا شك أن الأشعريين بهذا الكلام
لم يصيروا خلفاء فلا يكون هذا نصا (إنتهى).
(هامش)
(1) الترقين: تسوية الموضع لئلا يتوهم أنه أبيض. (2) تقدم بعض مداركه في (ج 5 ص
274، إلى ص 317) (3) تقدم بعض مداركه في (ج 5 ص 284، إلى ص 278). (*)
ص 444
أقول الكلام الذي نقله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الأشعريين، وزعم
أنه مثل ما قاله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم في شأن علي عليه السلام ليس بمتفق
عليه بين أهل الإسلام، فلا يتم به المعارضة ولو أغمضنا عن ذلك فنقول: إنه من جملة
حديث ذكره البخاري بإسناده إلى أبي موسى الأشعري حيث قال: قال أبو موسى الأشعري:
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو وقل طعام
عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد
بالسوية، فهم مني وأنا منهم (إنتهى) وأبو موسى مع كونه مقيم الفتنة ومضل الأمة، ومع
ما علم من فسقه وكفره وعناده بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام أوان خلافته
وفي يوم التحكيم فيه تهمة جلب النفع بذلك لنفسه في جملة الأشعريين، فلا يلتفت إلى
حديثه ويقوي تهمة الكذب في ذلك ما رواه صاحب جامع الأصول: من أنه قال عامر ابنه:
حدثت بذلك معاوية فقال: ليس كذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: هم
مني وإلي، قلت: ليس هكذا حدثني أبي ولكنه حدثني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقول: هم مني وأنا منهم، قال: فأنت أعلم بحديث أبيك أخرجه الترمذي،
(إنتهى) ولو تنزلنا عن هذا أيضا نقول: رواية البخاري صريحة في أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لم يقصد أن الأشعريين منه وهو منهم مطلقا ومن جميع الوجوه، بل في
مواسات عيالهم وإخوانهم فقط كما صرح به القسطلاني في شرح البخاري وسوق الكلام
وتفريع قوله: فهم مني وأنا منهم، على ما قبله صريحان فيه أيضا، والناصب حذف مقدمة
الحديث وفاء التفريع عن التتمة التي ذكرها، مع ارتكاب تقديم ما هو مؤخر فيها، لئلا
يتفطن أحد بالخصوصية الملحوظة فيها، بخلاف ما ورد في شأن علي عليه السلام في أحاديث
متعددة وطرق شتى، فإنها مطلقة مشعرة بالجنسية والمشابهة والمماثلة في صفات
ص 445
الكمال كما مر على التفصيل في تفسير قوله تعالى: أنفسنا وأنفسكم الآية، وقد فسر بما
يدل على ذلك في جملة حديث رواه ابن حجر في صواعقه يتضمن شكاية بريدة عن علي عليه
السلام عند العود معه من اليمن، وهو قوله عليه السلام: إن عليا مني وأنا منه (1)،
خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم ذرية بعضها من بعض،
والله سميع عليم (إنتهى) فإن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خلق من طينتي بمنزلة
تفسير لقوله: عليا مني وأنا منه كما لا يخفى، وحاصله ما ذكرنا من الجنسية والمماثلة
والمشابهة المطلقة والمماثلة، ومن ثبت له الجنسية والمماثلة والمشابهة المطلقة بخير
البشر كان الاتباع له والاقتداء به أوجب وأفرض، وفي كونه عليه الصلاة والسلام
مماثلا ومجانسا له أدل دليل على أنه أولى بمقامه من جميع الخلائق كما لا يخفى،
فلخصوصية إرادة الجنسية الموجودة في خطاب علي عليه السلام المفقودة في خطاب
الأشعريين، لم يصيروا خلفاء ولا ادعوا ذلك، وإلا لكان أقل ما يجب على الأمة أن
يدخلوا بعضهم في الشورى فافهم، ويدل على أن الفضيلة التامة في إطلاق العبارة
المفيدة للجنسية أنه لم يطلق ذلك مرة على أحد من عمه عباس وجعفر وعقيل وغيرهم من
رجال أهل بيته، ولا على أبي بكر وعمر وعثمان الذين كانوا أقرب إلى الرسول من
الأشعريين بالاتفاق، ويدل على ما ذكرناه أيضا ما رواه أحمد في مسنده والثعلبي في
تفسيره من قول جبرئيل في قصة البراءة: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، فإنا نعلم
ضرورة أن المعنى المستفاد من كلمة من (مني خ ل). ههنا ليس المعنى المستفاد من قوله
للأشعريين: فهم مني، ولو كان المراد منه ما أريد في خطاب الأشعريين من المشابهة
والقرب في الجملة، لما دل قوله: رجل منك على وجوب عزل أبي بكر ونصب علي عليه
السلام، لصدق أن أبا بكر رجل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعنى الحاصل
للأشعريين، وإلا لزم الازراء بجلالة قدر أبي بكر عند
(هامش)
(1) راجع كتابنا هذا (ج 5 ص 242 إلى ص 266 وص 274، إلى ص 317) (*)
ص 446
القائلين بخلافته وأفضليته عن سائر الصحابة، فعلم أن ههنا خصوصية زائدة على ما في
خطاب الأشعريين، كما قررناه، وكذا يدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم (1) لوفد
ثقيف حيث جاؤوا: لتسلمن أولا بعثن رجلا مني أو قال: مثل نفسي فليضربن أعناقكم
وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم قال عمر: فوالله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ
وجعلت أنصب صدري له رجاء أن يقول: هو هذا قال: فالتفت إلى علي فأخذ بيده، ثم قال:
هو هذا، كذا في الاستيعاب (2)، ولو لا المراد من كلمة من (مني خ ل) فيه ما ذكرناه
لما تمناه عمر على ذلك الوجه، فتوجه. قال المصنف رفع الله درجته
الخامس عشر:حديث أن فيك مثلا من عيسى..
في
مسند (3) أحمد بن حنبل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لعلي عليه
السلام: إن فيك مثلا من عيسى أبغضه اليهود حتى اتهموا (بهتوا خ ل) أمه وأحبته
النصارى حتى أنزلوه المنزل الذي ليس له بأهل، وقد صدق النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، لأن الخوارج أبغضوا عليا عليه الصلاة والسلام والنصيرية اعتقدوا فيه الربوبية
(إنتهى). قال الناصب خفضه الله أقول: الحمد لله الذي جعل السنة معتدلين بين
الفريقين من المفرطة في حب علي كالنصيرية التي يدعون ربوبيته، وكالإمامية التي
يدعون عن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفروا كلهم لمخالفة النص في شأن، ومن
المفرطة في بغضه كالخوارج
(هامش)
(1) تقدم منا بعض مدارك هذا الحديث في (ج 6 ص 449، إلى ص 458) (2) فراجع الاستيعاب
(ج 2 ص 464 ط حيدر آباد الدكن) (3) تقدم منا بعض مدارك هذا الحديث في (ج 7 ص 284،
إلى ص 296) (*)
ص 447
المبغضة، وأما أهل السنة والجماعة بحمد الله فيحبونه حبا شديدا، وينزلونه في منزلة
التي هو أهل لها من كونه وصيا وخليفة من الخلفاء الأربعة وصاحب ودايع العلم
والمعرفة (إنتهى). أقول إن الإمامية لا يكفرون كل أصحاب محمد صلى الله عليه وآله
وسلم، ولا كل من خالف النص الجلي الوارد في شأن علي عليه السلام، وإنما يكفرون من
سمع النص ثم خالفه، وهم جماعة معدودة كما حققناه في كتاب مجالس المؤمنين بل لا
يكفرون عند طائفة منهم سوى محاربي علي عليه السلام من الصحابة دون المخالفين له
منهم، وقد مر تفصيل الكلام في ذلك نقلا عن شرح المصنف للتجريد، وأما ما فعله الناصب
من إدخال الإمامية في المفرطة كالنصيرية حيث قال: وكالإمامية التي يدعون أن أصحاب
محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفروا كلهم بمخالفة النص في شأنه إلى آخره، فمن فرط
حماقته أو بغضه كالخوارج لعلي عليه السلام، وكيف يتجه وصفهم بالإفراط في حبه عليه
السلام؟ مع ما ذكر من استدلالهم على تلك الدعوى بمخالفتهم للنص الوارد في شأنه عليه
السلام وكيف يرضى محب بمحبة من خالف حبيبه، ومنع النص الوارد في شأنه ودفعه عن
مقامه وأظهر عداوته، ولنعم ما قيل: تود عدوي ثم تزعم أنني * صديقك إن الرأي عنك
لعازب نعم لو لم يكن تلك الدعوى منهم معللا بشيء يصلح عذرا لهم في ذلك لكان نسبتهم
إلى الافراط في محبة علي عليه السلام متجها وليس فليس، ودعوى أن دعويهم ذلك باطلة
وتعليمهم فاسد ولو سلم فهو بحث آخر لا دخل له في إثبات الافراط وعدمه، وأما ما ذكره
من أن أهل السنة يحبون عليا حبا شديدا، فخلافه ظاهر (1)، وإنما يظهر بعضهم
(هامش)
(حكاية عجيبة: إن من علماء أهل السنة في عصرنا صبغة الله البغدادي وله وله متعصب =
ص 448
حبه عليه السلام حياء ورئاء للناس من باب قوله تعالى: يقولون بألسنتهم ما ليس في
قلوبهم، وقد كشف القاضي ابن خلكان من أعلام أهل السنة عن سرائر قلوبهم، فقال في
تاريخه الموسوم بوفيات الأعيان عند بيان أحوال علي بن جهم القرشي (1) وكونه منحرفا
عن علي عليه السلام: أن محبة علي لا يجتمع مع التسنن، ولم يقصر الناصب أيضا في هذا
الكتاب، بل في هذا المقام عن إظهار عداوته عليه السلام حيث أخره عن مرتبته التي
رتبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم له ورآه أهلا، لأن ينزله في
المرتبة
(هامش)
= متعند قرع سمعي أن ذلك اللعين قال: ليتني كنت في أصحاب معاوية فأحارب عليا عليه
السلام فانظروا معشر العقلاء إلى حبهم الشديد. وقد صرح ابن أبي الحديد في شرحه على
نهج البلاغة أن العداوة كانت محكمة بين بني هاشم وتيم وأثبت شيخنا هاشم بن سليمان
البحراني في كتاب سلاسل الحديد على أهل السنة وأصحاب التقليد أن أبا بكر كان مبغضا
عدوا لعلي عليه السلام فهل يصلح للخلافة النبوية من هو منافق مبغض للعترة الزكية؟
(وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر). وصرح أيضا شيخنا البحراني في هذا الكتاب نقلا عن
بعضهم وهو أبو جعفر النقيب أن عمر افتعل حديث يوم السقيفة وأوهم أن رسول الله (ص)
ذم عليا عليه السلام، فاعتبر أقول: هكذا وجد بخط بعض الأفاضل، وغير خفي أن كتاب
سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد من مؤلفات شيخنا العلامة ففيه الشيعة الشيخ
يوسف البحراني الحائري كما صرح به نفسه في اللؤلؤة، ومولانا السيد هاشم البحراني لا
مؤلف له يسمى بهذا الاسم كما هو واضح لمن سبر كتب التراجم. (1) علي بن جهم هذا عليه
ما عليه كان معاصرا لمولينا الرضا عليه السلام وله سؤالات عنه عليه السلام على سبيل
الامتحان بتحريك المأمون وبمقتضى طبعه الميشوم، وهي مذكورة في كتاب عيون أخبار
الرضا وكتاب الاحتجاج. منه (قد). (ج 28) (*)
ص 449
الرابعة من خلفائه ويجعل الثلاثة أميرا عليه، مع ظهور أن ذلك لا يليق بشأن قنبر من
عبيده بل بحال كلب باسط ذراعيه في وصيده، ولنعم ما قال العارف الغزنوي في قصيدته:
آنكه او را بر علي مرتضى خواني أمير * بالله ار بر مي تواند كفش قنبر داشتن قال
المصنف رفع الله درجته
السادس عشر: (1) حديث لا يحبك إلا مؤمن ..
في مسند أحمد بن حنبل وهو مذكور في الجمع
بين الصحيحين وفي الجمع بين الصحاح الستة إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا
يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق (إنتهى). قال الناصب خفضه الله أقول: هذا الحديث
صحيح لا شك فيه، وفي رواية هذا الحديث عن علي رضي الله عنه: (2) أنه قال: عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق،
والحمد لله الذي جعلنا من أهل محبته وملأ قلوبنا من صفو مودته وبالله التوفيق
(إنتهى). أقول أخباره عن الجعل المذكور كذب على الله تعالى وعلى نفسه، وقد شهد
فاتحة أمره وخاتمته على أن الله سبحانه لم يجعل التوفيق رفيقا له في ذلك بحمد الله
تعالى، ومن الشواهد ما يرى من تحريفاته للآيات والأحاديث عن الموضع والمستقر
(هامش)
(1) تقدم منا بعض مدارك هذا الحديث في (ج 7 ص 189. إلى ص 215) (2) تقدم منا بعض
مدارك هذا الحديث في (ج 7 ص 195، إلى ص 208) (*)
ص 450
تعصباته التي تشم منها رايحة إحراقه في السقر. قال المصنف رفع الله درجته
السابع
عشر: حديث خاصف النعل
في مسند (1) أحمد بن حنبل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن منكم
من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا، قال عمر: أنا هو يا رسول الله، قال: لا
ولكنه خاصف النعل، وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في الحجرة عند فاطمة عليها السلام، وفي الجمع بين الصحاح الستة، قال: رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: لتنتهن معشر قريش أو ليبعثن الله عليكم رجلا مني
امتحن الله قلبه للإيمان يضرب رقابكم على الدين، قيل: يا رسول الله أبو بكر، قال:
لا، قيل: عمر، قال: لا ولكن خاصف النعل في الحجرة (إنتهى). قال الناصب خفضه الله
أقول: صح هذا الحديث وهذا يدل على أنه يقاتل البغاة والخوارج وكان مقاتلة البغاة
والخوارج على تأويل القرآن حيث كانوا يؤولون القرآن ويدعون الخلافة لأنفسهم،
فقاتلهم أمير المؤمنين وعلم الناس قتال الخوارج والبغاة كما قال الشافعي: إنه لو لم
يقاتل أمير المؤمنين البغاة ما كنا نعلم كيفية القتال معهم، وهذا لا يدل على النص
بخلافته، بل إخباره عن مقاتلته في سبيل الله مع العصاة والبغاة (إنتهى). أقول
(هامش)
(تقدم منا بعض مدارك هذا الحديث في (ج 6 ص 324، إلى ص 38) (*)